نص محاضرة طه حسين فى الجامعة الأمريكية زمااااااااااااااااااان عن مكانة الأدب العربى بين الآداب العالمية وتعقيبى عليها
إبراهيم عوض
الأستاذ بآداب عين شمس


الأدب العربى ومكانته بين الآداب الكبرى العالمية
(فصل من كتاب د. طه حسين: "من حديث الشعر والنثر")
سيداتى وسادتى، أستأذنكم قبل أن أبدأ كلامى فى موضوع المحاضرة فى لحظة قصيرة، أقدم بها أجمل الشكر إلى الجامعة الأمريكية التى تفضلت فطلبت إلى أن ألقى هذه المحاضرة، وإذا شكرت للجامعة هذا الفضلَ فأنا أشكرها لأمرين: الأول: حسن ظنها بى الذى دعاها إلى طلب هذه المحاضرة. والثاني: فضلها العظيم الذى أتاح لى أن أتصل بالجمهور المصرى، بعد أن حيل بينى وبينه.
والآن أريد أن أتحدث إليكم عن هذا الموضوع: "مكانة الأدب العربى بين الآداب الكبرى العالمية". وهو موضوع كما ترون غريب ليس يُدرَى من يريد أن يتحدث فيه كيف يعرض له، ولا من أين يأتيه. فالأدب العربى وحده أدب عاشت عليها أمم كثيرة نحو خمسة عشر قرنًا، والآداب الغربية الكبرى فى العالم آداب عاشت عليه أمم ليست أقل من الأمم التى عاشت على الأدب العربى عددًا ولا خطرًا ولا مكانة فى التاريخ. ومهما يكن الأستاذ بارعًا فلن يستطيع أن يحيط بالأدب العربى كله، والآداب الأخرى كلها، فالموضوع فى نفسه أوسع وأجل خطرًا من أن يعرض له فى محاضرة واحدة أو أكثر. ولكنى مع ذلك سأحاول أن أضع أمامكم فكرة إن لم تكن دقيقة فهى قريبة إلى حد ما من الأدب العربى والآداب الكبرى التى شغلت الناس وعاشت عليها الإنسانية قديمًا، وما زالت تعيش عليها.
هناك احتياط لا بد لى منه قبل البدء فى الحديث، وهذا الاحتياط يضطرنى إلى أن أنبهكم منذ الآن إلى أنى لن أحاول المقارنة بين الأدب العربى والآداب الغربية الحديثة لأنى سأظلم ظلمًا قبيحًا إن عرضتُ لهذه المقارنة. فبين أى الأدبين العربيين نريد أن نقارن: بأدب القدماء؟ أم بأدب المحدثين؟ فإن أردنا أن نقارن بين الأدب العربى القديم والآداب الأوروبية الحديثة، ظلمنا الأدب العربي؛ لأننا نكلفه أكثر مما يتكلف، فليس الأدب العربى ملزمًا بأن يتنبأ عما ستصير إليه الحضارة الحديثة، وبتقدم العقل والفلسفة والعلم. ليس مكلفًا أن يتنبأ بهذا كله، وأن يستعد وأن يتأهب ليثبت للمقارنة، فنحن إذن نظلم الأدب العربى إن قلنا إنه ضعيف أو ساذج بالنسبة للأدب الفرنسى أو الأدب الإنجليزى أو الأدب الألمانى لأن الظروف التى أحاطت بالأدب العربى القديم مخالفة للظروف التى تحيط بالآداب الأوروبية الكبرى.
وإذا أردنا أن نقارن بين الأدب العربى الحديث والآداب الأوروبية الكبرى ظلمنا أنفسنا. ذلك أنَّا فى بدء نهضتنا لم نكد نتحلل من القيود الكثيرة التى تحول بيننا وبين الحياة العقلية الحرة، فمن الظلم لنا ولأدبنا الحديث أن نقارن بينه وبين الآداب الأوروبية الكبرى، ونحن أيضًا نظلم هذه الآداب الأوروبية إذا قارنا بينها وبين آدابنا الحديثة الناشئة، التى تحاول أن تنهض على قدميها. لن أتعرض إذن للآداب الأوروبية ولا للأدب الحديث الذى ننشئه ونعيش به، وإنما أريد أن أحصر موضوع الحديث فى المكانة التى كانت لأدبنا القديم بين الآداب الكبرى.
هذه الآداب الكبرى قليلة يمكن أن تُحصَر فى ثلاثة أو أربعة آداب: هناك الأدب اليونانى القديم، وهناك الأدب الرومانى أو اللاتينى، والأدب الفارسى، والأدب العربى. هذه الآداب هى التى نستطيع أن نتحدث عنها، ونجتهد فى أن نتعرف مكانة أدبنا منها، فأما ما سوى هذه الآداب، فالعالم الحديث، سواء أكان فى أوروبا أم فى الشرق، لا يكاد يعرف عنها شيئًا، وإنما هى محصورة بين العلماء، معروفة عند الإخصائيين الذين يبذلون جهودهم فى مكاتبهم. لن أتعرض إذن للآداب الهندية ولا الصينية لأنى لا أعرف من هذه ولا من تلك شيئًا، وإنما أحصر حديثى على هذه الآداب الأربعة: اليونانية، واللاتينية، والفارسية، والعربية. وأريد أن أتعرف المكان الذى يجب أن يكون فيه أدبنا بين هؤلاء.
عندما أراد الأستاذ بروكلمن أن يكتب الفصل القيم الذى كتبه فى "دائرة المعارف الإسلامية" عن الأدب العربى ابتدأ فشبه ما كان عند العرب قبل ظهور الإسلام بزمن بعيد بهذه الآداب التى توجد عند الزنوج أو عند سكان جزر المحيط الهادى لأن هذه الآداب التى كانت معروفة عند العرب قبل الإسلام بنحو ثلاثة قرون لم تكن تزيد عن أن تكون تعبيرًا بسيطًا عن حياة ساذجة توشك أن تكون منحطة لا قيمة لها، وهى حياة أهل البادية، الذين لا حظ لهم من ثروة أو ترف أو رقى عقلى.
ولكن بروكلمن لم يكد يتتبع الأدب العربى البسيط، الذى كان يشبهه فى أول فصله بأدب الزنوج، لحظات قصارًا حتى اضطر أن يعرف لهذا الأدب العربى مكانته، وأن يضعه فى منزلة عُلْيا هى التى تضطر جماعة من كبار العلماء أن يقفوا عليه حياتهم، وأن يضحوا بجهودهم. ذلك لأن الأدب العربى الذى كان يشبه فى أول أمره أدب الزنوج لم يكد يتصل بالحضارات فى القرن الخامس والسادس للمسيح، وتنشأ الصلات بينه وبين الحياة خارج شبه جزيرة العرب، حتى ظهر أنه كان فى نفسه أقوم وأخصب من أن يظل أدبًا يشبَّه بأدب الزنوج، وأنه كان يحمل فى نفسه طبيعة خصبة إلى أقصى ما يمكن من الخصب، غنية إلى أقصى ما يمكن من الغنى. فلم يكد يتجاوز البادية حتى استحالت هذه الطبيعة الخصبة، التى كانت منكمشة، إلى جذوة من النار لم تلبث أن اشتعلت، فشملت العالم القديم وصهرته وحوَّلته إلى طبيعة جديدة، مخالفة كل المخالفة لما كانت عليه قبل الإسلام.
ليس من شأنى الآن أن أبحث عن الأسباب التى دعت إلى أن ينتشر الأدب العربى فى بقية البلاد التى انتشر فيها الإسلام، فقد يكون هذا معروفًا، ولكنا نعرف جميعًا أن الإسلام لم يكد يظهر ويتجاوز الجزيرة أيام أبى بكر وعمر حتى انتقلت معه اللغة وما فيها من أدب، وانتقل معها كتابها المقدس القرآن الكريم. ولم يكد القرآن الكريم يستقر فى الأمصار خارج الجزيرة حتى بدأت الشعوب تتأثر به تأثرًا سريعًا، ولم يكد ينتهى القرن الأول ويبتدئ القرن الثانى حتى نلاحظ فى هذه البلاد التى فتحها المسلمون، فى الشام ومصر والعراق وإفريقيا الشمالية وفى إسبانيا، أن هذه الشعوب قد أخذت تتطور تطورًا سريعًا: كلها يسرع إلى الإسلام، وكلها يحاول أن يتعلم لغة الإسلام، وكثير منهم لا يكتفى بتعلم اللغة، بل يريد أن يتقنها ويتقن آدابها، وأن يكون له حظ موفور من هذه الآداب. وما نكاد نصل إلى منتصف القرن الثانى حتى نجد أن كثرة الشعراء ليست من العرب بل من الشعوب الأجنبية التى أخضعها العرب. فأنتم عندما تستعرضون الشعراء الذين امتازوا فى القرن الثانى، والذين تفخر بهم الحضارة الإسلامية، والذين كانوا جمال بغداد والعراق، تجدون كثرتهم إما من الفرس وإما من الموالى من أصل ساميّ: نبطى أو آرامى، أجاد العربية وبرع فيها، وأصبح شاعرًا ينافس شعراء العرب، ويستأثر دونهم بالمكانة الأولى.
ثم لم يكد يتقدم هذا القرن الثانى حتى نرى اللغة العربية، التى كانت منذ قرن لغة منحصرة فى جزيرة العرب بل فى شمالها لا يتكلمها إلا طوائف من البدو حظهم من الحياة الخشنة أشق من أن يوصف، قد لانت وسهلت وأخذت من المرونة بحظ عظيم، واستطاعت أن تسع آداب الهند وفلسفة اليونان وثقافة الفرس. كل هذا فى زمن قليل لا نكاد نصدق أنه يكفى لتنتقل هذه الثقافات إلى لغة واحدة، وأن تتحول هذه الأمم إلى أمة واحدة متجانسة فى الشعور، متجانسة فى التفكير، لها حضارة واحدة، لا يظهر فيها اختلاف. لا أريد أيضًا أن أبحث عن الأسباب، فربما كانت معجزة، وحياة الإسلام سلسلة معجزات بدئت بالمعجزة الكبرى، وهى القرآن.
مهما يكن من شىء أيها السادة فإن القرنين الثانى والثالث للهجرة شهدا هذه الظاهرة الغريبة، وهى أن هذا العالم الذى كان قبل ظهور الإسلام منقسمًا قسمين: أحدهما تابع لسيطرة الروم، والآخر تابع لسيطرة الفرس. هذا العالم الذى كان منقسمًا أشد الانقسام، ومتباينًا أشد التباين فى التفكير والشعور حتى إن الحروب كانت متصلة فيه دائمًا، تحوَّل بفضل ظهور الإسلام، وبفضل انتشار اللغة العربية والثقافة الجديدة، إلى أمة واحدة متحدة فى كل شىء تقريبًا لغتها العلمية والأدبية واحدة هى العربية، فيها تتكلم، وفيها تنشئ شعرها وتكتب نثرها، وفيها تضع كتبها العلمية. تحققت إذن هذه الظاهرة العربية الغربية، ومنذ ذلك الوقت ظلت اللغة العربية لغة هذا القسم العظيم من العالم القديم، ومع ذلك فالآداب التى كانت سائدة فى العالم قبل العربية لم تكن بسيطة ولا يسيرة، ولم يكن بروكلمن يستطيع أن يشبهها بآداب الزنوج. ويكفى أن نلاحظ أن البلاد المفتوحة كانت خاضعة لسلطان الأدب اليونانى، وهو إلى الآن أقوى أدب عرفه الإنسان، وقد أثَّر منذ الإسكندر فى عقلية العالم تأثيرًا كبيرًا.
وإلى جانب هذا الأدب كانت تقوم فى الشام والجزيرة والعراق آداب أخرى سامية: منها آرامية ومنها يهودية، وكانت هذه الآداب قوية خصبة عاش بها الناس وأثرت فى نفوسهم، وكونتها تكوينًا خاصًّا، ومع ذلك لم تكد كل هذه الآداب تلقى الأدب العربى حتى عجزت عن أن تثبت له، واندمجت فيه واستحالت إلى جداول قوية خصبة، ولكنها كانت تنتهى دائمًا إلى هذا النهر العظيم.
لم يثبت للأدب العربى فى البلاد التى أغار عليها أدب أجنبى، حتى البلاد التى لم تستطع العرب أن تمحو لغتها، وهى بلاد الفرس، فإن الأدب العربى على انتشاره فى بلاد الفرس لم يمحُ لغة الفرس، فإنهم كانوا يستعملونها فى حياتهم اليومية. برغم هذا لم يستطع الأدب الفارسى أن يثبت للأدب العربى فى بلاد الفرس نفسها، فكان الشعر الذى يُنْشَد فى بلاد الفرس فى القرن الأول والثانى والثالث للهجرة هو الشعر العربى، وكان العلم طوال هذه القرون عربيًّا، وكانت الفلسفة عربية أيضًا، وقام الأدب العربى مقام الأدب الفارسى، أى إن الفارسى الذى يريد أن يكون مثقفًا كان لا بد له من العربية. أما فى الشام والعراق ومصر وشمال إفريقيا فالآداب اليونانية والقبطية والآرامية لم تثبت للأدب العربى، بل قام الأدب العربى مقامها جميعًا، وانكمش الأدب اليونانى أمامه انكماشًا عظيمًا، وتقلص ظله فى هذه البلاد وانقرض حتى انحصر فى البلاد البيزنطية، أى آسيا الصغرى وما يجاورها فى أوروبا.
وظل الأدب العربى مسيطرًا على هذا العالم القديم الذى سيطر عليه الأدب اليونانى منذ الإسكندر إلى ظهور الإسلام إلى الآن، ظل الأدب العربى مسيطرًا عليه مع ما ناله من خطوب واختلف عليه من صروف. ولكن قوة أخرى لم تستطع أن تمحوه أو تميته. قاومه الفرس مقاومة شديدة فى القرنين الثانى والثالث، وبنوع خاص فى القرن الرابع، ثم قاومه الترك مقاومة عنيفة حتى طردوه من الشام وألجأوه إلى مصر، وقاومته أوروبا فى إسبانيا وإفريقيا الشمالية، وما تزال أوروبا تقاومه فى كل مكان، ولواؤه مرفوع لم تستطع قوة أن تنتزع منه هذا اللواء.
ومع ذلك، فلهذا الأدب العربى خصوم منهم القدماء، ومنهم المحدثون. كان له خصوم فى القرن الأول والثانى والثالث. من هؤلاء الفرس والموالى الذين غُلِبوا على أمرهم، واضْطُرُّوا إلى تعلم اللغة العربية، واتخاذ الأدب العربى. وكان هؤلاء الناس يخاصمون الأدب العربى وينكرون أن تكون له قيمة، هؤلاء هم الشعوبية، ومن أجمل ما يقرأ تلك المحاورات والخصومات التى حفظ لنا الجاحظ شيئًا منها بين العرب والشعوبية. هذه الخصومة، اضطرت الشعوبية والذين كانوا يعادون الأدب العربى إلى أن ينكروا عليه كل قيمة، فيزعموا أن ليس له قيمة بالقياس إلى الآداب الأخرى، ويزعموا أنه إن كان للأدب العربى خطر فمصدره راجع إلى القرآن الكريم، واضطر أنصار العرب أن يغلوا غلوًّا فاحشًا فى الدفاع عن الأدب العربى ويمثلهم الجاحظ، إذ زعم أن الأدب العرب هو وحده الأدب، وأن الأمم الأخرى لا حظَّ لها من الأدب. فاليونان لا حظَّ لهم إلا من الفلسفة، والفرس والهنود لا حظَّ لهم إلا من هذه الحِكَم السائرة. فأما الأدب العربى فهو الأدب حقًّا الذى يظهر فيه هذا الشعر الخصب المتميز الذى لا تكلف فيه ولا صناعة. ويكفى أن يوجه العربى فكرَه إلى المعنى حتى يتدفق الشعر على لسانه تدفقًا. والأدب العربى أدب الخطابة الذى أنتج عليًّا وزيادًا والحجاج، وهو الأدب الذى أنشأ الأمثال السائرة والحكم، أما الأمم الأخرى فلا قيمة لأدبهم عند الجاحظ.
كان خصوم الأدب العربى مسرفين مبالغين، وكان أنصار الأدب العربى مبالغين مسرفين لقيمة الأدب. ومن غريب الأمر أن هذا الموقف هو الموقف نفسه الذى نشهده الآن فيما نقرأ من الفصول والمقالات التى يكتبها أحيانًا أنصار القديم وأنصار الجديد. أما أنصار الجديد فيزعمون أن هذا الأدب كانت له قيمة فى عصره القديم، ويجب أن يُعدَل عنه إلى أدب جديد يستمدونه من الأدب الأوروبى والحضارة الأوروبية. وهم يغلون فى هذا غلوًّا شديدًا، حتى إنهم ينفِّرون أنفسهم وينفِّرون الشباب من قراءة الأدب القديم. فإذا قالوا هذا نهض لهم أنصار القديم فاعتزوا بالخطباء والشعراء، ونفَّروا الشبان من الأدب الحديث لأن أقل ما يحمل من الشر أنه مفسدة للأدب العربى، ومضيعة للغة القرآن الكريم، وأنكروا أن يكون للأدب الحديث قيمة.
وأولئك وهؤلاء غلاة مسرفون، فالأدب العربى القديم لا يُسمَّى: "أدبًا ميتًا" لأنه لا يزال حيًّا، ومهما نحاول، ومهما نبذل من جهد، ومهما نستعن بالآداب الأوروبية فلن نستطيع أن نضعف الأدب العربى ونعرضه للخطر. والآداب الأوروبية الحديثة لا نستطيع بحال أن نقاومها أو أن نرفضها. فنحن فى حاجة إلى أن نستمد من الأدب الأوروبى الحديث، وكذلك أراد الله أن تكون الحياة دائمًا مزاجًا من صالح القديم والجديد.
خصوم القديم وأنصار الحديث يزعمون أن الأدب العربى كان حسنًا فى عصره وأصبح الآن غير ملائم. ذلك لأن هناك فنونًا من الأدب لم يعرفها الأدب العربى. فالشعر العربى فقير بالنسبة للشعر الأجنبى، فليس فيه شعر قصصى ولا تمثيلى كما كان عند اليونان، وإذن فلا بد من العدول عن هذا الأدب القديم إلى الأدب الحديث. وهذا غريب، فلست واثقًا كل الثقة من أن الأدب العربى يخلو من القصص، وأخشى أن يكون من يجحدون وجود الأدب القصصى عند العرب إنما جحدوه لأنهم لم يحققوا بالضبط معنى الأدب القصصى. فالذين يقرأون الشعر الجاهلى أو ما صح منه، والذين يقرأون الشعر الأموى كشعر جرير والفرزدق والأخطل، يلاحظون أن مزايا كثيرة من خصائص الشعر القصصى موجودة فى الشعر العربى. فأهم ما يمتاز به هذا الشعر القصصى أن شخصية الشاعر تفنى، وأن هذا الشعر يكون مرآة لحياة الجماعة. وأنا أستطيع أن أؤكد لكم أنَّا لا نعرف شيئًا يصور الأمة أصدق تصوير ويضطرنا أن نلمسها بأيدينا كالشعر العربى.
إذا قرأتم قصيدة من شعر جرير أو الفرزدق أو الأخطل فأنتم ترون العرب فى البادية، وتسمعونهم يتحدثون، وتحسون حياتهم كما تحسون أنفسكم، ولا تكادون تلمسون شخصية الشعراء فى أشعارهم، فإذا لم توجد عندنا "إلياذة" أو "أودسا" فليس من شك أن ما أدته "الإلياذة" و"الأودسا" قد أداه لنا الشعر القديم من تصوير الحياة الاجتماعية وتصوير حياة الأبطال. ثم من الذى يستطيع أن ينكر أن فى أدبنا العربى القصصى جمالا ليس أقل من جمال "الإلياذة" و"الأودسا"؟ وليس ذنب الأدب العربى ألا يقرأه الناس ولا يعرفوه. أى الأدباء عُنِىَ بقصص أبى زيد وعنترة وما إليه من الأقاصيص الكثيرة التى تغنى بها العامة؟ أيكم يدرسه فهو مضطر إلى أن يعترف أن للأدب العربى من هذا الجمال الفنى الرائع ما لا يقل عن "الإلياذة" و"الأودسا". فليقرأ أدباؤنا أولا، وأنا واثق أن هذا الأدب الذى ندعه لقهوات العامة ونزدريه سيحدث فى أدبنا العربى نهضة واسعة المدى.
كان بعض الذين يُعْنَوْن بالأدب العربى ويدرسونه فى المدارس الرسمية لا يتحرجون أن يقولوا إنه فقير لا حظ له من النثر، فأما النثر الفنى الرائع الذى نجده عند الفرنسيين والإنجليز فليس للأدب العربى حظ منه. ولست أستطيع أن أصف هذا القول بأقل من أنه كلام من لم يقرأ الأدب العربى. فأما الذين يقرءون الجاحظ، وابن المقفع، وأبا حيان، وابن العميد، والصاحب بن عباد، والهمذانى، ويلتمسون معرفة الفنون المختلفة التى تعرضوا لها فسيرون أنها ليست شيئًا ضيقًا محصورًا فى بعض الكتب والرسائل. إنما هى شىء خصب غزير. هؤلاء الذين يدرسون هذا الأدب الفنى لا يستطيعون أن يجحدوا أن للأدب العربى حظًّا من النثر.
الأدب العربي: شعره ونثره وعلمه وفلسفته لا يمكن بحال من الأحوال أن يقل عن الآداب الأربعة القديمة، بل هو من غير شك متقدم على اللاتينى والفارسى. وإذا لم يكن بد من أن يكون له مناظر، وأن الأدب العربى ينحنى له مع شىء من الإجلال الذى تملؤه العزة، فهو الأدب اليونانى. وأما الأدب اللاتينى فسترون أنه يقوم على تقليد الأدب اليونانى، فهو ليس أدبًا مبتكرًا، وإنما خطباء الرومان تلاميذ لخطباء اليونان مهما برعوا. وأبرعهم، وهو سيسيرون، تلميذ لأرسطاطاليس وديموستين. ومؤرخوهم، وأبرعهم تتليف وتاسيت، تلميذان لهيرودوت وتوسديد. وشعراؤهم، وأكبرهم فرجيل، تلاميذ لهوميروس وغيره من شعراء اليونان. وليس للرومان شعر تمثيلى يُذْكَر، وما وُجِد عندهم من التمثيلى فهو تقليد سيئ ردىء لتمثيل اليونان. كل هذا الأدب الرومانى تقليد لليونانى، أما نحن فقد تأثرنا من غير شك باليونان والرومان والهنود والفرس، ولكن من المستحيل أن يزعم زاعم أننا مقلدون ليس غير،. فشخصية العرب ظهرت قوية فى الشعر والنثر والعلم. لا يقال عنا إننا مقلدون أخذنا عن غيرنا، ولكنا لم نكد نأخذ عن غيرنا حتى أسغنا ما أخذناه أولا، وهضمناه، ثم محوناه.
أما الأدب الفارسى فهناك أسطورة غريبة جدًّا قائمة على خطإ شنيع: زعموا أن الأدب العربى مدين بشىء كثير جدًّا للأدب الفارسى، وأن العرب كانوا فى العصر العباسى تلاميذ الفرس فى كل شىء: كان الشعراء فرسًا، والعلماء فرسًا، ورجال البلاد فرسًا. أما أنا فلست أنكر أن الفرس قد أثروا فى الحياة العربية تأثيرًا شديدًا، ولكنه فى كثير من الأحيان سيئ جدًّا. وحسبنا أن الفرس هم الذين أدخلوا على العرب سياسة الحكم المطلق، وجعلوا قصور الخلفاء فى بغداد أشبه بقصور الأكاسرة فى المدائن، فقد تعلمنا من الفرس طرائقهم فى الأكل والشرب واللبس، وتأسيس القصور واللهو والعبث. ولكنى مضطر أن أعترف أننا حين نبحث عن الأدب الفارسى الذى أثر فى الأدب العربى، لا نكاد نجد شيئًا.
كان الفرس أصحاب السيادة فى القرنين: الثانى والثالث، وكانوا يبذلون كل شىء فى إظهار نفوذهم، ومع ذلك فأين الكتب الفارسية الكثيرة التى تُرْجِمت إلى العربية؟ وأين الشعر الفارسى الذى تُرْجِم وأثَّر فى الشعر العربي؟ لا تكاد الكتب الفارسية التى تُرجِمت تُذكَر إلى جانب ما تُرجِم عن الأمة اليونانية من العلوم والفلسفة. وأنا أذهب إلى أبعد من هذا، فإنه إذا كانت أمة مدينة لأخرى فى الأدب فليست العربية هى المدينة، بل الأمة الفارسية هى المدينة للعربية. ذلك أنكم عندما تريدون أن تدرسوا تاريخ الأدب الفارسى الحديث ستجدون أن هذا التاريخ يبتدئ فى القرن الرابع للهجرة، وستجدون أن هذا الأدب نشأ فى شكل رد فعل للأدب العربى، ومقاومة له. وكان الفرس فى أول الأمر مقلدين للعرب، أخذوا عن العرب مذاهبهم فى الشعر وعلومهم، أو يكفى أن تلاحظوا أن الشعر الفارسى يقال إلى الآن، وإلى ما بعد الآن، فى أوزان الشعر العربى. و"الشهنامة"، وهى فخر الفرس وآية من آيات الأدب، منظومة على البحر المتقارب، وهو بحر عربى. ويكفى أن تقرأوا أى شاعر من شعراء الفرس لتروا أنهم جميعًا متأثرون إلى حد بعيد جدًّا بناحية من أنحاء الأدب العربى.
إذن فبين هذا الآداب الأربعة: اليونانى والفارسى واللاتينى والعربى، بين هذه الآداب التى شاعت فى العصر القديم والقرون الوسطى، لا أكاد أعترف إلا بأن أولها اليونانى، ثم يليه الأدب العربى. ويكفى أن نلاحظ أن الأدب العربى هو الأدب الذى عاشت عليه كل الأمم العربية، وهو الأدب الذى حمل لواء العلم والعقل طوال القرون الوسطى فى حين كان الأدب اليونانى منحازًا فى القسطنطينية، وكانت أوروبا منهمكة فى جهالتها. ويكفى أن نلاحظ أن النهضة الأولى التى ظهرت فى القرن الثانى عشر فى أوروبا إنما هى نتيجة لاتصال أوروبا بالعرب. فأدبنا هو الذى أحيا العقل الأوروبى حتى جاءت النهضة الثانية التى اتصل فيها الأدب الأوروبى بالأدب اليونانى القديم.
فلو لم يكن للأدب العربى إلا أنه قد حمل لواء الأدب الإنسانى والعقل الإنسانى فى عشرة قرون لكان هذا كافيًا للاعتراف بأن هذا الأدب من الآداب التى تعتز بنفسها، وتستطيع أن تثبت لصروف الزمان. نحن الآن نعيش على الأدب العربى مهما نفعل ونحاول فلن نستطيع أن نتخلص منه، وأوروبا التى تسيطر الآن على العالم بآدابها وعلمها وقوتها، أترون أنها حقيقة استطاعت أن تستغنى عن الأدب العربي؟ لا. أما أنا فأعتقد أن هذا الأدب العربى المسكين كان سببًا فى تأسيس مجد مؤثل لأوروبا. وحسبكم أن تنظروا إلى المجهودات العنيفة التى يبذلها المستشرقون فى درس الأدب العربى، ويفنون فيه قوتهم وأموالهم. ما عناية أوروبا، وما عناية أمريكا بدرس الأدب العربي؟ ألأنه أدب لا قيمة له؟ أم لأنه أدب له قيمته، خليق أن يُدرَس؟ إذا استطاعت أوروبا أن تفخر الآن بعلمائها المستشرقين، فأنا واثق بأنها مدينة بهذا للأدب العربى. فلولا سيبويه والجاحظ والمعرى وغيرهم لما وُجِد عند الفرنسيين رينان ولا كازانوفا ولا ماسينيون ولا غيرهم ولا وُجِد عند الإنجليز أعلام البحث فى الأدب العربى، ولولا هذا الأدب لما وُجِد عند الألمان هؤلاء الأعلام.
وإذن فأين مكان الأدب العربى من الآداب القديمة؟ أهو كما يقول الجاحظ: أول هذه الآداب وأرقاها، ولا يوجد أدب آخر غيره؟ لا. فمن الإسراف أن تنكر قيمة الآداب الأخرى. أم هو كما يقول بعض الأوروبيين والمجددين شىء لا قيمة له؟ لا. ليس الأدب العربى أرقى الآداب ولا هو أضعف الآداب، وليس وسطًا، بل هو من أرقى الآداب. فإذا ذُكِر الأدب القديم فهو الثانى. أما إذا ذُكِر الأدب الحديث، فليس عندنا إلا الأمل، وكل شىء يدل على أن زمنًا قصيرًا لن يمضى حتى يستطيع أدبنا الحديث أن يثبت للآداب الأجنبية، كما ثبت لها أدبنا القديم.


تحليلى لما قاله د. طه حسين حول
مكانة الأدب العربى بين الآداب العالمية
إبراهيم عوض
يقول د. طه حسين إن موضوع "الأدب العربى والآداب الأخرى" هو "موضوع كما ترون غريب ليس يدرى من يريد أن يتحدث فيه كيف يعرض له، ولا من أين يأتيه. فالأدب العربى وحده أدب عاشت عليها أمم كثيرة نحو خمسة عشر قرنًا، والآداب الغربية الكبرى فى العالم آداب عاشت عليه أمم ليست أقل من الأمم التى عاشت على الأدب العربى عددًا ولا خطرًا، ولا مكانة فى التاريخ. ومهما يكن الأستاذ بارعًا فلن يستطيع أن يحيط بالأدب العربى كله، والآداب الأخرى كلها، فالموضوع فى نفسه أوسع وأجل خطرًا من أن يعرض له فى محاضرة واحدة أو أكثر. ولكنى مع ذلك سأحاول أن أضع أمامكم فكرة إن لم تكن دقيقة فهى قريبة إلى حد ما من الأدب العربى والآداب الكبرى التى شغلت الناس وعاشت عليها الإنسانية قديمًا، وما زالت تعيش عليها.
هناك احتياط لا بد لى منه قبل البدء فى الحديث، وهذا الاحتياط يضطرنى إلى أن أنبهكم منذ الآن إلى أنى لن أحاول المقارنة بين الأدب العربى والآداب الغربية الحديثة؛ لأنى سأظلم ظلمًا قبيحًا إن عرضتُ لهذه المقارنة. فبين أى الأدبين العربيين نريد أن نقارن: بأدب القدماء؟ أم بأدب المحدثين؟ فإن أردنا أن نقارن بين الأدب العربى القديم والآداب الأوروبية الحديثة، ظلمنا الأدب العربى لأننا نكلفه أكثر مما يتكلف، فليس الأدب العربى ملزمًا بأن يتنبأ عما ستصير إليه الحضارة الحديثة، وبتقدم العقل والفلسفة والعلم. ليس مكلفًا أن يتنبأ بهذا كله، وأن يستعد وأن يتأهب ليثبت للمقارنة، فنحن إذن نظلم الأدب العربى إن قلنا إنه ضعيف أو ساذج بالنسبة للأدب الفرنسى أو الأدب الإنجليزى أو الأدب الألمانى لأن الظروف التى أحاطت بالأدب العربى القديم مخالفة للظروف التى تحيط بالآداب الأوروبية الكبرى.
وإذا أردنا أن نقارن بين الأدب العربى الحديث والآداب الأوروبية الكبرى ظلمنا أنفسنا. ذلك أنَّا فى بدء نهضتنا لم نكد نتحلل من القيود الكثيرة التى تحول بيننا وبين الحياة العقلية الحرة، فمن الظلم لنا ولأدبنا الحديث أن نقارن بينه وبين الآداب الأوروبية الكبرى، ونحن أيضًا نظلم هذه الآداب الأوروبية إذا قارنا بينها وبين آدابنا الحديثة الناشئة، التى تحاول أن تنهض على قدميها. لن أتعرض إذن للآداب الأوروبية ولا للأدب الحديث الذى ننشئه ونعيش به، وإنما أريد أن أحصر موضوع الحديث فى المكانة التى كانت لأدبنا القديم بين الآداب الكبرى.
هذه الآداب الكبرى قليلة يمكن أن تُحصَر فى ثلاثة أو أربعة آداب: هناك الأدب اليونانى القديم، وهناك الأدب الرومانى أو اللاتينى، والأدب الفارسى، والأدب العربى. هذه الآداب هى التى نستطيع أن نتحدث عنها، ونجتهد فى أن نتعرف مكانة أدبنا منها، فأما ما سوى هذه الآداب، فالعالم الحديث، سواء أكان فى أوروبا أم فى الشرق، لا يكاد يعرف عنها شيئًا، وإنما هى محصورة بين العلماء، معروفة عند الإخصائيين الذين يبذلون جهودهم فى مكاتبهم. لن أتعرض إذن للآداب الهندية ولا الصينية لأنى لا أعرف من هذه ولا من تلك شيئًا، وإنما أحصر حديثى على هذه الآداب الأربعة: اليونانية، واللاتينية، والفارسية، والعربية. وأريد أن أتعرف المكان الذى يجب أن يكون فيه أدبنا بين هؤلاء".
وأقول أنا: ليست الآداب الأخرى محصورة فى الأدب الهندى والأدب الصينى فقط، بل هناك الأدب اليابانى والآداب فى بلاد شمال آسيا وشرقها وجنوب شرقها، وكذلك الآداب التى كانت فى قارة أستراليا وآداب البلاد الأفريقية وآداب سكان الأمريكتين. لكن د. طه قد اكتفى بالآداب التى تفد على الذهن وفودا تلقائيا دون تفكير أو محاولة للحصر والقصر. ومع هذا فهل كان د. طه حسين على علم بالأدب الفارسى؟ لا أظن أبدا. أما الأدب الإغريقى واللاتينى فكانت معرفته بهما معرفة محدودة، بل محدودة جدا بالنسبة لمعرفته بالأدب العربى على الأقل. ولسوف تقوم مناقشتى له على أساس مما قاله، إذ المرء مأخوذ بلسانه.
وقال طه حسين: "عندما أراد الأستاذ بروكلمن أن يكتب الفصل القيم الذى كتبه فى "دائرة المعارف الإسلامية" عن الأدب العربى ابتدأ فشبَّه ما كان عند العرب قبل ظهور الإسلام بزمن بعيد بهذه الآداب التى توجد عند الزنوج أو عند سكان جزر المحيط الهادى لأن هذه الآداب التى كانت معروفة عند العرب قبل الإسلام بنحو ثلاثة قرون لم تكن تزيد عن أن تكون تعبيرًا بسيطًا عن حياة ساذجة توشك أن تكون منحطة لا قيمة لها، وهى حياة أهل البادية الذين لا حظ لهم من ثروة أو ترف أو رقى عقلى".
ولكن السؤال هو: كيف علم بروكلمان أو غير بروكلمان أن الآداب التى كانت معروفة عند العرب قبل الإسلام بثلاثة قرون كانت بدائية ساذجة منحطة وتشبه ما كان عند الزنوج أو سكان جزر المحيط الهادى؟ لقد قال فى بداية الجزء الأول من كتابه: "تاريخ الأدب العربى" (ترجمة د. عبد الحليم النجار) إنه لا يوجد بين أيدينا نصوص تنتمى إلى أولية الشعر العربى، إذ كل ما جاءنا من ذلك الشعر فى الجاهلية هو شعر مكتمل الأدوات، وعليه فلسوف يقيس الأدب العربى على أدب الزنوج. أى أن المسألة مجرد افتراض. ولكن هل يشبه المجتمع العربى آنذاك مجتمعات الزنوج؟ لقد كان لدى العرب قديما ممالك وحضارات منها حضارة اليمن، ومنها حضارة عاد وثمود على سبيل المثال. وفى كل الأحوال فإن العيشة فى البادية تختلف عن العيشة فى الغابة، وشتان بين العربى فى ذلك الوقت وبين الزنجى فى كل مناحى حياته.
وقد وصلَنا عن عاد وثمود أشعارٌ سارَعَ ابنُ سلام وسارع من جاؤوا بعده إلى إنكارها والقول بأنها منحولة بحجة أن عادا وثمود قد أبيدتا عن آخرهما اعتمادا على فهم سطحى لبعض آيات القرآن، ومن ثم لا يمكن أن يصلنا عنهما أدب أو غيره، إذ لم يبق منهم أحد ينقل هذه الآداب إلى الأجيال اللاحقة. وفات ابنَ سلام ومن اقتفى خطواته أن عادا وثمود لم تبيدا عن آخرهما بل بقى من كل منهما المؤمنون الذين صدَّقوا بنبيهم، فحماهم الله من العقاب، فبَقُوا بعد تدمير قومهم كما ذكر القرآن العزيز فى مواضع متعددة منه، وكانوا صالحين لنقل النصوص الشعرية وغيرها إلى الأجيال التالية إذا كان ثمة نصوص، وهو ما لا أستبعده أبدا. وكانت هناك كذلك مملكة كندة فى أواسط بلاد العرب، ومملكة الحيرة فى الشمال الشرقى، ومملكة غسان فى الشمال الغربى.
ثم إن الأشعار التى وردت عن عاد وثمود على قلتها ليست أشعارا ساذجة بل فيها موسيقى منتظمة سلسة وحرارة مشاعر ومعان أبعد ما تكون عن السذاجة. أما إن قال بروكلمان إن هذه الأشعار ملفقة غير صحيحة فمعنى هذا أنه لم ترد لنا عنهم أية نصوص أدبية. فأَنَّى له ولأمثاله إذن بوصفها بالسذاجة والانحطاط، وبخاصة أن المستوى الحضارى لأصحابها متقدم كما يعكس ذلك فن العمارة ومستوى المعيشة العالى عندهم حسبما جاء فى القرآن المجيد؟
أما الأدب الجاهلى الذى يعود إلى ما قبل الإسلام بقرنين تقريبا من الزمان فبينه وبين أدب الزنوج أَبْوَانٌ شاسعة. بل إن المستشرقين ليعجبون بل يذهلون من أن شعر الجاهلية قد بلغنا منذ بدايته كاملا فى اللغة والموسيقى والموضوعات والمعانى والخيال والوصف والتصوير وما إلى هذا. وهو ما يغلق الطريق أمام مزاعم بروكلمان إغلاقا بحيث لا يستطيع أن يتقدم خطوة واحدة. والعجيب هنا أن بروكلمان يقر بالمستوى الراقى لما وصلنا عن الجاهليين من شعر. ويجد القارئ هذا فى مفتتح الفصل الثانى من الجزء الأول من كتابه عن "تاريخ الأدب العربى"، فضلا عن مديحه الكبير، فى نهاية الفصل الأول من الكتاب المذكور، للغة الشعر العربى بأنها "قد استوعبت كل خصائص الأصل اللغوى السامىّ أكمل استيعاب... ولم تضارعها لغة من نسبها السامىّ فى مرونتها ودقتها فى التعبير عن العلاقات التركيبية"، وأنها "مع واقعيتها التامة فى وصف الأشياء تتأجج بروحانية تمكنها من التعبير عن أرق أحاسيس الحب، وكذلك عن أقوى خوالج الشعور بكرامة الرجولة"، إلى جانب "ما تتصف به من ثراء فى كنز مفرداتها".
لكنه سرعان ما أضاف عقيب ذلك أن هذا كله "لا يعد أمارة على ثقافة عقلية رفيعة، وأنها رغم قدرتها على التقاط التفاصيل الدقيقة وخصائص الأشياء وشِيَاتها وألوانها "لم تقو على اختراع ألفاظ تعبر عن المعنويات العامة والمدارك الكلية"، مما لا يعد "دليلا على وعى واسع الأفق، بل وعى ضيق محصور لم ينهض بعد لتجريد المعانى الكلية واستخلاصها". وهو ما لا أقدر على فهمه، إذ ما معنى عجز العربية عن تجريد المعانى الكلية واستخلاصها؟ لقد سبق أن رأيناه يطنب فى التغنى بجمعها بين الواقعية التامة فى وصف الأشياء والتأجج بروحانية تمكنها من التعبير عن أرق أحاسيس الحب وعن أقوى خوالج الشعور بكرامة الرجولة، فضلا عما تتصف به من ثراء فى كنز مفرداتها. ترى هل كانت اللغة العربية فى ذلك الوقت إذا تحدثت عن الحمار الوحشى لم تذكر كلمة "الحمار الوحشى"، وهى الكلمة التى تدل على جنس الحمار الوحشى وماهيته، وانطلقت بدلا من ذلك تصف لونه وشكله وطريقة سيره أو جريه فقط فيفهم السامع أن المقصود هو هذا الحيوان دون أن يستطيع تجريد معنى ذهنى له؟ ألا إن ذلك لعجيب. ترى ألم تكن اللغة العربية آنذاك تحتوى على مفاهيم المجد والكرم والعفة والفخر والشجاعة والجبن والقوة والضعف والشبع والجوع والعطش والرى والغنى والفقر والحب والبغض والأمن والخوف مثلا مما ينتمى إلى المعانى المجردة؟ واضح أن بروكلمان لا يريد أن يقوم من المأدبة الغنية الشهية التى طَعِم منها حتى شبع بل حتى بَشِم دون أن يصنع ما يصنعه بعض الناس من البصق فى الطبق الذى كان يأكل منه واستمتع بما فيه من طعام.
كذلك نراه، فى الفصل الثانى الخاص بأولية الشعر من الجزء الأول من كتابه المذكور، يعزو كل موضوع شعرى لدى العرب إلى السحر: فالشاعر أوانئذ حين كان يهجو خصما له إنما كان يهدف إلى تعطيل قواه بتأثير سحرى، وحين كان يصف من يحبه إنما كان يريد أن تتحقق فيه ما يتمناه له على نحو سحرى... وهكذا. وبروكلمان، حين يقول ذلك، لا يعتمد على نصوص تثبت دعواه، بل على تخيلات من لدنه ليس لها على أرض الواقع من دليل، إذ النصوص التى فى أيدينا تخلو تماما مما يقول بل وتخلو كذلك من ذكر السحر بهذا المعنى أصلا. والشعر الهجائى هو شعر الاستهزاء والتهديد والسخرية وليس شعر اللعنات التى ينتظر صاحبه وقوعها على يافوخ المهجوّ وتدميرها له، مثلما أن شعر المديح هو شعر التفخيم والإعجاب بما هو متحقق فعلا فى الممدوح من صفات وإنجازات وليس شعر التمنى وترقُّب تحقيق الأمنيات.
ثم يمضى طه حسين قائلا: "ولكن بروكلمن لم يكد يتتبع الأدب العربى البسيط، الذى كان يشبِّهه فى أول فصله بأدب الزنوج، لحظات قصارًا حتى اضطر أن يعرف لهذا الأدب العربى مكانته، وأن يضعه فى منزلة عُلْيا هى التى تضطر جماعة من كبار العلماء أن يقفوا عليه حياتهم، وأن يضحوا بجهودهم. ذلك لأن الأدب العربى الذى كان يشبه فى أول أمره أدب الزنوج لم يكد يتصل بالحضارات فى القرن الخامس والسادس للمسيح، وتنشأ الصلات بينه وبين الحياة خارج شبه جزيرة العرب، حتى ظهر أنه كان فى نفسه أقوم وأخصب من أن يظل أدبًا يشبَّه بأدب الزنوج، وأنه كان يحمل فى نفسه طبيعة خصبة إلى أقصى ما يمكن من الخصب، غنية إلى أقصى ما يمكن من الغنى. فلم يكد يتجاوز البادية حتى استحالت هذه الطبيعة الخصبة التى كانت منكمشة إلى جذوة من النار لم تلبث أن اشتعلت، فشملت العالم القديم وصهرته وحوَّلته إلى طبيعة جديدة مخالفة كل المخالفة لما كانت عليه قبل الإسلام".
ومن كلام د. طه هذا نفهم أنه يتابع بروكلمان على أن الأدب العربى لم يتقدم ويصبح أدبا جديرا بهذا الاسم إلا حين اتصل بالبلاد والحضارات الأخرى، رغم ما نراه بأم أعيننا ونسمعه بأم آذاننا من أن الأدب الجاهلى أدب مكتمل ورائع من يومه الأول الذى وصلنا فيه، وبشهادة المستشرقين أنفسهم، ودون أن ينفتح على الثقافات والحضارات الأخرى. وإلا فأين يا ترى ذلك الانفتاح؟ هل ترجم العرب الجاهليون أشعار الأمم الأخرى وطعَّموا بها أشعارهم؟ هل نقلوا إلى لغتهم كتبا فى النقد الأدبى؟ هل عكفوا على القَصَص الفارسى والهندى مثلا ووضعوا قَصَصًا على منواله؟ أبدا لا هذا ولا ذاك ولا ذلك. لقد كان لديهم أشعارهم التى يعتزون بها غاية الاعتزاز، وأمثالهم الرائعة، وقَصَصُهم البارع الجميل، وكانت هناك أيضا خطبهم فى السياسة والوعظ والمناسبات الاجتماعية، وكانت هناك أسجاع الكهان. ولم يكن فى أى شىء من ذلك ما يستلزم الانفتاح على الحضارات الأخرى. وكانوا يتداولون كل ذلك ويتناقلونه شفاها فى الأغلب الأعم، إذ كان الغالب عليهم الأمية، حتى جاء عصر التدوين بعد الإسلام فتم تسجيله على الورق.
ومما قاله د. طه حسين أيضا: "ليس من شأنى الآن أن أبحث عن الأسباب التى دعت إلى أن ينتشر الأدب العربى فى بقية البلاد التى انتشر فيها الإسلام، فقد يكون هذا معروفًا، ولكنا نعرف جميعًا أن الإسلام لم يكد يظهر ويتجاوز الجزيرة أيام أبى بكر وعمر حتى انتقلت معه اللغة وما فيها من أدب، وانتقل معها كتابها المقدس القرآن الكريم. ولم يكد القرآن الكريم يستقر فى الأمصار خارج الجزيرة حتى بدأت الشعوب تتأثر به تأثرًا سريعًا، ولم يكد ينتهى القرن الأول ويبتدئ القرن الثانى حتى نلاحظ فى هذه البلاد التى فتحها المسلمون فى الشام ومصر والعراق وإفريقيا الشمالية وفى إسبانيا أن هذه الشعوب قد أخذت تتطور تطورًا سريعًا: كلها يسرع إلى الإسلام، وكلها يحاول أن يتعلم لغة الإسلام، وكثير منهم لا يكتفى بتعلم اللغة، بل يريد أن يتقنها ويتقن آدابها، وأن يكون له حظ موفور من هذه الآداب. وما نكاد نصل إلى منتصف القرن الثانى حتى نجد أن كثرة الشعراء ليست من العرب، بل من الشعوب الأجنبية التى أخضعها العرب. فأنتم عندما تستعرضون الشعراء الذين امتازوا فى القرن الثانى، والذين تفخر بهم الحضارة الإسلامية، والذين كانوا جمال بغداد والعراق، تجدون كثرتهم إما من الفرس وإما من الموالى من أصل ساميٍّ: نبطى أو آرامى، أجاد العربية وبرع فيها، وأصبح شاعرًا ينافس شعراء العرب، ويستأثر دونهم بالمكانة الأولى".
وهذا أمر طبيعى، فإن العرب لا يمثلون بين المسلمين سوى نسبة جد ضئيلة، إذ هم نقطة فى بحر. وإذا كان الشىء بالشىء يذكر فكثيرا ما تُتَّخَذ هذه النسبة الضئيلة حجةً فى التقليل من شأن العرب فى ميدان العلم والفلسفة واتهامهم بأنهم أقل ثقافة وتحضرا من غيرهم من أمم الإسلام على اعتبار أنهم لو كانوا متحضرين تحضرها لكان ينبغى أن تكون نسبة العلماء والفلاسفة العرب الخُلَّص مساوية لنسبة الأمم الأخرى. وهى حجة داحضة فاسدة كما نرى. ويكفى العرب فخرا أن تنتشر لغتهم وأدبهم وثقافتهم كل هذا الانتشار الواسع، وفى تلك الفترة الزمنية القصيرة، وأن يبقى كل ذلك حتى الآن فى كثير من البلاد التى دخلوها كمصر وشمال أفريقيا كله والسودان وموريتانيا والشام والعراق، وأن تستمر فى الأندلس ثمانية قرون قبل أن تقوم محاكم التفتيش وسياسة الغدر والاستئصال التى انتهجها حكام البلاد هناك بعد الاستيلاء عليها من أيدى المسلمين بالقضاء على كل شىء يتعلق بالإسلام من لغة وأدب وثقافة ودين وتاريخ ومساجد وقيم ومبادئ بما فى ذلك قيمة النظافة التى كان جواسيس محاكم التفتيش يعتمدون عليها فى التمييز بين النصرانى الحقيقى وبين المسلم الذى اضطرته تلك المحاكم إلى التحول إلى النصرانية بينما قلبه لا يزال مسلما، فكان الجواسيس الملاعين إذا شعروا أن أهل بيت من البيوت يستخدمون ماء كثيرا ويحرصون على النظافة أبلغوا السلطات الدينية الإجرامية أن هؤلاء قوم مسلمون، فتنزل المحاكم بهم أبشع ألوان التنكيل والتعذيب، وكثيرا ما ينتهى أمرهم إلى الإعدام.
ويستمر طه حسين قائلا: "ثم لم يكد يتقدم هذا القرن الثانى حتى نرى اللغة العربية، التى كانت منذ قرن لغة منحصرة فى جزيرة العرب بل فى شمالها، لا يتكلمها إلا طوائف من البدو حظهم من الحياة الخشنة أشق من أن يوصف، قد لانت وسهلت وأخذت من المرونة بحظ عظيم، واستطاعت أن تسع آداب الهند وفلسفة اليونان وثقافة الفرس. كل هذا فى زمن قليل لا نكاد نصدق أنه يكفى لتنتقل هذه الثقافات إلى لغة واحدة، وأن تتحول هذه الأمم إلى أمة واحدة متجانسة فى الشعور، متجانسة فى التفكير، لها حضارة واحدة لا يظهر فيها اختلاف. لا أريد أيضًا أن أبحث عن الأسباب، فربما كانت معجزة، وحياة الإسلام سلسلة معجزات بدأت بالمعجزة الكبرى، وهى القرآن.
مهما يكن من شىء أيها السادة فإن القرنين الثانى والثالث للهجرة شهدا هذه الظاهرة الغريبة، وهى أن هذا العالم الذى كان قبل ظهور الإسلام منقسمًا قسمين: أحدهما تابع لسيطرة الروم، والآخر تابع لسيطرة الفرس، هذا العالم الذى كان منقسمًا أشد الانقسام، ومتباينًا أشد التباين فى التفكير والشعور حتى إن الحروب كانت متصلة فيه دائمًا، تحوَّل بفضل ظهور الإسلام، وبفضل انتشار اللغة العربية والثقافة الجديدة، إلى أمة واحدة متحدة فى كل شىء تقريبًا لغتها العلمية والأدبية واحدة هى العربية: فيها تتكلم، وفيها تنشئ شعرها وتكتب نثرها، وفيها تضع كتبها العلمية. تحققت إذن هذه الظاهرة العربية الغربية، ومنذ ذلك الوقت ظلت اللغة العربية لغة هذا القسم العظيم من العالم القديم. ومع ذلك فالآداب التى كانت سائدة فى العالم قبل العربية لم تكن بسيطة ولا يسيرة، ولم يكن بروكلمن يستطيع أن يشبّهها بآداب الزنوج. ويكفى أن نلاحظ أن البلاد المفتوحة كانت خاضعة لسلطان الأدب اليونانى، وهو إلى الآن أقوى أدب عرفه الإنسان، وقد أثَّر منذ الإسكندر فى عقلية العالم تأثيرًا كبيرًا".
واواقع أن د. طه يبالغ هنا فى التضخيم من شأن الأدب اليونانى. إنه أدب وثنى أسطورى سواء فى ملاحمه أو مسرحياته كما هو معروف، ولم يقدم شيئا إلى الإنسانية من حيث القيم الرفيعة. والآلهة فيه تمارس الخيانة والزنا والغدر والقسوة، وتدخل فى صراع مع البشر، وتتزاوج مع نسائهم. وعلى أية حال فقد انتصر الأدب العربى منذ الجولة الأولى عليه بالضربة القاضية. فأين تلك القوة المزعومة؟ وعلى أية حال أيضا فإن العرب لم يفكروا فى ترجمة شىء من ذلك الأدب لا قصائده ولا ملاحمه ولا مسرحياته، اعتدادا منهم بسمو أدبهم عليه. أما فى العصر الحديث فقد نهض بعض من كتابنا، لغرض فى نفس يعقوب، بالطنطنة بمدح ذلك الأدب والإيعاز بأنه أحسن أدب فى العالم، وتابعهم بعض آخرون على ما يقولون.
ولنأخذ مسرحية "أوديب ملكا"، التى يعدها أرسطو المثال الأعلى للإبداع المسرحى، ونحللها حتى نرى هل تستحق الضجة الشديدة التى تثيرها دائما. وهى مسرحية للأديب الإغريقى سوفوكليس. وخلاصتها أن لايوس كان ملكا لطيبة، وكان متزوجا من جوكستا، لكنها لم يكونا ينجبان، فذهب لمعبد دلفى لعله يجد حلا لتلك المشكلة، فأنبأته العرافة، اعتمادا على ما أخبرها به الإله أبولون، أنه سينجب ولدا وأن هذا الولد سوف يقتل أباه ويتزوج أمه، فانزعج لايوس لهذه النبوءة وعاد إلى بيته وهجر امرأته حتى لا ينجب فتتحقق النبوءة المشؤومة. لكنه عاشرها ذات مرة وهو مخمور لا يدرى، فحملت منه، فانزعج وارتعب، وانتظر حتى تمت ولادتها وأعطى الطفل لحارسه كى يقتله، فذهب به الحارس إلى الجبل، لكنه بدلا من أن يلقيه للوحوش تأكله تركه هناك لراع آخر أشفق على الطفل وأخذه لملك كورنثوس وزوجته، اللذين لم يكونا ينجبان هما أيضا، وأعطاهما إياه ليكون ابنا لهما بالتبنى، فى حين اعتقد لايوس أنه قد تخلص من ابنه وتجنب وقوع النبوءة.
وتربى الطفل فى كورنثوس مع ملكها وملكتها، وهو معتقد أنهما أبواه، حتى صار شابا. وذات يوم علم من أصحابه أنه ليس ابن ملك كورنثوس وزوجته كما يظن، فانزعج وذهب إلى معبد دلفى لاستطلاع الحقيقة، فقيل له إنه سوف يقتل أباه ويتزوج أمه، فبُهِت ورحل عن كورنثوس إلى طيبة تجنبا لقتل أبيه والاقتران بأمه. وفى الطريق نشبت مشادة بينه وبين رجل وحراسه، فضربه الرجل بالسوط، فما كان من أوديب إلا أن قتل الرجل وحراسه جميعا، وواصل طريقه إلى طيبة.
وعلى باب المدينة كانت هناك هولة متوحشة تسأل سؤالا غامضا وتقتل من يعجز عن الجواب وتشيع فى الأرض الدمار. وعندما جاء دوره ألقت عليه سؤالها المعتاد: من الذى يمشى فى الصباح على أربع، وفى الظهر على اثنتين، وفى المساء على ثلاث؟ وكان جواب أوديب: الإنسان، إذ يكون فى البداية طفلا يحبو على أربع، ثم شابا يافعا يمشى على قدمين، ثم هرما يسير على قدميه وفى يده عصا يتوكأ عليها إلى جانب القدمين. وهنا خرت الهولة صريعة لمعرفته حل اللغز الرهيب، وفرح المواطنون لتخلصهم منها. ثم جاءهم الخبر بموت مليكهم فى الطريق، فأخذوا أوديب ونصبوه ملكا عليهم وزوجوه من أرملة الملك السابق.
وبعدما تولى أوديب حكم طيبة أنجب من أرملة الملك السابق، التى هى أمه، أربعة أولاد. وبعد بضع سنوات من اعتلائه العرش حدث طاعون أصاب الحرث والنسل، وامتلأت الأرض بالجثث، وسادت الفوضى، وانتشر الخراب، فبعث أوديب بكريون أخى زوجته لاستطلاع نبوءة دلفى بخصوص هذا الطاعون، إذ كان الوباء عندهم هو ثمرة خطإ ما تجاه الآلهة، وعاد كريون ليبلغ أوديب أن سبب الطاعون وجود قاتل الملك لايوس بالمدينة، فأخذ أوديب يُوعِد ويتهدد ويصب لعناته على ذلك القاتل ويتوعد من يؤويه، ووعد رعيته باستقصاء خبره ليضع حدا لهذا الطاعون المخرب، واقترح عليه عِلْيَة القوم أن يأتوه بعرَّاف أعمى ليكشف لهم قاتل الملك. فأخذ أوديب يسأله ليعرف حقيقة الأمر، لكن العراف أخذ يتهرب بلباقة من الجواب، ونصحه فى ذات الوقت ألا يصب لعناته على القاتل، فاتهمه أوديب بالجهل وعَيَّره بالعمى، فرد العراف أنه إن كان أعمى البصر فليس أعمى البصيرة، وأخبره أنه هو نفسه قاتل الملك. بيد أن أوديب، الذى كان واثقا بنفسه أشد الثقة، تصور أن ثمة مؤامرة بين العراف وبين كريون أخى زوجته فأمر بحبسهما.
وعندئذ أتاه رسول من كورنثوس يحمل له خبرا مفرحا وآخر محزنا: فأما المحزن فموت أبيه، وأما المفرح فأنه سيتولى العرش من بعده. وتذكر أوديب الأسطورة وخشى أن ينفذ الجزء الآخر منها بعدما اطمأن خطأ أنه لم يقتل أباه (الموهوم)، فطمأنته زوجته أن النبوءات تكذب، فلقد سمعت قبلا هى وزوجها ملك طيبة نفس النبوءة لكنهما استطاعا تجنبها بالتخلص من ابنهما برميه فوق الجبل حيث أكلته الوحوش. واستفسر الرسول عن سبب خشية أوديب العودة لكورنثوس، فلما أخبره طمأنه بأن الملك والملكة ليسا أباه وأمه لأنه هو نفسه قد أخذه من راع من مدينة طيبة وأعطاه إياهما ليتبنياه، فاستقصى أوديب خبر الراعى رغم تحذيرات زوجته، التى هى فى الحقيقة أمه، وحاول الأخير ألا يخبره، لكنه تحت الضغط صارحه أنه بالفعل أعطى الطفل الوليد لرجل من كورنثوس ولم ينفذ كلام لايوس بالتخلص منه.
وهنا استفسر أوديب عن المكان الذى مات فيه لايوس، فاتضح أنه هو نفس المكان الذى قتل فيه الرجل وحراسه. وهنا ظهرت الحقيقة: لقد قتل أباه وتزوج من أمه بل وأنجب منها، فانهار انهيارا تاما. أما هى فقد انتحرت شنقا حين تبين لها ما حدث، فما كان منه إلا أن فقأ عينيه قائلا: "ستظلان فى الظلمة فلا تريان من كان يجب ألا ترياه، ولاتعرفان من لا أريد أن أعرفه بعد اليوم حتى لاترى الشمس المقدسة إنسانا دنسا فعل أكثر الجرائم بشاعة"، وأخذ يلعن سوء حظه وجهله ونفى نفسه من الأرض حتى ينتهى الوباء، وعاش طريدا من الأرض والسماء كما يقال.
والآن إذا كان المقصود تأكيد ما يؤمن به الناس من أن ما هو مكتوب على الجبين لا بد أن تراه العين فلم يكن الأمر ليستلزم كل تلك الحوادث والتعقيدات وكل ذلك اللف والدوران. لكن هل يعلم البشر الغيب؟ فى المسرحية يعلم البشر الغيب، لكننا نعرف أن ذلك غير صحيح لأنه مستحيل. ومعنى هذا أن المسرحية تغرس فى العقول والنفوس شيئا لا حقيقة له بل ترتب عليه كل تلك المصائب والكوارث التى كنا فى غنى عنها. وقد قرأت فى موقع "البوابة- أدب وثقافة" مدحا للمسرحية تحت عنوان "من اليونانية مباشرة- ترجمة عربية لرائعة سوفوكليس: أوديب ملكا" يقول فيه صاحبه إن مسرحية سوفوكليس "تجسد فكرة القدر الذى لا فكاك منه ولا سبيل إلى التملص من أحكامه"، إذ إن "أوديب، الذى أنقذ مدينته من وحش مرعب تختاره النبوءة الأسطورية لحمله على ارتكاب آثام عظيمة، فيقتل أباه ويتزوج أمه. إنها اللعنة التى حلت عليه جاعلة منه نموذجًا بالغ الدلالة على قسوة المصير الذى يتربص بالإنسان بشكل عام".
وماذا بالله عليك أيها القارئ فى هذا الكلام مما ينبغى أن نشيد بالمسرحية من أجله؟ وهل البشر فى حاجة إلى من يقول لهم إن مصير كل واحد فيهم مرسوم سلفا ولا فكاك له منه؟ إن ذلك معناه نشر فلسفة الجبر والتشاؤم واليأس، والحكاية ليس ينقصها هذا، وبخاصة فى بلاد العرب والمسلمين المستنيمين إلى الكسل والتثاؤب وتأجيل عمل الواجب، ولا يهتمون بإتقان ولا عندهم روح المغامرة والرغبة فى الانتصار على عناصر الطبيعة أو المعوقات التى يضعها لنا أعداؤنا. إن مثل هذه المسرحية بالذات هى آخر مسرحية تصلح لنا نحن على الأقل إن صلحت للغربيين، الذين قد يتحدثون ويتفلسفون براحتهم عن التشاؤم واليأس والجبر، لكنهم متى حان أوان العمل هبوا بكل ثقة واطمئنان مشمرين عن سواعد الجد مستعملين كل أسلحة الانتصار من أضراس وأنياب وقواطع وأظفار وسكاكين ومسدسات ومدافع وقنابل وبوارج وطيارات وغواصات وعلم وتخطيط ونظام وتآمر شيطانى محكم وتجنيد للطوابير الخامسة منا ومن كل من هم معهم فى صراع، بينما نحن نغط فى نوم مخيف!
ثم هذه الهولة ما شأنها؟ لقد كانت تقتل كل من يعجز عن إجابة السؤال، وهو ما يعنى أن الناس كان يجب أن يكونوا قد ماتوا جميعا طوال تلك الأعوام الكثيرة التى كانت تطرح فيها سؤالها المعجز وتقتل كل من لا يحل اللغز. لكننا ننظر فنجد المدينة (باسم الله! ما شاء الله!) تعج بالسكان. ومن ناحية أخرى ماذا تعنى تلك الهولة؟ وإلام يشير ذلك اللغز؟ ولماذا عجز الناس جميعا عن معرفة الجواب بينما عرفه أوديب وحده؟ وإذا كان أوديب بهذا الذكاء فلم وقع فى كل تلك المشاكل التى أحاطت به وحولت حياته جحيما؟ كذلك فلنكن على ذكر من أن الهولة قد اجتُلِبت اجتلابا كى تدفع الأحداث إلى الأمام دون أن يكون هناك ما يستدعى هذا الاجتلاب. أى أن المسرحية إما قائمة على المصادفات أو على الوقائع اللامنطقية. وهذان عيبان فنيان كبيران فى بناء أية مسرحية.
ومن قبل لماذا لم يقتل أوديبَ أبوه بيده فى الحال أو يكلف من يقتله أمامه على الفور ويريح ويستريح؟ بل لماذا لم ترفض جوكستا أن يعاشرها زوجها الملك حتى لا تحمل إذا كان هو مخمورا لا يدرى ماذا يفعل؟ وحين تخلص لايوس من أوديب هل توقفت جوكستا عن الحمل إلى أن مات بعد ذلك بأعوام طوال بعدما صار ابنهما شابا وقتل أباه؟ لقد سكتت المسرحية عن ذلك، وهو أمر غريب. وحين مات زوجها كيف لم تحزن عليه بل قبلت، بكل بساطة ودون أى تردد أو تلجلج، أن تتزوج الشاب الذى حل لغز الهولة والذى يصلح أن يكون ابنا لها لا زوجا؟ وعلى الجهة الأخرى ما ذنب أوديب فيما حدث؟ إن الذنب هو ذنب الآلهة، التى قضت عليه أن يفعل كذا وكذا، فكان لا بد أن يقع ما قضت به. وعلى هذا لا أفهم أن ينتشر الطاعون جراء وقوع تلك الإساءة إلى الآلهة، إذ الخطأ ليس خطأ أوديب على الإطلاق بل الخطأ خطؤهم هم.
ليس هذا فحسب، إذ رأينا أوديب يبذل كل ما فى وسعه وما فوق وسعه كى يتجنب الوقوع فيما ذكرت النبوءة أنه سوف يفعله، لكنه لم يوفق، وعندما وقع المحظور وعلم بأن النبوءة تحققت فقأ عينيه، كما انتحرت أمه رغم أنها لم يكن لها هى أيضا ذنب فيما حدث. وقبل ذلك كله ما وجه الإساءة فيما وقع؟ لقد كان أحرى بالآلهة أن تبتهج لأن قضاءها قد نفذ رغم كل التدبيرات والاحتياطات التى اتُّخِذَتْ من أجل تجنب حدوثه لا أن تستاء. وإذا غضضنا الطرف عن هذه الثغرة الهائلة السخيفة التى تقوم عليها المسرحيةُ وعُقْدَتُها فلِمَ تأخر الطاعون عدة سنوات؟ لقد كان المفروض أنه ما إن يقتل أوديبُ لايوسَ ويدخل طيبة ويتزوج جوكستا، التى هى أمه فى الحقيقة، حتى يحدث الطاعون. بَيْدَ أن الآلهة قد تأخرت بهذا العقاب. ويبدو أنها نسيت، ثم تذكرت بغتة، فنشرت الطاعون. لكن ما ذنب أهل طيبة حتى يعاقَبوا، وهم ليس لهم فى قتل لايوس وزواج أوديب من أمه ناقة ولا جمل، ولا ثور أو طحين؟ كما أن أوديب لم يقتل أباه ظلما وعدوانا، هكذا من الباب للطاق، بل ضربه لاوس بالسوط ومر بعجلات عربته فوق قدميه، فما كان من الشاب إلا أن انتقم لنفسه. والخلاصة أن المسرحية امتهان لمفهوم الألوهية. ونحن بحمد الله نؤمن بإله حكيم رحيم لا يعاقبنا على ما يفوق طاقتنا بل ويغفر الذنوب التى نرتكبها عامدين متعمدين متى فئنا إلى التوبة وندمنا على ما اجترحناه، فكأنه لم يكن. ومثل تلك المسرحية لا تصلح لنا ولا نصلح لها.
ثم هناك النهاية المأساوية المتمثلة فى انتحار جوكستا وفقء أوديب عينيه ونفيه لنفسه من المدينة. وهى نهاية عجيبة، إذ نرى المسرحية قد حمَّلَتْ أوديب وأمه المسؤولية عما حدث مع أنهما لم يصنعا شيئا يصح أن يعاقَبا عليه، بل الآلهة هى التى قضت وقدَّرت وساقت الأشخاص إلى تلك النهاية التعيسة المحتومة، أما هما فقد اجتهدا غاية الاجتهاد من أجل الابتعاد عما تنبأ به العرافون. فبم نخرج من هذا كله؟ نخرج بأن الآلهة ظالمة للبشر مجحفة بهم، إذ تسوقهم سوقا إلى حتفهم وتجبرهم على فعل ما تريد ثم تنسب الإثم إليهم رغم أنهم ليس لهم ذنب أى ذنب فيما وقع. ولو قارنا هذا بما لدينا فى ديننا لألفينا كتابنا يقول: "لا يكلف الله نفسا إلا وسعها"، "إن الله يغفر الذنوب جميعا"، "إن الحسنات يُذْهِبْن السيئات"، "ورحمتى وَسِعَتْ كلَّ شىء"، ووجدنا رسولنا يعلمنا أن "كل بنى آدم خَطَّاء، وخير الخطائين التوابون"، "إنَّ اللهَ كتب كتابًا قبل أن يَخْلُقَ الخلقَ: "إنَّ رحمتى سبَقَتْ غضبى"، فهو مكتوبٌ عندَه فوقَ العرشِ"، "لَلَّهُ أرحمُ بعبادِه من الوالدةِ بولَدِها"، "عُفِى لأُمَّتى عن الخطأِ والنِّسْيانِ وما اسْتُكْرِهوا عليهِ"، "والذى نفسى بيدِه لو لم تذنبوا لذهب اللهُ بكم ولجاء بقومٍ يذنبون فيستغفرون اللهَ، فيغفرُ لهم"... إلخ.
وهناك ملاحظات أخرى تعيب المسرحية: منها مثلا أن أوديب، وكان شابا، حين يخاطب رعيته فى مدينة طيبة نسمعه دائما يقول: "يا أبنائى"، وهو نداء غير مناسب، إذ فى الرعية كثيرون جدا يفوقونه فى العمر، ومنهم الشيوخ العجائز والكهنة، فلا يُنْتَظَر منه أن يناديهم جميعا بأبنائه، بل كان ينبغى أن يقول: "أبنائى وإخوتى وآبائى" مثلا أو ببساطة شديدة: "أيها المواطنون" أو "أيها الشعب" أو "أيتها الرعية". ولقد حيرتنى هذه النقطة فى ترجمة كل من طه حسين وعبد الرحمن بدوى، فقلت لنفسى: اذهب فاقرأ ترجمة إنجليزية، فوجدتها تمهد لنداء أوديب للجمع الحاضر على أبواب المعبد بهذه العبارة: "Thebes. Before the Palace of Oedipus. Suppliants of all ages are seated round the altar at the palace doors, at their head a PRIEST OF ZEUS. To them enter OEDIPUS.". وواضح أن فهمى صحيح، ومن ثم فاستغرابى لطريقة أوديب فى نداء الحاضرين هناك استغراب فى موضعه تماما، وليس فيه أى افتئات على الرجل.
والغريب العجيب أن الكاهن، حين يأتى دوره لنداء أوديب، يناديه بـ"يا بُنَىّ"! فلا ندرى من منهما ابن الآخر، وهو أمر مضحك! كما نسمعه يقول لأوديب: "هأنتذا ترانا وقد سجدنا "كلنا" أمام المذابح..." (وهذا نص ما تقوله إحدى الترجمات الفرنسية، وهى لم تورد أية عبارة تمهيدية تصف بها المكان الذى تجرى فيه الحوادث: "Oedipe, ô toi qui commandes à la terre de ma patrie, tu nous vois tous prosternés devant tes autels: ceux-ci qui ne peuvent encore beaucoup marcher, ces sacrificateurs lourds d'années, et moi-même serviteur de Zeus et cette élite de nos jeunes hommes). وهو ما يعنى أن الحاضرين كانوا من مختلف الأعمار، وليسوا أطفالا فقط كما فى ترجمة عبد الرحمن بدوى وكما فى ترجمة فرنسية أخرى تقول فيها العبارةُ التمهيدية للمشهد الأول فى المسرحية: " Devant le palais d'Oedipe. Un groupe d'enfants est accroupi sur les degrés du seuil. Chacun d'eux a en main un rameau d'olivier. Debout, au milieu d'eux, est le prêtre de Zeus"، مما يعيدنا كرة أخرى إلى مشكلة نداء أوديب للحاضرين بـ"أبنائى". والغريب أن الكاهن فى تلك الترجمة يقول نفس ما قاله كاهن الترجمة الفرنسية السابقة من أن الحاضرين أمام المذابح هم من جميع الأعمار: "Eh bien! Je parlerai. Ô souverain de mon pays, Œdipe, tu vois l’âge de tous ces suppliants à genoux devant tes autels. Les uns n’ont pas encore la force de voler bien loin, les autres sont accablés par la vieillesse; je suis, moi, prêtre de Zeus; ils forment, eux, un choix de jeunes gens. Tout le reste du peuple, pieusement paré, est à genoux, ou sur nos places, ou devant les deux temples consacrés à Pallas, ou encore près de la cendre".
كذلك فالجوقة، عندما تتكلم، تخاطب أبولون بوصفها شخصا واحدا مع أنها عدد من الأشخاص كما هو معروف. وفى آخر أول حديث يعتدل الضمير فى أفواه أفرادها فيتحول، كما ينبغى أن يكون، من ضمير المتكلم المفرد إلى ضمير جماعة المتكلمين، لنفاجأ به وقد عاد ثانية إلى ضمير المتكلم المفرد، مما ينبئ باضطراب فى التعبير. ومع هذا فلغة الحوار فى المسرحية تمتاز بالحيوية والحرارة والإحكام إلى حد بعيد، وإن كان الحوار ذاته يأخذنا هنا وهناك فى مسائل جانبية قبل أن يقصد إلى الهدف الأساسى. وقد أضفى أسلوب طه حسين، فى ترجمته للمسرحية، على الحوار شيئا غير قليل من الفخامة والجلال.
لكنى لا أفهم إقدام أوديب على فقء عينيه بتلك السرعة والبساطة. لقد كان يمكنه أن يترك المدينة ويضرب فى الأرض: نعم. أما فقء العيون فلا يستطيع الإنسان أن يفعله بهذه السهولة وكأنه إنما يتناول طعامه، وبخاصة أن هذا العقاب لم تفرضه عليه الآلهة. ويتأكد للقارئ هذا حين يسمع رئيس الجوقة يعبر عن استبشاعه لما فعله أوديب بنفسه، وفزعه وصدمته من منظره المخيف الذى لا يُحْتَمَل، وتألمه له وتعاطفه معه. وقد برر أوديب إقدامه على فقء عينيه بأنه لا يريد أن يرى ما تسبب فيه من شقاء. لكن الشقاء قد حدث، وانتهى الأمر، وهو قتله لأبيه وزواجه بأمه. ومع هذا فأبوه قد مات ودُفِن ولم يعد له وجود، كما انتحرت أمه وغادرت هى أيضا الحياة. وعلى هذا فأى شقاء ذلك الذى أراد أوديب أن يتجنب رؤيته؟ لقد اختفى هذا الشقاء من الوجود، ومن ثم ليس هناك أى مسوغ لفقئه عينيه. ولا ينبغى أن ننسى أبدا أنه لا يتحمل أية مسؤولية فيما وقع بل الآلهة.
وأخيرا فما دام أوديب وأمه قد عاقبا نفسيهما رغم أنهما لا يد لهما فى قتل لايوس ولا فى اقترانهما زوجا وزوجة فبنفس المنطق الملتوى الغبى كان ينبغى أن يعاقَب الولدان والبنتان الذين أنجبهم أوديب من جوكاستا، إذ جاؤوا من زواج دنس فى نظر الآلهة والشعب، ومن هنا كان يجب أن يختفوا ليختفى معهم كل آثار ذلك الزواج الدنس. وليكن عقابهم هو النفى من طيبة أيضا. ولا يقولن قائل: وما ذنبهم؟ فالجواب حاضر: وما ذنب أوديب؟ وما ذنب جوكستا؟ ثم هناك هذا التطويل الذى لا داعى له فى نهاية المسرحية فى الحديث عن مصير الولدين والبنتين وما إلى ذلك. لقد كان أفضل لو انتهت المسرحية بانتحار جوكستا وخزق أوديب لعينيه، ومع السلامة!
وفى آخر المسرحية نجد المؤلف لا ينهيها إلا بعد أن يُنْطِق ألسنة الكورس بالدرس المستخلص منها والذى كان ينبغى أن يترك للمشاهد كى يستخلصه بنفسه، وهى أن السعادة الصافية ليست من نصيب أى إنسان، وأن العبرة فى أمرها ليست هى الحال التى يكون عليها الشخص فى بداءة أمره بل الحال التى ينتهى إليها. فكثيرا ما يكون الشعب سعيدا ثم لا تستمر سعادته بل تنقلب شقاء وتعاسة ومعاناة. وتصريح الكورس بهذا الدرس يفسد المتعة التى يمكن أن نستخلصها من المسرحية، إذ إن سَوْق الدرس هكذا واضحا عاريا موجزا يذكرنا بطلاب هذه الأيام الذين لا يحبون أن يستقطروا الدروس بأنفسهم من خلال قراءتهم للمقرر الدراسى بل يفضلون أن يلخص أحدهم كل شىء ويضعه لهم جاهزا فى برشامة تُحْفَظ كما هى دون أى إعمال للعقل.
وقرأت مرة تفسيرا للمسرحية بالإنجليزية يرى أنها قصة بوليسية تبدأ بالبحث عن القاتل وتأخذ وقتا يتخبط فيه الجميع ويتبادلون الاتهامات، ويظهر أوديب طوال الوقت واثقا بنفسه وأنه سوف يضع يده حتما على المجرم، ليفاجأ فى النهاية بأنه هو ذلك القاتل. والحق أن المسرحية تذكرنى على نحو ما بقصص أجاتا كريستى، فعقدة تلك القصص تشبه عقدة "أوديب ملكا". ومع هذا فواضح مدى التعمل والتكلف فى بناء المسرحية وتركيب أحداثها حتى تؤدى إلى وقوع الجريمة على النحو الذى عرفنا رغم الاحتياطات الرهيبة الصادقة التى اتخذها أبطالها للحيلولة دون حدوثها. ولكن لا. فأنت لا يمكنك أن تنتصر على الآلهة الوثنية الغبية أبدا. فالمكتوب على الجبين بقلم تلك الآلهة الغبية لا بد أن تراه العين، ولا بد أن تُفْقَأ أيضا تلك العين والعين الأخرى التى بجوارها حتى تكتمل المصيبة السوداء التى خططت لها تلك الآلهة. طبعا، وإلا فكيف تكون آلهة وثنية غبية؟
وهذا مجرد مثال على أن المسرحيات الإغريقية التى يطنطنون بها ليست شيئا خارقا ولا عظيما. فإذا عرفنا أن هذه المسرحية بالذات هى المسرحية المثالية التى اتخذ منها أرسطو النموذج الواجب احتذاؤه اتضح لنا مدى المبالغة السخيفة التى يقدمون بها هذه المسرحية لنا. ورغم هذا نجد الجميع عندنا يسيرون مع القطيع ويروحون يتغَنَّوْن بها تغنيا يتجاوز كل الحدود. وهنا أتذكر قول الرسول الكريم: "لَتَرْكَبُنَّ سَنَنَ من كان قبلَكم شِبْرًا بشبرٍ، وذراعًا بذراعٍ، حتى لو دخلوا جُحْرَ ضَبٍّ خرِبٍ لَدَخَلْتمُوه"، وحتى لو ألفوا مسرحيات وثنية متهافتة أشدتم بها لانعدام ثقتكم بأنفسكم وجعلتموها أمثلة تحتذى.
ولكى يعرف القارئ المنزلة العظيمة الفخمة التى يضع النقاد هذه المسرحية فيها أنقل لكم السطور التالية التى كتبها على خليفة فى موقع "الخشبة" تحت عنوان "مسرحية "أوديب مَلِكًا" لسوفوكليس": "الحقيقة أن مسرحية "أوديب ملكًا" لم تشغل اهتمام أرسطو فقط حين جعلها النموذج الأمثل الذى يطبق عليه مبادئ التراجيديا، ولكنها شغلت أيضًا فى العصر الحديث فرويد حين تحدث من خلالها عن بعض العقد النفسية كعقدة الأم، أى ارتباط الإنسان بأمه وعدم قدرته على أن يستقل بشخصيته عنها حتى بعد نضجه. وأضيف لما قلت أن هذه المسرحية لها سحر عجيب فى قراءتها ومشاهدتها، فكلما قرأتَها أو شاهدتَها انجذبتَ إليها، واستبان لك فيها أشعة من الإيحاءات لم تدركها من قبل، ومن هنا استحقت بالفعل أن تكون إحدى درر المسرح العالمى الخالدة فى الدنيا".
ولو وقفنا فقط إزاء ما قاله الكاتب عن اكتشاف فرويد من خلال المسرحية لعقدة الأم، "أى ارتباط الإنسان بأمه وعدم قدرته على أن يستقل بشخصيته عنها حتى بعد نضجه"، لتبين لنا أن عددا كبيرا من الكُتَّاب يذهب فيردد كلاما سمعه دون أن يعرضه على عقله ويعمل فيه آلته النقدية، وإلا لقد كان على خليفة وأمثاله أحرياء أن يعرفوا أن المسرحية أبعد ما تكون عن تلك العقدة، إن كانت هناك عقدة خاصة كهذه. فأوديب لم يُبْدِ يوما تعلقا بأمه (ولا بأبيه بالمرة)، وإلا فليرنى واحد منهم هذا التعلق الموجود بالمسرحية، فأنا لا أراه، وربما كان ذلك بسبب ارتدائه طاقية الاستخفاء. بل إن أوديب، عندما علم أنه تزوج أمه، ركبه الهياج والجنون، وفقأ عينيه. وكان حريا به، طبقا لعقدة الأم، أن يبتهج وينتشى. ولو أدانه المجتمع لقد كان بإمكانه أن يهاجر ويأخذها معه ويستمرا على هذا الوضع فى بلد آخر لا يعرف عنهما شيئا، وذلك حتى يظل لصيقا بها ولا يستقل بحياته بعيدا عنها. أليس كذلك؟ لكن تقول لمن؟ ومن يقرأ؟ ومن يسمع؟ كما أن الأم قد انتحرت حتى تقضى على سخف فرويد، الذى كان قمينا، لو لم تنتحر بسبب زواجها بابنها الذى تم على جهل منهما وجبر وإكراه من الآلهة الغبية الوثنية، أن يزعم أن هناك أيضا عقدة الابن، وهى العقدة التى تسول للأم أن تعاشر ابنها. لكن جوكستا كانت بحمد الله سيدة عاقلة حكيمة فقررت أن تغلق هذا الباب فى وجه ذلك الأفاق الذى لا يرى فى الدنيا شيئا سوى الجنس، وأخذتها من قصيرها وانتحرت.
ومما قاله طه حسين كذلك: "وإلى جانب هذا الأدب كانت تقوم فى الشام والجزيرة والعراق آداب أخرى سامية منها آرامية ومنها يهودية، وكانت هذه الآداب قوية خصبة، عاش بها الناس وأثرت فى نفوسهم، وكونتها تكوينًا خاصًّا، ومع ذلك لم تكد كل هذه الآداب تلقى الأدب العربى حتى عجزت عن أن تثبت له، واندمجت فيه واستحالت إلى جداول قوية خصبة، ولكنها كانت تنتهى دائمًا إلى هذا النهر العظيم. لم يثبت للأدب العربى فى البلاد التى أغار عليها أدب أجنبى. حتى البلاد التى لم تستطع العرب أن تمحو لغتها، وهى بلاد الفرس، فإن الأدب العربى على انتشاره فى بلاد الفرس لم يمحُ لغة الفرس، فإنهم كانوا يستعملونها فى حياتهم اليومية. برغم هذا لم يستطع الأدب الفارسى أن يثبت للأدب العربى فى بلاد الفرس نفسها، فكان الشعر الذى يُنْشَد فى بلاد الفرس فى القرن الأول والثانى والثالث للهجرة هو الشعر العربى، وكان العلم طَوَالَ هذه القرون عربيًّا، وكانت الفلسفة عربية أيضًا، وقام الأدب العربى مقام الأدب الفارسى. أى إن الفارسى الذى يريد أن يكون مثقفًا كان لا بد له من العربية.
أما فى الشام والعراق ومصر وشمال إفريقيا، فالآداب اليونانية والقبطية والآرامية لم تثبت للأدب العربى، بل قام الأدب العربى مقامها جميعًا، وانكمش الأدب اليونانى أمامه انكماشًا عظيمًا، وتقلص ظله فى هذه البلاد وانقرض حتى انحصر فى البلاد البيزنطية، أى آسيا الصغرى وما يجاورها فى أوروبا. وظل الأدب العربى مسيطرًا على هذا العالم القديم الذى سيطر عليه الأدب اليونانى منذ الإسكندر إلى ظهور الإسلام إلى الآن، ظل الأدب العربى مسيطرًا عليه مع ما ناله من خطوب واختلف عليه من صروف. ولكن قوة أخرى لم تستطع أن تمحوه أو تميته: قاومه الفرس مقاومة شديدة فى القرنين الثانى والثالث، وبنوع خاص فى القرن الرابع، ثم قاومه الترك مقاومة عنيفة حتى طردوه من الشام وألجأوه إلى مصر، وقاومته أوروبا فى إسبانيا وإفريقيا الشمالية، وما تزال أوروبا تقاومه فى كل مكان، ولواؤه مرفوع لم تستطع قوة أن تنتزع منه هذا اللواء.
ومع ذلك، فلهذا الأدب العربى خصوم منهم القدماء ومنهم المحدثون. كان له خصوم فى القرن الأول والثانى والثالث. من هؤلاء الفرس والموالى الذين غُلِبوا على أمرهم، واضْطُرُّوا إلى تعلم اللغة العربية واتخاذ الأدب العربى. وكان هؤلاء الناس يخاصمون الأدب العربى وينكرون أن تكون له قيمة. هؤلاء هم الشعوبية. ومن أجمل ما يُقْرَأ تلك المحاورات والخصومات التى حفظ لنا الجاحظ شيئًا منها بين العرب والشعوبية. هذه الخصومة اضْطَرَّت الشعوبية والذين كانوا يعادون الأدب العربى إلى أن ينكروا عليه كل قيمة، فيزعموا أن ليس له قيمة بالقياس إلى الآداب الأخرى، ويزعموا أنه إن كان للأدب العربى خطر فمصدره راجع إلى القرآن الكريم. واضطر أنصار العرب أن يَغْلُوا غُلُوًّا فاحشًا فى الدفاع عن الأدب العربى. ويمثلهم الجاحظ، إذ زعم أن الأدب العرب هو وحده الأدب، وأن الأمم الأخرى لا حظَّ لها من الأدب: فاليونان لا حظَّ لهم إلا من الفلسفة، والفرس والهنود لا حظَّ لهم إلا من هذه الحِكم السائرة، فأما الأدب العربى فهو الأدب حقًّا، الذى يظهر فيه هذا الشعر الخصب المتميز، الذى لا تكلف فيه ولا صناعة، ويكفى أن يوجه العربى فكره إلى المعنى حتى يتدفق الشعر على لسانه تدفقًا، والأدب العربى أدب الخطابة الذى أنتج عليًّا وزيادًا والحجاج، وهو الأدب الذى أنشأ الأمثال السائرة والحكم، أما الأمم الأخرى فلا قيمة لأدبهم عند الجاحظ. كان خصوم الأدب العربى مسرفين مبالغين، وكان أنصار الأدب العربى مبالغين مسرفين لقيمة الأدب".
وفى الرد على هذا نقول: لا بد أولا من التنبه إلى أن الشعوبيين لم ينكروا قيمة الأدب العربى ولم يعملوا على التنقص من شأنه بل كانوا يوجهون هجومهم إلى العرب أنفسهم لا إلى أدبهم، وإلا فلو كان ما يقوله طه حسين صحيحا فأين تلك النصوص الشعوبية التى يفعل أصحابها ذلك؟ لنأخذ مثلا الخطابة: إن الشعوبيين لم يتعرضوا للخطباء العرب ولا لخطبهم بل لتقليد الإمساك بالعصا عند إلقاء الخطبة. وبعيدا عن سخف الانتقاد فى حد ذاته فمن الجلىّ أن الشعوبيين لا يتعرضون لأدب الخطابة عند العرب بشىء ولا يقللون من شأنه. وقد كان بشار بن برد، وهو معدود بين الشعوبيين الكبار، خطيبا مفوها: بالعربية طبعا. أما فى الشعر فقد كانوا حريصين على التبريز فيه، وهو ما يدل على أنهم كانوا يرونه شيئا عظيما، وإلا لما حرصوا على أن ينظموا شعرا عربيا.
كذلك لا نوافق الأستاذ الدكتور على أن الشعوبيين قد اضْطُرُّوا إلى تعلم العربية، فالمضطر إلى تعلمها لا يمكنه أن يصل إلى الشأو الذى وصل إليه بشار مثلا، رغم أن له قصيدة عنيفة غاية العنف فى تحقير واحد من الأعراب الأجلاف أنكر عليه أن يكون شاعرا (فى لغة العرب طبعا) ذا قيمة، فما كان من بشار استفظاعا لإنكار شاعريته (العربية طبعا) إلا أن انهال عليه بأبيات كاوية فاضحة له ولأمثاله، أو الخُرَيْمِىّ، وهو شاعر كبير وفارس مجاهد فى سبيل الإسلام كان يشعر بالغبن لأن عطاءه أقل من عطاء بعض العرب المقاتلين رغم بلائه المبين فى سبيل نصرة الإسلام فى ساحة الجهاد، أو ابن المقفع صاحب "كليلة ودمنة" بأسلوبها المتميز الذى لا يشبهه أسلوب آخر بين الأساليب القديمة أو الحديثة، وكان حريصا على أن يجرى تنظيم الدولة على أسس العدل التى أرساها دين الإسلام كما تعكس ذلك "رسالة الصحابة"، التى وضعها للمنصور، وقيل عنه إنه زنديق، تلك التهمة التى تقصيت كتاباته وتفاصيل حياته كلها فألفيتها تهمة باطلة ظالمة، وهو ما يجده القارئ فى كتابى: "دراسات فى اللغة والأدب والدين" تحت عنوان "زندقة ابن المقفع"، أو أبو عبيدة، الذى كان بارعا فى اللغة والتفسير والحديث والتاريخ والتأليف وجمع الشعر. وكتابه الذى صُنِّف بسببه بين الشعوبيين عنوانه "مثالب العرب" لا "مثالب أدب العرب" مثلا. ليس ذلك فقط بل إن له كتابا فى "مآثر العرب" وآخر فى "مناقب باهلة" وثالثا فى "مآثر غطفان" ورابعا فى "بيوتات العرب"، وخامسا فى "أشعار القبائل" وسادسا فى "الأمثال السائرة"، مما قد ينفى عنه شعوبيته، ويكون كتابه عن مثالب العرب عندئذ مجرد استكمال للصورة بعرضها من الناحيتين لا من ناحية واحدة كما كان يفعل الجاحظ حين يؤلف فى الشىء ونقيضه، وتقرؤه فى الحالين فتحتار كيف تصنفه. ويكفى اهتمام أبى عبيدة بلغة العرب وشعر العرب. فلو كان شعوبيا متحاملا على الأدب العربى فكيف يكرس حياته لخدمة ذلك الأدب واللغة التى يصاغ بها؟ الواقع أن الشعوبيين، فى حدود علمى، لم يكونوا يكرهون الأدب العربى، ولا الإسلام كما يتهمهم بذلك المتسرعون، بل كانوا ساخطين على تعالى بعض العرب عليهم واحتقارهم إياهم، فكانوا يرفعون شعار المساواة الإنساينة التى نادى بها القرآن. وحَقَّ لهم.
هذا عن الشعوبيين أو المتهمين بالشعوبية حقا أو باطلا. وعلى الناحية الأخرى هناك من غير العرب ممن فتح العرب بلادهم فدخلوا فى الدين الجديد، دين الحضارة والثقافة الراقية، واتخذوا العربية لهم لغة وأهملوا لغتهم الأصلية، هناك من هؤلاء من كان يفاخر بالعربية مفاخرة بلغت حدودا غير مسموع بها حتى إن أحد الكتاب الكبار من أصل فارسى قال: لأن أُهْجَى بالعربية خير من أن أُمْدَح بالفارسية.
أما موقف الجاحظ وغلوه الفاحش فى القول بأن الأدب العربى هو وحده الأدب، وأن الأمم الأخرى لا حظَّ لها من الإبداع القولى: فاليونان لا حظَّ لهم إلا الفلسفة، والفرس والهنود لا حظَّ لهم إلا الحِكَم السائرة، على عكس الأدب العربى، الذى ينبجس فيه الشعر المتميز على لسان المبدعين دون تكلف أو احتشاد، إذ يكفى أن يوجه العربى فكره إلى المعنى حتى يتدفق الشعر على لسانه تدفقًا، والذى يعرف من الخطباء عليا وزيادا والحجاج وغيرهم، ويعج بالأمثال السائرة والحِكَم العظيمة، فهو موقف غير مقبول، إذ الأمم الأخرى هى من خلق الله، ولا يعقل أن يحابى الله أمة العرب على البشر جميعا، فهو العادل الكريم الوهاب، وبخاصة أن العرب قد برعوا فى الشعر والخطابة والأمثال والأقوال السائرة منذ الجاهلية والارتكاس فى الوثنية مما لا يجعلهم أفضل من الأمم الأخرى فى شىء حتى تتجه أذهان بعضنا إلى أن الله سبحانه قد آثرهم بذلك ورفعهم به فوق العالمين لدخولهم دون الأمم الأخرى فى دينه وتفانيهم فى نشره وخدمته. ثم هل اطلع الجاحظ على ما عند الأمم الأخرى فلم يجد لليونان سوى الفلسفة ولا للهنود والفرس غير الحكم السائرة؟ أما أنا فلا أظن ذلك دهر الداهرين. وعلى كل حال فقول الجاحظ هذا، رغم خطئه وما فيه من مغالاة مرفوضة، هو دليل صلب على اعتزاز العرب بآدابهم وتصورهم أنها تفوق ما لدى الأمم الأخرى من آداب.
ومع هذا فإنى أستغرب استغرابا شديدا أن الجاحظ، فى غمرة انتصاره المغالى للأدب العربى، قد غفلت عينه عن أحاديث النبى عليه الصلاة والسلام، فهى كنوز من الأدب الرفيع بما فيها من البلاغة الكريمة والبساطة العجيبة والوضوح الساطع والدفء الآسر والإنسانية العالية والحكم السامقة والقصص الشائقة والأوصاف العجيبة والحوارات الفاتنة والتوجيهات الأخلاقية والاجتماعية والنفسية والسياسية والتشريعية الرائعة. وقد ذكرتُ الأحاديث الشريفة ولم أذكر القرآن المجيد لأن القرآن من عند الله فلا يدخل فى الأدب العربى إلا على سبيل المجاز لأنه مصوغ بلغة العرب، أما الأحاديث فقد صدرت عن إنسان عربى يُعَدّ ما يقوله جزءا من أدب العرب. بل إنى لأُدْخِل فى ذلك الأدب جميع الأحاديث المنسوبة للنبى عليه الصلاة والسلام: صحيحها وملفَّقها، إذ هى فى نهاية الأمر نتاج عربى: فأما الصحيحة فمن أقوال النبى صلى الله عليه وسلم، وهو عربى، وأما الملفَّقة فمن إبداع ملفِّقيها، وهم عربٌ جنسًا أو ثقافةً.
ويمضى د. طه قائلا عن الخلاف بين مُكْبِرِى أمر الأدب العربى والحاطّين من شأنه قائلا: "ومن غريب الأمر أن هذا الموقف هو الموقف نفسه الذى نشهده الآن فيما نقرأ من الفصول والمقالات التى يكتبها أحيانًا أنصار القديم وأنصار الجديد. أما أنصار الجديد فيزعمون أن هذا الأدب كانت له قيمة فى عصره القديم، ويجب أن يُعْدَل عنه إلى أدب جديد يستمدونه من الأدب الأوروبى والحضارة الأوروبية. وهم يَغْلُون فى هذا غلوًّا شديدًا حتى إنهم يُنفِّرون أنفسهم ويُنَفِّرون الشباب من قراءة الأدب القديم. فإذا قالوا هذا نهض لهم أنصار القديم فاعتزُّوا بالخطباء والشعراء، ونفَّروا الشبان من الأدب الحديث لأن أقل ما يحمل من الشر أنه مَفْسَدَةٌ للأدب العربى، ومَضْيَعَةٌ للغة القرآن الكريم، وأنكروا أن يكون للأدب الحديث قيمة. وأولئك وهؤلاء غلاة مسرفون، فالأدب العربى القديم لا يُسمَّى: "أدبًا ميتًا" لأنه لا يزال حيًّا. ومهما نحاول، ومهما نبذل من جهد، ومهما نستعن بالآداب الأوروبية فلن نستطيع أن نضعف الأدب العربى ونعرضه للخطر. والآداب الأوروبية الحديثة لا نستطيع بحال أن نقاومها أو أن نرفضها. فنحن فى حاجة إلى أن نستمد من الأدب الأوروبى الحديث. وكذلك أراد الله أن تكون الحياة دائمًا مزاجًا من صالح القديم والجديد".
ولى على هذا كلام عدة ملاحظات: فأولا نحن لسنا فى حاجة إلى الاستمداد من الآداب الأوربية وحدها، إذ هناك الأدب الأمريكى الشمالى والأدب الأمريكى الجنوبى فى بلاده المختلفة، وهناك آداب الشرق الأقصى، وهناك آداب بقية البلاد الآسيوية، وهناك الآداب الإفريقية. ذلك أن الإنسان ينبغى أن يكون واسع الأفق متعدد الاهتمامات حريصا على أن يذوق الثقافات المختلفة، ولسوف تنسرب هذه الثقافات من تلقاء نفسها فى آدابنا بعد أن نهضمها ونستمتع بها وتجرى فى عروقنا الفكرية والنفسية.
وثانيا فإن الزَّارِين على أدبنا القديم هم قوم سطحيون، ومعرفتهم به ضيقة وعارضة، وإلا فكيف لا يعرفون للحديث النبوى قدره، ولخطب زياد والحجاج والمنصور وغيرهم، ولأعمال عبد الحميد الكاتب وابن المُقَفَّع وسهل بن هارون والجاحظ وابن المعتزّ وابن سلام وابن قُتَيْبَة وأبى الفرج الأصفهانى وبديع الزمان والحريرى وعمارة اليمنى والمَعَرِّىّ والآمدى والتوحيدى والغزالى وإخوان الصفا وابن الجوزى وعبد القاهر وابن حزم وابن شُهَيْد وابن طُفَيْل ولسان الدين بن الخطيب والمَقَّرِىّ والصَّفَدِىّ وابن القيم والسيوطى والبديعى والقلقشندى والخفاجى وكتب التاريخ وكتب الرحلات العربية وألف ليلة وليلة والسير الشعبية، وأشعار امرئ القيس وعنترة وابن كلثوم والنابغة والأعشى وطَرَفَة وزهير ودريد بن الصمة وحاتم الطائى وعبد يغوث والخنساء وحسان والجعدى وأبى ذؤيب الهُذَلِىّ ومالك بن الريب وعمر بن أبى رَبِيعة ووضَّاح اليمن وابن قيس الرُّقَيَّات وكُثَيِّر عزة وجميل بثينة وقيس بن الملوَّح وقيس بن ذَرِيح والفرزدق والأخطل وجرير والبَعيِث وبشار وأبى الشَّمَقْمَق ومطيع بن إياس وأبى العتاهية وأبى نُوَاس وأبى تمام والبُحْتُرِىّ وعلى بن الجهم وديك الجن والحمدونى والمتنبى وأبى فِرَاس وابن سكرة وابن حجاج وأبى العلاء والصَّنَوْبَرِىّ وابن الرومى وعبد الله بن المعتز وجَحْظَة ومانى الموسوس والشريف الرضىّ والخُرَيْمِىّ وأبى نُخَيْلَة وتميم بن المُعِزّ وعمارة اليمنى ويحيى الغَزَال وابن زيدون وابن سهل وابن خفاجة والبوصيرى والبهاء زهير وصفىّ الدين الحِلِّىّ وغيرهم وغيرهم وغيرهم وغيرهم وغيرهم وغيرهم ممن لا يطولهم الإحصاء لكثرتهم الكاثرة؟ وقد اجتزأت هنا بمن قفز إلى خاطرى دون تعمل. وكل منهم يمثل طبقا إبداعيا شهيا فى مأدبة فخمة غنية وحفية بكل من يرتادها ويجلس إليها ويعرف قدرها ويستطيع أن يتذوق أطايبها لا مَنْ طمس الله على بصيرته وعقله وذوقه وحرمه القدرة على الاستمتاع بهذه الأطايب فهو يجلس أمامها جامد العقل والقلب لا يفهم ولا يتذوق ولا يتحلب له ريق لأنه ليس إنسانا.
وثالثا فإن الأمم الحية التى تحترم نفسها وتريد أن تقيم بناءها الثقافى على أسس متينة صلبة لا تتنكر لماضيها وتراثها أبدا بل تتعامل معه بوصفه ثروة قومية وأدبية ولغوية بدونها تضيع شخصيتها وتموت هويتها، وتصير كالكرة تتقاذفها أقدام الأمم الأخرى. وأوربا التى يفتتن بها بعضنا ويرى أنها هى المثل الأعلى فى الأدب والثقافة، وما علينا إذا أردنا أن نتقدم ونرقى إلا أن نحذو حذوها وننسى كل ما مضى من تاريخنا وثقافتنا وآدابنا ونستعيض عن كل هذا بما لدى الأوربيين، أوربا هذه حين نهضت من سباتها الطويل فى العصور الوسطى قد عادت إلى آداب الإغريق تجدد العهد بها وتستلهمها وتنسج على منوالها. فلماذا يقبل قرودنا هذا من أوربا ويجعلون منه منقبة بينما يعيبون عودتنا إلى كنوز ماضينا، وهى بحمد الله كنوز شريفة عظيمة تسامق النجوم؟
ورابعا كيف يقدِّر الغربيون (المستشرقون) آدابنا فيتخصصون فيها ويعكفون على دراستها، على حين ينفر بعض منا من هذه الآداب؟ صحيح أن منهم من يتخصص فى تلك الآداب بغية معرفتنا عن قرب من خلال معرفة ماضينا حتى يفوزوا فى صراعهم الحضارى معنا، ولكن هناك أيضا من يعشق ذلك التراث ويجد فيه منافع كثيرة. وأيا ما يكن الدافع لدى الغربيين لدراسة آدابنا فإن هذه الدراسة تبرهن بأقوى برهان على أن تلك الآداب جديرة بالاهتمام. ثم لا ينبغى أبدا أن ننسى أن أوربا حين نهضت من نعاس تخلفها العميق قد اعتمدت فى بناء نهضتها الجديدة على تراثنا الفكرى والأدبى، وأفادت منه أيما إفادة، مع احتفاظها بهويتها وعدم ذوبانها فى هذا التراث العظيم. وأذكر أنى قد وقع فى يدى، وأنا فى أكسفورد أدرس للحصول على الدكتورية فى النقد الأدبى فى سبعينات القرن الماضى، كتاب يذكر فيه مؤلفه طائفة من الكتب التى ترجمها الأوربيون من تراثنا، وكانت بالغة الكثرة رغم أن صاحب الكتاب لم يقل إن ما ورد ذكره فى كتابه من المترجمات هو كل شىء. ولولا أن تراثنا الإسلامى والعربى يشغل أوربا شغلانا شديدا ما ألفوا، فى أربعة عشر مجلدا كبيرا كل مجلد مكون من أكثر من ألف صفحة، "Encyclopaedia of Islam: دائرة المعارف الإسلامية"، التى تُفْرِد لكل شىء أساسى فى هذا التراث مقالا طويلا يصل فى بعض الحالات إلى عشرات الصفحات الضخام التى تنقسم كل صفحة منها نصفين طوليين، ويتألف كل نصف من عشرات السطور.
وخامسا فإن الأدب العربى قد انتصر على الأدب الإغريقى فى منطقة الشرق الأوسط وطرده منها نهائيا، وجعله أحدوثة من الأحاديث. فهل يصح أن يوصف الأدب الذى هزم أدب الإغريق بأنه أدب ميت، فى الوقت الذى يوسم فيه أدب الأغارقة بأنه هو الأدب العالمى رقم واحد؟ إن أسماء الكتاب والشعراء العرب التى ذكرتُ بعضا ضئيلا شديد الضآلة منها هى أسماء عالمية رغم أن كثيرا من الأجيال الحالية لا تعرف قيمتهم. إن المشكلة فى الجهلاء الذين لا يقدرون قيمة الأحجار الكريمة والألماس والذهب واللؤلؤ، وليس فى الأحجار الكريمة والألماس والذهب واللؤلؤ.
ومما قاله طه حسين فى هذا الشأن أن "خصوم القديم وأنصار الحديث يزعمون أن الأدب العربى كان حسنًا فى عصره وأصبح الآن غير ملائم. ذلك لأن هناك فنونًا من الأدب لم يعرفها الأدب العربى. فالشعر العربى فقير بالنسبة للشعر الأجنبى، فليس فيه شعر قصصى ولا تمثيلى كما كان عند اليونان. وإذن فلا بد من العدول عن هذا الأدب القديم إلى الأدب الحديث. وهذا غريب، فلست واثقًا كل الثقة من أن الأدب العربى يخلو من القصص، وأخشى أن يكون من يجحدون وجود الأدب القصصى عند العرب إنما جحدوه لأنه لم يحققوا بالضبط معنى الأدب القصصى. فالذين يقرأون الشعر الجاهلى أو ما صح منه، والذين يقرأون الشعر الأموى كشعر جرير والفرزدق والأخطل يلاحظون أن مزايا كثيرة من خصائص الشعر القصصى موجودة فى الشعر العربى. فأهم ما يمتاز به هذا الشعر القصصى أن شخصية الشاعر تفنى، وأن هذا الشعر يكون مرآة لحياة الجماعة، وأنا أستطيع أن أؤكد لكم أنَّا لا نعرف شيئًا يصور الأمة أصدق تصوير، ويضطرنا أن نلمسها بأيدينا كالشعر العربى.
إذا قرأتم قصيدة من شعر جرير أو الفرزدق أو الأخطل فأنتم ترون العرب فى البادية، وتسمعونهم يتحدثون، وتحسون حياتهم كما تحسون أنفسكم، ولا تكادون تلمسون شخصية الشعراء فى أشعارهم. فإذا لم توجد عندنا إلياذةٌ أو أودسا فليس من شك أن ما أدته "الإلياذة" و"الأودسا" قد أداه لنا الشعر القديم من تصوير الحياة الاجتماعية وتصوير حياة الأبطال. ثم من الذى يستطيع أن ينكر أن فى أدبنا العربى القصصى جمالا ليس أقل من جمال الإلياذة والأودسا؟ وليس ذنب الأدب العربى ألا يقرأه الناس ولا يعرفوه. أى الأدباء عُنِىَ بقصص أبى زيد وعنترة وما إليه من الأقاصيص الكثيرة التى تغنى بها العامة؟ أيكم يدرسه فهو مضطر إلى أن يعترف أن للأدب العربى من هذا الجمال الفنى الرائع ما لا يقل عن "الإلياذة" و"الأودسا". فليقرأ أدباؤنا أولا، وأنا واثق أن هذا الأدب الذى ندعه لقهوات العامة ونزدريه سيحدث فى أدبنا العربى نهضة واسعة المدى".
ولنفترض أن أدبنا القديم يخلو من القصص: سواء فى ذلك الروايات والأقاصيص والمسرحيات، فهل هذا يفسد ما فيه من متعة ويقلل قيمة ما يحويه من إبداع؟ إن أدبنا يشتمل على آلاف القصائد الرائعة والدراسات والمقالات والكتب البديعة. وهو قادر على أن يفاخر بها أى أدب آخر ويكتسحه غزارة وتنوعا وعمقا. ثم إن فى أدبنا قصصا كثيرا جدا جدا بعضه طويل، وبعضه قصير: فأما الطويل فمنه "النمر والثعلب" لسهل بن هارون، و"الصاهل والشاحج" و"رسالة الغفران" للمعرى، و"رسالة التوابع والزوابع" لابن شهيد، و"رسالة حى بن يقظان" لكل من ابن طفيل وابن سينا والسهروردى مثلا، وأما القصير فنلقاه فى كتب التاريخ وكتب الأدب والمقامات وبعض حكايات "ألف ليلة وليلة" وكتب الحكايات كـ"الفرج بعد الشدة" و"المكافأة" و"كليلة ودمنة" وغير ذلك. وإذا كان لدى الإغريق ملاحم فلدى العرب القدماء السِّيَر الشعبية، وهى أطول من الملاحم، وإن كانت تلك السير نثرا مسجوعا ممزوجا بالأشعار المنثورة فى السرد والحوار بخلاف الملاحم، التى هى شعر صاف.
وأما الأدب المسرحى فنحن نقر بأن أدبنا القديم يخلو منه، اللهم إلا بعض المشاهد البدائية البسيطة. لكن لا بد أن نعرف أن هناك من ليس مغرما بالأدب المسرحى. ورغم أنى متخصص فى الأدب والنقد فلا مناص أن أعترف بأنى لست من عشاق المسرح المتيمين، ولا أرى أن الأدب العربى القديم ينقصه شىء كثير بخلوه من المسرح. ومع هذا فلى تحليل ونقد لعدد من المسرحيات المصرية المشهورة، وتحليلى لها يختلف عما تعود الناس فى الغالب أن يقرأوه ويحبوا أن يسمعوه، فأنا لا أبالى بشهرة الكاتب المنقود ولا أضع فى ذهنى اعتبارات المصالح، بل أقول ما أنا مقتنع به. وربما ساعدنى على النظر المعتدل إلى المسرحيات التى تناولتها أننى لست من المهووسين بهذا الفن، فأنا إذن أتعامل معه تعاملا هادئا ولا تميل بى الميول إلى هذه الناحية أو تلك. كما أن لى فى بداية كتابى: "دراسات فى المسرح" فصلا حاولت فيه أن أناقش الأسباب التى يمكن أن تكون وراء خلو أدبنا القديم من الأدب المسرحى، ورددت فيها على التساخفات التى ساقها بعضهم لتعليل غياب المسرح من أدبنا القديم.
وعن مكانة الأدب العربى بين الآداب العالمية يقول طه حسين: "كان بعض الذين يُعنَوْن بالأدب العربى ويدرسونه فى المدارس الرسمية لا يتحرجون أن يقولوا إنه فقير لا حظ له من النثر، فأما النثر الفنى الرائع الذى نجده عند الفرنسيين والإنجليز فليس للأدب العربى حظ منه. ولست أستطيع أن أصف هذا القول بأقل من أنه كلامُ مَنْ لم يقرأ الأدب العربى، فأما الذين يقرأون الجاحظ وابن المقفع وأبا حيان وابن العميد والصاحب بن عباد والهمذانى، ويلتمسون معرفة الفنون المختلفة التى تعرضوا لها، فسيرون أنها ليست شيئًا ضيقًا محصورًا فى بعض الكتب والرسائل. إنما هى شىء خصب غزير. هؤلاء الذين يدرسون هذا الأدب الفنى لا يستطيعون أن يجحدوا أن للأدب العربى حظًّا من النثر.
الأدب العربي: شعره ونثره وعلمه وفلسفته لا يمكن بحال من الأحوال أن يقل عن الآداب الأربعة القديمة، بل هو من غير شك متقدم على اللاتينى والفارسى. وإذا لم يكن بد من أن يكون له مناظر، وأن الأدب العربى ينحنى له مع شىء من الإجلال الذى تملؤه العزة، فهو الأدب اليونانى. وأما الأدب اللاتينى فسترون أنه يقوم على تقليد الأدب اليونانى، فهو ليس أدبًا مبتكرًا، وإنما خطباء الرومان تلاميذ لخطباء اليونان مهما برعوا. وأبرعهم، وهو سيسيرون، تلميذ لأرسطاطاليس وديموستين. ومؤرخوهم، وأبرعهم تتليف وتاسيت، تلميذان لهيرودوت وتوسديد. وشعراؤهم، وأكبرهم فرجيل، تلاميذ لهوميروس وغيره من شعراء اليونان. وليس للرومان شعر تمثيلى يُذْكَر، وما وُجِد عندهم من التمثيلى فهو تقليد سيئ ردىء لتمثيل اليونان. كل هذا الأدب الرومانى تقليد لليونانى، أما نحن فقد تأثرنا من غير شك باليونان والرومان والهنود والفرس، ولكن من المستحيل أن يزعم زاعم أننا مقلدون ليس غير، فشخصية العرب ظهرت قوية فى الشعر والنثر والعلم. لا يقال عنا إننا مقلدون أخذنا عن غيرنا، ولكنا لم نكد نأخذ عن غيرنا حتى أسغنا ما أخذناه أولا، وهضمناه، ثم محوناه.
أما الأدب الفارسى فهناك أسطورة غريبة جدًّا قائمة على خطإ شنيع: زعموا أن الأدب العربى مدين بشىء كثير جدًّا للأدب الفارسى، وأن العرب كانوا فى العصر العباسى تلاميذ الفرس فى كل شىء: كان الشعراء فرسًا، والعلماء فرسًا، ورجال البلاد فرسًا. أما أنا فلست أنكر أن الفرس قد أثروا فى الحياة العربية تأثيرًا شديدًا، ولكنه فى كثير من الأحيان سيئ جدًّا. وحسبنا أن الفرس هم الذين أدخلوا على العرب سياسة الحكم المطلق، وجعلوا قصور الخلفاء فى بغداد أشبه بقصور الأكاسرة فى المدائن، فقد تعلمنا من الفرس طرائقهم فى الأكل والشرب واللبس وتأسيس القصور واللهو والعبث.
ولكنى مضطر أن أعترف أننا حين نبحث عن الأدب الفارسى الذى أثر فى الأدب العربى، لا نكاد نجد شيئًا. كان الفرس أصحاب السيادة فى القرنين: الثانى والثالث، وكانوا يبذلون كل شىء فى إظهار نفوذهم، ومع ذلك فأين الكتب الفارسية الكثيرة التى تُرْجِمت إلى العربية؟ وأين الشعر الفارسى الذى تُرْجِم وأثَّر فى الشعر العربي؟ لا تكاد الكتب الفارسية التى تُرْجِمت تُذكَر إلى جانب ما تُرْجِم عن الأمة اليونانية من العلوم والفلسفة. وأنا أذهب إلى أبعد من هذا، فإنه إذا كانت أمة مدينة لأخرى فى الأدب فليست العربية هى المدينة، بل الأمة الفارسية هى المدينة للعربية.
ذلك أنكم عندما تريدون أن تدرسوا تاريخ الأدب الفارسى الحديث ستجدون أن هذا التاريخ يبتدئ فى القرن الرابع للهجرة، وستجدون أن هذا الأدب نشأ فى شكل رد فعل للأدب العربى ومقاومة له. وكان الفرس فى أول الأمر مقلدين للعرب. أخذوا عن العرب مذاهبهم فى الشعر وعلومهم، ويكفى أن تلاحظوا أن الشعر الفارسى يقال إلى الآن، وإلى ما بعد الآن، فى أوزان الشعر العربى. و"الشهنامة"، وهى فخر الفرس وآية من آيات الأدب، منظومة على البحر المتقارب، وهو بحر عربى. ويكفى أن تقرأوا أى شاعر من شعراء الفرس لتَرَوْا أنهم جميعًا متأثرون إلى حد بعيد جدًّا بناحية من أنحاء الأدب العربى. إذن فبين هذه الآداب الأربعة: اليونانى والفارسى واللاتينى والعربى، بين هذه الآداب التى شاعت فى العصر القديم والقرون الوسطى لا أكاد أعترف إلا بأن أولها اليونانى، ثم يليه الأدب العربى.
ويكفى أن نلاحظ أن الأدب العربى هو الأدب الذى عاشت عليه كل الأمم العربية، وهو الأدب الذى حمل لواء العلم والعقل طوال القرون الوسطى فى حين كان الأدب اليونانى منحازًا فى القسطنطينية، وكانت أوروبا منهمكة فى جهالتها، ويكفى أن نلاحظ أن النهضة الأولى التى ظهرت فى القرن الثانى عشر فى أوروبا إنما هى نتيجة لاتصال أوروبا بالعرب. فأدبنا هو الذى أحيا العقل الأوروبى حتى جاءت النهضة الثانية التى اتصل فيها الأدب الأوروبى بالأدب اليونانى القديم. فلو لم يكن للأدب العربى إلا أنه قد حمل لواء الأدب الإنسانى والعقل الإنسانى فى عشرة قرون لكان هذا كافيًا للاعتراف بأن هذا الأدب من الآداب التى تعتز بنفسها، وتستطيع أن تثبت لصروف الزمان.
نحن الآن نعيش على الأدب العربى. مهما نفعل ونحاول فلن نستطيع أن نتخلص منه. وأوروبا التى تسيطر الآن على العالم بآدابها وعلمها وقوتها، أترون أنها حقيقةً استطاعت أن تستغنى عن الأدب العربي؟ لا. أما أنا فأعتقد أن هذا الأدب العربى المسكين كان سببًا فى تأسيس مجد مؤثَّل لأوروبا. وحسبكم أن تنظروا إلى المجهودات العنيفة التى يبذلها المستشرقون فى درس الأدب العربى، ويفنون فيه قوتهم وأموالهم: ما عناية أوروبا، وما عناية أمريكا بدرس الأدب العربي؟ ألأنه أدب لا قيمة له؟ أم لأنه أدب له قيمته، خليق أن يُدْرَس؟ إذا استطاعت أوروبا أن تفخر الآن بعلمائها المستشرقين فأنا واثق بأنها مدينة بهذا للأدب العربى. فلولا سيبويه والجاحظ والمعرى وغيرهم لما وُجِد عند الفرنسيين رينان ولا كازانوفا ولا ماسينيون ولا غيرهم ولا وُجِد عند الإنجليز أعلام البحث فى الأدب العربى، ولولا هذا الأدب لما وُجِد عند الألمان هؤلاء الأعلام".
وهذا الذى تحقق للأدب العربى حسبما قال طه حسين لم يتحقق للأدب الإغريقى، فقد انتصر عليه الأدب العربى القديم، وطرده من الميدان إلى غير رجعة، فلم يعد له موضع فى بلاد الشرق الأوسط ولا فى تركيا. بل إنه لا موطئ قدم له ولا حتى فى الدول الأوربية التى تحيط باليونان، بخلاف الأدب العربى الذى غزا مصر وشمال أفريقيا والسودان والشام والعراق، ولايزال حتى الآن هو أدب تلك البلاد. بل إن اللغة العربية، رغم حلول الفارسية محلها فى بلاد فارس وحلول الأدب الفارسى محل الأدب العربى، ما فتئت تحتل المكانة الثانية بعد الفارسية، وما فتئ علماء دينها يدرسون تراث الإسلام بالعربية، وما فتئ كثير منهم يكتب فى الدراسات الدينية بالعربية. والشىء نفسه يقال فى تركيا وفى الباكستان والهند. وليس الأمر مقصورا على هذا بل إن الفارسية والتركية والأوردية تَدِين دينا واسعا وهائلا للعربية فى آلاف المفردات والعبارات مثلما هو معروف. كما أن أشعارها قد أخذت سمات الشعر العربى فى الموسيقى والموضوعات والمعانى، وهو ما لم يقع للأدب الإغريقى.
ونعود إلى طه حسين، فنسمعه يقول: "وإذن فأين مكان الأدب العربى من الآداب القديمة؟ أهو، كما يقول الجاحظ، أول هذه الآداب وأرقاها، ولا يوجد أدب آخر غيره؟ لا، فمن الإسراف أن تنكر قيمة الآداب الأخرى. أم هو، كما يقول بعض الأوروبيين والمجددين، شىء لا قيمة له؟ لا، ليس الأدب العربى أرقى الآداب، ولا هو أضعف الآداب، وليس وسطًا، بل هو من أرقى الآداب، فإذا ذُكِر الأدب القديم فهو الثانى. أما إذا ذُكِر الأدب الحديث فليس عندنا إلا الأمل. وكل شىء يدل على أن زمنًا قصيرًا لن يمضى حتى يستطيع أدبنا الحديث أن يثبت للآداب الأجنبية كما ثبت لها أدبنا القديم".