مات أبي. هكذا، وبكل بساطة، غادرنا بصمت، تاركا في أنفسنا لوعة وحرقة. رسم بيننا فجا عميقا لا يمكن ردمه، رحل بمفرده في قطار لا يعود مطلقا إلا حين يرغب في روح جديدة. خرجت لأستقبل المعزين، تاركا خلفي النواح والبكاء.
لم تركتني يا أبي وحيدا دون أن تعلمني من خبراتك وتجاربك؟ ما ورثت عنك سوى الانعزال وحب الوحدة، ومشيتك. أعلم أنك كنت تمضي معظم وقتك في الحقل، لا تقدم إلا حين يسدل الظلام ستائره، ونكون، نحن، على أهبة النوم استعدادا لصباح الدراسة..تبادلنا فتات كلام. أعرف أنك تجوع لنشبع، تتعرى لنتغطى، لكن، كنت أحب أن تعلمني مما علمتك الحياة، حتى أجابه صعابها. ها أنت قد تركتني أعزل، فكيف البلاء؟
لم يا أبي قد غادرتنا؟ غيابك سكينة ذبحتنا...لم ياأبي..
يد تطبطب على كتفي أنظر، هي لشاب في مقتبل العمر، أنيق المظهر على محياه طيف ابتسامة لا تناسب اللحظة. كدت أصرخ في وجهه، ثم عدلت، فالمناسبة غير مناسبة للخصام.
قال بثقة: اترك لنا مسألة دفنه.
استغربت، فمراسيم الدفن ستجري كالمعتاد..
قلت: من أنتم؟
شركة مكلفة بمراسيم الدفن، لها عروض تبهج أسر الموتى.
كيف ذلك؟
لدينا مقابر رقمية، تسمح لأسر الفقيد يزيارته والتحدث معه، وكأنه لم يمت.
لم أفهم
يمكننا بناء على التطور التكنولوجي، والأبحاث الطبية من جعل الميت يقدم على التجاوب مع أفراد أسرته، يحدثهم، ويبدي الفرحة على محياه...صحيح أن التجارب في بدايتها، لكنها مبشرة، وواعدة، ستتقدم كثيرا، هذا أكيد، وستحقق ما يقرب الموتى من الخلود...
قلت مع نفسي: هي فرصتي الثانية...
والمقابل...
يد تربت على كتفي، ويقول لي صاحبها:
جهز نفسك، فالجنازة ستخرج الآن، كن قويا
أإلى المقبرة الرقمية؟
نظر إلي مستغربا، كاد يتكلم، ثم عدل لمعرفته بجرحي النازف، وبصدمتي العميقة.