خمر البيان
شعر مصطفى الزايد

آثَرْتُ رَاحَكِ مُعْرِضاً عَنْ راحِي ... فَتَأَلَّقَتْ بِحُبابِها أقْداحي

نَشْوانَ أشْرَبُها بِغَيْرِ تَحَفُّظٍ ... مِنْ سَوْرَةِ السُّكْرِ اسْتَباحَ صَلاحي

لا غَوْلَ فِيها رَغْمَ ما قَدْ رَنَّحَتْ ... مِنْ راسِخيْنَ تَنَادَمُوا لِفَلاحِ

سِحْرُ حَلالٌ كَمْ يُشَقُّ بِهِ الدُّجى ... عَنْ عالَمِ المَلَكوتِ لِلْأرْواحِ

الصّاعِداتُ إذا النُّفوسُ تَخَامَلَتْ لِرَوائِعِ المَعْنى بِنَفْحِ أقاحِ

والرّاقِياتُ إلى البَيانِ تَنَزَّلَتْ ... آياتُهُ سَيْباً مِنَ الفَتّاحِ

مِنْ مُغْدِقٍ أدْناهُ يَحْطِمُ غَيْرَهُ ... أوْ مُثْمِرٍ أعْلاهُ غَيْرَ مُتاحِ

والجانِياتُ مِنَ الدّراريْ كُلَّ ما ... يَتِمَتْ فَعَزَّتْ عَنْ مُنى الطَّمّاحٍ

غَرْفاً مِنَ البَحْرِ الخِضَمِّ وَتارةً ... في نَحْتِ صَخْرٍ بِالدُّجى وَضّاحٍ

ما كانَ خَمْرُ الأنْدَرِيْنِ سِوى الّذي ... سَكَبَتْهُ أحْرُفُها غَداةَ جِماحٍ

بَحْراً يُباهِي بِاللّآلِئِ كُلَّ ما ... جَمَعَتْ يَدا الغَوّاصِ وَالمَلّاحِ

لُغةٌ مِنَ المَعْنى تَصوغُ عَباءةً ... فَتَشِفُّ عَنْهُ لِمَسْمَعِ اللَّمّاحِ

وَتُبَيِّنُ المَدْلولَ لا بِرَتابةٍ ... لَكِنْ «بِشَكْلٍ» ضابِطِ الإفْصاحِ

وَتُجانِسُ الأضْدادَ في تَرْكِيْبِها ... فَالْوَجْهُ إِلْفٌ وَالفُؤادُ مُلاحِ

فَيَشِي السِّياقُ بِما تُكِنُّ كَما تُرى ... خَلْفَ الزُّجاجِ نَصاعَةُ المِصْباحِ

تُضْفي الدَّلالةُ بِاخْتِلافِ سِياقِها ... مَعْنىً تَذُوْبُ لَهُ نُهَى الشُّرّاحِ

وَتُرَنِّمُ الأنْغامَ دُوْنَ مَعازِفٍ ... حَتّى تُخالَ نِتاجَ جِنٍّ واحِ

كَمْ شَيَّدَتْ مَبْنىً بِحَرْفٍ واحِدٍ ... فَاسْتَحْصَدَ المَعْنى بِلا اسْتِيْضاحِ

إرْثٌ عَتِيْقٌ في جَلالةِ وَهْجِها ... بَيْنَ اليَراعِ وَأوَّلِ الألْواحِ

مَنْ كَانَ يَجْهَلُها يُحِسُّ لِوَقْعِها ... عَبَقَ الجِنانِ وَزَهْرِها الفَوّاحِ

القائِلِيْنَ «بَلى» شُهوداً لَمْ تَزَلْ ... أرْواحُهُمْ ظَمْأى لِعَذْبِ قُراحِ

كَمْ آنَسوا فِيها البَهاءَ وَما دَرَوْا ... تاريْخَهُمْ في طِيْبِها النَّفّاحِ

تَخْبُو اللُّغاتُ إذا تَضَعْضَعَ أهْلُها ... وَسَناكِ أشْرَقَ في إسارِ رِماحِ

المُدْلِجاتُ إذا خَرَجْنَ حَواطِباً ... وَعَلى يَدَيْكِ تَنَفُّسُ الإصْباحِ

وَالمُعْتِماتُ إذا عَرِيْنَ وَقَدْ بَدا ... إشْراقُ حُسْنِكِ مِنْ وَراءِ وِشاحِ

يُنْمَيْنَ لِلْأبْناءِ وَالأعْرابُ قَدْ ... نُسِبُوا إلى إعْرابِكِ الصَّدّاحِ

يا أمَّنا هَلْ تَسْمَعينَ أنِيْنَنا ... في حَوْمةِ التَّغْريَبِ فَيْضَ نُواحِ

قَدْ كُنْتِ وَالإسْلامُ أجْنِحةً بِها ... جُزْنا السِّماكَ بِكَوْنِهِ المُنْداحِ

عُودَا إلَيْنا كَيْ نَعانِقَ مَجْدَنا ... فَالطَّيرُ لا تَعْلُو بِغَيْرِ جَناحِ

* * *