ما زاد في تأخر المجتمع العربي الصراعات الطائفية بين أصحاب الحداثة و السلفية المغلقة ، بحيث يرفض الحداثيون كل القيم التي تقدمها السلفية باعتبارها مبادئ مجردة في توجيه السلوك البشري، لا تعتمد على الواقع و لا تتناسب مع التطور الحديث، و ترى أن هذه القيم مقيدة للحرية و الإبداع، و هو ما حدث في بداية التسعينات عندما أوقف النظام الجزائري المسار الانتخابي و منع "الفيس" من الاستمرارية، و يحدث اليوم مع الإخوان المسلمين في مصر بعد خلع الرئيس محمد مرسي، و كذلك الحرب في سوريا، و من هنا تعذر فهم كل المشكلات و وضع الحلول لها
الكثير من أخطأ في استعمال مفهوم "الثورة" و الربط بين "الدين و السياسة" و لم توضع هذه المفاهيم في سياقها الحقيقي، فظن بعض المسلمين أن الثورة هي الخروج الى الشارع و غلق الطرقات و استعمال العنف من أجل تغيير الحكم و الوجوه الحاكمة ، في حين تراها الدول المتقدمة تغيرا في الاقتصاد و تجديد في الفكر، أو التحرر من العقلية الدينية، و من هذين المفهومين للثورة اختلف العرب في تصنيف بعضهم البعض بين الثوريين الحقيقيين و أشباه الثوريين، هذا التناقض راجع إلى أن الشعوب العربية احتارت في إتباع أي نظام سياسي تسير عليه ( رئاسي، شبه رئاسي، جمهوري، برلماني )، و ساهم في تأزيم الوضع الواقع الاجتماعي المتشبك و المعقد ، بحيث يتعذر على مجتمع ما ( الجزائر مثلا) أن تحدث تغييرا في البنيات العليا و هي تواجه صعوبات في تحسين بناها التحتية أو حتى إيجاد الحلول السليمة لتهيئة قنوات صرف المياه القذرة و معالجة التسربات و الإنزلاقات، فاضطرت الاعتماد على اليد العاملة الأجنبية في إنجاز مشاريعها.
يطرح الكثير من المهتمين بالشأن السياسي سؤالا إذا ما كانت دولة كأمريكا أو إسرائيل و حلفاءها مثلا، لها من الإمكانات ما لم تتوفر عليه الدول العربية الإسلامية، لو توحدت هذه الدول طبعا و تمسكت بعروتها الوثقى و وقفت على خط واحد، يجيب أحد الباحثين أن الخيال العربي عجز عن تجاوز الواقع و تحويله أو خلقه و تفجيره، لم يبذل العربي جهدا كبيرا للسيطرة على محيطه، و ما تزال الصحراء العربية مهملة و قاحلة ( الصحراء الجزائرية كمثال )، و لو استغلت كل الطاقات المتوفرة لأمكن لهذه الصحراء أن تقيم عليها أممٌ، لكن الإنسان العربي بقي بُورٌ في أرضه، يسكنه الكسل و العجز و التراخي، لا يصنع يومه و لا غده، لأنه مكبل بقيمٍ لم تعد صالحةً في زمن السلاح النووي، إذ نجد الكثير من "السلفيين" ما زالوا يدعون الى الجلوس على الأرض، و ترك الأكل على الطاولة و استعمال الشوكة، و يدعون الى العودة إلى ارتداء القميص و تقصير السروال و إطلاق اللحية ، و أمور أخرى دار عليها الزمن و ولىّ، و ضموها ضمن القيم الثابتة، و أوهموا الناس أنها من عادات النبي ( صلعم) ، و لم يفكروا بما يخدم الحاجات الإنسانية أو تسهيل علاقتهم بالآخرين.
و الملاحظ أن كل طائفة من الطوائف المنتشرة في العالم الإسلامي لها إيديولوجيتها الخاصة بها و قوانين و قواعد اللعبة التي تلعبها، فالسلفية حسب الدراسات تقوم إيديولوجيتها على احتقار العقل، بل أحيانا تغذي كراهية له، كما أنها لا تفهم ماهي العناصر التي قام على أساسها ازدهار الماضي الإسلامي، بل تعتقد هده العناصر (السلفية) على أنها انحرافا مكروها، بل كفرا، كما كتب في ذلك سيد قطب رائد السلفية المعاصرة، و كانت النتيجة الحتمية لهذه المواقف الرجعية، هي إعطاء الأولوية للتطرف في الممارسات سواء كانت ظاهرية أو باطنية مثل ( الزيّ و اللحية و الحنين لعصر ذهبي مفقود، و سارت إلى أبعد الحدود في مسائل الزواج )، و يقصد بالسلفية بالتحديد إقامة الدولة الإسلامية عملا و سلوكا و منهجا، و هي ترى أن هوية الشعوب عاملا ثابتا لا يقبل التطور، و هذا حسب المحللين مناقضا تماما لواقع التاريخ، لأن الهوية العربية الإسلامية تطورت عبر التاريخ، فما زاد في تأخر المجتمع العربي إذن الصراعات الطائفية بين أصحاب الحداثة و السلفية المغلقة ، بحيث يرفض الحداثيون كل القيم التي تقدمها السلفية، باعتبارها مبادئ مجردة في توجيه السلوك البشري، لا تعتمد على الواقع و لا تتناسب مع التطور الحديث، و ترى أن هذه القيم مقيدة للحرية و الإبداع، و هو ما حدث في بداية التسعينات عندما أوقف النظام الجزائري المسار الانتخابي و منع الفيس من الاستمرارية، و ما حدث مع الإخوان المسلمين في مصر بعد خلع الرئيس محمد مرسي، و كذلك الحرب في سوريا.
يقدم بعض الباحثين مثلا عن تناقض السلفي في أطروحاتها، إذ يقول: إن السلفية مثلا تفرق بين المسلم ابن رشد كمسلم و الميمون اليهودي و المسيحي توماس الإكويني، و لا تؤمن بأن الثلاثة يجمعهم عنصرا واحدا و هو "الفكر"، و يتبادلون الآراء دون تحفظ في إطار حوار الثقافات و حوار الحضارات و حوار الأديان، و هي ربما الأسباب التي جعلت المسيحية تتقدم على الإسلام، لأن المسلمون يرفضون التطور، و المجتمع الأوروبي خطا خطوات حاسمة، بينما المجتمع العربي توقف عن تطوره، و التيار السلفي في جميع البلاد الإسلامية يقف ضد تطور المجتمع، و يبذل جهده لقيام ثورة ثقافية، لأنه يرى أن الفكر الإسلامي صالح لكل زمان و لا يخضع للتطور، و يرى التيار السلفي أن المسلمين بتطورهم ضاعوا في الطريق، و أن انتصار الإنسان الأوروبي على الإنسان المسلم، معاقبة الله للمسلمين لتخليهم عن المبادئ الإسلامية، و إذا كان رأي السلفية صائب، و وقفنا مع هذا الرأي، فكيف يفسر هذا التيار الوضع في فلسطين في حربهم ضد الكيان الصهيوني، هل الله ينصر إسرائيل و يقف الى جانبها ضد المسلمين؟، الأمور طبعا في حاجة إلى إعادة نظر و قراءة جيوتاريخية.
المحللون أكدوا أن الفرق بين العرب و الغرب هو أن العرب لا يملكون مخططات لتفجير خيرات أراضيهم، و لهذا هم دوما ينتظرون الحلول من الخارج، العرب اعتمدوا على الكسب السريع بأية طريقة، حتى لو كان عن طريق الرشوة و التهريب و الغش و الاحتيال و اختلاس المال العام ليس في الجانب الاقتصادي فحسب بل حتى في الانتخابات، و يكفي الوقوف على البرلمانات العربية و مجالسها المنتخبة، أما الغرب فلهم خطة يسيرون عليها من أجل امتلاك العالم ، و إذا أخذنا الجزائر كمثال، نرى أن المشكل في الأحزاب الجزائرية المعتمدة على سبيل المثال أنها اختلفت في الأسماء فقط، في حين اتفقت على برنامج واحد هو تطبيق برنامج رئيس الجمهورية ( قبل خلعه)، و لم يقدم و لا حزب واحد من هذه الأحزاب مشروع المجتمع، بل حتى الأسماء ليست من اختراعها ، حيث أخذتها من أسماء أحزاب أخرى، مثلما هو الشأن بالنسبة لحركة النهضة الإسلامية في الجزائر و النهضة الإسلامية في تونس، العدالة و التنمية في الجزائر و العدالة و التنمية في المغرب، و هكذا..، و يخيل للمتأمل أن هذا التعدد حَوّلَ الأرض إلى ماء، و لابد لنا أن نجيد السباحة كي نتمكن من معايشة التيارات الجارفة و مقاومتها، و ازدادت الهوة بين ما يحدث في الجوار، الجزائر فيه معنية بل مهددة من كل الجوانب، تزداد فيها الضغوط أكثر من ذي قبل، و على الجزائر و البلدان المجاورة لها أن تختار بين أن تبقى أسيرة تقاليدها أو الاستجابة للتحديات لدخول عالم الحضارة الحديثة.
في دراسة له تحت عنوان: "نحو تصور جديد لعلاقة الدين بالسياسة" يرى الدكتور المصطفى تاج الدين أن طابع تحكيم السياسي في الديني هو القصد الى اللعب بالرموز الدينية من أجل التمكين السياسي، و على أساس هذا النظر استثمر الزعماء جملة من العقائد لكسب الشرعية الدينية مع أن الشرعية مفهوم موضوعي، يكسب بالعدل و إقامة النظام على أساسه، و لهذا تحول الخليفة إلى ظل في الأرض، و أضحت طاعته جزءًا لا يتجزأ من الدين ، و عصيانه خروجا يقتضي الحد الشرعي، هكذا يقول صاحب الدراسة، كما تحولت أحزاب كثيرة الى أحزاب إسلامية تريد تطبيق الشريعة و رفع شعار" الحل الإسلامي"، مع أن تطبيق الشريعة مبدأ عام، و لا يمكن لأحد أن يتكلم باسم الله، و يُفْهَمُ من قول الدكتور المصطفى تاج الدين أن تطبيق الشريعة الإسلامية واجب ديني ، كل مسلم ينطق بالشهادتين ملزم بالعمل بها وتطبيقها لا يحتاج الى سنّ قوانين أو تأسيس حزب سياسي إسلامي.
كما أن الذين أعطوا للأحزاب صفة "الإسلامية" أخطأوا و أوقعوا الناس في الخطأ، و لذلك لسببين اثنين: الأول أنهم قدسوا الأفعال البشرية و حولوا العمل السياسي إلى عمل ديني، و السبب الثاني هو تسييس الدين و إفراغه من قيمه الروحية و الإنسانية و تحويله الى رصيد رمزي للدعاية السياسية، و في ظل اختلاف و انقسام الأحزاب الإسلامية حول مفهوم الديمقراطية، نجد بعض الأحزاب (الفيس في الجزائر) كفرت بالنظام الديمقراطي، في حين بعض الأحزاب السياسية الأخرى تحاول العمل بها لكن تحت غطاء "الشورى"، و في هذا يمكن القول مثلما ذهب إليه الدكتور تاج الدين حان الوقت لإعادة النظر في المفاهيم السياسية الإسلامية أو الأحزاب الإسلامية حتى لا يتم تحويل الإسلام بنية صادقة أو مبيتة الى دين تتحول فيه متغيرات الواقع البشري الى قضايا شرعية قد تنذر بخطر جسيم على الأمة.
علجية عيش