قلبٌ حاف
لفكريّة شَحْرة
د. إبراهيم عوض
هذه رواية آلمتنى وأنا أقرؤها إيلاما شديدا. وتذكرت وأنا أقرؤها ما كتبه بعض النقاد فى الأربعينات عن روايات نجيب محفوظ التى كان يكتبها فى ذلك الوقت إذ ناشدوه أن يخفف من تعذيب القراء لأن رواياته أوانئذ كانت من القتامة والإحباط بحيث تعصر قلوب قرائها عصرا حتى لينتهون منها وقد اصطبغت الدنيا فى عيونهم بالسواد الحالك دون أى بصيص من أمل، فتَرَجَّوْه أن يخفف من قبضته على القلوب بعض التخفيف.
وبطلة الرواية اسمها عفاف، وهى فتاة يمنية تعيش فى صنعاء، وأبوها يدير تجارة له خارج البلاد بمعاونة ابنه الأكبر خطاب، ولا يعود إلى أسرته إلا لماما، إذ شغله السعى خلف لقمة العيش له ولأسرته. ويموت الأب فى الغربة بذبحة صدرية مباغتة، ويعود جثة هامدة إلى اليمن بصحبة خطاب، الذى يبقى فى اليمن، ويذهب أخوان آخران له ليتوليا أمر تجارة والدهما خارج اليمن. وهناك أخ رابع هو جمال الأصغر، وهو شاب عصبى المزاج على عكس خطاب الهادئ الحنون المتفهم، ومن هنا كان شديدا على عفاف، ويريدها أن تتزوج سريعا حتى لا تعنس، لكنها تصر على دخول الجامعة، ثم بعد التخرج تصر على العمل وتتعرف فيه على كهل وخط فوديه الشيب. وهو من مدينة إب، وقد أتى يعمل بعض الوقت فى المؤسسة التى كانت هى موظفة فيها. وقد وقعت عفاف فى غرامه رغم أنه من جهته كان واضحا معها منذ البداية فى أنه لا يمكنه التزوج بها لأن له زوجة أخرى وأولادا منها، وأن المستقبل أمامها، وتستطيع أن تقترن بشاب فى عمرها يستحقها ويسعدها السعادة التى هى جديرة بها. بيد أنها لم تستطع أن تنساه وظلت متعلقة به حتى بعد مغادرته العاصمة إلى مدينته وأسرته. ومضت الأيام بل الأعوام وهى ترفض الزواج من أى شخص آخر. وكانت حجتها أنها لا تستطيع أن تهب قلبها لمن لا تشعر نحوه بالحب. وقد عانت فى ذلك آلاما غاية فى العنف، وألوانا من الإحباط باهظة أدت بها إلى التمرد على الأقدار ومخاصمة الله لأنه لم يشأ لها السعادة والزواج ممن تحب. وهكذا مضت بها الحياة حتى تجاوزت الأربعين دون زواج. وكان حاتم حبيبها، الذى وهبته نفسها، قد رجع إلى المؤسسة لتكريمه، وهناك التقيا، فألفته قد كبر وغادره شىء كثير من نضارته وحيويته، ولكنها فوجئت بأنه تزوج فتاة أخرى على زوجته وترك أسرته وعاش بعيدا مع امرأته الجديدة، التى لم تحفظ العشرة، فغادرته إلى غير رجعة، مما أشمت به عفاف. وفى النهاية سافرت لأداء العمرة بغية ترميم ما تشعث من روحها، ولكنها حتى وهى تؤدى العمرة كانت لا تزال على مرارتها القديمة وقدر كبير من العناد السابق وعدم الاقتناع تماما بما تمارسه من شعائر، وهو ما حرمها السكينة الكاملة التى تنشدها. ورغم كل شىء ورغم انسداد الأفق نحو حاتم من كل جانب ظلت تذكره فى كل لحظة وتهديه كل إحساس يطوف بقلبها، وكل فكرة تخطر بعقلها... وبهذا تنتهى الرواية.
وقبل أن أشرع فى تحليل هذا العمل أحب أن أنقل هنا كلمة كتبها أحدهم عنه فى صحيفة "العرب" اللندنية بتاريخ 31/ 12/ 2016م (العدد 10500) حتى يتبين القارئ، من خلال المقابلة بين رأيى وما كتبه صاحب تلك الكلمة، الصورة على نحو أفضل. واسم صاحب الكلمة محمد بكرى، وعنوان مقاله هو "إدانة روائية للوصاية الذكورية على المرأة". وهو يجرى على النحو التالى: "ما زالت المرأة في الكثير من المجتمعات العربية تعيش وضعااجتماعيا صعبا، فيه هيمنة السلطة الذكورية والوصاية الأبوية التي تمنعها من أبسط حقوقها، وتحرمها من البروز كعنصر فاعل ومبدع في الحياة، ولا أقدر علىالحديث عن وضع المرأة سوى المرأة.
تؤكّد اليمنية فكرية شحرة في روايتها: "قلب حاف" على استقلاليّة المرأةوقوّتها في مطالبتها بحقوقها وتشبّثها بأحلامها، وتدين النظرة البائسة التي تسيء إليها بوصفها بالعنوسة والتبعيّة حين تتأخّر في الزواج أو حين تشاء الظروف أن تبقى من دون زوج، وتدين كذلك الوصائيّة التي يبالغ الكثيرمن الذكور في الالتزام بها في أسرهم ومجتمعاتهم، بحيث تبقى المرأة في الظلّ، وتعيش في العتمة لا يمكنها تقرير مصيرها.
بطلة الرواية، الصادرة عن منشورات نينوى (دمشق 2016) عفاف تهيئ نفسهاللذهاب في رحلة عمرة، يرافقها ابن أخيها. تستعيد أجزاء من ماضيها وسيرتها ونضالها في أسرتها ومجتمعها، وإصرارها على أن تعيش واثقة من نفسها قويّة حرّة مستقلّة، في واقع لا يرحم امرأة مثلها، فلم تقبل الاستكانة والخنوعولا الانقياد الأعمى وراء أقوال الناس وما يشيعونه عن النساء القويّات الواثقات من أنفسهنّ، كما لم تقبل الاقتران بزوج يتمّ اختياره لها، وتحرصعلى القيام بدورها التنويري على أكمل وجه.
حكاية عفاف: تعترف عفاف بأن لها حكاية تؤنسها، تجلس إليها كل مساء، تحتسي معها كؤوس المرارة والحرمان. هي التي تقص حكايتها للريح فقط. وهنا الريح تكون تورية،لأنّها تكون جسرا إلى القرّاء. الريح لا تمضي إلى وجهتها إلّا وتنقل معها صدى الحكاية وتأثيراتها على صاحبتها ومحيطها في الوقت نفسه.
تذكر أن الإنسان عندما يقص حكايته لشخص آخر فإنه يحاول جاهدا أن يزيحأكبر قدر من الحقائق السيئة عن نفسه، ربما لأنه يجهلها أحيانا، وأحيانا أخرى ينكرها. ولأنها تقصها للريح فلن تسلّم لمقصّ الاختلاف والتزييف أجزاء من حكايتها، تقول إنها تخبر الريح بتلك التفاصيل التي أخفتها عن جوارحها التيتشي بها كثيرا.
تمضي في رحلتها إلى الأماكن المقدّسة للعمرة، تحاول التخفّف من أعباءالحكايات والحياة المتحدّية التي عاشتها وأصرّت على موقفها الرافض للرضوخللعادات البالية التي تسيء للمرأة، ولم تكترث لوصفها مِنْ قِبَل مَنْ حولها بالعنوسة، وتجد أن مأساة المرأة لا تكمن في أن تكون عانسا أو لا، وأنّ هذاأمر لا يضرّها، بل تكون المصيبة في قبولها أن تؤدّي أدوارا اختيرت لها،وتمثّل الهرب من نعوت المجتمع إلى فخّ زوج لا يتعامل معها بإنسانيّة، أو من دون وجود رابط حبّ بينهما.
عفاف، التي يعكس اسمها طهر سلوكياتها وأفعالها في مجتمعها، ترفض عيش حياةالظلّ التي تعيشها الكثير من نساء مجتمعها، تجتهد للنهوض بدور إيجابيّ في مجتمعها، تحرص على المطالبة بحقوق المرأة، ومن ضمنها حقّها في الميراث الذييتم حرمانها منه في المجتمع الذكوريّ، الذي يتعامل معها بفوقيّة، ويعدّهاتابعا لا شريكا.
تتعرّض بطلة الرواية لخيبة أمل، وذلك بعد وقوعها في حب زميل لها فيالعمل، ويكون ذاك الرجل متزوّجا ولديه أسرة وأولاد، يحدّثها بطريقة عقلانيةعن واقعه ويتمنى لها أيّأما سعيدة في مستقبلها، ويرجو لها الاقتران بشريك يحترم شخصيتها وإرادتها واستقلاليتها وطموحها، لكنّ ذاك الموقف يحطّم قلبها، وتشعر أنّها وقعت في حب خاطئ، ولم تستطع منع نفسها، لكنها وبطريقة أخرى تكتسب قوّة وصلابة في مواجهتها مع ذاتها، ما يبقيها بمعزل عن الارتهانلسطوة أيّ رجل.
تقرّر البدء بمعركتها الشخصيّة. تفتتح مركزا لرعاية ذوي الحاجات الخاصةومساعدتهم على الاندماج في مجتمعهم وتأهيلهم للاعتماد على أنفسهم والانخراطفي حياة تليق بهم، وعدم اعتبارهم عالة على المجتمع، أو اعتبارهم معاقين لا يمكنهم أداء أي جزء ممّا يترتّب على المرء من واجبات إنسانيّة واجتماعية.
تمضي السنوات بعفاف، تنشغل بمشاريعها وطموحاتها وواجباتها، لا تكترثلتجريح من حولها لها ومطالبتهم المستمرّة لها بالزواج، وأنّ المكوث في ظلّرجل، مهما كان بائسا، أفضل من البقاء وحيدة وأفضل من العنوسة المدمّرةالباعثة على السخرية في مجتمع لا يرحم.
تلتقي عفاف بعد سنوات بذاك الذي أحبّته، لتكتشف فيه رجلا آخر مختلفا عنتصورها وحلمها عنه، تعود إلى قراراتها، وترفض عرضه الاقتران بها، فتقضّلالبقاء وحيدة على تحطيم نموذجها المستقلّ وتقيّدها بصورة بائسة عن رجلأحبّته ذات زمن.
خلع النقاب: تحاول الروائية إسباغ أجواء شاعرية على واقع الأسى الذي تعيشه شخصياتهافي الرواية، كأنّ راويتها تتسلّح بالشعر وعوالمه في مواجهة قسوة الواقعومراراته، تراها ترجو النسيان ولا تطاله، تقول: كأنما النسيان يباع في متاجر فخمة يعجز باذخ العشق عن شرائه، ويناله شحيح الحب هبة وعظمة، تكون أمنيةممزوجة بمعاناة واقعية جراء خيبتها بالرجل وصدمتها به، وترجو لو يكونبمقدورها النسيان، كما تتمنى لو أن النساء يملكن قلوبا كقلوب الرجال بعدالفراق.
بطريقة متفلسفة تعود الراوية إلى نفسها تقوّي من عزيمتها بنفسها وتعودإلى عملها بهمة ونشاط محاولة تناسي حطام مشاعرها وقلبها المحطّم. تقول إننايجب أن نعيش الحياة رغم آلامنا وتوالي الإحباطات والخسارات. فكما أنناجئنا إليها دون مشورة أو رأي منّا فيجب أن نواصل الحياة رغما عنا أيضاكوننا ضمن سلسلة مترابطة تعتمد أجزاؤها على بقائنا أقوياء لا نتعثر مع أوّل صدمة فيخسرنا من هم بحاجة إلينا.
تستذكر تصميمها على البدء بمشروعها الذي كان عبارة عن دار متكاملة تضم فتيات ونساء أعاقهن القدر عن التمتع بكامل قواهن الطبيعية وبقين حبيسات البيوت ينتظرن من العائلة الاهتمام والإنفاق. يكون حلمها الصغير متمثلابإثبات حق كل أنثى لا حق لها في مجتمع يؤمن بحقّ القويّ فقط. تتمنى لو ترىكلّ واحدة منهنّ الجانب المشرق من الحياة، وتقول إن الله لم يخلقنا هكذابلا قدرات أو ميزات وكل ما نحتاجه أن نكتشف أنفسنا فقط. وتقول إنه يتنامى في أعماقها الرفض لكل شيء بسبب القهر للمرأة. ترى أن الاستسلام الأعمىلأقدارنا هو القدر الذي يقتلنا.
تصمد الراوية في امتحان الصبر واختبار التحمّل الحياتي جرّاء صدمتها بالحبيب السابق، تشعر بأن الحزن يظل رفيق روحها لكنه لن يعجزها أبدا، وتقررأن تكون كما تشتهي لنفسها وكما تشتهيها الحياة التي ترفضها. وتنتقل الراوية بين صنعاء وإب، تراها تتغزل بجماليات مدينة إب وتفاصيلها المميزة،وطيبة أهلها وأناقة فتياتها، ولا تبقى في دائرة المدن كثيرا بل تنشغلبحكايات أهلها، وبخاصة نسائها. تدرك أن العمى الحقيقيّ هو عمى البصيرة لاعمى البصر.
وفي لحظة مفصلية تقرّر الراوية خلع النقاب، تخبر أخاها بذلك، ويكونقرارها مبنيا على قناعة منها بأنها ستختار مصيرها بعيدا عن عادات فرضت عليها وقيدتها وحاولت محو شخصيتها وهويتها، وتؤكد أن الوقت كفيل بتغيير كلشيء، وبحدوث ما لا نتصور حدوثه، وأنه ينبغي عليها أن تبذل وتضحي بالصبر والوقت حتى يصبح مصيرها بيدها فقط، وتحظى بحريتها واستقلالها وهويتها".
هذا، وتقع الرواية فى أكثر قليلا من مائة صفحة مكتوبة، وتنقسم إلى فصول تضع المؤلفة على رأس كل فصل منها جملة أو أكثر لا كلمة أو كلمتين أو رقما ليس إلا كما هو الحال فى كثير جدا من الروايات، وإن تركت الفصل الأول يقدم نفسه بنفسه دون أن تضع على رأسه شيئا. ولعلها رأت أن سطور الإهداء التى تسبق ذلك الفصل تقوم بهذا الدور، أو لعلها لم يكن فى ذهنها أن تتبع هذا الأسلوب ثم بدا لها ابتداء من الفصل الثانى أن تفعل ذلك، ونَسِيَتْ أن تتدارك الأمر فى مفتتح الفصل الأول. وقد يكون السبب شيئا آخر تماما الله أعلم به. والروائية هى وحدها من بين البشر التى تعلم هذا. ولِوَضْع القارئ فى الصورة أسوق له عنوان الفصل الثانى، وهو "كان اختيار قلب. والقلوب تعمى حين تعشق"، بينما عنوان الفصل الأخير: "قلبي مثقوب بك. فكيف لا أغرق فيك كل مرة؟". وأحيانا تذيِّل العنوان باسمها إشارة إلى أنها هى كاتبة هذا الكلام كما فى عنوان الفصل الثالث: "وللألم عطر فريد علق بأطراف قلبي حتى تفتت- فكرية" رغم ما هو مفروض من أن كل ما فى الرواية، بما فى ذلك العناوين، هو للمؤلفة، اللهم إلا إذا نصت على غير ذلك. ومن الصعب التوصل إلى معرفة السبب فى أن الكاتبة ذكرت اسمها بعد بعض العناوين ولم تذكره أسفل العناوين الأخرى. أهى نزوة؟ أهى لامبالاة بالتخطيط الدقيق؟ لا أدرى، ومن قال: "لا أدرى" فقد أفتى.
كذلك نرى المؤلفة داخل الرواية وأثناء السرد أو خلال الحوار الذاتى الباطنى تُجْرِى على لسان البطلة بين الحين والآخر اقتباسا من هذا الكاتب أو ذاك: فمرة تستشهد بمصطفى محمود، ومرة تستشهد بباولو كويلو القصاص البرازيلى المشهور... وهلم جرا. فهل هو استعراض ثقافى؟ ربما، وإن لم يكن استعراضا معيبا إذ يساعدنا على الاقتراب من شخصية بطلة الرواية وتعريفنا بأنها تحب التميز فى بيئتها من خلال الاشرئباب بعنقها فوق سائر الأعناق وتحدى الأعراف السائدة واللامبالاة بكلام الناس من حولها وتحطيم ما يعتز الناس به من القيم القبلية التى تضيق على المرأة وتختزل دورها فى الزواج وتكوين أسرة حسبما تصور الكاتبة الأمر فى الرواية حتى لقد أصرت على إكمال تعليمها بالجامعة رغم أنف أخيها جمال العصبى المستبد الغضوب الذى صفعها مرة بالقلم على وجهها تعبيرا عن سخطه على تصرفاتها التى يرى أنها سوف تجلب العار للأسرة وتسبب لها هى الشقاء والحرمان من الزواج والأطفال، فكأنها تقول: وهأنذا لا أكتفى بما حصلته فى الجامعة من ثقافة بل إن قراءاتى مستمرة بعد تخرجى من الجامعة أيضا، وهذه بعض ثمار تلك القراءات. وفوق ذلك فإننا لا نحس أن الكاتبة تجتلب هذا اجتلابا أو تصطنعه اصطناعا بل يبدو لنا مستقرا فى موضعه وسياقه.
وبالنسبة لسرد الرواية فإن المؤلفة قد استخدمت ضمير الغائب على الدوام: "وقفت تتأمل هيئتها في المرآة الكبيرة, ابتسمت لنفسها في اندهاش:
-أبدو هكذا كسيدة عجوز فعـلا, ولـيس فتـاة بـلا زوج. كـم تغيرنـا المظاهر! كانت الثياب الفضفاضة قد أخفت تفاصيل جسدها الجميل, وأضاعت بين طياتها نحول خصرها وامتلاء صدرها. كم تختلـف عـن بـالطو العمـل المفصل بدقة ليلف جسدها بشكل عملي وأنيق. كان ذهنها يقدح شررا من أفكارها المتصارعة حول سبب مجيئها إلى هنا: هل هي توبة معترفة بذنبها بعد مكابرة وعناد؟ أم هي محاولة أخيرة للمصالحة مع الذات؟ ألم يقل يوما ذئب ليلى أن في رأسها نار ا تشتعل من سوء الظـن بـه? لقـد قال ذلك وهي في ذروة البراءة والبلاهة. ليته يعلم أين وصلت نيرانها تلـك التي أحرقت ليلى وكل براءتها. لقد أصبح لها حكاية تجلس إليها كل مساء تحتـسيان كـؤوس المـرارة والحرمان, وتعاهدها كل ليلة أن تكون في براءة تفكير الذئاب. هي التي تقص حكايتها للريح فقط".
ومع هذا فإنها تتحول بغتة إلى ضمير المتكلم فى حوار داخلى بينها وبين نفسها أو بينها وبين واحد ممن حولها كما هو الحال حين كانت تتحدث عن أخيها خطاب المهذب الهادئ الحنون وتتخيل حازم حبيبها فى بيته مع زوجته وأولاده، ثم أوردت حوارا بينها وبين أخيها، الذى لاحظ شرودها وذبولها، ثم فجأة يتحول الحوار من حوار خارجى إلى آخر داخلى، وبينها وبينه أيضا، ليعود الحوار خارجيا مرة أخرى:
"وفي المساء في حجرة الجلوس، وهي تتأمل وجه خطاب المسترخي بـين طفليـه وقـد تعلقا بعنقه وبين ذراعيه, فكرت في حازم. لعله هكذا يستلقي بـين أطفالـه ويفكر بها أو بهم. كيف يبدو حين يسترخي في بيته بعد يوم عمل شاق؟ مـاذا يرتـدي غـير أناقة العمل التي تذيب قلبها كلما لاح أمامها؟ كيف يبدو حين ينام أو يصرخ على أطفالـه? كيـف يبـدو حـين يحتـضن زوجته بحنان؟ كم يؤلمها إسراف الخيال هذا في تفاصيل حياته. لماذا لم ِ يلتق بها هي أولا? ولماذا عليها أن تفكر في سرقته من عائلته؟ امتلأ قلبها بالوجع. وأطرقت تسمع الحديث الذي يدور حولها كالغائبة في بعد آخر: لماذا شاء القدر أن تحب رجلا ليس لها؟
- عفاف. عفاف. أين أنت? ما بك؟
استفاقت من شرودها تحدق في ّ خطاب كأنه ظهر لتوه:
-لا شيء ياّ خطاب. أنا متعبة من الوقوف طوال الصباح في العمل.
- لم يرغمك أحد على هذا المجهود يا أختي. أنظري لنفـسك كـم يبـدو الذبول عليك والشرود. توقفي متى شئت واهتمي بنفسك.
"آه خطاب! لعلك أجمل مَنْ خلق الله يا أخي. لو أستطيع أن أشكو لك وجـع قلبـي وترشدني. لكن الأمر مستحيل. أنت لن تقوم بدور لم تهيئ له أبدا. أنـا هنـا شيء يجب أن تحافظ عليه حتى من علاقة حب، وأنا يجب أن أحـافظ عليـك فلا ألطخ سمعتك بجريمة حب".
همست عفاف بوهن: العمل يسعدني يا خطاب. لا تهتم. فقط قلـة النـوم ومـشاكل الـشهر المعتادة. سأنام وأكون في الغد في أحسن حال" (ص35- 36).
ومثل ذلك "أوقف السيارة في شارع جانبي أمام إحدى العـمارات, والتفـت نحوهـا مبتسما تلك الابتسامة التي لم يخلق الله مثلها. الهواء الساكن بينهما ونظراتـه الحنونـة وارتجـاف قلبهـا, حـضور كلـه يشهد لحظة اللاوقت, كان محسوبا من ضعفها, تلك اللحظة التي التقطـت أصابعها كفه فسرت رعشة في كل روحها, رفعتها بحنان لتكون بـين نقابهـا وأنفاسها المتلاحقة, وطبعت شفتاها قبلة عشق مؤبد على راحة يده. التقـى حاجبـاه في تــأثر كبــير, لكـن نظراتـه لم تـسعد بهـذه الاسـتكانة العشقية. كانت نظراته تخفي بعضها في تواطئ متفق عليه.
"ماذا تخفي نظراتك يا حازم? هل الشفقة والعطف? أم نظرات الرجـل
الذي أخافه كل هذا الحب? أم استنكار هكذا فِعْل؟".
وهل يخاف من الحب؟ نعم يخاف الرجال الحـب إذا أتـى عـلى هيئـة إعـصار جـارف يكتـسح العواطف المتصنعة التي تخلق للعبث والتسلية وتمرير الوقت. لقد كانت في حبها له ظاهرة ً عاطفيةً نادرة الحدوث ليس إلا. ما استطاعت مَجَسّاته أو راداراته العقلية رصدها أو التنبؤ بحدوثها, ولا استطاعت مقاييسه الخادعة ضبط درجات تدفقها العاطفي. حتى حيوان الغابة فيه كـان أول مـن عـشقها منـه وتلهـف لقـدومها الطاغي. كانت حب لا يشبهها إلا هي".
بل قد يتحول السارد الكلى العلم، سارد ضمير الغائب، بحديثه إلى شخص متخيَّل مستعملا له ضمير المخاطب. ففى أثناء حديثها مع سوسن بنت خالتها حول حبها لحازم، ذلك الحب اليائس المحروم، تطالعنا هذه المخاطبة فجأة: "هذا الرجل مختلف. فهل هناك أقـوى جاذبيـة مـن شيء متفـرد يتحـدى فـضولك ورغبـة الاشتهاء لديك لكل جميل? فيه سحر رجل غريب, يتحدى عاطفتها البكـر للاقتراب من المحظور" (ص43).
وفى بعض الأحيان الأخرى يتحول السارد العليم إلى سارد متكلم وكأنه أحد شخصيات الرواية. والنقاد بوجه عام لا يحبون أن يظهر هذا السارد نفسه بأى وضع، ومن ثم لا يصح فى نظرهم استعماله ضمير المتكلم لأنه ليس واحدا من أبطال العمل يرويه بلسانه بل هو سارد مطلق غائب نسمع روايته للأحداث دون أن نراه أو نلتفت لوجوده، وعليه ألا يحدث من التصرفات أو الأصوات ما يلفتنا إلى هذا الحضور حتى ولو بسعلة تفلت رغما عنه. ففى الفصل ال نجده يبدأ بهذا العنوان الطويل كالعادة: "ويحدث أني أجدني قلباً محتقناً بالدموع، فأبحث عن قصة حزينة هنا أو هناك أو شكّة دبوس تأذن لي بالبكاء".
وقد كان طه حسين أحيانا ما يكشف الستر الذى يختفى خلفه السارد العليم قائلا على لسانه فى أحد منعطفات الرواية التى يكتبها إن بمكنته أن يجعل البطل يفعل كذا أو يصنع كيت أو يأتى ذيت، وإنه حر فى ذلك لا ينبغى أن يخضع فيه إلا لإرادته المطلقة، ولا يصح أن يتدخل النقاد فى عمله هذا فيطالبوه بأن يراعى القاعدة الفلانية أو التوجيه العلانى لأنه أكبر من كل قاعدة ومن كل توجيه، أو شيئا من هذا القبيل وعلى هذا النحو. وهو فى أثناء ذلك كله يتجه بحديثه إلى القراء. وقد كنت ولا أزال أستظرف هذا منه كثيرا وأقول إن ما لا يجوز للكتاب العاديين يجوز لطه حسين. ورغم أن هذه حذلقة من الدكتور طه ورغم أنى غير مقتنع بأن الدكتور طه روائى كبير فإنى أحبها وأبتسم بل أضحك حين أقرؤها وأنسى كل عيوبه القصصية التى آخذها عليه، وهى ليست بالقليلة.
والآن مع نص من النصوص التى يناقش فيها طه حسين نقاد القصة والقواعد التى يَدْعُون إلى مراعاتها ويتناول الكلام عن موقفه منها،والنص مأخوذ من قصة "صالح" (من مجموعته: "المعذبون فى الأرض")، وهى عن صبى فقير كان بطلُ القصة يدعوه إلى بيتهم ليصيب معه من أطايب الطعام التىتصنعها أمه فى بعض المناسبات الاجتماعية: "وما أشك فى أن القارئ سيقف عند هذاالموضع من الحديث وسيسأل نفسه، ولو استطاع لسألنى أنا: ألم يكن من الخير أن نعرف منأول القصة أن صالحا قد فقد أمه، وأنه كان يعيش يتيما ينعم بما يختلس من حب أبيه سرًّا ويشقَى جهرًا بما يُصَبّ عليه من بغض هذه الضَّرّة التى قامت مقام أمه فىالبيت؟ ولست أشك فى أن القارئ سيضيف إلى هذا السؤال ملاحظة فيها شىء من القسوةوالسخرية والغيظ فيقول فى نفسه: لو أن الكاتب سلك فى قصته هذه الطرقَ الممهَّدةَوالسبيل المعبَّدة التى رسمها النقاد للقصة لعرَّف إلينا صالحا فى أول حديثهولأنبأنا بموت أمه وتزوُّج أبيه، ولأعفانا من هذه المفاجأة التى لم نكن فى حاجة إليها. ولكنى أعيد على القارئ ما قلتُه آنفا من أنى لا أضع قصة، وإنما أسوق حديثا. وأضيف إلى ذلك أن الذين يسوقون الأحاديث لا يقدّمون بين يديها هذه المقدمات التى يبيّنون فيها الموطن والبيئة والأسرة والزمان والمكان... إلى آخر هذا الكلام الثرثار الفارغ الذى يلهج به النقاد. ولو أنى بدأت هذا الحديث برسمٍ واضحٍ دقيقٍ لشخصيةصالح وأمين ومن يتصل بصالح وأمين من الناس لضاق القراء بهذه المقدمات أشد الضيقولقال بعضهم: تَجَاوَزْ حديث الطوفان وصِلْ إلى غايتك، فلسنا من الغباء والغفلةبحيث نحتاج إلى كل هذا التمهيد. وبَعْدُ، فمن أنبأ القارئَ بأن صالحا يتيم وبأن أمهقد ماتت؟ الشىء الذى لا أشك فيه ولا ينبغى أن يشك فيه القارئ هو أن صالحا لم يكن يتيما وأن أمه لم تكن ميتة، وإنما كانت حيَّة أكثر مما ينبغى أن يحيا الناس إن صَحَّ أن تَكْثُر الحياة وتَقِلّ. وسواء رضِىَ القارئ أم لم يرض فقد كانت أم صالححية من غير شك، لأنى أنا أريد ذلك، وليس يعنينى ما يريد غيرى من الناس، فأنا الذىاخترع صالحا من لاشىء، أو أخذ صالحا من عُرْض الطريق، لأن صالحا موجود ولأنه غير موجود: موجود فى حقيقة الأمر لأننا نراه فى كل ساعة وفى كل مكان، وغير موجود فى حقيقة الأمر أيضا لأنه يملأ المدن والقرى ويسرف على نفسه وعلى الناس فى الوجود،والشىء إذا زاد عن حده انقلب إلى ضده كما يقال. فأنا إذن وحدى، كما كان يقال أيضا،أعرف من أمر صالح ما لا يعرف غيرى من الناس، وأقرر أن أمه لم تترك الدار لأنهاطُلِّقَت، وأنا أستطيع أن أصنع بأمه بعد الطلاق ما أشاء: أستطيع ان أدعها مطلقة تعمل خادما فى بعض الدُّور، وأستطيع أن أجد لها زوجا تعيش معه سعيدة موفورة، وأستطيع أن أسخِّرها لعمل من هذه الأعمال التى يعيش منها أمثالها من البائسات: فقد أسخّرها لبيع الخضر، وقد أسخِّرها لبيع الفاكهة، وقد أكلِّفها أن تصنع الخبز فى بيوت الأغنياء وأوساط الناس، وقد أكلِّفها أن تغسل الثياب فى هذه البيوت، وقد أجدلها ما أشاء من الأعمال غير هذا كله لأنى حُرٌّ فيما أحب أن أسوق إلى القارئ من حديث ولأن القارئ مضطر إلى أن يتلقى حديثى كما أسوقه إليه، ثم هو حُرٌّ فى أن يقبله أو يرفضه، وفى أن يرضى عنه أو يسخط عليه. والواقع أنى لا أكلِّف أم صالح شيئا منهذه الأعمال التى ذكرتُها ولا أفرض عليها شيئا من هذه الخطط التى رسمتُها لأنى، على حريتى فى أن أصنع بها ما أشاء، أُوثِر الأمانة فى رواية التاريخ. وقد حدثنى التاريخبأن خديجة أم صالح قد كانت شاذة الخلق سيئة العشرة...".
ومع هذا فمن الكتاب من يضيق بهذا الكلام من طه حسين وينتقده عليه انتقادا شديدا، ومن هؤلاء محمود عبد المنعم مراد، الذى كتب (فى جريدة "المصرى" القاهرية بتاريخ 30 يناير 1953م) قائلا: "إن طه حسين فى مقدمة قصة "المعذبون فى الأرض" يقول: "لا أضع قصة فأُخْضِعَها لأصول الفن، ولوكنت أضع قصة لما التزمت إخضاعها لهذه الأصول لأننى لا أومن بها ولا أعترف بأنللنقاد مهما يكونوا أن يرسموا لى القواعد والقوانين مهما تكن، ولا أقبل من القارئ مهما ترتفع منزلته أن يدخل بينى وبين ما أُحِبّ أن أسوق من الحديث، وإنما هو كلامٌيخطر لى فأُمْلِيه ثم أُذيعه. فمن شاء أن يقرأه فليقرأْه، ومن ضاق بقراءته فلينصرفْعنه". ثم يعلله قائلا إنه يضع نفسه فوق النقد ولا يحب أن يسمعه ولا يعترف به ولايرى أن يُقيم له وزنا! ولماذا؟ لأنه يريد أن يكون حُرًّا فيما يكتب ويُذِيع علىالناس! وكيف إذن بنى طه حسين مجده الأدبى؟ ألم يكن ذلك على حساب غيره من الأدباء: القدماء والمُحْدَثين على السواء؟ يخيَّل إلىّ أن الذى ألجأ طه إلى هذه الثورة الغاضبة على النقاد والقراء هو إحساسه فى ذلك الموضع من كتابه أنه يتعرض للنقد، فأراد أن يقطع الطريق على هؤلاء الفضوليين. ولا أعرف فى التاريخ كله كاتبا مَهْمَاتبلغ عبقريته يستطيع أن يقول للناقد: "قف! من أنت؟"، ولن يستطيع طه بهذا الكلامالذى ساقه أن يمنع قارئا من أن يُبْدِىَ إعجابَه بما كتب أو سُخْطَه عليه".
ومن ذلك أيضا قول د. طه حسين فى أول الفصل الخامس من روايته: "وراء النهر": "ولست أخفي على القارئ أني حائر أشد الحيرة في أمر هذا الفتى، كما أني حائر أشد الحيرة في أمر أهل الربوة جميعا؛ فكلهم يلح عليَّ في أن أجد له اسما يتسمى به ويميزه بين غيره من الناس. وكلهم يلح عليَّ في أن الأشخاص لا يستكملون وجودهم إلا إذا عرفت أسماؤهم التي تحقق التمايز فيما بينهم وتخرجهم من هذا الوجود الوهمي الذي يشبه العدم إلى وجود، إلا يكن واقعا كل الوقوع، فهو شيء بَيْنَ بَيْنَ، أقرب إلى الواقع منه إلى الوهم، وأدنى إلى الحقيقة منه إلى الخيال.
وكلهم يلح عليَّ في أن القدماء الذين عاشوا بين النهرين في بعض عصور التاريخ لم يكونوا مخطئين حين كانوا يرون أن اسم الرجل هو أخطر أجزاء حياته، وحين كان هذا الرأي يذهب بهم إلى شيء من الغلو فيعتقدون أن لأسمائهم إذا نُقِشَتْ على الجدران حظها من الحياة وحقها في القربان لأنها تظل حية بعد موت أصحابها، أو لأنها تختصر وتستجمع ما يمكن أن يبقى من حياة أصحابها. فللأسماء خطرها إذن، ويوشك الرجل الذي ليس له اسم ألا يكون موجودا. وهم من أجل ذلك يتصايحون بي من كل وجه مطالبين بأن أسميهم بأسمائهم ليستمتعوا بالوجود الصحيح.
وما ينبغي أن تسألني: كيف يتصايحون وهم لم يُوجَدوا بعد؟ فإنهم يتصايحون
على نحو خاص لا يسمعه أحد غيري، ولو أني منحتهم أسماءهم لكان من الممكن أن
يتجاوز تصايحهم أُذني إلى أُذنيك. وما أظنك تنكر أن الشخص الوحيد الذي استطعت أن تتصوره من أشخاص هذه القصة الذين مروا بك إلى الآن إنما هو شخص البستاني الذي سميته: عثمان، ولو لم أسمه لما تبينته. كما أنك لم تتبين إلى الآن شخص الشاعر على كثرة ما أضفت إليه من الصفات، ولا شخص هذا الفتى الطارق على ما وصفت لك من منظره الجميل وطلعته رائعة ووجهه المشرق الوضاء.
فهم لا يتجاوزون الإنصاف حين يطالبونني بأن أسميهم بأسمائهم، ولكن ماذا
أصنع، وأنا أشد الناس ضيقا بابتكار الأسماء، لا يطاوعني عقلي الضئيل ولا خيالي الكليل على هذا النحو من العبث؟ ثم أنا من جهة أخرى أكره أن أختار الأسماء لأني أخشى أن أختار أسماء لها أشخاص قد اتخذوها لأنفسهم أو وسمهم بها آباؤهم، وهذا أبغض الأشياء إليَّ. فقد أنبأتك أن هذه القصة لم تقع أحداثها في مصر ولا في بلد متاخم أو مجاور لمصر كما يقول الناس في هذه الأيام، وإنما افترضت أن تكون أحداث القصة قد وقعت في إسبانيا لا لأنها وقعت في إسبانيا بالفعل، فدون وقوعها في إسبانيا خطوب وأهوال، بل لأن إسبانيا هي الأرض التي تُبْنَى فيها قصور الخيال والتي و ِجدت فيها تلك الرُّبَى التي ذكرها الشاعر الموشِّح حين طلب إلى السحب أن تجلِّل تيجانها بالحُلِيّ. من أجل هذا كله أكره أن أسمي أهل هذه الربوة بأسمائهم، وأخشى بنوع خاص أن يصرف بعض الناس هذه الأسماء وما يرون حولها من الحديث إلى أنفسهم، فيظنوا أني قد أردت بهم شرا وعرضت لهم من قريب أو من بعيد.
فإذا عاهدني القراء على أن يؤمنوا أوثق الإيمان فيما بينهم وبين أنفسهم بأن هذه الربوة ليست قائمة في مصر ولا في البلاد المتاخمة أو المجاورة لها، وبأن أهلها ليسوا مصريين ولا عربًا ولا شرقيين، فقد أستطيع أن أجيب أشخاص القصة إلى ما يريدون،ً وأهدي إلى كل واحد اسما يميزه ويمنحه حظه من الوجود الذي يطمع فيه ويطمح إليه. وإن كان الوجود في نفسه ليس شيئًا يستحق الطمع فيه أو الطموح إليه.
وليس ينبغي لك أن تظن أني أمزح أو أداعب حين أغض من قيمة الوجود؛ فلست
أنا في هذا مبتدئًا ولا مبتكرًا، ولست فيه بدعًا من الناس، وما أكثر الفلاسفة والشعراء الذين ينكرون قيمة الوجود ويرونه شرا أي شر، ويودون لو أنهم لم يُدْفَعوا إليه، أو لو أنه لم يُدْفَع إليهم! وأنت تذكر بالطبع أن أبا العلاء تمنى غير مرة لو أن حواء ماتت قبل أن تمنح زوجها الولد أو لو أنها ماتت عقب ولادتها لابنها الأول، وأنت تذكر كذلك أن أبا العلاء، ومن قبله فلاسفة كثيرون، كان يرى النسل جناية لا ينبغي أن يجنيها الرجل العاقل الحازم، وقد ظن بنفسه العقل والحزم، فلم يقترف هذا الإثم، ولم يتورط في هذه الجناية.
ولو سمع لي أشخاص القصة وقبلوا نصحي لهم ومشورتي عليهم، لما طمعوا في
الوجود ولما طمحوا إليه، ولما أثقلوا عليَّ بهذا الإلحاح في أن تكون لهم أسماء يُ َ عرفون
بها، كما أن لغيرهم من الناس أسماء يُعْرَفون بها، ولكن أرسطاطاليس قد أخطأ تعريف
ما وراء النهر الإنسان حين قال إنه حيوان ناطق، ولو قد وُفِّق إلى الصواب لقال إنه حيوان أحمق. وليس أدل على حمقه من طمعه في الوجود وطموحه إليه وحبه للحياة.
وما دام هؤلاء الأشخاص قد استوفوا أعظم حظ ممكن من الحمق فأبوا إلا أن تكون
لهم أسماء، فلنُ ِّ سم الشاعر راغبًا، ولْنُسَمِّ الفتى: نعيما، فأما أبوه فلنرجئ تسميته إلى أن نلقاه في مكتبه ذاك الذي اتخذه لنفسه سجنًا منذ آخر الليل".
وفى الفصل السابع من ذات الرواية يقول طه حسين عن تحديد موقع القرية مسرح أحداث الرواية: "وسواء أكانت القرية أصلًا أم فرعًا فإنها قد وُجِدت في أسفل الربوة، ولم توجد عبثًا، فلا بد من أن نهبط إليها وإن كرهنا ذلك، ولا بد من أن نقيم فيها وإن شق علينا هذا المقام. وأنا أريح القراء من مشقة هذا الهبوط فلا أسلك بهم تلك الطريق العريضة الطويلة التي تزدحم فيها السيارات مُصَعِّدة ومُصَوِّبة ولا أسلك بهم هذه الطريقة الضيقة التي يزدحم فيها الفلاحون على أقدامهم وعلى دوابهم مصعِّدين ومصوِّبين، وإنما أبلغ بهم القرية من غير طريق لأني أريد ذلك وأستطيعه ما دام الأمر إليَّ لا إلى أهل الربوة ولا إلى أهل القرية، لا وإلى القراء. فالكتَّاب قديرون على شيء كثير إذا لم يفرضوا على أنفسهم ما يحب النقاد أن يفرضوا عليهم من القواعد والأصول".
هذا مع د. طه، ونفس الشىء مع فكرية شحرة، وإن كان لسبب مختلف، وعلى نحو مختلف، ولغرض مختلف، وبنكهة مختلفة. فإنها تدمج هذا مع تيار السرد بضمير الغائب إدماجا يلهيك عن أنها تزيح الستار عن ساردها العليم بغير وجه حق. ولعل جريان عنوان الرواية الطويل على لسان بطلة الرواية قد مهد الطريق لهذا التحول من رواية السارد الخفى إلى رواية السارد المتكلم دون أن نلحظ ذلك أو على الأقل: دون أن نضيق به صدرا. يبدأ الفصل المذكور بالعنوان التالى كما قلنا: "ويحدث أني أجدني قلباً محتقناً بالدموع، فأبحث عن قصة حزينة هنا أو هناك أو شكّة دبوس تأذن لي بالبكاء" ليعقبه كلام السارد العليم بكل شىء: بضمير الغائب أولا، ثم بضمير المتكلم ثانيا، ثم بعد سطور يتجه إلى القارئ بضمير الخطاب كأنه يسار صديقا لا قارئا لا يصح أن يقيم علاقة معه لأن الغائبين لا يقيمون علاقات مع أحد، فهم غائبون لا يعرفهم الناس ولا يسمعونهم ولا يشاهدونهم ولا يعرفون عنهم قليلا أو كثيرا، لتعود الكاتبة فتسكت ساردها العليم عن توجيه الخطاب لقرائه وتعيده إلى مخبئه خلف الستار: "شهور الانتظار الثقيلة لم تقعدها أسيرة الألم. فـنحن يجـب أن نعـيش هـذه الحيـاة رغـم آلامنـا وتـوالي الإحباطـات والخسارات. فكما َّ أنا جئنا إليها دون مشورة أو رأي منّا فيجـب أن نواصـل الحياة رغما عنّا أيضا, كوننا ضمن سلسلة مترابطة تعتمد أجزائها على بقائنـا أقوياء لا نتعثر مع أول صدمة فيخسرنا من هم بحاجة إلينا.
لقد عادت بنشاط ملفت للعمـل أثـار تنـدر زملائهـا, وبـدأت بإعـداد مشروعها الخاص الـذي تطمـع أن ترعـاه وتدعمـه المؤسـسة وأن تجـد لـه المساندين والمشجعين, مشروعها الذي يحتـاج لمـال وفـير ودعـم لا محـدود ومساندة كبرى. ولن يكون ذلـك إلا بقـدرتها عـلى سـد ثغـرات وعيـوب المشروع بدراسة عميقة ومكثفة.
عندما تفقد الأمل في حلم اصنع آخـر كـي تبقـي ذهنـك بعيـدا عـن الحسرة على ما فقدت.
وربـما هـذا مـا تجيـده لكثـرة مـا تلاشـت أحلامهـا وصنعت أحلاما بديلة كي تعيش على أمل تحقيق حلم. كان مشروعهاً حلما راودها منذ الصغر. ولولا هذه الطاقة الـسلبية التـي تتنامى في أعماقها وتتمنى تذويبها في عمل إيجابي لتملكها اليأس من صـنعه وحدها".
أما فى النص التالى، وهو موجود فى الفصل ال من الرواية فقد طال ظهور الراوى العليم بكل شىء بعض الطول، وأخذ يبدى ملاحظاته المباشرة عن الشعوب العربية بعامة، والمجتمع اليمنى بالذات، ويكشف عن مشاعره تجاه كل شىء وينتقد ويطلق الأحكام، فبدا الأمر وكأنه يتكلم بلسان البطلة لا بلسانه هو: "لعل الشعوب العربية تحتاج وقتا أطول من غيرهـا كـي تغـير مفاهيمهـا البالية, والتي لا تواكب زمن يتطور بسرعة الضوء. وشعب اليمن يحتاج إلى ضعف ذلك الوقت, فالبيئة اليمنية مـن خصائـصها الحـرص عـلى كـل مـا يتوارث بخوف أن يتغير وليس بجهل التغير فقط. ربما يعود ذلك لكون الوضع لم يتغير كثيرا منـذ قيـام ثورتـه المجيـدة في أيلول، فالتعليم هو الأسـوأ عـلى الإطـلاق, ونـسبة الجهـل الثقـافي تتنـامى بتخرج دفعات المتعلمين, ولا نية للتغيير خوفا من تغير الحال. يصبح الوضع السيئ مقبولاً دائما مع الاعتياد عليه يرادفـه الخـوف مـن مجيء وضع أسوأ منه. الخوف من التغيير يشمل كـل جوانـب حيـاة الإنـسان اليمنـي العاديـة، فكيف بما توارثه من النظرة التسلطية القاصرة نحو المرأة بوضعها، بمكانتها، بما خُلِقَتْ له؟".
وفى الفصل قبل الأخير، وتعليقا على هجوم أيمن (سائق السيارة الذى يوصلها للمكان الذى تريد) على النساء وانتقاده العنيف لهن واتهامه لهن بكل منقصة والزراية على زوجته بكل حنق وسخط نرى الراوى العليم يظهر نفسه من مخبئه ويرفع صوته ردا على الهجوم بهجوم مماثل، ونحس أن هذا هو رأى عفاف لا السارد، إذ يتوقع دائما من هذا السارد المطلق الصمت التام والاختفاء التام عن الأنظار والتزام الحياد فلا انتقاد لشىء ولا حكم على شىء: "للرجال قدرة عجيبة على تشكيل الحقائق حسب أهواءهم, فزوجة أيمن لم ترغمه على الارتباط بها ولم ترغمه على الإعجاب بها, نزواته المبكـرة هـي من تحكمت به, والضحية امرأة".
ثم فى أوائل الفصل الأخير يقول ساردنا المطلق تعقيبا على مضايقات نساء البيت لعفاف وتلميحاتهن الجنسية إلى برودة فراشها ليلا لأنها عانس فلا زوج لها: "فماذا حدث للحيـاء حتـى تنـشر العلاقـات الجنـسية في مجـالس النـساء بوقاحة هكذا؟". والعجيب أنى لم أستأ من ظهور السارد العليم وتدخله بالحديث المباشر على هذا النحو. ولعل السبب فى ذلك، بل هذا أمر مرجح، هو أن من السهل النظر إلى هذه التدخلات من جانب السارد العليم على أنها حديث باطنى من جانب البطلة تحدث به نفسها، ولكن دون أن تضع الكاتبة هذا الحديث بين علامتى تنصيص. وبهذا نخرج من انتقاد راويتنا على هذا التصرف الذى يضيق به النقاد عادة.




وقد افتتحت الكاتبة روايتها بحدث وقع فى أواخرها، لكنها بدأت به ثم رجعت إلى ترتيب الأحداث الطبيعى والمنطقى لتستعيد هذا الحدث فى وقته الطبيعى قبل نهاية الرواية بقليل، وإن لم تكن استعادة متطابقة، ألا وهو أداؤها العمرة مع ابن أخيها خطاب الذى تحبه. أقصد: تحب الولد وتحب الأب جميعا. لقد عانت عفاف طويلا أشد المعاناة وأبهظها جراء حبها المحبط لحازم، وظلت تتقلب على جمر النار حتى ضجت بالسخط على قدر الله إذ وضعها فى هذا اللظى وتركها دون أن يمد يده لإنقاذها كما ترى وتقدّر. لكنها فى النهاية تنبهت إلى أنها قد تجاوزت الحدود فعزمت على زيارة بيت الله وأدت الشعائر وعاد لها شىء من السكينة والرضا.
وهذه الطريقة تذكرنى بطريقة طه حسين فى "دعاء الكروان"، وقد أخذتُها عليه وسجلت هذه المؤاخذة فى الفصل الخاص بتلك الرواية من كتابى: "فصول من النقد القصصى"، إذ ابتدأ روايته منظر وحوار ليسا هما آخر مناظر الرواية وحواراتها. وكانت سعاد بطلة رواية د. طه تستخدم فى السرد ضمير المتكلم وتحكى الأحداث من خلال الأفعال الماضية، ثم ظلت تستعمله بعد أن استأنفت على مرأى منا هذه المرة ومسمع ما بقى فى الرواية من أحداث، وكان ينبغى الانتقال إلى استخدام المضارع. وهو الخطأ الذى كررته فكرية شحرة فى روايتها التى بين أيدينا. إذ ما دامت الدائرة قد دارت وعدنا فى أواخر الرواية إلى ما كنا قد قرأناه فى أولها لقد كان المفروض أن نعيش أولا بأول ما تبقى من أحداث الرواية، وبالتالى أن يروى السارد الأحداث المتبقية منها من خلال الفعل المضارع لا الماضى، إذ المفترض أن تلك الأحداث لم تكن قد وقعت بعد، وأننا نشاهدها فى التو واللحظة، فكان على السارد أن يقول: يقع كذا وكذا أمامنا الآن، ويدخل الغرفة فلان أو علان ويصنع كذا أو كذا... مثلما يفعل معلقو مباريات الكرة والمذيعون الذين كانوا ينقلون فى خمسينات القرن الماضى وستيناته فى احد برامج افذاعة المصرية أوانذاك الأفلام للسامعين من الشاشة إلى المكروفون، فكنا نسمعهم يقولون مثلا: الآن يدخل فلان الفلانى مكتبه، فيجد أوراقه مبعثرة، وباب الدولاب محطما... وهكذا. أما الأحداث المتبقية من الرواية فهى عودة حازم إلى المؤسسة التى كان يعمل فيها فترة من الوقت مع عفاف وتعارفا داخلها وتحابا بين جدرانها وكانت منطلقا إلى لقاءات خارجها فى سيارته وفى شقته، وكذلك التقاؤها به عند هذه العودة ودوران حوار بينهما خلال ذلك تذكَّرها فيه بعدما كانت قد شحبت فى ذاكرته التى شابت، وكانت تلمزه خلال ذلك الحوار وتنتقده انتقادا شديدا مبطَّنا لما فعله معها إذ رفض أن يتزوجها ولم يبادلها حبا حب ورغبة فى الزواج منه برغبة مثلها، وتشمت به فى داخلها حين رأته وقد شاخ وعانى من ويلات الحياة بعدما تزوج أخرى على أم أولاده وتمرد عليه الأولاد وأمهم وأخرجوه من حياتهم ثم تركته زوجته الجديدة بدورها، وإن كنت أستغرب مع هذا أشد الاستغراب وأعنفه كيف يمكن أن يدور بينهما مثل هذا الحوار أمام موظفى المؤسسة، إذ لا أظن المجتمع اليمنى يمكن أن يتقبل مثل ذلك الحوار الصريح العجيب، ومن هنا أرى أنه غير واقعى، أى لا يمكن أن يقع. وهذا مأخذ من مآخذ الرواية لا أحب أن تمر هذه الفرصة لأنبه القارئ إليه، وأتعجب جدا كيف وقعت فيه الكاتبة.

والرواية حزينة مؤلمة منذ بداية الأحداث حتى نهايتها: فالأب الذى كان غائبا طول الوقت تقريبا خارج الديار بحثا عن لقمة العيش لأسرته سرعان ما يعود ابنه الأكبر خطاب به جثة من الخارج ليدفن فى أرض الوطن، وتتذكر بطلة الرواية عفاف أنها لم تقبله إلا حين يكون مسافرا إلى الخارج أو عائدا من الخارج. ووصف عودته النهائية رغم إيجازها وهدوئها تثير الشجن بكل قوة: "حين أفصحت الأم لها بأمر الخطيب لم تمهلهـا عفـاف كـي تـسرد مزايـا ومناقب الزوج والزواج بل قاطعتها بحدة شرسة:
- أنا لن أتزوج عن طريـق جمـال أو مـن أحـد أصـدقائه يـا أمـي, وإذا
أصررتم فسأختار الموت أو الهروب من البيت. ما رأيك؟
الأم في قرارة نفسها ترفض فكرة زواج ابنتها مـن صـديق جمـال, لـذا لم
ترغمها كعادتها على القبول مثل كثير من الأمور التي أرغمتها سابقا عليهـا
لأنها تعتقد أنها تصب في صالحها في النهاية. ربما لقناعة الأم أن علاقة الزواج لا تحتمل الإجبار فهي مصيرية وقـصة ُعمر وحياة طويلة مشتركة. ولأول مرة حين جن جنون جمال لقرار الرفض تصرخ فيـه الأم مهـددة بإخبار الأب عن تصرفاته الطائشة والمتعنتة في إدارة البيت, كرجل يجب أن يهتم بالعائلة لا أن يناكدها. وبدلاً من الاعتذار صب كل حنقه على عفـاف كمسؤولة عن غضب والدته وتأليبها ضده. لقد كانت حياتها سلسلة من الأزمات مـع هـذا الأخ المـستأسد عليهـا، ولكم تمنّت عودة خطاب من الغربة للأبد. وكأنما استجابت السماء لدعواتها, حـين هـاتفهم خطـاب بنيتـه العـودة خلال يومين في حالة لم يسبقها اتفاق أو مشاورات كالعادة.
أمها فقط مَنِ انتابها القلق من قرار كهذا ليس لـه مقـدمات أو أسـباب.
كانت تخشى أن ّ خَطّاب قد اختلف مع والده وترك العمل معه. لم تكن تعلم أن الوالد كان في طريق العودة ً أيضا. إنما على شكل جثة غادرتها الروح.
طوال أيام العزاء لا تدري عفاف لماذا تبكي تحديدا؟ هل تبكي غياب الأب الغائب دوما؟ أم تبكي فقدان الأمل في عودته تماما؟ أن يغادرهم بعيدا إثر ذبحة صدرية وبصمت يبدو كأنه مازال في غربتـه المعتادة والطويلة من قبل أن تولد هي. ولولا ذلك الجسد المسجى الذي وصل كطرد عبر الجو ليدفن في أرض الوطن, جسد قرر أن يحيا في وطنهً ميتا مادام عجز أن يعيش فيه حيا، و لولا الهلع والصدمة والبكاء والعويل الـذي أرتـج لـه المنـزل الكبـير لكان الوالد في خيالها ما زال في غربته الطويلة.
تفكِّر: لماذا قدر لها منذ ولدت ألا تقبل خدي هذا الأب إلا مستقبلة لـه
أو مودعة، وألا تعرف قبلته إلا بعد أن صارت تنتظر عودته من ذات غربة؟
وهذه القبلات المرتعشة على جبينه البـارد هـي القـبلات الأخـيرة, فـلا عودة من غربته هذه المرة. أم لعله عاد أخيرا لحضن الوطن الذي لا يعـرف احتضان أبنائه إلا موتى وقتلى؟ لقد مات الحاج حسن الولي والد عفاف، وهذا ما حدث فعلا".
إن الكلام هنا محايد تماما، وكأنه لا موت ولا حرمان. وهذا ما يأتى بنتيجة عكسية، فكأن القارئ حين يقرأ هذا الكلام الهادئ المحايد يشعر تلقائيا أنه يجب أن يقوم بواجب البكاء ما دام الآخرون لم يبكوا ولم يذرفوا دمعا بل إنهم ليبدون وكأنهم غير حزانى. لكن لا، فكل سطر فى النص بل كل كلمة بل البياض الذى بين السطور وبين الكلمات مشحون بالشجن، لكنه شجن مكتوم يريد أن ينفجر، فلا يجد سوى القارئ ينفجر فيه. لقد كان الوالد متغربا عن أولاده معظم الوقت، وكانت البطلة صغرى إخوتها، وكانت مدللة بعض الشىء كما نرى، وتكاد تنحصر ذكرياتها مع والدها فى تقبيله عند سفره وضربه فى الأرض سعيا وراء توفير مستوى كريم لأسرته من العيش أو عودته القصيرة من هذا السفر. وهناك أخوها جمال العصبى الغضوب الشديد الغيرة والمحب للتحكم فى أمرها والراغب فى زواجها وتركها التعليم مما يرى أنه لا يفيد بل بالعكس يضر لأنه سوف يصرف عنها الخطاب فلا تتزوج ويجعل منها هدفا لانتقادات الناس من حولها لما يرونه من استرجالها حسبما يفهمون الاسترجال، ومن ثم يجلب لها ولأسرتها العار حسبما يفهم ويقدّر، على حين تصر هى على أن تتعلم وتبلغ من التعليم ذروة ما هو متاح آنذاك للفتاة اليمنية وتعمل وتنشئ دارا ترعى فيها المعوقين والمعوقات وتفيض عليهم عطفها واهتمامها وتؤهلهم للاندماج فى المجتمع، مع إصرارها على رفض كل من يتقدم أو يفكر فى التقدم لخطبتها مع ما نعرفه من حاجة الفتاة الناضجة فى مجتمعاتنا إلى الزواج لأنه الوسيلة الوحيدة لإشباع رغباتها وعواطفها الطبيعية والتى لا يمكن أن تستقر فكريا ونفسيا واجتماعيا بدون هذا الإشباع، إذ لا تعرف فتياتنا ما تعرفه فتيات الغرب من حرية فى هذا المجال لا يقبلها ديننا ولا تقاليد مجتمعاتنا ولا الناس من حولنا. وكل هذا من شأنه أن يجعل وفاة الوالد حدثا مؤلما غاية الإيلام. فإذا نظرنا فلم نجد بكاء ولا صراخا ولا لطما ولا عويلا ولا كلاما عن المصاعب التى تنتظر بطلتنا ولا عن الحرمان الشامل الذى انتزع منها أباها بدون رجعة، ودفع اثنين من إخوتها إلى مغادرة البيت بل البلاد كلها إلى الخارج ليعيشا هناك ويقوما بالدور الذى كان يقوم به ذلك الوالد تبين لنا لماذا كان النص المذكور مؤلما غاية الإيلام. ولا ينبغى أن ننسى أيضا طبيعة الوفاة التى توفاها الأب، وهى الذبحة الصدرية، وفى الغربة ودون مقدمات أو ذيول، فهى وفاةٌ وَحِيَّةٌ ليس لها معقب. فيا لها من وفاة!
ويفد على ذهنى فى هذا السياق السطور التى كتبها المرحوم إبراهيم المازنى عن بنته التى ماتت صغيرة فى عمر الوردة الندية، فلم يفعل شيئا وهو يستعيد ذكراها سوى تذكر ما كانت تفعله معه حين تدخل عليه مكتبه وهو يدق على الآلة الكاتبة، ثم لا كلمة عن أى بكاء أو دموع، فضلا عن صراخ وألم. لنقرأ النص التالى الذى ما من مرة قرأته فيها إلا بكيت مهما كانت حالتى النفسية قبيل القراءة.وهو متاح فى مقدمة كتابه: "فى الطريق" فى صفحة الإهداء، وتحت عنوان "إلى حياة". وقد اكتشتفت هذا النص البديع الذى يصعب أن أتذكر نصا شبيها به فى أى أدب قرأت شيئا منه وأنا شاب أشتغل مدرسا مساعدا بآداب عين شمس، وكنت أحاضر طلاب أحد أقسام اللغات الأوربية، فقررته عليهم وأنا غير مصدق أن ثم نصا بهذه الروعة وذلك التفرد وذاك الإيلام النبيل. ومن يومها دخل هذا النص عقلى وقلبى وكيانى كله فلم يبارح. يقول المازنى طيب الله ثراه:
"في بعض الأحيان أكون جالسا إلى مكتبى قبل طلوع الشمس، وأمامى الآلة الكاتبة أدق عليها وأرمى بورقة إثر ورقة، وإلى جانبى فنجان القهوة أرشف منه وأذهل عنه، فأحس راحتيك الصغيرتين على كتفى فأُدِير وجهى إليك، وأرفع عينى لأصبِّح على بستان وجهك، وأستمد من ابتسامة عينيك النجلاوين وافترار ثغرك النضيد ما أفتقر إليه من الجَلَد والشجاعة، وأدفع يدى فأطوّقك بذراعى، وأضمك إلى صدرى، وألثم خدك الصابح، وأمسح على شعرك الأثيث المرسل على ظهرك وجانب محيَّاك الوضىء، وأتملى بحسنك وأنشر فى كهف صدرى المظلم نور البشر والطلاقة، فتدفعين ذراعك الغضة وتتناولين ببنانك الدقيقة ورقة مما كتبت، وترفعينها أمام عينيك، وتَزْوِين ما بينهما، وتتخذين هيئة الجِدّ الصارم، وتفيضين على نفسك السمحة العطوف، وأنت مضطجعة على ذراعى، سمتا وأبهة يغريان بالابتسام، وأنا أنظر إليك وفى قلبى سكينةٌ وجوًى من قربك معطر بمثل أنفاس الروضة الأُنُف فى البُكْرة الندية. وألمح شفتيك الرقيقتين تختلجان وعينيك تلمعان، فتطيب نفسى بسرورك الصامت، ثم أسمع ضحكتك الفضية، وأراك تغطين وجهك الحلو بالورقة، فيستطيرنى الفرح ويستخفنى الجذل، ولكنى أتظاهر بالخوف على الورقة التى لا قيمة لها أن يمزقها أنفك الجميل، فترمين رأسك على ذراعي وينسدل شعرك الذهبى المتموج كالستار، وتصافح سمعى من ضحكاتك العذبة موجات لينة. ثم تعتدلين على ساقى، وتدفعين ذراعيك فتطوقين بهما عنقى، وتجذبين وجهى إليك، ولكنك تشفقين على رقة شفتيك من خشونة خدى فتلثمين أذنى الطويلة، وتعضينها أيضا، فأصرخ، فتثبين إلى قدميك خفيفة مرحة، وتخرجين بعد أن خلفت فى صدرى انشراحا، وفى قلبى رضى، وفى روحى خفة، وفى نفسى شفوفا، وفى عقلى قوة، وفى أملى بسطة واتساعا، وفى خيالي نشاطا، فأضطجع مرتاحا وأغمض عينى القريرة بحبك ثم أفتحها على:
طيرٌ حُرِمْناه على إغراقنا = فى النَّزْع، والحرمانُ فى الإغراقِ
أى والله، لولا الإغراق ما كان الحرمان. وهل هو إلا الشعور به من الإسراف فى الرغبة واللجاجة فى الطلب؟ بل أفتح العين على جثة صغيرة حملتها بيدى هاتين إلى قبرها، وأنزلتها فيه، ووسدتها التراب بعد أن سويته لها بكفى، ورفعت من بينه الحصى الدقاق ثم انكفأت إلى بيتى جامد العين وعلى شفتى ابتسامة متكلفة وفى فمى يدور قول ابن الرومى:
لم يُخْلَق الدمع لامرئٍ عبثا = الله أدرى بلوعة الحَزِنِ
وتدخل علىَّ زوجتى لتحيينى تحية الصباح، فأتلقاها بالبشر والبشاشة، وأهم بأن أحدثها بما كبر فى وهمى قبل لحظة، ولكنى أزجر نفسى وأردها عن التعزى باللغط. ولو أنى شرعت أحدثها بشىء من ذلك لما فرغتُ، فما أخلو بنفسى قط إلا رأيتنى أستطيب أن أتخيل فتاتى على كل صورة وكل هيئة وفى كل حالة من حالات الطيش والحكمة، والغضب والسرور، والسخط والرضى، والضحك والبكاء، والعشق والسلوان، والنفور والإقبال، والحركة والسكون، واللعب، والنط، والقفز، والسباحة... ويحلو لى أن أنشئ بينى وبينها أحاديث فى كل موضوع من جد وهزل، ويسرنى أن أسمع نكتها، وأرانى أستملح فكاهتها، وأنتحلها فيما أكتب، وأضحك أحيانا بصوت عال، بل أقهقه غير محتشم، فإذا تعجب لى داخل متطفل علىَّ فى هذه الخلوة المحببة إلى نفسى رفعت له وجها كالدرهم المَسِيح، وهربت بالتباله من الجواب الذى يطلبه بعينه أو لسانه، وتركته يظن بعقلى ما يشاء. وماذا أقول له؟ فى وسعى أن أكذب، فما لِبَاب الكذب مفتاح، ولكن الكذب ينغِّص علىَّ المتعة التى استفدتها من الحوار الذى كان يدور بينى وبين "حياة".
وأنت يا "حياة" الجديدة بديل من "حياة" التى فقدتها. لا لستِ بديلاً، ولا أنت عِوَضٌ عنها، ولا أحسبك يرضيك أن تكونى عوضا عما لا يؤاتِى. وتلك قد ربيتُها صغيرة ودللتُها وهى رضيعة بيدىَّ هاتين اللتين أتناول بهما خديك، ولاعبتها وأركبتها ظهرى، وقطعت بها فراسخ طويلة فى الغرفة الضيقة، وسقيتها الماء ورأيتها تمص ثدى أمها وهى ذاهلة عن الدنيا وما فيها وما هو كائن وما عسى أن يكون، ونحن ننظر إليها مسرورين مستغربين مفتونين بهيئتها، وهى مقبلة على الثدى، ويدها الدقيقة على الثُّنْدُوَة، وأصابعها تتحرك فى لطف وعلى مهل، مستظرفين شفتها المَثْنِيَّة على سواد الثدى حول الحلمة وهى مُكِبَّة على الرضاعة.
ولكن فيك مشابه منها. وأنا أغالط نفسى وأزعم أنها لو كتب لها البقاء لما عَدَتْكِ. ولست تجلسين على ساقي فى الصباح الباكر كما تفعل تلك فيما أتخيل، ولكنك تقرأين ما أكتب، بعد أن ينشر، وأراك يسرك أن تسكنى إلىَّ سكون الطائر إلى وكره. وهل هذا كل شىء؟ لا أدرى. وأظن، بل أنا واثق، أنك تفهمين ما أعنى حين أقول إنك فصل من كتاب "حياة". وهل أحتاج أن أقول إن اسمكما ليس حياة؟".
يا ألطاف الله! هل يوجد فى الدنيا نص كهذا النص العجيب؟ إنه نص تنوء بحمله الجبال، فما بالنا بالقلوب؟ الواقع أنه لولا وجود ابنتى الصغرى معى فى غرفة نومى ومكتبى رغم انشغالها بالبحث فى مواقع المشباك (النت) على هاتفها المحمول لنشجتُ كعادتى كلما وصلت من حديث المازنى إلى موت فتاته، ولم أكتف بذرف الدمع هذه المرة كيلا ألفت نظر ابنتى وأبدو أمامها ضعيفا أبكى على بنية ماتت منذ ما قد يقرب من قرن، ولم أرها ولا تربطنى بها أية رابطة سوى أنها ابنة المازنى، الذى أحبه وأكاثر بأدبه رحمه الله ورحم ابنته برحمته الواسعة العظيمة. ففى نص فكرية شحرة بعض أنفاس من نص المازنى تعطيه قيمته مع حفظ قدر المازنى العظيم ومكانته السامقة بطبيعة الحال.
على أن ليس هذا هو الألم الوحيد فى الرواية على ضخامته وهوله بل هناك أيضا حكاية الفتاة المجنونة التى لم تكن تستطيع الاستقرار فى البيت بل تخرج دائما إلى الشوارع حيث تتعرض لأذى الناس فى مجتمعاتنا المتخلفة التى تنظر إلى المجانين على أنهم خير هدف يوجهون نحوه أذاهم ضربا الأكف أو رميا بالحجارة، فلا يجد أفراد أسرتها سوى تقييدها بالمنزل فى غرفة مغلقة عليها حتى لا يمكنها الخروج مرة أخرى وضربها بكل قسوة وعنف لعلها تتوب عما تفعل، وهيهات، إذ هى لا تفقه شيئا من أبعاد الأمر بالمرة. تقول الرواية، والكلام عن عفاف وعن ذكرياتها والدار التى فكرت فى إنشائها لمساعدة من قست عليهم الحياة فأصابتهم بعائق من العوائق الجسدية أو النفسية:
"لقد كان جُلُّ منتسبي الدار من بنات الفقراء والعائلات البسيطة التي لا تُولِي أدنى اهتمام لفتاة ولدت أو أصيبت بعاهة تُقْعِدها عن التعلـيم العـادي أو يكون بمقدورها علاج ومتابعة حالتها لريثما يجد الطب لها علاجا. لكن قسم المريضات نفسيا وعقليا كان هو ما يستحوذ على اهتمام عفاف. فمنذ صغرها وقصص النساء اللاتي أصـابهن الجنـون تثـير فيهـا الحـزن والألم. تذكر وهي طفلة حين تناقلت الجارات اللاتي يزرن أمها قصة الفتـاة التي جُنَّتْ فجأة أثر صـدمة عـصبية أودت بعقلهـا. تـذكر حـين تـسربت الحكايات أن والدها المخمور أعطاها السم في الطعام كي لا تفـضح الأسرة بمحاولتها الخروج كلما أتتها نوبة ضيق تجعلها تصرخ طلبا للهواء.
كانت قد هربت ذات مساء بملابـس البيـت حـاسرة الـرأس ولم تبتعـد أمتارا عن المنزل حتى أدركها والـدها وأخوهـا وأشـبعاها ضربـا لم تفـارق جسدها علاماته حتى ماتت مسمومة. يومها دخلت عفاف مع أمها التي لم تكن لتسمح لها بالدخول إلى بيت الجيران لولا أنهـا حالـة مـوت, وأرادت والدة عفاف أن تفهم ابنتها طويلة اللسان ماذا يحدث للفتيـات المجنونـات اللاتي يكسرن ظهور الأهل بهروبهن وجنونهن. لم يفارق خيال عفاف وجه الـشابة الأزرق ولا علامـات الـضرب عـلى ساعديها وظهرها، والنساء تجهزنها للدفن بجنونها وظلم القدر لها.
تتذكر كثيرا حليمة المجنونة, المرأة الوحيدة التي كانت تجوب أحياء المدينة بشعرها القصير الأبيض المتسخ جدا وثوبها المخصّر بتكسيراته الكثيرة حـول خصرها والذي لم يعد يعرف لونه فعلا. تذكر أنهـا كانـت ترتـدي أكثـر مـن سروال ممزق يظهر من تحت ثوبها القصير, تمشي حافية القـدمين قـد صـنعت من أوسـاخ الـشوارع حـذاء سـميكا لا تـرى قـدميها فيـه. كانـت المجنونـةالوحيدة التي لم يكن لها أهل يربطونها بالحبال في حجرة قذرة أشـبه بالزريبـة، بل تركت تجوب الشوارع وتأكل مما يتحسن الناس عليهـا, وكانـت المجنونـة الوحيدة التي لاقت أصناف الضرب مـن الـصغار الأشـقياء وربـما الرجـال الأغبياء كونها مجنونة ولا تميز بين من يعطيها ومن يأخذ منها.
لفترة طويلة كانت عفاف تراها بشكل متقطع وهي في طريقها مـن وإلى المدرسة، وتخاف الاقتراب منها كثـيرا، فقـد سـمعت البنـات يتحـدثن أنهـا أمسكت بنتا صغيرة وظلت تضمها إلى صدرها بقـوة طـوال النهـار، وكلـما حاول أولاد الحي تخليصها كانت حليمة المجنونة تـصرخ فـيهم: اتركـوا لي ابنتي. أتركوها لي". لقد كادت أن تخنق المسكينة ضما وتقبيلا إن لم تكن اختنقت مـن رائحـة جسد حليمة وثيابها حتى أنقـذها رجـلان قامـا بـضرب حليمـة المجنونـة بقسوة حتى أفلتت البنت الصغيرة. أصبحت عفاف بعد تلك الحادثة تحزن عليها عن بعد خوفا من عناقهـا الشهير.
تحزن لكل أنثى فقدت عقلها ضعفًا وقَدَرًا أمام صدمة باغتتها بها الحيـاة فلم تحتمل. في طفولتها كانت تتساءل لماذا قد يفقد الإنسان عقله؟ فعندما يفقده قَدَرًا يعمل كل من حوله على إفقـاده إنـسانيته, ينـزل مـن خانة إنسان في نظرهم إلى منزلة حيوان ناطق بالهذيان فقط كأنه لا يتألم فيعامل بقسوة عجيبـة، وتنتـزع بقيـة حقوقـه مـن الرعايـة والرحمة تلقائيا بفقدان عقله. حـين كـبرت قلــيلا تمنـت أن تجمـع كـل مجـانين الـشوارع في دار تهـتم بإطعامهم ونظافتهم وعلاجهم, كانت أحلاما مثالية في عـالم مجنـون بـشتى أنواع الجنون المختلفة والخفية. لكن حين أصبحت عفاف الموجوعة لم تـر سـوى أوجـاع النـساء التـي يسببها الرجل محصنا بقوانين مجتمع قبلي يقف إلى جواره كرجل مسيطر على شطر هذا المجتمع بكونه ذكرا فقط. اجتهدت كثيرا كمن يجمع الشوك من رداء جميل وهي تزور منازل لنساء فقدن عقولهن وأخفاهن ذويهن بعيدا عن الأنظار. لم تكـن المـصحة المهيـأة للأمراض النفسية متوفرة في كل مدن اليمن والمصحات الموجودة في صنعاء مزدحمة بالحالات والإهمال الجسيم في تنافس كبير. لذا وجدت من يلقي حمولته بسعادة بعد أن اطمئن أن مكلفه ستكون بأمان وحفظ من الفضائح. هكذا هو مجتمعنا القبلي يقدم الأعراف والمظاهر حتى على الإنسان".
يا له من وصف قاتل! لكن حتى لو كانت هناك مصحات أتظن الكاتبة أن معاملة المرضى فى مصحاتنا خير من معاملة أهليهم لهم؟ لا أظن أن الفرق كبير. وبين الحين والحين نقرأ تقريرا فى بعض الصحف عن الفساد الشنيع فى إدارة تلك المصحات والمعاملة غير الإنسانية لمرضاها. وليس هذا بالشىء الغريب، فإن المشرفين على هذه المصحات والممرضين الذين يتعاملون تعاملا مباشرا مع أولئك المرضى لم يأتوا من الفضاء الخارجى بل نبتوا من ذات البيئة التى نبت فيها أهل المرضى القساة الأفظاظ، بله أن الأهل أحرى أن يكونوا أحنَّ على مرضاهم من ممرض أو طبيب لا تربطه بهم صلة تعطفه عليهم وتجعله أصبر معهم وأطول بالا وأوسع صدرا وأرحم قلبا وأفهم عقلا.
وعلى كل حال فليس اليمن بمختلف عن البلاد العربية الأخرى، أو على أقل تقدير: ليس مختلفا اختلافا جذريا بل اختلافا فى الدرجة ليس إلا. وأذكر أننا، ونحن أطفال وصبيان صغار، كنا فى وقت من الأوقات نطارد بانتظام مجنونا من قرية مجاورة لنا يأتى إلى قريتنا كثيرا ويلوذ بالمقابر، ربما لاطمئنانه إليهم وأنهم لن يؤذوه كالأحياء، وما إن نراه حتى نجرى وراءه من سنام قبر إلى آخر ونحن نحذفه بالحجارة والطوب، والماهر هو من ينجح فى تسديد حَجَره إلى رأسه، بينما المسكين يحاول اتقاء مقذوفاتنا، ولكن كيف، ونحن كثير، وهو واحد، والشياطين قد تلبستنا، فكنا نتلذذ برؤيته وهو يعانى ويرتعب؟ ولست أدرى الآن هل كنت ضمن من يقذفونه بالأحجار أم هل كنت أكتفى بالمشاهدة والتلذذ (الآثم) برؤيته والحجارة تنهال عليه أم هل كنت أجرى مع الأطفال من باب الفضول ليس إلا، لكنى بكل تقين لم أكن أزجرهم عما يفعلون بمحمد معروف نمرة تمانية كما كنا نسميه لأنه كان يلبس سترة قديمة من ستر الجنود على كمها ما يشبه رقم 8 إشارة إلى الرتبة العسكرية لصاحبها الأصلى، ولعل صاحبها الأصلى كان عريفا. وكان هذا المشهد منتشرا حتى فى المدن فى المناطق الشعبية بما يدل على خلو القلوب من الرحمة بأولئك المسحوقين وفروغ العقول من الفهم والإدراك وتحجر الضمائر والجهل بأن الله سبحانه محاسب من يفعل ذلك أفظع حساب وأبشعه.
كذلك كان هناك قريبا من بيتنا بيت ألعب مع أولاده فى الشارع أمام بابه وتحت نوافذه، وكان لأولئك الأولاد جد كبير فى السن قد مسه الجنون أو أصابه خرف الشيخوخة، فكان أبناؤه، الذين هم آباء هؤلاء الأولاد، يحبسونه فى غرفة من غرف البيت مطلة على الشارع ويغلقون بابها عليه، وكلما حل وقت الطعام ألقوا إليه ببعض الخبز وبعض الغَمُوس إلقاء كأنما يلقون الطعام لقطة من القطط. وكان هو لا يطيق الحبسة فى الغرفة المغلقة ويحاول الخروج ويصرخ، فيحاولون إسكاته، لكنه لا يستجيب لمحاولتهم، فيدخلون عليه ويضربونه، فيزداد هياجا وصراخا... وهكذا دواليك. وهى معادلة صعبة بل مستحيلة: فهم لا يريدنه أن يخرج إلى الشارع حتى لا يتعرض لأذى الناس وسخريتهم ويتعرضوا هم بالتبعية للهوان والخزى أو يضطروا إلى الاشتباك مع من يتعرضون لأبيهم. وهو من جهته يكره القيود ويريد أن يخرج إلى الشارع استجابة لما ركبه الله فينا جميعا: مجانين وعقلاء من ميل عارم إلى الحرية والانطلاق. وكنا فى تلك السن الصغيرة الجاهلة نستغرب كيف يضرب أولئك الرجال أباهم، الذى كانوا يحترمونه ويعملون حسابه قبل أن يعتريه الجنون. ثم انتهى هذا كله بموت الرجل واستراحته من هذا العذاب، رحمه الله.
وأذكر أيضا من قراءات أيام الشباب الأول قصة قصيرة حقيقية كتبها أحمد حسن الزيات فى مجلة "الرسالة"، ويجدها القارئ فى كتابه الذى جمع فيه مقالاته وقصصه الكثيرة التى نشرها فى تلك المجلة وأطلق عليه: "من وحى الرسالة"، وكانت تدور حول فتاة قروية جميلة مخطوبة لشاب يحبها حبا جما، لكن اعترتها حالة نفسية غريبة، فقيل لأهلها إن فلانا بارع فى شفاء أمثالها من المرضى، فأخذوها ومعهم الخطيب المدله، وأحضر المعالج طائفة من الخيزرانات اللدنة بعد أن لفوا حبل الفلقة حول قدميها بحيث لا يمكنها ولو كانت من سلالة هرقل أن تتفلفص من ذلك القيد الجهنمى، وشرع الرجل ينهال على أخمص قدميها بعنفوانه كأنه حاقد لدود ليخرج من جسدها الجن الذى تلبسها فى حين تصرخ الفتاة وتولول ولولة تصل إلى عنان السماء وتضرع إلى خطيبها أن ينجدها مما هى فيه، وهو يسمع صرخاتها وصياحها وقلبه يذرف بدل الدموع دما، لكنه يظن أن تلك الآلام هى السبيل إلى شفائها مما أصابها من الحالة النفسية الغريبة، فكان يتصابر آملا أن ينتهى الأمر على خير وتُبِلّ فتاته من دائها، كل ذلك والمعالج المجرم ماض فى ضربها بكل ما لديه من قوة وقسوة وكأنه يتقرب إلى الله بالعبادة، حتى فارقت العروس الحياة! أرأيت يا كاتبتنا أننا كلنا فى الغباء عُرْبٌ؟
وها هو ذا د. طه حسين يدلى بدلوه فى هذا المضمار فيقول (من قصة "أم تمام" فى مجموعته: "المعذبون فى الأرض"): وفى "المعذبون فى الأرض" صفحات يبلغ فيها فنُّ الرجل سماواتٍ عليا يصعب مجاوزتها إلى ما فوقها، ومنها على سيل المثال تلك الصفحات التى خصصها لأم تمام فى قصة "المعتزلة"، حيث يحكى قصة أسرة قروية بائسة تتكون من أم عجوز قبيحة شديدة القِصَر متلاشية الصوت، قد فقدت بعض أسنانها وانحنى أعلاها على أسفلها على نحو بشع جعلها أقرب ما تكون إلى العجماوات، وإذا مشت خُيِّل للناظر أنها كرة تتدحرج على الأرض، تجمع روث البهائم من الطرقات وتصنع منها أقراصا تجففها وتبيعها وقودا تستعين بثمنه على ضروريات الحياة، وولدين يشتغلان فى بناء الأكواخ يوما وينقطعان أياما، وبنتٍ فى نحوالثالثة عشرة يتصارع فى وجهها وملامحها القبح والجمال ولا تشتغل بشىء. وكانت هذه الأسرة رغم فقرها المدقع ورثاثة حالها تعتصم بكرامتها فلا تمد يدها إلى أحد ولا تقبل معونة من أحد مما أكسبها احترام الناس وكراهيتهم معا. وقد انتهى الحال بهذه الأسرة الغريبة إلى أن مات الولدان فى الطاعون وأغرقت الأم نفسها فى النهر وأصيبت البنت بالجنون، فاهتبل أحد الوحوش البشرية تلك السانحة واغتصبها معتمدا على أنها لا تدرك شيئا ولا تفهم شيئا ولا تستطيع أن تدل عليه. ولنترك المؤلف نفسه يحكى لنا قصتها:
"كانت أم تمام قصيرة مسرفة فى القِصَر، منحنية مسرفة فى الانحناء، همّت قامتها أن ترتفع فى الجو فلم تستطع أن تستقيم، وإنما انعطف أعلاها على أسفلها كأنها خُلِقَتْ لتلتصق بالأرض التصاقا. وكانت من أجل ذلك أشبه بذوات الأربع منها بالإنسان ذى القامة المعتدلة والقَدّ المستقيم، وكانت من أجل هذا إذا مشت خَيَّلَتْإليك أنها تتدحرج كما تتدحرج الكرة. وكان مشيها بطيئا رفيقا، فكان يشبه حركة الكرة عندما تخفّ عنها قوة الدفع فتضطرب مبطئةً تسعى إلى السكون. وكان صوت أم تمام نحيلا ضئيلا، وكانت قد فقدت بعض أسنانها، فكان صوتها النحيل الضئيل يستحيل إذا تكلمت إلىهواء خافت لا يكاد السامع يتميّز حروفَه إلا بمشقة وجهد...
ولم تحاول أم تمام قَطّ ولم يحاول أحد من بنيها قَطّ الاتصال بالناس إلا حين كانت الضرورة المُلِحّةتضطرهم إلى ذلك اضطرارا، فقد كانوا يحتاجون أحيانا إلى أن يشتروا الطعام ليقيموا أَوَدهم. وكانت أم تمام تحتاج أحيانا إلى أن تبيع، فقد كان يعرض لها فى بعض الوقت أن تخرج إلى الطريق الزراعية العامة، وأن تلتقط من هذه الطريق رَوْث البقر والجاموس تقطعه قِطَعًا متقاربة وتجففه على سقف بيتها وتتخذ منه وقودا لتطبخ إن أُتيح لها الطبخ، وتبيع فَضْله بين حين وحين لبعض نساء القرية بالقروش أو بعض القروش توسِّع بذلك على نفسها وبنيها. ولم يخطر، فيما أعلم، لأحد من المُوسِرين ولأهل الدارين اللتين كانتا تكتنفان بيتها أن يَبَرّوا هذه الأسرة بقليل أو كثير من الخير، لا لأنالموسرين كانوا يبخلون بالمعونة على الذين يحتاجون إلى المعونة، بل لأنهم فى أكثرالظن قد همّوا أن يَبَرّوا هؤلاء الناس فردّوا أيديهم فى شىء من التعفف الذى لايُحَبّ من الفقراء، فكفَّ الموسرون عن محاولة الرفق بهم والتوسيع عليهم فى الرزق... وكذلك نظر أهل القرية إلى هذه الأسرة على أنها أسرة ثقيلة سمجة ليستمنهم وليسوا منها فى كل شىء. وكان أهل القرية مع ذلك يتحدثون فيما بينهم عن هؤلاء الناس فى إشفاق كثير لا يخلو من سخرية، وربما يقسو، إن أمكن أن يكون الإشفاق قاسيا، فيشتمل على شىء من شماتة. كانوا يَرَوْنَ هذين الغلامين يحتملان أشد العناء وأشق المشقة ليكسبا القروش القليلة فى بعض الأيام، ويتساءلون كيف تعيش هذه الأسرة من هذا الكسب القليل. وكانوا يَرَوْنَ هذين الغلامين وقد بَلِيَتْ ثيابهما فكشفت عن مواضع من الجسم من حقها أن تُسْتَر، ورُقِّعَتْ حتى ملَّت الترقيع. وكانوا يَرَوْنَ سعدى فى أسمالها البالية فيرحمون هذا الصِّبا النَّضْر فى هذا الغشاء المبُْتَذَل ويقول بعضهم لبعض: لولا الكبرياء لأصاب هؤلاء الناسُ عيشا أرقَّ رِقّةً وأرفه لينا...
ويُلِمّ الوباء بالقرية فيما يلم به من المدن والقرى، ويفجع الناس فى أنفسهموأبنائهم وذوى قرابتهم ومحبتهم، وتكون أم تمام فى طليعة الذين يفجعهم الوباء، فهويختطف ابنيها فى أقل من خمسة أيام، وهى مع ذلك هادئة ساكنة مطرقة بجسمها كله إلى الأرض، لا يرتفع لها صوت بالإعوال، ولا ينخفض لها صوت بالنحيب، وإنما هى مقيمة فىبيتها، وقد آوت إليها ابنتها كأنما تنتظران أن يُلِمّ الوباء بهما ويختطفهما كمااختطف الغلامين. ولكن الوباء قد أرضى حاجته من هذا البيت فهو لا يعود إليه، فإذاطال انتظار أم تمام له فى غير طائل نظر الناس فإذا أطوارها قد تغيرت من جميعجوانبها، وإذا حياتها قد بُدِّلَت تبديلا، فهى لا تألف بيتها ولا تحب الاستقرارفيه، وإنما تمسك فيه الصبيّة وتحرّج عليها أن تخرج منه، وتنطلق هى مع الشمس المشرقة لتعود إلى بيتها وابنتها حين ينشر الليل ظلمته على الأرض، ويسعى الموت والمرض مستخفيين إلى البيوت. كانت أم تمام تخرج من بيتها حين تشرق الشمس ملففة فى شقتها السوداء مطرقة بجسمها كله إلى الأرض فتقف أمام بيتها وقفة قصيرة تستقبل الغرب وترفعرأسها فى تكلف شديد إلى السماء، وتمد بصرها أمامها ثم تلتفت إلى يمين وإلى شِمَال تجذب الهواء بأنفها جذبا كأنما تحاول أن تتنسم رائحة الموت تندفع إلى يمين أو إلىشِمَال، ثم لا يراها الناس أثناء النهار كله إلا فى دار من هذه الدور التى ألم بهاالموت وقام فيها المأتم يندين ويبكين. وكانت أم تمام تصل إلى هذه الدار أو تلك فلاتقول لأحد شيئا ولا تلقى إلى أحد سمعا، وإنما تقصد المأتم الباكيات وتجلس حيث ينتهى بها المجلس، لا ترفع صوتا بإعوال ولا تخفض صوتا بنحيب. لا تلطم وجهها ولا تخمشصدرها ولا تصنع صنيع أحد من النساء، وإنما تجلس ساكنة منعطفة على نفسها كأنها قطعةمن صخرٍ سُوِّيَتْ على عجل ونُحِتَتْ فى غير نظام، وفاض من عينيها دمعٌ غزير غيرمنقطع كأنه بعض تلك الينابيع الضئيلة التى يتفجر عنها الصخر فى الجبال. حتى إذا بلغت حاجتها من البكاء فى هذه الدار تركتها إلى دار أخرى ثم إلى دار ثالثة. وماتزال كذلك حتى ينقضى النهار، لا تكلم أحدا ولا يكاد يكلمها أحد، ولا ترد على الذين يكلمونها رجع الحديث.
أكانت تبكى ابنيها أم كانت تبكى أبناء تلك الأسرة التىكانت تلم بها أم كانت تبكى صرعى الوباء جميعا أم كانت تبكى نفسها وابنتها بين الذين لم يصرعهم الوباء؟ وكيف كانت تعيش؟ وكيف كانت تتيح لابنتها الصبية أن تعيش؟ لميستطع أحد أن يعرف من ذلك قليلا ولا كثيرا. لم يحاول أحد أن يعينها، ولم تحاول هى أن تستعين بأحد، وإنما أنفقت أيام الوباء تتنسم ريح الموت حين يُسْفِر الصبح، وتسفح دموعها فى منازل الموت أثناء النهار، وتعود إلى بيتها وبنتها حين يُقْبِل الليل. وتنجلى غمرة الوباء، وتخرج أم تمام من بيتها مع الصبح أياما وأياما فتستقبل بوجههاالغرب تتنسم ريح الموت فلا يحملها إليها النسيم، فترجع أدراجها وتدخل بيتها وتغلقمن دونها الباب، ولا يراها النهار إلا حين تخرج مع الصبح لتتنسم ريح الموت!
ويراها أهل القرية ذات يوم قد خرجت قبل أن يرتفع الضُّحَى، وأخذت بيدابنتها وجعلتا تسعيان فى بطء نحو الغرب، فيقول بعضهم لبعض: "هذه أم تمام قد ملَّتالبطالة وسئمت السكون وشَقَّ عليها وعلى ابنتها الجوع، فخرجتا تلتمسان الرزقوتبتغيان من فضل الله". ولكن النهار لا يكاد ينتصف حتى يأتى نفر من الفلاحين يحملونجثة قد شاع فيها الموت، وجثة أخرى تمتنع على الموت امتناعا، قد رأَوْا أم تمام تغرق نفسها وابنتها فى القناة الإبراهيمية، فأسرعوا إلى استنقاذهما، ولكن الموت سبقهم إلى الشيخة وسبقوه هم إلى الصبية". وتصاب الفتاة من جَرّاء ذلك بالجنون ويراهاالناس دائما مشردة تسعى فى الطرقات كأنها السلحفاة أو تعدو كأنها الأرنب ، أو جالسة إلى شط القناة تنظر إلى الماء أو تتطلع إلى المساء. وتظلّ فى حالها هذا يعطف عليهاالناس مرة ويسخرون منها مرات... إلى أن فوجئوا ببطنها ذات يوم منتفخا، فعلموا أن أحد الذئاب البشرية قد استغل بلاهتها واعتدى على عِرْضها. ثم تفرّق الأيام بين الراوى وسعدى فلا يدرى ماذا حدث لها، إلى أن يعود الوباء كرة أخرى فيتذكر أم تمام وابنتهاالبلهاء، وإن ظل لا يعرف من أمر الفتاة شيئا".
وفى الرواية من الآلام الباهظة ما صارت إليه عفاف بطلتها من عنوسة رغم توافر كل عوامل النجاح لها كى تتزوج وتكوّن أسرة ناجحة. لقد كانت جميلة وأنيقة ومتعلمة وتعيش عيشة ميسورة، وتقدم لها أكثر من خاطب، لكنها كانت ذات طبيعة متمردة، فكانت ترى أنها لا يمكن أن تتزوج إلا من تحب، مع أنها حاصرت نفسها ومنعتها من الامتزاج بالناس والأسر من حولها، ولم تعط نفسها الفرصة لامتحان أى ممن أرادوا خطبتها لترى أيصلحون لها أم لا، وهل يمكن أن تحبهم أو لا.
ثم وقعت فى حب زميل لها يكبرها سنا بأعوام غير قليلة، إذ كان كهلا قد ظهر البياض فى شعر فوديه على حين كانت هى فى أول شبابها، وتخرجت لتوها من الجامعة. وكان الزميل الكهل متزوجا، وله أبناء، ولم يعدها بالزواج قط رغم استلطافه لها حين رآها تهيم به وتتهافت عليه وتستجيب لمواعدته إياها فى سيارته وفى شقته التى كان يسكنها وحده بينما زوجته وأولاده يعيشون فى مدينته الأصلية بعيدا عن المدينة التى كان يعمل بها فى إحدى المؤسسات مع عفاف، وتلقى برأسها على صدره وتسمح له بتقبيلها وتتشابك يده مع يده. بل على العكس كان يلفت نظرها إلى أنها ينبغى أن تنتبه لنفسها وتفكر فى الزواج ولا تنتظره أو ترجو منه اتخاذها زوجة.
بل إنها، حين قابلته بعد أعوام طوال فى آخر الرواية عند زيارته للمؤسسة لتكريمه على ما أداه من خدمات إبان اشتغاله بها قبل ذلك، وكان قد ظهر عليه الكبر على نحو واضح، ولم يعد ذلك الكهل الذى فتنها ذات يوم، قد أخبرها أنه قد تزوج بامرأة أخرى على زوجته الأولى بما يدل على أنه، حين أخبرها قديما باستحالة اقترانه بها على زوجته، لم يكن صادقا بل لم يكن ذلك يحبها لأنه لو كان يحبها لحرص على التزوج منها ما دام قد استطاع التزوج بغيرها، أقول إنها حين قابلته فى آخر الرواية وصارحته برأيها فيه وأنه لم يكن على مستوى التطلعات التى كانت تحلم بها بشأنه بل وشمتت به وبما اعتراه من شيخوخة وضعف ومعاناة مع زوجته الأولى وأولاده منها وأفهمته أنها لم تعد تفكر فى الرجال لأنهم لا يستحقونها ولأنها تفضل عليهم خدمة الشبان والشابات ذوى الإعاقة لتأهيلهم، فى دار "العفاف" التى أنشأتها من حر مالها، للعودة إلى الحياة من جديد أقوياء قادرين منتجين متفائلين، حين قابلته وحدث هذا كله فوجئنا فى الصفحة الأخيرة من الرواية بعد عودته إلى بلده أنها ما زالت متدلهة فى حبه. الحق أن هذا كله مؤلم غاية الإيلام. ولنقرأ ما قالته عفاف فى نهاية الرواية عن حازم بعد أن كبر وصار ضعيفا متخاذلا يشكو معاملة أولاده وأمهم له وتخلى زوجته الجديدة عنه وتركها له ومغادرتها حياته للأبد. نعم لقد كان غريبا بعد هذا كله تصريحها أنها لا تزال تحبه، بل لقد فكرت فى أن تعتنى به فى شيخوخته، لكنها سرعان ما نفضت ذلك عن ذهنا وقامت وتركته:
"لقد راودها ذات يأسٍ حلم أن تهتم به في شيخوخته, لا تدري لماذا. ربما لأنها عجزت أن تلتقي به في شبابه فتمنت أن يكـون لهـا ذات عمـر وكفى. ربما القدر متأخرا قرر أن يحقق لها ذات أمنية أخيرا. لكنه لم يعد اختيارها هي. تشعر بذلك في قرارة نفسها. لقد وجدت نفسها تنهض من أمامه وهي تنهي جلـسة تمنتهـا لـسنوات طويلة ولم تنته بعد, كانت تشعر بالغرابة من نفسها, وهي تتمنـى لـه عمـرا مديدا وعودة سريعة لعائلته. حدثته دون استشارة داخلية أو حديث جانبي مع نفسها كعادتها, كانت عبارات قوية وثابتة وهي تقول:
- سعيدة برؤيتك مرة أخرى يا حازم. أتمنى لك وقتا لطيفا هنا وسـعادة لكل حياتك.
نهض مودعا ومرتبكا من انصرافها المفاجئ, يحادث نفسه بحنين غـادره منذ زمن:
-كم تغيرتِ! تغيرتِ كثيرا!
حين أنسج دثارا من الحب خيطا خيطا مـن روحـي قبـل أنـاملي كـي أبعث الدفء في قلبك المتجمد من البعد ثم لا تلبسه روحك.. أودعه للريح. حين أنظم عقدا من كلماتي وأطرزه بدموعي ثم لا ترتديه عيناك.. أودعه للريح. حين أتمنى أن يضم حضورك الغائب همـسات شـوقي وتـرفض موانـع السماء.. أودعه الريح. حين تشتاقك روحى كثيرا جدا ولن تكون قربي أبدا.. أودعها الريح. حين يتحول قلبي إلى طفل بين يديك، فقـط يـسمعك ويطيـع، يتـأوه ويبكي شوقا لك، يتعلم الكلام بـوهج وجـودك ويتأتـأ بكلمـة "أحبـك. أحبك"، وأنت لا تبالي أو تدري كم هو صعب تهجئة حروف الكلمات مـن أجل عينيك.. تذروه الريح. حين تجوع حـواسي لـسماع صـوتك وتتمنـى أن ترشـف كلماتـك عـلى صدرك ومن بين شفتيك, فتـصم أذنيـك إهمـالاً.. تتـشظى روحـي ظمـأ، وتذوي وجعا لتعصف بها الريح. حين يصاب قلبي بالحمى يهذي بك، يتصبب ألما لغيابك، يتفتت ثـم يموت.. حينها، حينها فقط ستعرف ماذا خسرتَ! خسرتَ قلبا نـصبكرَبًّا يعبدك كل العمر!".
وهذا موقف غريب وعجيب وغير مفهوم. أنا أعرف أن للقلب أحكامه التى تستعصى على الفهم والتعليل، وأن صاحبه فى كثير من الأحيان يقف أمامه عاجزا عن قول "لا" وبخاصة فى موضوع الحب والعشق رغم أن كل شىء يقول بملء صوته إنه لا بد أن يرفض ما يريده القلب لأنه لا يليق به أو لأنه لن يثمر سوى التعاسة والشقاء أو لأنه فى أحسن الأحوال لن يؤدى إلى شىء. وهذا الحب الذى وقعت فيه عفاف هو حب لا يؤدى إلى شىء بل كان واضحا منذ البداية تقريبا أنه حب مكتوب على صاحبته التعاسة والشقاء. لقد كان ظاهرا لكل ذى عينين أن حازم لا يحبها كما تحبه بل يستلطفها فقط، وربما يجد فى حبها له ما يدغدغ مشاعره كرجل تتهافت عليه أنثى، وأنثى شابة بينما هو كهل قد وخط الشيب فوديه كما يقال. وقد كانت من الجرأة بل من الجنون كما قالت هى أكثر من مرة أن تواعده وتذهب معه إلى شقته وتترك نفسها تعبر له عن شدة عشقها، وهى تعرف تماما أن هذا سوف يؤذى أسرتها ويسبب لها الخزى والعار. وكانت حجتها أنه لا مانع أن يتصرف الإنسان تصرفا جنونيا فى بعض الأحيان لأن الحياة لا يمكن أن تمضى عاقلة منطقية على الدوام. وقد رأينا أنها، رغم كل الدلائل التى لاحظتها على أنه لا يحبها حبا حقيقيا ولا يمكن أن يقترن بها وأنه لا يصلح لها بأى معنى، بل رغم تكريره لها أنه لا يصلح لها وأنها سوف تنجح فى حياتها الزوجية وتسعد بعيدة عنه لو اهتمت بنفسها ووضعت فى ذهنها أن تفكر فى مصلحتها ولم تغلق قلبها فى وجوه من يريدون الاقتران بها. بيد أنها أصمت أذنيها عن نصائحه لها وعن النذر التى كانت تصيح فى أذنيها أنها ماضية فى طريق خاطئ لن ينجم عنه سوى الشقاء والحرمان.
لقد كانت حجتها فى اتخاذ والتزام هذا الموقف العجيب الغريب أنها لا يمكن أن تقترن إلا بمن تحبه ويقوم بينها وبينه تفاهم وانسجام وتعرف أنها سوف تسعد معه. جميل! لكن هل ينطبق على حازم شىء من هذه الشروط؟ لا بكل يقين كما رأينا. وإلا فأين التفاهم والانسجام الذى كان بينهما؟ أهو فى خروجها معه وذهابها إلى شقته وتراميها على صدره وتركه يعبث بها، هذا العبث الذى لا ندرى إلام وصل لأنها، حين وصفت وسردت ما وقع بينهما هناك، سردته ووصفته بطريقة مراوغة تبقى القارئ حيران لا يدرى ماذا تم بالضبط.
لقد كانت عفاف ذات اتجاه نسوى واضح: فهى تناجز الرجال وتراهم بعين المقت وتتحدى تقاليد مجتمعها وترفض أن تتزوج أيا من الشبان الذين يقترحهم أخوها جمال أو غيره عليها. فلم كل هذا التهافت على رجل من الرجال الذين كان وظل رأيها فيهم طوال الرواية سيئا غاية السوء، رجل نصحها أكثر من مرة أنه لا يصلح لها وأن ظروفه تمنعه من التفكير فى تزوجها؟ ترى ماذا كانت تنتظر أكثر من ذلك لتبتعد عنه وترى لها طريقا آخر يؤدى إلى سعادتها؟ أين عزيمة النسويات هنا؟ ستقول: ولكنى لا أحب أن أتزوج دون حب؟ لكن كيف تعرف أن هناك من يمكن أن تحبه إذا كانت قد أغلقت قلبها تماما فى وجه الآخرين ولم تحاول أن تعطى نفسها أو غيرها ممن يفكرون فى التزوج بها فرصة لمعرفة ذلك؟ هل الحب يحدث مرة واحدة، ومع شخص واحد، ولا يمكن أن نحب أى شخص آخر غير ما أحببناه أول مرة؟ من قال ذلك؟ إن هناك أسطورة تقول بأن كل واحد من البشر إنما يمثل نصفا يقابله نصف آخر يظل يهفو إليه إلى أن يقابله فى الحياة فيلتئم النصفان ويكونان كلا واحدا سعيدا. لكن هذا حديث الأساطير لا حديث الواقع، وحديث الأساطير لا يصلح للحياة الواقعية، وإن صلح للخيال والأحلام أو فهم فهما رمزيا. ذلك أن البشر يمكن أن يحبوا أكثر من شخص، وإلا فليذهب وينتحر كل من لم يستطع لأمر أو لآخر أن يفوز بمن يحب ويتزوجه، أو فليضرب عن الزواج ويصرف حياته كلها عقيما بلا زواج وأسرة وأطفال.
ثم ماذا كانت تريد عفاف من وراء هذا الحب؟ أكانت تريد من حازم أن يتخذها زوجة ثانية؟ بيد أن أمثالها من النسويات المتحديات يرفضن تعدد الزوجات وينظرن إليه على أنه أمر لا يليق بالمرأة، وخصوصا للمرأة من طائفتهن. أم هل كانت تريده أن يطلق زوجته ويهدم بيته؟ ولكن هل هذا مما يليق بنسوية غيرها أن تفعله؟ وهذا طبعا لو كان حازم يبادلها الحب؟ فما بالنا ونحن نعرف أن شعوره نحوها لا يزيد فى أحسن حالاته عن الاستلطاف؟
ثم أين واجبها نحو أهلها؟ هل يعيش الواحد منا فى الحياة سائبا هائما على وجهه كالبعير الضال فى الصحراء لا تربطه بأحد أية رابطة وليس لأحد عليه حق؟ هل ترضى أى منا أن يتخلى عند الآخرون فلا يقوموا بواجبهم نحوه؟ فلماذا تسخط هى مثلا حين وجدت أن حازم لا يحبها كما تحبه ولا يفكر فى الاقتران بها كما تريد هى أن تقترن به؟ وأين عقلها وقد تتالت الدلائل والإشارات أنها لا يمكن أن تحظى منه أو معه بما تريد؟ وكيف عرفت أن هذا هو الشخص الذى سوف يسعدها؟ وحتى لو كان هذا هو الشخص الذى يمكن أن يسعدها فهل فكرت فى أنه لن يكون سعيدا معها حسبما هو واضح لها ولنا؟ أم هل لا تفكر إلا فى نفسها فقط؟ وكمثال على تمردها على ما كانت أسرتها تطالبها به من انضباط ومراعاة لقواعد السلوك السليم نراها تقول متهكمة: "بنات العائلات المحترمة لا تكثر من الخروج من المنزل لأي سبب. وبنات العائلات المحترمة لا تحضر المناسبات لكل من هب ودب. وبنات العائلات المحترمة لا يظهرن للضيوف من النـساء المـستطلعات ولا يجادلن ولا يرفعن أصواتهن ولا يكشفن شعورهن لغير المحارم. وبنات العائلات المحترمة في حجراتهن الخاصة يلعنّ العائلات المحترمة لفرط الترهيب وقوانين الكبت السخيفة التي لا معنى لها" (ص10). وقد تكررت سخريتها من عبارة "العائلات المحترمة" فى مواضع مختلفة ومتعددة من الرواية.
ثم ما معنى إصرارها على حازم بالذات؟ لماذا لم تعط نفسها فرصة لمعرفة غيره؟ هل الذى خلق حازم لم يخلق سواه؟ وهذا إن كان حازم يحبها، فما بالنا وهو لا يفكر فى الارتباط بها، وإنما هى ساعة استلطاف ثم فليمض كل منهما فى طريقه؟ إنها معادلة صفرية تقول فيها بطلتنا: إما أن أفوز بكل شىء أو لا أحصل على أى شىء. وهذه معادلة عدمية لا ينتج عنها إلا هذا الانتحار المعنوى الذى انتحرته عفاف من أول وقوعها فى عشق حازم حتى النهاية. إن الله لم يكتب لأى منا سوى حياة واحدة على هذه البسيطة، فما معنى تدمير تلك الحياة، التى نعرف جميعا أنه لا توجد حياة أخرى هنا سواها؟ يا لنا من حُمْق! لقد تلبس عفاف شغف شاذ بتدمير ذاتها متصورة أنها بذلك تثبت كونها فتاة حرة مستقلة ليس للمجتمع سلطان عليها وأن هذا هو ما يليق بها، رغم أنها كانت تدفع الضريبة الباهظة التى يتوجب على من يتخذون مثل موقفها العبثى الانتحارى هذا أن يدفعها.
إننا لا نعيش فى المطلق ولا نعيش فى كون خاص بنا لا يشاركنا غيرنا العيش فيه. ولا بد أن يدخل هذا المجتمع فى حسابنا: شئنا أم أبينا، وإلا كنا كمن يقف على شريط القطار المندفع فى اتجاهنا بكل قواه متصورا أنه سوف يصد القطار ويوقفه فلا يمر من فوقه ويهرسه هرسا. هل أنا بذلك أدعو إلى الخضوع والخنوع للمجتمع؟ أبدا والله. بل أنا مع الحب والسعادة بالحب، وأعرف أن للحب أفراحه ومسراته العلوية الفردوسية، بيد أننى أعرف فى ذات الوقت أن على الإنسان واجبا نحو نفسه فلا ينبغى أن يشقيها على النحو الذى أشقت به عفاف نفسها، وعليه كذلك واجب نحو أسرته فلا ينبغى أن يتسبب لها دون أى داع فى عار أو خزى. لو أن حازم كان يحبها لباركنا هذا الحب وتمنينا أن ينتهى النهاية الطبيعية فى مثل هذه الحال، وهى الزواج وتكوين أسرة تملأ على المحبَّيْن حياتهما وتسعدهما. لكن شيئا من ذلك لم يكن. والإنسان، كما قلت وكررت، لا يعيش فى هذه الدنيا وحده بحيث لا يفكر إلا فيما يريد هو، وهذا إن كان قادرا على تحقيق ما يصبو إليه، بل له أسرة وأصدقاء ومعارف وزملاء وارتباطات أخرى كثيرة. ومن الإنسانية أن يفكر الإنسان فى هؤلاء الآخرين. وكما أن على الإنسان واجبا نحو وطنه فلا ينبغى أن يخونه أو يفعل ما يمكن أن يضر بهذا الوطن فكذلك لا يصح أن يفعل ما يصيب أسرته أو أحبابه بأى خزى أو مساءة.
ترى هل يصح أن يصر امرأة ما على حب شخص والترامى عليه والتمسك به حين يتضح له أنه من أعداء وطنها وأنه يتخذها سلما لإيقاع الأذى بهذا الوطن؟ إن الشخص السوى فى هذه الحالة يخلع قلبه خلعا ويضعه تحت حذائه ويسحقه سحقا. بل الإنسان السوى، حين يرى أن حبيبه لا يبادله اهتمامه، حرى أن يفعل ذلك مع قلبه، وإلا باء بالهوان والاحتقار: احتقار الآخرين له واحتقاره هو لنفسه. وأى حياة تلك التى يجلل فيها الإنسانَ الهوانُ على هذا الشكل؟ ترى هل يمكن أن تترتب على هذا الهوان أية سعادة حتى لو افترضنا أن المحبوب قد تنازل وتعطف فبادله الحب وقرر الاقتران به من باب الشفقة والصدقة؟
والآن لماذا أكثر من مثل هذه الأسئلة؟ الواقع أننى أكثر منها لأن عفاف لم تكف طوال الرواية عن التشدق بالاستقلال والنفور من الرجال ولم يكن لها يوما رأى طيب فيهم حتى من قبل أن تعرف موقف حازم منها، ذلك الموقف الذى أكد لها أن الرجال هم فعلا كما تراهم وتحكم عليهم. إنها فتاة نسوية عنيدة، لكنها نسوية فقط على المستوى النظرى، نسوية ساذجة، نسوية مغرمة بتعذيب ذاتها وبالمضى فى هذا التعذيب والاستزادة منه ولا تفكر أبدا فى البحث عن مخرج طبيعى من المأزق البغيض الذى وضعت نفسها فيه وأغلقت على نفسها بالضبة والمفتاح ثم ألقت المفتاح من النافذة فى قاع النهر الذى تشرف النافذة عليه، وصارت تقتات على الحرمان والخذلان الذى خذلته نفسها بنفسها، وكأن الحرمان والتلذذ به غاية فى حد ذاتها ينبغى أن يكرس الإنسان نفسه لها تكريسا. وعفاف فى عنادها اللامنطقى وإصرارها على السير فى طريقها غير ملتفتة أو مبالية إلى الآخرين تذكرنى ببطلة رواية د. محمد حسين هيكل: "هكذا خلقت"، التى كانت عنيدة على غرار عفاف وتركب دماغها فى كل ما تأتيه من تصرفات وتتخذه من مواقف تخلو من المنطق ولكنها تتمسك بها تمسكا شديدا ثم تتبعها غيرها من التصرفات والمواقف الغريبة اللامنطقية دون أن يهتز لها جفن فضلا عن ضمير، وإن كانت عفاف، على عكس بطلة هيكل، إنما تظلم نفسها وتعذب نفسها، أما الأخرى فتعذب زوجها وتربك من حولها وتحير عقولهم رغم تدينها الشديد. والطريف أن كلا منهم ذهبت لزيارة البيت الحرام، لكن لم يظهر لتلك الزيارة أثر فى سلوكها ومواقفها، فبقيت كما هى لم تتغير.
وبالمناسبة فكلام النسويات الكثير فى العيب على الرجال وإلصاق كل مذمة بهم وثرثرتهن بالحديث عن القهر الذى يعانينه على أيديهم هو كلام مبالغ فيه كثيرا، إذ إن آباءهم هم الذين ألحقوهن بالمدارس والمعاهد والجامعات بمالهم، ومعظم المدرسين الذين علموهن رجال، أى من الجنس المغضوب عليه منهن، ووزراء الحكومة التى قررت تعليم البنت كالولد سواء بسواء، وكذلك كبار رجال الدولة والصحافيين والكتاب والمفكرين، ينتمون كلهم أو الأغلبية الساحقة منهم إلى الجنس الخشن المتهم زورا وعدوانا بقهر المرأة. ثم إن الرجل هو الأب والأخ والعم والخال والزوج والابن... فهل هؤلاء كلهم شياطين ظلمة لا يعرفون الحق ولا يمكن أن يأتى من ناحيتهم لقريباتهم أى خير؟
نعم هناك رجال ظلمة وخونة ويأكلون حقوق زوجاتهن وأخواتهن، ولكن على الضفة الأخرى من الحياة نسوة ظالمات خائنات يكفرن العشير ويتهمن رجالهن بكل منقصة كاذبة. ولست أدرى لم كل هذا العداء الذى تكنه بعض النساء فى العصر الحاضر للرجال، وكأنهم لا ينتمون إلى النوع البشرى مثلما ينتمين. على العكس من هذا ينبغى أن يكون بين النوعين تفاهم وتعاون على مواجهة مشقات الحياة وقطع طريقها فى سلاسة ويسر وانسجام وسرور بدلا من التشاحن والنظر بريبة إلى الطرف الآخر. وعوضا عن حياة تسودها السكينة والود يعيش الطرفان عيشة قلقة كلها زوابع وأعاصير لا لشىء إلا لأن الغربيين يريدون أن يشعلوها نارا تتلظى لا تنطفئ أبدا بين الرجال عندنا والنساء.

وها هى ذى الكاتبة نفسها، التى خلقت عفاف بقلمها خلقا ودفعتها للتمرد على كل شىء حولها وأتعستها وتسببت فى جعلها تقضى حياتها عانسا لا زوج ولا ولد ولا أسرة ولا دفء عاطفى، قد تزوجت وهى صغيرة بالمرحلة الإعدادية، لكن هذا لم يمنعها من إكمال تعليمها حتى تخرجت من الجامعة واشتغلت بالصحافة وكتابة القصة، وتَقَبَّلَها على هذا الوضع الذين حولها من أهلها وغير أهلها تقبلا حسنا إن لم يكونوا قد شجعوها تشجيعا وفرحوا بنجاحها وبروزها.
ولأوضح كلامى أكثر وأكثر أقول: كنت من المشتركين فى مناقشة رسالة جامعية فى إحدى الجامعات قبل شهور، وكانت عن بعض الظواهر النسوية فى كتابات بعض الأديبات، ولاحظت وأنا أقرأ الرسالة استعدادا لمناقشتها أن الباحثة راحت تنهال على أم يافوخ الرجال بالمطرقة عمالا على بطال. فلما جاء دورى على المنصة لقول ما عندى سألتها ضمن ما سألتها عنه: من ربّاك وأنفق عليك وعلّمك وزوّجك يا بنيتى؟ فقالت: أبى. فقلت لها: ومن يناقشك الآن يا بنيتى ويتعاطف مع ما كتبت ويشجعك رغم كل شىء؟ قالت: أنتم. فقلت لها: وما نحن يا بنيتى؟ أرجال أم نساء؟ قالت: رجال. قلت لها: كما تَرَيْن هأنتذى تعترفين بعظمة لسانك بأن الرجال لم يقهروك ولا فى نيتهم قهرك، بل بالعكس ساعدوك ويساعدونك. وقد أتينا نحن المناقشين إلى هنا لنعطيك الدرجة العلمية التى تتطلعين إليها دون أن نحصل على مقابل تقريبا للجهد المزعج الذى بذلناه فى قراءة الرسالة ومناقشتها والمجىء إلى هنا فى مواصلات مزعجة بل نتنازل عنه فى كثير من الأحيان. فكيف تهاجمين جنس الرجال بكل تلك الضراوة وكأن بينك وبينهم ثأرا وحقدا ضاريا؟ ثم سألتها: أراك تكثرين من ترديد "البطرياركية" وتهاجمينها، فهل تعرفين معناها؟ فوجمتْ برهة ثم أردفت: أبدا. فقلت لها: ولماذا إذن تكررينها وتهاجمينها فى رسالتك بتلك الكثرة المفرطة؟ فكان جوابها الذى لم أتوقعه البتة أنها وجدت كثيرا ممن رجعت إليهم فى رسالتها يهاجمون البطرياركية، فهاجمتها كما هاجموها.
قد يقول قائل: ولكن عفاف بطلة الرواية قد كرست حياتها لمشروع عظيم. وهذا صحيح، ولكن ما معنى أن أكرس حياتى للآخرين وأهمل نفسى بل أشقيها؟ إن هذا يصح لو كانت لا تستطيع أن تجمع بين الأمرين: المشروع من جهة، والزواج وتكوين أسرة من الجهة الأخرى. لكنها كانت تستطيع أن تنشئ هذا المشروع الإنسانى الكريم وفى ذات الوقت تتزوج وتسعد بدلا من العنوسة الكريهة التى فرضتها فرضا على نفسها دون منطق أو داع بل ضد المنطق والداعى وضد سعادتها واكتمال شخصيتها وحياتها. إننى لا أقرّعها بل أنا والله متعاطف معها أشد التعاطف، ويؤلمنى أحدّ الألم أن أراها تقاسى التعاسة والحرمان وهى التى أفاض الله عليها كل ما من شأنه أن يسعدها فى الحياة: فى حدود السعادة التى يمكن تحقيقها على هذه الارض بطبيعة الحال، لكنها بعنادها الصبيانى الساذج الأحمق تحرق كل فرصة يمكن، لو أحسنت اهتبالها، أن تساعدها على تحقيق تلك السعادة.
تعالوا ننظر ماذا فعلت حين وقعت فى حب حازم. لقد بلغ بها الأمر أن ذهبت معه إلى شقته وتهالكت عليه. ولسوف أترك الكاتب تروى ما حدث هناك بينها وبين حازم، ثم بعد ذلك نحلل هذا الذى روته ووصفته. تقول: "ترجل من السيارة, ونزلتْ خلفه, أمسك بيدها كمن يقـود أعمـى. إنـه عمى الحب الذي يجعلها تلحق بـه في صـمت إلا مـن انتفـاض قلبهـا بـين ضلوعها, صعدا السلالم بسرعة, ربما يخشى كلا منهما التراجع. كانت الشقة صغيرة ومرتبة رغم أثاثها المتواضع. ربما وهـو يطـوف بهـا حجرتي سكنه يحاول فرض طبيعية للأمر, لكنها وهي تلحق بـه تتخيـل أن هذا المكان صغير جدا ليحتوي حبها الكبير لهذا الرجل.
-أجلسي. سأحضر لنا شايا كي نتحدث على أنفاس كؤوسه.
جلست بصمت كما طلب, تخشى أن تسمع صوتها في بيته, فتتساءل لماذا
وكيف أتت. تذكرت مقولة قرأتهالنيكوس كازانتزاكيس عنـدما قـال: "إن لكـل
إنسان حماقاته، لكن الحماقة الكبرى في رأيي هي ألا يكون للإنسان حماقات".لعلها ترتكب حماقة العمر. إنما من الحماقة ألا تفعل. جلـس قبالتهـا باســما, ففكـرت كيـف أن ابتـسامة بعـض الأشـخاص للبعض الآخر أجمل من شروق الشمس ولها تأثير القمر. كيف لابتسامة أن تحدث فيها كل هذا المد والجزر من الأحاسيس. لم تكن ابتسامته سعيدة بوجود عصفور غبي بين يديه يقبل أن يتجرد من ريشه كوجبة لقط جائع, كانت ابتسامته كمن يخفي سكينا حادة لـذبح هـذا العصفور.
-سأسافر غدا إلى إب. اشتقت للأولاد وأمهم, اشتقت لمدينتي كلها.
هل هكذا يفعل الانشطار في القلوب لو انشطرت نواة القلب؟ تحشرجت بكلمات هي كل ما استطاعت قدراتها اللفظية والمعنويـة عـلى إخراجه إلى حيز السمع, لكن مع حروفها تبخرت أنفاسها الـذي حبـستها الصدمة فصار جوفها خاوي تزأر فيه رياح عدم التصديق:
- تسافر? ومتى تعود؟
- لا أدري في الحقيقة. ربما أتأخر, لهذا أحببت أن نقضي بعض الوقـت معا كوداع لأجمل أيام مرت، فقد لا نلتقي عن قريب.
سيغيب عن نظرها. سيغيب عن متناول الحلم. هيا أيها القلب الغبي تأمل وجهه الحبيب ربما لآخر مرة. هيا أيتها الحواس تمتعي بـالوجود والإحـساس أيـضا ربـما لأخـر مـرة. سيقفل كل باب يؤدي إليك. تمتعي بعينيه ونغمة صوته, تنـشقي رائحتـه واحتفظـي بهـا حتـى آخـر العمر, قومي بوداعه كما كنت تتمني لقائه الذي ربما لن يأتي. فليكن الوداع الذي حل بقسوته جميلا يليق بهذا الحب الذي لـن تعرفيـه مرة أخرى. هذا اللقاء ليس لقاءا بين عاشقين, إنه لقاء بين عاشقة ورجـل رغـب في إنهاء علاقة كانت تفاهة, صمته المطبق أمام لهفة حبها لم تيقظ هواجسها, إنه يتحدث كمن لا علاقة له بما يحدث في أعماقها، فهو لم يعدها بشيء. نعم لم يعدها بل حذرها, لكنه ترك كل الأبواب مفتوحة كي تتسلل إلى حبه, تركها تغوص أكثر في رمال تعلقها بـه, تـدمن عـشقها لـه. لمـاذا كـان يتجمل بصفات عشقتها فيه؟ هي من قتلت قلبها حبا ووهما. وهي من يجب أن تنسحب بكبرياءٍ مشروخة جلبتها معها إلى شقة رجل يقول لها: لا أريد، وانتهى وقتك معي. لكنها ليست نادمـة أبـدا. لقـد أحبتـه كـما لم تعـرف الحـب, وعاشـت تفاصيلا ربما تكون مشانق راحتها مستقبلا, لكنها لا تبالي فقد كـان اختيـار القلب.كان ينبغي عليها أن تدرك أن لا فائدة من حب من طرف واحد, قال لها ذلك في لقاءهما الأول, لكنها كابرت. فكرت أنه سيستسلم أمـام جيـوش عواطفهـا واهتمامهـا, فكـرت أنهـا ستقتحم قلعة قلبه وتنتصر على تردده نحوها, أنها ستصبح ملكة على عرش حبه وتحتل كيانه. لكنه الوهم. لم يكن سوى الوهم. همس مكتئبا:
- عفاف. ستجدين يوما الشاب الذي يستحقك. صدقيني. نعم من السهل على شخص لا يعرف مدى الخراب الذي في داخلـك أن يتنبأ لك بمستقبل جميل وواعد, ما دامت أعماقه تحتفل بالخلاص الهـادئ من جنون عشقك وتعلقك, من السهل أن يبتسم في وجهـك مطمئنـا أنـك لن تموت خلفه وإن بقيت على قيد الموت.
لكنها ستبقى على قيد الحب فقط, وستنتظر عودتـه يومـا, فهـو اختيـار القلب. حين ألقت بنفسها بين ذراعيه وهي تضمه بشوق. كانت على يقـين أنـه رجلها الوحيد وإلى الأبد. تهتف حواسها بوجع:
-حرام يا حازم! حرام: تحرمني منك.
لماذا لا تموت الآن على صدره ما دام الموت سيأتي فراقا وبعدا؟ ما أقسى أن تتفرق بـك الـسبل عـن شـخص مازجـت أنفاسـه ذرات روحك بشغف لم يستوعبه أو يقدر قيمته بـل رآك محطـة عـابرة في حياتـه فقط! هي لن تندم. إذا كان هناك من يستحقها فهو اختيار قلبها.
******
جسدها الذي ينتفض ألما وخوفا تبرأ من طيـشها, فدفعتـه عنهـا بعيـدا وهي تبكي عمرها مقدما. نهض حازم وهو يرتجف انفعالا:
-أرجوك أن تغفري لي. أنا رجـل, مجـرد رجـل طبيعـي في مـشاعري نحوك, لم أقصد إيذائك يا عفاف. أقسم أني لم أكن أنوي أو أريد. كان يتناول جاكيته الذي سقط عن كتفيه أرضا:
- أرجوك هيا كي أعيدك لمنزلك. إن رأسك يشتعل بأفكار خاطئة عنـي وهذا ما لا أريده.
لا تدري كيف أصرت على الذهاب لوحدها, ولا كيـف تركهـا تـذهب
هكذا أشلاء مبعثرة. كيف خرجت تسحب كرامتها خلفها جثـة ثقيلـة تـستحق الـدفن فقـد لفظت أنفاسها بين ذراعيه عشقا ممنوعا؟ كيف نقشت في جدران ذاكرتها نظرتـه الحزينـة المتلهفـة حتـى تـشربت شقوق تلك الذاكرة المثقلة؟ بل كيف تركته إلى ما لا نهاية بلا أمل في لقاء؟ كيف لن تراه مجددا؟ هي لا تصدق! لكنها وصلت أخيرا منزل سوسن. وهناك سفحت كل الدموع المتبقية لآخر العمر كـما اعتقـدت سوسـن،
بكت كل الليالي القاتمة في الطريق وكل خيبات العمـر الـسابقة واللاحقـة، بكت روحها وجسدها وحبها الضائع, ومن بين الـدموع أخـبرت سوسـن بحديثه وسفره وكل ما حدث.
- أنه لم يحبك. أبدا لم يدخل حبك قلبه. لقد كان يتسلى في فترة بقائه هنا
في صنعاء, يتـسلى حتـى يعـود لأسرتـه وينـساك كأنـك لا شيء. لم تحركـه تضحيتك أبدا. أنت الآن لم تقتلي نفسك فقـط, لقـد قتلـت أخوتـك وكـل عائلتك. استبحت نفسك وكرامتك وكرامـة عائلتـك مـن أجـل رجـل لم يثمن ذلك, بل سيعتبره نقصا في أخلاقك وتربيتك ليس إلا. كل الرجال يا صديقتي لا يحترمون المرأة التي تهـب نفـسها باسـم الحـب, بـل يرونهـا في النهاية امرأة رخيصة.
كم تجيد سوسن شَيَّ بقيتها, إن تبقى شيء. لكن كلماتها النارية حقائق، وهي تكتوي بها بلا شفاء رغم أن الكي آخـر الدواء. لقد أضاعت في سبيل هذا الحب المستحيل أشياء لا تعوض: كرامتهـا، وسلامها الروحي، وثقة خَطَّاب فيها، وكل القـوانين التـي تربـت عليهـا، وقلبها.
- سأتصل لمنزلكم, وأستأذن أن تبيتي عندي، فحالتك لا تسمح بالعودة أو رؤيتك من أحد وأنـت عـلى هـذه الحالـة, سـتكون ليلـة مليئـة بـالنواح والكوابيس.
كان هذا أفضل ما ستقدمه سوسن لها لبقية العمر. هـي لا تطيـق كبـت البكاء, وإن حاولت ستنفجر وجعا".
ومن الواضح الساطع الوضوح أنه لا أمل فى أن تفيق مما هى فيه رغم أنه لا أمل فى شىء منه. وقد قالت هى، ونحن نوافقها على ما تقول تمام الموافقة، إن الحب أعمى. ولكن إذا كان الحب أعمى، فإن التيقن من أن هذا الحب الأعمى لن يثمر شيئا سوى الحرمان والشقاء ولن يفوز المحب الأعمى من حبيبه بشىء أبدا فهناك فى هذه الحالة حل آخر، وهو الاعتصام بالكرامة والكبرياء، وبخاصة من فتاة معتدة بنفسها ولها فى الرجال رأى غاية فى السوء وتدرك جيدا أن حبها هذا حب يائس، وتظاهرها على رأيها هذا ابنة خالتها، وهى نفسها تعى وعيا تاما أنها مخطئة فى موقفها هذا وأنها بتصرفها ذاك قد أساءت إلى نفسها وإلى أسرتها وإلى ثقة أخيها خطاب، الذى يحبها ويعطف عليها ويدافع عن قراراتها ويعاملها بكل حنان.
ثم إن عفاف لها رأى فى الحب لا ينطبق على ما هى فيه. تقول قرب نهاية الرواية: "الحب تفاعل روحي وكيمياء طبيعية يجب أن يحدث عند التقاء شخصين
اختارهما القدر كموجب وسالب. إنها كيمياء العشق. تفاعل حقيقي نرى آثاره في كل شيء يخص عاشقين".(ص113). وطبقا لكلامها هنا فإن ما كانت تشعر به ليس حبا حقيقيا. ذلك أن الحب، حسبما تقول، تفاعل وكيمياء بين عاشقين. وفى حالتها لا تفاعل ولا كيمياء، وإنما تهافت من جهتها وحدها على حازم، أما هو فقلبه وعقله بعيدان عنها حتى إنه بعدما ترك صنعاء حيث كانا يعملان معا نسيها، وحين فكر فى الزواج بأخرى تزوج امرأة غيرها، ولم تطف هى على سطح مخه من قاع ذاكرته بتاتا. أى أنها كانت خارج اهتمامه وحساباته بل خارج الذاكرة تماما. وكانت قد قالت قبل ذلك إن الحب قدر يتبدى فى صعقة عشقية. وحازم لم يصعق عشقيا ولا بغضيا، بل كانت مشاعره نحوها مجرد استطلاف أو شيئا من هذا القبيل. أما أن يكون قد أحبها وصعقه العشق فلا ومليون لا.
لكن هناك فى هذا النص شيئا يحيرنى حيرة مزعجة لا أستطيع أن أصل فيها إلى حل: ترى إلى أى مدى وصلت الأمور بينها وبين حازم فى شقته؟ لو فهمنا أنها اكتفت بأن ارتمت برأسها على صدره وقبلته وقبلها فلسوف نجد فى النص ما يعضد ذلك. ولو فهمنا أن الأمر لم يقف عند هذا الحد بل تجاوزه فلسوف نجد فى النص ما يؤيد هذا الفهم أيضا، وبخاصة إذا ما وضعنا فى أذهاننا كلامها عن العصفور الذى التهمه القط الجائع فى وجبة شهية، وعن سترة حازم التى سقطت عنه، وكلام ابنة خالتها عن المرأة التى تهب نفسها لمن تحب فيرتاب فيها، وكلامها الذى سنقرؤه عما قليل عن وقع يديه وشفتيه على جسدها ووجهها وكيف فكت أنامله الخبـيرة رمـوزه المختومـة بعذريـة القلـب، وعاثـت فيـه لـدقائق وأغلقته بعدها بشفرة سرية للأبد، وكيف لم تعن له تلك الدقائق سوى وجبة سريعة لفظ بقاياها كما تُرْمَى البقايا إلى سلة النفايات.
لقد كُتِب النص، سواء كان ذلك بوعى وإرادة من الكاتبة أو جاء هكذا كيفما اتفق، على نحو محير. ذلك أن ثم كلاما عن الفضيحة التى سببتها لأسرتها مثلا، فهل إذا اقتصر الأمر على الانفراد بحازم فى شقته وإلقاء رأسها على صدره ومبادلته بعض القبلات أيمكن أن يترتب على هذا أى فضيحة، والأمر لم يخرج إلى العلن، فلم يره أو يسمع به أحد؟ لكننا إذا ما قلبنا الأمر على وجهه الآخر لراعنا أن عفاف وبنت خالتها لم تتطرقا إلى الحديث عما يمكن أن يحدث لو وقع حمل وكانت الطامة الكبرى، بل لم نر عفاف تنشغل بهذا الأمر، وإلا ما استطاعت أن تمضى حياتها بهذه البساطة إن لم تفكر فى الانتحار. لهذا أقول إنه نص محير. وكلما أعدت قراءته وجدتنى أترجح بين الفهمين ولا أصل فيه إلى شىء حاسم أبدا. ترى هل قصدت الكاتبة هذا التحيير قصدا؟ إنها إذن لبارعة براعة شديدة. ولكن ماذا تريد من وراء هذا التحيير؟
وهذا يقودنا إلى قضية شديدة الأهمية بل شديدة الخطورة أثارتها الرواية عدة مرات، ألا وهى سخط عفاف بطلة الرواية على القدر وتمردها عليه وإعلانها أنها تخاصم الله لأنه كتب عليها الشقاء فى الحب ولم يمد يده لنجدتها وانتشالها من الهوة السحيقة التى سقطت فيها وذاقت أشد الآلام. ولكن ألا ترى أنه لو كان قد تحقق لها الزواج من حازم لما تم هذا إلا على حساب سعادة زوجته الأولى؟ والواقع أن الناس جميعا يطمعون فى أن يحقق الله لهم كل ما يريدون، وعلى النحو الذى يريدون، فى الوقت الذى يريدون، وفى المكان الذى يريدون، وبالدرجة التى يريدون، مع أنه حين يتحقق لواحد منا ما يريد فإنه فى ذات اللحظة يُحْرَم غيره من هذا الذى تحقق له هو. إن الشاب الذى يحب فتاة مثلا ويريد الزواج بها ويحقق الله له ما يريد يكون سببا فى حرمان الشبان الآخرين الذين كانوا يتطلعون إلى الفوز بها حبيبة وزوجة. كذلك فكثير من الطلاب، حقا أو باطلا، يريد كل منهم أن يكون الأول على زملائه مع أن الأولية لا يمكن أن تتحقق لأكثر من واحد، فمعنى فوز أحد الطلاب بها حرمان الباقين جميعا من تحقيق أمنيتهم. وهذا معروف، لكننا فى غمرة انشغالنا الحاد بأنفسنا ورغبتنا العنيفة فى إحراز أمانينا على أى وضع لا نتنبه له كما ينبغى. كذلك فالحياة بطبيعتها لا يمكن أن تعطى كل شخص كل ما يريد. هذا مستحيل، ويناقض طبيعة الحياة.
وهذا ما حدث مع عفاف. لقد كانت تريد من الله أن يحقق لها ما تريد فيعطف قلب حازم إليها ويوقعه فى حبها. وهذه بعض مقتطفات مما كان يدور فى ذهنها على مدار الرواية.قالت حين وقعت فى حب حازم ولكنها وجدت أن الطريق فى وجهها نحو الاقتران به مسدود: "لماذا لم يلتق بها هي أولاً? ولماذا عليها أن تفكر في سرقته من عائلته؟ امتلأ قلبها بالوجع، وأطرقت تسمع الحديث الذي يدور حولها كالغائبة في بعد آخر, لماذا شاء القدر أن تحب رجلا ليس لها؟" (ص36).
وحين كانت تفكر فى إنشاء دار "العفاف" لتأهيل الشبان المعوقين والشابات المعوقات لخوض الحياة فى قدرة واعتزاز وتفاؤل: "تمنت لو ترى كل واحدة منهن الجانب المشرق من الحياة, فـالله لم يخلقنـا هكذا بلا قدرات أو ميزات وكل ما نحتاجه أن نكتشف أنفسنا فقط. يتنامى في أعماقهـا الـرفض لكـل شيء يـسبب القهـر للمـرأة, تـرى أن الاستسلام الأعمى لأقدارنا هو القدر الذي يقتلنا. لم يخلقنا الله كحقل تجارب لمرسوم قدري صادر منه, بل خلقنا في حرب دائمة بين قدرين لخسارة وربح. نحن على موعد مع قدر لا حيلة لنا فيه. نتخبط بين اختيار الله واختيار القلب" (ص72). وهذا، كما نرى، كلام جميل ويذكرنا بقول عمر رضى الله عنه حين قرر عدم دخول المدينة الشامية التى كان الطاعون منتشرا فيها واستغرب الصحابة قراره هذا وعدوه فرارا من قضاء الله، فقال لهم قولته العبقرية: "أفر من قضائه إلى قضائه" بما يعنى أننا لسنا رقما سلبيا فى معادلة الوجود بل نحن شركاء بجدارة ومقدرة فى صنع الأحداث.
لكنها حين جد الجد عادت تقول، والكلام هنا موجه فى خيالها إلى حازم: "لقد فعلتُ من أجلك ما لم أتخيله في حياتي. لقـد نـسيت كـل القـوانين التي تربيت عليها فقط كي أكون قربك للحظات. فهل تؤرقك الذكريات كما تفعل بي؟ أم أنك رجـل ذكرياتـه مزدحمـة ومتراكمـة وتحتـاج إلى مجرفـة الـشعور بالذنب كي يقلبها ويتذكر كم أحببته وكم آلمني؟ ترى هل تعرف إبر الشوق ومخـارز الفقـد؟ هـل تركـت في قلبـك يومـاً وُشُومًا من الحزن والذهول عن كل شيء؟ أتساءل: هل سأنسى وقع يديه وشفتيه على جسدي ووجهي? كيف فكت تلـك الأنامل الخبـيرة رمـوزه المختومـة بعذريـة القلـب? وعاثـت فيـه لـدقائق وأغلقته بعدها بشفرة سرية للأبد؟ كيف لم تعن له تلك الدقائق سوى وجبةً سريعة ومذاقًا مختلفًا، ثم لفظ بقاياها كما تُرْمَى البقايا إلى سلة النفايات؟ تتذكر أنه عبث بجسدها فلا تتألم. إنما يوجعها أنه اغتصب قلبها أولاً وبقوة ٍ كاسحة, فقدمت لـه جـسدها إعلان ملكي, وميثاق حب, وحق عشق، فكان أن أمتص رحيقها بشراهة الذئاب للنساء ورماهـا كزهـرة ذابلـة. رماها؟ كانت كلمة لطيفة. لقد لفظها" (٧٥). وبالمناسبة فهذه اللغة التى تطالعنا فى هذه السطور والسطور التالية تشى بأن ما وقع بينها وبين حازم قد يكون أكثر من مجرد قبلات وأحضان. قد! ولنتابع:
"لقد أنهى حياتها كفتاة وأمهر فعلته بتوقيع دمغهـا للأبـد في نظـر نفـسها
كفتاة مبتذلة, قدمت نفسها إليه طواعية دون طلب منه, بل إنها رمت نفسها
بين ذراعيه كشيء رخيص. الآن هي في نظر الجميع والعمر الذي يمر عانس مجنونة.
ربما لا يذكرها هو إلا كمغامرة تافهة. نعم كانت تفاهة في نظره. لكنها حولت مسار حياتها إلى أخطر منحنيات عقل الإنسان. لقد بدأت تناصب القدر العداء, وتناقش الله في أقـداره ولمـاذا اختارهـا هي؟ لقد شعرت بالضغينة نحو إله حرمها منه وأذلهاّ بحبه. لقد كان قدرها أن تقوم بدور الغبية في مسلسل الحيـاة, وأن تحـوز عـلى شفقة البطل والمشاهدين، وقرفهم أيضا" (ص74- 75).
والطريف أنها عقيب ذلك تقول فيما بينها وبين نفسها: "لن يغفر الله لك أبدا يا حازم, لـن يغفـر الله لـك مـا فعلتـه بي وكيـف دمرت ثقتي بكل شيء حولي? كيف نزعت إيماني من صـدري حتـى صرت أكره نفسي وأكره قدري بسببك". فكيف تتوقع من الإله الذى تراه ظالما أن يقف إلى جوارها وينصرها على ظالمها؟ هذا تخبط. ثم كيف ظلت تحب هذا الذى تدعو عليه وتتهمه بأنه هو الذى نزع إيمانها من صدرها وجعلها تكره قدرها؟ وهذا تخبط آخر.
أما فى النص التالى فثم شىء جديد يوضح لنا طبيعة تمرد عفاف وأنه تمرد من أجل التمرد حتى إنها لا تفكر فى مساعدة نفسها على التجهز لاستئناف الحياة بلا مرارة أو عناد سخيف. تقول عن مشروع الدار التى تؤهل المعوقين والمعوقات: "لكن في نظرها كان الأجدى هو قضيتها الأولى, تنوير المرأة بحقها فقط. الجهل والاستسلام لمسمى "القـدر" أصـبح هاجـسها, التـصارع مـع الواقـع وعقائده الضالة هو ممارستها اليومية التـي تـصل أحيانـا للـشرود خـارج السرب, ومخاصمة الله على صنع أقداره. لقد صنعت مرارتهـا عالمـا لم تكـن تتمنـاه، ولكنهـا انغمـست فيـه بكـل حواسها، عالما يتسم بالعناد والرفض لمجرد الرفض. حتى مساعيها الحثيثة من أجل أخريات كان رفض من نوع آخر لواقـع كرهته هي وكرهت أن تحياه غيرها عشرات الفتيـات الـلاتي تـأهلن في دار "العفاف". لم يشعرن للحظة بروحها التي كانت بأمس الحاجة للتأهيل" (ص113- 114). وهو ما يذكرنى بما قاله أحد المستشرقين الذين كانوا يعملون بالجامعة المصرية القديمة حين رأى طلابه المصريين يقاطعون محاضراته كنوع من السخط على شىء صدر منه ولكن لم ير هو فيه ما يؤخذ عليه، فقال لهم ساخرا منهم ومن تصرفهم وتفكيرهم وحرمانهم أنفسهم من التعلم: إنكم تشبهون ذلك الرجل الذى أراد أن يغيظ زوجته فى السرير فأخصى نفسه!
ترى هل هذا التمرد على القدر ومخاصمة الله كما تقول إلحاد؟ لا أظن ذلك. وكثيرا ما نسمع ناسا عاديين لا يخطر لهم الإلحاد ببال، بل لا يعرفون معنى الإلحاد أصلا، يبتهلون إلى الله بكل ما لديهم من حرارة أن يشفيهم مثلا من مرض عضال قائلين فى غمرة ابتهالهم: لماذا يا ربى أمرضتنى أنا بهذا المرض من دون الناس وأنا لم أرتكب ذنبا؟ وهذا ليس اعتراضا على قضاء الله بقدر ما هو طمع فيه وفى رحمته، ويقين عظيم بأنه أهل لتحقيق كل رجاء وأن خزائنه تفيض بالرزق والخير وقادرة على إجابة كل دعوات العباد دون أن تنقص شيئا.
لكن ليس معنى هذا أن الدنيا يمكن أن تخلو يوما من المتاعب والآلام والضيق والسأم والملل والخصومات والعداوات والحروب والمؤامرات والأحقاد والسيول والبراكين والزلازل والهزائم والفشل والأمراض والموت والخوف والرعب والقلق والشك والتوتر والقبح والضجيج والغباء والتخلف والسموم والحشرات والآفات والجوائح والزواحف السامة والحيوانات المفترسة والجراثيم والفيروسات والمكروبات والصواعق والأسلحة والبذاءات والنتانات والسرقة والقتل والنفاق والغيبة والنميمة والجوع والعطش. إن ذلك كله وغير ذلك كله جزء من الحياة داخل فى تصميمها. وهذا ما يسمى فى الفكر الفلسفى بـ"مشكلة الشر والألم"، وهى المشكلة التى لم ولا ولن يجد أحد لها حلا.
وهؤلاء هم الفلاسفة قد كدوا وما زالوا يكدون أمخاخهم ويعصرونها عصرا ويحرقون أعصابهم ويريقون أحبارا لا أول لها ولا آخر ويستهلكون جبالا وهضابا من الورق لحل تلك المعضلة، وما من فائدة. إنهم يقولون: أليس الله رحيما؟ بلى. أليس الله ذا مشيئة مطلقة، ولا معقب لحكمه؟ بلى. أليس الله قادرا على تحقيق ما يشاء؟ بلى. أليس الله يسمع دعوات عباده ويرى آلامهم التى يبتهلون إليه أن يرفع غمتها عنهم؟ بلى. إذن فلم لا يفعل؟ بل لم خلق الشر والنقص والألم أصلا فى الحياة؟ وما كان ضَرَّه لو وضع الناس والحيوانات وكل ما يشعر ويحس فى الفردوس منذ البداية فترتاح مخلوقاته وتمارس السعادة ممارسة دائمة لا تنتهى أبدا ولا يزعجهم فيها ولا عنها مُزْعِج؟ وبعض الفلاسفة ينتهون من هذا الطريق إلى الكفر والإلحاد. وقد أذكر أنى كنت أقرأ منذ سنة أو سنتين ترجمة حياة جون ستيوارت مل الفيلسوف الإنجليزى الشهير، فألفيته هو وأباه يسمان الله سبحانه، طبقا لما تذكره الأديان عنه، بالقسوة والوحشية وينفيان عنه الرحمة تماما. وهذا موجود فى الفصل الثانى من كتابه: "Autobiography".
لكن هناك مفكرين آخرين يظلون على إيمانهم بوجود الله ووحدانيته وقدرته ومشيئته المطلقة، بيد أنهم مع هذا لا يفهمون وجه الحكمة فى انتشار الشرور والمواجع فى الحياة على هذا النحو الواسع، وإن لم ينكروا أن فى الحياة أيضا مسرات وسعادات كثيرة. إن هذا الصنف من المفكرين يعرف أن الله خلق الإنسان فى كَبَدٍ كما يقول القرآن، وأنه حين أهبط آدم وحواء إلى الأرض قد عالنهما بكل وضوح أن البشر على الأرض سيكون بعضهم لبعض عدوا، ولم يقل لهم إنكم ستتقلبون طوال الوقت فى السمن والعسل. أما الأنبياء فلم يتطرقوا إلى الحديث عن تلك المشكلة على طريقة الفلاسفة بل ينصحون المؤمنين بأن يصبروا ويصابروا ويثابروا ويعملوا من أجل بلوغ غاياتهم التى يتطلعون إليها: فإن نجحوا شكروا الله، وإن لم يوفَّقوا رَضُوا بما وقع ثم استأنفوا العمل من أجل تحقيق مطالبهم كرة أخرى. كما يفهمون أتباعهم أن السعار وراء مطالب النفس لا ينتهى ولا يمكن إشباعه يوما إلا بالقناعة على قدر المستطاع متى فشلوا فى بلوغ بعض ما يريدون ما داموا قد بذلوا أقصى ما عندهم من جهد. وهو اتجاه عملى واقعى لا يشغل نفسه بالتفكير النظرى الذى لا يصل فى بعض القضايا إلى شىء.
وعلى كل حال فإن عفاف، رغم ما تحدثتْ عنه من تمردها على قدرها وخصومتها مع الله بسبب فشل حبها لحازم، قد فاءت أخيرا، ولكن بعد مرور أعوام طوال، إلى الرضا بقدرها وذهبت تزور بيت الله الحرام، وإن كانت نظرتها إلى تلك الشعيرة تختلف بعض الاختلاف عما يراها الناس. وهو ما كانت الرواية قد ابتدأت به كما وضحنا، فكانت تلك النهاية عودا على بدء. قالت عفاف عن الغاية من تلك الزيارة: "إنها الآن على موعد مع الله, موعد انتظرته منذ سنوات طوال كي تعتذر لنفسها وتبحث عنها هنا" (ص8). ومعنى هذا أنها لم تأت للتصالح مع الله بقدر ما أتت للتصالح مع الذات.
ثم بعد قليل: "لقد اختارت وقتا لعمرتها تختلي فيه بأول بيت الله على الأرض بلا زحـام المواسم, مكان تثق فيه أنها ستنسى كل ما مر في حياتهـا مـن شِـَقاقٍ لأقـدار رب هذا البيت. في طريق الذهاب حرصتْ عـلى اسـترجاع طقـوس العمـرة التـي مهـما استوعبتْ عبرتها إلا أن جزءا من عقلها يرفض أن هذه الشعائر تُعَدّ شرطـا لقبولها من الله في عداد عباده الصالحين. هزت رأسها كأنها تبعد لسع أفكارها التي تخز رأسها:
-هل ما زلت على غوايتك اللعينة يا عفاف تجادلين في كل شيء؟
وصلت هناك، وطالعتها الكعبة المشرفة تلبس الحـداد عـلى أمـة المليـار
إنسان مغيب, أو ترتديه على عفاف التي غيبت نفسها. لذلك المبنى رهبة آسرة, حين يطالعك لأول مـرة تـشعر أنـك وصـلت الصدر الذي ستبكي عليه لتعود طفلا من جديد.
ذكَّرها عمر بما ينبغي عليها من شـعائر العمـرة, لكنهـا اتجهـت صـوب
الكعبة دون الالتفات إلى الكتيب الذي يتلو منه خطوات الشعيرة. ولخلو الكعبـة تقريبـا مـن النـاس تعلقـت بأسـتارها وأطلقـت العنـان لدموعها. هكذا تعلقت يوما بقميصه المفتوح كأستار الكعبة, تناشـده ألا يتركهـا، ألا يحرمها وجوده في حياتها بعد أن وهبته هذه الحياة. ظل عمر يراقبها لبعض الوقت في حيرة, ثم انتابـه الملـل فتركهـا وأخـذ يمارس شعائره الخاصة باستمتاع أول مرة. عفاف، وهي تسند صدرها المنتفض لجدار الكعبة الساخن أدركت أن ما تبحث عنه هنا. ليس هنا. طوال الوقت كان معها, وما كانت تحتاج لمعرفته إلى طقوس أو شـعائر. هي بحاجة للتطهير والتكفير والامتلاء بالرضا فقط. كففت دموعها وتحركت تبـدأ شـعائر العمـرة التـي سـبقها إليهـا عُمَـرُ الصغير" (9- 10).






ومما تتميز به هذه الرواية أن الأحداث فيها قليلة عموما وأن كثيرا من صفحاتها تنفق فى استبطان الدخائل وتحليل المشاعر والأحاسيس وتعليل المواقف وما إلى هذا، وذلك فى أسلوب شاعرى فى الغالب مفعم بالصور البيانية العصرية ذات الطابع المتميز كما أوضحنا فى موضع آخر من هذه الدراسة. والغريب أن هذا التحليل وذلك الاستبطان لم يميتا الرواية بل كنت أقرأ كل ما كتبه السارد بشغف واستمتاع رغم ما تعانى منه الرواية من ضعف فى بعض الجوانب حسبما شرحنا. إنها رواية من روايات التحليل النفسى. وهذا يذكرنى برواية "سارة" للعقاد مع الحفاظ على قدر العقاد وقلمه وفنه. وسر تذكرى لها ما عابه عليها بعض النقاد اليساريين من قلة ما تحتويه من أحداث. فها هى ذى رواية "قلب حاف" تقل فيها الأحداث وتكثر فيها التحليلات النفسية والاستبطانات العقلية والقلبية، ومع هذا فهى رواية جيدة بل أكثر من جيدة. ولولا المآخذ اللغوية التى أخذناها عليها لارتقت فى قائمة الجودة درجات أخرى. ومن هنا كان نجيب محفوظ موفقا غاية التوفيق حين صنف "سارة" بأنها رواية تحليل نفسى وأعلى من شأنها وشأن صاحبها مؤكدا أن رواية التحليل النفسى لون من ألوان الفن القصصى ذو قيمة عظيمة، وكأنه يرد على اليساريين المفضوحين الذين يظنون أنهم يكايدون العقاد وينفون عنه التبريز فى كتابة القَصَص مع أن عمله هذا هو عمل عالمى بجميع المقاييس. قاتل الله الحقد والحاقدين، وبخاصة الصغار منهم.







وهى رواية أكثر من جيدة، ولو كانت خلت من الهفوات النحوية والصرفية لارتفعت فى مرقاة الجودة درجات أخرى. لقد مضت الصفحات الأولى منها دون أن ألحظ شيئا من تلك الهفوات، فظننت أن الرواية كلها سوف تمضى على نفس النحو، لكنى كمن كان يركب سيارة تعدو فى سلاسة ويسر مما جعل صاحبها يحمد الله فى سره وعلنه أن قيض له طريقا حَسَن التمهيد كهذا الطريق الذى يقود عربته فيه، ثم بغتة صارت السيارة تهتز كل قليل بما يشى أن الطريق لم يعد ممهدا حسن التمهيد كما كان قبل لحظة بسبب ما فيه من مطبات ومقبات، وهو ما عكر عليه متعة القيادة بعض التعكير.
ولن أبادر الآن فورا إلى الكلام عن تلك الأخطاء النحوية، بل سأتناول بعض المسائل اللغوية بوجه عام، ومنها أنطلق إلى إعطاء بعض الأمثلة على الهفوات المذكورة: وأول شىء هو عنوان الرواية: "قلبٌ حاف". ونحن، على الأقل فى مصر، نقول: "ولدْ حافِى"، أى ليس فى قدميه حذاء، ونقول: "عِيشْ حافْ"، بمعنى أنه يفتقر إلى الغَمُوس. لكن لا أذكر أنى سمعت أو قرأت "قلب حاف". وقد ذكرنى هذا بعنوان رواية لمحمد شكرى الصعلوك المغربى الذى هاجت الدنيا وانتفضت حين صدرت روايته: "الخبز الحافى"، وعُدَّت فتحا مبينا فى عالم القص ليس كمثله فتح حتى لقد ترجمت، حسبما قرأت فى ترجمة شكرى بـ"ويكيبيديا" إلى نحو أربعين لغة. ما شاء الله! لقد بدا لى وصف "الخبز" بـ"الحافى" غريبا رغم أننا نقول: "عيش حاف" كما ذكرت قُبَيْلا، إذ لم يكن يدور فى أذهاننا أن أصل الكلمة هو "الحفاء"، إذ ما العلاقة بين الخبز وتجرد القدم من الحذاء؟ لكن لما رأيتها مكتوبة بالياء فى آخرها تنبهت وقلت فى نفسى: آها! إذن فهى مأخوذة من الحفاء، على أساس أن الخبز بلا إدام يشبه القدم بلا حذاء. ثم لما اطلعت على عنوان رواية الكاتبة اليمنية وقرأتها قلت فى تفسيره إن القلب بلا حب هو كالقدم بلا حذاء يقيه الحجارة والحصى والشوك والزجاج والهوام وكل ما يمكن أن يؤذى القدم، مثلما يقى الحبُّ القلب من الهم والغم والوحشة والانكسار والملل.
لكنى، كعادتى فى مراجعة المعاجم دائما نشدانا للمزيد من العلم وتوقعا أن أجد فى المعاجم مفاجآت لم تكن تجرى لى على بال، نظرت فى بعض القواميس فوجدت أن الخبز لا يوصف بأنه "حاف" بل "حافّ"، أى يابس أو بلا غموس. وكانت هذه جديدة علىَّ. وعلى هذا فالسؤال: هل قصدت المؤلفة أن قلب بطلتها "حاف" فعلا من الحفاء تشبيها بالقدم الذى لا يلبس صاحبه فيه حذاء، وهو ما تدل عليه الكسرتان تحت الفاء بما يدل على أن الكلمة كاملة هى "حافى"؟ أم هل المقصود أنه "حافّ" تشبيها له بالخبز الذى ليس معه إدام، وهو ما يصير الخبز عنده بلا طعم ولا روح مثلما يشعر صاحب القلب الذى حرم الحب بأن حياته عديمة الطعم خالية من الفرحة والبهجة، أو بالخبز اليابس، فهو قلب جاف ليس فيه نضرة الفرح والسرور؟ سيقول القراء: لكن المؤلفة كتبتها بكسرتين تحت الباء لا بشدة فوقها. وأقول: وهذا ما خطر لى فى البداية، وبخاصة طوال الصفحات التى لم ألحظ فيها هفوات لغوية، إذ انطبع فى نفسى أن الكاتبة تعرف ما تكتب حق المعرفة. لكن حين اصطدمتُ بتلك الهفوات تراجع اطمئنانى ولم أعد واثقا فى تفسيرى الأول للأمر، وقلت إنها من الممكن أن تكون قد وضعت الكسرتين على غير بصيرة كما فعلتْ فى ضبط عدد غير قليل من الكلمات ضبطا خاطئا، وكان يمكنها أن تسكت فلا تضبطها، فتقل عدد الأخطاء التى يلاحظها القراء. أم الأمر لا هذا ولا ذاك بل المراد هو القلب الحافى من "حفا فلان بفلان يحفو" أى بالغ فى إكرامه والاحتفال به؟ والمعنى أن بطلة الرواية بالغتْ إلى أقصى حد بالرجل الذى أحبته وظلت متعلقة به لا تتحول عن عشقها له وفنائها فيه رغم أنه كان متزوجا وله أولاد وصارحها منذ البداية بأنه لا يستطيع أن يقترن بها باسطا لها ظروفه التى تمنعه من ذلك، ورغم أنه ترك المكان الذى كانا يعملان فيه معا وعاد إلى مدينته البعيدة ولم يعودا يتراءيان أو يلتقيان، ثم زاد فحجبها عن الوصول إليه هاتفيا حين تكرر اتصالها به. بل حتى حين رأته مصادفة فى آخر الرواية وأفهمته أنها لم تعد تهتم به ظلت مشغولة الخاطر بحبه لا تستطيع طرده من بالها. لكن هل قصدت الكاتبة هذا المعنى؟ لا إخال. فأنا نفسى لم أكن أعرفه، ولم أتنبه له إلا الليلة حين أردت الكتابة عن الرواية، فقام فى ذهنى أن أقف قليلا أمام العنوان لغرابة وصف القلب بالحافى تشبيها له بالقدم، فكان أن انجرت قدماى إلى ما ترون. اللهم إلا إذا تصادف أن كانت الكاتبة تعرف هذا المعنى رغم جهلى به، فأنا لست المثال الأعلى فى العلم باللغة.
والآن، وقد عدت وقرأت سطور الإهداء فى الرواية، ألفيت المؤلفة تقول ضمن ما قالت: "إلى كل أنثى تمضي على جمر العمر حافية القلب من حب"، فقلت لنفسى: دعك يا فلان من كل هذا التفلسف السخيف وتلك الحذلقة المقيتة، فها هى ذى المؤلفة تستعمل "القلب الحافى" بمعنى القلب الخالى من الحب مثلما يخلو القدمان من الحذاء. وبهذا يتضح أن ما قلته فى الفقرات الماضية هو زوبعة فى فنجان أو عراك فى غير معترك. لكن عذرى أنى أريد أن أتعلم ويتعلم معى الآخرون. وهذا هو ميدان تخصصى الذى يمكن أن أستفيد فيه وأفيد غيرى. فعذرا أيها القارئ الكريم. وأرجو أن تسمح لى بالاحتفاظ بالفقرات الماضية كى يعرف القراء كيف يمكن أن يقع ناقد مثلى هذه الوقعة ويثير موضوعا ما كان أغناه عن إثارته لأنه لا وجود له أصلا. فقد اختارت الكاتبة معنى معينا من المعانى المتعددة للكلمة المذكورة ووضحت مقصدها تحديدا ولم تترك الأمر مواربا أو غامضا. كل ما هنالك أنى قرأت ذلك السطر قبل أن أفكر فى الموضوع، فلما فكرت فى الموضوع كنت قد نسيت السطر. وما بين الموضوع والسطر تعريت وزال عنى الستر.
كذلك هناك فعلٌ استخدمته المؤلفة فى روايتها فى معنى وتركيب لم يقابلنى من قبل قط فيهما، وهو الفعل: "يتحسَّن" فى قولها: "وتأكل مما يتحسن الناس عليهـا". فالفعل "تحسَّن"، فيما نعرف، معناه صار حَسَنا من بعد سوء ولا يتعدَّى إلى مفعول معه لا بنفسه ولا بحرف جر. لكن الكاتبة استعملته متعديا بـ"عَلَى" كما نرى. وحتى لو كان هذا الاستعمال صحيحا لقد كان ينبغى أن تقول: "وتأكل مما يتحسن الناس به عليها". إلا أنها حذفت شبه الجملة: "به". فهاتان ملاحظتان. وإنى لأسأل: أوَيستعمل اليمنيون فى عاميتهم هذا الفعل بذلك المعنى؟ أنا أريد أن أستفيد وأتعلم. فإذا كان أهل اليمن يستخدمون الفعل بهذه الطريقة فعندئذ يكون للكاتبة بعض العذر، لأنها ما هى العامية؟ هى الفصحى مع بعض التغييرات، وأحيانا لا يوجد فرق سوى الإعراب. بل إن هذا الفرق يختفى فى بعض التعبيرات كقولنا فى مصر: "أهلا وسهلا" مثلا بالتنوين كما يقال فى الفصحى تماما دون أدنى تغيير، وكقولنا فى التعزية: "أعظمَ اللهُ أجرَكم" و"شكر اللهُ سعيَكم"، وكقولنا فى الأفراح: "بالرِّفاء والبنين"، وكقولنا على سبيل المجاملة: "بِنِيّاتكم تُرْزَقون"، وكما هو الحال فى كثير من الأمثال الفصيحة التى تؤديها العامية كما هى دون إدخال أى تغيير عليها. وفى هذه الحالة ستكون المؤلفة قد ظنت أن هذا التعبير العامى (لو كان عامية اليمن تعرفه طبعا) هو تعبير فصيح لكنه غير معرب، فاستعملته فى كلامها الفصيح على اعتبار أنه سيعرب كسائر ألفاظ النص، وإن كانت هى ذاتها تخطئ أحيانا فى القواعد النحوية والصرفية كما قلت آنفا رغم أنها متخصصة فى دراسة اللغة العربية وآدابها ومر على تخرجها عند صدور هذا العمل أربع عشرة سنة. على أن هذا لا ينال من أسلوبها، بمعنى تركيب الجمل والعبارات، فأسلوبها من هذه الناحية سلس منساب لا يعانى من هلهلة أو ركاكة بل يمضى مستقيما وكأنها بنّاء يرص قوالب الطوب فى الجدار رصا سليما منتظما، لكن القوالب ذاتها قد تكون مشطوفة من زاوية أو أكثر أو مقسومة قطعتين أو منخورة... إلخ. ذلك أن النحو ليس إعرابا فحسب بل تركيبا أيضا. وهى، من الناحية الأخيرة، لا تعاب بشىء إلا فى النادر، ولو قورنت هنا ببنات جيلها وأبنائه لتفوقت على كثيرات منهن وكثيرين منهم. لقد استمتعتُ، رغم ما فى الرواية من هفوات نحوية وصرفية، باللغة أيما استمتاع، وذلك لبراعة الكاتبة فى سبك وحبك جملها وعباراتها وفقراتها.
على أن هناك تركيبا عجيبا فى الرواية لم أر أحدا بتاتا قبل هذه العقود الأخيرة يقع فيه، وإن كنت أجد مثله كثيرا بأخرة فى كراريس إجابة طلابى وطالباتى بقسم اللغة العربية فى آداب عين شمس بالقاهرة المحروسة، ألا وهو قولها: "وكلما أعلنت المنظمة عن ورشة عمل تعقد إلا كانت أول الحاضرين فيها". والصواب، كما لا أحتاج إلى توضيح، هو "وما من مرة أعلنت فيها المنظمة عن ورشة عمل إلا كانت أول الحاضرين فيها"، أو "وكلما أعلنت المنظمة عن ورشة عمل كانت أول الحاضرين فيها"، وإلا فأين المستثنى منه ما دامت الكاتبة قد أوردت فى جملتها "إلا" الاستثنائية؟ أو أين جملة جواب الشرط ما دامت الكاتبة قد بدأت جملتها بأداة شرطية؟ كذلك لا أحب أن أترك التركيب التالى الذى ألفيته عندها فى الصفحة التاسعة: "حرصتْ على استرجاعطقوسالعمرةالتيمهما استوعبتْعبرتهاإلاأنجزءا منعقلهايرفضأن هذهالشعائرتُعَدّشرطا لقبولهامناللهفيعدادعبادهالصالحين" حيث تقابلنا جملة شرطية وفعل شرط، لكن أين جواب الشرط؟ لقد أزيح وحلت محله أداة استثناء ومستثنى، وهما لا يصلحان هنا لأنه لا يوجد مستثنى منه. ومعروف أن المستثنى منه لا يختفى ويصح الاستثناء رغم هذا إلا فى حالة الاستثناء المفرغ، وهو ما سبقه نفى أو نهى أو استفهام، وهو ما لا وجود له هنا. والصواب هو "حرصتْ على استرجاع طقوسالعمرةالتيمهما استوعبتْعبرتهافإنجزءا منعقلهايرفضأن تُعَدّ هذهالشعائرشرطا لقبولهامناللهفيعدادعبادهالصالحين". ويلاحظ القارئ أنى سمحت لنفسى إجراء تغيير آخر فى الجملة. ذلك أن التركيب الأول قد يفهم منه أن بطلة الرواية تنكر أن تكون هذه الشعائر فى الواقع أصلا معدودة بين شروط القبول فى عداد الصالحين، أما على التغيير الذى أحدثته فالمعنى يستقيم على ما تريده الكاتبة.
وثم شىء آخر، فأنا مع الكاتبة فى أن كثيرا من المسلمين يهملون الباطن فى العبادات لحساب الظاهر والشكليات الخارجية، ويظنون أنهم متى ما أتوا بالعبادة على النحو الذى حدده الفقهاء حتى لو لم تكن قلوبهم حاضرة واعية مخبتة فقد حازوا الرضا والقبول. لكن ليس معنى هذا أن نتمرد على الشكل العبادى على هذا النحو، إذ هو امتحان لمدى انصياع العبد لأمر ربه. والمواطن الصالح يطيع الحكومات فيما تسنه من قوانين، أفلا نطيع الله فيما يضعه لنا من شعائر؟ ثم إننا لو فتحنا هذا الباب وتركنا كل شخص يعترض على هذا الجانب أو ذاك من العبادة أو يستنكر هذه العبادة ذاتها أو تلك لما تبقى فى النهاية شىء من الإسلام يمكن أن يوحد بيننا ويلم شتاتنا ويجعل منا كيانا واحدا نواجه به الحياة وصعوباتها، والأعداء ومؤامراتهم، والطموحات وما تتطلبه من إنجازات تقتضينا التعاون وتوزيع الجهود وتقسيم التخصصات... وما إلى ذلك مما يستوجب أن يكون لنا كيان واحد.
كذلك يكثر عند كاتبتنا وضع الهمزة المكسورة فى أول الكلمة فوق الألف لا تحتها. ولا أدرى كيف تقع روائية بارعة مثلها فى مثل هذا الغلط، وبخاصة إذا عرفنا أنها متخصصة فى اللغة العربية وآدابها. ومنه قولها (ص8): "بادلتْه الضحك وهى تقرص خده بلطف. أنه ابنها الذى لم يتخلق فى رحمها". وسأكتفى بهذا المثال، والرواية للأسف مفعمة بهذه الألفات. أما فى المثال التالى: "قال أحد الأطباء أن هناك أمل فى عودة بصرها" (ص94) فقد فُتِحَتْ همزة "إن" التى بعد القول، ويجب كسرها، زيادة على عدم نصب اسم "إن" المتأخر: "أمل". ويتصل بمسألة الهمزة تحويل همزة الوصل إلى همزة قطع كما فى قولها (ص25): "الإستقلالية" بدلا من "الاستقلالية" رغم أننا هنا أمام مصدر ماض سداسى، فالهمزة فى أوله همزة وصل مثلما يقول لنا الصرفيون، وتقوله من قبلهم لغتنا العزيزة، وما دور الصرفيين إلا أنهم لاحظوا وسجَّلوا وقعَّدوا. ومن ذلك "إدعاءا" (ص121)، إذ نحن إزاء مصدر فعل ماض خماسى، ولا بد أن تكون الهمزة التى فى أوله همزة وصل لا قطع. وعلاوة على ذلك لا ينبغى وضع ألف بعد الهمزة الأخيرة ذات الفتحتين لأنه ممنوع فى الإملاء العربى حصر تلك الهمزة بين ألفين. وقد تكرر إثباتها ألف تنوين بعد همزة مسبوقة فى "لقاءا" (ص55). ومن تحويل همزة الوصل إلى همزة قطع قولها (ص35): "إقترب" بهمزة تحت الألف الأولى من الفعل الماضى الخماسى، والمفروض محو هذه الهمزة. والطريف أنها قد كتبت هذا الفعل عقب ذلك مباشرة بدون إثبات الهمزة. وواضح أن المسألة لا تجرى على منطق واع. وبعد ذلك بثلاث صفحات نجد كلمة "الإثنين" بهمزة تحت الألف رغم أن الكلمة اسم من الأسماء العشرة التى تبدأ بهمزة وصل لا قطع، وهى "ابن واثنان واسم واست وامرؤ وايمن الله...". ويتصل بالهمزة أيضا كتابتها كلمة "مَلْء" هكذا: "ملىء" (ص20)، وكتابة "تَوَاطُؤ" هكذا: "تواطئ" فى قولها (ص51): "فى تواطئ متفق عليه"، والكلمة على هذا النحو تُنْطق: "تَوَاطِئ" بكسر الطاء لا بضمها. ولدينا أيضا "وأنتهى أمره" (ص76) حيث تحولت همزة الوصل إلى همزة قطع، ثم زاد الطين بلة بوضع الهمزة فوق الألف لا تحتها.
وهناك أيضا وضع الزاى مكان الذال كقولها (ص25): "تبحث عن المزيد من الخبرات لإزكاء تطلعاتها". و"الإذكاء" هو الإشعال والتحريك، وهو المراد هنا: على سبيل المجاز طبعا. صحيح أن عندنا "أزكى فلان ماله"، أى نماه وكثَّره، لكن ليس هذا هو المقصود بل المقصود هو إضافة مزيد من الوقود حتى يشتعل الطموح ويتوهج. ومع هذا فإذا أصرت الكاتبة على ذلك الاستعمال فلها ذلك، لكنه سيكون غريبا على الأذن والذهن. أما إذا قالت إنها تختط طريقا جديدا فى التعبير يناسب الحديث عن بطلتها المتمردة على كل ما حولها فلسوف أسكت رغم أنى يغلب على ذهنى أنها رمية من غير رام وليست تمردا فى استعمال اللغة ولا يحزنون، بل جاءت هكذا والسلام. وعلى كل حال فلست أذكر أنى قد قابلت استعمال الزاى هنا من قبل. أنا لا أريد إظهار التشدد بل أحب أن تخلو تلك الرواية الرائعة من هذه الأشياء حتى تتبوأ المكانة التى تستحقها عن جدارة دون أن نسمع تعقيبا يقول مثلا: يا خسارة! كيف تتضمن مثل تلك الرواية الرائعة هذه الهفوات؟ صدق المثل: الحلو لا يكمل. لكن من قال إن الحلو لا يكمل؟ وحتى لو لم يكمل فلماذا يكون فيه هذا العيب القادح؟ إن العيوب درجات، وكلنا نخطئ فى اللغة، ولكنْ فرقٌ بين خطإ وخطإ. وهناك هذا المثال أيضا (ص44): "وهل الخيال سوى بهارات تزكي حالة شوق وجوع متأجج؟". والبهارات تجرى الريق وتشعل الجوع إشعالا.
وهناك ما أُطْلِقُ عليه مزاحا بل تهكما: "الواو اللعينة"، وهى الواو التى تفصل بين المنعوت والاسم الموصول الناعت كقول المؤلفة (ص25): "عشرات من قوانين بنات العائلات المحترمة والتى كانت تخاف خرقها أصبحت تضحكها لغباوتها"، إذ كيف نفصل بين النعت والمنعوت بواو؟ نحن هنا أمام نعت لا عطف. وإذا أردنا أن نعطف نعتا فأين النعت الآخر المعطوف عليه؟ ومثلها قولها (ص66): "مِنْ أَلَمِ زواجها به والذى لم يستمر سوى بضعة أعوام". ومنها "حافلات النقل الجماعى والتى تسير بتأن فى طرقات ملتوية وجبلية" (ص91). ومنها كذلك "الأستاذة فتحية والتى كسرت حاجز "المرأة للبيت فقط"..." (ص99). وهذه الواو قد انتشرت فى كتابات العقود الأخيرة كالنار فى الهشيم، ونجدها كثيرا فى كتابات طلاب الماجستير والدكتوراه وننبههم إليها، ولكن لا حياة لمن تنادى.
وثم تركيب غريب شاع وانتشر فى العقد الأخير على الأقل حسبما لاحظت، وهو استعمال "هكذا" على النحو الموجود فى الجملة التالية: "منذمتىبناتالعائلاتالمحترمةتعملفي هكذاأماكن؟" (ص21). وكنا طوال عمرنا نقرؤها ونكتبها هكذا: "فى أماكن كهذه"، وليس "فى هكذا أماكن". وأغلب الظن أنها متابعة حرفية ببغاوية قرودية للأسلوب الإنجليزى، الذى يقول: "such places" بتقديم "such" على "places". ولكن من قال إن ما يصلح فى لغة من اللغات يصلح فى غيرها من اللغات بالضرورة؟ إن الصفات عند الإنجليز تتقدم على الموصوف بينما فى لغة القرآن يتقدم الموصوف على صفته. وشبه الجملة: "كهذه" هو صفة لـ"أماكن"، فيجب إذن أن يليها لا أن يسبقها. كما أنه لا يصح دخول حرف الجر على جار ومجرور. وحرف الجر هنا هو "فى"، والجار والمجرور هو "هكذا". ولعل الخطأ قد اتضح الآن سببه، فنرجو تجنب مثل ذلك التركيب من الآن فصاعدا. وقد تكرر هذا التركيب فى قول البطلة: "كانت مدينته الريفية تكتظ بهكذا فتيات خجولات" (ص26). وصوابها حسبما شرحنا ووضحنا: "كانت مدينته الريفية تكتظ بفتيات خجولات كهؤلاء". أما المعنى فى الجملتين المذكورتين بناء على التركيب الذى اتبتعه روائيتنا فهو " تعمل فى عَلَى هذا النحو أماكن"، "مدينته الريفية تكتظ بعَلَى هذا النحو فتيات"، وليس هذا بعربى أبدا.
وهناك، إلى جانب ما مر، الإعرابات الخاطئة كقول بطلة الرواية (ص10) على لسان ابن أخيها الصغير: "تتحدثينياعمتيوكأنكهنامنذأعواموليسأيامفقط". والمفروض حسب كلام النحاة نصب "أيام" لأنها خبر "ليس" على تقدير "منذ أعوام وليس الأمر أياما فقط". ومع هذا فلا أكتمكم أننى أريد أن أتعاطف مع كاتبتنا صاحبة هذه الرواية الرائعة، ولهذا أتساءل: ألا يمكن أن يكون تقدير الكلام على النحو التالى: "منذ أعوام وليس منذ أيام" مع حذف "منذ". لكنى أعود فأرد على نفسى قائلا: إن هذا الحذف يجوز لو كانت "ليس" حرف عطف. وهنا أصل إلى سر هذا الإعراب الذى انتهجته الأستاذة، إذ نظرتْ إلى "وليس" على أنها حرف عطف مثل "لا"، فالمعنى واحد، وموضع كلتيهما من الجملة واحد، وما دمنا نقول: "منذ أعوام لا أيام" فلم لا نقول: "منذ أعوام وليس أيام"؟ وقد كانت تستطيع أن تخرج من هذا الأخذ والرد لو أنها قالت مثلا: "منذ أعوام وليس منذ أيام".
ومن ذلك النوع من الإعراب قول بطلة الرواية عن نفسها وأختيها: "يفصلهاعنالسابقتينولدينهما أحمدومحمد" (ص11) بنصب "ولدين" رغم أنهما الفاعل، فحقهما الرفع: "ولدان". ومنه أيضا الجملة التالية: "لكنارتباطها الروحيكانمع أخاهاالأكبرخطَّاب" (ص12) بنصب "أخاها" رغم كونه مضافا إليه، ومن ثم ينبغى أن يكون مجرورا: "مع أخيها". نعم، نعلم أن هناك لغة قبلية قديمة كانت تعرب الأسماء الستة فى جميع الحالات بالألف، لكن ذلك باد وانتهى وصار ذكرى وتاريخا يدرس للعلم به فقط لا للسير على منواله. وفى نفس الصفحة نقرأ "كانهناكفصلا بينعالمالبناتوعالمالنساءيجبألاتتعداه"، وصوابها "فصل" :اسم "كان" متأخر، وأسماء "كان" حقها الرفع لا النصب، ولا يوجد وجه للنصب بأى حال. ومنها كذلك تشديد ياء المثنى: "خَدَّىّ" فى قول البطلة (ص16): "تُقَبّلخديّهذا الأب"، وهو خطأ شائع بين الشبان بالذات، ولست أدرى ما السبب فى هذا. وصحته "تقبّل خَدَّىْ هذا الأب" بتسكين الياء لا بتشديدها: هكذا بكل بساطة.
ومن الإعرابات الخاطئة كذلك قولها (ص63): "يعجز باذخ العشق عن شراؤه" مع أن "عن" تجر جبلا كاملا، فكان يجب أن يقال: "عن شرائه" بكسر الهمزة لا بضمها. وهناك أيضا قولها (ص73): "ما أكثر المصادفات التى يلتقى فيها الأشخاص ذوى الاهتمام الواحد"، وصوابه "ذوو الاهتمام" لأنه نعت لـ"أشخاص"، والأشخاص فاعل، والفاعل مرفوع، فمنعوته بدوره مرفوع. ومن هذا الباب أيضا "كل شيء كان معلق بخيط رفيع للوهم"، والصواب "كان معلقا" كما هو واضح. وهذا مثال آخر على هذا الغلط:"حتى حماستها لإنجازات الدار كانت واجب تخلص له ويجب عليها أداءه" (ص93) حيث لم يُنْصَب "واجب" رغم أنه خبر "كانت"، ونُصِب "أداءه" رغم أنه فاعل لـ"يجب". ومثلها "حَسْبَ أهواءهم" بنصب "أهواءهم" (ص103) بدلا من جرها لأنها مضاف إليه. وعندنا أيضا "فى خطّ موازى" (ص104)، والصحيح حذف الياء الأخيرة فى "موازى" والتعويض عنها بكسرتين تحت الزاى. ومثلها "مصلٌ واقى" (ص116)، وصحتها "واق". أما فى "صار جوفها خاوى" فثم خطآن: الخطأ السابق وعدم نصب خبر "صار"، وكان ينبغى أن يكون "وصار جوفها خاويا" (ص53). وعندنا كذلك "قومى بوداعه كما كنتِ تتمنى لقائه الذى ربما لن يأتى" (ص54) و"حين يكبروا أو عندما يولدوا" (ص121) و"أصبحتِ كما تتمنى" (ص129) و"ماذا تصنعى من أجلهم؟" (ص131) بحذف نون الوقاية من "تتمنَّىْ ويكبروا ويولدوا وتتمنى وتصنعى" رغم أن المضارع هنا غير منصوب ولا مجزوم. صحيح أنه كانت هناك لهجات عربية قديمة تحذف هذه النون من أواخر الأفعال الخمسة بصفة مطردة، بيد أن ذلك قد انتهى وصار فى خبر "كان"، وأجمع النحو منذ زمن طويل على تجاهل تلك اللهجة القبلية والالتزام بإثبات تلك النون فى حالات الرفع، وهو ما لا أظن الكاتبة تعرف سواه حسبما درستْ فى كتب القواعد طَوَال تعليمها الابتدائى والإعدادى والثانوى، ثم تعليمها الجامعى الذى تخصصت فيه فى دراسة تلك القواعد، وهذه حكاية وحدها. وبطبيعة الحال قد لاحظ القارئ خفضها "لقائه" رغم أنه مفعول به منصوب. والطريف أنها أثبتت نون الرفع فى فعل من الأفعال الخمسة رغم أنه منصوب: "كى تعيشين حياة أفضل" (ص130)، فكأنها تخالف القاعدة والسلام، ولا يهم شىء آخر. كذلك لدينا "خمسة عشرة سنة" (ص123)، وكان ينبغى أن تكون "خمس عشرة سنة" أو "خمسة عشر عاما" أما "خمسة عشرة سنة" فلا. وبعد ذلك بصفحتين نجد الكاتبة تستخدم نفس الصيغة العددية مع "عام": "خمسة عشرة عاما". وإلى جانب هذا رأيتها تنون أحيانا الأسماء الممنوعة من الصرف كقولها مثلا (ص54): "بكبرياءٍ مشروخة"، و"عاشت تفاصيلًا". ومن هذا أيضا قولها: "فقد يكون أصمًّا" بدلا من "أصمَّ". وقد تكرر فى الرواية إضافة أداة الاستثناء:"سوى" إلى جار ومجرور كقولنا مثلا: "خلافها لم يكن سوى مع نفسها" (ص114). وهذا خطأ، إذ إن "سوى" اسم مضاف، ولا يصح الإضافة إلى شبه جملة، بل ينبغى استعمال "إلا" فى هذا السياق، فنقول: "خلافها لم يكن إلا مع نفسها". ومثلها بنفس الصفحة: "لا تستطيع مشاركة هذا الزوج سوى بهذا الجسد فقط". وهى بالمناسبة تستخدم "سوى" كثيرا، وفى موضعها السليم.
وهذه الغلطات كلها، كما نرى، أشياء لا يحتاج الصواب فيها ذكاء خاصا، وكل ما هنالك أنها بحاجة إلى بذل بعض العناية لضبط نحوها وصرفها، وهى كفيلة بأن تتخلص سريعا من كل تلك الهنات لو وجهت اهتمامها إلى ذلك.
هذا عن النحو: تراكيب وإعرابا. لكن للغة جوانب أخرى منها مثلا أن روائيتنا تحرص على كتابة حوار شخصياتها بالفصحى. وهذا أمر يُذْكَر لها ويُشْكَر ويُقَدَّر. ولا ريب أنها لو كانت قد كتبت حوار روايتها بالعامية (اليمنيةطبعا) ما فهم العبد لله منها شيئا. ونحن من جهة أخرى حِرَاصٌ على الوحدة العربية، التى لا يمكن أن تقوم ما لم تجمعنا لغة واحدة وإن اختلفت اللهجات من قطر إلى آخر بل فى داخل القطر الواحد من منطقة لأخرى. وفصحاها واضحة مشرقة لفظا وتركيبا رغم ما قلناه عن أخطائها النحوية والصرفية، وإن كانت حتى فى هذه المسألة أقل عيبا وأخف ذنبا من كثيرين وكثيرات غيرها، فهناك من الكتاب والقصاصين من يكتب لا بقلم بل بفأس لا يبالى أين وقع سلاحها ولا ماذا أصاب، أما هى فإن كانت تقع بين الحين والحين فى خطإ من تلك الأخطاء ففى أسلوبها كثير من الصواب، علاوة على سلاسة لغتها وانسيابيتها بوجه عام كما ذكرت قبلا.
وهذه السلاسة لها وجهان: وجه معجمى يتمثل فى الألفاظ وصيغها. ومعجمها واضح مشرق لا حوشية فيه ولا غموض ولا شذوذ ولا تنافر. وهذا من سمات الفصاحة. ولم آخذ عليها هنا إلا استعمالها لكلمة "يتحسنون عليها" بدلا من "يحسنون" حسبما تقدم. ولكن هناك لفظة واحدة لا أطيقها قد استعملتها مرتين، وهى لفظة "التشظى". وسر نفورى منها انتشارها كنُقَر الجدرى فى كتابات الشبان الحداثيين متصورين أنهم أتوا بالذئب من ذيله، فهم يرددونها كثيرا وبدون مناسبة لا لشىء إلا لأن الكتاب الغربيين يستعملونها كثيرا للدلالة على ما يزعمون أنهم قد لاحظوه بآخرة فى العالم وفى علاقات البشر من تشظّ، وكأن الدنيا من قبل كانت فى غاية الانسجام، والعلاقات البشرية كانت فى منتهى الإحكام، مع أن الدنيا وعلاقات البشر منذ خلق الله الدنيا وجَبَل البشر فيها تشظّ وتمزق، وفيها تماسك وتلاحم معا. ولو كانت الدنيا كلها تشظيا فكيف تمضى الحياة بالناس وهم ممزقون لا تصل أحدهم بالآخر أية وشيجة؟ ثم لماذا "تَشَظّ" بالذات؟ يا أخى منك له له؟ قولوا: تمزق. قولوا: تقطع. قولوا: انفصام. قولوا: انقسام. لكن بالله عليكم دعوكم من "تشظ" هذه التى تصيب يافوخى بالتشظى كلما سمعتها.
وأذكر أن شابا من شبان الباحثين فى مرحلة الدكتوراه كنا نناقشه عندنا فى الجامعة منذ نحو عامين، وكان يستخدم هذه الكلمة ومشتقاتها استخداما مفرطا مزعجا وبلا أدنى سبب سوى تصوره أنه بهذا الإفراط قد صار حداثيا مع أن كل ما كتبه لا يدل إلا على البيئة المتخلفة التى نننتمى نحن جميعا إليها سواء منا من كان رجعيا متخلفا مثلى أو تقدميا أشد تخلفا مثله حتى لقد قلت له منزعجا ولكن مداعبا، وموجها ناصحا متفكها: لقد أصبتنى يا بُنَىَّ بتشظٍّ فى يافوخى، ولم أعد صالحا لشىء. وكله بسببك. منك لله!
ومن الألفاظ التى تتردد بنفسها أو بمشتقاتها فى الرواية "الوَشْم، والكيمياء، والسِّرّ، والصَّعْق، والسِّحْر، والشوق، والحنين، والفَقْد، والحرمان، واليأس، والإحباط، والحزن، والبكاء، والخوف، والألم، والمرارة، والهجر، والصبر، والمعاناة، والجنون، والانتظار، والصدمة، والأنثى، والرجل، والجنس، والجسد، والروح، والعناد، والرفض، والقَدَر، والأزل، والعنوسة، والتعنت، والذكريات، والأحلام، والشقوق، والأوجاع، والدموع، والمخاوف، والشيفرة/ الشفرة (وأنا أفضل "الشَفْرة" لأنها تجرى على وزن صرفى عربى بخلاف "شِيفْرة"، علاوة على أن كلمة "شفرة" موجودة فى لغة الضاد من قديم الزمان، وكل ما هنالك أنها ستأخذ معنى جديدا إلى جانب معناها الأصلى. وهى محرفة عن "صِفْر"، ويكتبها الإنجليز "cipher"، والفرنسيون "chiffre"، فنعربها نحن بـ"شفرة" لتبتعد عن أصلها العربى كما ترون).
والوجه الثانى لهذه السلاسة جانب التراكيب، وهو ما يتكفل به قسم "المعانى" من علم البلاغة، الذى يهتم بالإيجاز والإطناب، وبالوصل والفصل، وبالحذف والذكر، وبالإطناب والإيجاز، وبالتقديم والتأخير. وأكرر أن المؤلفة فى هذا الجانب موفقة إلى حد لا بأس به، ومن ثم كانت عباراتها وجملها بوجه عام لا تعانى ترهلا أو تفككا أو ركاكة، فلا تحس عادة أنها حذفت ما كان ينبغى ذكره أو قدمت ما كان حقه التأخير أو وصلت ما كان لا بد من فصله... وهلم جرا. وساعدها على ذلك أن تراكيبها بسيطة، وجملها عادة قصيرة مباشرة، ومعجمها اللغوى محدود.
وأما البديع فلم أتنبه إلى أنى رأيت لها شيئا منه فى الرواية. فإن كان قد وقع منها سجع أو جناس أو طباق دون أن ألحظ فلا أظنه كان عن وعى منها بله أن يكون عن قصد وعزيمة. وأما الصُّوَر البيانية فحَدِّثْ ولا حرج. إنها راسمة صور بامتياز حتى ليخيل لى أنها لا تستطيع أن تكتب بأسلوبنا الاعتيادى. وتمتاز صورها بالطرافة وتنكب الطرق المعتادة. وهذا تيار يشيع بين طائفة من كتاب وكاتبات العقود الأخيرة فى الأدب العربى. وقد وفقت كاتبتنا فى هذا المجال إلى حد معقول، إذ لا يبدو على صورها التكلف المرذول كما هو الحال عند بعض أصحاب هذا اللون من التصوير من الكتاب، فهذه الصور تشعّ حرارة وشجنا جراء السياق الذى وردت فيه. وإذا كان الشىء بالشىء يذكر فقد كان المرحوم محمد عبد الحليم عبد الله فى قصصه ورواياته مغرما بالتعبير بالصور عما يعبر عنه غيره بالأسلوب المجرد المباشر، وبخاصة التشبيه، وهو ما انتقده عليه ظلما وسخفا بعض النقاد. كذلك كان أنيس منصور يؤثر التعبير التصويرى بدلا من التعبير الحقيقى فى كثير من الأحيان، وبخاصة فى السياقات الساخرة.
وهذه أمثلة من روايتنا اليمنية على تلك الصور: "لم يكن رجلا فحسب, لقد كان زلزالاً بـأعلى درجـات مقيـاس رخـتر" (ص25، والكلام عن رؤيتها لحازم أول مرة)، "نظرات العيون التي تتحدث بلغة فـصحى لا تحتـاج لمراجعـة لغويـة أو تفسير أو هوامش" (ص28)، "ما كانت لتقدر على هدر سمعتها أثناء العمـل بحـديث جـانبي معـه أو لقاء خاطف, وما كان هو ليفعل, لكنها تحمَّص بنار حب وشوق تحت رماد الخوف من كلام الناس" (ص31)، "تركها تغوص أكثر في رمال تعلقها بـه" (ص54)، "خرجت تسحب كرامتها خلفها جثـة ثقيلـة تـستحق الـدفن، فقـد لفظت أنفاسها بين ذراعيه عشقا"، "كأنما النسيان يباع في متاجر فخمة يعجز باذخ العشق عن شراؤه، ويناله شحيح الحب هبةً وأعطية" (ص62)، "تنـصب الكمائـن لـذاكرتها في كـل شيء حولهـا: في صـدى ضـحكة اختبأت في ركنٍ ما في عقلها، أو رائحة علقت في أوردة القلـب فأسـكرته، في كلمة لم تعن له شيئا ونسجت من حروفها دثارا لبرد البعد والانتظار" (ص63)، "هل سأنسى وقع يديه وشفتيه على جسدي ووجهي? كيف فكت تلـك الأنامل الخبـيرة رمـوزه المختومـة بعذريـة القلـب، وعاثـت فيـه لـدقائق وأغلقته بعدها بشفرة سرية للأبد؟" (ص74)، "لقد أعلنت الحداد على قلبها مبكرا واختارت دفن حياتها حية وجعا من رجل, وأغلقت كل منافذ التفاهم مع قرارها" (ص114)، "الانتظار سيد النساء المطاع, يبيع أعمارهن للضياع بـسخاء مـن يملـك صوف قطيع كبير من الأغنام إذا لم يُعَرِّ أيامَهن من صوف الدفء ذبحهن بسكين اليأس"(ص116)، "قَطَّـب بـين عينيـه كمـن تلقـى صـفعة تنـشيط لذاكرته أفرزت كلمة واحدة: عفاف!" (ص125).