يوم الثبات الانفعالى أم زمن التشيؤ و تبلد المشاعر
قراءة فى رواية سهير المصادفة
بقلم/ سمير الأمير
صدرت رواية "يوم الثبات الانفعالي" للروائية سهير المصادفة عن "منشورات إبيدي" في هذا العام 2019 والرواية هي السادسة بالنسبة للكاتبة، فقد صدر لها "لهو الأبالسة" في 2003 وتلتها "ميس إيجبت" في 2008، ثم "رحلة الضباع" في 2013 و "بياض ساخن" في 2015 و"لعنة ميت رهينة" 2017، والمتأمل للمشروع الروائي لسهير المصادفة سيلحظ سمات عامة بارزة وواضحة منها على سبيل المثال لا الحصر:-
- أنها تقدم نصًا روائيًّا مرتبطًا بالحياة المعاصرة ومشاكلها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، دون أن يتحول إلى مقالات سردية ودون أن ينزلق للغة الشعارات، فهي ترصد تلك المشاكل عبر خلق شخصيات واقعية قابلة للحياة والتصرف بشكل مستقل تمامًا عن الإرادة الذهنية للسارد، وتتعامل مع المشاكل النفسية للمرأة والرجل باعتبارها انعكاس للعلاقات الاجتماعية التي تفرضها الأوضاع العامة، أنها هنا لا تملي مواقفها على قارئها بل تشكل له بيئة روائية تنتج تورطه ومن ثم تشحذ وعيه بنفسه وبالجماعة التي ينتمي إليها.
ــ تحتوي روايات "المصادفة" على سياقات تقيم علائق مع الحياة في مصر والعالم عبر إثراء نصها بتناصات مع التاريخ والنصوص الأدبية العربية والأجنبية والموسيقى والفن التشكيلى وكل ما يحتشد به وجدانها كمبدعة تشغلها قضايا الوجود الإنسانى بشكل عام وقضايا حياة الناس في مصر بشكل خاص.
- تستفيد "سهير المصادفة" من تقنيات السينما سواء في بناء مشاهد موحية أو في الانتقال الذي يشبه "القطع" والمونتاج. ففي روايتها: "لهو الأبالسة" فقد تتحدث عن الظلام السرمدي والقدري في "حوض الجاموس"، ثم تقطع المشهد لتواصل السرد عن بياض الثلج في موسكو الذي يجعل الضوء شديد الإبهار.
- لغة مكثفة عالية تقترب كثيرًا من لغة الشعر ولا سيما في "المناجاة " التي تكتنف سبر أغوار النفس على لسان الراوي أو أي من شخصيات الرواية.
يمكننا طبعًا المضي في ذكر كثير من ملامح الإبداع الروائي لدى الكاتبة، لكنني لن أفعل لأن الغرض فقط هو أن أطرح تساؤلًا فحواه: "هل شكلت رواية "يوم الثبات الانفعالي" استمرارًا على وتيرة ما سبقها من روايات، أم أن الأمر قد اختلف؟
ومن البداية أقول إنه على مستوى دافعية الكتابة ومصادر الرؤية ومنازعها فإن "سهير المصادفة" استمرت في طرح إشكالات الوجود الإنساني للمصريين القابعين في الهامش أو الساعين للمتن ولكنها هنا في رواية "يوم الثبات الانفعالي" سنجد أنها اتفقت معنا على قواعد اللعبة السردية منذ كتبت في الإهداء: "إلى كل الممالك الضائعة والأحياء المنسية والبيوت المهملة المغلقة على أطياف ساكنيها، وذكرياتهم التي انجرفت في ثقوب الزمن السوداء... إلى آخر الأهداء"، وسنلاحظ أنه برغم كم "الصرخات والعذابات" الصاعدة من "مثلث ما سبيرو"، وحجم المعاناة التي تكتنف بشرًا يعانون من تسلط "منظمة ما" محلية أو عالمية على ذكريات نفوسهم وحتى على بيوتهم وجدرانهم التي سندوا أرواحهم عليها حتى الآن، بالرغم من ذلك نستشعر كقراء ثمة هدوء وثبات انفعالي لدى الساردة، وكأنها مشغولة فقط بنقل وقائع ما حدث وهذا هو الجديد، إن "سهير المصادفة" تلعب معنا لعبة بسيطة ولكنها تحملها مضامين بالغة العمق، وهي تعتمد في كثير من مناطق الرواية على تقنية الاستباق فالفصل الأول يتحدث عن مقتل "صافى"، أي أننا نبتدأ الرواية بالختام، ولكي لا يختلط الأمر فإن علينا أن نفرق بين الساردة "سهير المصادفة" نفسها، و "الراوية" التي هي "شمس أو راوية"، ولا يمكن بحال من الأحوال رصد تشابهات بينهما، كما كنا نستطيع في حالة "مها السويفي" في رواية "لهو الأبالسة" وفي حالة "نرمين" في رواية "رحلة الضباع"، إذ أن "مها" و"نرمين" كانتا امرأتين تسعيان للتحقق بمعنى أكبر وأشمل إنسانيًّا وإبداعيًّا، وهو أمر يتماس مع كثير من الكُتاب والكاتبات وقد احتملت رحلتهما في الحياة ما دل على صراع أو تعاون المرأة والرجل منذ بدء الخليقة،
أما "راوية" أو "شمس" فهي امرأة يتيمة تعيش في منطقة عشوائية منسية حاصرتها الأبنية الضخمة وحجبت عنها النيل الذي كان على مرمى حجر، وأصبحت هذه المنطقة في عصر السياحة والتجارة ورأس المال الريعي مطمعًا للمستثمرين، وهي تعمل في مطعم "لازانيا" القريب من مثلث ما سبيرو كمغنية تداعب ذكريات الزبائن عبر غناء غالبًا قديم لأخريات مشهورات ولكنها طبعًا ليست مشغولة بنفسها كفنانة، وإنما تسعى للخروج من "المنطقة العشوائية" بادخار مبلغ يمكنها من شراء شقة كشقة مدام فيرونا المرأة الإيطالية صاحبة المطعم الذي تغني "راوية" فيه، ومن ثم فإن وجودها في المجموعة الخاضعة لاختبارات الثبات الانفعالي والموعودة بقيادة العالم أو بالصعود الاجتماعى عبر ما يمكن أن نسميه "تحييد وتجميد المشاعر" هو وجود يتفق مع جانب في شخصيتها، رغم أنها تقول تعليقًا على مناقشتها مع "هيثم المحمدى" حول الفرق بين الشحاذ واللص أنه لا شيء يميت الأمم إلا الثبات "ربما تقصد الثبات بضم الثاء وفتحها أيضًا، وذلك على العكس من شخصية حبيبها ماسبيرو الذي تمرد بشكل ما على الاختبار الذي وجد نفسه فيه، والذي يرفض مغادرة "مثلث ماسبيرو"، ماسبيرو أيضًا يحمل ملامح عامة قد تؤهله في الرواية ليكون معادلًا موضوعيًا "للشعب المصري نفسه" فهو على سبيل المثال "مؤلف نكات" ولكن "سهير المصادفة" وهي تراوغنا بذكاء سوف تجعلنا نتساءل أيضًا على ما يرمز له "الشيخ صلاح" الذي يحمل صفات العطاء والصبر والرضاء أيضًا، ولعل هذا يطرح علينا السخرية الكامنة في "عنوان الرواية"؛ لأن ماسبيرو وصلاح يحملان سمات الثبات الانفعالي بمعنى المسامحة مع العالم ودفع الحياة قدمًا وإلى الأمام ودعمها والوقوف مع المنكسرين وبمعنى السيطرة على مشاعر الغضب و تفضيل استخدام العقاب فى التربية لا فى الانتقام، ولنتأمل مثلًا حادثة حبس ماسبيرو لرفعت جلال "اليساري" في الدكان حين عبر عن عدم إيمانه بأن الله موجود، لا يعني هذا أن ماسبيرو غير متسامح مع الأفكار ولكن يعني أكثر أنه يحترم قيم المجتمع الذي يعيش فيه ويقدر تعلق الناس بالله كملاذ للعدل فهو يقول بعد أن حبسه: "يا أخي اتركه موجودًا من أجلنا، من أجل الغلابة. يا رفعت أنت تافه وابن حرام. أنت لا تريد الاعتراف بوجوده لأنك لا تراه، ولكنك تعترف بوجود جزيرة على البحر على بعد آلاف الكيلومترات، وبها خلية منذ ملايين السموات لم ترها أيضا يا موكوس". إن ماسبيرو هو تجسيد لروح مقاومة النسيان فبعد عودته أو بالأحرى بعد أن أنقذه المراكبي من الغرق يقول لراوية: "لا تثقي بأحد أبدًا يقول لكِ أخفي مشاعرك أو افصلي مشاعركِ عن عقلك.... هذا ضد طبيعة الإنسان يا حبيبتي"، فضلًا طبعًا عن انشغاله الدائم بالتحايل على الحياة دون شكوى بتغيير نشاط دكانه ليلائم ما يحدث من تغيرات فرضها العالم عليه.


العنوان

لم أشأ أن أناقش العنوان فى بداية المقال، فضلت أن نكون قد اتفقنا على مضمون الرواية قبل أن أطرح تفسيري الخاص للعنوان، في تقديري أن العنوان لا يعكس معناه الحرفي، وإنما تكتنفه السخرية فبعد قراءتنا للرواية، سندرك أن التدريب لم يكن يتم على "الثبات الانفعالي"، وإنما على كيفية تجميد المشاعر وعلى ممارسة التبلد الحسي، تقول "راوية" عن المتأسلم "هيثم المحمدى": "كان الوحيد منا الذي لم تضف له دورة الثبات الانفعالي شيئًا، فلقد كان جاهزًا منذ البداية، ويستطيع أن يسير على جثث أهله كلهم لكي يصل إلى ما يريد". كثير من شخصيات الرواية غير خاضعين على حد علم "راوية" لتدريبات "الثبات الانفعالى" كصافى وفيرونا ومحمد ابن فيرونا العائد من أمريكا لينسف كل لمسات أمه دون أن يكترث باعتبار أنه سيطور المكان ويحوله، فصاحبة الذكريات قد ماتت وصاحب التركة ما زال عائشًا ومتحررًا من المشاعر التي قد تعيق فرص استثماره للشقة التي ورثها، وهو ما يعني أن علينا أن نفكر في احتمالية أن تكون المنظمة قد سيطرت على أفراد كثيرين غير هذه المجموعة.
يمكننا اعتبار "سلمى فرج" نموذجًا مثاليًا للتبلد الذي يتخذ شكل الشبق وممارسة الجنس دون تمييز، الأمر الذي أغضب الأب، بالمناسبة هو نفسه معلم اللغة العربية الذي تحرش براوية، بمعنى أن رؤيته للأخلاق زائفة وهي إشارة ناعمة جدًّا لعشوائية القيم وتناقضها والتي تشكل علاقة جدلية في الاتجاهين مع عشوائية الأماكن التي خرج منها معظم الشخصيات، "وربما كان غضبه أيضًا جزءًا من اللعبة وبرنامج التدريب"، إذ كان عليه أن يطاردهم ببندقيته وعليهم أن يجروا أمامه وفي النهاية حين قتل لم يأبه لموته غير ماسبيرو الذي يتهم بقتل صافي، ربما بسبب تمرده على "المنظمة" التي يبدو أنها أكبر من المجموعة المتدربة ومن الجائز كما أسلفنا أن تكون هناك مجموعات مثيلة في كافة الأماكن والمؤسسات، تسعى لتبريد مشاعرنا ووأد إحساسنا ضمانًا لقبول النمط الواحد الذي تفرضه القوى المهيمنة على العالم الطامعة في الجغرافيا والتي لن تحصل عيها دون فصلها عن البشر الذين عاشوا فيها وصنعوا ذكرياتهم لعشرات بل مئات السنين
العشوائيات
لا تطرح "سهير المصادفة" العشوائيات كقضية سياسية وفقط، فالرواية تقدم إشارات واضحة على أن لعبة مع وضد هي إحدى وسائل ابتذال القضية التي ينبغي أن تُرى في إطار أنثربولوجي وثقافي، فهيثم المحمدي ورفعت جلال اللذان يردحان ضد بعضهما في الفضائيات هما في واقع الأمر ومن خلف ما نرى شريكان في شيء ما لا نعرف كنهه، تقول "راوية/ شمس": "أرسم في رأسي خريطة القاهرة الجديدة، حيث يسكن رفعت جلال، فلو أنني زرته الآن لوجدت هيثم المحمدي عنده كما أخبرتني سوسن".
قضية العشوائيات إذن تتجاوز البيوت والجدران إلى ما يشكل تاريخ الذكريات والذاكرة، يقول "رفعت جلال" ردًا على "هيثم المحمدي" وعضو مجلس الشعب "عبدالله الشوبكي" في البرنامج الذي تقدمه "سوسن فرج": "نعم موافقون على تطوير العشوائيات يا سيدي، ولكن لماذا لا يسكن فقراؤها فيها بعد التطوير؟ يا سيدي أفهم كل ما تقول، أفهم سؤالك: كيف يسكن هؤلاء على النيل في أبراج ستتكلف المليارات، وأقول لك إنني أرفض كل منطلقاتك الرأسمالية المتوحشة وأمقتها بل أحتقرها... "طبعا من المؤكد أن جمهور البرنامج من الفقراء سينخدعون بما يبدو لهم دفاعًا جليًا عن الفقراء وانحيازًا لهم، ولكن تتبع شخصية "رفعت جلال" عبر الرواية سينبئنا أن هذا الكلام هو مجرد "دور"، وكأن اللهو الخفى أو "منظمة الثبات الانفعالي" قد حددت له هذا الدور سلفًا.
في النهاية لا تقدم "سهير المصادفة" على افتعال نهاية سعيدة تنتصر "للممالك الضائعة" في ثقوب الزمن العولمي الشرس الذي لا يأبه للذكريات ولا يستثني شيئًا منها، لقد دمر الإنسان الأبيض المتحضر متاحف العراق وساعد الدواعش على تدمير متحف تدمر وشنق مديره في العراء، و أيضًا لا تتبنى "سهير المصادفة" منطقًا افتعاليًا كمنطق "رفعت جلال"؛ فالعشوائيات بشكل عام ومثلث ما سبيرو تحديدًا كما قدمته الرواية لم يكن جنة الله في الأرض، فهناك ينمو المجرمون ويغتصب الأطفال وتسعى البنات للصعود الاجتماعي عبر الكذب وعبر تغيير الأسماء، وينتشر العنف وتسلط الفقراء على بعضهم البعض، ولكن "سهير المصادفة" تضع الأمر برمته أمامنا كقراء وعلينا أن نعي أن العشوائيات كانت نتيجة طبيعية لفشل مشاريع النهضة في بلادنا وأن ما يحدث ليس فقط بسبب الإعصار العولمي الرأسمالي الشرس، ولكن أيضًا بسبب أننا بنينا ممالكنا على رمال مبلولة... وأننا أصبحنا مجالًا لعمل منظمات دولية ذات امتدادات محلية تسعى لتجريدنا من مصانعنا وأراضينا وبيوتنا لنصبح مجرد أهال نعوي في العراء.