العرب لديهم أساطير عن أمريكا


يقولون أنها القوة التي لا تُقهَر، وجيشها قادر على (محو إيران من على الخريطة)، أو (إعادة روسيا لعصر ما قبل التكنولوجيا)...وغيرها..


دعونا نتفق على أن أمريكا قوية عسكريا بالفعل..هذا لا خلاف عليه، لكن هل القوة المتخيلة هذه تصل لهذه الدرجة؟..ولو وصلت هل يمكن أن يكون ذلك عامل ردع؟..وهل لو تحقق الردع الأمريكي سيكون إعلامي نفسي أم سياسي عسكري ميداني؟


تذكر أن حرب فيتنام كان يقال على أمريكا نفس الأسطورة، ومن قبلها أزمة صواريخ كوبا في الستينات، ومن بعدها الحرب الأهلية اللبنانية بالتوازي مع حرب العراق وإيران..كلها صراعات عسكرية تورطت فيها أمريكا مباشرة أو بشكل آخر ولا زال خصوم الأمريكيين أقوياء يهددون النظام الإمبريالي العالمي..


سبب هذا الاعتقاد هو الخلط بين (المبدأ والرغبة والقدرة) فالمبدأ الظاهري يتعلق بقدرات أمريكا النووية..وهو الذي يخدع البعض ليحمله على ذلك الاعتقاد ويردده مع كل مواجهة ضد أمريكا، لدرجة أنه أصبح هاجس مسيطر عليه لدرجة الخوف والعيش مذلولا دون داعي، أما الرغبة الأمريكية لتحقيق ذلك فهي غير ممكنة ليس لأن السلاح اللازم مفقود..ولكن لأن أمريكا ملتزمة بحدود صراع عسكري عالمي لا يمكن تخطيه، من ذلك مثلا أن السلاح الذري ممنوع استخدامه إلا للمِثل، يعني لو دمرت بلدك بأسلحة تقليدية غير مسموح لك استخدام السلاح النووي.


أما من حيث القدرة فأسلحة الدمار الشامل هي أسلحة ردع لتهديد الوجود لا لمجرد الحرب، وبالتالي هي موجهة ضد المجانين في السلطة أو المتشددين أو المتطرفين من دعاة الجريمة والإبادة والإقصاء العنصري، فالحرب على نوعين..خلاف عادي قد يصل إلى الحدة وهذا لا يمكن فيه استخدام السلاح النووي لأنه لم يحصل على شرطه الأسمى في الردع الوجودي..هذا خلاف في وجهات النظر أو صراع مصالح، أما في الخلاف الثاني فهو وجودي بالمعنى الذي كان يقوله نظام عبدالناصر (هانرمي إسرائيل في البحر) ويردده الآن نظام إيران..بالتالي أصبح وجود السلاح الذري لإسرائيل موجه ضد هؤلاء بالذات حسب وجهة نظرهم..لا ضد حماس وحزب الله مثلا التي لم يصل الإسرائيليون فيها لتهديد وجودهم.


فهم القدرة الأمريكية من هذا السياق يعني أنه لا إمكانية لاستخدام سلاح نووي للاعتبارين الثاني والثالث، سيؤدي ذلك لامتلاك حق خصوم أمريكا النووين باستخدامه ضدها أو ضد حلفائها بمنطق "أكلت يوم أكل الثور الأبيض" وهذا الذي أرعب قادة العالم من قبل ووصلوا إلى قناعة أن استخدام السلاح الذري لمرة واحدة سيؤدي لاندلاع حرب نووية كبرى تقضي على الحياه في الكوكب، ومن ثم توصلوا لاتفاقية نزع أسلحة الدمار الشامل وتجريم صناعتها..وخفض الرؤوس النووية للدول الكبرى تدريجيا لحين التخلص منها في المستقبل.


باختصار: هذه الأسطورة الشائعة عن الجيش الأمريكي تقال أيضا على الجيش الإيراني، سنرمي إسرائيل في البحر..سيمسح القواعد الأمريكية من على الخريطة، سيعيدون السعودية لعصر الجاهلية والإمارات لعصر الناقة..ومبالغات كثيرة هي الآن غير واقعية وترديدها غباء وعدم فهم للصراع السياسي وموازين القوى في العالم..


الثابت أن كل الحروب التقليدية الآن لها ظروفها الخاصة وأجوائها..يمكن استخدام عوامل سياسية واقتصادية وثقافية أو دينية..إلخ، وفي ذلك تتساوى قوة أمريكا وإيران من حيث التأثير والانتشار الإقليمي..بل في القدرة النارية أيضا والصراع بينهم سيستمر على هذا المنوال لا ينكسر إلا بضعف وزوال دعاة الحرب فيهم، وبالنسبة لدعاة الأساطير عن قوة العدو فقد سبق لهم تخويف المصريين من إسرائيل في السبعينات التي كانت تمتلك فعليا وقتها 3 رؤوس نووية يمكنها مسح القاهرة والإسكندرية من على الخريطة ومع ذلك انتصر المصريون وانسحبت إسرائيل من سيناء وبعد انسحابهم كيف سيرضي هؤلاء ضعفهم وجهلهم..قالوا مسرحية..!!


كذلك قالوها على حزب الله حين أراد إجلاء الصهاينة من جنوب لبنان للتخويف وبعد جلائهم قالوا مسرحية وهم عملاء في الخفاء..نفس الشئ على فصائل فلسطين حين أجبروا شارون على الانسحاب من غزة، قالوا ستعود غزة أرض جرداء ويموت كل الفلسطينيين، وبعد انسحاب شارون قالوا أيضا مسرحية، وكأن أمريكا وإسرائيل وحوش أسطورية تملك قدرات سحرية إلهية التمرد عليها كفر وفناء..!


نحن أمام عقلية تفكير خاطئة وخانعة جبانة لا تتصور في نفسها أي قدرات أو رغبة في الاستقواء بأي شكل، لم يتعظوا من نموذج كوبا تلك الدولة اليسارية الصغيرة الملاصقة لسواحل فلوريدا ومع ذلك فشلت أمريكا في إخضاعها وتكبدت أمريكا فيها الخسائر وظلت مسمار يساري ومهبط لكل خصوم أمريكا والمؤامرات عليها في الأمريكتين دون امتلاك القدرة على تغيير ذلك الوضع أو ردع الكوبيين عن سياستهم، وكذلك لم يتعظوا من نموذج الحوثيين الذين يخوضون حربا منذ سنوات ضد تحالف 10 دول ينفقون 70% من إجمالي الإنفاق العالمي على السلاح..


لا أقول ذلك بمناسبة أحداث أمس في العراق، هذه لها سياقها الخاص ..لكن أتحدث بشكل عام وأردد هذه الرؤية دوما، أن معايير الحروب في الواقع مختلفة عن ما هي في الأذهان..ومن يخلط بين خياله الحربي - وأمنياته أحيانا – وبين الواقع يتورط، وكل دولة يعتقد حكامها أنهم ما داموا الأفضل تسليحا وحلفاء ونفوذ أن انتصارهم مضمون سيتورطوا، فالإنسان في الحروب مختلف عن ما هو في السلم، ومعايير الصراعات تدخل فيها جوانب ومستجدات كل ساعة لم تخطر على بال قادتها..لذلك ما من دولة تحارب مباشرة إلا وتشعر بالصدمة لاحقا حتى لو أقنعت العالم كله بانتصارها..لكنها في الأخير تشعر بالمرارة والألم والخسارة الفادحة فور توقف الأناشيد والاحتفالات، وبالتالي وصل العالم لحقيقة وجودية أن السلام هو الخيار الوحيد للحياه ومن يخالف تلك الحقيقة يضعف ثم يموت بالتدريج أو بالضربة القاضية.