فصل من كتابى: "خواطر على الخواطر - مع الشعراوى فى تفسيره"، الذى صدر منذ نحو شهرين
===================
‏- الجبر والاختيار فى تفسير الشيخ الشعراوى‏
إبراهيم عوض

عند تفسير الآية السادسة من "الفاتحة" يبسط الشيخ الشعراوى بعض البسط ‏رأيه فى الجبر والاختيار فى حياة البشر فيقول: "لو أراد الله سبحانه وتعالى من عباده ‏الصلاة والتسبيح فقط لما خلقهم مختارين بل خلقهم مقهورين لعبادته ككل ما ‏خلق ما عدا الانس والجن. والله تبارك وتعالى له صفة القهر. من هنا فإنه يستطيع ‏أن يجعل من يشاء مقهورا على عبادته مصداقا لقوله جل جلاله: "لَعَلَّكَ بَاخِعٌ ‏نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ * إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ السَّمَآءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا ‏خَاضِعِينَ" (الشعراء/ 3- 4). فلو أراد الله أن يخضعنا لمنهجه قهرا لا يستطيع أحد ‏أن يشذ عن طاعته. وقد أعطانا الله الدليل على ذلك بأن في أجسادنا وفي أحداث ‏الدنيا ما نحن مقهورون عليه. فالجسد مقهور لله في أشياء كثيرة: القلب ينبض ‏ويتوقف بأمر الله دون إرادة منا، والمعدة تهضم الطعام ونحن لا ندري عنها شيئا، ‏والدورة الدموية في أجسادنا لا إرادة لنا فيها، وأشياء كثيرة في الجسد البشري كلها ‏مقهورة لله سبحانه وتعالى، وليس لإرادتنا دخل في عملها. وما يقع علىَّ في الحياة ‏من أحداث أنا مقهور فيه لا أستطيع أن أمنعه من الحدوث: فلا أستطيع أن أمنع ‏سيارة أن تصدمني ولا طائرة أن تحترق بي ولا كل ما يقع عليَّ من أقدار الله في ‏الدنيا. إذن فمنطقة الاختيار في حياتي محدودة: لا أستطيع أن أتحكم في يوم مولدي ‏ولا فيمن هو أبي ومن هي أمي ولا في شكلي: هل أنا طويل أم قصير؟ جميل أم ‏قبيح؟ أو غير ذلك...".‏
وكرر الشيخ نفس الفكرة فى خواطره حول الآية التاسعة من سورة ‏‏"الشعراء"، إذ قال: "جاء الحق تبارك وتعالى هنا بصفة "العَزِيز" (الشعراء/ 9) بعد ‏أن قال: "وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ" (الشعراء/ 8) لنعلم أن الذين كفروا لم يكفروا ‏رَغْمًا عن الله، إنما كفروا بما أودع الله فيهم من الاختيار. فهو سبحانه الذي أعانهم ‏عليه لَمَّا أحبوه وأصروا عليه لأنه تعالى ربُّهم، بدليل أنه تعالى لو تركهم مجبرين ‏مرغمين ما فعلوا شيئا يخالف منهج الله أبدا، وبدليل أنهم مجبرون الآن على أشياء ‏ومقهورون في حياتهم في مسائل كثيرة، ومع ذلك لا يستطيع أحد منهم أن يخرج ‏على شيء من ذلك. فمع إِلْفهم العنادَ والتمردَ على منهج الله أيستطيع أحدهم أنْ ‏يتأبَّى على المرض أو على الموت أو على الأقدار التي تنزل به؟ أيختار أحد منهم يوم ‏مولده مثلاً أو يوم وفاته؟ أيختار طوله أو قوته أو ذكاءه؟ لكن لما أعطاهم الله ‏الصلاحية والاختيار اختاروا الكفر، فأعانهم الله على ما أحبُّوا، وختم على قلوبهم ‏حتى لا يخرج منها كفر ولا يدخلها إيمان".‏
وكثير مما قاله الشيخ هنا صحيح. وكما هو واضح فإنه يفصل فصلا تاما بين ‏منطقتى الجبر والاختيار: فهذه الأشياء أنا مجبور فيها لا أملك نحوها شيئا، وتلك ‏الأشياء أنا مختار فيها أملك إزاءها أن أفعل وألا أفعل. وقد أعطى بعض الأمثلة من ‏مجال الجبر، وهى خاصة بالجسد وأحداث الحياة التى تقع على الشخص من ‏الآخرين. ولكن متى ما دققنا النظر فلسوف نجد أن الأمثلة التى أعطاها الشيخ من ‏منطقة الجبر ليست جبرا خالصا وأن الإنسان يستطيع أن يتدخل فيها ويخفف من ‏حتميتها مما يدل على أن فيها بعض مجال للاختيار وأنها ليست محجوزة تماما للأمور ‏الجبرية. ورأيى المبدئى هو أن الجبر والاختيار متمازجان فى كثير جدا من أمور الحياة ‏البشرية، ولكن بدرجات متفاوتة. وهذا التفاوت قد يكون راجعا إلى طبيعة تلك ‏الأشياء ذاتها، وقد يكون راجعا إلينا نحن البشر.‏
وإذا كان رأى الشيخ الجليل هو أن الجسد مقهور لله في أشياء كثيرة: فالقلب ‏ينبض ويتوقف بأمر الله دون إرادة منا، والمعدة تهضم الطعام ونحن لا ندري عنها ‏شيئا، والدورة الدموية في أجسادنا لا إرادة لنا فيها، فإن لنا قدرا من التدخل فى تلك ‏الأمور، ولكن على نحو غير مباشر وغير واضح تماما بحيث لا يدركه الناس ‏عموما. فمثلا لو أننى اهتممت بطعامى فلم أكثر منه وتحاشيت ما ينبهنى إلى تحاشيه ‏الأطباء ومارست الرياضة واعتدلت فى أمور حياتى لانعكس هذا كله على صحتى ‏وعلى قلبى ومعدتى. ومن هنا نجد معدل العمر فى الغرب أعلى، والصحة أجود ‏لأنهم بوجه عام يراعون هذه الاعتبارات أفضل منا كثيرا. ‏
ونضيف إلى ذلك أن أطباءهم أحسن من أطبائنا فيستطيعون من ثم أن ‏يعالجوا فى المريض أشياء ربما لا يمكن أطباءنا معالجتها أصلا أو لا يمكنهم ‏معالجتها بنفس الكفاءة. ولا أقصد بهذا النيل من قدر أطبائنا بل الإشارة إلى أننا ‏نتعلم على أيديهم، فهم سابقون لنا بخطوات وربما بأمتار وربما بكيلومترات حسب ‏المجال الذى ينتمى إليه المرض. كما أن علماءهم وأطباءهم حينما يكتشفون علاجا ‏أو دواء لمرض عضال فإنهم يستعملونه فى الحال بينما يأخذ الأمر عندنا وقتا حتى ‏نتعلم هذا العلاج ونستورد ذلك الدواء. ‏
ثم لا ينبغى أن ننسى مستوى المعيشة ودخله فى الأمر، فهم بوجه عام أقدر منا ‏ماديا، وبالتالى يستطيعون شراء الدواء أسهل منا. وهذا على المستوى الشخصى، ولو ‏ضممنا إليه أن مظلة التأمين الصحى عندهم أسلم وأوسع وأصدق وأحسن ‏وأعدل من مظلتنا تبين لنا أن وضعهم فى معالجة الأمراض والعيوب الجسدية ‏أفضل وأكثر حرية. ليس هذا وحده بل إنهم فى الدول المتقدمة كثيرا ما يمنعون ‏تصدير بعض الأدوية ويبقونها لأنفسهم، بينما يعطوننا أدوية أقل فاعلية أو لها آثار ‏جانبية خطيرة أو يريدون أن يجربوها فينا أولا بما يترتب على ذلك من نتائج سيئة. ‏
ومرة أخرى ليس هذا فقط بل إن تدنِّىَ المستوى الثقافى عندنا لا يمكِّن الدواء ‏من الإتيان بثمرته كما ينبغى، إذ لا يلتزم المرضى بما يقوله الأطباء إما لعدم فهمهم ما ‏قال وإما لعدم تصورهم خطورة عدم الالتزام وإما لقصور عقولهم حتى إن بعض ‏الناس قد يأخذ الدواء كله مرة واحدة لظنه أنه ما دام قد أخذه كله دفعة واحدة ‏فسوف يشفيه من المرض أيضا دفعة واحدة، أو يتوقف عن أخذ الدواء عند أول ‏بادرة للتحسن جاهلا أن الدواء لا بد أن يؤخذ طوال الفترة التى حددها الطبيب ‏وإلا انتكس المريض أو عاوده المرض مرة أخرى بعد وقت قصير. كما أن الأطباء فى ‏الدول المتخلفة كثيرا ما يخالفون لوائح المهنة بلا أدنى مبالاة، فيكون علاجهم ‏للمرض ناقصا. بل إن بعضهم قد يجرى عملية جراحية دون اهتمام باتخاذ ‏الاحتياطات اللازمة مما قد يؤدى إلى فشل العملية أو إلى "اتكال المريض على الله"، ‏وذلك بسبب نوم القانون عندنا ويقظته عندهم وتأثر الطبيب عندنا ببيئته اللامبالية ‏بوجه عام وتصوره أن الله سوف يسهلها ولا داعى لتحبيك الأمور... إلخ. ‏وسيظل الأمر هكذا طوال مدة تخلفنا عنهم واحتياجنا إلى التعلم والاستيراد منهم.‏
أما قوله رحمه الله: "ما يقع علىَّ في الحياة من أحداث أنا مقهور فيه لا أستطيع ‏أن أمنعه من الحدوث: فلا أستطيع أن أمنع سيارة أن تصدمني ولا طائرة أن تحترق ‏بي ولا كل ما يقع عليَّ من أقدار الله في الدنيا. إذن فمنطقة الاختيار في حياتي ‏محدودة. لا أستطيع أن أتحكم في يوم مولدي ولا فيمن هو أبي ومن هي أمي ولا في ‏شكلي: هل أنا طويل أم قصير؟ جميل أم قبيح؟ أو غير ذلك" فليس على إطلاقه. ‏ففى السيارة مثلا نجد أن الأمر يتوقف على مدى يقظة عابر الطريق وعلى مدى ‏التزام السائق بقانون المرور ولوائحه، وعلى مدى تدخل الدولة فى الأمر تخطيطا ‏للشوارع وتركيبا لإشارات المرور، ووعى المواطنين واهتمامهم بالتزام ما ينبغى ‏الالتزام به أو عدمه. فعلى الشخص ألا يحاول عبور الطريق وسط سيل السيارات ‏إذا كان هناك جسر علوى مبنى من أجل سلامته، أو فلينتظر حتى يخلو الشارع من ‏السيارات أو تقلّ، أو فليعبر من الأماكن المخصصة للمشاة. وفى الدول المتقدمة ‏هناك مثلا إشارات مرور يشغّلها بنفسه من يريد عبور الشارع فتقف السيارات ‏الآتية من الناحيتين عند إضاءة اللون الأحمر بعد أن تكون قد هدأت من اندفاعها ‏لدى إضاءة اللون الأصفر. وهذا كله غير موجود فى بلادنا، بل الأمر بختك يا أبو ‏بخيت، فتكثر الحوادث وترتفع نسبة الموتى بسببها. أما على الطرق السريعة فأنت ‏لست أمام سيارات بل أبقار تجرى فى فوضى تامة دون أى احترام لأية قواعد أو ‏إرشادات، فضلا عن أن الطرق فى كثير من الحالات لا تصلح لجرى السيارات كما ‏نعرف، وأن السائقين لا يبالون بأى شىء، بل كل إنسان يعمل ما يحلو له، وبخاصة ‏أنه ليس هناك دائما خطوط تحديد المسارات ولا إرشادات السماح بتجاوز السيارات ‏بعضها لبعض أَوْ لا... وما إلى ذلك.‏
أما التحكم فى من هو أبى ومن هى أمى فأنا أوافقه تماما، إلا أن الوعى هنا له ‏دخل فيما يمكن أن يصيب المواليد من عيوب خِلْقِيّة أَوْ لا. فهناك كشف طبى على ‏من يريدون الزواج يمكن عن طريقه معرفة الأخطار التى يحتمل أن تقع فى بعض ‏حالات الزواج، ومن ثم يمكن تفاديها لمن يحب، وهذا الأمر متوقف على مدى ‏الوعى الحياتى. ولا شك أنه يخفف كثيرا من المشاكل الصحية أو العيوب الخلقية ‏التى يتعرض لها الجنين. ‏
وصحيح أننى أنا نفسى لا أتدخل فى اختيار شكلى الجسدانى. لكن لو أن ‏المجتمع الذى ولدت فيه كان مجتمعا قادرا ماديا وواعيا الوعى الصحى المراد لجاء ‏شكلى أكثر مقبولية. فشكل المواليد يتأثر بالطعام التى تتناوله الأم ونوعيته ومقداره ‏وطريقة التعامل معه. كما أن الفقر والغِنَى لهما دخل فى ذلك. ولا ننس أن وسائل ‏التزيين والتحسين من ملابس وأدهان ومساحيق وقَصَّات تلعب هى أيضا دورا ‏هنا. وهناك عمليات التجميل لمن نزل بعيب خلقى. أعرف أن بعض المشايخ ‏الضيقى الأفق يحرمون تلك العمليات بحجة أنها تغيير لخلق الله جاهلين أنه ما من ‏شىء يخلقه الله فى دنيا البشر إلا ويغيره البشر. فهكذا تكون الحضارة، التى هى ‏تغيير الطبيعة. ‏
فنحن نمهد الأرض مع أن الله خلقها وَعْرَة غير ممهدة، ونحن نبنى البيوت ‏مع أن الله خلق الأرض فضاء عراء بدون بيوت، ونحن حين نقوم من النوم نغسل ‏وجوهنا للتخلص من العماص، ونمضمض أفواهنا ونستخدم المسواك أو المعجون ‏والفرشاة لإزالة أية رائحة غير طيبة، مع أن تلك الرائحة هى من خلق الله، وحين ‏نرزق بطفل فإننا نغسله لإزالة الدم الذى يغطيه مع أن الله قد خلقه ملطخا بالدم، ‏وعندما نجهز الطعام فإننا نغسل الخضراوات والدقيق والأرز واللحوم ونقطع ما ‏يقبل التقطيع ونعالجها بالتوابل والملح والليمون والصلصة ونضعها على النار ‏مغيرين الوضع الذى خلقها الله عليه ومكسبيها وضعا آخر حتى يمكننا أن نأكلها ‏ونتمتع بها. والنساء يضعن الكحل وبستعملن أدوات الزينة، فيغيرن شكلهن الذى ‏أعطاه الله إياهن. ونحن البشر نرتدى ملابس وأحذية فنغير بذلك الحالة التى ‏خلقنا الله عليها، إذ خلقنا عراة حفاة... وهكذا، وهكذا. فلماذا لا نتذكر حرمانية ‏تغيير خلق الله إلا فى العمليات التجميلية؟ ‏
إن الآيات 117- 121 من سورة "النساء"، التى يقول الشيطان فيها إنه ‏سوف يغرى البشر بتغيير خلق الله، فتجعل ذلك حراما وتتوعد فاعليه بالنار ‏والعذاب، إنما تتحدث عن التشويه الذى كان الوثنيون فى الجاهلية يلحقونه ‏بالحيوانات المستأنسة نزولا على اعتقاداتهم المتخلفة البشعة مِنْ صَلْمِ آذان ‏الحيوانات المسكينة وجَدْعِ أنوفها وفَقْءِ عيونها وبَتْر ذيولها ووَسْم وجوهها بالنار ‏وما إلى هذا بسبيل جَرَّاءَ استيلاء الخرافات على عقولهم، فنَسَب الله ذلك إلى إغواء ‏الشياطين. فالشياطين تشوه، أما الأطباء فيجمّلون ويقضون على القبح ويخففون من ‏ثم آلام المشوهين والمقبوحين. فهذه نقرة، وتلك نقرة. أما مشايخ السوء فكله ‏عندهم صابون. ترى لو أن الله قد رزق أحدهم مثلا بطفلة ذات أنف قبيح أو ‏أسنان بارزة أو لها شفة أرنبية أكان يسكت ويقول إن تغيير خلقة الله حرام؟ لا أظن ‏ذلك. ‏
ولو افترضنا أن زوجة أرادت أن تجرى عملية تجميلية لتكون على مزاج ‏زوجها فلا تزيغ عينه إلى غيرها فما وجه الحرام فى هذا؟ المهم ألا تقدم على شىء قد ‏يضرها بدلا من تحسين شكلها حتى لا تلقى بيديها إلى التهلكة. ومن هذا نرى أنه ‏كلما تقدم الإنسان حضاريا: علميا وطبيا وصيدليا وتمريضيا ومستوى معيشة ووعيا ‏ازدادت مساحة الاختيار فى حياته الصحية، فأمكنه معرفة أنواع الطعام التى يحتاج ‏جسمه إليها والطريقة السليمة لتناوله كما وكيفا، واكتشاف أمراض يعانى منها ‏الإنسان لم تكن معروفة للأطباء، والتوصل إلى علاج لها تجعل فرصة النجاة من ‏الموت أو التشويه فرصة كبيرة، وبذلك تقلّ معاناة الإنسان صحيا ويرتفع متوسط ‏عمره كما هو حادث فى الدول المتقدمة. ‏
ويظهر قلة الوعى الطبى والصحى حتى بين المتعلمين عندنا من المثال التالى. ‏فإنى دائما ما أحذر من أعرفهم من التدخين قائلا إنه كثيرا ما يجلب الأمراض القلبية ‏ويسبب السرطان وما إلى هذا، فسرعان ماتأتينى الإجابة بأن هذا غير صحيح بدليل ‏أن فلانا وعلانا وترتانا وبمبانا يدخنون ولم يعترهم لا سرطان ولا مرض قلب. ‏فأعود إلى تفهيمهم أن المقصود هو أن نسبة من يمرضون بهذين الداءين بين ‏المدخنين عالية، ولم أقل إنهم جميعا يصابون بهما. ومن الطبيعى إذن أن يكون بينهم ‏من لم يمرض مرضا شديدا أو يمت مبكرا. ومع هذا فإذا كُشِف عليه جيدا فمن ‏الأرجح أن يجد الأطباءُ عنده أدواءً كثيرةً لكنها لم تستفحل بعد، أو قد يكون فى ‏جسمه عوامل مناهضة للداءين المذكورين تجعل إصابته بهما صعبة أو تؤخرها. ‏ورغم هذا تنتهى غالبا هذه المناقشة التى تتكرر كثيرا بعدم اقتناع مناقِشِىَّ مع ‏وضوح حجتى واستنادها إلى منطق العلم وإحصاءاته.‏
ولكى يعرف القارئ الكريم أن المرض ليس شيئا لا نملك تجاهه شيئا غير ‏التسليم والصبر إلى أن يقدر الله أمرا كان مفعولا أن القرآن المجيد ورسول الله ‏صلى الله عليه وسلم ينصحان المسلمين نصائح طبية يواجهون بها المرض والحياة. ‏ولو كان المرض شيئا لازبا لا نستطيع إزاءه سوى وضع أيدينا على خدودنا ‏ومصمصة الشفاه لما نَصَحَا ولا وَجَّهَا. فمن ذلك قوله تعالى: "ولا تُلْقُوا بأيديكم ‏إلى التَّهْلُكَة"، "وكلوا واشربوا ولا تسرفوا. إنه لا يحب المسرفين"، "ويسألونك عن ‏المحيض. قل: هو أذًى. فاعتزلوا النساءَ فى المحيض ولا تَقْرَبُوهُنَّ حتى يَطْهُرْن". ‏وقال صلى الله عليه وسلم: "ما مِنْ وعاءٍ ملأ ابنُ آدَمَ شرًّا مِن بطنٍ. حَسْبُ ابنِ آدَمَ ‏أُكُلاتٌَمل ير من الحالات يُقِمْنَ صُلْبَه. فإنْ‎ ‎كان‎ ‎لا‎ ‎بدَّ‎ ‎فثُلُثٌ لطعامِه، وثُلُثٌ ‏لشرابِه، وثُلُثٌ لنَفَسِه"، وقال صلى الله عليه وسلم عن الطاعون: "إذا سِمِعْتُم به ‏بأرضٍ فلا تَقْدمُوا عليه، وإذا وقَعَ بأرضٍ وأنتم بها فلا تَخْرُجوا فِرارًا منه"، "إنَّ اللهَ ‏تعالى أنزل الداءَ والدواءَ، وجعل لكلِّ‎ ‎داءٍ‎ ‎دواءً،‎ ‎فتداوَوْا ولا تداوَوْا بالحرامِ"، ‏‏"الحمَّى مِن فَيْح جهنم، فأطفئوها بالماء". وهناك الوضوء والاغتسال، وهما من ‏أهم أساليب النظافة. ومعروف أن استعمال السواك سنة لتنظيف الأسنان وإزالة ‏رائحة الفم السيئة وغير ذلك: "السواك مطهرة للفمِ مرضاةٌ للرب". وكان بعض ‏الصحابة "يدخلونَ على النَّبيِّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ ولم يَسْتاكوا، فقال: تدخلونَ عليَّ ‏قُلْحًا؟‎ ‎استاكوا. فلولا أن أَشقَّ على أمَّتي لفَرَضْتُ عليهم السِّواكَ عندَ كلِّ صلاةٍ كما ‏فَرَضْتُ عليهم الوضوءَ". وكان يوصى باستعمال عسل النحل والحبة السوداء ‏والتلبينة وألبان الإبل والحجامة، كلا فى أمراض معينة. كما حرم الإسلام الخمر ‏والدم والميتة والخنزير، ولكل منها أضراره الصحية...‏
ويمضى الشيخ الجليل قائلا: "إذن فمنطقة الاختيار في الحياة هي المنهج: أن ‏أفعل أو لا أفعل. الله سبحانه وتعالى له من كل خلقه عبادة القهر، ولكنه يريد من ‏الإنس والجن عبادة المحبوبية. ولذلك خلقنا ولنا اختيار في أن نأتيه أو لا نأتيه، في ‏أن نطيعه أو نعصيه، في أن نؤمن به أو لا نؤمن. فإذا كنت تحب الله فأنت تأتيه عن ‏اختيار تتنازل عما يغضبه حبا فيه، وتفعل ما يطلبه حبا فيه، وليس قهرا. فإذا تخليت ‏عن اختيارك إلى مرادات الله في منهجه تكون قد حققت عبادة المحبوبية لله تبارك ‏وتعالى، وتكون قد أصبحت من عباد الله، وليس من عبيد الله. ‏
فكلنا عبيد لله سبحانه وتعالى، والعبيد متساوون فيما يُقْهَرون عليه. ولكن ‏العباد الذين يتنازلون عن منطقة الاختيار لمراد الله في التكليف. ولذلك فإن الحق ‏جل جلاله يفرق في القرآن الكريم بين "العباد" و"العبيد". يقول تعالى: "وَإِذَا ‏سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا ‏بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ" (البقرة/ 186)، ويقول سبحانه وتعالى: "وَعِبَادُ الرَّحْمَـنِ الَّذِينَ ‏يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَمًًا * وَالَّذِينَ يِبِيتُونَ ‏لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا * وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ ‏غَرَامًا" (الفرقان/ 63- 65). ‏
وهكذا نرى أن الله سبحانه وتعالى أعطى أوصاف المؤمنين وسماهم: "عبادا"، ‏ولكن عندما يتحدث عن البشر جميعا يقول: "عبيد" مصداقا لقوله تعالى: "ذلِكَ بِمَا ‏قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ" (آل عمران/ 182). ولكن قد يقول ‏قائل إن الله تبارك وتعالى يقول في كتابه العزيز: "وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن ‏دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاَءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ" (الفرقان/ 17): ‏الحديث هنا عن العاصين والضالين، ولكن الله سبحانه وتعالى قال عنهم: "عباد". ‏نقول إن هذا في الاخرة، وفي الآخرة كلنا عباد لأننا مقهورون لطاعة الله الواحد ‏المعبود تبارك وتعالى لأن الاختيار البشري ينتهي ساعة الاحتضار، ونصبح جميعا ‏عبادا لله مقهورين على طاعته لا اختيار لنا في شيء". ‏
وقد عاد رحمه الله إلى تناول موضوع التفرقة بين "العبيد" و"العباد" خلال ‏تفسيره للآية 23 من سورة "البقرة"، ونصها: "وإن كنتم فى ريبٍ مما نزّلناعلى عبدنا ‏فَأْتُوا بسورةٍ مِنْ مِثْلِه..."، فقال: "الحق سبحانه وتعالى يقول: "على عبدنا". وهذه ‏محتاجة إلى وقفة. فالله جل جلاله له عبيد، وله عباد. كل خلق الله في كونه عبيد لله ‏سبحانه وتعالى لا يستطيعون الخروج عن مشيئة الله أو إرادته. هؤلاء هم العبيد. ‏ولكن العباد هم الذين اتحدت مراداتهم مع ما يريده الله سبحانه وتعالى. تخلَّوْا عن ‏اختيارهم الدنيوي ليصبحوا طائعين لله باختيارهم. أي أنهم تساوَوْا مع المقهورين ‏في أنهم اختاروا منهج الله وتركوا أي اختيار يخالفه. هؤلاء هم العباد. وإذا قرأت ‏القرآن الكريم تجد أن الله سبحانه وتعالى يشير إلى العباد بأنهم الصالحون من البشر، ‏فيقول الحق تبارك وتعالى: "وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ ‏إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ" (البقرة/ 186). هذا ليس ‏لكل خلق الله، ولكنه للعباد، الذين إذا قال الله تعالى لهم: "افعلوا" فعلوا، وإذا قال ‏الله: "لا تفعلوا" لم يفعلوا. أي أنهم لا يخالفون، بقدرتهم على الاختيار، منهج الله ‏سبحانه وتعالى.‏
ولذلك في الجهاد لا يقول الحق سبحانه وتعالى عن المجاهدين إنهم عبيد، بل ‏يقول جل جلاله: "فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَآ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ ‏فَجَاسُوا خِلاَلَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولا" (الإسراء/ 5). وبعض المستشرقين ‏الذين يحاولون الطعن في القرآن الكريم يقولون إن كلمة "عباد" قد جاءت في ‏وصف غير المؤمن في قوله تعالى: "أَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاَءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ" ‏‏(الفرقان/ 17). نقول: إنكم لم تفهموا أن هذا ساعةَ الحساب في الآخرة، وفي ‏الآخرة كلنا عباد لأننا كلنا مقهورون، فلا اختيار لأحد في الآخرة، وإنما الاختيار ‏البشري ينتهي ساعة الاحتضار، ثم يصبح الإنسان بعد ذلك مقهورا. فنحن جميعا ‏في الآخرة عباد، ولكن الفرق بين العبيد والعباد هو في الحياة الدنيا فقط". ويجد ‏القارئ رأى الشيخ فى هذه النقطة أيضا فى الجزء الثانى من كتاب أحمد زين: ‏‏"الشيخ الإمام محمد متولى الشعراوى وقضايا العصر" (دار الجيل ببيروت ومكتبة ‏التراث الإسلامى بالقاهرة/ 37- 38).‏
وأحب أولا أن أشرح المراد من كلمة "القهر"، التى صارت لها إيحاءات قبيحة ‏الآن. والمعنى فى كلام الشيخ أن الله سبحانه قد أجبر المخلوقات على السير تبعا ‏لقوانينه دون أن يأخذ رأيهم فى ذلك. أما عن قوله إن "العبيد" هى للبشر جميعا فيما ‏لا مدخل لهم فى تنفيذه، وإن العباد هم المؤمنون المطيعون لربهم، فهو للأسف لم ‏يستقرئ كل المواضع القرآنية التى وردت فيها الصيغتان الجمعيتان لكلمة "عبد". ‏ومما استشهد به من القرآن على صحة ملاحظته قوله تعالى: "وما ربك بظلام ‏للعبيد" على اعتبار أن المقصود هنا البشر جميعا لا المؤمنون وحدهم". فما رأيه فى ‏قوله عز شأنه: "وما الله يريد ظلما للعباد" مستخدما "العباد" فى نفس السياق ‏والمعنى؟ وما رأيه، رحمه الله، فى قوله سبحانه عن المشركين فى سورة "النساء": "إِنْ ‏يَدْعُونَ إِلا شَيْطَانًا مَرِيدًا (117) لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا ‏‏(118)"، حيث استخدم سبحانه "العباد" للناس جميعا؟ وما رأيه فى جواب المسيح ‏عليه السلام فى الآخرة لربه حين يسأله عمن يعبدونه ويتخذونه هو وأمه إلهين، ‏وهو موجود فى سورة "المائدة": "إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ ‏الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118)"؟ وما رأيه أيضا فى قوله فى "الأنعام" عن البشر أجمعين: ‏مؤمنين وكافرين، مطيعين وعصاة: "وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ (18)"، ومثله فى الآية ‏‏60 من نفس السورة؟ ‏
أما استعمال كلمة "العباد" فى الآخرة فهو حجة على الشيخ لا له، إذ قال إنهم ‏لم يعودوا مختارين هناك، ومن ثم قيل عنهم: "عباد". ذلك أنه سبق أن قال إن ‏‏"العبيد" هم المقهورون على طاعة أوامر الله، فما دام الناس فى الآخرة مقهورة على ‏طاعة الله لقد كان الأحرى أن يطلق عليهم: "عبيد" لا "عباد"، وهذا حسب ‏كلامه. وقد أشار الشيخ فى هذا السياق عرضا إلى مستشرقين اعترضوا على التفرقة ‏التى ساقها بين هذين اللفظين، لكنه لم يذكر لنا أسماءهم ولا فى أى كتاب قالوا هذا ‏ولا من صاحب التفرقة الأصلية بين سياق استعمال كل من الكلمتين وسياق ‏استعمال الأخرى. وهذا ديدن الشيخ، فهو فى كل مرة يتناول فيها موضوعا كهذا ‏يكتفى بعبارة "قال المستشرقون فى الموضوع الفلانى كذا وكذا" دون تحديد أو ‏تفصيل. ‏
وفى خواطره عن الآية 26 من سورة "البقرة"، ونصها: "إن الله لا يستحيى ‏أن يَضْرِب مَثَلا ما بعوضةً فما فوقَها فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحقُّ مِنْ رَبِّهم وأما ‏الذين كفروا فيقولون ماذا أراد اللهُ بهذا مَثَلا يُضِلّ به كثيرا ويَهْدِى به كثيرا وما يُضِلّ ‏به إلا الفاسقين"، يقول: "إن كل مصدق بالقرآن لا يطلب تأويله أو الحكمة في ‏آياته. ولذلك قال الكافرون: "مَاذَآ أَرَادَ اللَّهُ بِهَـذَا مَثَلا؟"، ويأتي رد الحق تبارك ‏وتعالى: "يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِين". ومن هم ‏الفاسقون؟ هم الذين ينقضون عهد الله. أول شيء في الفسق أن ينقض الفاسق ‏عهده. ‏
ويقال: فسقت الرُّطَبَة، أي بعدت القشرة عن الثمر. فعندما تكون الثمرة أو ‏البلحة حمراء تكون القشرة ملتصقة بالثمرة بحيث لا تستطيع أن تنزعها منها. فإذا ‏أصبحت الثمرة أو البلحة رُطَبًا تسودّ قشرتها وتبتعد عن الثمرة بحيث تستطيع أن ‏تنزعها عنها بسهولة. هذا هو الفاسق المبتعد عن منهج الله: ينسلخ عنه بسهولة ‏ويسر لأنه غير ملتصق به. وعندما تبتعد عن منهج الله فإنك لا ترتبط بأوامره ‏ونواهيه، فلا تؤدي الصلاة مثلا وتفعل ما نهى الله عنه لأنك فسقت عن دينه. ‏
والذي أوجد الفسق هو أن الإنسان خُلِق مختارا قادرا على أن يفعل أو لا ‏يفعل. وبهذا الاختيار أفسد الإنسانُ نظامَ الكون، فكل شيء ليس للإنسان اختيار ‏فيه تراه يؤدي مهمته بدقة عالية كالشمس والقمر والنجوم والأرض. كلها تتبع ‏نظاما دقيقا لا يختل لأنها مقهورة. ولو أن الإنسان لم يخلق مختارا لكان من المستحيل ‏أن يفسق وأن يبتعد عن منهج الله ويفسد في الأرض. ولكن هذا الاختيار هو ‏أساس الفساد كله".‏
ومن هذا الكلام يمكن أن يفهم بعض الناس أن الله قد اختار النظام الخطأ، ‏فخلق الإنسان وخلع عليه خاصة الاختيار، ثم اتضح أن ذلك كله خطأ فى خطإ، ‏وأنه أساس الفساد كله. ولنا هنا وقفة لنعلق بعض التعليقات: فأما بالنسبة لقوله إنه ‏لم يكن ليكون هناك فساد لو لم يخلق الإنسان فما رأى فضيلته مثلا فى افتراس ‏الحيوانات القوية للحيوانات الضعيفة وما تسببه لها عند ذلك من آلام ورعب ‏رهيب؟ هل كان هذا سببه ما أُعْطِيَه الإنسان من اختيار؟ أَوَلَوْ خُلِق الإنسان مجبورا ‏مثل الأسد والفيل والنمر والجاموس والبقر والحمير والأقمار والشموس ‏والكواكب والهواء والصراصير والخنافس والفيران والهداهد والديدان أكان الفساد ‏يختفى؟ أليس فى الكون عفن ونتن وانهيارات ثلجية وعواصف وسيول وزلازل ‏وبراكين وصواعق وتشققات أرضية وحرائق تغرق وتحرق وتقتل وتدمر وتجعل ‏عاليها سافلها، وليس للإنسان فيها ناقة ولا جمل؟ ألا تنفصل الشهب عن النجوم ‏وتنزل تشق الفضاء دون أن يكون للبشر دخل فى ذلك؟ ألا يقول العلماء إن الكون ‏كله سوف يتشقق ويتطاير ذرات فى الفضاء يوم القيامة، فهل الإنسان هو الذى ‏سوف يفكك الكون هذا التفكيك؟
ثم كيف غاب عن الشيخ الجليل مباهاة الله سبحانه الملائكة بآدم وتفوق آدم ‏عليهم بمعرفته ما لا يعرفون؟ ترى كيف يباهى الله سبحانه الملائكة بمخلوق فاسد ‏مفسد؟ كما أن الله قد كرمه على كثير مما خلقه تفضيلا كما تقول سورة "الإسراء". ‏ولقد رأينا أن الفساد موجود فى العالم بالإنسان وبغير الإنسان، فما الداعى إلى تحميله ‏مسؤولية كل شىء؟ كذلك فإن الله هو الذى حدد للإنسان سقف قدراته وإمكاناته ‏فلا يمكنه أن يتجاوزه مهما فعل. وفى هذا يقول القرآن العظيم: "وخُلِق الإنسانُ ‏ضعيفًا"، وقال الرسول عليه السلام: "كل بنى آدم خَطَّاء". أى أننا قد خُلِقْنا على ‏هذا النحو من ضعف وخطإ. وقال صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيدِه لو لم ‏تذنبوا لذهب اللهُ بكم ولجاء بقومٍ يذنبون فيستغفرون‎ ‎اللهَ، فيغفرُ لهم".‏
والشيخ نفسه يؤكد هذا. اقرأ له النص التالى فى أثناء تفسيره للبسملة مطلع ‏الفاتحة: "الإنسان خُلِق ضعيفا، وخُلِق هَلُوعا. ورسول الله صلى الله عليه وسلم ‏يقول: "لا يدخل أحدكم الجنة بعمله إلا أن يتغمده الله برحمته. قالوا: حتى أنت يا ‏رسول الله؟ قال: حتى أنا". فذنوب الإنسان في الدنيا كثيرة: إذا حكم فقد يظلم، ‏وإذا ظن فقد يسىء، وإذا تحدث فقد يكذب، وإذا شهد فقد يبتعد عن الحق، وإذا ‏تكلم فقد يغتاب. هذه ذنوب نرتكبها بدرجات متفاوتة، ولا يمكن لأحد منا ان ‏ينسب الكمال لنفسه. حتى الذين يبذلون أقصى جهدهم في الطاعة لا يصلون إلى ‏الكمال، فالكمال لله وحده. ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "كل بني آدم ‏خَطَّاء، وخير الخطائين التوابون". وتكرر فى القرآن والأحاديث أنه سبحانه وتعالى ‏لا يكلف نفسا إلا وُسْعَها.‏
ثم تعالَوْا ننظر فى أمر الكون لو لم يكن الإنسان قد خُلِق أو خُلِق لكنه لم يُرْزَق ‏نعمة الاختيار. ترى ماذا كان يمكن أن يحدث آنذاك؟ إن الإنسان لم يكن فى هذه ‏الحالة ليستطيع فعل أى شىء مما فعله ويفعله وسيفعله إلى أن يُنْفَخ فى الصُّور. نعم ‏كان سيكون كأى حيوان غير ناطق فيأكل البرسيم والتبن واللحم ويمشى على أربع ‏ولا يستطيع التفكير أو الكلام المبين ولا يقدر على الاكتشافات العلمية أو ‏المغامرات الجغرافية أو نظم الشعر أو كتابة النثر الجميل أو اختراع النكت المضحكة ‏أو رسم اللوحات الجميلة أو تمثيل المسرحيات البديعة أو لعب الكرة، تلك ‏المجنونة كالقوطة، أو ينشئ البيوت والطائرات والبواخر والغواصات والصواريخ ‏والسفن الفضائية والمشباك والمؤسسات المختلفة من اقتصادية وعلمية واجتماعية، ‏ويركّب الأدوية، ويخترع المذياع والكاتوب والمشباك والتلفاز ويكتشف الأمراض ‏وعلاجاتها ويُجْرِى العمليات الجراحية ويعوم ويغوص ويرصف الطرق ويتسلق ‏الجبال... إلى آخر المنجزات الحضارية التى عملها على مدى تاريخه الطويل. ‏
وسوف يشبه الكون حينئذ الغابة والصحراء والمسطحات الجليدية: كله ‏أشجار ورمال وثلوج وجبال وحيوانات ليس إلا، ودمتم. أوَفقدان هذا كله أمر ‏هين بسيط؟ فلِمَ خلق الله الإنسان إذن ولم يكتف بالعالم المادى الغبى البليد الذى ‏لا عقل له ولا حس ولا شعور ولا نمو ولا أكل ولا شرب أو العالم الحيوانى الذى ‏لا هم له غير الأكل والشرب والتناسل؟ إن ذلك الاختيار الذى يعيبه الشيخ ‏الشعراوى هو أساس الحضارات البشرية كلها، ولولا هو ما كانت علوم ولا فنون ‏ولا أديان ولا أى لون من ألوان الإبداع العلمى والفنى. فهل يحب الشيخ أن ينحط ‏الكون إلى هذه الدركة؟ ‏
ثم يمضى الشعراوى فى خواطره حول الآية 26 من "البقرة" قائلا: "نأتي بعد ‏ذلك إلى الصفة الثالثة من صفات الفاسقين بقوله تعالى: "وَيُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ". ‏نقول: كل ما في الكون مخلوق على نظامِ "قَدَّرَ فَهَدَى". أي كل شيء له هُدًى لابد أن ‏يتبعه. ولكن الإنسان جاء في مجال الاختيار وأفسد قضية الصلاح في الكون. ومن ‏رحمة الله أنه جعل في كونه خلقا يعمل مقهورا ليضبط حركة الكون الأعلى. ‏فالشمس والنجوم والأرض وكل الكون ما عدا الإنس والجان يسير وفق نظام ‏دقيق. لماذا؟ لأنه يسير بلا اختيار له. والحق جل جلاله أخبرنا بأنه لكي يعتدل ‏ميزان حياتنا فلنحكم أنفسنا بمنهج الله كما أن الكون المقهور محكوم بمنهج الله. ‏فليس معنى الاختيار الإنساني أن نبتعد عن منهج الله لأن الله له صفة القهر. فهو ‏يستطيع أن يخلقنا مقهورين، ولكنه أعطانا الاختيار حتى نأتيه عن حب، وليس عن ‏قهر. فأنت تحب الشهوات، ولكنك تحب الله أكثر، فتقيد نفسك بمنهج الله. إذن ‏فالاختيار لم يُعْطَ لنا لِنُفْسِدَ في الأرض، ولكنه أُعْطِيَ لنا لنأتي الله سبحانه وتعالى ‏طائعين ولسنا مقهورين. ولذلك فكل منا مختار في أن يؤمن أو لا يؤمن. وهذا ‏الاختيار يثبت محبوبية الله سبحانه وتعالى في قلوبنا. ولكن الإنسان بدلا من أن ‏يأخذ الاختيار ليأتي الله عن حب فينال الجزاء الأعظم أخذه ليفسد في الأرض.‏
والفساد أن تنقل مجال "افعل ولا تفعل" فتضع هذه مكان هذه، فينقلب ‏الميزان. أي أنك فيما قال الله فيه: "افعلْ" لا تفعلُ، وفيما قال: "لا تفعلْ" تفعلُ، ‏فتكون قد جعلت ميزان حياتك معكوسا. لماذا؟ لأننا غير محكومين بقاعدة كلية ‏تنظم حياة الناس. فكل واحد سيضع قاعدة له، وكل واحد لن يفعل ما عليه، ‏فيحدث تصادم في الحياة. وكل فساد يشكل قبحا في الوجود. فهب أنك تسير في ‏الطريق وترى عمارة مبنية حديثا قد تسربت المياه من مواسيرها، عندما ترى ذلك ‏تتأذى لأن هناك قبحا في الوجود، في عدم أمانة إنسان في عمله. إذن فحين يفسد ‏عامل واحد بعدم الإخلاص في عمله يفقد الكون نعمة يحبها الله في أن ترى الشيء ‏الجميل فتقول: الله. فكل إنسان غير أمين في عمله يفسد في الكون. وكل إنسان غير ‏أمين في خلقه يفسد في الكون، ويعتدي على حرمات الآخرين وأموالهم. ‏
وهذا يجعل الكون قبيحا، فلا يوجد إنسان يأمن على عِرْضه وماله. لقد أراد ‏المعتدي أن يحقق ما ينفع به نفسه عاجلا، ولكنه أحدث فسادا في الكون. كذلك ‏عندما يغش التاجر الناس، وعندما يكتسب الإنسان المال بالنهب والسرقة فيفتح ‏الله عليه أسوأ مصارف المال في الوجود، فهو أخذ الحسرة بالفساد في الأرض. ‏والفساد في الأرض أن تخرج الشيء عن حد اعتداله فتسرف في شهواتك، وتسرف ‏في أطماعك، وتسرف في عقابك للناس، وتسرف باعتدائك على حقوق الغير. ‏والفساد في الأرض أن يوجَد منهج مطبق غير منهج الله.‏
إن غياب منهج الله معناه أن يصبح كل منا عبد أهوائه. وإذا صارت الأمور ‏حسب أهواء الناس جاءت لهم حركة الحياة بالشقاء والشر بدلا من السعادة ‏والأمن. إن ما نراه اليوم من شكوى الناس علامةٌ على الفساد لأن معناها أن الناس ‏تعاني، ولا أحد يتحرك ليرفع أسباب هذه الشكوى. ولن يستقيم أمر هذا الوجود ‏ويتخلص من الفساد إلا إذا حَكَمَنا منهجٌ لا هوَى له. والذي لا هَوَى له هو خالقُ ‏البشر واضعُ ميزان الكون.‏
وأول مظاهر الفساد أن يُوكَل الأمرُ إلى غير أهله لأنه إذا أُعْطِىَ الأمر إلى غير ‏أهله فانتظِر الساعة كما يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "إذا وُسِّد الأمر إلى غير ‏أهله فانتظِر الساعة". لماذا؟ لأن المجتمع حينئذ يكون مبنيا على النفاق واختلال ‏الأمور لا على الإتقان والإخلاص. فالذي يجيد النفاق هو الذي يصل إلى الدرجات ‏العلا، والذي يتقن عمله لا يصل إلى شيء. وتكون النتيجة أن مجموعة من المنافقين ‏الجهلة هم الذين يسيِّرون الأمور بدون علم. والفساد في الأرض هو أن يضيع ‏الحق، وتضيع القيم، ويصبح المجتمع غابةً كلُّ إنسانٍ يريد أن يحقق هواه بصرف ‏النظر عن حقوق الآخرين، ويحس من يعمل ولا يصل إلى حقه أنه لا فائدة من ‏العمل، فيتحول المجتمع كله إلى مجموعة من غير المنتجين. ‏
والفساد في الأرض هو أن نجعل عقولنا هي الحاكمة فلا نتأمل في ميزان ‏الكون الذي خلقه الله، وإنما نمضي بعقولنا نخطط فنقطع الأشجار، ونرمي ‏مخلفات المصانع في الأنهار فنفسدها، ونأتي بالكيماويات السامة نرش بها الزرع أو ‏مجاري المياه والأنهار كما يحدث الآن فنملؤه سُمًّا ثم نأكله ثم نجد التلوث قد ملأ ‏الكون، وطبقة الأوزون قد أصابها ضرر واضح يعرِّض حياة البشر على الأرض ‏لأخطار كبيرة، وتفسد مياه الأنهار ولا تصبح صالحة للشرب ولا للري، ويضيع ‏الخير من الدنيا بالتدريج. والفساد في الأرض هو أن ينتشر الظلم، وتصبح الحياة ‏سلسلة لا تنتهي من الشقاء. والفساد في الأرض هو أن تضيع الأمانة، فتفسد ‏المعاملات بين الناس وتضيع الحقوق.‏
هذه هي بعض أوجه الفساد في الأرض. والله سبحانه وتعالى قد وضع قانونا ‏كليا هو منهجه ليتعامل به الناس. ولكن الناس تركوه ومَشَوْا يتخبطون في ظلام ‏الجهل. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من استعمل رجلا من عصابة، ‏وفيهم من هو أَرْضَى لله منه، فقد خان الله ورسوله والمؤمنين". وهكذا يكون مدى ‏حرص الإسلام على استقامة أمور الناس".‏
وواضح أن الشيخ الشعراوى مصر على أن الإنسان فاسد وأنه خرج عن ‏القانون. ولكن كيف يكون الإنسان خارجا عن القانون الكونى، وهو فى تقدمه ‏وإنجازاته الحضارية إنما حققه باكتشاف هذا القانون الكونى والتزامه؟ بطبيعة الحال ‏يقصد الشيخ الشعراوى بالقانون شريعة الإسلام ومنظومة الأخلاق فيه. ولكن ‏ليس كل الناس فى البلاد الإسلامية يهملها عن عمد وقصد بل كثير منهم يحاول ‏إرجاع المجتمع إليها بغض النظر عن توفيقه أو فشله فى هذه المهمة. كما أن فى ‏الدول الأخرى كفرة وملحدين لا يؤمنون بأى دين لا عنادا ولا تمردا بل لأنهم ‏عُمِّىَ عليهم طريق الوصول فلم يهتدوا ولم يبلغوا ما يريح عقولهم وقلوبهم، فقد ‏بحثوا ودققوا، ثم لم ينتهوا إلى شىء أو تصوروا أنه لا يوجد إله أو دين. وكثير منهم ‏فلاسفة ومفكرون كبار كبرتراند راسل الفيلسوف البريطانى، الذى ناقشته فىمقال ‏طويل لى منذ سنوات ورددت عليه حججه وفنّدت أفكاره التى اعتمد عليها فى ‏إلحاده، ولكن باحترامٍ لموقفه الطيب من القضية الفلسطينية وعدم مبالاته بدولته، ‏التى تولت كِبْر إنشاء إسرائيل. ‏
والإسلام قد أرسى هنا قاعدة ألماسية تقول إنه إذا لم يتبين الهدى للشخص ‏الذى يبحث عن الدين الحق فإنه معذور عند الله كما يفهم من الآية 116 من سورة ‏‏"النساء": "ومَنْ يُشَاقِقِ الرسولَ من بعدما تبيَّن له الهُدَى ويتَّبعْ غيرَ سبيل المؤمنين ‏نُوَلِّه ما تَوَلَّى ونُصْلِه جَهَنَّمَ، وساءتْ مصيرا"، وكما وضح لنا العلماء الكبار لدينا ‏كالإمام الغزالى والإمام الرازى ومحمد عبده ورشيد رضا والشيخ محمود شلتوت ‏مثلا.‏
وكثير من المجتمعات التى لا تؤمن غالبيتها، ومنهم قادتها وزعماؤها ‏وكبارها، لا بالله ولا بالدين قد توصلت إلى نظام سياسى واقتصادى عادل إلى حد ‏بعيد يحقق كثيرا جدا من قيم الإسلام العليا، وإن لم يكن هو الحد المثالى. والناس ‏هناك لا يخونون الأمانة بسهولة ولا يأكل بعضهم حقوق بعض ويفلتون من ‏العقاب ولا ينامون عن أعمالهم وواجباتهم ولا يؤدونها سلق بيض، بل يتقنون ما ‏يعملون حتى يخرج من أيديهم حَسَنًا مُعْجِبًا. وينعكس هذا فى مستوى المعيشة ‏المرتفع، وفى مقدار الحرية الكبير الذى يتمتع به المواطنون، وفى احترام القانون، فهو ‏كافل حقوقهم وحامى إنسانيتهم، وفى التقدم العلمى والصناعى والاقتصادى ‏الذى يتمتع به الناس فى ذلك المجتمع، وفى انتشار النظافة والنظام والجمال فى كل ‏مكان، وفى رقى النظام التعليمى، وتقدم الإبداع العلمى والفنى. فهل هذا كله ‏فساد؟ فما الصلاح إذن؟ وقد توصلوا إلى كل هذا بعقولهم وتفكيرهم. فهل ‏استخدام العقل كله شر كما يفهم من كلام الشيخ رحمه الله؟ ‏
نحن نعرف أن كثيرا من تلك الدول فى علاقتها بنا كانت ظالمة متجبرة ‏متوحشة، فسرقت خيراتنا وقتلت أحرارنا أو سجنتهم وأذلتنا وعملت كل ما فى ‏وسعها وما زالت تعمل لنظل متأخرين، وتقف فى المحافل الدولية ضد قضايانا ‏وحقوقنا. ولكن هل نحن أفضل منها تجاه أنفسنا؟ بالعكس لقد أرى أننا نظلم ‏أنفسنا أشد مما ظلمتنا تلك الدول. بيد أنى إنما أتكلم هنا لا عن تعاملها معنا بل عن ‏معاملتها لمواطنيها واحترامها لحقوقهم وخشيتها من الأحزاب المعارضة، فلهذا ‏نراها تمشى على العجين فلا تلخبطه، وليست كدول العالم الثالث، التى يذيقها ‏حكامها جحيم الاستبداد والهزائم والفشل فى كل الميادين والتى تستعذب شعوبها ‏الاستبداد والخنوع والرضا بالهوان وانعدام الإحساس لديها بأن حقوقها دُمِّرَت على ‏أيدى أولئك الحكام.‏
ويتبقى قول الشيخ الجليل: "والفساد في الأرض هو أن نجعل عقولنا هي ‏الحاكمة، فلا نتأمل في ميزان الكون الذي خلقه الله، وإنما نمضي بعقولنا نخطط ‏فنقطع الأشجار ونرمي مخلفات المصانع في الأنهار فنفسدها، ونأتي بالكيماويات ‏السامة نرش بها الزرع أو مجاري المياه والأنهار كما يحدث الآن فنملؤه سُمًّا ثم نأكله ‏ثم نجد التلوث قد ملأ الكون. وطبقة الأوزون قد أصابها ضرر واضح يعرض ‏حياة البشر على الأرض لأخطار كبيرة. وتفسد مياه الأنهار ولا تصبح صالحة ‏للشرب ولا للري. ويضيع الخير من الدنيا بالتدريج".‏
وتعقيبنا على ذلك هو أن الشيخ ينطلق من اعتقادٍ راسخ عنده مؤداه أن الناس ‏يعرفون ميزان الكون معرفة تامة منذ نزولهم من بطون أمهاتهم. وهذا غير صحيح. ‏إنهم يتصرفون بما يؤديهم إليه عقلهم فيجدون النتيجة طيبة فى البداية، فيطمئنون إلى ‏ما توصلوا إليه، لكنهم مع مرور الأيام يتنبهون إلى أن هناك آثارا جانبية ضارة لم ‏يلتفتوا إليها فى مبتدإ الأمر، فيعملون على علاجها وتلافيها... وهكذا ينتقلون من ‏صواب إلى خطإ إلى صواب إلى خطإ مرة أخرى، وتظل الأمور تجرى على هذا ‏النحو، وهم يصوبون خطواتهم ويكتسبون أرضا صالحة تتسع مع الأيام، وإن لم ‏يعن هذا أنهم يستطيعون التخلص نهائيا من الأخطاء والثغرات، إذ هى جزء أصيل ‏من حياتهم وتركيبتهم البشرية لا فكاك لهم من هذا. فالعلماء الذين اخترعوا ‏الكيماويات السامة التى كانوا يرشون بها الزراعة لم يكونوا يعرفون فى البداية أنه ‏سيكون لها ضرر بالغ، ولكن لما تبين لهم هذا الضرر شرعوا يفكرون فى البديل. ‏واكتشاف الضرر لم يكن بين أيديهم منذ اللحظة الأولى التى اخترعوا فيها تلك ‏الكيماويات، بل ظهر فيما بعد. والسبب فى هذا هو سقف القدرات والإمكانات ‏البشرية غير العالى، وتلك هى طبيعة الحياة. وإذا كان هذا يحدث معنا الآن بعدما ‏تقدمت الإنسانية كل هذا التقدم فما بالنا يا ترى بالإنسان البدائى الأول الذى كان ‏جاهلا كل شىء تمام الجهل أو حتى بالإنسان قبل العصر الحالى حين كان طريقه لا ‏يزال مظلما رغم ما مشاه من مسافة حضارية لا بأس بها؟
وفى تفسير الآية 55 من سورة "الأنفال": "إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الَّذِينَ ‏كَفَرُوا" يردد فضيلة الشيخ هذه الفكرة مرة أخرى فيقول: "يبين لنا أن الله سبحانه ‏وتعالى قد ألحق الكفار بالدواب واستثنى المؤمنين فقط، فسبحانه خلق الدواب ‏وباقي أجناس الكون مقهورة تؤدي مهمتها في الحياة بالغريزة وبدون اختيار. ‏والشيء الذي يحدث بالغرائز لا تختلف فيه العقول، ولذلك نجد كثيراً من الأشياء ‏نتعلمها نحن أصحاب العقول من الحيوانات والحشرات التي لا عقول لها لأن ‏الحيوانات تتصرف بالغريزة، والغريزة لا تخطىء أبدا. فإذا قرأنا قول الحق سبحانه ‏وتعالى: "فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ" ‏‏(المائدة/ 31) نجد أن الغراب الذي لا اختيار له ولا عقل علَّم الإنسان الذي له ‏عقل واختيار. وقد حدث ذلك لأن الغراب محكوم بالغريزة.‏
إذن فكل ما يقوم به الحيوان من سلوك هو باختيار الله سبحانه وتعالى لأن ‏الحيوان مقهور على التكاليف. ومن رحمة الله تعالى أن المخلوقات باستثناء الإنسان ‏خلقت مقهورة تفعل كل شيء بالغريزة وليس بالعقل، ولكن الإنسان الذي كرمه ‏الله بالعقل يكفر ويعصي رغم أن الحق أنعم على الإنسان بنعمة الاختيار. ومن ‏العجيب أننا نجد الحيوان المحكوم بالغريزة لا يخرج سلوكه عن النظام المجبول ‏عليه ويؤدي مهمته كما رُسِمَتْ له تماما: فالدابة مثلاً تلد ويأخذون وليدَها ليذبحوه ‏فلا تنفعل لأن هذه مهمتها في الحياة: أن تعطي للإنسان اللحم. والحمامة ترقد على ‏بيضها، وعندما يخرج الفروج الصغير تتولاه لفترة بسيطة جدا حتى يعرف كيف ‏يطير وكيف يأكل ثم بعد ذلك تتركه ليؤدي مهمته لأنه محكوم بالغريزة، والغرائز لا ‏تخطىء. ويتصرف بها الحيوان بدون تعليم له.‏
فإذا جئنا للإنسان نجد أن ألوان السلوك المحكومة بالغريزة فيه لا يتعلمها: ‏إذا جاع طلب الطعام دون أن يعلِّمه أحد كيف يشعر بالجوع، فهذه غريزة. وإذا ‏عطش طلب الماء دون يعلمه أحد معنى العطش ولا كيف يشرب. وكل واحد منا ‏في الغرائز متساوٍ مع الآخر. ونجد الغنيَّ والفقيرَ والحاكمَ والغفيرَ إذا شعروا بالجوع ‏طلبوا الطعام، وإذا شعروا بالعطش طلبوا الماء. فكل شيء محكوم بالغرائز لا يوجد ‏فيه تغيير.‏
ومن العجيب مثلاً أن الحمار حين يريد أن يعبر مجرى مائيا ينظر إليه، وبمجرد ‏النظرة يستطيع أن يعرف هل سيعبره أو لا. فإن كان قادراً قفز قفزة واحدة ليعبر، ‏وإن لم يقدر بحث عن طريق آخر. ولا تستطيع أن تجبر حماراً على أن يعبر مجرى مائيا ‏لا يقدر على عبوره، ومهما ضربته فلن يستجيب لك ولن يعبر. أما الإنسان إن ‏طلبت منه أن يعبر قناة مائية فقد يقول لنفسه: سأجمع كل قوتي وأقفز قفزة هائلة. ‏وإن لم يكن قياسه صحيحا يسقط في الماء. ذلك لأنه أخطأ وصورت له أداة ‏الاختيار أنه يستطيع أن يفعل ما لا يقدر عليه. إذن فالمحكوم بالغريزة هو الأوعى.‏
وعندما نأتي إلى الأكل نجد الحيوان المحكوم بالغريزة أكثر وعيا لأنه يأكل، ‏فإذا شبع لا يذوق شيئا. ولو جئت له بأشهى الأطعمة فأنت لا تستطيع أن تجعل ‏الحيوان يأكل عود برسيم واحدا أو حفنة تبن أو حبة فول بعد أن يشبع، وتجده ‏يدوس على ما زاد عن حاجته بقدميه. وتعال إلى إنسان ملأ بطنه وشبع وغسل يديه، ‏ثم قالوا له مثلا: "أنت نَسِيتَ الفاكهة أو نسيت الحلوى" تجده يعود مرة أخرى ‏ليأكل وهو شبعان فيتلف معدته ويتلف جسده. ولذلك تجد الإنسان مصابا ‏بأمراض كثيرة لا تصيب الحيوان لأنه يسرف في أشياء كثيرة، بل تجد أن الأمراض ‏التي تصيب الحيوان معظمها من تلوث بيئة الحيوان مما يفعله الإنسان.‏
والحق سبحانه وتعالى يريد أن يخبرنا أن الدابة المحكومة بالغريزة خير من ‏الكافر لأن الدابة تؤدي مهمتها في الحياة تماما بينما لا يؤدي الكافر مهمته في ‏الأرض، بل يفسد فيها ويسفك الدماء، وبذلك يكون شرا من الدابة. ولقد قلنا: إن ‏الدّابة تحملك من مكان إلى مكان ولا تشكو، وتحمل أثقالك ولا تتبرم، وتظل سائرة ‏فترة طويلة وأنت جالس فوقها فلا تضيق بك وتلقيك على الأرض. لقد خُلِقَتْ ‏لهذه المهمة وهي تؤديها كما خلقت لها دون شكوى أو ضجر لأنها محكومة بنظام ‏دقيق تتبعه وتنفذه. ولكن الإنسان اخترع السيارة وطور فيها، وقد يجلس أمام مقعد ‏القيادة ويصيبه التعب فينعس ويقع في حادثة فيصاب فيها ويصيب غيره أيضا".‏
ولكن فات الشيخ أن الحيوان، وإن جاء تقديره لبعض الأمور أدق من ‏الإنسان، لا يحق لنا أن نصفه بأنه أوعى من الإنسان. فليس الأمر هنا أمر وعى، بل ‏أمر غريرة كما قال فضيلة الشيخ بنفسه. واتباع الغريزة ليس دليلا على الوعى، إذ ‏الحيوان يتصرف عندئذ بناء على هذه الغريزة لا بناء على الوعى. فهو كالكاتوب ‏‏(الكمبيوتر) قد بُرْمِج منذ البداية على نظام معين لا يستطيع أن يخرج عنه طوال ‏الدهر، ولم يقل أحدٌ قَطّ إن الكاتوب لديه وعى.‏
إن الرجل إذا ثارت شهوته بسبب رؤيته امرأة أنيقة جميلة شهية فهو خاضع ‏للغريزة، ولكنه حين يمسك نفسه ثم يفكر فيقرر أن يتزوجها فهو عندئذ يتصرف ‏عن وعى بغض النظر هل ستكون زيجة ناجحة أو لا. ولا يمكن أن يكون الحيوان ‏متبعُ الغريزة أفضلَ من الإنسان متبعِ الوعى. قد يعجبنا الحمار الذى لا ينبعث ‏فيحاول عبور مجرى الماء الواسع ولا يعجبنا الإنسان الذى يقدم على القفز فوقه ‏دون أن يقدر لرجله قبل القفز ولا بعد القفز موضعها فيسقط فى جدول الماء وتبتل ‏ثيابه وتتلطخ بالطين، وربما غرق أو أشرف على الغرق ولم ينج إلا بأعجوبة. لكن ‏هذا الإعجاب الوقتى لا ينبغى أن يعمينا عن الحقيقة الصارخة بأن الإنسان بوعيه، ‏الذى حقر من شأنه الشيخ، يبنى القناطر والجسور أو يستعين بالقوارب والمعديات ‏التى تنقله من شاطئ إلى شاطئ بينما يبقى الحمار واقفا لا يتزحزح على ضفة مجرى ‏الماء إلى الأبد لا يستطيع قفزا ولا يستطيع صنع وسيلة للعبور.‏
أما قوله إن "الشيء الذي يحدث بالغرائز لا تختلف فيه العقول، ولذلك نجد ‏كثيرا من الأشياء نتعلمها نحن أصحاب العقول من الحيوانات والحشرات التي لا ‏عقول لها لأن الحيوانات تتصرف بالغريزة، والغريزة لا تخطىء أبدا. فإذا قرأنا قول ‏الحق سبحانه وتعالى: "فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ ‏أَخِيهِ" (المائدة/ 31) نجد أن الغراب الذي لا اختيار له ولا عقل علَّم الإنسان ‏الذي له عقل واختيار. وقد حدث ذلك لأن الغراب محكوم بالغريزة"، أما قوله هذا ‏فلا مشاحة فى صدق ما جاء فيه من أن الإنسان الأول قد تعلم الدفن من الغراب ‏حين رآه يبحث فى الأرض بمنقاره وبراثنه. لكن لا ينبغى أن نغفل أن ذلك الغراب ‏المعلِّم قد بقى منذ ذلك اليوم عند هذه النقطة لم يَرِمْها لأنه لم يتطور بعدها فلم ينتقل ‏منها إلى شىء جديد، بخلاف تلميذه الإنسان، الذى انطلق مما تعلَّمه منه إلى أن ‏صارت مقابره فى بعض البلاد تحفا معمارية وفنية مما دفعنى ذات يوم، حين رأيت ‏صورة الجبَّان الذى دُفِن فى مقبرة من مقابره الروائى والسياسى البريطانى دانييل ‏ديفو (ق17)، إلى أن أقول ضاحكا ما معناه أن منظر المقبرة ونظافتها وتنسيقها ‏وحسنها البديع وفخامتها يجعل مذاق الموت جميلا ويحبب الإنسان فيه.‏
ذلك أن الحيوان يتصرف بغريزته لا يخرج عنها، ولا يحل مشاكله باستخدام ‏العقل، أما الإنسان فقد رزقه الله العقل والذكاء والقدرة على التأمل والتفكير ‏والتخيل وحل المشكلة وتطوير نفسه وقدراته وتصحيح مساره وأخطائه وتكميل ‏نواقصه. وهذا هو السبب فى إنجازه كل تلك الحضارة العظيمة بينما يبقى الحمار ‏حمارا لا يتطور أبدا مهما مرت به الأعوام والأحقاب. وهذا هو السبب فى أن ‏الإنسان إذا ما ضاق صدره بغباء إنسان آخر قال له: أنت حمار؟ لكن لم نسمع حمارا ‏قط يقول لحمار مثله على سبيل التحقير والسخرية منه ومن غبائه: أنت إنسان يا ‏أخى؟ ثم ألم يصف القرآن الكريم المشركين بأنهم دوابّ وأنهم كالأنعام بل هم ‏أضل سبيلا؟ فكيف نقول إن الحيوانات، التى تنتمى إليها الدواب والأنعام، أكثر ‏وأحسن وعيا من البشر؟ إذن فعلى هذا التفسير يكون الله سبحانه قد مدح المشركين ‏حين جعلهم دوابّ وأنعاما. فهل يقول أحد بهذا؟
وقد عاد الشيخ لمعالجة هذا الموضوع عند تفسيره للآية 36 من سورة ‏‏"التوبة"، وهى قوله تعالى: "إنما النَّسِىءُ زيادةٌ فى الكفر يُضَلُّ به الذين كفروا يُحِلّونه ‏عامًا ويحرِّمونه عامًا ليواطئوا عِدَّةَ ما حرَّم الله فيُحِلّوا ما حرَّم الله زُيِّنَ لهم سوءُ ‏أعمالهم والله لا يَهْدِى القومَ الكافرين"، فقال: "أراد الحق سبحانه أن يضع للسلام ‏ضمانا، وهو أن توجد قوة تقف أمام الفساد في الأرض. لذلك شاء الحق أن يكون ‏للحرب وجود في هذا الكون لتتصارع الإرادات. فما دام للإنسان اختيار، وما دام ‏هناك من يعصي ومن يطيع، فلا بد أن يحدث الصراع. أما الأمور التي لا اختيار ‏للإنسان فيها فهي لا تعكر السلام في الكون. فلن تقوم ثورة مثلا لكي تشرق ‏الشمس أو تشتعل حرب لإنزال المطر لأن هذه الأمور تسير بقوانين القهر التي ‏أرادها الله لها وتعطي نفعها للجميع، ولكن الفساد يأتي من انحراف الناس عن ‏منهج الله. وما دام في الكون حراس للمنهج من البشر بحيث إذا انحرف إنسان ‏ضربوا على يده حتى يعود إلى الطريق السليم فإن الحياة المطمئنة الآمنة تبقى. ولكن ‏إِنْ عَمَّ الفسادُ ولم يوجد في المجتمع من يقف ضده تعاندت حركات الحياة وتعب ‏الناس في حياتهم وأرزاقهم".‏
كذلك كرر فضيلته هذا الكلام عند تعرضه للآية التاسعة من سورة ‏‏"الشعراء" حين قال: "جاء الحق تبارك وتعالى هنا بصفة "الْعَزِيز" (الشعراء/ 9) ‏بعد أن قال: "وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ" (الشعراء/ 8) لنعلم أن الذين كفروا لم ‏يكفروا رَغْماً عن الله، إنما كفروا بما أودع الله فيهم من الاختيار. فهو سبحانه الذي ‏أعانهم عليه لَمَّا أحبوه وأصروا عليه لأنه تعالى ربُّهم، بدليل أنه تعالى لو تركهم ‏مجبرين مرغمين ما فعلوا شيئا يخالف منهج الله أبدا، وبدليل أنهم مجبرون الآن على ‏أشياء ومقهورون في حياتهم في مسائل كثيرة، ومع ذلك لا يستطيع أحد منهم أن ‏يخرج على شيء من ذلك. فمع إِلْفِهم العنادَ والتمردَ على منهج الله أيستطيع أحدهم ‏أنْ يتأبَّى على المرض أو على الموت أو على الأقدار التي تنزل به؟ أيختار أحد منهم ‏يوم مولده مثلاً أو يوم وفاته؟ أيختار طوله أو قوته أو ذكاءه؟ لكنْ لما أعطاهم الله ‏الصلاحية والاختيار اختاروا الكفر، فأعانهم الله على ما أحبُّوا، وختم على قلوبهم ‏حتى لا يخرج منها كفر، ولا يدخلها إيمان. وكلمة "العَزِيز" (الشعراء/ 9) تعني ‏الذي لا يُغْلَب ولا يُقْهَر. لكن هذه الصفة لا تكفي في حقّه تعالى لأنها تفيد المساواة ‏للمقابل، فلا بُدَّ أنْ نزيد عليها أنه سبحانه هو الغالب أيضا. لذلك يقول سبحانه ‏وتعالى: "وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ" (يوسف/ 21). فالله تعالى عزيز يَغْلِب ولا ‏يُغْلَب".‏
وبعيدا عن حديث الحروب فإن الظواهر الطبيعية التى تقوم على "القهر" ‏بعبارة الشيخ قد يمكن التدخل البشرى فيها على نحو أو على آخر، وليس الأمر فيها ‏مغلقا بالضبة والمفتاح تماما. ففى بعض البلاد المتقدمة قد استطاعوا إنزال المطر ‏عندما يحتاجون ذلك. والشيخ يقر بهذا ويقول إنه بإلقاء مادة كيماوية على السحاب ‏تمطر (محمد متولى الشعراوى/ نهاية العالم/ مؤسسة أخبار اليوم/ 1990م/ 19)، ‏وإن كان قد حمل على من يظنون بادعائهم وغرورهم أنهم استطاعوا إنزال المطر وأن ‏إحدى المغيبات الخمس التى استأثر الله بعلمها، وهى إنزال المطر، قد انكشفت ‏لهم: "إن اللهَ عنده عِلْمُ الساعةِ، وينزِّل الغيث، ويعلم ما فى الأرحام، وما تدرى ‏نفسٌ ماذا تَكْسِب غدا، وما تدرى نفسٌ بأىِّ أرضٍ تموت. إن الله عليم خبير" ‏‏(لقمان/ 34). ‏
ونحن لا نشارك المدعين المغرورين ادعاءهم وغرورهم، لكن هذا لا ينفى أن ‏للبشر الآن دخلا فى إنزال المطر بالاستعانة بالعلم والصناعة. بل نؤمن أن الله تعالى ‏هو الذى خلق البحار والأنهار وخلق القوانين التى على أساسها يتبخر الماء من ‏المسطحات المائية ويسير محمولا على الهواء ويتكاثف ثم ينزل مطرا، وأن كل ما ‏صنعه البشر، وهو ليس بالقليل، أنهم اكتشفوا كثيرا من هذه القوانين بتوفيق من الله ‏الكريم الذى جعل الإنسان قابلا للتعلم والتوسع فى العلم واستخدامه لمصلحته بما ‏فى ذلك القدرة على إنزال المطر فى بعض الأحيان. فهم مخلوقون لله، كما أن المطر ‏مخلوق لله، والقوانين التى تسيرهم وتسير الماء منذ كان فى البحر والنهر والبحيرات ‏إلى أن هطل مطرا هى أيضا من خلق الله. أما دور الإنسان فهو اكتشاف هذا كله ‏واستغلاله فى مصالحه. وهو شىء يسعدنا ويدفعنا إلى شكر المنعم الذى علمنا ‏وأقدرنا على الاستفادة من العلم. أما الادعاء والغرور فهو ليس مقصورا على بعض ‏العلماء بل كثيرا ما تجد لدى الجهلاء الغارقين فى الجهل ادعاء وغرورا أفحش. ‏
ولكنى لست مع الشيخ فى أن العلماء كلما اكتشفوا المزيد من أسرار الكون ‏ازداد إيمانهم كما قال فى الكتاب المذكور (ص13 وما بعدها). ذلك أنى أفهم قوله ‏تعالى: "إنما يخشى اللهَ من عباده العلماءُ" لا على أساس أن العلماء هم من عرفوا كثيرا ‏من الأشياء والأسرار الكونية وحسب، ولكن على أساس أنهم من تعمقوا وفهموا ‏مما وقع لهم من علم ومعلومات أن وراء هذا الكون إلها عظيما يستحق الإيمان به ‏والحب والشكر والحمد له، ولم يعاندوا أو يتمردوا أو يغتروا أو يأخذوا الأمور ‏مأخذا سطحيا بل انصاعوا للحقائق ودلالاتها. فالمقصود بـ"العلماء" فى الآية هم ‏العلماء الحقيقيون. وذلك كما نقول: "فلان هذا رجل"، أى رجل بمعنى الكلمة، ‏وإلا فالرجال بالمليارات، وهو ما لا نقصده بطبيعة الحال لأن رجوليته بالمعنى ‏العادى لا تحتاج إلى إثبات أو تقرير. وقد يقول قائل إن المقصود بالعلماء فى الآية هم ‏علماء الدين. وقائل هذا يعمى عن الحقيقة الساطعة المتمثلة فى أن فى من يسمَّوْن ‏بـ"علماء الدين" العالم الحقيقى الشجاع المخلص، والجاهل الظالم الذى يضلل الناس ‏ويمالئ المستبدين ولا يخاف الله ولا يرقب فى المسلمين إلا ولا ذمة. وما أكثر ‏الصنف الأخير بينهم!‏
‏ ويذكرنا قولنا: "فلان هذا رجل" بقوله عز شأنه عن السبب الذى حدا ‏بطائفة من النصارى فى عهد نبينا محمد أن يؤمنوا به وبالقرآن ويبكوا خشوعا حين ‏سمعوا آيات الله: "ذلك بأن منهم قِسِّسين ورهبانًا وأنهم لا يستكبرون"، مما فسرته ‏بأن المراد بـ"القسيسين والرهبان" هم العلماء والعُبَّاد الحقيقيون المخلصون اعتمادا ‏على أن معنى "القسيس" فى الأصل هو "العالم"، ومعنى "الراهب" هو العابد كما ‏بينت فى كتابى عن سورة "المائدة". أما القسيسون والرهبان بإطلاق فإذا سمعوا ما ‏أنزل إلى الرسول لم تفض عيونهم من الدمع مما عرفوا من الحق ولم يقولوا: "ربنا ‏آمنّا، فاكتبنا مع الشاهدين" ولم يطمعوا أن يُدْخِلَهم ربهم مع القوم الصالحين حسبما ‏تقول الآيات 82- 85 من سورة "المائدة".‏
كذلك استطاع البشر أن يزرعوا كثيرا من الخضراوات فى غير إبانها باستخدام ‏التقدم العلمى والصناعى. وبالمثل يمكنهم الآن عن طريق الهندسة الوراثية ‏الحصول على الأنواع التى يريدونها من هذا النبات أو من تلك الفاكهة. وكل ما ‏استعانوا به من علم وصناعة هو من عند الله. فليس فى الأمر افتئات على قدرة الله ‏ومشيئته بل هم خاضعون خضوعا مطلقا له سبحانه فى كل الأوقات وفى كل ‏الظروف وأينما كانوا. وهم قادرون على شق الأنهار وصنع البحيرات متى احتاجوا ‏إلى شىء من ذلك. وقد قرأنا أن التسونامى الذى حدث منذ سنوات فى شرق آسيا ‏هو مؤامرة من أمريكا، التى أجرت بعض التفجيرات قريبا من منطقة التسونامى ‏فأدت إلى حدوثه. هكذا قرأنا. ولا نقول إن ما قرأناه هو صحيح بالضرورة، ولكننا ‏نلفت الأنظار إلى دلالته وأن الإنسان قادر على أن يتدخل فى حدوث مثل هذه ‏الظاهرة الطبيعية الرهيبة. كما أشار الشيخ إلى الثَّقْب الذى أصاب طبقة الأوزون، ‏وهو أيضا من عمل البشر. ومما قرأناه كذلك فى الصحف أن أمريكا لا تريد الالتزام ‏بالقوانين التى تمنع من الإضرار بتلك الطبقة. ‏
وأما قول فضيلته إنه "ما دام في الكون حراس للمنهج من البشر بحيث إذا ‏انحرف إنسان ضربوا على يده حتى يعود إلى الطريق السليم فإن الحياة المطمئنة ‏الآمنة تبقى" فيبدو لى إسرافا شديدا فى التفاؤل، فالحرب والظلم لم ولن ينقطعا أبدا ‏فى الأرض، إذ حُبُّ العدوان موجودٌ منذ الأزل فى طبائع الناس جَرَّاءَ الغيرةِ ‏والأنانيةِ والطمعِ مما لا تخلو أو لا تكاد تخلو منه نفس بشرية. وقد جرب البشر ‏أساليب كثيرة للقضاء على العدوان والظلم، لكنهم سرعان ما تبين لهم أن صوت ‏القوة يعلو دائما على كل الأصوات. ‏
وفى تفسيره للآية السابعة من "الفاتحة" يقول الشيخ إن "أول ما يطلب المؤمن ‏هو الهداية والصراط المستقيم: "اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ". والهداية نوعان: هداية ‏دلالة وهداية معونة. هداية الدلالة هي للناس جميعا، وهداية المعونة هي للمؤمنين ‏فقط المتبعين لمنهج الله. والله سبحانه وتعالى هَدَى كل عباده هدايةَ دلالةٍ، أَيْ دَلَّهُمْ ‏على طريق الخير وبَيَّنَه لهم: فمن أراد أن يتبع طريق الخير اتبعه، ومن أراد ألا يتبعه ‏تركه الله لما أراد. هذه الهداية العامة هي أساس البلاغ عن الله. فقد بين لنا الله ‏تبارك وتعالى في منهجه بـ"افعل ولا تفعل" ما يرضيه وما يغضبه، وأوضح لنا ‏الطريق الذي نتبعه لنهتدي، والطريق الذي لو سلكناه حق علينا غضب الله ‏وسخطه. ولكن هل كُلُّ مَنْ بَيَّنَ له الله سبحانه وتعالى طريق الهداية اهتدى؟ نقول: ‏لا. واقرأ قوله جل جلاله: "وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى ‏فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ" (فُصِّلَتْ/ 17). إذن هناك من لا ‏يأخذ طريق الهداية بالاختيار الذي أعطاه الله له. فلو أن الله سبحانه وتعالى أرادنا ‏جميعا مَهْدِيِّين ما استطاع واحد من خلقه أن يخرج على مشيئته. ولكنه جل جلاله ‏خلقنا مختارين لنأتيه عن حب ورغبة بدلا من أن يقهرنا على الطاعة. ‏
ما الذي يحدث للذين اتبعوا طريق الهداية والذين لم يتبعوه وخالفوا مراد الله ‏الشرعي في كونه؟ الذين اتبعوا طريق الهداية يعينهم الله سبحانه وتعالى عليه ‏ويحببهم في الايمان والتقوى ويحببهم في طاعته. واقرأ قوله تبارك وتعالى: "وَالَّذِينَ ‏اهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقُوَاهُمْ" (محمد/ 17). أي أن كل من يتخذ طريق ‏الهداية يعينه الله عليه ويزيده تقوى وحبا في الدين. أما الذين إذا جاءهم الهدى ‏ابتعدوا عن منهج الله وخالفوه فإن الله تبارك وتعالى يتخلى عنهم ويتركهم في ‏ضلالهم. واقرأ قوله تعالى: "وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ ‏قَرِينٌ" (الزخرف/ 36). والله سبحانه وتعالى قد بين لنا المحرومين من هداية ‏المعونة على الإيمان، وهم ثلاثة كما بَيَّنْهُم لنا في القرآن الكريم: "ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا ‏الْحَيَاةَ الْدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ" (النحل/ 107)، "ذلِكَ ‏أَدْنَى أَن يَأْتُواْ بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَآ أَوْ يَخَافُواْ أَن تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ ‏وَاسْمَعُواْ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ" (المائدة/ 108)، "أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ ‏إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِـي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِـي ‏وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ ‏الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ" (البقرة/ 258). اذن فالمطرودون من ‏هداية الله في المعونة على الايمان هم الكافرون والفاسقون والظالمون".‏
كما عاد الشيخ لتناول هذه القضية خلال تفسيره للآية 19 من "التوبة": ‏‏"وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ"، فقال: "وهذه أوجدت الحل لمشكلات متعددة ‏يثيرها بعض الناس حول الهداية، وكيف أنها من الله سبحانه وتعالى، وليست من ‏العبد، لقوله تعالى: "إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَـكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَآءُ" ‏‏(القصص/ 56). نقول: نعم إن مشيئة الهدى من الله سبحانه وتعالى، لكنه سبحانه ‏قد أوضح لنا من لا يُدْخِلهم في مشيئة هَدْيِه فقال: "وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ" ‏‏(البقرة/ 264)، وقال سبحانه: "وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ" (البقرة/ 258)، ‏وقال سبحانه: "وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ" (المائدة/ 108). وقد ذكر الحق ‏سبحانه وتعالى هذه الحقائق في الكثير من آيات القرآن الكريم. ‏
وبعض الناس يقول: إن الهدى من الله، ولو أن الله هداني ما قتلت وما ‏سرقت وما ارتشيت. ونقول: هذا فهم خاطئ. ولنرجع إلى القرآن الكريم، فالحق ‏تبارك وتعالى يقول: "وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي" أي نفى ما يستوجب الهداية عمن ظلم أو فسق ‏أو كفر لأن الحق سبحانه لا يَهْدِي من قدَّم الكفر أو قدَّم الظلم أو قدَّم الفسق. فكأن ‏الكافر أو الظالم أو الفاسق هو الذي يمنع الهداية عن نفسه. ولو قدم الإنسان الإيمان ‏لدخل في هداية الله تعالى. فكأن خروج الإنسان عن مشيئة هداية الله هي مسألة من ‏عمل الإنسان وباختياره، فقد يختار الإنسان طريق الغواية، ويترك طريق الهداية. ‏لذلك لا يهديه الله لأنه سبحانه لا يهدي إلا المؤمن به. وإن اختار الإنسان طريق ‏الهداية فالحق يعطيه المزيد من الهدى لأنه آمن بالله فاختار طريق الهداية واستقبل ‏منهج الله بالرضى. وهكذا نفهم قول الحق تبارك وتعالى: "فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَآءُ ‏وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ" (فاطر/ 8). ‏
إذن فالحق يهدي من استمع إلى القرآن بروح الإيمان، واستقر في يقينه أن له ‏رَبًّا، واعتقد أن له إلهًا. وقد فصلنا ذلك في مسألة القضاء والقدر، وقلنا: إن الذين ‏يقرأون القرآن لفهم قضية الهداية عليهم أن يستقرئوا كل الآيات المتعلقة ‏بالموضوع. فسبحانه وتعالى قد أوضح أنه لا يهدي الكافر. إذن فهو يهدي المؤمن. ‏وأوضح أنه لا يهدي الظالم. إذن فهو يهدي العادل. وأوضح أنه جل وعلا لا يهدي ‏الفاسق. إذن فهو يهدي الطائع. فلا يقولَنَّ أحد: "إن الله لم يشَأْ أن يهديني" لأن هذا ‏فهم خاطىء لمعنى الهداية من الله، فسبحانه وتعالى قد بيَّن لنا من شاء هدايته ومن ‏شاء إضلاله. وهو يهدي من قدم أسباب الهداية وأسلم مقاليد زمامه للإيمان. والله ‏سبحانه وتعالى يقول: "وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ ‏عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا" (مريم/ 76)، ويقول أيضا: "وَالَّذِينَ اهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ ‏هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ" (محمد/ 17). ‏
إذن فالله أخبرنا مسبقًا بمن يستحق هدايته ومن لا يدخل فيها، وأنت ‏باختيارك طريقَك إما أن تؤمن فتدخل في الهداية، وإما أن تختار طريق الكفر والظلم ‏والعياذ بالله فتمتنع عنك الهداية. فإذا جاء أحد يجادلك ويقول لك: إن الله سبحانه ‏وتعالى قد قال: "كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ" (المدثر/ 31) لك أن ‏تقول له: لقد بيَّن الله عز وجل من شاء له الهداية ومن شاء له الضلال. ولقد ضربنا ‏لذلك مثلاً، ولله المثل الأعلى، فقلنا إن الهداية قد وردت في القرآن الكريم على ‏معنيين: المعنى الأول هو الدلالة على الطريق، وهذه هداية للجميع، فقد دل الله ‏المؤمن والكافر على طريق الإيمان برسله وكتبه، أي بيَّن لهم ما يرضيه وما يغضبه ‏وما يوجب رحمته وما يوجب لعنته. فالهداية الأولى إذن وردت بمعنى الدلالة ‏للجميع، أي أنها هداية عامة. ثم هناك هداية ثانية خاصة للمؤمنين، وهي التي بيَّنها ‏الله سبحانه وتعالى في قوله تعالى: "وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ" ‏‏(محمد/ 17)، أي أعانهم على منهجه فيسَّر لهم الطاعة وصعَّب عليهم المعاصي. فإذا ‏امتثل المؤمن لمنهج الله وأطاعه فالحق عز وجل يشرح صدره بذلك، ويجبب الطاعة ‏إليه فيزداد طاعة. وإذا شرع في ارتكاب المعصية بغَّضها له وجعلها ثقيلة على نفسه ‏حتى يتركها. ‏
وضربنا لذلك مثلا بالرجل الذي يقود سيارته ذاهبا لمكان معين، وعند ‏مفترق الطرق وجد رجلا من رجال المرور، فدله على الطريق. هذه دلالة عامة. ‏وعندما يقدم الرجل الشكر لجندي المرور فرجل المرور يزيد من الإيضاح له: لا ‏تتبع طريق كذا لأن فيها متاعب ومصاعب، واتبع طريق كذا وكذا تصل في سرعة ‏ويسر. وهذه زيادة في الدلالة أو زيادة في الهداية. لكن إن قال سائق السيارة لنفسه: ‏إن هذا رجل مرور لا يعرف شيئاً، وتجاهل شكره، فرجل المرور يتركه وشأنه. إذن ‏فالحق سبحانه قد هدى المؤمن والكافر إلى طريق الإيمان: فمن اتخذ طريق الإيمان ‏أعانه الله تعالى عليه. ومن اتخذ طريق الكفر، والعياذ بالله، تركه الله يعاني ويضل. ‏ولذلك لا بد لنا أن نتذكر دائما أن الهداية هدايتان: هدايةُ دلالةٍ لكل الناس، وهدايةُ ‏معونةٍ للمؤمنين فقط، وفي الدلالة العامة يقول الحق تبارك وتعالى: "وَهَدَيْنَاهُ ‏النَّجْدَينِ" (البلد/ 10). أما دلالة المعونة فهي التي يقول فيها المولى عز وجل: ‏‏"وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقُوَاهُمْ" (محمد/ 17).‏
وما يكشف لنا أن الهداية عامة أن الحق سبحانه وتعالى حينما تكلم عن قوم ‏ثمود، وهم الذين بعث الله إليهم أخاهم صالحًا، قال سبحانه: "وَأَمَّا ثَمُودُ ‏فَهَدَيْنَاهُمْ" (فُصِّلَتْ/ 17). ولو كانت الهداية هنا بمعنى أنهم أصبحوا مهتدين ‏وسلكوا سبيل الإيمان ما قال الله سبحانه بعدها: "فَاسْتَحَبُّواْ الْعَمَى عَلَى الْهُدَى" ‏‏(فصلت/ 17). إذن "فَهَدَيْنَاهُمْ" في هذه الآية الكريمة معناها: دللناهم على طريق ‏الإيمان، ولكنهم اختاروا طريق العمى والكفر".‏
وهذا كلام جميل. ويمكن أن نضيف إلى هذه الطريقة الجميلة طريقة أخرى ‏لتوجيه الآيات القرآنية التى قد تبدو للعين المتعجلة متضاربة أو يتخذ منها المعاند ‏المتمرد تكأة للتنصل من المسؤولية بالقول بأن الله هو الذى يَهْدِى وهو الذى يُضِلّ، ‏وما نحن البشر سوى ريشة فى مهب الرياح العاتية لا تستطيع أن تقاوم، فضلا عن ‏أن تستطيع اختيار طريقها المستقل الخاص بها. ذلك أن هذا الأمر يمكن النظر إليه ‏من أفقين مختلفين: فأنا وأنت نشعر شعورا فطريا تلقائيا بأننا، أمام كثير جدا جدا من ‏أمور الحياة، نستطيع أن نفعل وألا نفعل، ويكون ذلك الشعور من الوضوح ‏بمكان، والدليل على ذلك أننا نستطيع فى هذه الحالة أن نشرع فى فعل الشىء، ثم ‏بعدما نبدأ الفعل نتوقف ونقرر عدم المضى فيه... وهكذا دواليك. ‏
كما أن الله سبحانه يوم القيامة، وكذلك القانون فى الدنيا، يعاقباننا على ما ‏اجترحناه من أخطاء. والله عادل ولا يمكن أن يعاقبنا وهو يعرف أنه لم يكن لنا أى ‏اختيار فيما فعلناه، وإلا كان ظلما وإجحافا، وحاشا لله أن يكون ظالما متعنتا جل ‏جلاله. ومن هنا فإذا أسندنا الفعلَ وتَرْكَ الفعل إلى أنفسنا فنحن محقون فى هذا، ‏‏"فَيَدَاك أَوْكَتَا، وفُوكَ نَفَخ" كما يقول المثل العربى القديم. كما أن القرآن فى مواضع ‏كثيرة منه ينسب المشيئة إلى الإنسان. وقد وقفتُ أمام هذه المسألة فى كتابى عن ‏سورة "الرعد" فألفيت الله يسند المشيئة فى كتابه العزيز إلى الإنسان أيام كان يعيش ‏فى الجنة الأولى قبل أن يهبط منها، وفى الدنيا حيث نحيا الآن، وكذلك فى العالم ‏الآخر. والنصوص فى ذلك غزيرة كما يعلم كل من قرأ القرآن.‏
لقد وردت أفعال المشيئة فى القرآن مائتين وستًّا وثلاثين مرة، ولاحظت من ‏استقصائى لآيات المشيئة أن فاعل المشيئة فى الأغلبية منها هو الله سبحانه وتعالى، ‏أما فى الآيات التى لم يكن لفظ الجلالة هو الفاعل للمشيئة فقد كان الفاعل هو ‏البشر. ولم يحدث أن أسند القرآن المشيئة، من دون الله، لغير البشر. ومن هذه ‏الآيات يتبين الآتي: ‏
‏- أن القرآن قد أسند المشيئة إلى البشر، أفرادا أو جنسا، ثماني وعشرين مرة ‏‏(زائد مرتين سنذكرهما بعد قليل). وليس هذا فى حد ذاته بالشيء القليل. ‏
‏- أن الله سبحانه وتعالى قد عَزَا المشيئة فى أكثر من موضع إلى آدم وزوجه، ‏وهما أصل البشرية. ومعنى ذلك أن المشيئة مقررة للبشر منذ أول الخلق، وليست ‏شيئا طرأ على الإنسانية مِنْ بَعْد. وعلاوة على هذا فإسناد المشيئة إلى آدم وحواء وقع ‏وهما لا يزالان فى الجنة لم يهبطا منها إلى الأرض بعد، وهذا له دلالته ومغزاه. ‏
‏- أن القرآن ينسب المشيئة لبني آدم أيضا فى الآخرة، فهي إذن ليست شيئا ‏مؤقتا، بل شيئا أصيلا فيهم منذ كانوا فى الجنة الأولى (جنة ما قبل الأرض)، وستظل ‏معهم فى الجنة الثانية (جنة ما بعد الموت). ‏
‏- فإذا أضفنا الآيتين التاليتين من آيات المشيئة الإنسانية، وهما: "وَمَا تَشَاؤُونَ ‏إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ" (الإنسان/ 20)، ‏‎"‎وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ" ‏‏(التكوير/ 29)‏‎ ‎اتضح لنا أن مشيئة الإنسان ليست من عنده، بل هي من عند الله ‏سبحانه وتعالى. أي أن الله عز وجل شاء لنا أن نشاء. فهى إذن ليست مشيئة ‏مستقلة. كما أنها ليست مطلقة. وهذا ما يفرق بينها وبين مشيئة رب العالمين: فمشيئة ‏الله من عنده، وهى مشيئة مطلقة غير محدودة، أما مشيئتنا فهى هبة من الله وتكريم ‏منه لنا، وهى أيضا لا تستطيع أن تحقق كل شيء، لكنها رغم هذا تنجز الكثير. ‏
‏- وإذا تتبعنا آيات المشيئة الإلهية فى القرآن الكريم فإننا نجدها تتعلق بكل ‏شيء، فهو يبسط الرزق على من يشاء، وهو يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء، وهو ‏ينصر من يشاء ويهلك من يشاء، وهو يهدي من يشاء ويضل من يشاء، وهو يضع ‏رسالته حيث يشاء، وهو إن شاء حرك الريح وإن شاء أسكنها، وهو يرسل ‏الصواعق فيصيب بها من يشاء ويجنبها من يشاء، وهو ينزل المطر على من يشاء ‏ويصرفه عن من يشاء... وهكذا، وهكذا. ثم إن مشيئة الله سبحانه ليست شيئا غير ‏منضبط، بل تأخذ طريقها من خلال السنن الكونية التى أجرى الله سبحانه عالمه ‏على أساسها. وقد اقتضت مشيئته، كما رأينا من آيات القرآن الكريم، أن يكون ‏للإنسان مشيئة. ولكنها، كما قلنا، مشيئة مقيدة وغير مستقلة. وبهذه المشيئة يحاول ‏الإنسان أن يشق طريقه، بعون الله وفضله، خلال السُّنَن الإلهية، مما نسميه اليوم: ‏‏"القوانين الطبيعية". وبقدر ما يكتسبه الإنسان من العلم ويكتشفه من هذه القوانين ‏تصبح حركته أكثر حرية. ولنضرب مثلا على ذلك: فالإنسان منذ دهور سحيقة ‏يحلم بأن يطير، ولكن مشيئته هذه كانت تصطدم بقانون الجاذبية، الذي لم يكن ‏يفهمه ولا يستطيع أن يتعامل معه. وقد حاول تعويض ذلك باختراع الأساطير التى ‏يصور فيها طيران بعض البشر فى الهواء. أما بعد تقدم العلم وانكشاف قانون ‏الجاذبية وغيره من القوانين التى تحكم عملية الطيران فقد استطاع الإنسان، بفضل ‏خالقه ورعايته، أن يخترع المناطيد والبالونات والأشرعة والطائرات وسفن الفضاء، ‏التى مكنته أن يحول حلمه القديم إلى واقع، وبهذا يكون قد نفذ مشيئته. ومع ذلك ‏فإن حياة الإنسان لا تزال وستظل مملوءة بألوان النقص والعجز. ومهما حقق ‏الإنسان من آمال وأحلام فستبقى آماله وأحلامه التى لم تتحقق أكثر. ذلك أن ‏مشيئته، كما قلنا ونكرر، هى مشيئة محدودة وغير مستقلة. ‏
وإلى القارئ بعض الآيات التى تؤكد فى ذات الوقت وجود المشيئة الإنسانية ‏وأنها مستمدة من مشيئة الله سبحانه، وإن لم يستخدم القرآن فيها لفظ "المشيئة": ‏‏"ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ"‏‎ ‎‏(الأنفال/ ‏‏53)، "إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ" (الرعد/ 11)، "وَيَهْدِي إليهِ ‏مَنْ أَنَابَ" (الرعد/ 27)، "قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ" (التوبة/ 14)، "يَا أَيُّهَا ‏الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ" (محمد/ 7). ‏
هذا بالنسبة إلى إسناد المشيئة إلى الإنسان، ولكننا نستطيع فى ذات الوقت أن ‏ننسب كل شىء إلى مشيئة الله بما فى ذلك الهداية والإضلال، إذ إن الله سبحانه ‏وتعالى هو خالق البشر وواهبهم مشيئتهم، ومزودهم بالقدرات والإمكانات التى ‏ينفذون بها تلك المشيئة. كما أنه عز وجل خالق كل شىء من ملائكة وجن وحيوان ‏ومواد جامدة وقوانين كونية يتعامل معها الإنسان ويصارعها وتصارعه حتى ‏تستجيب لإرادته إلى هذا المدى أو ذاك. فكل أمر، كما نرى، راجع فى نهاية المطاف ‏إليه عز وجل. ومن هنا ففى الأفق الأعلى فإن الله هو الذى يشاء كل شىء، ولكن ‏إذا ما نزلنا من هذا الأفق الأعلى إلى الأفق الأدنى، أفق الأرض والبشر، جاز لنا ‏دون أى افتئات منا، أن ننسب إلى أنفسنا الأفعال التى نحس أنها وقعت منا.‏
وهذا كما نقول مثلا، مع الفارق الهائل، إن جمال عبد الناصر هو بانى السد ‏العالى، وفى نفس الوقت نقول إن من بناه هم المهندسون والأسطوات والعمال ‏الفلانيون. فهذا صواب، وهذا صواب. والكلام فى الحالين مفهوم ومقبول. ونجد ‏شيئا من هذا فى قول الشيخ رحمه الله لدن تناوله لقوله تعالى فى سورة "النحل": ‏‏"الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏‏(32)، إذ قال: "أي المتقون هم الذين تتوفاهم الملائكة طيبين. ومعنى "تَتَوَفَّاهُمُ" ‏‏(النحل/ 32)، أي تأتي لقبْض أرواحهم. وهنا نَسَب التوفّي إلى جملة الملائكة كأنهم ‏جنودُ مَلَكِ الموت الأصيل عزرائيل. وقد سبق أنْ قُلْنا: إن الحق تبارك وتعالى مرةً ‏ينسب التوفّي إلى الملائكة، ومرة ينسبه إلى مَلك الموت: "قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ ‏الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ" (السجدة/ 11). ومرّة ينسبه إلى نفسه سبحانه: "اللَّهُ يَتَوَفَّى" ‏‏(الزمر/ 42). ذلك لأن الله سبحانه هو الآمر الأعلى، وعزرائيل مَلكُ الموت ‏الأصيل، والملائكة هم جنوده الذين يُنفّذون أوامره".‏
وفى ضوء ما مر يمكننا أن نقرأ ونفهم ما قاله الشيخ الشعراوى عند تفسير ‏الآية السابعة من سورة "البقرة": "خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى ‏أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ". قال فضيلته: "وكما أعطانا الحقُّ سبحانه ‏وتعالى أوصافَ المؤمنين يعطينا صفاتِ الكافرين. وقد يتساءل بعض الناس إذا كان ‏هذا هو حكم الله على الكافرين فلماذا يطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏الإيمان منهم، وقد ختم الله على قلوبهم؟ ومعنى الختم على القلب هو حكم بألا ‏يخرج من القلب ما فيه من الكفر ولا يدخل إليه الإيمان. نقول إن الله سبحانه ‏وتعالى غني عن العالمين: فإن استغنى بعضُ خلقه عن الإيمان واختاروا الكفر فإن ‏الله يساعده على الاستغناء ولا يعينه على العودة إلى الإيمان. ولذلك فإن الحق ‏سبحانه وتعالى يقول في حديث قدسي: "أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه حين ‏يذكرني: فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملإ ذكرته في ملأ خير ‏منه، وإن اقترب إليَّ شبرا تقربت إليه ذراعا، وإن اقترب إلي ذراعا اقتربت إليه باعا، ‏وإن أتاني يمشي أتيته هرولة".‏
وقد وضح الحديث القدسي أن الله تبارك وتعالى يعين المؤمنين على الإيمان، ‏وأن الله جل جلاله كما يعين المؤمنين على الإيمان فإنه لا يهمه أن يأتي العبد إلى ‏الإيمان أو لا يأتي. ولذلك نجد القرآن دقيقا ومحكما بأن من كفروا قد اختاروا الكفر ‏بإرادتهم. واختيارهم للكفر كان أولا قبل أن يختم الله على قلوبهم. والخالق جل ‏جلاله أغنى الشركاء عن الشرك. ومن أشرك به فإنه في غِنًى عنه. إن الذين ‏كفروا... يختم الله بكفرهم على آلات الإدراك كلها: القلب والسمع والبصر. ‏والقلب أداة إدراك غير ظاهرة... وفي القرآن الكريم يقول الحق تبارك وتعالى: ‏‏"وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ ‏وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ" (النحل/ 78). وهكذا يعلمنا الله أن منافذ العلم في ‏الإنسان هي السمع والأبصار والأفئدة. ولكنْ في الآية الكريمة التي نحن بصددها ‏قدَّم اللهُ القلوبَ على السمع والأبصار لأن الله يعلم أنهم اختاروا الكفر، وكان هذا ‏الاختيار قبل أن يختم الله على قلوبهم. والختم على القلوب معناه أنه لا يدخلها ‏إدراك جديد ولا يخرج منها إدراك قديم. ومهما رأت العين أو سمعت الأذن فلا ‏فائدة من ذلك لأن هذه القلوب مختومة بخاتم الله بعد أن اختار أصحابها الكفر ‏وأصروا عليه. وفي ذلك يصفهم الحق جل جلاله: "صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ ‏يَرْجِعُونَ" (البقرة/ 18). ‏
ولكن لماذا فقدوا كل أدوات الإدراك هذه؟ لأن الغشاوة التفَّتْ حول ‏القلوب الكافرة، فجعلت العيون عاجزة عن تأمل آيات الله، والسمع غير قادر على ‏التلقي من رسول الله صلى الله عليه وسلم. إذن فهؤلاء الذين اختاروا الكفر ‏وأصروا عليه وكفروا بالله رغم رسالاته ورسله وقرآنه ماذا يفعل الله بهم؟ إنه ‏يتخلى عنهم. ولأنه سبحانه وتعالى غنيٌّ عن العالمين فإنه ييسر لهم الطريق الذي ‏مَشَوْا فيه ويعينهم عليه. واقرأ قوله تبارك وتعالى: "وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَـنِ ‏نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ" (الزخرف/ 36)، ويقول جل جلاله: "هَلْ أُنَبِّئُكُمْ ‏عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ" (الشعراء/ 221- 222). ‏
ومن عظمة علم الله تبارك وتعالى أنه يَعْلَم المؤمن ويعلم الكافر دون أن ‏يكون جل جلاله تدخَّلَ في اختيارهم. فعندما بعث الله سبحانه وتعالى نوحًا عليه ‏السلام، ودعا نوحٌ إلى منهج الله تسعمائة وخمسين عاما، وقبل أن يأتي الطوفان، علم ‏الله سبحانه وتعالى أنه لن يؤمن بنوح عليه السلام إلا من آمن فعلا، فطلب الله ‏تبارك وتعالى من نوح أن يبني السفينة لينجو المؤمنون من الطوفان. واقرأ قوله جل ‏جلاله: "وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ ‏يَفْعَلُونَ * وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ" ‏‏(هود/ 36- 37).‏
وهكذا نرى أنه من عظمة علم الله سبحانه وتعالى أنه يعلم من سيصر على ‏الكفر وأنه سيموت كافرا. وإذا كانت هذه هي الحقيقة فلماذا يطلب الله تبارك ‏وتعالى من رسوله صلى الله عليه وسلم أن يبلغهم بالمنهج وبالقرآن؟ ليكونوا ‏شهداء على أنفسهم يوم القيامة فلا يأتي هؤلاء الناس يوم المشهد العظيم ويجادلون ‏بالباطل أنه لو بَلَغَهم الهدى ودعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لآمنوا. ولكن ‏لماذا يختم الله جل جلاله على قلوبهم؟ لأن القلب هو مكان العقائد، ولذلك فإن ‏القضية تُنَاقَش في العقل. فإذا انتهت مناقشتها واقتنع بها الإنسان تماما فإنها تستقر في ‏القلب ولا تعود إلى الذهن مرة أخرى وتصبح عقيدة وإيمانا. والحق سبحانه وتعالى ‏يقول: "فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ" (الحج/ ‏‏46). وإذا عَمِىَ القلب عن قضية الإيمان فلا عين ترى آيات الإيمان ولا أذن تسمع ‏كلام الله".‏
وفى نهاية المطاف نقول مكررين إن الله هو خالق الكون، ومشيئته مطلقة، ‏لكنه سبحانه قد أعطى الإنسان مشيئة، وهى مشيئة مقيدة ونسبية. وبالمشيئة ‏والقدرة البشرية المحدودة التى خلعها الله على البشرية استطاعت إنجاز كل هذا ‏التراث الحضارى العظيم ببركة من الله جل جلاله. وهذه المشيئة منغمرة فى المشيئة ‏الإلهية الكبرى، فهى مرتبطة بها ومنطلقة منها ومحدودة بها، لكنها رغم ذلك كله ‏تتمتع بقدر من الحرية والاستقلالية المفاضة عليها من الله سبحانه.‏
وكما قلت فى مفتتح هذا الفصل فإن الجبر والاختيار متمازجان فى كل ما ‏نفعل. ذلك أنه ما من فعل أفعله أنا مثلا إلا ووراءه عوامل مساعدة تدفعنى إلى ‏فعله وتسهِّله علىَّ، ومن هذه العوامل التربية الطيبة التى تلقيتها فى المنزل، والتعليم ‏الذى حَصَّلْتُه فى المدرسة والجامعة، والكتب التى قرأتها، والتجارب التى مررت بها ‏فى حياتى، والمناقشات التى دارت بينى وبين زملائى وأصدقائى، وتديُّنى ‏وأخلاقى، ورغبتى فى أن أنجز شيئا طيبا أرضى به عن نفسى وأكسب منه عيشى، ‏والابتهال إلى الله أستمد منه رفع روحى المعنوية حتى يكون أدائى طيبا، ومدى ‏ثقتى بنفسى، التى هى ثمرة كل الإيجابيات والسلبيات التى تعرضت لها على مدار ‏عمرى (وبالمناسبة هذا كله كلام افتراضى، فأنا لست هكذا ولا نصفه ولا ربعه ولا ‏حتى ثمنه). ولكنْ فى ذات الوقت ثَمَّ معوقات وقيود تصعّب علىَّ انطلاقى وتحقيق ‏رغبتى، ومن تلك العوائق صعوبات العمل الذى أنا مقبل عليه، ورغبتى كإنسان فى ‏الميل إلى الراحة والكسل والتسويف وكراهية المشقة، وتآمرات مُنَافِسِىَّ فى الحصول ‏على الوظيفة التى أرجو الحصول عليها، وكذلك من يكرهوننى ويعملون على ‏إفشالى والتشويش علىَّ وإطلاق الشائعات ضدى. وأنا فى خلال ذلك كله أستعين ‏بالعوامل المساعدة وأعمل على إحباط المعوقات والصعوبات، باذلا كل جهدى فى ‏سبيل النجاح والانتصار.‏
فإن نجحت وكسبت الوظيفة ونُسِب النجاح والانتصار إلىَّ وإلى أنى أردت ‏وشئت ذلك فكان لى ما أردت وشئت كانت النسبة صحيحة ومنطقية. على أن ‏نعرف أن مشيئتى التى حققت بها ما حققت هى بدورها متأثرة بالعوامل السابقة: ‏إيجابيها وسلبيها، وممتزجة فيها نسبة من الجبر والإكراه ونسبة من الاختيار والحرية. ‏لكن لو أردنا أن ننظر إلى الأمر من كل جوانبه نظرة بانورامية قلنا إن هذه مشيئة الله ‏سبحانه. فهو الذى خلقنى ووفر العوامل المساعدة لى، وفى نفس الوقت هو أيضا ‏خالق المصاعب والعقبات التى تعترض طريقى، وخالق القوانين الكونية التى تنظم ‏صراعى مع معوقات طريقى واستعانتى بالعوامل المساعدة فى الحصول على النجاح ‏والفوز. وما دمنا سنحاسَب يوم القيامة بسبب المشيئة التى أفيضت علينا من الله ‏فإن سعة قدرتنا ومدى مشيئتنا يؤخذان فى الاعتبار. فالحساب إنما يكون على ما هو ‏فى وسعنا وقدرتنا، إذ لا يكلف الله نفسا إلا وسعها. وأرجو أن أكون بهذه الصورة ‏الكروكية قد أفلحت فى توضيح فكرتى، وأن تكون الفكرة ذاتها صحيحة. وواضح ‏أن الأمور كلها، على النحو الذى وضحته هنا، إنما هى فى قبضة الله، إذ كثيرا ما ‏تأتى النتائج على غير ما يأمرنا به جراء القَدْر الذى نتمتع به من المشيئة الحرة، فهى ‏المسؤولة عن الطاعة والعصيان: فإن أطاع الإنسان ربه فقد التقت مشيئته مع ما ‏يريده منه ربه، وإن عصاه اختلفت مشيئته مع ما أمره به سبحانه.‏
وقد عبر الشيخ عن هذا المعنى بأسلوب آخر فى شرح الآية 35 من سورة ‏‏"النحل"، وهى: "وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ ‏وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ ‏إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ"، إذ قال: "لا بُدَّ أن نلاحظ أن لله تعالى مرادات كونية ومرادات ‏شرعية. فالمراد الكونيّ هو ما يكون فِعلاً. كُلُّ ما تراه في الكون أراد الله أن يكون. ‏والمراد الشرعي هو طَلَبُ الشيء لمحبوبيته. ولنأخذ مثلاً لتوضيح ذلك كُفْرَ الكافر: ‏أراد الله كَوْنيًّا أن يكون لأنه خَلَقَه مختاراً وقال: "فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ ‏فَلْيَكْفُرْ" (الكهف/ 29). وطالما خلقك الله مختاراً تستطيع أن تتوجه إلى الإيمان أو ‏تتوجه إلى الكفر. ثم كفرتَ. إذن فهل كفرتَ غَصْباً عنه وعلى غير مُراده سبحانه ‏وتعالى؟ حاشا لله! ومعنى ذلك أن كُفْر الكافر مُرَادٌ كونيّ، وليس مراداً شرعيًّا. ‏وبنفس المقياس يكون إيمان المؤمن مُراداً كونيًّا ومُراداً شرعيًّا... ‏
إذن هو مراد شرعي، وكذلك مراد كوني... وهكذا. فلا بُدَّ أن نُفرِّق بين المراد ‏كونيا والمراد شرعيا. ولذلك لما حدثت ضجة في الحرم المكي منذ سنوات وحدث ‏فيه إطلاق للنار وترويع للآمنين قال بعضهم: "كيف يحدث هذا وقد قال تعالى: ‏‏"وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً" (آل عمران/ 97)، وها هو الحال قَتْلٌ وإزعاجٌ للآمنين ‏فيه؟". والحقيقة أن هؤلاء خلطوا بين مراد كوني ومراد شرعي، فالمقصود بالآية: ‏فَمْن دخله فأمِّنوه، أي اجعلوه آمناً. فهذا مطلَب من الله تبارك وتعالى، وهو مراد ‏شرعي قد يحدث وقد لا يحدث. أما المراد الكوني فهو الذي يحدث فعلاً. وبذلك ‏يكون ما حدث في الحرم مراداً كونيًّا، وليس مراداً شرعيًّا". ‏
أما تعليقه التالى، غفر الله له، على الآية 93 من سورة "النحل": "وَلـكِن يُضِلُّ ‏مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ" فلا أظنه أصاب المرمى. قال: "هذه الآية يقف عندها ‏المتمحِّكون والذين قَصُرَتْ أنظارهم في فهْم كتاب الله، فيقولون: طالما أن الله هو ‏الذي يضِلّ الناس فلماذا يُعذِّبهم؟ ونتعجَّب من هذا الفهم لكتاب الله ونقول ‏لهؤلاء: لماذا أخذتُمْ جانب الضلال وتركتُم جانب الهدى؟ لماذا لم تقولوا: طالما أن ‏الله بيده الهداية، وهو الذي يهدي، فلماذا يُدْخِلنا الجنة؟ إذن هذه كلمة يقولها ‏المسرفون لأن معنى "يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ" (النحل/ 93) أي يحكم على ‏هذا من خلال عمله بالضلال، ويحكم على هذا من خلال عمله بالهداية مثلما يحدث ‏عندنا في لجان الامتحان، فلا نقول: اللجنة أنجحت فلاناً وأرسبت فلاناً. فليست ‏هذه مهمتها، بل مهمتها أن تنظر أوراق الإجابة، ومن خلالها تحكم اللجنة بنجاح ‏هذا وإخفاق ذاك. وكذلك الحق تبارك وتعالى لا يجعل العبد ضالاً، بل يحكم على ‏عمله أنه ضلال وأنه ضَالّ. فالمعنى إذن: يحكم بضلال مَنْ يشاء، ويحكم بهُدَى مَنْ ‏يشاء، وليس لأحد أن ينقلَ الأمر إلى عكس هذا الفهم، بدليل قوله تعالى بعدها: ‏‏"وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ" (النحل/ 93). فالعبد لا يُسأل إلا عَمَّا عملتْ يداه، ‏والسؤال هنا معناه حرية الاختيار في العمل، وكيف تُسْأَل عن شيء لا دَخْل لك ‏فيه؟".‏
ذلك أن "أضلَّ فلان فلانا" و"هَدَاه" لا تعنيان القول بأنه ضالٌّ ومهتدٍ بل ‏تعنيان إضلاله وهدايته فعلا. وقد قلنا إننا إذا ما نسبنا أى شىء مما نفعله إلى الله ‏فنحن مصيبون، وإذا نسبناه إلى أنفسنا فنحن أيضا مصيبون، تبعا لزاوية الرؤية كما ‏وضحنا آنفا. ولو كان كلام الشيخ فى توجيه معنى صيغتى الفعلين صحيحا لأراح ‏الأجيالَ الماضية من مجادلات واتهامات وصراعات ومعارك كثيرة، ووفر الوقت ‏والجهد والتوتر والأوراق والأحبار التى أنفقت فى ذلك. إنها محاولة حسنة النية لحل ‏المشكلة، لكنها محاولة غير موفقة. نحن نقول: "كفَّر فلانٌ فلانًا أو شيَّعه أو فسَّقه أو ‏بدَّعه" مثلا، ونقصد أنه نسبه إلى الكفر أو التشيع أو الفسق أو البدعة، أى حكم ‏عليه بذلك. أما "أضلَّ وهَدَى" فلم أسمع بأحد استخدمهما فى هذا المعنى، إذ لا ‏تستخدم صيغتا "فَعَلَ" و"أَفْعَلَ" فى الحكم على فلان أو علان بالهدى أو بالضلال. ‏ولعلنا لو قلنا: "هَدَّى فلان فلانا أو ضَلَّله"، بمعنى أنه حكم عليه بالضلال ‏والهدى، يكون الكلام صحيحا.‏