كل العلوم فى خدمة التفسير


د. إبراهيم عوض


وعَوْدًا للضوابط التى أضفناها إلى ما ذكره القدماء من المعارف والعلوم التى يحتاجها المفسر حتى لا يضل فى بيداء التخبط والاعتساف والجهل نأخذ على سبيل المثال النقد الأدبى وكيف كان أداة نافعة ناجعة فى يد ناقد حساس كسيد قطب فى التغلغل إلى مناطق فى النص القرآنى الكريم لم يتنبه إليها المفسرون من قبل مع كل ما نكنه لهم من احترام وإكبار، لا لشىء إلا لأن سيد قطب، وهو هنا مجرد مثال، جاء بعدهم بوقت طويل كانت الدنيا قد تقدمت فيه تقدما هائلا فى كل مجالات العلم والمعرفة والفنون، ومن بينها ميدان النقد الأدبى، فانعكس هذا كله فى تفسيره. وإلا فلو كان سيد قطب قد اقتصر على ما قاله القدماء لم يخرج عنه، فأى معنى إذن للتقدم الحضارى والفكرى والثقافى والذوقى؟ ومن هنا رأيناه فى تفسيره يهتم أشد الاهتمام ببناء السورة التى يقوم بتفسيرها فيتحدث عن محورها الفكرى، وجوها النفسى، والظلال التى تغشّيها، والإيقاعات الموسيقية التى ترنّ فى جنباتها وكيف تتغير من قسم إلى قسم تبعا للمعنى والعاطفة وما إلى ذلك، كل هذا فى لغة مجنَّحة مرفرِفة تجعلك تعيش السورة معيشةً لا أن تقرأها فحسب. ذلك أن سيد قطب إنما يقبس، وهو يفسر القرآن، من ذَوْب الفؤاد لا من العقل البارد. وهو، كما نرى، يمزج النقد التحليلى بالنقد الانطباعى على نحو عجيب. ولنأخذ على سبيل التمثيل كلامه فى بداية سورة"مريم" قبل أن يدخل فى صلب تفسير الآيات، إذ هو فى مقدمة السورة إنما يُعْنَى بالخطوط العريضة لها دون الدخول فى التفاصيل.


يقول، رحمه الله، تحت عنوان "مقدمة السورة": "يدور سياق هذه السورة على محور التوحيد ونفي الولد والشريك، ويُلِمّ بقضية البعث القائمة على قضية التوحيد. هذا هو الموضوع الأساسي الذي تعالجه السورة كالشأن في السُّوَر المكية غالبا. والقصص هو مادة هذه السورة، فهي تبدأ بقصة زكريا ويحيى، فقصة مريم ومولد عيسى، فطرفٌ من قصة إبراهيم مع أبيه. ثم تعقبها إشارات إلى النبيين: إسحاق ويعقوب، وموسى وهرون، وإسماعيل، وإدريس، وآدم ونوح. ويستغرق هذا القصص حوالي ثلثي السورة، ويستهدف إثبات الوحدانية والبعث، ونفي الولد والشريك، وبيان منهج المهتدين ومنهج الضالين من أتباع النبيين، ومن ثم بعض مشاهد القيامة، وبعض الجدل مع المنكرين للبعث، واستنكار للشرك ودعوى الولد، وعرض لمصارع المشركين والمكذبين في الدنيا وفي الآخرة. وكله يتناسق مع اتجاه القصص في السورة ويتجمع حول محورها الأصيل. وللسورة كلها جو خاص يظللها ويشيع فيها، ويتمشى في موضوعاتها. إن سياق هذه السورة مَعْرِضٌ للانفعالات والمشاعر القوية: الانفعالات في النفس البشرية، وفي "نفس" الكون من حولها. فهذا الكون الذي نتصوره جمادا لا حس له يُعْرَض في السياق ذا نفس وحس ومشاعر وانفعالات تشارك في رسم الجو العام للسورة حيث نرى السماوات والأرض والجبال تغضب وتنفعل حتى لتكاد تنفطر وتنشق وتنهد استنكارا "أَنْ دَعَوْا للرحمن ولدا* وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا". أما الانفعالات في النفس البشرية فتبدأ مع مفتتح السورة وتنتهي مع ختامها. والقصص الرئيسي فيها حافل بهذه الانفعالات في مواقفه العنيفة العميقة، وبخاصة في قصة مريم وميلاد عيسى.

والظل الغالب في الجو هو ظل الرحمة والرضى والاتصال. فهي تبدأ بذكر رحمة الله لعبده زكريا: "ذكر رحمة ربك عبده زكريا"، وهو يناجي ربه نجاء: "إذ نادى ربه نداء خفيا". ويتكرر لفظ "الرحمة" ومعناها وظلها في ثنايا السورة كثيرا، ويكثر فيها اسم "الرحمن"، ويصوَّر النعيم الذي يلقاه المؤمنون به في صورة ود: "إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا". ويذكر من نعمة الله على يحيى أن آتاه الله حنانا: "وحنانا من لَدُنّا وزكاةً وكان تقيا". ومن نعمة الله على عيسى أن جعله بَرًّا بوالدته وديعا لطيفا: "وبَرًّا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا". وإنك لتحس لمسات الرحمة الندية ودبيبها اللطيف في الكلمات والعبارات والظلال، كما تحس انتفاضات الكون وارتجافاته لوقع كلمة الشرك التي لا تطيقها فطرته. كذلك تحس أن للسورة إيقاعا موسيقيا خاصا، فحتى جرس ألفاظها وفواصلها فيه رخاء، وفيه عمق: "رَضِيًّا. سَرِيًّا. حَفِيًّا. نَجِيًا". فأما المواضع التي تقتضي الشد والعنف، فتجيء فيها الفاصلة مشددة: "دالا" في الغالب: "مَدًّا. ضِدًّا. إِدًّا. هَدًّا"، أو "زايا": "عِزًّا. أَزًّا".

وتنوُّع الإيقاع الموسيقي والفاصلة والقافية بتنوع الجو والموضوع يبدو جليا في هذه السورة، فهي تبدأ بقصة زكريا ويحيى فتسير الفاصلة والقافية هكذا: "ذِكْرُ رحمة ربك عبدَه زكريا* إذ نادى ربه نداء خفيا...إلخ"، وتليها قصة مريم وعيسى فتسير الفاصلة والقافية على النظام نفسه: "واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيا* فاتخذت مِنْ دونهم حِجَابا فأرسلنا إليها روحنا فتَمَثَّلَ لها بشرا سويا...إلخإلى أن ينتهي القصص ويجيء التعقيب لتقرير حقيقة عيسى بن مريم، وللفصل في قضية بنوته، فيختلف نظام الفواصل والقوافي: تطول الفاصلة، وتنتهي القافية بحرف الميم أو النون المستقر الساكن عند الوقف لا بالياء الممدودة الرخية، على النحو التالى: "ذلك عيسى ابن مريم قَوْلَ الحق الذي فيه يَمْتَرُون* ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضي أمرا فإنما يقول له: كن فيكون...إلخ".حتى إذا انتهى التقرير والفصل وعاد السياق إلى القصص عادت القافية الرخية المديدة: "واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا نبيا* إذ قال لأبيه:يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا...إلخ". حتى إذا جاء ذكر المكذبين وما ينتظرهم من عذاب وانتقام تغيَّرَ الإيقاع الموسيقي وجَرْس القافية: "قل من كان في الضلالة فلْيَمْدُدْ له الرحمنُ مَدًّا* حتى إذا رَأَوْا ما يُوعَدون إما العذاب وإما الساعة فسيعلمون مَنْ هو شَرٌّ مكانا وأضعف جندا...إلخ". وفي موضع الاستنكار يشتد الـجَرْس والنغم بتشديد الدال: "وقالوا اتخذ الرحمن ولدا* لقد جئتم شيئا إدًّا* تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتحز الجبال هَدًّا...إلخ". وهكذا يسير الإيقاع الموسيقي في السورة وفق المعنى والجو، ويشارك في إبقاء الظل الذي يتناسق مع المعنى في ثنايا السورة وفق انتقالات السياق من جو إلى جو، ومن معنى إلى معنى".

هذا فى الخطوط العامة، فأما فى التفصيلات فلنستمع إلى ما يقوله فى كلماتٍ، مثل: "جُرُزًا" أو "كُبْكِبوا" أو "يصطرخون"، أو صُوَرٍ، مثل: "والصبح إذا تنفس": لنستمع إليه وهو يقول تعقيبا على قوله تعالى من سورة "الكهف": "وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جُرُزًا": "ونهاية هذه الزينة محتومة، فستعود الأرض مجردة منها، وسيهلك كل ما عليها، فتصبح قبل يوم القيامة سطحا أجرد خشنا جدبا: "وإنا لجاعلون ما عليها صعيدًا جُرُزًا". وفي التعبير صرامة، وفي المشهد الذي يرسمه كذلك. وكلمة "جُرُزًا" تصور معنى الجدب بجَرْسها اللفظي، كما أن كلمة "صعيدا" ترسم مشهد الاستواء والصلادة". وفى التعليق على قوله تعالى من سورة "الشعراء" عن الكافرين وما ينتظرهم من عذاب الجحيم: "فكُبْكِبُوا فيها هم والغاوون" نراه يقول: "كُبْكِبُوا: وإننا لنكاد نسمع مِنْ جَرْس اللفظ صوت تدفُّعهم وتكفُّئهم وتساقطهم بلا عناية ولا نظام، وصوت الكركبة الناشئ من الكبكبة كما ينهار الـجُرُف فتتبعه الـجُرُوف، فهو لفظٌ مصوِّرٌ بجَرْسِه لمعناه". ولَدُنْ تعرضه لآية سورة "فاطر" التى تتحدث عن صراخ الكافرين فى النار واستغاثتهم بربهم أن يخرجهم من العذاب الرهيب الذى يصطلونه ويعيدهم إلى الدنيا كرة أخرى حتى يعملوا صالحا بدلا من الكفر والإجرام الذى اقترفوه: "وهم يصطرخون فيها: ربنا، أَخْرِجْنا نعملْ صالحا غير الذى كنا نعمل" يقول مفسرنا الكبير: "ثم ها نحن أولاء يطرق أسماعنا صوت غليظ محشرج مختلط الأصداء، متناوح من شتى الأرجاء. إنه صوت المنبوذين في جهنم: "وهم يصطرخون فيها". وجَرْس اللفظ نفسه يلقي في الحس هذه المعاني جميعًا ، فلنتبين من ذلك الصوت الغليظ ماذا يقول. إنه يقول: "ربنا أخرجنا نعمل صالحًا غير الذي كنا نعمل". إنه الإنابة والاعتراف والندم إذن، ولكن بعد فوات الأوان، فها نحن أولاء نسمع الرد الحاسم يحمل التأنيب القاسي: "أو لم نعمِّركم ما يتذكر فيه من تَذَكَّر؟"، فلم تنتفعوا بهذه الفسحة من العمر، وهي كافية للتذكر لمن أراد أن يتذكر؟ "وجاءكم النذير" زيادةً في التنبيه والتحذير، فلم تتذكروا ولم تحذروا، "فذوقوا فما للظالمين من نصير". إنهما صورتان متقابلتان: صورة الأمن والراحة تقابلها صورة القلق والاضطراب، ونغمة الشكر والدعاء تقابلها ضجة الاصطراخ والنداء، ومظهر العناية والتكريم يقابله مظهر الإهمال والتأنيب، والجرْس الليّن والإيقاع الرتيب يقابلهما الجرْس الغليظ والإيقاع العنيف، فيتم التقابل، ويتم التناسق في الجزئيات وفي الكليات سواء".

وفى استنطاقه لما تضمّه آيات سورة "التكوير" التالية من صُوَرٍ بديعةٍ يقول سيد قطب فى تفسير قوله جل شأنه: "فلا أقسم بالخُنَّس* الجَوَارِ الكُنَّس* والليل إذا عَسْعَس* والصبح إذا تنفَّس* إنه لقول رسول كريم* ذي قوة عند ذي العرش مكين* مطاعٍ ثَمّ أمين* وما صاحبكم بمجنون* ولقد رآه بالأفق المبين* وما هو على الغيب بضنين* وما هو بقول شيطان رجيم* فأين تذهبون* إن هو إلا ذِكْرٌ للعالمين* لمن شاء منكم أن يستقيم* وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين": "و"الـخُنَّس الجَوَاِر الكُنَّس" هي الكواكب التي تَخْنِس، أي ترجع في دورتها الفلكية وتجري وتختفي. والتعبير يخلع عليها حياة رشيقة كحياة الظباء وهي تجري وتختبئ في كِنَاسها وترجع من ناحية أخرى. فهناك حياة تنبض من خلال التعبير الرشيق الأنيق عن هذه الكواكب، وهناك إيحاء شعوري بالجمال في حركتها: في اختفائها وفي ظهورها، في تواريها وفي سفورها، في جريها وفي عودتها، يقابله إيحاء بالجمال في شكل اللفظ وجرسه. "والليل إذا عَسْعَس"، أي إذا أظلم. ولكن اللفظ فيه تلك الإيحاءات كذلك. فلفظ "عسعس" مؤلَّف من مقطعين: "عَسْ عَسْ"، وهو يوحي بجَرْسِه بحياة في هذا الليل وهو يَعِسّ في الظلام بيده أو برجله لا يرى! "وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ* إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ* ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ* مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ* وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ* وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ الْمُبِينِ* وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ". وهو إيحاء عجيب واختيار للتعبير رائع. ومثله "والصبح إذا تنفس"، بل هو أظهر حيوية، وأشد إيحاء. والصبح حي يتنفس، أنفاسه النور والحياة والحركة التي تدب في كل حي. وأكاد أجزم أن اللغة العربية بكل مأثوراتها التعبيرية لا تحتوي نظيرا لهذا التعبير عن الصبح. ورؤية الفجر تكاد تُشْعِر القلب المتفتح أنه بالفعل يتنفس! ثم يجيء هذا التعبير فيصور هذه الحقيقة التي يشعر بها القلب المتفتح. وكل متذوق لجمال التعبير والتصوير يدرك أن قوله تعالى: "فلا أقسم بالـخُنَّس* الجوار الكُنَّس* والليل إذا عَسْعَس* والصبح إذا تنفَّس" ثروة شعورية وتعبيرية فوق ما يشير إليه من حقائق كونية، ثروة جميلة بديعة رشيقة تضاف إلى رصيد البشرية من المشاعر، وهي تستقبل هذه الظواهر الكونية بالحس الشاعر".

ثم ها هو ذا ناقدنا، رحمه الله، يتناول قصة يوسف فى صفحات مطولة كما وردت فى السورة المسماة بذلك الاسم، مما نحب أن نورد بعضه هنا ليرى القارئ بنفسه كيف أن الاستعانة بالنقد الأدبى فى تفسير كتاب الله من شأنها أن تزيدنا فهما له وتذوقا وإحساسا بعظمته وتفرده وتعمقا فى أغواره. يقول سيد قطب: "إن قصة يوسف كما جاءت في هذه السورة تمثل النموذج الكامل لمنهج الإسلام في الأداء الفني للقصة بقدر ما تمثل النموذج الكامل لهذا المنهج في الأداء النفسير والعقيدي والتربوي والحركي أيضا. ومع أن المنهج القرآني واحد في موضوعه وفي أدائه، إلا أن قصة يوسف تبدو وكأنها المعرض المتخصص في عرض هذا المنهج من الناحية الفنية للأداء! إن القصة تعرض شخصية يوسف عليه السلام، وهي الشخصية الرئيسية في القصة، عرضا كاملا في كل مجالات حياتها بكل جوانب هذه الحياة، وبكل استجابات هذه الشخصية في هذه الجوانب وفي تلك المجالات. وتعرض أنواع الابتلاءات التي تعرضت لها تلك الشخصية الرئيسية في القصة، وهي ابتلاءات متنوعة في طبيعتها وفي اتجاهاتها: ابتلاءات الشدة وابتلاءات الرخاء، وابتلاءات الفتنة بالشهوة والفتنة بالسلطان، وابتلاءات الفتنة بالانفعالات والمشاعر البشرية تجاه شتى المواقف وشتى الشخصيات. ويخرج العبد الصالح من هذه الابتلاءات والفتن كلها نقيا خالصا متجردا في وقفته الأخيرة، متجها إلى ربه بذلك الدعاء المنيب الخاشع كما أسلفنا في نهاية الفقرة السابقة.

وإلى جانب عرض الشخصية الرئيسية في القصة تعرض الشخصيات المحيطة بدرجات متفاوتة من التركيز، وفي مساحات متناسبة من رقعة العرض، وعلى أبعاد متفاوتة من مركز الرؤية، وفي أوضاع خاصة من الأضواء والظلال. وتتعامل القصة مع النفس البشرية في واقعيتها الكاملة متمثلة في نماذج متنوعة: نموذج يعقوب الوالد المحب الملهوف، والنبي المطمئن الموصول. ونموذج إخوة يوسف وهواتف الغيرة والحسد والحقد والمؤامرة والمناورة، ومواجهة آثار الجريمة، والضعف والحيرة أمام هذه المواجهة، متميزا فيهم أحدهم بشخصية موحدة السمات في كل مراحل القصة ومواقفها. ونموذج امرأة العزيز بكل غرائزها ورغائبها واندفاعاتها الأنثوية كما تصنعها وتوجهها البيئة المصرية الجاهلية في بلاط الملوك، إلى جانب طابعها الشخصي الخاص الواضح في تصرفها وضوح انطباعات البيئة. ونموذج النسوة من طبقة العِلْيَة في مصر الجاهلية، والأضواء التي تلقيها على البيئة، ومنطقها كما يتجلى في كلام النسوة عن امرأة العزيز وفتاها، وفي إغرائهن كذلك ليوسف وتهديد امرأة العزيز له في مواجهتهن جميعا، وما وراء أستار القصور ودسائسها ومناوراتها كما يتجلى في سجن يوسف بصفة خاصة. ونموذج "العزيز"، وعليه ظلال طبقته وبيئته في مواجهة جرائم الشرف من خلال مجتمعه! ونموذج "الملك" في خطفة يتوارى بعدها كما توارى العزيز في منطقة الظلال بعيدا عن منطقة الأضواء في مجال العرض المتناسق. وتبرز الملامح البشرية واضحة صادقة بواقعية كاملة في هذا الحشد من الشخصيات والبيئات، وهذا الحشد من المواقف والمشاهد، وهذا الحشد من الحركات والمشاعر.

ومع استيفاء القصة لكل ملامح "الواقعية" السليمة المتكاملة وخصائصها في كل شخصية وفي كل موقف وفي كل خالجة، فإنها تمثل النموذج الكامل لمنهج الإسلام في الأداء الفني للقصة، ذلك الأداء الصادق الرائع بصدقه العميق وواقعيته السليمة. المنهج الذي لا يهمل خلجة بشرية واقعية واحدة، وفي الوقت ذاته لا ينشئ مستنقعا من الوحل يسميه: "الواقعية " كالمستنقع الذي أنشأته "الواقعية" الغربية الجاهلية! وقد ألمت القصة بألوان من الضعف البشري بما فيها لحظة الضعف الجنسي، ودون أن تزوّر أي تزوير في تصوير النفس البشرية بواقعيتها الكاملة في هذه المواقف، ودون أن تغفل أية لمحة حقيقية من لمحات النفس أو الموقف. فإنها لم تُسِفّ قط لتنشئ ذلك المستنقع المقزز للفطرة السليمة، ذلك الذي يسمونه في جاهلية القرن العشرين: "الواقعية" أو يسمونه أخيرا: "الطبيعية". وظلت القصة صورة نظيفة للأداء الواقعي الكامل مع تنوع الشخصيات وتنوع المواقف:... امرأة العزيز في صراع الشهوة التي تعمي عن كل شيء في اندفاعها الهائج الكاسح، فلا تحفل حياء أنثويا ولا كبرياء ذاتيا، كما لا تحفل مركزا اجتماعيا ولا فضيحة عائلية، والتي تستخدم مع ذلك كل مكر الأنثى وكيدها، سواء في تبرئة نفسها أو حماية من تهوى من جرائر التهمة التي ألصقتها به، وتحديد عقوبة لا تودي بحياته! أو رد الكيد للنسوة من ثغرة الضعف الغريزي الشهوي الذي تعرفه فيهن من معرفتها لنفسها! أو التبجح بشهوانيتها أمام انكشاف ضعف عزيمتها وكبريائها أمام من تهوى، ووقوف نسوتها معها على أرض واحدة حيث تبدو فيها الأنثى متجردة من كل تجمل المرأة وحيائها، الأنثى التي لا تحس في إرواء هواتفها الأنثوية أمرا يعاب أصلا! ومع صدق التصوير والتعبير عن هذا النموذج البشري الخاص بكل واقعيته، وعن هذه اللحظة الخاصة بكل طبيعيتها، فإن الأداء القرآني الذي ينبغي أن يكون هو النموذج الأعلى للأداء الفني الإسلامي لم يتخلّ عن طابعه النظيف مرة واحدة حتى وهو يصور لحظة التعري النفسي والجسدي الكامل بكل اندفاعها وحيوانيتها لينشئ ذلك المستنقع الكريه الذي يتمرغ في وحله كُتّاب "القصة الواقعية" وكتاب "القصة الطبيعية" في هذه الجاهلية النكدة بحجة الكمال الفني في الأداء!...

وكذلك حين نلتقي بها مرة أخرى بعدما دخل يوسف السجن بسبب كيدها وكيد النسوة وبقي هناك حتى رأى الملِك رؤياه، وتذكر الفتى الذي كان سجينا معه أن يوسف هو وحده الذي يعرف تأويل الرؤيا، فطلب الملك أن يأتوه به، فأبى حتى يحقق قضيته ويبريء ساحته، فاستدعاها الملك مع النسوة، وإذا بها ما تزال المرأة المحبة، مع التغير الطبيعي الواقعي الذي يحدثه الزمن والعمر والأحداث والظروف، ومع تسرب الإيمان الذي تعرفه من يوسف من خلال تلك المشاعر والمؤثرات جميعا...

ويوسف العبد الصالح الإنسان لم يزوّر الأداء القرآني في شخصيته الإنسانية لمحة واحدة وهو يواجه الفتنة بكل بشريته مع نشأته في بيت النبوة، وتربيته ودينه وبشريته تمثل بمجموعها واقعيته بكل جوانبها. لقد ضعف حين همت به حتى هم بها، ولكن الخيط الآخر شده وأنقذه من السقوط فعلا. ولقد شعر بضعفه إزاء كيد النسوة ومنطق البيئة وجو القصور، ونسوة القصور أيضا! ولكنه تمسك بالعروة الوثقى. ليست هنالك لمحة واحدة مزورة في واقعية الشخصية وطبيعتها، وليس هنالك رائحة من مستنقعات الجاهلية ووحلها الفني! ذلك أن هذا هو الواقع السليم بكل جوانبه...

والواقعية الصادقة الأمينة النظيفة السليمة في الوقت نفسه لا تقف عند واقعية الشخصيات الإنسانية التي تحفل بها القصة في هذا المجال الواسع على هذا المستوى الرائع، ولكنها تتجلى كذلك في واقعية الأحداث والسرد والعرض وصدقها وطبيعيتها في مكانها وزمانها، وفي بيئتها وملابساتها. فكل حركة وكل خالجة وكل كلمة تجيء في أوانها، وتجيء في الصورة المتوقعة لها، وتجيء في مكانها من مسرح العرض متراوحة بين منطقة الظل ومنطقة الضوء بحسب أهميتها ودورها وطبيعة جريان الحياة بها...

حتى لحظات الجنس في القصة ومواقفه أخذت مساحتها كاملة في حدود المنهج النظيف اللائق "بالإنسان" في غير تزوير ولا نقص ولا تحريف للواقعية البشرية في شمولها وصدقها وتكاملها. ولكن استيفاء تلك اللحظات لمساحتها المتناسقة مع بقية الأحداث والمواقف لم يكن معناه الوقوف أمامها كما لو كانت هي كل واقعية الكائن البشري، وكما لو كانت هي محور حياته كلها، وهي كل أهداف حياته التي تستغرقها كما تحاول الجاهلية أن تفهمنا أن هذا وحده هو الفن الصادق! إن الجاهلية إنما تمسخ الكائن البشري باسم الصدق الفني! وهي تقف أمام لحظة الجنس كما لو كانت هي كل وجهة الحياة البشرية بجملتها فتنشئ منها مستنقعا واسعا عميقا، مزينا في الوقت ذاته بالأزهار الشيطانية! وهي لا تفعل هذا لأن هذا هو الواقع، ولا لأنها هي مخلصة في تصوير هذا الواقع! إنما تفعله لأن "بروتوكولات صهيون" تريد هذا! تريد تجريد "الإنسان" إلا من حيوانيته حتى لا يُوصَم اليهود وحدهم بأنهم هم الذين يتجردون من كل القيم غير المادية! وتريد أن تغرق البشرية كلها في وحل المستنقع كي تنحصر فيه كل اهتماماتها، وتستغرق فيه كل طاقاتها. فهذه هي أضمن سبيل لتدمير البشرية حتى تجثو على ركبتيها خاضعة لملك صهيون المرتقب الملعون! ثم تتخذ من الفن وسيلة إلى هذا الشر كله، إلى جانب ما تتخذه من نشر المذاهب "العلمية!" المؤدية إلى ذات الهدف: تارة باسم "الدَّارْوِينِيّة"، وتارة باسم "الفُرُويْدِيّة"، وتارة باسم "الماركسية" أو "الاشتراكية العلمية". وكلها سواء في تحقيق المخططات الصهيونية الرهيبة!

والقصة بعد ذلك تتجاوز الشخصيات والأحداث لترسم ظلال الفترة التاريخية التي تجري فيها أحداث القصة، وتتحرك فيها شخصياتها الكثيرة، وتسجل سماتها العامة، فترسم مسرح الأحداث بأبعاده العالمية في تلك الفترة التاريخية. ونكتفي ببعض اللمحات والسهام التي ترسم تلك الأبعاد: إن مصر في هذه الفترة لم يكن يحكمها الفراعنة من الأسر المصرية. إنما كان يحكمها "الرعاة" الذين عاش إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب قريبا منهم، فعرفوا شيئا عن دين الله منهم. نأخذ هذا من ذكر القرآن للمَلِك بلقب "المَلِك" في حين يسمَّى الملك الذي جاء على عهد موسى عليه السلام من بعد بلقبه المعروف: "فرعون". ومن هذا يتحدد زمن وجود يوسف عليه السلام في مصر، فهو كان ما بين عهد الأسرة الثالثة عشرة والأسرة السابعة عشرة، وهي أسر "الرعاة" الذين سماهم المصريون: "الهكسوس" كراهية لهم، إذ يقال إن معنى الكلمة في اللغة المصرية القديمة: "الخنازير" أو "رعاة الخنازير"! وهي فترة تستغرق نحو قرن ونصف قرن... تتجاوز "القصة" حدود الرقعة المصرية، وتسجل طابع العصر كله. فواضح تماما انطباع هذه الفترة الزمنية بالرؤى والتنبؤات التي لا تقتصر على أرض واحدة، ولا على قوم بأعيانهم. ونحن نرى هذه الظاهرة واضحة في رؤيا يوسف وتعبيرها وتأويلها في النهاية، وفي رؤيا الفتيين صاحبي السجن، وفي رؤيا الملك في النهاية، وكلها تُتَلَقَّى بالاهتمام سواء ممن يرونها أو ممن يسمعونها مما يَشِي بطابع العصر كله.

وعلى وجه الإجمال فإن القصة غنية بالعناصر الفنية، غنية كذلك بالعنصر الإنساني، حافلة بالانفعال والحركة. وطريقة الأداء تبرز هذه العناصر إبرازا قويا، فضلا على خصائص التعبير القرآنية الموحية المؤثرة ذات الإيقاع الموسيقي المناسب لكل جو من الأجواء التي يصورها السياق: في القصة يتجلى عنصر الحب الأبوي في صور ودرجات منوعة واضحة الخطوط والظلال: في حب يعقوب ليوسف وأخيه وحبه لبقية أبنائه، وفي استجاباته الشعورية للأحداث حول يوسف من أول القصة إلى آخرها. وعنصر الغيرة والتحاسد بين الإخوة من أمهات مختلفات بحسب ما يَرَوْنَ من تنوع صور الحب الأبوي. وعنصر التفاوت في الاستجابات المختلفة للغيرة والحسد في نفوس الإخوة: فبعضهم يقودهم هذا الشعور إلى إضمار جريمة القتل، وبعضهم يشير فقط بطرح يوسف في الجب تلتقطه بعض السيارة نفورا من الجريمة. وعنصر المكر والخداع في صور شتى من مكر إخوة يوسف به، إلى مكر امرأة العزيز بيوسف وبزوجها وبالنسوة. وعنصر الشهوة ونزواتها والاستجابة لها بالاندفاع أو بالإحجام، وبالإعجاب والتمني، والاعتصام والتأبي. وعنصر الندم في بعض ألوانه، والعفو في أوانه، والفرح بتجمع المتفارقين. وذلك إلى بعض صور المجتمع الجاهلي في طبقة العِلْيَة من الملأ: في البيت والسجن والسوق والديوان في مصر يومذاك، والمجتمع العبراني، وما يسود العصر من الرؤى والتنبؤات". ترى أيمكن القول بعد ذلك إن تفسير القرآن دون الاستعانة بالنقد الأدبى هو كتفسير القرآن مع الاستعانة بذلك النقد؟

ويدخل فى النقد الأدبى التحليلات الأسلوبية التى يمكن أن تساعد المفسر على تحديد الهوية التاريخية للسورة أو لقطعة منها: هل هى مكية أو مدنية؟ وكذلك فى دراسة الروايات التى يزعم أصحابها أن هذا النص أو ذاك كان فى القرآن ثم حُذِف أو نُسِخ، أو فى التفرقة بين أسلوب القرآن وأسلوب الحديث، كما هو الحال فى دراستى لمكية سورة "الرعد" و"طه" و"الرحمن" لحسم الخلاف حول مكيتها ومدنيتها، حيث يجد القارئ عشرات السمات الأسلوبية المكية التى استخلصتها من هذه السور فى الفصول الأولى من الكتب التى ألفتها عنها كما سبق القول، فلا لزوم إذن لإعادة الحديث فى هذا الأمر هنا. ومثل ذلك كتابى: "القرآن والحديث- مقارنة أسلوبية"، وهو بحث منهجى كبير من ستمائة صفحة مخصص لرصد عشرات الفروق بين أسلوب القرآن وأسلوب الحديث فى اللفظ والصيغة والعبارة والتركيب والصورة والبناء، علاوة على ما رصدتُه، ولكن على نحو غير منهجى، من تلك الفروق فى كتابى الآخر: "عَشْر لآلئ من كنوز السنة النبوية". ويحسن الرجوع إلى هذين الكتابين حتى يلم القارئ بما فيهما. وفضلا عن ذلك فقد وضعتُ دراسةً لجملتَىِ الغرانيق اللتين جاء فى بعض الروايات أن الناس سمعوهما حين كان الرسول يقرأ عليهم سورة "النجم" فى مكة عند نزولها، وإن اختلفت الروايات فى تفصيل ذلك: فمِنْ قائلٍ إنه عليه السلام قد سها فقرأهما فعلا، ثم نزل عليه جبريل فنبهه إلى هذا السهو وتم حذفهما. ومِنْ قائلٍ إن الشيطان قد انتهز فرصة قراءة النبى للسورة المذكورة، ودس بصوته هاتين الجملتين فتخيل السامعون أن قائلهما هو النبى. ومِنْ قائلٍ إن الزنادقة والملحدين هم الذين زيفوا هاتين الجملتين ونسبوهما إلى قراءة النبى عليه السلام. وهو ما تصديت له بالتحليل النفسى والعقلى والتاريخى للسورة كلها بما فيها الجملتان المزعومتان، فضلا عن التحليل الأسلوبى لهما، وهو التحليل الذى انتهى بى إلى أنهما يستحيل أن تكونا من نسيج القرآن.

ذلك أن أقل نظرة فى سورة "النجم" أو فى سيرة حياته صلى الله عليه وسلم كافية للقطع بأن تلك القصة لا يمكن أن تكون قد حدثت على هذا النحو الذى اخترعه بعض الزنادقة قديما، وأخذ أعداء الإسلام يرددونها دون فهم أو تبصر، حتى إن بلاشير المستشرق الفرنسى فى ترجمته الفرنسية للقرآن الكريم قد أقدم على شىء بلغ الغاية فى الشذوذ والخيانة العلمية، ألا وهو إثبات هاتين الآيتين المدَّعَاتَيْن فى نص ترجمته لسورة "النجم" بزعمهما آيتين قرآنيتين كانتا موجودتين فيها يوما. وقد تناول عدد من علماء المسلمين قديما وحديثا الروايات التى تتعلق بهاتين الآيتين المزعومتين وبينوا أنها لا تتمتع بأية مصداقية. والحقيقة إن النظر فى سورة "النجم" ليؤكد هذا الحكم الذى توصل إليه أولئك العلماء، فهذه السورة من أولها إلى آخرها عبارة عن حملة مدمدمة على المشركين وما يعبدون من أصنام بحيث لا يُعْقَل إمكان احتوائها على هاتين الآيتين المزعومتين، وإلا فكيف يمكن أن يتلاصق فيها الذم العنيف للأوثان والمدح الشديد لها؟ ترى هل يمكن مثلا تصوُّر أن ينهال شخص بالسب والإهانة على رأس إنسان ما، ثم إذا به فى غمرة انصبابه بصواعقه المحرقة عليه ينخرط فجأة فى فاصل من التقريظ، ليعود كرة أخرى فى الحال للسب والإهانة؟ هل يعقل أن يبلع العرب مثل هاتين الآيتين اللتين تمدحان آلهتهم، وهم يسمعون عقب ذلك قوله تعالى: "ألكم الذَّكَر وله الأنثى؟* تلك إذن قسمةٌ ضِيزَى* إن هى إلا أسماءٌ سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إنْ تتَّبعون إلا الظن وما تَهْوَى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى"؟ إن هذا أمر لا يمكن تصوره! كما أن وقائع حياته صلى الله عليه وسلم تجعلنا نستبعد تمام الاستبعاد أن تكون عزيمته قد ضعفت يوما، إذ كان مثال الصبر والإيمان بنصرة ربه لـه ولدعوته. ومواقفه من الكفار طوال ثلاثة وعشرين عاما وعدم استجابته فى مكة لوساطة عمه بينه وبينهم رغم ما كان يشعر به من حب واحترام عميق نحوه، وكذلك رفضه لما عرضوه عليه من المال والرئاسة، هى أقوى برهان على أنه ليس ذلك الشخص الذى يمكن أن يقع فى مثل هذا الضعف والتخاذل!

هذا، وقد أضفت طريقةً جديدةً للتحقق من أمر هاتين الآيتين هى الطريقة الأسلوبية، إذ نظرت فى الآيتين المذكورتين لأرى مدى مشابهتهما لسائر آيات القرآن فوجدت أنهما لا تمتان إليها بصلةٍ البتة. كيف ذلك؟ إن الآيتين المزعومتين تجعلان الأصنام الثلاثة مناطا للشفاعة يوم القيامة دون تعليقها على إذن الله، وهو ما لم يسنده القرآن فى أى موضع منه إلى أى كائن مهما تكن منزلته عنده سبحانه. ولن نذهب بعيدا للاستشهاد على ما نقول، فبعد هاتين الآيتين بخمس آيات فقط نقرأ قوله تعالى: " وكم مِنْ مَلَكٍ فى السماوات لا تُغْنِى شفاعتُهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويَرْضَى "، فكيف يقال هذا عن الملائكة فى ذات الوقت الذى تؤكد إحدى الآيتين المزعومتين أن شفاعة الأصنام الثلاثة جديرة بالرجاء من غير تعليق لها على إذن الله؟ ثم إنه قد ورد فى الآية الثانية من آيتى الغرانيق كلمة " تُرْتَجَى "، وهى أيضا غريبة على الأسلوب القرآنى، إذ ليس فى القرآن المجيد أى فعل من مادة "ر ج و" على صيغة "افتعل". أما ما جاء فى إحدى الروايات من أن نص الآية هو: "وإنّ شفاعتهن لَتُرْتَضَى"، فالرد عليه هو أن هذه الكلمة، وإنْ وردت فى القرآن ثلاث مرات، لم تقع فى أى منها على "الشفاعة"، وإنما تُسْتَخْدَم مع الشفاعة عادةً الأفعال التالية: "تنفع، تغنى، يملك".

كذلك فقد بدأت مجموعةُ الآيات التى تتحدث عن اللات والعُزَّى ومناة بقوله عَزَّ شأنُه: "أ(فـ)ـرأيتم...؟"، وهذا التركيب قد تكرر فى القرآن إحدى وعشرين مرة كلها فى خطاب الكفار، ولم يُسْتَعْمَل فى أى منها فى ملاينة أو تلطف، بل ورد فيها جميعا فى مواقف الخصومة والتهكم وما إلى ذلك بسبيل كما فى الشواهد التالية: "قل: أرأيتم إن أتاكم عذابُه بَيَاتًا أو نهارا ماذا يستعجل منه المجرمون؟" (يونس/ 50)، "قل: أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزقٍ فجعلتم منه حلالا وحراما، قل: آللهُ أَذِنَ لكم أم على الله تفترون؟" (يونس/ 59)، "قل: أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به وشَهِد شاهدٌ من بنى إسرائيل على مِثلِْه فآمن واستكبرتم؟ إن الله لا يهدى القوم الظالمين" (الأحقاف/ 10)، "أفرأيتم الماء الذى تشربون؟* أأنتم أنزلتموه من المُزْن أم نحن المُنْزِلون؟* لو نشاء جعلناه أُجَاجًا، فلولا تشكرون" (الواقعة/ 68 – 70). فكيف يمكن إذن أن يجىء هذا التركيب فى سورة "النجم" بالذات فى سياق ملاطفة الكفار ومراضاتهم بمدح آلهتهم؟ وفوق هذا لم يحدث أن أُضيفت كلمة "شفاعة" فى القرآن الكريم (فى حال مجيئها مضافة) إلا إلى الضمير "هم" على خلاف ما أتت عليه فى جُمْلَتَىِ الغرانيق من إضافتها إلى الضمير "هنّ".

وفضلا عن ذلك فتركيب الآية الأولى من الآيتين المزعومتين يتكون من "إنّ (وهى مؤكِّدة كما نعرف)+ ضمير (اسمها)+ اسم معرّف بالألف واللام (خبرها)"، وهذا التركيب لم يُسْتَعْمَل لـ" ذاتٍ عاقلةٍ" فى أى من المواضع التى ورد فيها فى القرآن الكريم (وهى تبلغ العشرات) إلا مع زيادة التأكيد لاسم "إنّ" بضميرٍ مثله كما فى الأمثلة التالية: "ألا إنهم هم المفسدون/ ألا إنهم هم السفهاء/ إنه هو التواب الرحيم/ إنك أنت السميع العليم/ إنك أنت التواب الرحيم/ إنه هو السميع العليم/ إنه هو العليم الحكيم/ إنه هو الغفور الرحيم/ إنى أنا النذير المبين/ إنه هو السميع البصير/ إننى أنا الله/ إنك أنت الأعلى/ إنا لنحن الغالبون/ إنه هو العزيز الحكيم/ وإنا لنحن الصافّون/ وإنا لنحن المسبِّحون/ إنهم لهم المنصورون/ إنك أنت الوهاب/ إنه هو السميع البصير/ إنه هو العزيز الرحيم/ إنك أنت العزيز الكريم/ إنه هو الحكيم العليم/ إنه هو البَرّ الرحيم/ ألا إنهم هم الكاذبون/ فإن الله هو الغنى الحميد". أما فى المرة الوحيدة التى ورد التركيب المذكور دون زيادة التأكيد لاسم "إنّ" بضميرٍ مثله (وذلك فى قوله تعالى: "إنه الحق من ربك"/ هود/ 17) فلم يكن الضمير عائدا على ذات عاقلة، إذ الكلام فيها عن القرآن. ولو كان الرسول يريد التقرب إلى المشركين بمدح آلهتهم لكان قد زاد تأكيد الضمير العائد عليها بضميرٍ مثله على عادة القرآن الكريم بوصفها "ذواتٍ عاقلةً " ما داموا يعتقدون أنها آلهة. وعلى ذلك فإن التركيب فى أُولَى جُمْلَتَىِ الغرانيق هو أيضا تركيب غريب على أسلوب القرآن الكريم.

كما أن كلمة "الغرانيق"، جمعا أو مفردا، لم ترد فى القرآن الكريم على اتساعه المتناوح، لا وصفا للأصنام ولا لأى شىء آخر، فلماذا تنفرد تلك الآية بورود تلك الكلمة فيها؟ وهذا، على الأقل، دليلٌ مُقَوٍّ للأدلة التى مرت آنفا. بل إنى لأستبعد أن تكون كلمة "الغرانيق" قد وردت فى أى من الأحاديث التى قالها النبى عليه الصلاة والسلام. وينبغى أن نضيف إلى ما مرّ أن كُتُب الصِّحَاح لم يرد فيها أى ذكر لهذه الرواية، ومثلها فى ذلك ما كتبه ابن هشام وأمثاله فى السيرة النبوية. مما سبق يتأكد لنا على نحوٍ قاطعٍ أن الآيتين المذكورتين ليستا من القرآن، وليس القرآن منهما، فى قليل أو كثير.

ولقد قرأت فى كتاب "الأصنام" لابن الكلبى (تحقيق أحمد زكى/ الدار القومية للطباعة والنشر/ 19) أن المشركين كانوا يرددون هاتين العبارتين فى الجاهلية تعظيما للأصنام الثلاثة ، ومن ثم فإنى لا أستطيع إلا أن أتفق مع ما طرحه سيد أمير على من تفسير لما يمكن أن يكون قد حدث، بناءً على ما ورد من روايات فى هذا الموضوع، إذ يرى أن النبى، عندما كان يقرأ سورة "النجم" وبلغ الآيات التى تهاجم الأصنام الثلاثة، توقَّع بعضُ المشركين ما سيأتى فسارع إلى ترديد هاتين العبارتين فى محاولة لصرف مسار الحـــديث إلى المـدح بـدلا من الــذم والتوبيخ (Ameer Ali, The Spirit of Islam, Chatto and Windus, London, 1978, P.134). وقد كان الكفار فى كثير من الأحيان إذا سمعوا القرآن أحدثوا لَغْطًا ولَغْوًا كى يصرفوا الحاضرين عما تقوله آياته الكريمة (فُصِّلَتْ/ 26)، فهذا الذى يقوله الكاتب الهندى هو من ذلك الباب. ولتقريب الأمر أمثِّل لهذه الطريقة بواقعة كنت من شهودها، إذ كان رئيس ومرؤوسه يتعاتبان منذ أعوام فى حضورى أنا وبعض الزملاء، وكان الرئيس يتهم المرؤوس المسكين بأنه يكرهه، والآخر يحاول أن يبرئ نفسه عبثا لأنه كان معروفا عنه خوضه فى سيرة رئيسه فى كل مكان. وفى نوبة يأس أسرع قائلا وهو يؤكد كلامه بكل ما لديه من قوة: "إن ما بينى وبينك عميق!"، فما كان من زميل معروف بحضور بديهته وسرعة ردوده التى تحوِّل مجرى الحديث من وجهته إلى وجهة أخرى معاكسة إلا أن تدخل قائلا فى سرعة عجيبة كأنه يكمل كلاما ناقصا: "فعلا! عميقٌ لا يُعْبَر". وهنا أمسك الرئيس بهذه العبارة وعدَّها ملخِّصةً أحسن تلخيص للموقف ولمشاعر مرؤوسه المزنوق الذى يحاول التنصل مما يُنْسَب إليه! ومن ذلك أيضا ما كان بعض معارفنا من مدرسى المرحلة الثانوية يعابث به تلميذاته إذا رآهن قد أسرفن فى التحمس لقاسم أمين وإبراز أهمية الدور التى تؤديه المرأة فى الحياة، إذ كان، كلما ردّدن أمامه العبارة المشهورة فى هذا السياق من أن "وراء كل عظيم امرأة"، يجيبهن مرة: "طبعا وراءه لا أمامه، فهو صاحب الصدارة والتفوق، أما هى فتابعة لـه"، ومرة: "فعلا وراءه، والزمان طويل"، ومرة: "وراءه مسوِّدة عيشته"... وهكذا.

ونفس الدور قد أدته التحليلات الأسلوبية لحسم ما قيل من أنه كانت هناك سورتان قرآنيتان صغيرتان اسمهما "سورة الحَفْد" و"سورة الخَلْع"، ثم نُسِخَتا وتحولتا إلى دعاء يقوله المسلم فى صلاته. وهذا أولا نص السورتين المزعومتين: "اللهم إياك نعبد* ولك نصلى ونسجد* وإليك نسعى ونَحْفِد* نرجو رحمتك ونخشى عذابك* إن عذابك بالكفار ملحق"، "اللهم إنا نستعينك ونستغفرك* ونُثْنِى عليك ولا نَكْفُرك* ونخلع ونترك من يَفْجُرك". ومن أول نظرة نقول، ونحن موقنون بصحة ما نقول، إن هذه السطور لا تمتّ بأية وشيجة للقرآن الكريم، فالمنطق العقلى والتاريخى والنفسى لا يقبلها بتاتا، كما أن الروايات التى أوردت هذين النصين ترفض هى نفسها مثل هذا الزعم حسبما سنبين بعد قليل. علاوة على أن الأسلوب فيهما ليس هو الأسلوب القرآنى، ولا اللفتات هى اللفتات، ولا الروح هى الروح.

ونبدأ بالروايات. ولقد فتشت عن تينك السورتين فى كتب الحديث التسعة الرئيسية: البخارى ومسلم والترمذى والنسائى وأبى داود وابن ماجة والدارمى ومسند أحمد وموطأ مالك، فلم أجدهما. وأذكر أننى، وأنا صغير، كنت أحفظهما على أنهما من القنوت ليس إلا. والحق أنهما لا يمكن أن تكونا شيئا آخر سوى هذا. ولا أظن أنهما كانتا فى مصحف أُبَىّ بن كعب أو غيره، إذ لا يُعْقَل أن ينفرد أحد الصحابة دونهم جميعا بإثبات سورتين لا يعرفهما سائر المسلمين، وبخاصة إذا علمنا أن جمع القرآن كان يعتمد على أن يكون هناك شاهدان من الصحابة لكل نص، علاوة على مظاهرة الكتابة عند ذاك للذاكرة. فهل يُعْقَل أن يستمر أُبَىٌّ أو غير أُبَىٍّ رغم ذلك فى التمسك بظنه هو وحده بكون هذين النصين سورتبن قرآنيتين ويهمل آراء سائر الصحابة؟ وهذا لو كان للرواية وجه، وهو ما لا أظنه أبدا!

وقد أورد السجستانى فى كتابه: "المصاحف" رواية تقول إن أُبَيًّا اشترك فى كتابة المصحف الذى تم جمعه أيام أبى بكر، إذ كان رجال يُمْلُون عليه فيكتب (دار الكتب العلمية/ بيروت/ 15، وهو ما نجده أيضا فى "مسند أحمد" فى حديث أبى العالية الرياحى عن أُبَىّ بن كعب رضى الله عنه)، كما أورد (ص 33- 34) أكثر من رواية بأنه كان واحدا من اللجنة التى عينها عثمان لجمع الناس على مصحفٍ واحدٍ إمامٍ خشية الفتنة. ونفس الشىء نجده فى "فتح البارى بشرح صحيح البخارى" أثناء شرح الحديث الخاص بكتابة المصحف الأمّ على عهد عثمان، إذ يذكر ابن حجر نقلا عن ابن أبي داود من طريق محمد بن سيرين أن عثمان رضى الله عنه "جمع اثني عشر رجلا من قريش والأنصار، منهم أُبَيّ بن كعب". وفى "الصاحبى" لابن فارس رواية عن هانئ قال: "كنت عند عثمان رضي الله تعالى عنه، وهم يعرضون المصاحف، فأرسلني بكتِف شاه إلى أُبَيّ بن كعب فِيهَا "لَمْ يَتَسَنَّ" و"فأَمْهِل الكافرين" و"لا تبديل للخلق"، قال: فدعا بالدّواة فمحا إحدى اللامين وكتب "لخلق الله" ومحا "فأمهل" وكتب "فَمَهِّل" وكتب "لَمْ يَتَسَنَّهْ": ألحقَ فِيهَا هاءً". فلو كانت فى مصحفه تانك السورتان لقد كان يعتقد إذن أنهما قرآن فعلا، فلماذا لم يثر هذه المسألة على أعين الناس حينها وآذانهم؟ ولو كان فعل لكان قد رُوِىَ هذا الذى فعل. أليس كذلك؟ أمّا، ولم يصلنا شىء عن هذا، فمعناه أنه لم يُثِر الأمر وأنه لم يكن يعتقد أن هاتين السورتين من القرآن فعلا، إذ لا يُعْقَل أنه كان يؤمن بأنهما سورتان قرآنيتان ثم يسكت فلا يفاتح إخوانه الصحابة فى مثل ذلك الموضوع الخطير، فإما أقنعهم وإما أقنعوه! وقد ألقى أبو الحسن الأشعرى الضوء على جانب مهم فى تلك المسألة بقوله: "قد رأيت أنا مصحف أَنـَسٍ بالبصرة عند قومٍ من ولدِه، فوجدتُه مساويًا لمصحف الجماعة، وكان ولد أنسٍ يروي أنه خَطُّ أنـََسٍ وإملاء أُبَيّ بن كعب". أما إيراد بعض علمائنا القدامى لمثل تلك الروايات فإن دلّ على شىء فعلى أنهم كانوا لا يتحرجون فى أمور العلم والبحث، بل كانوا يوردون كل شىء يصلهم، عارفين أن العقل الإسلامى قادر على تمحيصه وإنزاله منزله الصحيح. لقد كانوا فى الواقع أوفياء لمنهج الحياد فكانوا يثبتون كل ما يقع لهم دون خشية، وإن لم نشاطرهم موقفهم ذاك رغم كل شىء.

أما ما كتبه أحد القراء الأفاضل تعليقا على هذه الفقرات فى نسختها الأولى فى موقع "ملتقى أهل التفسير" بقوله: "حقيقة أن ما وصل إليه الشيخ الفاضل إبراهيم عوض من أن هاتين السورتين استقر الحال على القنوت بهما في النصف الثاني من رمضان أوافقه عليه لصحة الحديث بذلك عن سيدنا عمر رضي الله عنه كما عند ابن خزيمة. إلا أن ترجيح أنهما ليستا من القرآن فهذا محل نظر، بل الراجح كما ذهب إليه جماعة من العلماء أنهما من القرآن وأنهما مما نُسِخ لفظا وحكما. وكيف يستجيز سيدنا أُبَيٌّ وغيره من الصحابة كتابتهما في المصحف، وهما ليستا من القرآن؟ قال العلامة الشنقيطي (مالكي) في "أضواء البيان": ومثال نَسْخ الكتاب بالسُّنّة نسخ آية عشر رضعات تلاوةً وحكمًا بالسنة المتواترة، ونسخ سورة "الخلع" وسورة "الحفد" تلاوةً وحكمًا بالسُّنّة المتواترة. وسورة "الخلع" وسورة "الحفد" هما القنوت في الصبح عند المالكية. وقد أوضح صاحب "الدر المنثور" وغيره تحقيق أنهما كانتا سورتين من كتاب الله ثم نُسِخَتا. وقال الشيخ أحمد الطحاوي (حنفي) في حاشيته على "مراقي الفلاح": ذكر السيوطي أن دعاء القنوت من جملة الذي أنزله الله على النبي صلى الله عليه وسلم، وكانا سورتين، كلّ سورة ببسملة وفواصل: إحداهما تسمى: سورة "الخلع"، وهي: بسم الله الرحمن الرحيم اللهم إنا نستعينك... إلى قوله: من يكفرك. والأخرى تسمى: سورة "الحفد"، وهي: بسم الله الرحمن الرحيم اللهم إياك نعبد... إلى: ملحق. وقد اختلفت الصحابة في نَسْخهما، وكتبهما أُبَيٌّ في مصحفه، فعِدّة سور القرآن عنده مائة وست عشرة سورة. وقال الشيخ زكريا الأنصاري (شافعي) في "البهجة الوردية": وَرَأَيْتُ فِي رِسَالَةِ الإِمَامِ السُّيُوطِيّ أَنَّهُ كَانَ سُورَتَيْنِ أَنْزَلَهُمَا اللَّهُ كُلُّ وَاحِدَةٍ بِبَسْمَلَةٍ: تَنْتَهِي الأُولَى الْمُسَمَّاةُ: سُورَةَ "الْخُلْعِ" بِــ"يَفْجُرُكَ"، وَمَبْدَأُ الثَّانِيَةِ الْمُسَمَّاةِ: سُورَةَ "الْحَفْدِ": "إيَّاكَ". ثُمَّ اخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ فِيهِمَا هَلْ نُسِخَا أَمْ لا، حَتَّى كَتَبَهُمَا بَعْضُهُمْ فِي مُصْحَفٍ فَجَعَلَ عَدَدَ السُّوَرِ مِائَةً وَسِتَّةَ عَشَرَ سُورَةً. والله أعلم"، فرغم سعادتى به لدلالته على اهتمام القراء بالمسألة المطروحة فى تلك الدراسة ذلك الاهتمام العلمى الراقى وكذلك لنجاحه فى تحريك عقلى، فهو غير مقنع للأسباب التالية:

فأولا: كيف يقال إن السورتين قد نُسِخَتا لفظا، وهما ما زالتا موجودتين بألفاظهما؟ إن هذا كمن يقول: "سعيد غائبٌ حاضرٌ"، أو "حىٌّ ميتٌ" مثلا، وهو ما لا يجوز فى شرعة العقل. ثم ما معنى أنهما نُسِخَتا حكما؟ إنهما لا تتعرضان لمسألة تشريعية حتى يمكن أن يقال إن الحكم التشريعى الذى كان فيهما قد تغير. ومعروف أنه لا نسخ فى مسائل الاعتقادات والتاريخ، ويلحق بهما الأدعية، والسورتان منها. وعلى أية حال فما زلنا ندعو بالسورتين ولم يقل أحد إن الدعاء بهما أصبح لاغيا، فما القول إذن؟ وثانيا: كيف يقال إنهما قد نُسِختا، ومع ذلك يستمر أُبَىٌّ فى إثباتهما بمصحفه؟ والعجيب أن يستدل بعض العلماء على قرآنيتهما من وجودهما فى مصحف ذلك الصحابى الكريم، وكان الأحرى أن يتعجبوا من بقائهما فيه رغم ذلك بدلا من استدلالهم بهذا البقاء على أنهما من القرآن! وثالثا: هل من المعقول أن تُنْسَخ السورتان ولا يدور بين الصحابة أخذ ورد حول إبقاء أُبَىٍّ عليهما فى نسخته، بل يمرّ الأمر مرور الكرام، وكأن أمرهما من الهوان بمكان؟ ألا إن ذلك لأمرٌ غريبٌ وبعيدٌ جِدُّ بعيدٍ! ورابعا: إذا كان هذان النصان فى البداية قرآنا، فيا ترى ما حكمهما الآن؟ ألا يزالان قرآنا؟ إذن فهما لم يُنْسَخا؟ أم لم يعودا قرآنا؟ فكيف ننظر إليهما الآن إذن من ناحية الإعجاز مثلا؟ أما فتئا معجزين رغم زوال قرآنيتهما عنهما؟ كيف، ولا مُعْجِز من الكلام إلا القرآن؟ أم نقول إنهما قد زالت عنهما تلك الإعجازية؟ فكيف؟ نعم كيف يسع المسلمَ الزعمُ بأن كلام الله قد تحول وزالت عنه طبيعته التى كانت له؟ أم نقول إنهما لم يبقيا كلاما من كلام الله؟ ألا إن ذلك لخطيرٌ جِدُّ خطيرٍ! وخامسا: فإن الرد على التساؤل الهام الذى طرحه المعلق الكريم قائلا: كيف يستجيز سيدنا أبي وغيره من الصحابة كتابتهما في المصحف، وهما ليستا من القرآن؟ هو تساؤل لا يقل بل يزيد عنه أهمية، ألا وهو: وكيف يستجيز سائر الصحابة عدم إثباتهما فى مصاحفهم وهما من القرآن؟ وبهذا نعود إلى ما قلتُه آنفا من أنه ليس من المقبول منطقا ولا عقلا ولا شرعا أن نأخذ برأى أُبَىّ بن كعب وحده ونهمل آراء الصحابة أجمعين، وعلى رأسهم اللجنتان اللتان كُلِّفَتا فى عهد أبى بكر وعثمان بجمع القرآن! وهذا لو كان ثمة وجه لتلك الرواية القائلة بأن أبيا كان يثبتهما فى مصحفه، وهو ما قلت إننى غير مقتنع به. وقد وجدت ابن قتيبة يذهب إلى ما ذهبت إليه هنا، إذ عبر عن رأيه فى "تأويل مشكل القرآن" بقوله: "لا نقول إن أُبَيًّا رحمة الله عليه أصاب وحده، وأخطأ المهاجرون والأنصار كلهم رضوان الله عليهم، ولكن نقول: ذهب أُبَىٌّ فى دعاء القنوت إلى أنه من القرآن لأنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو به فى الصلاة دعاء دائما، فظن أنه من القرآن، وأقام على ظنه ومخالفة الصحابة".

واضح أن النصين لا يخرجان عن أن يكونا قنوتا كان عمر أو علىّ يقنت به بعد القيام من الركوع، أو عقب الانتهاء من قراءة السورة التى بعد الفاتحة وقبل أن يركع. ومعروف أن المسلمين لا يقنتون فى صلاتهم بالقرآن! وحتى لو ضَرَبْنا عن كل ما سبق صَفْحًا وقلنا إن الرواية صحيحة وإن أُبَيًّا كان رغم ذلك يعتقد أن هذين النصين سورتان قرآنيتان فعلا على عكس ما كان الصحابة جميعا يؤمنون، فإن هذا لا يعدو أن يكون اجتهادا منه لا يُلْزِم غيره، ومن ثم لا يمكن أن نأخذ بما لديه ونهمل موقف الصحابة على بَكْرَة أبيهم، إذ ليس هذا من المنهج العلمى ولا المنطق العقلى فى شىء.

وقد قرأت فى "المصنَّف" لابن أبى شيبة تحت عنوان "مَا يَدْعُو بِهِ فِي قُنُوتِ الْفَجْرَِ" عدة روايات تدل على أن هذين النصين ليسا إلا قنوتا، ومنها الروايات الثلاث التالية التى تغنينا عن ذكر سائرها: "حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ أَبِي لَيْلَى عَنْ عَطَاءٍ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ قَالَ: صَلَّيْت خَلْفَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ الْغَدَاةَ فَقَالَ فِي قُنُوتِهِ: اللَّهُمَّ إنَّا نَسْتَعِينُك وَنَسْتَغْفِرُك، وَنُثْنِي عَلَيْك الْخَيْرَ وَلا نَكْفُرُك، وَنَخْلَعُ وَنَتْرُكُ مَنْ يَفْجُرُكَ. اللَّهُمَّ إيَّاكَ نَعْبُدُ، وَلَك نُصَلِّي وَنَسْجُدُ، وَإِلَيْك نَسْعَى وَنَحْفِدُ، وَنَرْجُو رَحْمَتَك وَنَخْشَى عَذَابَك، إنَّ عَذَابَك بِالْكُفَّارِ مُلْحِق"، "حَدَّثَنَا وَكِيعٌ قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ سُوَيْد الْكَاهِلِيِّ أَنَّ عَلِيًّا قَنَتَ فِي الْفَجْرِ بِهَاتَيْنِ السُّورَتَيْنِ: اللَّهُمَّ إنَّا نَسْتَعِينُك وَنَسْتَغْفِرُك، وَنُثْنِي عَلَيْك الْخَيْرَ وَلا نَكْفُرُك، وَنَخْلَعُ وَنَتْرُكُ مَنْ يَفْجُرُكَ. اللَّهُمَّ إيَّاكَ نَعْبُدُ، وَلَك نُصَلِّي وَنَسْجُدُ، وَإِلَيْك نَسْعَى وَنَحْفِدُ، نَرْجُو رَحْمَتَك وَنَخْشَى عَذَابَك، إنَّ عَذَابَك الْجِدَّ بِالْكُفَّارِ مُلْحِقٌ"، "حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ قَالَ: أَخْبَرَنَا حُصَيْنٌ قَالَ: صَلَّيْت الْغَدَاةَ ذَاتَ يَوْمٍ وَصَلَّى خَلْفِي عُثْمَانُ بْنُ زِيَادٍ قَالَ: فَقَنَتُّ فِي صَلاةِ الصُّبْحِ قَالَ: فَلَمَّا قَضَيْتُ صَلاتِي قَالَ لِي: مَا قُلْتَ فِي قُنُوتِك؟ قَالَ: فَقُلْتُ: ذَكَرْتُ هَؤُلاءِ الْكَلِمَاتِ: اللَّهُمَّ إنَّا نَسْتَعِينُك وَنَسْتَغْفِرُك، وَنُثْنِي عَلَيْك الْخَيْرَ كُلَّهُ وَلا نَكْفُرُك، وَنَخْلَعُ وَنَتْرُكُ مَنْ يَفْجُرُكَ. اللَّهُمَّ إيَّاكَ نَعْبُدُ، وَلَك نُصَلِّي وَنَسْجُدُ، وَإِلَيْك نَسْعَى وَنَحْفِدُ، نَرْجُو رَحْمَتَك وَنَخْشَى عَذَابَك. إنَّ عَذَابَك الْجِدَّ بِالْكُفَّارِ مُلْحِقٌ. فَقَالَ عُثْمَانُ: كَذَا كَانَ يَصْنَعُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّان".

كما قرأت فى كتاب "التدوين فى أخبار قزوين" للإمام الرافعى أن هذين النصين قنوت من القنوت: "محمد بن أحمد بن جابارة أبو سليمان الجاباري القزويني سمع أبا طلحة الخطيب في "الطوالات" لأبي الحسن القطان بسماع الخطيب منه: أنبا أبو محمد الحارث بن محمد بن أبي أسامة: ثنا يزيد بن هارون: أنبأ أبان بن أبي عياش قال: سألت أنس بن مالك رضي الله عنه عن الكلام في القنوت، فقال: اللهم إنا نستعينك ونستغفرك، ونثني عليك الخير ولا نكفرك، ونؤمن بك ونخلع ونترك من يفجرك، اللهم إياك نعبد، ولك نصلي ونسجد، وإليك نسعى ونحفد، ونرجو رحمتك ونخشى عذابك الجد، إن عذابك بالكافرين ملحق. اللهم عذب الكفرة، وألق في قلوبهم الرعب، وخالف بين كلمتهم، وأنزل عليهم رِجْزَك وعذابك. اللهم عذب الكفرة أهل الكتاب الذين يصدون عن سبيلك، ويكذّبون رسلك ويجحدون بآياتك، ويجعلون معك إلهًا لا إله غيرك. اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، وأصلحهم واستصلحهم وألف بين قلوبهم وأصلح ذات بينهم، واجعل في قلوبهم الإيمان والحكمة وثبّتْهم على ملة رسولك، وأَوْزِعْهم أن يشكروا نعمتك التي أنعمت عليهم، وأن يوفوا بعهدك الذي عاهدتهم عليه، وانصرهم على عدوهم وعدوك إله الحق. قال أنس: والله إِنْ أُنْزِلَتا إلا من السماء".

وفى الإصدار العاشر من "تيسير الوصول إلى أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم" فى موقع "الدرر السنية" بحثت أيضا عن هذين النصين فوجدت أنهما، كما قلت وكما جاء فى الكتابين السابقين، لا يزيدان عن أن يكونا قنوتا. وهذا حديث من الأحاديث التى عثرت عليها فى هذا الصدد، وكلها تجرى على نفس المنوال: "أن عمر رضي الله عنه قنت بعد الركوع فقال: اللهم اغفر لنا وللمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، وألف بين قلوبهم، وأصلح ذات بينهم، وانصرهم على عدوك وعدوهم. اللهم العن كفرة أهل الكتاب، الذين يصدون عن سبيلك، ويكذبون رسلك، ويقاتلون أولياءك. اللهم خالف بين كلمتهم، وزلزل أقدامهم، وأنزل بهم بأسك الذي لا ترده عن القوم المجرمين. بسم الله الرحمن الرحيم، اللهم إنا نستعينك ونستغفرك، ونثني عليك ولا نكفرك، ونخلع ونترك من يفجرك. بسم الله الرحمن الرحيم، اللهم إياك نعبد، ولك نصلي ونسجد، ولك نسعى ونحفد، ونخشى عذابك الجد، ونرجو رحمتك، إن عذابك بالكافرين ملحق" (الراوي: عبيد بن عمير. خلاصة الدرجة: صحيح موصول. المحدث: البيهقي. المصدر: السنن الكبرى).

والآن نأتى إلى التحليل الأسلوبى رغم أن المنطق واتجاه الأحداث وتحليل الروايات يكفى تماما فى الحكم باستبعاد انتماء هذين النصين للقرآن المجيد دون نقض أو إبرام: وأول شىء نقوله فى هذا الصدد هو أن كلمة "اللهم" التى افْتُتِحت بها السورة الأولى المزعومة قد وردت فى القرآن خمس مرات لم تأت أى منها فى بداية أية سورة بتاتا.

ثانى شىء: لم يحدث أن ابتدأت أية سورة قرآنية بمناداة الله، وإنما بمناداة البشر: "يا أيها الناس"، "يا أيها الذين آمنوا"، "يا أيها المـُزَّمِّل"، "يا أيها المــُدَّثِّر".

ثالث شىء: لم تأت كلمة "اللهم" فى أية سورة إلا وسبقتها كلمة تدل على "القول" لفظا أو معنى. وهذه هى المرات الخمس المذكورة نسوقها أمام القارئ ليكون على بينة خالصة مما نقول واطمئنان تام إليه:

"قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" (آل عمران/ 26).

"قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لأَوَّلِنَا وَآَخِرِنَا وَآَيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيرُ الرَّازِقِينَ" (المائدة/ 114).

"وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ" (الأنفال/ 32).

"دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ وَآَخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ" (يونس/ 10).

"قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ" (الزمر/ 46).

رابع شىء: لم يرد بعد النداء بكلمة "اللهم" فى القرآن أى ضمير، فضلا عن أن يكون هذا الضمير منفصلا كـ"إياك" (كما فى السورة الأولى المزعومة: "اللهم إياك نعبد") أو "إنّ" الناسخة (كما فى السورة المزعومة الأخرى: "اللهم إنا نستعينك ونستغفرك").

خامسا: لا يوجد فى القرآن كله الفعل: "نُصَلِّى" أبدا، بل الذى فيه هو "صَلَّى"، "تُصَلِّ"، "يُصَلّوا"، "يُصَلّون"، "يُصَلِّى"، "صَلِّ"، "صَلُّوا".

سادسا: لم يحدث فى القرآن أن تَقَدَّم حرفُ الجر على الفعل الدال على الصلاة كما فى سورة "الحفد"، بل المشاهد أنه إذا كان هناك حرف جر فإنه يأتى بعد الفعل، أو تُذْكَر الصلاة مطلقة دون حرف جر أصلا. وهذه هى الشواهد القرآنية:

"فلا صدَّق ولا صلَّى* ولكنْ كذَّبَ وتولَّى" (القيامة/ 31- 32).

"وذَكَر اسْمَ ربِّه فصلَّى" (الأعلى/ 15).

"أرأيتَ الذى يَنْهَى* عبدًا إذا صلَّى" (العلق/ 9- 10).

"ولا تصلِّ على أحدٍ منهم مات أبدًا ولا تقم على قبره" (التوبة/ 84).

"ولْتَأْتِ طائفةٌ أخرى لم يُصَلُّوا فلْيُصَلُّوا معك" (النساء/ 102).

"إن الله وملائكته يُصَلُّون على النبىّ يا أيها الذين آمنوا صَلُّوا عليه وسَلِّموا تسليما" (الأحزاب/ 56).

"هو الذى يُصَلِّى عليكم وملائكتُه ليُخْرِجَكم من النور إلى الظلمات" (الأحزاب/ 43).

"خذ من أموالهم صدقةً تطهِّرهم وتزكِّيهم بها وصَلِّ عليهم" (التوبة/ 103).

"إنّا أعطيناك الكَوْثَر* فصَلِّ لربك وانْحَرْ" (الكوثر/ 1- 2).

سابعا: ليس فى القرآن الفعل "نسْعَى" أبدا، بل الذى فيه هو "سعى"، "سَعَوْا"، "تَسْعَى"، "تَسْعَوْن"، "يَسْعَوْن". وشواهد ما نقول موجودة فى المواضع التالية: البقرة/ 114، 205، والإسراء/ 19، والنجم/ 39، والنازعات/ 35، والحج/ 51، وسبأ/ 5، وطه/ 15، 20، 66، والقصص/ 20، ويس/ 20، والحديد/ 12، والتحريم/ 8، والنازعات/ 22، وعبس/ 8، والمائدة/ 33، 64، وسبأ/ 38، والجمعة/ 6.

ثامنا: لم يأت الفعل "سعى" فى القرآن (فى أى زمن أو فى أية صيغة) مسبوقا بحرف جر ومجروره كما هو الحال هنا: "وإليك نسعى ونحفد". كما أن حرف الجر الغالب مجيئه معه هو "فى"، وليس "إلى" الموجود فى السورة الموهومة التى بين أيدينا.

تاسعا: ثم إنه فى المرة اليتيمة التى جاء بعده الحرف: "إلى" لم يدخل هذا الحرف على اسم الله أو ضميره، بل على كلمة "الذكر": "فاسْعَوْا إلى ذِكْر الله وذَرُوا البيع" (الجمعة/ 9). وكما تلاحظ فالفعل هنا فعلُ أمرٍ لا مضارعٌ كما هو فى الجملة التى معنا.

عاشرا: وفوق ذلك فالسعى فى القرآن غالبا ما يكون فى الخراب والفساد والمعاجزة كما فى البقرة/ 114، 205، والمائدة/ 33، 64، والحج/ 51، وسبإ/ 5، 38 على سبيل القول الصريح، وكما فى الكهف/ 104، والنازعات/ 22 على سبيل التضمين، أما فى الخير فأقل من ذلك، كما أن ذكر الخير فى معظم الأحيان ضمنى لا صريح.

حادى عشر: ولو ذهبنا نفتش فى القرآن من أوله إلى آخره فلن نعثر على الفعل "يحفد" فى أى زمن من الأزمان أو أية صيغة من الصيغ. بل لا وجود لمادة "ح ف د" فيه على الإطلاق، اللهم إلا كلمة "حَفَدَة" (النحل/ 72)، وهم أبناء الأبناء، وهذا شىء مختلف عما نحن فيه، ومعناه الإسراع. أى أن مجىء ذلك الفعل فى سورة "الحَفْد" المدَّعاة هو أمر شاذ كسائر ما يتعلق بتلك السورة حسبما تبيِّن هذه الدراسة.

ثانى عشر: رغم ورود الفعل "رجا- يرجو" فى القرآن 22 مرة، فإنه لم يأت قط مضارعا مسندا إلى ضمير المتكلمين: "نرجو" كما هو الحال هنا. والشواهد متاحة لمن يريد فى المواضع التالية: القصص/ 86، والنساء/ 104، ونوح/ 13، والإسراء/ 28، والكهف/ 110، والعنكبوت/ 5، والأحزاب/ 21، والزمر/ 9، والممتحنة/ 6، والبقرة/ 218، والنساء/ 104، ويونس/ 7، 11، 15، والإسراء/ 57، والنور/ 60، والفرقان/ 21، 40، وفاطر/ 29، والجاثية/ 14، والنبأ/ 27، والعنكبوت/ 36.

ثالث عشر: لم تقع كلمة "رحمتك" فى المرات الثلاث التى تكررت فيها فى القرآن مفعولا به مباشرا قط كما هو وَضْعها فى سورة "الحفد"، بل كانت فى كل تلك المرات مجرورة بحرف جر. كما أنها لم تقترن فى أى من تلك المرات بفعل الرجاء على أى وضع من الأوضاع: "قال رب اغفر لى ولأخى وأَدْخِلْنا فى رحمتك" (الأعراف/ 151)، "ونجِّنا برحمتك من القوم الكافرين" (يونس/ 86)، "وأَدْخِلْنى برحمتك فى عبادك الصالحين" (النمل/ 19).

رابع عشر: لم يأت الفعل: "نخشى" فى القرآن سوى مرة واحدة: "يقولون: نخشى أن تصيبنا دائرة" (المائدة/ 52)، وقد أتى على لسان المنافقين المذبذبين لا على لسان المؤمنين الموقنين. كما أنه لم يقع على العذاب، بل على إصابتهم بدائرة، فضلا عن أن المفعول به الذى وقع عليه فى الآية القرآنية كان مصدرا مؤولا بالصريح: "أن تصيبنا دائرة" لا مصدرا صريحا: "عذابك" كما هو الحال فى عبارة ما يسمى بـ"سورة الحفد". وأكثر من ذلك أنه لم يحدث أن وقع الفعل: "خَشِىَ- يخشَى" فى أية صورة منه على "العذاب" فى كتاب الله بتاتا

خامس عشر: مع أن كلمة "عذاب" قد تكررت فى القرآن المجيد بضع مئات من المرات: نكرةً ومعرَّفةً بــ"أل" ومضافةً، فلم يتصادف أن جاءت مضافة إلى "كاف الخطاب" قط كما هو وَضْعها هنا.

سادس عشر: لم يحدث البتة أن اقترن الرجاء والخشية فى كتاب الله كما هو الحال فى قول المبتهلين فى السورة الموهومة التى بين أيدينا: "نرجو رحمتك، ونخشى عذابك".

سابع عشر: لم يأت فى القرآن متعلِّق لخبر "إنّ" أو "أنّ" الداخلة على كلمة "عذاب"، فضلا عن أن يكون سابقا على ذلك الخبر كما هو الحال فى الجملة الأخيرة من السورة الموهومة التى نحن بصددها هنا: "إن عذابك بالكفار ملحق". هذا، وإذا كانت كلمة "عذاب" قد وردت خبرا لــ"إنّ"، و"أنّ" و"لكنّ" فى الشواهد التالية: "ولإن كفرتم إنّ عذابى لَشديد" (إبراهيم/ 7) ، "وأن عذابى هو العذاب الأليم" (الحجر/ 50)، "إن عذاب ربك كان محذورا" (الإسراء/ 57)، "إن عذابها كان غَرَاما" (الفرقان/ 65)، "ذلكم فذُوقُوه وأن للكافرين عذابَ النار" (الأنفال/ 14)، "إنّا قد أُوحِىَ إلينا أن العذاب على من كَذَّب وتولَّى" (طه/ 48)، "ولكن عذاب الله شديد" (الحج/ 2)، "إن عذاب ربك لَواقع" (الطور/ 7)، "إن عذاب ربهم غير مأمون" (المعارج/ 38)، فلن تجد للخبر فى أى منها متعلقا أصلا، فضلا عن أن يكون متعلق الخبر متقدما عليه كما هو الحال هنا.

ثامن عشر: وأما بالنسبة لاسم المفعول "مُلْحَق" الواقع خبرا لــ"إن" فى جملتنا الحالية فلا وجود له فى القرآن فى أى موضع منه. كذلك لم يحدث أن وقع فعل من أفعال "الإلحاق" فى القرآن على العذاب قط، بل على ذرية المؤمنين أو على المؤمنين أو على الشركاء الذين كان الكفار يعبدونهم مع الله، أما على العذاب فلا: "قل أَرُونِىَ الذين أَلْحَقْتم به شركاء" (سبأ/ 27)، "والذين آمنوا واتَّبَعَتْهم ذريتُهم بإيمانٍ ألحقنا بهم ذريتَهم" (الطور/ 21)، "توفَّنى مُسْلِمًا وأَلْحِقْنى بالصالحين" (يوسف/ 101)، "ربِّ هَبْ لى حُكْمًا وأَلْحِقْنى بالصالحين" (الشعراء/ 83).

تاسع عشر: جاء الفعل: "استعان" فى القرآن فى تصريفاته المختلفة أربع مرات، ومع ذلك لم يحدث أن خلا مفعوله المتقدم عليه من "باء" الجر: "واستعينوا بالصبر والصلاة" (البقرة/ 45)، "استعينوا بالصبر والصلاة" (البقرة/ 152)، "استعينوا بالله واصبروا" (الأعراف/ 138)، كما لم يحدث أن جاء هذا المفعول ضميرا إلا مرة واحدة تقدم فيها المفعول على الفعل، ومن ثم كان ضميرا منفصلا لا متصلا (هكذا: "إياك نعبد وإياك نستعين")، على عكس الوضع تماما من هذا وذاك فى الجملة الأولى من السورة المزعومة الثانية: (هكذا: "اللهم إنا نستعينك").

عشرين: وكذلك لم يتفق أن اقترنت الاستعانة بالاستغفار فى القرآن قط كما هو الأمر فى الجملة التى نحن أمامها: "نستعينك ونستغفرك".

حاديًا وعشرين: لم يقع أن استُعْمِل الفعل "استغفر" فى كتاب الله الكريم مضارعا مسندا إلى ضمير جماعة المتكلمين بتاتا أو جاء مفعوله "كاف خطاب" قط كما فى الجملة الحالية: "نستغفرك".

ثانيًا وعشرين: برغم ورود كلمة "الحمد" واشتقاقاتها فى القرآن نحو سبعين مرة، فإن كلمة "الثناء" المقتربة منها فى المعنى إلى حد بعيد والمشتق منها الفعل: "نُثْنِى" فى الجملة الثالثة من سورة "الخلع" التى نحن بصددها هنا (وهى: "ونُثْنِى عليك ولا نَكْفُرك")، هذه الكلمة غائبة تماما عن كتاب الله هى وكل مشتقاتها.

ثالثا وعشرين: بالنسبة لجملة "نَكْفُرك" نقول إنه قد ورد الفعل المضارع: "يَكْفُر" فى القرآن الكريم بتصريفات مختلفة ما يقرب من ستين مرة، ومع هذا لم يحدث أن أُسْنِد هذا الفعل إلى ضمير جماعة المتكلمين فى أية مرة منها. كما لم يحدث أن توصَّل ذلك الفعل إلى مفعوله مباشرة دون "باء الجر" كما هو الحال هنا، اللهم إلا مرة واحدة أتى فيها مبنيا للمجهول ووقع على ضمير الغائب لا المخاطب وكان ذلك الضمير عائدا على عمل الإنسان لا على الله سبحانه، وهو ما يختلف فيه مع الجملة التى نحن بصددها اختلافا تاما. وهذا هو الشاهد القرآنى اليتيم: "وما يَفْعَلوا من خير فلن يُكْفَروه" (آل عمران/ 115).

رابعا وعشرين: ليس فى القرآن كله كلمة "خَلْع" التى تدور عليها السورة المدَّعاة وعُنْوِنَتْ بها، بل ليس فيه من ذات المادة إلا فعل الأمر: "اخلع": "فاخلع نعليك إنك بالوادى المقدَّس طُوًى" (طه/ 12)، وهو خطاب من الله لواحد من البشر هو موسى عليه السلام، وليس خطابا من البشر له عز وجل كما فى الجملة التى يدور الكلام عليها حاليًّا والتى ورد فيها الفعل مضارعًا لا أَمْرًا مع ذلك. كما أن الخلع فى الآية القرآنية حقيقى، بخلافه فى آية السورة المزعومة، إذ معناه فيها مجازى كما هو واضح.

خامسا وعشرين: لم يرد الفعل المضارع: "نترك" فى كتاب الله سوى مرة واحدة وقع فيها مفعوله اسما موصولا غير عاقل عائدا على الأصنام التى يعبدها آباء المتكلمين الكافرين: "قالوا يا شعيب أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا" (هود/ 87)، لا اسما موصولا عاقلا عائدا على من يَفْجُر الله سبحانه كما هو الوضع فى الجملة التى بين أيدينا: "ونخلع ونترك من يَفْجُرك".

سادسا وعشرين: على الرغم من مجىء مشتقات مادة "ت ر ك" نيفا وأربعين مرة فى القرآن المجيد لم يحدث أن أتى الاسم الموصول: "مَنْ" مفعولا لأى من هذه المشتقات كما هو الوضع فى الجملة التى معنا الآن: "ونترك من يَفْجُرك".

سابعا وعشرين: لا يوجد الفعل: "نَفْجُر" (مضارعا مسندا إلى جماعة المتكلمين وبمعنى "الفُجُور" لا التفجير) فى القرآن المجيد أبدا. كما أن الفعل: "يَفْجُر" (المضارع المسند لضمير الغائب المفرد المذكَّر) الذى ورد فيه مرة واحدة لا غير لم يُذْكَر معه مفعول به، فضلا عن أن يكون المفعول به مفعولا مباشرا: "بل يريد الإنسان ليَفْجُر أمامه" (القيامة/ 5)، بَلْهَ أن يكون ذلك الضمير عائدا على الله جل وعلا كما هو الحال معنا الآن.

والآن يستطيع القراء الكرام أن يَرَوْا معنا بكل وضوح وجلاء أن هذين النصين لا علاقة لهما من قريب أو من بعيد بالقرآن من ناحية الأسلوب والروح أيضا، فبصماتهما اللغوية والذوقية ليست هى بصمات الأسلوب القرآنى كما هو بين، مثلما رَأَوْا قبلاً أنهما لا يمكن أن يكونا من القرآن بحكم المنطق العقلى وبناءً على تحليل الروايات. وهناك دراسة كاملة لى عن سورة "النورين" التى يدعى فريق من الشيعة أنها كانت فى القرآن ثم حذفها عثمان وأنصاره لإزالة الدليل على أحقية على وذريته فى تولى خلافة المسلمين إلى الأبد لأن السورة المزعومة تنص على ذلك. والدراسة المشار إليها مطبوعة بعنوان "سورة النورين التى يزعم فريق من الشيعة أنها من القرآن الكريم- دراسة تحليلية أسلوبية"، فيُرْجَع إليها.

وبعد أن انتهينا من الكلام عن أهمية الاستعانة بالنقد الأدبى والدراسة الأسلوبية فى تفسير القرآن المجيد نثنّى بالكلام عن الاستعانة بالتاريخ فى هذا الميدان. ففى القرآن كلام كثير عن أقوامٍ وزعماءَ وأنبياءَ ماضين، وكلام القرآن عنهم هو فى غالب الأحيان كلام موجز، فكل ما يهم فى تلك القصص هو موضع العبرة والتنبيه ولفت نظر العرب إلى سوء مغبة عنادهم لنبيهم وكفرهم بما جاءهم به وأنهم ينبغى أن يتأَسَّوْا بما وقع لتلك الأمم حين شغبت على رسلها وكفرت بما أتَوْها به.لكن العقل البشرى طُلَعَة مفطور على الفضول يحب أن يستزيد مما يذكر له. كما أن هناك من يشكك فى صحة ما ذكره كتاب الله عن أولئك الأقوام، كالذى حدث عندما كتب بعض المستشرقين والمبشرين ينكرون أن يكون هناك ناس اسمهم عاد أو نبى اسمه هود. فلا شك أن دراسة علم التاريخ مطلوبة هنا: أولا لإشباع فضول العقل البشرى، وثانيا للرد على المنكرين، فضلا عن أن التوسع والتعمق فى المعرفة فى حد ذاته هو قيمة حضارية وثقافية مهمة لا غنى عنها لأية أمة تريد أن تكون محترمة الجانب مهيبة الذكر.

ولقد كنت وأنا شاب صغير، كلما قرأت ما جاء فى سورة "الفجر" عن "إِرَم ذاتِ العماد التى لم يُخْلَق مثلها فى البلاد"، أَمُرّ عليها وفى نفسى حيرة، لأنى لا أستطيع أن أتصور ما يقوله القرآن عنها وعن عمادها التى لم يُخْلَق مثلها فى البلاد، وأتساءل بينى وبين نفسى: ما المقصود بالعِمَاد يا ترى؟ وكيف لم يخلق مثلها فى البلاد؟ وبأية وسيلة استطاعت قبيلة عربية تعيش فى قلب الصحراء قبل الإسلام بقرون أن يكون لها عِمَاد ليس لها نظير فى التاريخ أيا ما يكن معنى "العماد"؟ وظل الأمر يرهق عقلى عسرا إلى أن سمعت فى إحدى الحلقات التلفازية عن الإعجاز فى القرآن الكريم التى يقدمها د. زغلول النجار أن هناك كشوفا أثرية تَمَّتْ عن طريق التقاط صور من الفضاء الخارجى من قِبَل علماءَ أمريكانٍ لأبنية تحت الأرض فى الربع الخالى من الجزيرة العربية ذات أعمدة هائلة الضخامة والطول فارتاح فضولى، لكنى أردت أن أحصل على اسم المجلة الأجنبية التى أوردت هذا الخبر. وظللت أتتبع هذا الموضوع حتى قرأت الفقرات التالية من مقال كبير للدكتور زغلول عنوانه "الكشف الحديث عن إرم ذات العماد" بجريدة "الأهرام" المصرية بتاريخ 7/ 10/ 2002م:

‏*‏ في سنة ‏1984‏م زُوِّد احد مكوكات الفضاء بجهاز رادار له القدرة علي اختراق التربة الجافة الي عمق عدة أمتار يعرف باسم جهاز رادار اختراق سطح الأرض (Ground Penetrating Radar Or GPR) فكشف عن العديد من المجاري المائية الجافة مدفونة تحت رمال الحزام الصحراوي الممتد من موريتانيا غربا الي أواسط آسيا شرقا‏.‏ وبمجرد نشر نتائج تحليل الصور المأخوذة بواسطة هذا الجهاز تقدم أحد هواة دراسة الآثار الأمريكان، واسمه نيكولاس كلاب Nicholas Clapp، إلى مؤسسة بحوث الفضاء الأمريكية المعروفة باسم "ناسا: NASA" بطلب للصور التي أُخِذَتْ بتلك الواسطة لجنوب الجزيرة العربية‏،‏ وبدراستها اتضح وجود آثار مدقات للطرق القديمة المؤدية الي عدد من أبنية مدفونة تحت الرمال السافية التي تملأ حوض الربع الخالي‏،‏ وعدد من أودية الأنهار القديمة والبحيرات الجافة التي يزيد قطر بعضها عن عدة كيلو مترات‏.‏ وقد احتار الدارسون في معرفة حقيقة تلك الآثار‏،‏ فلجأوا الي الكتابات القديمة الموجودة في إحدي المكتبات المتخصصة في ولاية كاليفورنيا وتعرف باسم "مكتبة هنتنجتون:Huntington Library" وإلي عدد من المتخصصين في تاريخ شبه الجزيرة العربية القديم وفي مقدمتهم الأمريكي جوريس زارينز Zarins Juris والبريطاني رانولف فينيس Ranulph Fiennes. وبعد دراسة مستفيضة أجمعوا علي أنها هي آثار عاصمة ملك عاد التي ذكر القرآن الكريم أن اسمها‏ "‏ إِرَم‏"‏ كما جاء في سورة "الفجر‏"،‏ والتي قُدِّر عمرها بالفترة من‏3000‏ ق‏.‏م‏.‏ إلى ان نزل بها عقاب ربها فطمرتها عاصفة رملية غير عادية‏.‏ وعلي الفور قام معمل الدفع النفاث بكاليفورنيا‏ "‏معهد كاليفورنيا للتقنية‏:The Jet Propulsion Laboratories California Institute of Technology،J.P.L"‏ بإعداد تقرير مطول يضم نتائج الدراسة‏،‏ ويدعو رجال الأعمال والحكومات العربية الي التبرع بسخاء للكشف عن تلك الآثار التي تملأ فراغا في تاريخ البشرية‏،‏ وكان عنوان التقرير هو‏:‏ "البعثة عبر الجزيرة:‏The Trans-Arabia Expedition " وتحت العنوان مباشرة جاءت الآيتان الكريمتان رقما 7- 8‏ من سورة "الفجر"،‏ وقد أُرْسِل اليَّ التقرير لدراسته‏.‏ وقد قمت بذلك فعلا وقدمت رأيي فيه كتابة الي المسئولين بالمملكة العربية السعودية‏، وقد ذكر التقرير ان اثنين من العلماء القدامي قد سبق لهما زيارة مملكة عاد في أواخر حكمها‏،‏ وكانت المنطقة لا تزال عامرة بحضارة زاهرة‏،‏ والأنهار فيها متدفقة بالماء‏،‏ والبحيرات زاخرة بالحياة‏،‏ والأرض مكسوة بالخضرة‏،‏ وقوم عاد مستكبرون في الأرض‏،‏ ويشكلون الحضارة السائدة فيها‏،‏ وذلك قبل أن يهلكهم الله‏ تعالي‏‏ مباشرة‏،‏ وكان أحد هؤلاء هو بليني الكبير من علماء الحضارة الرومانية‏، والذي عاش في الفترة من‏23‏م الي ‏79‏م‏،‏ والآخر كان هو الفلكي والجغرافي بطليموس الإسكندري الذي كان أمينا لمكتبة الاسكندرية‏، ‏وعاش في الفترة من‏100‏ م الي‏170‏م تقريبا‏"،‏ وقام برسم خريطة للمنطقة بأنهارها المتدفقة‏ وطرقاتها المتشعبة، والتي تلتقي حول منطقة واسعة سماها باسم‏ "‏سوق عمان‏". ووصف بليني الكبير حضارة عاد الأولى بأنها لم يكن يدانيها في زمانها حضارة أخري علي وجه الأرض‏،‏ وذلك في ثرائها‏‏ ووفرة خيراتها‏ وقوتها‏،‏ حيث كانت على مفترق طرق التجارة بين كل من الصين والهند من جهة وبلاد الشام وأوروبا من جهة أخري‏،‏ والتي كانت تصدر إليها البَخُور والعُطُور والأخشاب‏ والفواكه المجففة‏ والذهب والحرير وغيرها‏. وقد علق كثير من المتأخرين علي كتابات كل من بليني الكبير وبطليموس الإسكندري بأنها ضرب من الخرافات والأساطير‏،‏ كما يتشكك فيها بعض مدعي العلم في زماننا ممن لم يستطيعوا تصور الربع الخالي‏،‏ وهو من أكثر أجزاء الأرض قحولة وجفافا اليوم‏،‏ مليئا في يوم من الأيام بالأنهار والبحيرات والعمران‏. ولكن صور المكوك الفضائي جاءت مطابقة لخريطة بطليموس الاسكندري‏،‏ ومؤكدة ما قد كتبه من قبل كل منه ومن بليني الكبير كما جاء في تقرير معهد الدفع النفاث‏.

‏إرهاصات قبل الكشف عن إِرَم: ‏

* في سنة‏1975‏م: تم اكتشاف آثار لمدينة قديمة في شمال غربي سوريا باسم مدينة‏ "‏ إبلا: Ebla" تم تحديد تاريخها بحوالي ‏4500‏ سنة مضت‏،‏ وفي بقايا مكتبة قصر الحكم في هذه المدينة القديمة وجدت مجموعة كبيرة من الألواح الصلصالية‏ (حوالي ‏15000 لوح‏)‏ تحمل كتابات بإحدي اللغات القديمة التي تم معرفة مفاتيحها وتمت قراءتها‏.

‏*‏ في عددها الصادر بتاريخ ديسمبر‏1978‏م نشرت "المجلة الجغرافية الأهلية: National Geographic Magazine"‏ مقالا بعنوان ‏"Ebla: Splendor of an unknown Empire" (vol.154, no6, pp.731-759)‏ لكاتب باسم‏ Howard La Fay‏ جاءت فيه الإشارة إلي أن من الأسماء التي وجدت علي ألواح مدينة إبلا الإسم إِرَم علي أنه اسم لمدينة غير معروفة جاء ذكره في السورة رقم‏ 89‏ من القرآن الكريم‏.‏

‏*‏ بعد ذلك بعام واحد‏، أي في سنة‏1979‏م‏، نشر اثنان من غلاة الصهاينة هما‏:‏ حاييم برمانت وميخائيل ويتزمان‏ Chaim Bermant and Michael Wetzman كتابا بعنوان‏‏ "Ebla- A Revelation in Archaeology"‏ ذكرا فيه أسماءً ثلاثةً وجدت مكتوبة على ألواح الصلصال المكتشفة في‏ "‏إبلا‏"‏ هي‏:‏ "شاموتو" (أو ثمود‏) و‏"‏عاد‏"‏ و"‏إرم‏"‏، وذكرا أن هذه الأسماء الثلاثة ذكرت في السورة رقم ‏89‏ من القرآن الكريم‏.‏ وأضاف هذان الصهيونيان أن‏ "‏ثمود‏"‏ اسم قبيلة ذكرها سارجون الثاني (Sargon II) ‏في القرن الثامن قبل الميلاد‏،‏ بينما الاسم‏: "‏إرم‏"‏ قد اخْتُلِف فيه: فمن المؤرخين من اعتبره اسما لإحدي القبائل‏،‏ ومنهم من اعتبره اسما لمكان‏.‏ أما عن الاسم الثالث‏: "‏عاد‏"‏ فقد اعتبراه اسما أسطوريا‏،‏ وهذا من قبيل تزييف التاريخ الذي برع فيه الصهاينة منذ القدم‏. وقد سبقهم في ذلك جيش من مزيفي تاريخ الجزيرة العربية علي رأسهم Thomas Bertram، الذي نشر في الثلاثينيات من القرن العشرين كلاما مشابها‏.‏

‏*‏ في يوليو سنة‏1990‏م تشكل فريق من البُحّاث في وكالة الفضاء الأمريكية‏: "NASA"‏ ‏ برئاسة Charles Elachi، ومن "معهد الدفع النفاث:J.P.L " برئاسة‏ Ronald Blom‏ للبحث عن‏ "‏إرم ذات العماد‏"‏ تحت رعاية وتشجيع عدد من الأسماء البارزة: منها‏Armand Hammar, Sir Ranulph Fiennes, George Hedges، ولكن البحث تأجل بسبب حرب الخليج‏.‏

بعد الكشف عن إرم:

‏*‏ في يناير سنة ‏1991‏م بدأت عمليات الكشف عن الآثار في المنطقة التي حددتها الصور الفضائية، واسمها الحالي "الشيصارواستمر إلى مطلع سنة ‏1998م. وأُعْلِن خلال ذلك عن اكتشاف قلعة ثمانيّة الأضلاع سميكة الجدران بأبراج في زواياها مقامةٍ علي أعمدة ضخمة يصل ارتفاعها إلى ‏9‏ أمتار وقطرها إلي‏ 3‏ أمتار ربما تكون هي التي وصفها القرآن الكريم‏.‏

‏*‏ في 17‏/ 2/ 1992م نشر في مجلة "تايم: Time" ‏الأمريكية مقال بعنوان ‏ "‏Arabia's Lost Sand Castle"‏ لــ Richard Ostling ذكر فيه الكشف عن إرم‏.‏

‏*‏ بتاريخ10/ 4/1992م كتبتُ مقالا بعنوان "اكتشاف مدينة إِرَم ذات العماد" نشر بجريدة "الأهرام" القاهرية لخصتُ فيه ما وصلني من أخبار ذلك الكشف حتي تاريخه‏.‏

‏*‏ في سنة ‏1993م نشر بيل هاريس (Bill Harris) كتابه المعنون:‏ "Lost Civilizations"‏.

‏*‏ بتاريخ‏ 23/ 4/ 1998م نشر ‏ Nicholas Clapp كتابه المعنون: "The Road to Ubar".

‏*‏ بتاريخ 14‏/ 6/ 1999 م نشر بيكو إير‏ (Pico Iyer) كتابه المعنون‏: "Falling off the Map: Some Lonely Places in the World".

وتوالت الكتب والنشرات والمواقع علي شبكة المعلومات الدولية منذ ذلك التاريخ‏،‏ ولكن تكتَّم القائمون علي الكشف نشر مزيد من أخباره حتى يتمكنوا من تزييفه وإلحاقه بأساطير اليهود كما فعلوا من قبل في لفائف البحر الميت وآثار‏ "‏إبلا‏"‏ وغيرها من المواقع‏،‏ ولكن كل ما نُشِر، على قلته، يؤكد صدق ماجاء بالقرآن الكريم عن قوم عاد بأنهم‏:‏ (1)‏ كانوا في نعمة من الله عظيمة، ولكنهم بطروها ولم يشكروها. ووَصْفُ بليني الكبير لتلك الحضارة بأنها لم يكن يدانيها في زمانها حضارة أخري كأنه ترجمة لمنطوق الآية الكريمة‏: "‏التي لم يخلق مثلها في البلاد‏".‏ ‏(2) أن هذه الحضارة قد طمرتها عاصفة رملية غير عادية، وهو ماسبق القرآن الكريم بالإشارة إليه‏. (3)‏ أن هناك محاولات مستميتة من اليهود لتزييف تاريخ تلك المنطقة ونسبة كل حضارة تكتشف فيها إلي تاريخهم المزيف‏،‏ ولذلك كان هذا التكتم الشديد على نتائج الكشف حتى يفاجئوا العالم بما قد زيفوه‏،‏ ومن ذلك محاولة تغيير اسم‏ "‏إِرَم‏"‏ إلي اسم عبري هو أوبار‏"Ubar".‏

هذه قصة‏ "‏إِرَم ذات العِمَاد‏"‏ مدينة قوم عاد‏،‏ التي جاءت الكشوف الأثرية الحديثة بإثبات ما ذُكِر عنها في القرآن الكريم‏.‏ وإن كان نفر من الأقدمين قد حاول إنكار ذلك تطاولا علي الله وكتابه‏،‏ فإن نفرا من المحدثين قد حاول إنكاره تطاولا علي العلم وأهله في زمن يتكلم فيه الرويبضة كما أخبرنا رسول الله‏ صلي الله عليه وسلم‏،‏ ولا حول ولا قوة إلا بالله‏. ويبقي ماجاء في القرآن الكريم من ذكر لقوم عاد ولمدنيتهم‏: "‏إِرَم ذات العماد‏"،‏ ولما أصابها وأصابهم من دمار بعاصفة رملية غير عادية صورة من صور الإعجاز التاريخي في كتاب الله تشهد له بصفائه الرباني‏‏ وإشراقاته النورانية‏،‏ وبأنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه‏.‏ فالحمد لله على نعمة القرآن‏،‏ والحمد لله على نعمة الإسلام‏،‏ والصلاة والسلام على الرسول الخاتم الذي تلقاه وجاهد في سبيله حتى أتاه اليقين‏،‏ وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه ودعا بدعوته إلي يوم الدين‏".‏ وبعد أن قرأنا ما خطته يراعة الدكتور زغلول النجار، يأتى دور التساؤل التالى: ترى أكان ممكنا تفسير هذه الآيات من سورة "الفجر" دون الإحاطة بتلك المعلومات التاريخية والاطلاع على تلك المجلات الأجنبية والاتصال بتلك المراكز العلمية والتخصص فى تلك المجالات المعرفية؟ من الواضح أن الجواب بطبيعة الحال لا يمكن أن يكون إلا سلبيًّا!

والآن إلى ميدان آخر من ميادين المعرفة التى من شأنها أن تجعل تفسير المفسر غنيًّا عميقًا ومُشْبِعًا ممتعًا، وهو مقارنة الأديان. ترى كيف يمكن أن يدرك قارئ القرآن مغزى نصه سبحانه على أنه، عندما خلق السماوات والأرض فى ستة أيام فى أول الخليقة، لم يمسسه لُغُوبٌ، لو أنه لم يعرف أن سِفْر "التكوين" من العهد القديم قد ذكر صراحة أنه عز وجل، بعد أن انتهى من عمل السماوات والأرض فى تلك الستة الأيام، قد "استراح" من عمله يوم السبت؟ يقول عز وجل: "وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ" (ق/ 38)، وفى العهد القديم: "1فَأُكْمِلَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ وَكُلُّ جُنْدِهَا. 2وَفَرَغَ اللهُ فِي الْيَوْمِ السَّابعِ مِنْ عَمَلِهِ الَّذِي عَمِلَ. فَاسْتَرَاحَ فِي الْيَوْمِ السَّابعِ مِنْ جَمِيعِ عَمَلِهِ الَّذِي عَمِلَ. 3وَبَارَكَ اللهُ الْيَوْمَ السَّابعَ وَقَدَّسَهُ، لأَنَّهُ فِيهِ اسْتَرَاحَ مِنْ جَمِيعِ عَمَلِهِ الَّذِي عَمِلَ اللهُ خَالِقًا" (تكوين/ 2). أم كيف نعرف مدى دقة القرآن وسلامته حين نقرأ قصة موسى عليه السلام فى سورة "طه" فنجد أنه سبحانه وتعالى جَدُّه يقول إن أم الطفل الصغير بعد أن صنعت له التابوت وضعته فيه ثم ألقت التابوت، وفيه صغيرها، فى اليمّ، على حين نقرأ فى سفر "التكوين" أيضا أن أخت موسى كانت تمشى بطول النهر وهى تحمل سَفَط البَرْدِى الذى كان الرضيع راقدا فيه والذى طلته أمه بالـحُمَر والزِّفْت كيلا ينفذ منه الماء، ثم لما وصلت الأخت إزاء قصر فرعون وضعته بين الـحَلْفاء على الشط حيث لمحته عيون خدم القصر فحُمِل إلى ابنة الفرعون، لو لم نقرأ هذه القصة بالسفر المذكور فنعرف ما ذكرناه قبل قليل من أن الأم قد طلت السَّفَط بموادَّ تمنع تسرب الماء إليه بما يدل على أنها قد صنعته لكى تضعه فى النهر، ونقرأ ما علَّقت به ابنة فرعون على تسمية الصغير باسم "موسى" بأنها قد انتشلته من الماء. وهذا كله يؤكد أن رواية القرآن قد نصت على ما وقع فعلا حين قالت إن أم موسى قد ألقت التابوت فى الماء ولم تكلف أخته بحمله ووضعه بين أعواد الحلفاء قبالة القصر كما ورد فى سفر "التكوين"، وأن رواية سفر "التكوين" تتناقض، وإن كان ما فيها من تفصيلات عفوية، وهى التى عليها المعوَّل فى مثل هذه الحالة، يعضّد ما جاء فى القرآن الكريم. وإلى القارئ النصين المذكورين: "وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى* إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى* أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي" (طه/ 37- 39)، "1وَذَهَبَ رَجُلٌ مِنْ بَيْتِ لاَوِي وَأَخَذَ بِنْتَ لاَوِي، 2فَحَبِلَتِ الْمَرْأَةُ وَوَلَدَتِ ابْنًا. وَلَمَّا رَأَتْهُ أَنَّهُ حَسَنٌ، خَبَّأَتْهُ ثَلاَثَةَ أَشْهُرٍ. 3وَلَمَّا لَمْ يُمْكِنْهَا أَنْ تُخَبِّئَهُ بَعْدُ، أَخَذَتْ لَهُ سَفَطًا مِنَ الْبَرْدِيِّ وَطَلَتْهُ بِالْحُمَرِ وَالزِّفْتِ، وَوَضَعَتِ الْوَلَدَ فِيهِ، وَوَضَعَتْهُ بَيْنَ الْحَلْفَاءِ عَلَى حَافَةِ النَّهْرِ. 4وَوَقَفَتْ أُخْتُهُ مِنْ بَعِيدٍ لِتَعْرِفَ مَاذَا يُفْعَلُ بِهِ. 5فَنَزَلَتِ ابْنَةُ فِرْعَوْنَ إِلَى النَّهْرِ لِتَغْتَسِلَ، وَكَانَتْ جَوَارِيهَا مَاشِيَاتٍ عَلَى جَانِبِ النَّهْرِ. فَرَأَتِ السَّفَطَ بَيْنَ الْحَلْفَاءِ، فَأَرْسَلَتْ أَمَتَهَا وَأَخَذَتْهُ. 6وَلَمَّا فَتَحَتْهُ رَأَتِ الْوَلَدَ، وَإِذَا هُوَ صَبِيٌّ يَبْكِي. فَرَقَّتْ لَهُ وَقَالَتْ: «هذَا مِنْ أَوْلاَدِ الْعِبْرَانِيِّينَ». 7فَقَالَتْ أُخْتُهُ لابْنَةِ فِرْعَوْنَ: «هَلْ أَذْهَبُ وَأَدْعُو لَكِ امْرَأَةً مُرْضِعَةً مِنَ الْعِبْرَانِيَّاتِ لِتُرْضِعَ لَكِ الْوَلَدَ؟» 8فَقَالَتْ لَهَا ابْنَةُ فِرْعَوْنَ: «اذْهَبِي». فَذَهَبَتِ الْفَتَاةُ وَدَعَتْ أُمَّ الْوَلَدِ. 9فَقَالَتْ لَهَا ابْنَةُ فِرْعَوْنَ: «اذْهَبِي بِهذَا الْوَلَدِ وَأَرْضِعِيهِ لِي وَأَنَا أُعْطِي أُجْرَتَكِ». فَأَخَذَتِ الْمَرْأَةُ الْوَلَدَ وَأَرْضَعَتْهُ. 10وَلَمَّا كَبِرَ الْوَلَدُ جَاءَتْ بِهِ إِلَى ابْنَةِ فِرْعَوْنَ فَصَارَ لَهَا ابْنًا، وَدَعَتِ اسْمَهُ «مُوسَى» وَقَالَتْ: «إِنِّي انْتَشَلْتُهُ مِنَ الْمَاءِ»" (خروج/ 2). وقد عالجت هذه المقابلة بين الكتابين فى كتابى: "سورة طه- دراسة لغوية أسلوبية مقارنة" (دار النهضة العربية/ القاهرة/ 1416هـ- 1995م/ 30- 31).

أما فى مجال الاستعانة فى تفسير القرآن المجيد بعلم النفس ومباحثه فيحضرنى ما كنت قرأته فى شبابى الأول حين وقع لى كتاب الأستاذ عبد الوهاب حمودة: "القرآن وعلم النفس" المنشور فى سلسلة "المكتبة الثقافية" (العدد 55/ 15 فبراير 1962) والأمثلة التى ساقها فيه على خصوبة النتائج التى يُتَوَصَّل إليها من خلال تلك الاستعانة، ومنها قوله بخصوص الآية السادسة والأربعين من سورة "سبأ" إن "القرآن الكريم قد راعى القوانين النفسية التى تتصل بمظاهر الاعتقاد ومسارب الانفعال ونواحى التأثير، وإنه يساير شؤون النفس الإنسانية، ويتغلغل فى شعابها وجوانبها، مما لم يهتد إليه العلم إلا حديثًا. وهذا يدل على أن القرآن ليس من وضع محمد النبى الأمى، وإنما هو من صنع خالق القُوَى والقُدَر. فمثلا تكشف لنا الآية 46 من سورة "سبأ": "قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ" عما عرفه العلم حديثًا وسماه: "العقل الجمعي"، هذا العقل الذى يقول عنه جستاف لوبون العالم الاجتماعي: "إن للاجتماع روحًا خاصة به، وصفات نفسية تمتاز بها الجماعة حيث تجعل جميع أفرادها يشعرون ويفكرون ويعملون بكيفية تخالف تمام المخالفة الكيفية التي يشير ويفكر ويعمل بها كل واحد على انفراده. فالجماعة دائمًا دون الفرد إدراكًا، ولكنها من جهة المشاعر مندفعة متوقدة. ومن أهم خصائص الجماعات قابليتها للاندفاع والغضب وعدم القدرة على التعقل وفقدان الادراك وملكة النقد والتطرف في المشاعر". فهذا كله يلقي ضوءا على ما جاء في الآية من التعبير: "مَثْنَى وفُرَادَى ثم تتفكروا"، إذ أمر الله نبيه صلوات الله وسلامه عليه أن يتوجه إلى المشركين بقوله: إنني ما أرشدكم وأنصح لكم إلا بخصلة واحدة هي أن تقوموا مجتهدين متدبرين في الأمر بإخلاص لوجه الله، ومتفرقين حين تفكيركم وتروِّيكم اثنين اثنين أو واحدا واحدا، فإن في الاجتماع تهويش الخاطر، وتخليط الآراء، والخضوع لروح الاجتماع، والانسياق مع العقل الجمعي، فتضيع الحقيقة وينطمس وجه الصواب، ويتغلب تهريج الجماعة على صواب الفرد. فإذا ما فعلتم ذلك وفكرتم على هذه الصورة التي نبهتكم إليها الآية ظهر لكم أن صاحبكم على حق، وأنه ليس بمجنون، بل هو أرجح الناس عقلا، وأصدقهم قولا، وأذكاهم نفسا، وأجمعهم للكمالات البشرية، فوجب إذن أن تصدقوه في دعواه، وتؤمنوا بما أنذركم به من عذاب شديد" (انظر بحث حمودة فى الرابط التالى: www.taghrib.org/arabic/nashat/esdarat/kotob/arabic/books/resalatalislam/08/31/09.htm. وهو، فى الأصل، مقال منشور بمجلة "رسالة الإسلام"، التى يصدرها "المجمع العالمى للتقريب بين المذاهب الإسلامية" والموجودة الآن على المشباك، وعنوانه: "بين القرآن وعلم النفس").

وفى مقال بقلم د.علاء القبانجي عنوانه:"معالم علم النفس في القرآن" منشور لمن يريد الاطلاع عليه من القراء بــ"موقع الراشد" على الرابط التالى: nlpnote.com/forum/showthread.php?t=12232 يعرض الكاتب لقوله تعالى فى سورة "المعارج": "إن الإنسان خُلِق هَلُوعا* إذا مسَّه الشرُّ جَزُوعًا* وإذا مسَّه الخير مَنُوعًا"، فيقول إننا "أمام هذا التوسع الهائل لعلم النفس وضرورته اليومية في مجالات محددة كالإعلام والإدارة والتربية لابد لنا من النظر إلى ما في ذخيرتنا القرآنية والإسلامية والتاريخية من نظريات وتحليلات نفسية وسلوكية في هذا المجال... وُصِف الإنسان بــ"الهَلُوع"، والهَلَع يعتبر ويصنَّف من جملة الخصال النفسية أو الشخصية غير المحمودة، ولا نرى له غير ذلك. والهلع يأتي من ضعف البنية العصبية للإنسان عموما من الناحية الفسيولوجية ومن ضعف الثقافة الفكرية وعدم المعرفة بحقائق الشدائد التي تحيق بالشخصية أو ظروف وملابسات المشاكل. ومن البديهي أن يقل الهلع والخوف نسبيا عند الإنسان إذا ما قُدِّر له أن يطلع على حقائق تلك الشدائد والمشاكل والمحن وتحليلاتها الأصولية، ولكنه (أي الهلع) يبقى سمةً من سمات شخصية الإنسان الضعيف. والهلع هو الارتباك الظاهر على الشخصية أو داخل النفس نتيجة تغير في عدد من إفرازاته وأنزيماته بوازع من خلايا دماغية تعاني من وطأه تحليل لظاهرة معينة هي علة ذلك الهلع. وهذه العلة قد تكون موقفا سلبيا أو تهديدا مباشرا...إلخ. يرتبط العلاج الفيزياوي لجسم الإنسان بالعلاج النفسي له في الكثير من المجالات حيث نجد أن النفس البشرية بحاجة إلى الطمأنينة والثقة خصوصا عند إجراء العمليات الجراحية مهما كانت نوعيتها أو درجة خطورتها. والآية الكريمة التي تصف الإنسان بالهلع: "إن الإنسان خُلِق هَلُوعا* إذا مسَّه الشر جَزُوعًا* وإذا مسَّه الخير مَنُوعًا" تؤكد على أن هذا الهلع ليس صفة عَرَضِيّة على شخصية الإنسان، بل هي خصلة أو خصوصية من خصوصيات خلقه وتقويمه الذاتية التي تندرج في بنيته منذ نشأته الأولى والتي ترجع أساسا إلى النطفة والماء الدافق حيث قال جل جلاله: "من نطفة خَلَقَه فقدَّره"، وقال أيضا: "خُلِق من ماءٍ دافق* يخرج من بين الصُّلْب والترائب". والحقيقة أنْ ليس التسلسل في السور 70، 80، 86 فقط هو الذي يوحي ويعزو باستقراء أن هلع النفس يرجع أساسا إلى النطفة والماء الدافق، بل إن التطور العلمي كشف للعالم عن حقيقة الصِّبْغِيّات الوراثية الموجودة في الجينات والتي يطلق عليها حاليا: "أم ار-أن-أي"، وكذلك "دي-أن-أي"، وأن هذه الصبغيات هي التي تحتوي على الموروثات الطبيعية للشخصية، وهي غير الخصال التطبُّعية التي يكتسبها الإنسان خلال تجاربه الحياتية وظروفه البيئية. ونأمل أن تستطيع البشرية في الغد القريب اكتشاف الأسرار العلمية العميقة لهذه الصبغيات ومعادلاتها الحقيقية كي نستطيع التخلص من هذا الموروث الهَلُوع، ومن ثم نكون أهلاً لخلافة الله في الأرض كما أراد الله لنا أن نكون. أما بقية الآيات الكريمة 20- 21 السابقة من سورة "المعارج"، والتي تصف الإنسان بــ"الـجَزُوع" عندما يمسه الشر، و"المنوع" عندما يمسه الخير في ظروف معينة، فهي تكمل خصوصية الهلع الشخصي والنفسي، إذ تميز النفس البشرية في مواقف الشر والشدة عنها في مواقف الانفراج والرخاء. ولا بد هنا من الإشارة إلى الفارق بين الهلع الموروث كسمة نفسية وبين الجزع أو الامتناع كصفتين ناتجتين عن تلك السمة. والحقيقة التي يتوجب النظر إليها هي أن هذا التشخيص النفسي والمواصفات المكملة له: الجزع ومنع الخير لم تأت على المستوى النظري أو الثقافي فقط، بل على المستوى التجريبي الذي دام قرونا بدأت منذ النزول وليست وليدة عصر النهضة الإسلامية ولا عصر النهضة الأوروبية. ولو تعمقنا قليلاً واستدرجنا النظر في الآيات التالية من سورة "المعارج" لوجدنا واكتشفنا ضرورة وحتمية العلاج النفسي بعد ذلك التشخيص الإلهي لتلك الخصال النفسية غير الحميدة، سواء كانت متأصلة موروثة أو ناتجة حتمية عنها...". والأمثلة على الفائدة المرجوّة من الاستعانة بعلم النفس فى إلقاء الضوء على أغوار بعض الآيات القرآنية كثيرة، لكننا نكتفى بهذين المثالين.

وفى علوم البحار لا أستطيع أن أنسى تخبط كثير من المفسرين القدماء أمام قوله تعالى فى الآية الثانية عشرة من سورة "فاطر": "وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ"، إذ ظنوا أن الحلىّ إنما تستخرج من البحر الملح فقط، ومن هنا أوّلوا الآية وقالوا إن الكلام فيها على التعميم. أى أن الحلىّ لا تُسْتَخْرَج من البحار العذبة، وهى الأنهار، إلا أن القرآن برغم هذا قال إنها تستخرج من البحر والنهر جميعا، وكأن القرآن يمكن أن يستخدم اللغة خطأ. ذلك أنه لو كان قَصْده التعميم لقال: "ومنهما تأكلون لحما طريا وتستخرجون حلية تلبسونها". أما أن يقول على وجه التحديد: "ومن كُلٍّ تأكلون... وتستخرجون..." فلا يمكن أن يكون له إلا معنى واحد، وهو أن الحلىّ كما تستخرج من البحار المِلْحة فكذلك تستخرج من الأنهار العذبة. ومع ذلك فقد تكلَّف عدد من مفسرينا القدماء على جلالة قدرهم فى كلامهم عن تلك الآية ولَوَوْا عنقها وكسروا رقبة النحو لكى يستقيم لهم فهمهم الناشئ من قصور معارفهم العلمية فى ذلك الوقت. وقد أُخِذْتُ ذات ليلة منذ عشرين عاما حين بدا لى كما لو كنت أرى هذه الآية لأول مرة وأنها تقرر أمرا يبعث على الحيرة، إذ كانت معلوماتى وقتذاك هى نفس ما كان يردده جمهور المفسرين القدماء، بل ومعظم الناس حتى الآن، من أن مصدر الحلى هو الماء الملح ليس إلا. ثم عكفت وقتا على تحرير هذه القضية حتى استبان لى أن الحلىّ تستخرج فعلا من الأنهار مثلما تستخرج من البحار. وقد وجدت هذه المعلومة فى عدد من المراجع أهمها وأشدها تفصيلا ما قرأته فى "المنتخب في تفسير القرآن الكريم"، الذى أصدره مجمع البحوث الإسلامية، وهو تفسير بسيط قُصِد به إلى القارئ العادى، إلا أن فيه عددا من الهوامش العلمية الشديدة الأهمية كتبها طائفة من العلماء الأجلاء فى ميدان العلوم الطبيعية والرياضية. ففى الهامش المخصص للآية المذكورة نقرأ أن هناك أنهارا فى مناطق مختلفة من العالم يستخرج منها الذهب والألماس والزيركون والياقوت والسليكون وغيرها. والعجيب، كما لاحظت، أن هذه الأنهار كلها تقع خارج الشرق الأوسط، بل بعيدا عنه بعدا شديدا، إذ توجد فى تشيكوسلوفاكيا مثلا وسيبريا والأورال وأسكتلندا والبرازيل واليابان. ومعنى ذلك أن الآية من الإعجاز القرآنى دون أدنى ريب.

ومن علم طبقات الأرض نستمد تفسير قوله تعالى فى سورة "النبأ": "والجبالَ أوتادا". يقول د. زغلول النجار من مقال له منشور بالأهرام فى الحادى والثلاثين من ديسمبر 2001م، وعنوانه "الإشارات الكونية في القرآن الكريم ومغزي دلالتها العلمية‏: ألم نجعل الأرض مهادا‏،‏ والجبال أوتادا؟": "... وذكر أصحاب "المنتخب في تفسير القرآن الكريم" ما نصه‏:‏ ألم يَرَوْا من آيات قدرتنا أنا جعلنا الأرض ممهَّدة للاستقرار عليها والتقلب في أنحائها‏، وجعلنا الجبال أوتادا للأرض تثبتها؟ وفي تعليق هامشي أضافوا ما نصه‏:‏ "يبلغ سمك الجزء الصلب من القشرة الأرضية نحو‏ 60‏ كيلو مترا‏،‏ وتكثر فيه التجاعيد فيرتفع حيث الجبال، وينخفض ليكوّن بطون البحار وقيعان المحيطات‏،‏ وهو في حالة من التوازن بسبب الضغوط الناتجة من الجبال‏،‏ ولا يختل هذا التوازن إلا بعوامل التعرية‏،‏ فقشرة الأرض اليابسة ترسيها الجبال كما ترسي الأوتاد الخيمة‏". وذكر صاحب صفوة التفاسير‏، بارك الله فيه‏،‏ ما نصه‏: "والجبال أوتادا‏:‏ أي وجعلنا الجبال كالأوتاد للأرض تثبتها لئلا تميد بكم كما يثبَّت البيت بالأوتاد‏.‏ قال في "التسهيل‏":‏ شبهها بالأوتاد لأنها تمسك الأرض أن تميد‏.‏..".

من الأمور المشاهدة أن سطح الأرض ليس تام الاستواء‏،‏ وذلك بسبب اختلاف التركيب الكيميائي والمعدني‏،‏ وبالتالي اختلاف كثافة الصخور المكونة لمختلف أجزاء الغلاف الصخري للأرض:‏ فهناك قمم عالية للسلاسل الجبلية‏،‏ وتنخفض تلك القمم السامقة إلى التلال‏،‏ ثم الروابي أو الرُّبَي‏ (جمع "رَبْوة" أو "رابية"‏)‏ أو الآكام‏ (جمع "أَكَمَة"‏)‏ أو النتوءات الأرضية‏،‏ ثم الهضاب أو النجود‏ (‏جمع "نَجْد"‏)‏ ثم السهول‏،‏ ثم المنخفضات الأرضية والبحرية‏.‏ ويبلغ ارتفاع أعلى قمة على سطح الأرض‏، وهي قمة جبل إفرست‏،‏ في سلسلة جبال الهيمالايا‏8840‏ مترا تقريبا فوق مستوى سطح البحر، بينما يقدَّر منسوب أخفض نقطة على سطح اليابسة، وهي حوض البحر الميت‏،‏ بحوالي ‏395‏ مترا تحت مستوى سطح البحر‏. ويقدر متوسط منسوب سطح اليابسة بنحو ‏840‏ مترا فوق مستوى سطح البحر‏،‏ ويبلغ منسوب أكثر أغوار المحيطات عمقا‏10800‏ متر‏، وهو غور ماريانوس في قاع المحيط الهادي بالقرب من جزر الفلبين‏، بينما يبلغ متوسط أعماق المحيطات نحو أربعة كيلو مترات ‏(3729‏- ‏4500‏ متر‏)‏ تحت مستوى سطح البحر‏.‏ ويبلغ الفارق بين أعلى قمة على اليابسة وأخفض نقطة في قيعان المحيطات‏8840+10800=19640‏ مترا‏، ‏أي أقل قليلا من عشرين كيلو مترا‏. وهذا الفارق بين أعلى قمة على سطح اليابسة وأخفض نقطة في أغوار قيعان البحار العميقة والمحيطات إذا قورن بمتوسط نصف قطر الأرض والمقدر بنحو ‏6371‏ كيلو مترا فإن النسبة لا تكاد تتعدى‏ 003,0‏ %.‏ وهذه النسبة الضئيلة تلعب دورا مهما في معاونة عوامل التعرية المختلفة علي بَرْي صخور مرتفعات الأرض‏،‏ وإلقاء الفتات الناتج عنها في المنخفضات في دورات متعاقبة تعمل على تسوية سطح الأرض‏،‏ وتكوين التربة‏،‏ وتركيز الخامات المعدنية‏،‏ وجعل الأرض صالحة للعمران كما سبق أن أسلفنا‏.‏ كذلك فإن الأدلة العلمية التي تراكمت على مدي القرنين التاسع عشر والعشرين تشير إلى أن الغلاف الصخري للأرض في حالة توازن تام‏،‏ وإذا تعرض هذا التوازن إلى الاختلال في أية نقطة على سطح الأرض فإن تعديله يتم مباشرة‏.

ومن هذه الادلة أن القشرة الأرضية تنخفض إلى أسفل على هيئة منخفضات أرضية عند تعرضها لأحمال زائدة‏،‏ وترتفع إلى أعلى على هيئة نتوءات أرضية عند إزالة تلك الأحمال عنها‏،‏ ويتم ذلك بما يسمي باسم التضاغط والارتداد التضاغطي‏،‏ الذي يتم من أجل المحافظة على الاتزان الارضي‏.‏ ومن أمثلة ذلك ما ينتج عن تجمع الجليد بسُمْكٍ كبيرٍ على اليابسة ثم انصهاره‏،‏ أو عند تخزين الماء بملايين الامتار المكعبة أمام السدود ثم تصريفه‏،‏ أو بتراكم ملايين الأطنان من الترسبات أمام السدود‏ ثم إزالتها‏،‏ أو بتساقط نواتج الثورات البركانية العنيفة حول عدد من فوهات البراكين ثم تعريتها‏.‏

ففي العهد الحديث بدأت في الانصهار تراكمات الجليد السميكة التي كانت قد تجمعت على بعض أجزاء اليابسة من نصف الكرة الشمالي منذ نحو المليوني سنة‏ خلال واحد من أكبر العصور الجليدية التي مرت بها الأرض‏.‏ ونتيجة لذلك بدأت الأرض بالارتفاع التدريجي في مناطق الانصهار التدريجي للجليد لتحقيق التوازن التضاغطي للارض‏،‏ وهو من سنن الله فيها‏.‏ وقد بلغ ارتفاع الارض بذلك‏330‏ مترا في منطقة خليج هدسون في شمال أمريكا الشمالية‏،‏ ونحو المائة متر حول بحر البلطيق حيث لا يزال ارتفاع الارض مستمرا‏. وأمام كثير من السدود التي أقيمت على مجاري الأنهار تسببت بلايين الأمتار المكعبة من المياه وملايين الأطنان من الرسوبيات التي تجمعت أمام تلك السدود في حدوث انخفاضات عامة في مناسيب المنطقة‏،‏ وزيادة ملحوظة في نشاطها الزلزالي‏. يفسر ذلك بأن ألواح الغلاف الصخري المكونة للقارات، والتي يتراوح سُمْك كل منها بين المائة والمائة وخمسين كيلو مترا‏، يغلب علي تركيبها صخور ذات كثافة منخفضة نسبيا‏،‏ بينما يغلب علي تركيب ألواح الغلاف الصخري المكونة لقيعان البحار والمحيطات صخور ذات كثافة عالية نسبيا، ولذلك لا يتجاوز سمك الواحد منها سبعين كيلو مترا فقط‏.‏

وكل من ألواح الغلاف الصخري القارية والمحيطية يطفو فوق نطاق الضعف الأرضي الأعلى كثافة، وهو نطاقٌ لَدْنٌ (‏مرن‏)‏ شبه منصهر‏‏ عالي اللزوجة. ولذلك فهو يتأثر بالضغوط فوقه ويتحرك استجابة لها‏.‏ وبالمثل فإن قشرة الأرض المكونة لكتل القارات يتراوح سُمْكها بين‏30‏ و‏40‏ كيلو مترا تقريبا، ويغلب علي تركيبها الصخور الجرانيتية والتي تغطى أحيانا بتتابعات رقيقة ومتفاوتة السمك من الصخور الرسوبية‏. ومتوسط كثافة الصخور الجرانيتية يبلغ‏2،7‏ جرام للسنتيمتر المكعب‏،‏ بينما يتراوح سمك قشرة الارض المكونة لقيعان البحار والمحيطات بين ‏5‏ و‏8‏ كيلو مترات فقط‏،‏ ويغلب على تركيبها الصخور البازلتية التي قد تتبادل مع الصخور الرسوبية أو تتغطي بطبقات رقيقة منها‏. ويبلغ متوسط سمك الصخور البازلتية ‏2،9‏ جرام للسنتيمتر المكعب‏.‏ لذلك تطفو كتل القارات فوق قيعان البحار والمحيطات‏.‏

وبنفس هذا التصور يمكن تفسير الاختلاف في تضاريس سطح الأرض على أساس من التباين في كثافة الصخور المكونة لكل شكل من أشكال تلك التضاريس‏. فالمرتفعات علي سطح اليابسة لا بد وأن يغلب علي تكوينها صخور أقل كثافة من الصخور المحيطة بها‏،‏ ومن ثم فلا بد وأن يكون لها امتدادات من صخورها الخفيفة نسبيا في داخل الصخور الأعلى كثافة المحيطة بها‏،‏ ومن هنا كان الاستنتاج بأن الجبال لابد لها من جذور عميقة تخترق الغلاف الصخري للأرض بالكامل لتطفو في نطاق الضعف الارضي‏. وهنا تحكمها قوانين الطفو كما تحكم جبال الجليد الطافية في مياه المحيطات‏.‏ وقد أيدت قياسات عجلة الجاذبية الأرضية هذا الاستنتاج بإشارتها إلي قيم أقل من المفروض نظريا في المناطق الجبلية‏،‏ وإلي قيم أعلى من المفروض في المنخفضات الأرضية وفوق قيعان البحار والمحيطات‏،‏ ويعتبر انكشاف جذور الجبال القديمة في أواسط القارات مما يثبت حدوث عمليات إعادة التعديل التضاغطي في الغلاف الصخري للأرض‏.‏

وبفهم دورة حياة الجبال ثبت أن كل نتوء أرضي فوق مستوى سطح البحر له امتداد في داخل الغلاف الصخري للأرض يتراوح طوله بين‏10‏ و‏15‏ ضعف ارتفاعه‏،‏ وكلما كان الارتفاع فوق مستوى سطح البحر كبيرا تضاعف طول الجزء الغائر في الأرض امتدادا إلي الداخل‏.‏ وعلي ذلك فإن قمةً مثل إفرست لا يكاد ارتفاعها فوق مستوى سطح البحر يصل إلي تسعة كيلو مترات ‏(8848‏ مترا‏)‏ لها امتداد في داخل الغلاف الصخري للأرض يزيد عن المائة والثلاثين كيلو مترا‏،‏ يخترق الغلاف الصخري للأرض بالكامل ليطفو في نطاق الضعف الأرضي‏،‏ وهو نطاق شبه منصهر‏‏ لَدْن (أي مرن)،‏ عالي الكثافة واللزوجة‏،‏ تحكمه في ذلك قوانين الطفو كما تحكم جبال الجليد الطافية في مياه المحيطات‏.‏ فكلما بَرَتْ عواملُ التعرية قممَ الجبال ارتفعت تلك الجبال الي أعلى،‏ وتظل عملية الارتفاع تلك حتى يخرج جذر الجبل من نطاق الضعف الأرضي بالكامل‏. وحينئذ يتوقف الجبل عن الحركة‏،‏ ويتم بَرْيُه حتى يصل سُمْكه إلى متوسط سمك اللوح الأرضي الذي يحمله‏.‏ وبذلك يظهر جذر الجبل على سطح الارض‏،‏ وبه من الثروات الارضية ما لا يمكن أن يتكون إلا تحت ظروف استثنائية من الضغط والحرارة لا تتوفر إلا في جذور الجبال‏.‏

فسبحان الذي وصف الجبال من قبل ألف وأربعمائة سنة‏ ‏بــ"الأوتاد‏"، وهي لفظة واحدة تصف كلا من الشكل الخارجي للجبل‏،‏ وامتداده الداخلي ووظيفته‏،‏ لأن الوتد أغلبه يُدْفَن في الأرض‏،‏ وأقلّه يظهر علي السطح‏،‏ ووظيفته التثبيت. وقد أثبتت علوم الأرض في العقود المتأخرة من القرن العشرين أن هكذا الجبال‏ بعد أن ظل وصف الجبال إلى مشارف التسعينيات من القرن العشرين قاصرا على أنها مجرد نتوءات فوق سطح الأرض‏،‏ واختلفوا في تحديد حد أدنى لارتفاع تلك النتوءات الارضية اختلافا كبيرا‏.‏ وفي السبق القرآني بوصف الجبال بأنها أوتاد تأكيد أن القرآن الكريم هو كلام الله الخالق وأن النبي الخاتم والرسول الخاتم الذي تلقاه كان موصولا بالوحي ومعلما من قبل خالق السماوات والأرض حيث لم يكن لأحد من البشر إلمام بامتدادات الجبال الداخلية إلا بعد نزول الوحي بالقرآن بأكثر من اثني عشر قرنا. فصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم‏،‏ والحمد لله رب العالمين‏".‏ ولعل القارئ، بعد أن قابل بين النفسير التقليدى والتفسير العلمى ورأى الفرق الهائل الجبار بينهما، يلمس بيده كيف أن القرآن يحتاج إلى كل علوم الأرض، لا ما وصلت إليه البشرية منها فحسب، بل وما لم تصل إليه بعد، وذلك كى نفهمه أفضل، وأن القول بأن القرآن إنما نزل فى أمية أمية وخاطبها على قدر عقولها، ومن ثم لا يصح أن نعرضه لمثل تلك التفسيرات العلمية، إنما هو قول قاصر ومقصّر معا.

ونختم هذا الموضوع بالسطور التالية التى نقلتها من مقال "مراحل تَخَلُّق الجنين"، وهو متاح فى المشباك على الرابط التالى لمن يريد الاطلاع عليه من القراء: www.islampedia.com/ijaz/Html/MarahelKhalkInsan.htm. والسبب فى نقلى لها أننى كنت أستمع منذ أعوام غير قليلة إلى مناقشة بين أستاذين جامعيين متخصصين فى الطب حول المراحل التى يمر بها الجنيين إلى أن ينزل من بطن أمه، فأخذ أحدهما يتحدث بشىء من السخرية عن قول القرآن إن العظام تتكون فى الجنين ثم يكسوها اللحم بعد ذلك، وليس العكس. وهأنذا أجد فى الموقع المذكور مقالا كبيرا فى هذا الموضوع نسخت منه هنا ما يهمنى فى الأمر، وهو مرحلة خلق المضغة عظاما ثم كسائها لحما: "مع بداية الأسبوع السابع يبدأ الهيكل العظمي الغضروفي في الانتشار في الجسم كله، فيأخذ الجنين شكل الهيكل العظمي. وتكَوُّن العظام هو أبرز تكوين في هذا الطور حيث يتم الانتقال من شكل المضغة الذي لا ترى فيه ملامح الصورة الآدمية إلى بداية شكل الهيكل العظمي في فترة زمنية وجيزة، وهذا الهيكل العظمي هو الذي يعطي الجنين مظهره الآدمي. ومصطلح العظام الذي أطلقه القرآن الكريم على هذا الطور هو المصطلح الذي يعبر عن هذه المرحلة من حياة الحُمَيْل تعبيرًا دقيقًا يشمل المظهر الخارجي، وهو أهم تغيير في البناء الداخلي وما يصاحبه من علاقات جديدة بين أجزاء الجسم واستواء في مظهر الحُمَيْل، ويتميز بوضوح عن طور المضغة الذي قبله. قال تعالى: "فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا" (المؤمنون/ 14). ويتميز طور الكساء باللحم بانتشار العضلات حول العظام وإحاطتها بها كما يحيط الكساء بلابسه. وبتمام كساء العظام بالعضلات تبدأ الصورة الآدمية بالاعتدال، فترتبط أجزاء الجسم بعلاقات أكثر تناسقًا، وبعد تمام تكوين العضلات يمكن للجنين أن يبدأ بالتحرك. تبدأ مرحلة كساء العظام باللحم في نهاية الأسبوع السابع وتستمر إلى نهاية الأسبوع الثامن، وتأتي عقب طور العظام كما بين ذلك القرآن الكريم في قوله تعالى: "فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا" (المؤمنون/ 14). ويعتبر هذا الطور الذي ينتهي بنهاية الأسبوع الثامن نهاية مرحلة التخلق، كما اصطلح علماء الأجنة على اعتبار نهاية الأسبوع الثامن نهاية لمرحلة الحُمَيل (Embryo ثم تأتي بعدها مرحلة الجنين (Foetus) التي توافق مرحلة النشأة، كما جاء في قوله تعالى: "فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ" (المؤمنون/ 14)". والآن ما رأى السادة العلماء الذين ينكرون التفسير العلمى لنصوص القرآن المجيد؟ أينصحون المسلم بالسكوت على ما يسمعونه من مثل هذه التشكيكات والتهكمات وكأن شيئا لم يكن؟ أم ماذا؟ ولكن هل يستطيع الإنسان أن يتحكم فى عقله فيمنعه من التطلع والتشوف والفضول والشكوك؟ وهل العقل حجر يمكن تشكيله بإزميل الإرادة فيتشكل كما تريد تلك الإرادة؟ ثم قبل ذلك كله هل يصح أن نترك المتشككين والمتهكمين دون أن نبين لهم وجه الخطإ فى كلامهم؟ أما أنا فأقول: على بركة الله يفسر القادرون آيات القرآن المتصلة بالعلم تفسيرا علميا. ولنفترض أنهم قد يخطئون، فلن يضر ذلك فى شىء، فالمفسرون التقليديون الذين يكتفون باللغة والبلاغة وما إلى ذلك كثيرا ما أخطأوا، ولم يضر ذلك القرآنَ فى شىء، إذ من المعروف أن النص القرآنى شىء، وتفسيره شىء آخر لا يلزم الكتاب الكريم بشىء. إنما هو اجتهاد بشرى يجوز عليه الخطأ والصواب.