متى سيبدأ العرب حربهم على إيران؟
وهل الحكام العرب يناصبون إيران العداء حقاً؟

الدكتور عزت السيد أحمد

منذ سنوات قليلة بدأت تشيع علىٰ نطاق واسع عبارة: «إيران أخطر علينا من إسرائيل»، «إيران هي الخطر الحقيقي علىٰ العرب والإسلام»... ولۤكنَّهُم يضيفون إليها: خطر التمدد الركي... كانت لنا وقفة مستقلة مع الموضوع التركي فلا نتحدث فيه الآن.
هٰذه العبارة، الخطر الإيراني الواقعي والتاريخي والحقيقي، يرددها أبواق الأنظمة العربية وخاصَّة الخليجيَّة تأسيساً، فيما يبدو، لمرحلةٍ جديدةٍ هي جعل إيران العدو بدل إسرائيل، علىٰ أساس، كما يقولون، إنَّ إسرائيل لا تشكل خطراً علىٰ العرب أكثر من إيران. ويتفتوقون بعبارات سخيفة مثيرة للاشمئزاز من قبيل أنَّ إسرائيل لم تعتدي عليهم بيوم من الأيام وهلم جرًّا من هٰذه العبارات.
لنقف عند هٰذه العبارة رويداً: هٰذا يقتضي منا التَّساؤل: متى ستتوجه الأسلحة العربيَّة إذن إلىٰ إيران؟ ولا بأس من المصادرة علىٰ المطلوب سلفاً والتَّساؤل: هل الحكام العرب صادقون فعلاً في أنَّ إيران هي عدوهم الحقيقي، وأن معركتهم الحقيقية والكبرى بل معركتهم القادمة ستكون ضد إيران؟
لننظر إلىٰ الأمر من جديد. بداية هٰذه العبارة التي بدأت تنتشر علىٰ نطاق واسع عن شدَّة الخطر الإيراني ليست جديدة في حقيقة الأمر ولا بحال من الأحوال، إنَّهَا عبارة كانوا يردِّدونها وينشروها بهدوء منذ أكثر من عشرين خلت. ولٰكنَّهَا كانت تنشر علىٰ نطاق تسريبي هادئ من الأطراف أنفسهم وحَتَّىٰ الأشخاص أنفسهم ولٰكن من وراء الكواليس والستائر، وكان معهم ولم يزل جحافل البسطاء حَتَّىٰ ولو كانوا مثقفين، يردِّدون هٰذه العبارة وأكثرهم لا يدرون خفاياها وطواياها.
لا أنفي الخطر الإيراني بطبيعة الحال ولا أعترض عليه، ولٰكنِّي أبحث في حقيقة مواقف الأنظمة العربيَّة من العداء ضدَّ إيران. ومدى صدقهم في ذٰلكَ. أبنت الوجه الأول من تصعيد مفهوم الخطر الإيراني وهو تمرير وتبرير التَّطبيع بل التَّآخي مع إسرائيل بهٰذه الذَّريعة وامتصاص نقمة الشُّعوب العربيَّة وانفعالاتها حيال هٰذا الارتماء في حضن إسرائيل، وهو كما كررنا أمرٌ غير جديدٍ إلا في نقله تخت الطاولة إلىٰ فوقها بل من العلاقات السرية إلىٰ حيز العلن والمجاهرة. وسأعود إليه في الختام مرَّة ثانية. ولذٰلك أتساءل من جديد الآن:
هل كانت هٰذه الشائعة بالانتشار قبل عشرين سنة علىٰ نحو خجول بل منذ قيام الثورة الإيرانية تقريباً، هي تمهيد لإقامة العلاقات مع إسرائيل، أم أنَّها تعبر عن حقيقة؟ وإذا كانت حقيقة فهل سيشن الحكام العرب حربهم ضد إيران أم لن يفعلوا؟
حَتَّىٰ نصل إلىٰ الجواب بيسر تعالوا ننظر ماذا حدث منذ بدء ترويج هٰذه الشائعة. انتصرت الثورة الإسلامية الإيرانية عام 1979م، وفي عام 1980م اندلعت الحرب العراقية الإيرانية. الكل يقول إنها من أجل هٰذا السبب، من أجل وضع حد للخطر الإيراني. وأنا أتفق من يذهب هٰذا المذهب. ولٰكن من شن هٰذه الحرب ولماذا؟
علىٰ فرض جدلاً أن صدام حسين هو الذي بدأ الحرب وليست إيران كما يرى بعضهم ويؤكد فإن العراق هو الذي بدأ الحرب وليس دول الخليج ولا غيرها من الدول العربية. والعراق هو الذي دفع الثمن. دفع العراق الثمن مرتين؛ مرة طيلة فترة الحرب، ومرة عقاباً له لأنه شن هٰذه الحرب.
ومن الذي عاقبه؟
إنَّهَا الدول العربية وخاصَّة الخليجية منها. هٰذه الدول العربي هي التي جرت الاحتلال الأمريكي للعراق ومولته عقاباً له لأنه حارب إيران وأرهقها عشر سنوات.
دعك من ذٰلكَ. ماذا فعلت الدول التي ترفع راية الحرب ضد إيران منذ عشرين سنة إلىٰ الآن؟ أي منذ بدء ترويج أنَّ الخطر الإيراني أشد من الخطر الإسرائيلي؟
بل دعك من هٰذا الماضي البعيد، وما هو ببعيد، ماذا فعلت هٰذه الدول في السنوات الأخيرة التي انتشر فيها هٰذا التعبير انتشار النار في الهشيم؟
الحقيقة أنَّ الأمور لا تنفصل عن بعضها بحال من الأحوال. فما في اليوم ابن الأمس.
دول الخليج التي تحمل لواء معادة إيران وقرع طبول الحرب ضدها علىٰ مدار العشرين المنصرمة انقلبت علىٰ طالبان التي تهدد إيران وتناصبها العداء وأسهمت في إسقاطها وتسليم أفغانستان لإيران علىٰ طبق من ذهب.
ثَمَّة من قد يجال في هٰذه الحقيقة. حسناً من الذي أسقط العراق التي هي الجدار المنيع أمام المد الإيراني؟
الحقيقة التي لا تقبل الطعن ولا الشك بحال من الأحوال أنَّ دول الخليج العربي الرئيسة هي التي ظلت تحرض أمريكا وتحفزها علىٰ إسقاط صدام حسين وإسقاط العراق، وهي التي مولت حرب احتلال العراق تمويلاً كاملاً وأموالاً طائلة إكراماً لأمريكا فوق تكاليف الحرب. وماذا كان؟ استلمتها إيران علىٰ طبق من ذهب أيضاً.
قد يجادل بعض فيما إذا كان هٰذا مقصوداً أم غير مقصود.
لنأخذ أحسن الاحتمالات بالنسبة لهم وهي أنَّهُ خطأ غير مقصود. هٰذا يعني الغرق في الغباء والبلاهة. ولا يستقيم ذٰلكَ مع بقية المسلسل. فالأمر يميل إلىٰ احتمال القصد إذا ما نظرنا إلىٰ ما حدث في سوريا ولبنان واليمن وحَتَّىٰ مصر.
طيب، دعك من ذٰلكَ، سنعدُّ ذٰلكَ كلَّهُ، علىٰ مضض وغير استحقاق، أخطاءً غير مقصودة. فماذا يمكن أن تقول عن تمويل ودعم الميليشيات الشيعية والإيرانية، وهي في الحكم سواء، في العراق علىٰ مدار السنوات المنصرمة بذريعة محاربة داعش؟! وماذا ستقول عن دعم أكبر دولتين خليجيتين للحراك الحوثي في اليمن ومجاربة خصومهم وتقزيمهم وهما أكبر دولتين تناصبان إيران العداء في وسائل الإعلام؟! وماذا ستقول عن قيامهما هما ذاتهما ومن يقف معهما بدعم الوجود الإيراني في الشام ومحاربة من يحاربهم؟!
هٰذه حقائق وليست تخمينات أبداً. من يتابع يدركها ويعرف بعضاً من تفاصيلها، بل ثَمَّة تفاصيل أخطر من ذٰلكَ. إن هٰذه الدول الخليجية التي لا تفتأ عن قرع الطبول في العلن ضد إيران وحزب الله هي التي حاربت طلبت من قيادات الثورة السورية في بداياتها ضمان أمن حزب الله في لبنان إذا انتصرت الثورة. فكيف يستقيم مع المنطق أنَّ دولاً تفعل هٰذه الأفعال أن تكون صادقة في حربها ضد إيران؟!
ومع ذٰلكَ دعك من ذٰلكَ. لنذهب إلىٰ أكبر وأخطر مجموعة إعلامية في العالم العربي وهي (مجموعة الـ MBC) التي مقرها في الإمارات العربية المتحدة، ومالكها السلطة السعودية، لن أتحدث عن سياستها الإعلامية ومخاطرها أريد أن أتساءل من هم الذين يديرونها ويخططون فيها؟ بنظرةٍ خاطفةٍ إلىٰ المذيعين والمعدين والمدراء فيها تجد أنَّ أشهر مشاهيرها والمؤثرين فيها هم من الشيعة. لا تتردد في البحث أي اسم من مشاهيرها لتتأكد من ذٰلكَ حَتَّىٰ مديرها العام. هل هٰذه مصادفة؟ أم سوء تخطيط؟ أن خطأ غير مقصود؟
من البلاهة الظنُّ أنَّها غير مقصودة، ومن البلاهة ذاتها الظن أنَّها سوء تخطيط. ومن البلاهة ذاتها عدم القطع بأنها تدبير مخطط مقصود. المصادفة معروفة ما هي، فمن غير الممكن أن يتكرر الخطأ نفسه مصادفة أكثر من مرة، مرتين، ثلاث مرات... أما أن يكون الخطأ هو القاعدة فلم يعد من المقبول أن يكون ذٰلكَ مصادفة أو خطأ غير مقصود أو سوء تدبير وتخطيط.
فكيف يمكن أن يستقيم مع المنطق أن دولة هٰذه سياستها تنوي فعلاً محاربة إيران أو تتخذ إيران عدواً لها؟!
للأسف الشديد، الشواهد والأدلة والبراهين أكثر من أن تعد أو تحصى، وكلها تقطع بأنَّهُم كاذبون كذباً تام الأركان وكذبهم واضح لا يحتاج إلىٰ برهان؛ فلن يحاربوا إيران ولن تكون إيران عدوهم بحال من الأحوال، ولم تكن عدوًّا لهم فيما قبل.
ودعك من كل ما سبق، وانظر في هٰذا الشاهد: السُّعودية والإمارات والبحرين حاصروا قطر وحاربوها بزعم أنَّ لها علاقات مع إيران في حين أن العلاقات السعودية والإماراتية مع إيران أكبر من علاقات قطر بألف مرَّة، بل إنَّ الإمارات أكبر شريكٍ تجاريٍّ لإيران علىٰ الرَّغْمِ من حصار إيران. ولا ننسى أنَّ السُّعودية والإمارات تدعمان النُّفوذ الإيراني في سوريا ولبنان واليمن والعراق دعماً غير محدود علىٰ الرَّغْمِ من التَّضليل الإعلامي الذي يحاول تبيان عكس ذٰلكَ.
هٰذه حقائق فوق الشك عند المدركين المتابعين وإن رفض إقرارها أو تصديقها الأكثرون. إن عدم اعتراف الأكثرية بحقيقة لا يعني أنَّها ليست هي الحقيقة. وحَتَّىٰ وإن لم تظهر يوماً الوثائق فإنَّ ذٰلكَ لا ينفي دامغ الحقائق.
عشرات السنين مضت علىٰ احتلال فلسطين، وعلىٰ مدار هٰذه السنين نفخ الحكام العرب رؤوسنا بعدائهم لإسرائيل وحشدهم الطاقات لتحرير فلسطين، واستنفار المشاعر والأموال والاقتصاد والفكر والأدب والأخلاق... تأسيساً لتحرير فلسطين. وفجأة عندما جدَّ الجد، ووجب اجتماع الحشد، وشد الهمة كل أنواع الشد لم يتنكر الحكام العرب للعداء لإسرائيل وحسب بل أعلنوا ارتماءهم بحض إسرائيل وراحوا يسعون في إقناع الناس بأن إسرائيل صديق وأخ وشقيق وأنَّها ليست عدوًّا ومن الخطأ عدُّ إسرائيل عدوًّا... وما يفعله الحكام العرب الآن من حشد وتحشيد وشدة وتشديد ضدَّ إيران لا يختلف أبداً عمًّا فعلوه علىٰ مدار سبعين سنة ضد إسرائيل. إسائيل وإيران أصلاً وجهان لعملة واحدة بينهما من التآخي ما بَيْنَهما، وبَيْنَهما من العلاقات السرية ما بَيْنَهما، ومن يكون صديقاً لإسرائيل لا يمكن أن يطون عدوًّا لإيران بحال من الأحوال. ومن ثمَّ فإنَّ أي كلام عن عداء سعودي أو إماراتي أو غيرهما من الأنظمة العربية ضدَّ إيران أو الشيعة فهو خرافة لا يقول بها إلا من فقد عقله وإيمانه
هٰذا لا ينفي خطر إيران علىٰ العرب بحال من الأحوال، وهٰذا ما لا أريده ولا أوافق عليه. إيران تاريخيًّا ليست صديقة للعرب ولا يمكن أن تكون صديقة لهم، والحقد الفارسي علىٰ العرب الذين أسقطوا الإمبراطورية الفارسية لا تندمل جراحه ويبدو ذٰلكَ فيما زرعوه في العقيدة الشيعية منذ تحولوا من السنة إلىٰ الشيعة، بل حَتَّىٰ عندما كانوا من المسلمين السنة لم تكن نظرتهم للعرب ولا تعاملهم مع العرب خالياً من الحقد والرغبة في الثأر والانتقام، الأمر الذي بدا أول ما بدا في الشعوبية التي تجلت أكثر ما تجلت في العصر العباسي.
لا يختلف الخطر الصهيوني عن الخطر الإيراني علىٰ العرب وعلىٰ الإسلام والمسلمين. هٰذا أمر موضع اتفاق. ولٰكنَّ الأمر الأخطر من ذٰلكَ كما أشرنا عرضاً هو أنَّ إسرائيل وإيران شريكان عقائديان، يؤمنا بعقيدة واحدة، عدوهم واحد وصديقهم واحد. وهٰذا أمر تبثته الوقائع التاريخية التي أبناها في غير هٰذا الموضع. ومن ثمَّ علىٰ افتراض أن الحكام العرب يجهلون هٰذه الحقيقة ويريدون أن يضعوا يدهم بيد إسرائيل لمحاربة إيران فإنَّ إسرائيل التي يضعون يدهم بيدها لمحاربة إيران لا تجهل هٰذه الحقائق ولن تقبل العدوان علىٰ نصفها الثاني. وستجعل من العرب ميدان معركة يكونون هم فيها الضحية الوحيدة بَيْنَ شركين يريدان تحطيم العرب والمسلمين.
قلنا علىٰ افتراض صحة ذٰلكَ، والحقيقة ليست كذٰلكَ وقد أبنا بالأدلة والاستنتاجات أنَّ الحكام العرب لا يمكن أن يحاربوا إيران بحال من الأحوال، وأي حرب يمكن أن تكون فلن تكون إلا تمثيلية لتمرير الخداع والتضليل. ولن يبالي الجميع لو قتل في هٰذه التمثيلية عشرات ملايين العرب. فالحكام العرب أصلاً لا يبالون بمقتل الملايين من شعوبهم فكيف سيبالي الإسرائيليون أو الإيرانيون؟
السؤال المهم والخطير الآن: هل كان الحكام العرب منذ أكثر من عشرين سنة يخططون لإحلال العدو الإيراني محل العدو الإسرائيلي من خلال الترويج لفكرة أنَّ الخطر الفارسي أو الإيراني أشد من الخطر الإسرائيلي؟
لا أستبعد ذٰلكَ بحال من الأحوال فالعلاقات السرية بَيْنَ الحكام العرب وإسرائيل قائمة علىٰ قدم وساق بتفاصيل تسد عين الشمس منذ قيام إسرائيل إلىٰ ما قبل سنتين من الآن إذ بدأت العلاقات تكون علنية من دون أي رتوش أو ستائر.
ومع ذٰلكَ أقول لو أنَّهُم صادقون في التَّصدِّي للتَّمدُّد الإيراني بالتعاون مع إسرائيل لأمكن أن تلتمس لهم العذر وإن اضطررت أن تشرب أطنان الأدوية المخففة للصُّداع الذي سيأكل رأسك، ولٰكنَّهُم غير صادقين في ذٰلكَ أيضاً، يريدون إعادة كرة تخدير الشعب العربي عشرات من السِّنين القادمة حَتَّىٰ يجدوا لعبةً جديدةً ليخدروهم حقبة أُخْرَىٰ جديدةً. مكر بمكر لإبقاء الإسلام والمسلمين نياماً.

ــــــــــــ
ـــــــ
ـــ