تعالوا أسقطوا النِّظام بالانتخابات

الدكتور عزت السيد أحمد

من أكثر المشاهد كوميديَّة ومدعاةً للضَّحك الهسيتيري وسط المأساة التي يعيشها العالم العربي وخاصَّةً دول الربيع العربي هو تلك الأسطوانة التي ينشدها أو يترنم بها الحاكم ذاته أحياناً وأحياناً أبواقه ومطبِّلوه ومزمِّروه التي يدعون فيها الجماهير الغاضبة إلىٰ الاحتكام إلىٰ صندوق الانتخابات.
الشَّعب جلُّه يكون منتفضاً هائجاً مائجاً ثائراً غاضباً من أجل الحريَّةـ من أجل الكرامة، من أجل لقمة العيش، من أجل الديمقراطية... وفجأة يثب أبواق النِّظام ومطبِّلوه ويقولون بقلب بارد برود جليد القطب المتجمد:
ـ «إذا كنتم تريدون إسقاط النِّظام فتعالوا إلىٰ صناديق الانتخابات».
ـ «إذا كنتم تريدون إسقاط الرئيس فتعالوا نحتكم إلىٰ صندوق الانتخابات».
بل تبلغ بهم الوقاحة غالباً بإضافة لازمةٍ من التحدي يقولون فيها:
ـ «إذا كنتم تريدون إسقاط النِّظام فأسقطوه بصناديق الانتخابات إن استطعتم».
هكذا وببساطة يردون علىٰ الشُّعوب المنتفضة الثَّائرة المطالبة بالديمقراطيَّة، المطالبة بإسقاط النِّظام المستبد والديكتاتور الذي يقف علىٰ رأس هٰذا النِّظام. يدعونهم إلىٰ الاحتكام إلىٰ صندوق الانتخاب وإسقاط الرئيس أو النِّظام بديمقراطية، إن استطاعوا، وكأن هٰذه الأنظمة أصلاً جاءت بالانتخابات إلىٰ السُّلطة!!!
صحيحٌ أن موجبات الثَّورات ودواعيها متنوِّعةٌ وكثيرةٌ تدور ما بَيْنَ الكرامة ولقمة العيش والحريَّة إلا أنَّهَا كلُّها تقريباً مختزلةٌ بمعنى من المعاني بالمطالبة بتحقيق الديمقراطية لأنَّهُم يعتقدون أنَّ الديمقراطية هي التي تحارب الفساد، وتضع حدًّا للاستبداد، ومن ثمَّ تتحقق الكرامة للمواطن، وتتوافر لقمة عيشه... لأنَّ الديمقراطية تعني عندهم وضع حدٍّ لسرقة خيرات البلاد، وإذا انتفت السَّرقة من قبل رأس السُّلطة وأتباعه وأبواقه وطبوله فستتوافر لقمة العيش بكرامة...
لاحظوا أنَّ هٰذه الدورة كلها من المطالب الثَّوريَّة منوط بمطلبٍ واحدٍ هو تحقيق الديمقراطية. بما يعني منطقيًّا، وهو المتحقق واقعيًّا، أنَّ الديمقراطية غير موجودةٍ ولا حَتَّىٰ بأدنىٰ حدودها ومستوياتها ولا بأقل تطبيقاتها وتجلياتها، ولأنَّ ذٰلكَ الخراب والفساد والدَّمار والاستبداد... كله سببه الحاكم والنِّظام الذي أسَّسه الحاكم، فقد ثارت الشعوب لتسقط النِّظام والحاكم بالضغط الجماهيري الذي تكون له تجليات مختلفة تبعاً لمعاملة النِّظام لمطالب الشَّعب... وفجأة يقابلهم الحاكم بكلِّ برودٍ مطالباً إيَّاهم بالاحتكام إلىٰ صناديق الانتخابات لإسقاطه بالديمقراطيَّة، مع لازمة الاستفزاز: «إن استطعتهم»... المستبد المتفرد بالسلطة وكلِّ شيءٍ في الدولة يريد من الجماهير الثائرة أن تبرد وتهدأ وتسقطه بالديمقراطيَّة في صناديق الانتخابات!!!
يا للعجب!!!
عن أيِّ صناديق اقتراع أو انتخاب يتحدَّثون ونتائج الانتخابات في العالم العربي محسومة قبل تحديد موعد الانتخابات؟ ليست الانتخابات الرئاسية وحسب بل حَتَّىٰ انتخابات البرلمانات وانتخابات البلديات أيضاً ولا أظنني مبالغاً في ذٰلكَ بل حَتَّىٰ إذا وصلت إلىٰ مستوى الانتخابات البلدية بل حَتَّىٰ المخاتير.
يدعون الناس الثائرة لإسقاط النِّظام أو رأس النِّظام إلىٰ الاحتكام إلىٰ صناديق الاقتراعات وكأنَّ أحداً لا يعلم علم اليقين أنَّهُ لو صوَّت الشَّعب كلُّه والشعوب المجاورة معها ضدَّ النِّظام لكانت النَّتائج هي فوز النِّظام بنسبة 99.9 %.
لو كانت تعلم النَّاس أنَّهَا تستطيع إسقاط الحاكم أو النِّظام بالانتخابات هل كان ثَمَّة ما يدعوها إلىٰ المغامرة بحياتها والثَّورة عليه والمطالبة في شعاراتهم بإسقاط النِّظام أو رأس النِّظام؟!
أصلاً لو كانت الناس عندها إيمانٌ بنسبة أقل من خمسين بالمئة أنَّهَا يمكن أن تسقط النِّظام أو رأس النِّظام بصناديق الانتخابات لما كانت محتاجة للتَّظاهر أصلاً. انظر علىٰ سبيل المثال إلىٰ المتظاهرين الفرنسيين الذي شلُّوا حركة البلاد بأعدادهم الهائلة حَتَّىٰ بالكاد تميزهم عن الثورة العارمة التي حدثت في بعض الدول العربية ومع ذٰلكَ لم ينطق واحد منهم بالمطالبة بإسقاط النِّظام أو الرئيس لأنَّهُم يعلمون علم اليقين أنَّهُم قادرون علىٰ إسقاطه في صناديق الانتخابات بسهولة.
ولذٰلك أيضاً منذ اندلعت مظاهرات السُّترات الصفراء في فرنسا، وهي لا تقلُّ تقريباً عن مظاهرات الثَّورات العربيَّة، لم يخرج الرئيس الفرنسي ولا أيُّ مسؤولٍ فرنسي ليقول للمتظاهرين: «إذا كنتم تريدون إسقاط الرئيس فأسقطوه في صناديق الانتخابات»... «تعالوا إلىٰ صناديق الانتخابات وأسقطوه بالديمقراطية». وكذٰلكَ لم نجد أيَّ مذيعٍ أو إعلاميٍّ يقول ذٰلكَ، ولا أقول بوق لأنَّهُ بالتأكيد لا بالتخمين لا توجد أبواق في فرنسا، ولم أقل إسقاط النِّظام في فرنسا لأنَّهُ لا يوجد نظام بمعنى النَّظام الموجود في العالم العربي.
لماذا لم يصدر من أيِّ مصدرٍ رسميٍّ فرنسيٍّ مثل هٰذا التَّصريح؛ الدَّعوة لإسقاط الرئيس بصناديق الانتخابات؟
لأنَّهُ ببساطةٍ يمكن أن يسقط بصناديق الانتخابات بسهولة أسهل من شرب الماء من الكأس. وأصلاً وفصلاً إن حقَّ له الترشح أكثر من دورتين فإِنَّهُ لا يفعل... الذين فعلوا ذٰلكَ استثنائيون في أرجاء أوروبا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. رُبَّما ثلاثة فقط في كلِّ أوروبا الذين فعلوا ذٰلكَ؛ فرانسوا ميتران في فرنسا، وهلموت كول في ألمانيا الغربية، و أنجيلا ميركل في ألمانيا بعد الوحدة. وما عداهم قلَّما صمد أحدٌ أكثر من دورة انتخابية واحدة في أرجاء أوروبا الغربية.
ومع ذٰلكَ تجد الأبواق والطبول العرب يقارنون مطالبتهم بإسقاط النِّظام في الانتخابات بفرنسا أو غيرها من الدول الأوروبيَّة. كما يقارنون الديمقراطيَّة العربيَّة بالديمقراطيات الأوروبيَّة بوقاحة وإسفاف غير قابلين للمنافسة. ناهيكم عن مقارنات أُخْرَىٰ تدعو للغثيان والاشئمزاز أشرنا إليها في غير هٰذا الموقع.
لن أتحدث عن موجبات الثَّورة التي لا تعد ولا تحصى في دول العالم العربي. يكفي أن تعلم أن ما حدث للشُّعوب العربيَّة في ثوراتهم وما تعرضوا له يكفي للاعتراف بأنَّهُم كانوا مخطئين لأنَّهُم لم يثوروا منذ زمن طويل. وأنَّ قيامهم بالثَّورات كشف لهم أنَّهُ كان من الضَّروري أن تقوم هٰذه الثورات حَتَّىٰ ولو كانت دواعيها غير قائمة كما يدعي بعضهم.
المشاهد الدَّالَّة علىٰ ذٰلكَ كثير أبناها في أكثر من مكان. أكتفي هنا بالمشهد المتعلِّق بالدَّعوة إلىٰ إسقاط النِّظام أو الرئيس بالاحتكام إلىٰ صناديق الانتخابات.
هٰذه الدعوة وحدها كافية لتكون موضوع مئات المسرحيات أو الأفلام الكوميدية السوداء. وهي ذاتها اعتراف من النِّظام بتناقضاته وكذبه وتضليله.
ماذا قالت الأنظمة وطبولها وأبواقها عن المظاهرات؟
الأنظمة كلها وصفت المتظاهرين أو الثائرين بأنَّهُم أناسٌ مغرَّرٌ بهم، مدسوسون، متآمرون يريدون تخريب الوطن، وأنَّ الرئيس معشوق الجماهير، وأنَّهُ نجم شباك التذاكر في وطنه، وأنَّ أبناء الوطن يبحونه ولا يرضون عنه بديلاً... وهلم جرًّا في هٰذه الأسطونات الممجوجة.
لا أحد يستطيع تكذيب ذٰلكَ. الأنظمة التي قامت فيها الثورات كلها رفعت هٰذه الشِّعارات وأكثر منها بكثير في سياقها، بما يدلُّ علىٰ أنَّهُ لا توجد مظاهرات وما الصُّور التي تعرضها التلفزيونات إلا فبركة وتضليل في استديوهات هوليود والجزيرة، وأنَّهُ لا يوجد ثورة ولا هم يحزنون فالشَّعب يعشق قائدة الملهم ولا يثور عليه، وما المتظاهرون إلا أوباش أجحاش خدعتهم الصهيونية العالمية ليفسدوا الاستقرار في أوطناهم... وأنَّهُم شرذمةٌ قليلةٌ يمكن القضاء عليها بساعات... ولٰكن ساعات ومعها بضع سنوات. دولة بطولها وعرضها عجزت عن مواجهة شرذمة من عشرات الأشخاص علىٰ مدار سنوات!!! ما هي هٰذه الدولة، وما هم هٰؤلاء الشراذم الذين أعدادهم بالعشرات وعجزت الدولة عن مواجهتهم لسنوات؟!
علىٰ أيِّ حال. إذا كانت الأمور هكذا كما تصوِّرها الأنظمة وطبولها فلماذا تستعطف المتظاهرين الشراذم بالعودة إلىٰ بيوتهم وانتظار الانتخابات وإسقاط الرئيس أو النِّظام بالانتخابات؟
أليس في ذٰلكَ اعتراٌف صريح بأنَّ ما هو قائم إنَّمَا هو رفض للنظام ورفض للرئيس، ورغبة في إسقاطه. فكيف اتفق لكم أن يكون المتظاهرون بالعشرات وتضعون رأسكم مقابل رأسهم وتدعونهم إلىٰ التنافس في الانتخابات؟ وتدعونهم إلىٰ إسقاط الرئيس بالانتخابات؟
الرَّئيس والنِّظام في البلدان العربيَّة لا يسقط بالانتخابات وهٰذه من المسلمات. والطبول تعرف ذٰلكَ، تعرف أنَّهُ لا توجد أصلاً صناديق انتخابات، وهٰذه مسألة نتجاوزها. ونعرف أنَّهُم يعرفون أنَّهُ لا توجد ديمقراطيَّة ولا هم يحزنون. وهٰذه مسألة نتجاوزها أيضاً.
ولٰكن ما لا يمكن تجاوزه هو رفضهم الاعتراف بأنَّ ما هو قائم هو تمرد وثورة علىٰ النِّظام، ورفضهم الاعتراف بأنَّ الشَّعب يريد إسقاط الرئيس أو النِّظام، ولۤكنَّهُم في الوقت ذاته يدعونهم إلىٰ صناديق الانتخابات بل الانتحابات لإسقاط النِّظام.
ألا يشعرون بالخزي والعار وهم يقدمون أنفسهم بهٰذا التناقض المخزي؟
هو ليس التَّناقض المخزي الوحيد عند الأنظمة العربيَّة في تعاملها مع ثورات شعوبها. لو كان هٰذا هو التَّناقض الوحيد لرُبَّما وجب علىٰ الشَّعوب العربيَّة التي ثارت مراجعة أنفسها، ولٰكنَّهُ واحدٌ من عشرات إن لم تكن مئات التَّناقضات التي يدعو كلُّ واحدٍ منها الشَّعب إلىٰ القيام بثورة علىٰ هٰذه الأنظمة. وليس هٰذا أوان الحديث عن هٰذه التَّناقضات ولا مكان، وهي كلها تقريباً يعرفها الجميع في البلدان الثائرة علىٰ الأقل، ولٰكنَّهَا علىٰ الرَّغْمِ من أنَّها معروفة فإنَّهَا تستحقُّ التَّوثيق ولا بُدَّ أنَّهُ وجد من وثقها أو وثَّق بعضها. ولا تستغرب إن قلت لك إنَّ الإنترنت أسوأ مكان للتَّوثيق أو التَّخزين، لأنَّ شبكات الإنترنت التي يتم التخزين عليها تحذف بثانية جهوداً مات من أجل الكثيرون... وقد فعلت ذٰلكَ مواقع اليوتيوب والفيس بوك وكثير من المواقع التي أنشئت لهٰذا الغرض أغلقت وصارت طيَّ النِّسيان.
مهزلةٌ غير طبيعيَّةٍ يمارسها الحكام العرب علىٰ مختلف المستويات. منها موضوع كلامنا هنا الذي يثير ضحك المعلَّق علىٰ المشنقة والحبل يزرده.
الطَّريف العجيب في الأمر وهو خلاف ما يعتقده الكثيرون بل الأكثرون. أغلبيَّة النَّاس تعتقد مؤمنة بذۤلكَ، بناء علىٰ ترويجات استخباراتيَّة خبيثة وذكية، أنَّ الرَّئيس لا يعرف ماذا يحدث... المسؤولون يرسلون له أخبار مضللة، يخدعونه بتقاريرهم، هو بريء طاهر نظيف ولٰكنَّ من حوله يخدعونه بما ينقلونه له عن الأوضاع...
تخيلوا المهزلة. الرَّئيس يبقى ثلاثين سنةً علىٰ رأس الدولة وهو لا يعرف ماذا يدور، هو يريد الخير والصَّلاح والتَّطوُّر للشَّعب والدَّولة ولٰكنَّ المسؤولين فاسدون يخربون وينقلون له في تقاريرهم أخباراً كاذبة... وهو مثل الأهبل لا يدري شيئاً. ثلاثين سنة يحكم البلاد وهو لا يعرف حقيقة ما يحدث في بلده. لو كانت سنة سنتان فذا أمر يمكن هضمه وإن علىٰ مضضٍ. أمَّا عشر أو عشرين أو ثلاثين سنة فذٰلكَ ما يمكن قبوله ولا تصديقه، ومع ذٰلكَ تجد الكثير ممن يصدق ذٰلكَ مع الأسف.
لتوضيح النُّكتة والمفارقة تخيَّلوا فقط كيف أنَّ السَّجين السِّياسي في المنفردة في أيٍّ من هٰذه الدُّول يعرف كلَّ ما يدور خارج أسوار المعتقل من تفاصيل؛ السَّرقة والنَّهب والفساد واعتقال آخرين ونتائج مباريات الأندية حَتَّىٰ أسعار السِّلع سلعةً سلعةً وهلمَّ جرًّا... بَيْنَما الرَّئيس مسكين مثل المسطول يقرأ تقارير المخبرين المضلِّلين ولا يعرف ماذا يحدث!
الفكرة التي أودُّ أن أختم بها ومن أجلها مهَّدت بالسُّطور السَّابقة هي أنَّ الحكام العرب يعرفون تمام المعرفة وبتمام اليقين أنَّ شعوبهم لا تنتخبهم، وأنَّ من يقول لهم نعم يقولها والدَّم في فمه، وأنَّ نتائج الانتخابات مزورةٌ، وأنَّهُ لو قال الشَّعب كلُّه لا فلن يغير ذٰلكَ في النَّتائج التي ستعلن وتحدث. ولا أبتعد كثيراً، في انتخابات الرَّئيس المصري قاطع الشَّعب الانتخابات وصار الأبواق والطبول يستجدون النَّاس الذَّهاب لصناديق الانتخابات وليقولوا ما يشاءون (فرأيهم غير مهمٍّ والنَّتيجة واحدة)، المهم أن يظهر هناك إقبالٌ علىٰ الانتخابات، ومدَّدوا الانتخابات يوماً بعد يوم لثلاثة أيام، وعندما أعلنت النَّتائج قالوا إنَّ نسبة المشاركة فاقت أكبر إقبالٍ جماهيريٍّ علىٰ الانتخابات في تاريخ مصر!!! ونتيجة التصويت بطبيعة الحال هي فوز السيسي المرشح الوحيد بنسبة 99.7 بالمئة، وكان في المرتبة الثانية الأصوات الفارغة، بَيْنَما الجوكر المحلل حصل علىٰ الترتيب الثالث.
ومع ذٰلكَ كلِّه، وبعد ذٰلكَ كلِّه يطلبون من الجماهير ترك المظاهرات وإسقاط الرئيس بالانتخابات... إن استطاعوا، ودققوا في كلمة إن استطاعوا. ولن تنتهي عجائب النِّظام العربي هنا.