فاطمة
لا أدري ما سبب شغفي باسم فاطمة . وكلما أوغلت ذاكرتي في الماضي البعيد كلما لفها الضباب وعادت بخفي حنين .. كل ما أذكره هو أن اسم فاطمة كان يتكرر مرارا ونحن صغار نلهو ونرتع عبر الآكام والروابي التي تحيط بقريتنا .. لكن فاطمة ابنة سائق القيادة كانت تثير الانتباه بما وهبها الله من جمال وأناقة وكنت لا أخفي إعجابي وتعلقي بها ، فأثير عاصفة من الضحك واللمز من طرف إخوتي .. وكانت فاطمة زوجة القائد أيضا من اللواتي شهد لهن الكل بالبهاء والكياسة .. ثم توالت السنون واسم فاطمة يلازمني كظلي .. فهذه تسحر بعيونها النجلاوين وتلك يهيم ببشرتها كل من عرفها وأخرى يتسابق الكل لرؤية شعرها الغجري الأسود وهي تمشطه عند الغدير ..
وغادرنا القرية لأجد نفسي متعلقا ببنت الجيران فاطمة .. كان أبوها معلما خصوصيا لنا نحن أبناء الحي وكان لا يطيق فراقها فحظيت ، أو على الأصح ، حظينا بالقرب منها لأني كنت أعلم أن الكثيرين مثلي يهيمون بها . وكنت أبدو وكأنني لا أعيرها اهتماما في الوقت الذي كنت أتأجج غيظا حين ألمس من أحد رفاقي محاولة للتقرب منها واستلطافها .
أمي لاحظت اهتمامي بفاطمة حين كبرت وأتممت دراستي وعدت لأجدها قد أينعت وحان قطافها . لكنها أسرت لي أنني جئت متأخرا بعد أن خطبت لابن عمها ، واقترحت علي بعد مدة أسماء المرشحات لمشاركتي حياتي فكنت أجيب مازحا :"هل اسمها فاطمة ؟" فتضحك أمي وتضرب كتفي مبدية انزعاجها من استخفافي بالموضوع على جديته .
أبي كان يرمقني بصمت ويتمتم مبتسما ":حذار من هذا المزاح .. قد يكون نابعا من لا شعورك ." فأجيبه ضاحكا :" هكذا أنت يا أبي .. تخضع كل شيء للتحليل النفسي ."
لم يكن أبي مخطئا . فقد توالت الأعوام والسنون وبدا وكأن أمي قد يئست من تزويجي وانتقل أبي إلى رحمة الله ، وأنا لم أتغير . انتقلت إلى مدينتي كما كنت أتمنى بعد قضائي لفترة طويلة بعيدا عنها ، وحصلت على ترقيتي واقتنيت مسكنا بالقرب من أمي لكني بقيت أعزب .. وصارت هوايتي أن أختار اسم فاطمة لكل امرأة أو فتاة جميلة أختارها بطلة لقصصي التي ولعت بكتابتها .
لم أفلح في إيجاد أصدقاء لي ، فصرت أقضي أوقاتا طويلة على الحاسوب أنقل قصصي أو أتحدث إلى أشخاص من بلدان بعيدة ومن شتى الجنسيات .. وفاطمة كانت من بين هؤلاء الأشخاص .. تعرفت عليها صدفة حين اشتركت في مسابقة خاصة بالمدرسين عبر الأنترنيت .. كانت هي الفائزة وفرحت كثيرا دون أن أشعر بأية غيرة أو حسد .. بل ربما سعدت لأن الفائزة اسمها فاطمة ..
بدأ حديثنا عاديا عن الفن والفنون ثم عن الآداب .. كانت شاعرة وكنت أحس بانجذاب لما تنظمه من أبيات .. تناقشنا عدة مرات عن مناحي عديدة تخص الحياة وطبيعة الأشخاص .. وفي كل مرة كنت أشعر أن حديثنا يتخلص من التكلف .. وبدأ يطبعه الكثير من المزاح والمداعبة فأجرؤ على الاعتراف بمنافسة من يحادثونها على النت وتجيب ضاحكة أن علي أن أتحداهم محذرة إياي من أنها صبورة ولكن لا تريد أن يتطرق الملل إليها .. غير أن أشياء كثيرة كانت تضع حدا للهزل ليأخذ النقاش مأخذ الجد دون أن نحيد عن موضوع المنافسة ..
تساؤلات فاطمة تجعلني أحيانا أتردد عن الإجابة .. ليس لأني أعجز عن الرد وإنما تغريني بالتأمل وتستفز صمتي ليعد بكل لدقة ما يليق بالسؤال . سألتني عن الليل وعن الألم .. وفي كل مرة كانت تأخذني سنة وأعطي لنفسي فسحة لتأمل تساؤلاتها ..
استطعت في مدة وجيزة أن انال ثقتها وأعرف جزءا من حياتها الشخصية .. هي مثلي مرت بتجربة عاطفية باءت بالفشل .. كانت متعلقة بابن خالتها الذي غاب سنوات في بلاد المهجر ليعود انسانا آخر مليئا بالأسرار .. لكن تودده إليها جعلها تعرض عن الغموض الذي كان يحيط بحياته .. وصار من يراهما في توادهما يتوقع نبأ سارا .. لكن بوحه لها بكونه متزوجا في السر من مشغلته وخشيته من فقدانه لعمله جعلها تنفض يديها من الموضوع وتواجهه برفض قاطع .
حدثتني ايضا عن تودد بعض أقاربها وتدخل البعض لإقناعها بالزواج من أحدهم رغم نفورها منه .. وضغوط أمها وأعمامها الذين انتقدوا رفضها للزواج وبقاءها عرضة للألسن .
صارت أجمل أوقاتي تلك اللحظات التي تلي الغروب حين أعود إلى بيتي وأنجز تحاضير الدروس ثم أسد رمقي بما تبقى من الغذاء وأهرع غلى العالم الأزرق لأجدها هناك تنتظر وتبدأ سهرتنا .. أهديها كل انواع الورود فتتقبلها بفرح وتنوه بذوقي في اختيارها .
فاطمة صار لها شأن في حياتي .. احتلت جزءا كبيرا من أوقاتي سواء أكنا نتحدث أم لا .. دائم الانشغال بها وتخيلها حين كنت لا اعرف شكلها .. لكن حين نلت ثقتها التامة أرسلت لي صورتها فكانت رجة أصابت كل كياني .. كانت جميلة بكل ما في الكلمة من معنى .. وسيمة الى أقصى درجة .. في نظرتها براءة ودلال .. وفي شفتيها التي ارتسمت عليها ابتسامة خفيفة ما يشي بحزن دفين .
انهالت عليها قصائدي محتشمة في البداية .. لكنها صارت تتسم ببعض الاندفاع .. شجعني إعجابها تارة وصمتها الذي كانت تليه عبارات الانبهار، وصرت انتقي كلماتي بعناية رغم تدفق كلمات الغزل كالسيل .
كنت كالمجنون بها .. وكان نهاري يمر بطيئا وأنا في فصل الدراسة أشرح الدرس وأستدني ساعة الخروج كي أسرع إلى البيت وألج العالم الافتراضي ثم اقبع منتظرا حتى تتصل .
كنت أحس بلهفتها في قراءة ما أكتبه من هذيان وكأنني كنت أشبع نهمها وظمأها ، وربما كنت أملأ فراغها العاطفي مثلما أملأ فراغي أنا . ثم بدأت أتساءل : وماذا بعد ؟
حين طرحت عليها سؤالي لم تجب .. وصمتت . مرت لحظات دون أن يتحدث أحدنا وكأننا كنا نعيش حلما اصطدم بصخرة الواقع .. وحين أعدت السؤال ردت بسؤال آخر :
- ماذا ترى أنت ؟
وبدون تردد أجبت :
- أنا أرى أننا يجب ان نفكر في الانتقال من العالم الافتراضي إلى الواقع .
- وهل أعني لك انا أيضا أنثى افتراضية ؟
- لا .. أنت بالنسبة لي اكثر من الواقع .. لهذا يجب ان نلتقي ..
- لم يحن الوقت بعد .. لا زالت هناك أشياء لا تعرفها عني .. وأنا أيضا بحاجة لكي أتعرف عليك أكثر .
- لك ذلك .. خذي كل وقتك ..
ثم تشعب بنا الحديث غلى مواضيع أخرى .. لكني أعترف أن شيئا ما جعل حديثنا لأول مرة يطبعه التكلف .. وغابت نسبيا تلك العفوية التي كانت سمته .. هل تسرعت ؟ وهل يكون تسرعي هذا سببا في شعورها بالخوف ؟ .. لكن ما الذي سيثير خوفها ؟
هكذا نمت والأسئلة تزيدني حيرة .. فكثرت أحلامي وانقلبت كوابيس .. كان هناك في أعماقي خوف دفين من فقدها دون ان أعرف سبب هذا الإحساس .. وكدت أتخلف عن الخروج للتجول وألازم الحاسوب رغم علمي بعدم تواجدها على الفيسبوك .
في الأيام التي تلك ذلك الحوار ، عادت بعض الحميمية إلى أحاديثنا وبدأت أحلم بتواصل أكثر دفئا بعد أن تلاشىت خشيتي التي لازمتني من أن تهجر العالم الافتراضي إلى الأبد .
اليوم .. أنهيت حصتي الصباحية وخرجت من القسم متوجها إلى أقرب مقهى .. طلبت فنجان قهوة بالحليب .. تصفحت جريدة دون ان أقرأ أي مقال كعادتي .. نهضت متثاقلا أجر خطواتي جرا نحو البيت .. ثم أستلقي على الكنبة وأتأمل السقف ..
منذ أيام تخلصت من الحاسوب .. بعد أن ألغيت حسابي على الفيسبوك .. وصرت أقضي أوقاتي كلها بين تحضير الدروس وتصحيح الامتحانات وبين مشاهدة الكرة ومطالعة بعض الروايات .. لم تعد لي رغبة في الكتابة .. جمعت كل أوراقي داخل درج بمكتبي ومزقت تلك التي كانت تعج بقصائدي .
غادرت فاطمة العالم الافتراضي فجأة وبدون سابق إنذار.. وتركتني فريسة الحيرة والذهول.. بل ونهشتني غيرة قاتلة وانا أتخيلها وقد انصاعت لضغوط أهلها والاستسلام لذاك الذي نفرت من الارتباط به ..
وبقدر ما حقدت عليها لاختفائها ، رثيت لها في سري وأنا التمس لها كل الأعذار .. ولا تزال صورتها على مكتبي بعد ان نسختها عندي وطبعتها ووضعتها في إطار ذهبي جميل.. يطالعني وجهها الجميل وبسمتها البريئة وقد علاها ذاك الحزن الدفين .