منذ أن ظهر مصطلح العلمانية أوائل القرن 19 حتى الآن وهو لم يستقر على تعريف موحد جامع بشكل مطلق يستند إليه كمفهوم بدهي، والسبب أن الاختلاف حوله كان يحدث في ظل تراجع القوى العلمانية فتضطر لإعادة صياغة برنامجها ونفسها من جديد، والعكس صحيح أي بتقدم القوى العلمانية وتأثيرها في المجتمع تُعاد صياغة المفهوم بشكل أكثر سلطوية، وعليه فيبدو أننا أمام مفهوم حسي أكثر منه عقليا يخضع لظروف ومتغيرات اجتماعية وسياسية ونفسية.


حتى القوى الدينية شاركت في حفلة تعريف العلمانية من تلقاء نفسها كالذي فعله الدكتور عبدالوهاب المسيري بتقسيمها إلى جزئية وشاملة، واعتبر أن شمول العلمانية يعني محاربة الأديان..وأن جزئيتها فقط في الفصل بين الدين والدولة مع ضمان الحريات بجميع أنواعها، وبالنظر في مفهوم المسيري فقد خرج بشكل تآمري يعتقد أن العلمانية حزب سياسي منافس على السلطة، بينما التعلمن هو مبدأ إنساني وعقلي يرفض سلطات رجال الدين على التشريع والتنفيذ، بالتالي فيمكن تطبيق هذا المبدأ بأشكال متعددة ومناهج وفلسفات متنوعة رأيناها طوال القرن ال 20 منها الناجح ومنها الفاشل، لكن الوظيفة الأسمى للتعلمن قد تحققت بإبعاد رجل الدين عن قيادة الدولة والاحتكام للقوانين والدساتير والحكومات المنتخبة


هذا المنطق التآمري للمسيري ظل هو المسيطر على أذهان كل الإسلاميين تجاه العلمانية حتى من قبل ظهور المسيري، بيد أن تعريف المسيري لم يكن سوى نتيجة لرفض الشارع الإسلامي للعلمانية بشكلها الحداثي، لكن في المقابل أدى فشل الإسلاميين لتقديم تنازلات وإعادة تعريف العلمانية من منظورهم بشكل أكثر واقعية، بمعنى أنه ولكي يسيطر الإسلاميون على المجتمع لابد لهم تدجين القوى الليبرالية الحداثية بأدواتها القوية في الإعلام كالمسرح والسينما والثقافة، لذا فقد اختلفوا حول تلك الأدوات بين مُحرّمٍ لها ومُحلل بُغية الصعود الاجتماعي والحُكم ليس إلا، وقد كان من هؤلاء الشيخ "حسن البنا" الذي دخل البرلمان المصري بوصفه منتجا حداثيا في سبيل تطبيق نظريته الإسلامية في الحُكم، بالتالي العلمانية لم تعد مؤامرة خطيرة في أذهانهم بل هي مؤامرة بسيطة يمكنهم التعامل معها بنفس أدواتها.


قَصَد الإسلاميون من التقرب للعلمانية هو إثبات أن الإسلام كدين هو ذو بعد سياسي متكرر في آيات القرآن والسنة، بينما الإسلام لديهم يعني أخلاق وفضيلة ورحمة..فإذا قمنا بالفصل بين الإسلام والسياسة نكون قد فصلنا بين المجتمع وأخلاقه ودينه بالكلية، وقد انتشرت هذه الرؤية بين الإسلاميين وصيغت فيها آلاف الكتب وتخصصت دول وحركات كاملة في دعم هذه الرؤية والتحذير من شر العلمانية، ثم زعموا أن هدف العلمانية النهائي هو الفصل بين الإلهي والزمني..أو بين الدين والدنيا كغاية يصبح بعدها كل قادة الدول لادينيون، وإن كانت هذه الرؤية في جوهرها شديدة التطرف والاختزال لكنها تعرضت لبراكين وزلازل بين الإسلاميين أدت لتسابق مضحك أحيانا حول تعريف العلمانية ومنتجاتها كقول أحدهم "ليبرالية يعني امك تقلع الحجاب"..!


وقد شهدت أواخر عهدي مع الإخوان كمّ سخريتهم من كلمة هذا الشيخ الذي يدعي أن الليبرالية تعني القلع، فقد كانوا مُشبّعين بمفهوم مختلف عن الليبرالية أنتجه حسن البنا وطريقة عيشه يتلخص في أن الإسلام طريقة حياة شاملة جامعة ومثلما هو حقيقة صوفية وطريقة سلفية هو أيضا منتج ليبرالي حداثي يمكنه تقليم أظاهر الليبرالية المعادية للدين، وقد استفاد من هذا المنطق إخوان تركيا في التأقلم مع علمانية بلادهم بعد تأسيسها فلسفيا وروحيا من قبل على يد الشيخ "سعيد النورسي" ولولا صعود القطبيين وطرد الإصلاحيين من الإخوان ثم التحالف مع الجهاديين لرأينا تعريفا إخوانيا جديدا للعلمانية هو أكثر حداثة وواقعية مثلما توصل إليه إخوان تونس، بيد أن الحركة الإسلامية المصرية بالعموم كانت أقرب للجماعة الوهابية في الخليج من الجماعة الليبرالية في الغرب وتصورها لمعضلة الدين والسياسة.


وقد يشتبه على البعض سلوك إخوان مصر اليوم في 2019 وهم يكرهون وهابية المملكة بدعوى مساهمتهم في الانقلاب على د .محمد مرسي، ثم أعادوا تعريفاتهم التراثية وأسقطوها على وهابية الخليج بالمجمل كفقهاء البلاط وسدنة المعبد وغيرها، إنما جوهر ما قاموا به هو الثورة فقط على جانب وهابي مؤيد للحاكم تم استيراده ثقافيا من فقهاء البلاط العباسي المؤيدين للمتوكل ضد خصومه من ناحية، وأقدم من رؤية فقهاء بلاط الأمويين ضد الهاشميين والخوارج من ناحية أخرى، إنما لم يثوروا على الرؤية الجهادية التي اكتسبوها من حرب سوريا التي أراها هي القشة التي قسمت ظهر البعير الإخواني بالانقلاب كليا على قيمهم الأخلاقية السابقة كالوحدة الإسلامية والسلام الاجتماعي ورفض منطق الجهاديين والتكفير والطائفية المسطور في كتاب "دعاة لا قضاه"


هذا الضلال الإخواني في تصور العلمانية هو الذي أدى بهم لكل هذه النتائج، فالتعلمن صحيح يهدف أوليا لتجريد رجل الدين من سلطاته التنفيذية والتشريعية لكن جوهر ذلك التعريف يكمن في تجريد رجل الدين أيضا من القدسية الفكرية، بمعنى أن تنحية رجل الدين من مسئوليات الدولة تضعه في ركن اجتماعي معزول عن مسائل الفكر والنظر المرتبطة آليا بالدولة، فيفقد قدسيته الفكرية وتصبح ألفاظه وصيغه البلاغية والدينية فارغة من معناها وليست ذات مغزى، لذلك فالمفهوم التآمري للعلمانية عند الجماعات لم ينتبه لجوهر التعلمن بالعموم وهو (التفكير العلمي والعقلاني) فمعنى تجريد الكهنة من قدسيتهم يعني إعادة الاعتبار مرة أخرى للعلم والعقل..وهذا أفضل ما توصلت إليه أوروبا ونجحت في اكتسابه بعد إكتمال فصل الكنيسة عن شئون الدولة.


جوهر العلمانية هذا هو الذي أنتج الدساتير في الحقيقة، فالدستور يتضمن في بنوده عشرات وربما مئات المواد، إذا وضعنا مادة أو اثنين في التعريف فماذا سنقرر في الباقي؟..وقتها يلزمنا فلسفة وجوهرا لهذا التعريف يمكننا اعتباره مبدأ فوق دستوري..وهو ما حدث بالفعل مع دستور الولايات المتحدة في القرن 18، فلم يكن لفظ العلمانية مذكورا في الدستور لكن معناه وجوهره حاضر بقوة في إعلاء قيم العقل والعلم، وأن الدولة لا تُدار بالشعارات والأعراف والأيدلوجيا الحزبية لكن بالعقل وحده، وقد رأينا ثمار ذلك في ثورة الأمريكيين ضد العبودية ووقف اضطهاد السكان الأصليين واعتبارهم مواطنين أمريكيين صالحين لاحقا، لكن ظلت جرائم المستعمِر القديم تطارد أمريكا ولم يشفع لهم ما قام به جيفرسون ولينكولن في ظل أخطاء وجرائم قيادات أمريكا المعاصرين وهذا موضوع مختلف.


وتبقى مشكلة المتدينين بالعموم في تناول المفاهيم ليست كوحدة مستقلة فكرية لها تجلياتها الخاصة في الفكر البشري، لكن يتناولوها بمنطق ديني فيقومون (بتديين الأفكار كلها) ويصبغون على المفاهيم قداسة كاذبة تصبح مدخلا بعد ذلك للحرب والفتن والتسلط، مثلما رأوا مفهوم الدولة مثلا..فعندما قاموا بتديينه لم ينتبهوا أن حدود إدارة الدولة تبدأ وتنتهي مع المصالح قبل الأفكار، وبالتالي فتديين الدولة سيؤدي لصراعات بنفس مقدار اختلافهم في المصالح أولا ثم الفكر ثانيا ، ولعل ما حدث في سوريا من حروب بين الجهاديين وصراعاتهم وانشقاقاتهم المتكررة يكن درسا للإسلاميين يدفعهم لضرورة النظر في إعادة تعريفهم للأشياء من جديد.