الفساد في ضوء البعد القانوني
الدكتور عادل عامر
فالفساد في ضوء البعد القانوني يقصد به الاستخدام غير القانوني للوظائف بقصد تحقيق كسب شخصي إلا أن التشريعات القانونية نسبية تختلف من مجتمع لآخر، بل ومن وقت لآخر في المجتمع نفسه، كما أن المشروعية القانونية يتم تحديدها بواسطة الطرف الأقوى سياسياً، هذا بالإضافة إلى أن القوانين ليست من صنع الملائكة، وإنما هي من صنع البشر
كما أن الفساد في ضوء بُعْد الوظيفة العامة يقصد به سوء استخدام الوظيفة العامة، بقصد تحقيق مكاسب خاصة، من خلال خرق القانون أو مخالفة التشريع ومعايير السلوك الأخلاقي. إلا أن هذا المفهوم لا يتيح الفرصة لدراسة أنماط الفساد في المجتمعات التقليدية، حيث إن مفهوم الوظيفة العامة حديث نسبياً، كما أن الإجراءات البيروقراطية المعقدة تشجع على زيادة مساحة الممارسات الفاسدة، وهناك أيضاً بعض الأنشطة؛ كتجارة المخدرات، والتهرب الضريبي، وتجارة العملة والغش التجاري، تقع خارج نطاق الوظيفة العامة
والفساد في ضوء بُعْد المصلحة العامة يقصد به السلوك الذي ينتهك حدود المصلحة العامة أو النظام المدني العام، بقصد تحقيق مكاسب خاصة ، إلا أن مفهوم الفساد في ضوء هذا البعد لا يصلح في المجتمعات الحديثة لتعدد المصالح وتنافسها داخل المجتمع الواحد ، كما أن الصفوة الحاكمة تستخدم هذا المفهوم كإطار تخفي داخله مصلحتها الخاصة ، حيث يستخدم هذا المفهوم كأداة لتزييف وعي أفراد المجتمع، للخلط الواضح بين مصلحة الحاكم ومصلحة الدولة والمجتمع ، والفرد في ضوء هذا المفهوم يمكن أن يتبوأ أسمى المراكز، بقدر ولائه الشخصي للحاكم، بغض النظر عن قدراته ومؤهلاته الموضوعية .
والفساد في ضوء بعد الرأي العام، يقصد به ذلك السلوك الذي يعتبره أغلبية الرأي العام سلوكاً فاسداً، أن أي فعل فاسد يعتبر فاسداً، إذا حكم عليه المجتمع بأنه كذلك، وأحس فاعله بالذنب وهو يقترفه
إلا أن هذا المفهوم شأنه شأن مفهوم المصلحة العامة تواجهه عدة صعوبات، حيث إن الرأي العام عبارة عن آراء متصارعة، فضلاً عن أنه يتغير عبر الزمان والمكان، بل ويختلف الرأي العام من قطاع إلى آخر من قطاعات المجتمع، ويحدد بعض الباحثين في ضوء هذا البعد ثلاثة أشكال للفساد؛ هي الأبيض الرمادي والأسود.
ومفهوم الفساد في ظل هذا البعد يجعل بعض صور الفساد حقيقة حياتيةً معترفاً بها، بما يعني انهياراً أخلاقياً وقانونيا ويتحول الفساد بموجبه إلى قيمة في المجتمع
مما سبق يتضح أن هذه الكارثة هي إفراز طبيعي لانحراف الدولة وفسادها ، كنتاج لنظمها الديكتاتورية التي لا تقف مظاهره عند حد الممارسات الفاسدة للطبقة الحاكمة، بل تتجاوزه إلى التحالفات الفاسدة، أو ما يسمى بلعبة المصالح أو شبكة المصالح المشبوهة للنخبة الحاكمة والفئات الطفيلية ، حيث إن السلوك المنحرف للنخبة الحاكمة يعطي القدوة الانحرافية للصغار ، ويستشري الفساد في المجتمع، بما يترتب عليه خَلْق ثقافة الفساد، تلك الثقافة التي تجعل من الفساد أمراً مقبولاً اجتماعياً، للحصول على الحقوق، بما أدى إلى رسوخ أركان الفساد في كافة الأجهزة الحكومية وعرقلة جهود مكافحته ، كما أنه يجب عدم النظر إلى الفساد باعتباره مجرد خروجٍ على القواعد القانونية السائدة في المجتمع؛ لأن هذا النظام القانوني يمكن أن يكون ذا طابع فاسد، أي أنه يسمح بممارسات تقنين الفساد، لأن هذه القواعد من صنع الطبقة الفاسدة . كما قد يكون هذا الفساد المؤدي إلى الكارثة
- نتاجاً للتبعية الرأسمالية العالمية التي تؤدى دوراً خطيراً في توجيه دول المحيط إلى النشاط الاستهلاكي، والاستثمار في الأنشطة الطفيلية ذات الكسب السريع والمرتفع، ويبدو ذلك في تحالفها مع القوى المحلية من خلال بيع السفن المتهالكة ومنحها شهادات تثبت صلاحيتها للملاحة البحرية.
فالتحول من المحلية إلى العالمية أدى إلى تنامي الجريمة المنظمة، بما أدى إلى خَلْق مافيا الكوارث، فوراء هذه الكارثة قوى اقتصادية وسياسية داخلية وخارجية، ولذا تعد هذه الكارثة بمنزلة جريمة منظمة ارتكبت عبر أشكال مؤسسية، أو في ضوء ما يطلق عليه الشركات المتعددة الجنسيات، بما يشير إلى دور دول المركز في خَلْق أزمات داخل المجتمع المصري، التي تعد نتاجاً طبيعياً للانفتاح الاقتصادي والخصخصة،
ومدى ارتباط ذلك بالمتغيرات العالمية في إطار ثقافة الاستهلاك المصدرة إلينا، حيث تحول المجتمع المصري إلى النمط الاستهلاكي المتخلف، واتجه دون قاعدة إنتاجية نحو رأسمالية متخلفة، ترتب عليها انهيار الطبقات الوسطى، وصعود غير متوازن للطبقات الدنيا الطفيلية، اعتماداً على قيم الفهلوة والدردحة والغش والخداع والمحسوبية،
فلقد أصبحت هذه القيم -مع الأسف -وسيلة لعالم الشهرة والمال، وانهارت قيم الجد والاجتهاد، بما جعل مصر، كغيرها من الدول النامية في ظل العولمة وهيمنة رأس المال العالمي، تربة خصبة لنشاط التنظيمات الإجرامية عابرة للقارات أو لنمو تنظيمات إجرامية من الداخل، فالتغيرات التي فرضها اقتصاد السوق هيأت العديد من الفرص لأسلوب عمل العصابات الإجرامية، فالخصخصة في ظل عمليات الانفتاح الاقتصادي أدت إلى تورط كبار المسئولين في الدولة في العديد من مظاهر الفساد كالعمولات والاختلاسات،
فلقد ترتب على اقتصاد السوق اعتناق ثقافة عقلانية الكسب السريع. ولقد كانت العديد من الممارسات الفاسدة لا تعد انحرافاً عن القيم التقليدية التي تؤكد على القربة والقبلية والشخصنة، بل كانت تعد التزاماً بالقيم السائدة التي يصعب الفكاك منها.
ولقد وصل نفوذ مثل هذه التنظيمات الإجرامية إلى قدرتها على تعيين الموظفين العموميين، بما يمكنها من إزاحة أي كفاءة علمية تعمل للمصلحة العامة، فانتعشت الفئات الطفيلية، وأسهمت في إضعاف النسق القانوني،
وأصبحت الغلبة للأفاقين والانتهازيين، بل وحظيت مثل هذه التنظيمات بحماية السلطة الحاكمة، بما يضمن عدم ملاحقتها قانونياً، وذلك تحت تأثير الارتباط بين الصفوة الاقتصادية والصفوة السياسية، بما أدى إلى مشروعية التبادل بين المال والقوة.
تعبر القوانين منذ نشأتها عن مصالح الطبقة المسيطرة، فهي أداة لتحقيق مصالحهـا، وإخفاء حقيقة استغلالها. ففي المجتمع العبودي كان القانون يضع العبيد في مصاف الماشية، ويعطي الحق لسيده في أن يقتله أو يقدمه فريسة للوحوش، أو يبيعه في الأسواق.
وفي المجتمع الإقطاعي أدت الإيديولوجية الدينية دوراً في إخفاء حقيقة التناقضات الطبقيـة، وأصبح الهدف من العقاب حفظ الدين، ومن وراءه الكهنة وطبقة النبلاء، وقيست الجرائم ضد الله بالجرائم ضد الحاكم بأمر الله، فلكي يتم المحافظة على ثروة الملاك، عوقبت السرقة بالإعدام كوسيلة لتأديب الفقير ومنعه من التطلع للغني.
وفي المجتمع البورجوازي كان الخطاب السياسي القانوني هو الشكل السائد لوعي الطبقة البورجوازية في بداية احتجاجها على النظام الإقطاعي، حيث دعت إلى مبادئ الحرية والعدالة والمساواة، وسيادة القانون ودولة القانون،
إلا أن رغبة البورجوازية في تدعيم سيطرتها وهيمنتها والاحتفاظ بمكاسبها، أدي إلي فقدان طابع الأفكار التي تنادي بها، وأصبحت مجرد مساواة شكلية تخفي المضمون الطبقي، وأصبحت القوانين تحمي الاستغلال الرأسمالي، فالحرية هي حرية الأغنياء في اقتناص الفرص، وحرية الفقراء في الموت جوعا.
وعاقبت القوانين الفقير على سرقة مال الغني، إلا أنها لم تعاقب الغني على ابتزاز مال الفقير، فهناك تمييز في تطبيق القانون لا يقوم بحماية المجتمع ككل، بل يقوم بحماية الطبقة المسيطرة. فالقانون ما هو إلا شعار يصنع ويستخدم، من خلال حكم الطبقة، لحماية وجود النظام، فمهمة القانون الأساسية في النظام الرأسمالي، هي حماية وصيانة وتأمين مصالح هذا النظام (Fitzgerald، M, 1977,86).
والقانون الأساسي لأي دولة هو من صنع الفئات ذات النفوذ السياسي والاقتصادي، ويعكـس رغباتهم، ويحقق أهدافهم، بل ويسبغ المشروعية على ممارساتهم القهرية ضد الطبقات المغلوبة، ولا يستخدم القانون لقهرهم فحسب، بل ويجعلهم مسحورين بأدواته من حيث القوة والسلطة، فالسجن في حقيقة الأمر هو سلاح للأيديولوجية الرأسمالية يخفي حقيقة جرائم أصحاب النفوذ (Fitzgerald et al, 1981, 299).
لذا فإن قوانين الانفتاح الاقتصادي في مصر في سبعينات القرن العشرين، كانت بمنزلة تحول كيفي من الاشتراكية إلى الرأسمالية أسهمت إلى حد كبير في مشروعية عدم العدالة في توزيع الدخول ويبدو ذلك فيما يلي:
1-صياغة القاعدة القانونية تمت في إطار من التحالف بين السياسيين المحترفين ورجال التشريع والرأسماليين، لإصدار قوانين لا تكفل لهم استثمار أموالهم بحرية فحسب، ولكن أيضاً نهب المال العام.
2-دور الإعلام في تزييف الوعي الاجتماعي، من خلال الإعلام القانوني، بهدف زحف الطبقة البورجوازية على المال العام والأراضي الحكومية.
3-عمليات تطبيق القاعدة القانونية، تستخدم لخدمة مصالح الطبقة السائدة.
4-تعدد أساليب التلاعب بشعار سيادة القانون، لتطبيق سياسة تمييزية لصالح الطبقة السائدة. 5-عدم فعالية أجهزة الرقابة على القاعدة القانونية، حيث إن الطبقة السائدة أرهبت أجهزة الرقابة، ومنعتها من مزاولة عملها.
ويفسر لنا العرض السابق أن طبيعة العلاقة بين المصريين والسلطة هي علاقة مفارقة، فكلما زادت وطأه الحكام على المحكومين، فر المحكومون من الحياة أو من الوطن.
أما الفرار من الحياة فقد تكفَّلت به جرائم الانتحار، أو الموت غرقاً في البحار والمحيطات، فتكفلت به الهجرة غير الشرعية، وأما عن الفرار من الوطن، فقد تكفلت به هجرة صفوة العقول المصرية، وفرار المواطنين البسطاء للعمل في الدول العربية المجاورة، والعودة في عبارات متهالكة ليكونوا طعاماً للأسماك المتوحشة.