شعراء أكثر وشعر أقل

بقلم/ سمير الأمير


لعلنا نشهد تكاثرا مثيرا للشفقة فى عدد من يكتبون الشعر بالعامية المصرية فى هذا الزمن الذى خاصم فيه الجمهور معظم أشكال الفن والأدب التى تسعى لجعل المتلقى يتفاعل معها تأملا أو تخيلا حتى تعيد بناء نفسها داخله وتتفاعل مع تراثه وثقافته ومخاوفه وأحلامه وأماله فتشكل جزءا من وجدانه،و بشكل عام أصبحت ندوات الشعر فى غالب الأمر مقتصرة على الشعراء أنفسهم وبدا المشهد شبيها إلى حد كبير بالقراء حول المقابر، وهذا هو المثير للشفقة، وفى ظنى أن عددا لا يستهان به ممن يكتبون العامية هم بشكل عام مسئولون عن جزء من أزمة التلقى لا أظنه جزءا صغيرا، ومرجع ذلك إلى أن القصائد التى يلقونها لم تعد تعبر عن (مشاعر) وإنما تعبر عن معرفة بمكونات الكتابة بالعامية وبطرائق التعبير التى أصبحت معروفة فغدت أكليشيهات ثابتة وأصبحت الندوات مكتظة بمن يقولون شعرا عن الحياة ليس انفعالا بها وتماشيا معها أو رغبة فى تغييرها ولكن فقط تعبيرا إما عن أزمة عدم القدرة على التحقق فى الواقع، أو عن رغبة لا أعرف لها سببا فى لصق لقب" شاعر" قبل أسمائهم وهو لقب من كثرة أعداد الملقبين به يكاد يفقد معناه، ويا للعجب ! فليس شعرا إلا ما يقيم جدلا مع حياة الناس وحياة الشاعر نفسه، وكما قال العظيم نجيب سرور فى مسرحيته " منين أجيب ناس" : منين أجيب ناس لمعناة الكلام يتلوه/ الناس كتير والكلام أكتر/ بس اللى يتلوه يشوفوا اللى حسن شافه/، أى أن الشعر لا يكتسب معناه إلا إذا عبر عن تجربة صادقة، ولذلك أكاد أجزم أن كثيرا ممن يكتبون الشعر ولا سيما من الشباب المحبط لو تحقق لهم القدر المناسب من طمأنينة العيش وطمأنينة البوح لأبدعوا حياة أجمل كثيرا من قصائد كتبوها كرجع صوت لقصائد أخرى فأصبحت قصائدهم شديدة الشبه بالشعر ولكنها ليست شعرا بأى حال، وأستطيع أن أقول وأنا "مستريح الضمير" أننى لا أجد فائدة تذكر فى كثير من القصائد التى تتعامل مع موضوعات الحب والعلاقة بين الرجل والمرأة عند شعرائنا جديدا ولا سيما هؤلاء الذين دخلوا باب الشعر من باب التعويض عن عجزهم عن ممارسة الحياة الحقيقة فعلا وانفعالا ولا يهم بعد ذلك إن كانوا سيكتبون عنها أم سيكتفون بالتمتع بالعيشة ذاتها، من هنا فإننى أعلن دون مواربة أن مفردات كالهجر والخصام والبعاد و"الغيرة" والمبالغة فى التدله والمبالغة فى السباب واللعن وجلد الذات والندم على المحبة واكتشاف الخديعة وهجره "لها" من أجل ملذاته وخصامها "له" من أجل الرجل الغنى و... كل تلك المفردات التى تجاوزها الزمن ولم تعد تدل على انفعال كاتبها وإنما تدل على الافتعال والتقليد واغتراب كاتبها الذى لا ينبغى أن يتم تناوله وتناول أعماله فى الدراسات النقدية بل فى العيادات النفسية تحريرا له أولا من الضلالillusion)) الذى وضع فيه نفسه وأفسد فيه فرصته فى الحياة بسبب " الكلام"، و أيضا تحريرا لأنفسنا من صداع التكاثر المجنون فى عدد المتشاعرين الذين ما إن يحصلوا على "عضوية اتحاد الكتاب" أو ينشر لهم "إقليم ثقافى" كتبهم التى تشبه بعضها ركاكة وقبحا وتشويها ، أو يقوم أحد مقاولى الندوات بتسهيل حضورهم مؤتمرات خارج البلاد، حتى يتطاولوا على المبدعين الجادين ويعتبرونهم طواغيت يمنعونهم من التعبير عن إبداعهم (بينما يحدث العكس) وفى نفس الوقت يخنقون شبابا واعدا ومغايرا بما يسببونه من زحام، إن الأمر بات خطيرا ،لأن مئات المواهب من من شباب المبدعين الحقيقيين لا يجدون فرصة لإيصال رسائلهم ، بل قُل أننا بالأحرى أصبحنا محرومين من تجديد ذائقتنا ، بسبب عدم حصول هؤلاء الشباب على ما يستحقونه إذ أنهم على العكس من المدعين لا يعرفون إلا مهارة الكتابة والإبداع ، بينما يتمتع المتشاعرون بقدرات فائقة فى تسويق أنفسهم للصحافة والمؤسسات ، وللأشقاء فى دول الخليج، ولعلنا بحاجة لدراسة تختبر فرضية تنامى أعداد شعراء العامية فى مصر بعد إلغاء مكتب القوى العاملة وانتشار البطالة ! ، وهذا طبعا أقوله على سبيل المزاح، ولكن لأن الأمر جد خطير فلا أقل من أن نطالب مؤسساتنا الثقافية بإعادة النظر فى مطبوعاتها التى أعطت جواز مرور لكل هؤلاء دون تفرقة، ووصل الأمر إلى ما أسميته فى مداخلة سابقة " نمذجة الرداءة"
وهو ما يثبت أن قدرا من الحس النقدىيلزمنالكى ندرك أن داخل إنتاج الشعراء ما هو طبيعى وما هو مفتعلوأنه كلما زاد حجم الأصيل فى إبداعهم كلما اتسعت دائرة من يتلقون إنتاجهم ومنيستمتعون به، بل قد تنتشر أبياتهم حكما وأمثالا على ألسنة العامة والخاصة،و"الافتعال" ليس حكرا على المتشاعرين فقد يكتنف بعض كتابات الشعراء الجيدينولكنه يكون استثناء وليس قاعدة، أما إجازة الأعمال التى لا تستحق النشرلمجرد استهلاك الميزانية فيعتبر تهديدا للوجدان وللذائقة وخطرا علىمستقبلات الفن والجمال والإحساس داخل الدماغ الإنساني، ومن هنا فإنني أهيببالمؤسسات المعنية بنشر الإبداع أن تراعى الدقة وعلى هؤلاء "المهملين" أيضاأن يعلموا حجم ما يرتكبوه من جرم إذ تقع تلك الكتب فى أيدى المبتدئينفيظنون أن الإبداع يكون هكذا فيحدث ما يمكن تسميته “بنمذجة الرداءة" التى تتخذ من هوجة " التكريم " وسيلة لإهدار القيمة أيضا وهو ما يؤثر على شباب المبدعين ويؤسس لعزلتهم، ويبدو أن " لدى " هيئة القصور" كمية من شهادات التكريم المطبوعة تكفى مائة مليون مصرى فقد تم تكريم مبتدئين بجانب متميزين ومتحققين حتى صار التكريم والإهانة سواء، بعد أن حصل " المقلد" على نقس الشهادة التى حصل عليها " الأصيل"،
أما الشعب العظيم الذى استمع إلىالمواويل الشعبية وتأثر بها وأنتجها فسينصرف عن الإبداعات المفتعلة غيرالأصيلة فتتسع الهوة بين المبدعين والجمهور، لذلك لم يكن غريبا أن يردد المنتفضون فى الميادينأغانى" سيد درويش" و" الشيخ إمام" و"منير" ولا يلتفتون لمعظم الأشعاروالأغاني التى صدرت عن السلاسل الأدبية على مدى ثلاثين عاما، على أنه يلزمالتنويه أن ذات السلاسل صدر عنها أعمال رائعة لمبدعين كبار لكن مجاورتهابركام الأعمال التافهة قد ضيعها وضيع الحقوق الأدبية والمعنوية لمبدعيهابعد أن زاحمهم المدعون الذين اعترفت بهم المؤسسات واحتفى بهم الإعلامانتقاما من الشعراء والكتاب الوطنيين الذين جعلوا من إبداعهم رسائل للوطنوللناس
هذا من ناحية ، ومن الناحية الأخرى من الضرورى أن يكون للدولة معايير فى الترخيص لدور النشر الخاصة التى تنشر إبداعات، وأقترح أن يكون من بين تلك المعايير ضمان التزام دور النشر بتعيين متخصصين لإجازة الأعمال الأدبية والتأكد من جديتها وصدقها.

سمير الأمير