رواية "عودة الحشاشين"
لعبد الحميد السنبسى
بقلم إبراهيم عوض



قبل أى شىء سأترك للمؤلف تلخيص روايته بقلمه حسبما طلبت منه واستجاب مشكورا. قال: "طبعا أى رواية لا يمكن تلخيصها لأن الأحداث تفقد تأثيرها وحيويتها، لكن هذا ما استطعت عمله وأرجو أن يفى بالغرض: من قلب قلعة آلَمُـــــــــوت الغامضة المُتَرَبِّعَةِ على هامِ الجبال الشَّاهقة التى تخترقُ السُّحُبَ بحَوافِّها الْمُدَبَّبَةِ فى صحارَى بلاد فارس رصاصة محشوة حشيشًا، مغلفة بالأحاجى والأسرار انطلقت من القرن العاشر بتعاويذه وألغازه وغموضه عابرة فوق الهضابِ والوِهادِ، والسهول والأودية، مُخترقةً حُجُبَ الأزمنة والأمكنة لتستقر فى قلب القرن الحادى والعشرين متنكِّرةً بوسائله وتقنياته. أعظم وأدهى عقل إجرامى فى القرن العاشر، طبقت شهرته الآفاق وحجز لنفسه مكان مظلما فى زوايا التاريخ متربعا على قمة الدهاء الاجرامى فى عصره استعان به الخصوم السياسيون فى تصفية حساباتهم والتخلص من خصومهم، انبعث هذا العقل الجهنمى من جديد فى تلافيف القرن الحادى والعشرين ليصول ويجول مستفيدا من وسائل العصر الحديثة وعلوم الإدارة المحترفة فى تكوين هيكل دموى جديد قادر ومتمدد فى شرائح المجتمع يعمل على تقديم خدماته لخاصة الخاصة الذين لا يريدون التعامل مع العالم السفلى ولا أن تتلوث أناملهم الرقيقة بأقذاره وأوزاره ليقوم بدلا منهم بتنفيذ ما يرغبون وينفذ أهدافه الشخصية التى فى كل مرة تتقاطع بشكل غامض مع مصالحهم.
الرواية لها شقان: تاريخى وعصرى. والشخصية المحورية فيها هو الشيخ مسعود، وهو شخصية غامضة لا يُعْرَف من أين ظهر وما هى أهدافه، غير أنه يلبى حاجة فى المجتمع يسعى إليها بشغف الفاسدون والخارجون على القانون من علية القوم دون أن يلوثوا أيديهم بالفعل المباشر. وهذا الشيخ فى حقيقته ليس شيخا، وإنما من خلفية أخرى. وقد حصل على بعض المعلومات الدينية وحفظ بعضا من المصطلحات يستخدمها بذكاء فى أحاديثه لكى يستدر تعاطف السامعين.
وهذا الشيخ له خلفية مجهولة للعامة، لكنه تتبع أثر جده الاكبر عبر القرون السحيقة ووجد أنه ينتمى إلى الشيخ الحسن الصباح صاحب ومؤسس "طائفة الحشاشين" المشهورة بالاغتيالات السياسية والفكر الباطنى التى كان مقرها فى قلعة منيعة فى جبال بلاد فارس اسمها قلعة "آلموت أو ألاموت". وقام الشيخ مسعود بتطوير تلك الوسائل مستفيدا من ظروف وإمكانات العصر الحديث، وقام ببعث تلك الطائفة من جديد فى ثوب عصرى. الاختلاف فقط فى أنه ليست لديه أيديولوجية أو أية أفكار ثورية يحاول نشرها، وإنما جهاز خدمى يسعى فقط من أجل المال والنفوذ. وكان بارعا فى علوم الإدارة الحديثة. وهو موسوعى الثقافة واسع الحيلة تخدمه شبكة معقدة من العلاقات والمصالح فى قمة وقاع المجتمع على حد سواء. وقد استغل ثقافته ودهاءه فى الشر، وأفاد من المتناقضات الموجودة فى المجتمع ووظفها لصالحه. لكن الرياح لا تجرى دوما بما تشتهى السفن، فقد حدثت ثغرات جمة فى نظامه أدت إلى عواقب لم تكن فى حسبانه".
هذا ما كتبه المؤلف تعريقا بروايته وتلخيصا لها. ولكى يتضح ما قاله عن الحسن الصباح ها هى ذى ترجمة الرجل استقيناها من موقع "المعرفة" المشباكى: فهو مؤسس مايعرف بـ"الحشاشين" حسب التسمية الأوروبية. وُلِد بالري عام 430 ه- 1037 م، وإن كان بعض المؤرخين قد ذكروا أنه ولد فى قم معقل الشيعة الاثنى عشرية ثم انتقلت عائلته إلى الرى، وهى مركز من مراكز نشاطات الطائفة الإسماعيلية، فاعتنق الطريقة الإسماعيلية الفاطمية وعمره 17 سنة، وقال فى مذكراته عن تلك الفترة: "ظللت حتى السابعة عشرة دارسًا وباحثًا فى المعرفة ولكنى ظللت على عقيدة أجدادى الاثنى عشرية. وذات يوم التقيت برجل يدعى: عميره زاراب كان من وقت لآخر يدعو إلى نظرية الخلفاء فى مصر... وكان عميره زاراب ذا شخصية قوية، وعندما ناقشنى لأول مرة قال إن الإسماعيلية يقولون كذا وكيت. وكان عميرة يقول لى: عندما تخلو إلى التأمل فى سريرك أثناء الليل سوف تعرف أن ما أقوله لك مقنع. وفى عام 471 هـ/1078 م ذهب إلى مصر فى زمن المستنصر بالله الفاطمى، وعاد بعد ذلك لينشر الدعوة فى فارس.
وقد استمر حسن فى قراءة كتب الإسماعيلية، وبعد ذلك لقى معلما إسماعيليا آخر، فلقنه التعاليم الإسماعيلية حتى اقتنع، ولم يبق أمامه سوى أداء يمين الولاء للإمام الفاطمى. لكنه أدى تلك اليمين أمام مبشر إسماعيلى نائب عن عبد الملك بن عطاش كبير الدعاة الإسماعيليين فى غرب إيران والعراق. وفى أوائل صيف 1072 وصل عبد الملك بن عطاش لمدينة الرى، فلقيه حسن الصباح، ثم وافق على انضمامه، وحدد له مهمة معينة فى الدعوة، وطلب منه السفر إلى مصر لكى يسجل اسمه فى بلاط الخليفة الفاطمى بالقاهرة.
وقد ترك حسن مدينة الرى سنة 1076 ورحل إلى أصفهان ثم اتجه صوب أذربيجان، ومنها عَرَّج على ميافارقين فبقى فيها إلى أن طرده قاضى المدينة بعدما أنكر حسن سلطة علماء السنة وأصر على أن الإمام وحده هو الذى لديه الحق فى تفسير الدين، فأكمل رحلته إلى فلسطين، ومن هناك رحل بحرا إلى مصر فى 19 صفر 471 هـ / 30 أغسطس 1078حيث بقى فيها نحو ثلاث سنوات. ويقال إنه اختلف مع أمير الجيوش بدر الدين الجمالي، فسجنه الجمالى ثم طرده من مصر على متن مركب للإفرنج إلى شمال أفريقيا. ومن هناك ظل ينتقل حتى وصل فارس، التى أخذ يتنقل فيها تسع سنوات حتى بدأ دعوته فى إقليم الديلم ومازندران. وكان يتفادى المدن فى تنقلاته ويفضل أن ينتقل عبر الصحراء حتى استقر فى دامغان وحوَّلها قاعدة له يبعث منها الدعاة إلى المناطق الجبلية لجذب السكان من هناك، واستمر بذلك لمدة 3 سنوات حتى انكشف أمره، وأَمَرَ الوزير نظام الملك باعتقاله، ولكنه أفلت وهرب إلى قزوين.
ولم يكن هم حسن الصباح فى تنقلاته نشر دعوته وكسب الأنصار فحسب، بل وكذلك العثور على مكان مناسب يحتمى به من مطاردة السلاجقة ويتخذه قاعدة لنشر دعاته وأفكاره، ولم يجد أفضل من قلعة أَلَمُوت المنيعة. فهى حصن قديم فوق صخرة عالية وسط الجبال على ارتفاع 2,100 متر، ولا يوصل إليها إلا بطريق واحد يلف على منحدر مصطنع يجعل غزوها عملا فى غاية الصعوبة والخطورة. وذكر ابن الأثير أن الحسن الصباح كان يطوف على الأقوام يضلهم، فلما رأى قلعة أَلَمُوت واختبر أهل تلك النواحى أقام عندهم وطمع فى إغوائهم ودعاهم فى السر وأظهر الزهد فتبعه أكثرهم. وكان العلوى صاحب القلعة قد أحسن الظن به فكان يجلس إليه للتبرك. فلما أحكم الحسن أمره دخل يومًا على العلوى بالقلعة قائلا: اخرج من هذه القلعة. فتبسم العلوى وظنه يمزح، فأمر ابن الصباح بعض أصحابه بإخراج العلوى، فأخرجوه إلى دامغان وأعطاه ماله وملك القلعة.
وقد بقى فيها إلى آخر حياته طوال 35 سنة كان يقضى جل وقته خلالها فى القراءة ومراسلة الدعاة وتجهيز الخطط. وكان همه كسب أنصار جدد والسيطرة على قلاع أخرى. لذلك استمر فى توجيه الدعاة إلى القرى المحيطة، وإرسال الجنود لأخذ القلاع عن طريق الخدع الدعائية، وإن فشلوا بذلك قتلوا الناس وارتكبوا المجازر. وقد استغل حسن الصباح تذمر الناس من السلاجقة واستغل كذلك ولاءهم للشيعة والإسماعيليين وسيطر على كثير من الأقاليم والقلاع. ويُذْكَر أن رجاله دعوا مؤذنًا من أهل ساوة كان مقيمًا بأصبهان فلم يجبهم إلى دعوتهم، فخافوا أن يشى بهم فقتلوه، فهو أول قتيل لهم. ولما بلغ خبره نظام الملك أمر بقتل القاتل، فقُتِل ومُثِّل به وسُحِل فى الأسواق، فهو أول قتيل من طائفة حسن الصباح.
وفى سنة 1092 بدأ السلاجقة فى مواجهة حسن الصباح عسكريا، فبعث سلطانهم ملكشاه حملتين: واحدة على قلعة ألموت، والثانية على قهستان، لكن عساكر الصباح تصدت للسلاجقة بمساعدة الاهالى المتعاطفين معهم، فانسحبت القوات من قهستان بعد وفاة السلطان ملكشاه سنة 1092. وبعدها أمر حسن الصباح باغتيال الوزير نظام الملك فى 16 ديسمبر 1092 (485 هـ) عن طريق فدائى متنكر فى زى رجل صوفى. وكانت هذه بداية لسلسلة طويلة من الاغتيالات استهدفت عددا من الملوك والأمراء وقادة الجيوش وعلماء الدين حتى احتل هولاكو قلعة ألموت عام 1256 وقضى على فتنتهم بالشرق بعدما استمرت نحو قرنين من الزمان. ووصف ابن الأثير حسن الصباح بأنه رجل حاد الذهن عالم بالهندسه والحساب والفلك والسحر. وقد توفى عام 518 هـ/1124 م فى قلعته.
هذا، وقد تمت مناقشة الرواية فى الندوة التى عقدت بصالون "سالمينا" بدار الفؤاد للنشر بمدينة نصر مساء الأحد الأول من مارس 2020م. وكان من بين المتحدثين فى الندوة المذكورة من يرى أن لغة الكاتب لغة قوية عالية، وهى فعلا كذلك فى بعض جوانبها، لكن لم يشر أى من المعلقين إلى أن فى الرواية ملاحظات نحوية وصرفية، اللهم إلا إشارة سريعة وعارضة وغير واضحة إلى ذلك، ومن دون ضرب أمثلة. وعلى الناحية الأخرى كان هناك انتقاد من بعضهم للغة الرواية لأنها تحتوى على مفردات صعبة لا يعرفها هذا الجيل، وكان رد المؤلف أنه لا يتعمد شيئا من هذا بل يَمْتَح مما فى ذهنه مما تحصَّل له من قراءاته المختلفة، فكأنه يقول: الجود من الموجود. وأنا لم أفعل شيئا سوى أن عرضت ما لدىَّ. وهذا كل ما هنالك. وكان واضحا أن من مدحوا لغة الرواية إنما قصدوا معجمها، فهم يرون أن حصالة الكاتب من الألفاظ غنية وتشتمل على كلمات قاموسية. ومعروف أن اللغة ليست معجما فحسب بل معجما وصرفا ونحوا وبلاغة وما إلى ذلك. وأنا لن أقف هنا عند ثروة الكاتب من الألفاظ، بل سأتناول النواحى الصرفية والإعرابية، وإن كان من الواجب المبادرة إلى القول بأن أسلوب الكاتب رغم هذه الملاحظات أسلوب قوى وسلس، فمعجمه اللفظى واسع بالقياس إلى كثيرين فى ظروفه، كما أن بناء جمله وفقراته بوجه عام بناء محكم متماسك. ولو عَرِىَ عن الملاحظات الإعرابية والصرفية التى أخذتها عليه لكان له شأن آخر.
وسوف أسوق طائفة من الملاحظات فى هذا الصدد يتبين منها أن ثمة ملاحظات إعرابية وصرفية غير قليلة تتضمنها الرواية رغم ما ذُكِر فى صفحة المرآة الخاصة بها من أنها قد تمت مراجعتها لغويا. وقد كنت قرأت للمؤلف كتابا آخر قبل روايته وألفيته فى ذلك الكتاب يبدى غيرته الشديدة على اللغة العربية ويشير إلى ما فى كتابات الكثيرين من المؤلفين الموجودين الآن على الساحة من أخطاء لغوية. وهذا ما أرى أنه ييسر علىَّ إيراد الملاحظات اللغوية التى وعدت بها قبيل قليل، فإننا هو وأنا نلتقى عند حب العربية والرغبة الصادقة فى صيانتها وتسديد أقلام من يكتبون بها. ولست بحاجة إلى القول بأن سوق تلك الملاحظات ليس من باب التعالم، فهى ملاحظات أولية فى الغالب درسناها فى مقتبل حياتنا التعليمية ونحن صبيان صغار ندرس فى المعهد الأحمدى بطنطا فى بداية ستينات القرىن الماضى، ومن ثم لا تدل على علم عميق، بل على مجرد الرغبة فى خدمة لغتنا وتنبيه الكتاب إلى أن اللغة هى أهم عنصر فى الإبداع الأدبى، ولا يصح من النقاد السكوت على ما يرونه تقصيرا فيها أو إهمالا لها.
كما أن العبد لله يؤمن إيمانا شديدا أن العربية ليست من الصعوبة كما يظن الطلاب خطأً بما فيهم طلاب أقسام اللغة العربية فى الكليات المختلفة على امتداد العالم العربى كله. وفوق هذا فإن انشغالى بإيراد تلك الملاحظات يسوقنى من حيث أريد أو لا أريد إلى مراجعة كثير من دقائق النحو والصرف التى قد تكون شحبت فى ذهنى مع السنين، فتنشط مرة أخرى وأخرج من الأمر وقد استفدت استفادة عظيمة قبل استفادة من أكتب عنه وعن عمله الأدبى. ومن هنا أرى أن كتابتى فى موضوع تصويب الأخطاء وما يجر إليه من مناقشات من شأنه إزالة الرهبة من قواعد اللغة العربية وتحبيبها إلى الطلاب والكتاب جميعا، وأنا أولهم. ومما استفاده العبد لله من هذا النشاط التصويبى أننى صرت أميل إلى التيسير فى أمر اللغة مثلما أميل إلى التيسير فى أمور الدين مع التركيز الشديد على الجوانب الحضارية فى الإسلام من علم وعمل وإتقان ونظام ونظافة وإبداع وتعاون وانشغال بمعالى الأمور لا بسطحياتها وشكلياتها التى يغرم بها كثير جدا من المتدينين ويرون أنها غاية المراد من رب العباد مما تكون نتيجته أن المسلمين لا يتقدمون ويظلون يراوحون أماكنهم بل يتقهقرون فى كثير من الأحيان إلى الخلف وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا.
وأول ما أقف عنده هو ضبط مؤلفنا لسين "سِحْنة" فى أول صفحة من العمل بالكسر، وقد تكررت فى الصفحة الثامنة بعد الستين، وفى الصفحة الرابعة بعد المائة. وقد كنت فى شبابى أكسر السين أنا أيضا كما يكسرها الناس جميعا آنذاك، ثم فوجئت أن المعاجم تنص على فتحها، فصرت أفتحها. وحين رأيتها فى الرواية مكسورة وضعت علامة عندها وأثبتُّ ما أعرف أنه هو الصواب. لكنى قبل أن أثبت هذه الملاحظة هنا رأيت أن أرجع مرة أخرى إلى المعاجم، فلعلنى نسيت والتاث الأمر علىَّ، أو لعل هناك معجما أو أكثر يجيز الكسر وأنا لا أعرف، وهو ما وجدته فعلا، إذ فى بعض المعاجم الحديثة المتساهلة، أو فلنقل: التى تميل إلى التيسير ولا تقف باللغة عند ما تقوله المعاجم أو الشواهد القديمة، أنها بالفتح والكسر جميعا. ولهذا لن أقول إنها خطأ بل سأضع شريط سيلوتيب على فمى وأسكت. وأنا كثيرا ما أضبط فاء "فقرة" عند اشتراكى فى مناقشة رسالة جامعية بالكسر والفتح جميعا، معقبا بأننى أرى أن كلا الضبطين صحيح. فلتكن هذه مثل تلك.
ومن الصرف أيضا أن الكاتب يفتح الميم الأولى من "مَجْمَرة" (ص15)، وهذا استعمال عامى، أما الاستعمال الفصيح فبكسر هذه الميم لأن الكلمة اسم آلة، وأسماء الآلة التى على وزن "مفعلة" تكسر ميمها الأولى إلا فى بعض الأمثلة الشاذة مثل "مُكْحُلة". أما فى العامية فنفتحها عادة ونقول: "مَكْنَسة، مَقَشَّة، مَطْحَنة، مَعْجَنة، مَنْقَلة، مَحْفَضة، مَقْلَمة، مَفْرَمة، مَسْطَرة، مَبْخَرة، مَنْجَلة، مَبْوَلة، مَزْوَلة، مَنْشَفة، مَلْطَشة...". أى أن المؤلف قد تنكب الفصيح لحساب العامى. ولا أقصد بهذا أنه تعمد ذلك أبدا، بل جرى على ما انطبع فى ذهنه أنه هو الصواب.
ومن هذا الوادى ضم ياء "يُشْفِى" فى قوله: "يُشْفِى غُلَّتَه" (ص27)، والمقصود إذهاب الغلة كأنها مرض وعُولِج وتم الشفاء منه. والفعل الدال على الشفاء ثلاثى مجرد: "شَفَى، يَشْفِى، اِشْفِ"، واسم الفاعل "الشافى". أما على كلام المؤلف فالفعل هو "أَشْفَى يُشْفِى". ونقول فى اسم الفاعل: "فلان مُشْفٍ على كذا" أى قارب أن يقع منه أو له كذا. نقول مثلا: "أشفى فلان على الهلاك"، أى قارب أن يهلك. وليس هذا هو ما يقصده الكاتب. وإذن فـ"شَفَى" غير "أَشْفَى". ومن ثم فالصواب هو فتح ياء "يَشْفِى" لا ضمها.
ومن هذا أيضا ضم القاف والميم من "قرمزى" (ص28) كما ينطقها معظم الناس. وقد كنت درجت على هذا طوال صباى وشبابى حتى ذهبت إلى بريطانيا، وهناك صرت لأسباب لا أتذكرها الآن أقرأ كثيرا فى الكتاب المقدس، فلاحظت أن مترجميه يضبطون الكلمة بكسر القاف والميم لا بضمهما. وظننت فى البداية أن الأمر ربما يكون خطأ، فعدت إلى المعاجم أستشيرها، فقالت المعاجم لى إن الصواب هو الكسر لا الضم. ومن يومها وأنا أكسر ولا أضم. وهذه فرصة أوضح فيها الصواب حتى لا أكون ممن يكتم علما علمه الله إياه. والكلمة نسبة إلى "قِرْمِز"، و"القِرْمِزُ: صِبْغٌ لونُهُ أحمرُ قانٍ يقال إنه عصير نوع من الديدان الصخرية" كما جاء فى المعاجم.
ومن ذلك كذلك ضبط المؤلف كلمة "رَتْل" (ص29) بتسكين التاء، و"الرَّتَلُ: جماعةُ من الخيل أو السيارات يتبع بعضها أثر بعضَ". وهو، كما ترى، بفتح التاء لا بتسكينها. وقد كنت أنا أيضا قبل ذلك أسكّنها، لكنى رأيتها منذ عدة سنين فى المعاجم وفى كتب الكتاب الكبار مفتوحة التاء، ومن يومها وأنا أفتح تاءها. وأحب للمؤلف فى طبعته القادمة أن يصححها ويفتح تاءها هو أيضا حتى أدعو له وأحس أن كلامى جاء بثمرة. ومن هذا أيضا تشكيل المؤلف كلمة "هرج" فى قوله: "ساد جو من الهَرَج والمزاح" (ص29) بفتح الراء، والمفروض بهذا المعنى تسكينها لا فتحها. وهذا ما جاء فى المعاجم: "هَرَجٌ: مصدر هَرِجَ. هَرِجَ الْبَعِيرُ: زَاغَ بَصَرُهُ وَانْقَطَعَ نَفَسُهُ مِنْ شِدَّةِ الْحَرِّ. وهَرِجَ الْوَلَدُ: تَوَالَتْ أَنْفَاسُهُ مِنَ الْعَيَاءِ أَوْ مِنْ شِدَّةِ الْحَرِّ أَو مِنَ الْمَشْى" . وليس هذا بطبيعة الحال هو المقصود هنا، بل المقصود "الهَرْجُ" بسكون الراء، وهو الفتنَةُ والاختلاط، أو الأصوات التى تحدثُ عند الاشتباك والقتال.
وفى قوله: "يُدْخِل فى رَوْعِهم أنه يعلم كل شىء" (ص51) نرى المؤلف يفتح الراء من "روع"، و"الرَّوْع" هو الفزع، وليس هذا هو المراد، بل المراد "الرُّوع" بضم الراء، أى يُدْخِل فى بالهم أو عقلهم مثلا أن الأمر كذا.
وفى المعاجم: فلان نازل بين ظَهْرَيْهم أو بين ظَهْرانَيْهِم (بفتح النون لا بكسرها) أو بين أَظْهُرِهم، أى َأقام بينهم على سبيل الاستظهار بهم والاستناد لهم، وزيدت فيه أَلف ونون مفتوحة تأْكيدا، ومعناه أَن ظَهْرًا منهم قدامه وظهرًا وراءه فهو مَكْنُوف من جانبيه إذا قيل: بين ظهرانيهم أو بين ظهريهم، ومن جوانبه إِذا قيل: بين أَظْهُرِهم. ثم كثر حتى استعمل فى الإِقامة بين القوم مطلقاً. وكل ما كان فى وسط شيء ومُعْظَمِه فهو بين ظَهْرَيْه وظَهْرانَيْه. هذا ما تقوله المعاجم، لكن المؤلف ترك الصوابات كلها وكسر النون فى "بين ظهرانِيهم" (ص53). وهذا التعبير، بغض النظر عن ضبط النون، هو من التعبيرات التى تدفع البعض إلى وصف لغة الرواية بالصعوبة واستعمال الألفاظ القاموسية، فلا أظن أحدا من كتاب أيامنا يمكن أن يستعمل مثل هذا التعبير، بل لا أظنه يعرفه أصلا.
وفى الصفحة الخامسة والستين نجد "قَشَعْريرة" بفتح القاف، والصواب بضمها، ونجد "رُدْهَة" بضم الراء، والصواب بفتحها. وقد تكرر ضم راء "ردهة" فى الصفحة الخامسة عشرة بعد المائة. ومثلها ضم عين "عنوة" (ص162)، وهى بالفتح لا بالضم. وفى الصفحة الرابعة والتسعين نجد "بَحْبُوحة" بفتح الباء الأولى، والصواب ضمها. وفى الصفحة الرابعة بعد المائة نجد "عُنْوَة" بفتح العين، والصواب فتحها. وفى الصفحة الرابعة والثمانين يقابلنا الفعل: "صَحِبَ" فى "صحبوا معهم عاداتهم الاجتماعية"، والصواب "اصطحبوا"، أى أخذوا معهم عاداتهم الاجتماعية. أما "صحبوا" فمعناها أنهم هم الذين ذهبوا مع عاداتهم الاجتماعية. وليس هذا هو المقصود، بل المقصود الاصطحاب.
وفى الصفحة الثامنة بعد المائة يستعمل المؤلف صيغة "أَفْعَلَ" من الفعل: "أَوَى" بدلا من "أَوَى" نفسها فى عبارة "آوَى الخدمُ إلى مخادعهم". والمفروض أن نقول: "أوى الخدم إلى مخادعهم". وإذا كان الشىء بالشىء يذكر فإنى لم أجد فى المعاجم أن "آوى" الثلاثى المزيد بهمزة يمكن أن يستعمل لازما بل متعديا فحسب. أقول هذا لأنى، فى تحليلى لرواية "دعاء الكروان" للدكتور طه حسين بكتابى: "فصول من النقد القصصى"، قد لاحظت أن كلمة "أَوَى" كثيرا ما تكتب فى كتب د. طه حسين بمَدَّة على الألف، ولا أدرى حتى الآن لماذا. فهو يقول مثلا: "آوَى الرجلُ إلى بيته"، بمعنى "لجأ إليه أو دخله"، بدلا من "أَوَى" كما ينبغى أن تكون صيغة الفعل الماضى فى هذا السياق. ترى هل كفر العبد لله حين لاحظ هذه الملاحظة؟ لكن اللجنة التى عهد إليها أن تقرأ أعمالى منذ أكثر من ثلاثين سنة كان لها رأى آخر، إذ خطأتنى أنا، ثم لم تكتف بهذا بل استشهدت بالقرآن على صواب استعمال الـمَدَّة بدل الفتحة هنا. وهذان هما الشاهدان اللذان خطأتنى بهما: "قال (أى ابن نوح): سآوِى إلى جبل يعصمنى من الماء"، "قال (أى لوط): لو أن لى بكم قوة أو آوِى إلى ركن شديد". وكان رأى اللجنة أن القرآن الكريم قد استعمل الـمَدَّة لا الفتحة على الهمزة كما هو الحال أمامنا. فماذا يريد "السيد الباحث" (الذى هو أنا) بعد هذا؟ وطبعا هذا كلام "فى البطيخ" أو "فى الهجايص" كما يقال فى مصر، بل هو فضيحة الفضائح، إذ الفعل هنا مضارع لا ماض، وماضى هذا المضارع هو "أَوَيْتُ"، أما الـمَدَّة فى الآيتين فسببها همزة المضارعة لا همزة التعدية، وهو ما يعضد ما قلت، إلا أن كلام اللجنة طبعا لا ينزل الأرض. ترى بالله عليك أيها القارئ الكريم ماذا يمكن أن يقال فى مثل هذا الكلام؟
وفى قول المؤلف (ص121): "كما يمرق السهم من الرَّمْيَة" كان ينبغى أن يكتب الكلمة الأخيرة: "الرَّمِيَّة"، أى الشىء الذى يُرْمَى بالسهم. فـ"الرَّمِيَّة" على وزن "فَعِيلَة" بمعنى "مفعولة". أما "الرَّمْيَة" فاسم مرة، أى مصدر يدل على أن الفعل وقع مرة واحدة، وليس هذا هو المراد، فالرَّمْى لا يمرق السهم منه بل من الشىء المرمىّ. والعبارة مأخوذة من حديث نبوى، فقد جاء فى "صحيح مسلم": "سَيَخْرُجُ فى آخِرِ الزَّمَانِ قَوْمٌ أَحْدَاثُ الأسْنَانِ، سُفَهَاءُ الأحْلَامِ يقولونَ مِن خَيْرِ قَوْلِ البَرِيَّةِ، يَقْرَأُونَ القُرْآنَ لا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كما يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ".
كذلك نرى المؤلف يكتب "سَيْماء" بفتح السين، والصواب كسرها سواء قلنا: "سِيمَاء أو سِيمَا أو سِيمَة"، وهى العلامة. وفى القرآن المجيد عن المؤمنين من أتباع محمد عليه الصلاة والسلام: "سِيمَاهم فى وجوههم من أثر السجود". وفى الحديث الشريف عن كيفية تعرُّف الرسول على أمته يوم القيامة: "لَكُمْ سِيمَا ليسَتْ لأَحَدٍ غيرِكُمْ: تَرِدُونَ عَلَى غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِن آثَارِ الوُضُوءِ". وعن عروة قال: "نزل جبريلُ عليه السلامُ يومَ بدرٍ على سِيمَا الزبيرِ وهو معتجرٌ بعمامةٍ صفراءَ".
هذا فى الصرف، أما فى النحو فنجد مثلا أن الكاتب (ص15) يثبت نون فعل مضارع من فئة الأفعال الخمسة رغم أنه منصوب: "توسط الشيخ ليقبلونه عضوا"، والمفروض أن تكون "ليقبلوه" بدون نون، إذ الأفعال الخمسة ترفع بإثبات النون الأخيرة فيها وتنصب وتجزم بإسقاطها كما هو معروف. ومن هذا الباب أيضا قول المؤلف على لسان أحد الأشخاص فى الرواية: "يا إخوانى، لا يدخل الجنة إلا من مات. أفَمِتُّمْ حتى تدخلونها؟" (ص146). والصواب هو "حتى تدخلوها". أما فى "قد يكونوا ملايين" (ص40) فالأمر على العكس من ذلك، إذ حُذِفَتْ نون الفعل دون ناصب أو جازم، وكان يجب إثباتها فيقال: "قد يكونون". ومثلها قول المؤلف فى نفس الصفحة: "البطش والقمع سوف يمنعانا من محاسبتهم"، والصواب "سوف يمنعاننا". ومثلها أيضا الجملة التالية: "بَسْط الأمن والسيطرة لا يكونا إلا عبر الطرق المروية بالدماء" (ص163) حيث حذفت النون من "يكونان" دون أن يكون ثمة ناصب أو جازم.
وقد كتب المؤلف (ص31): "حضر جميع الأطباء إلا هو". وطبقا لما هو معروف فى قواعد الاستثناء التى درسناها فإن الضمير المستثنى ينبغى أن يكون منصوبا فى هذا التركيب لأن الاستثناء فيه استثناء تام موجَب. بيد أنى وجدت حديثا للرسول عليه السلام يقول: "كل أمتى معافًى إلا المجاهرون"، والاستثناء فيه استثناء تام موجب أيضا، والضمير المستثنى مرفوع كما فى عبارة الكاتب بالضبط. وقد كنت حريا قبل عدة أعوام أن أخطِّئ الرفع، بيد أن هذا الحديث قد بعثنى على التفكير وإعادة النظر، ثم وجدت أن هناك شواهد أخرى غير ذلك الحديث الشريف يُرْفَع فيها المستثنى أيضا فى هذه الحالة، ومنها قوله تعالى فى إحدى القراءات: "فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُم" فى قراءة "قليلٌ" بالرفع، ومنها "تغيَّر المنزلُ إلا بابٌ"، ومنها قوله عليه السلام: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فعليه الجمعةُ إلا امرأةٌ أو مسافرٌ أو مريضٌ"، ومنها "فتفرقوا كلهم إلا قتادةُ"، ومنها البيت التالى:
وبالصريمة منهم منزلٌ خلقٌ = عافٍ تغيَّرَ إلا النُّؤْى والوتدُ
حسبما ورد فى "النحو الوافى" للمرحوم عباس حسن. وعلى هذا لا أرى موجبا لتخطئة ذلك الاستخدام ما دام هناك من كان يرفع المستثنى فى هذا التركيب.
أما فى "ليس لهذه الرسالة إلا معنى واحدًا" (ص47) فقد نصب كاتبنا المستثنى وصفته كما هو واضح، وكان يجب رفعهما لأن الاستثناء هنا استثناء مفرغ، إذ حُذِف المستثنى منه فى جملة منفية، وفى هذه الحالة يعرب المستثنى كما لو كانت "إلا" غير موجودة، ويكون الكلام هكذا: "ليس لهذه الرسالة إلا معنى واحدٌ" لأننا نقول عند حذف "إلا": "ليس لهذه الرسالة معنى واحدٌ" على أساس أن "معنى واحدٌ" هو اسم "ليس" المتأخِّر ونعته، فيرفعان. وقريب من هذا قول المؤلف: "ما هى إلا هرطقاتٍ ومزاعمَ" (ص163)، وصوابه: "ما هى إلا هرطقاتٌ ومزاعمُ" لأن الاستثناء هنا استثناء مفرغ، و"هرطقاتٌ" خبرٌ لـ"هى" مرفوع، و"مزاعم" معطوف عليه، ومن ثم فهو مرفوع مثله.
وجاء فى الرواية (ص32) العبارة التالية: "كان المريض من علية القوم وذو حيثية فى المجتمع" برفع "ذو" رغم أنها معطوفة على خبر "كان"، وهو شبه جملة "من علية القوم"، ومعروف أن خبر "كان" منصوب، وأن المعطوف على المنصوب ينصب مثله. ولا أدرى كيف فاتت هذه على كاتبنا، وهى من السهولة بمكان مكين.
وفى قوله: "دقات قلبه تتسارع وكأنها تسابق بعضها" (ص41) فإما أن يقال: "وكأنها تتسابق" وإما أن يقال: "وكأنها يسابق بعضها بعضا". وهذا التركيب العامى يقابلنا فى كتابات كثير من الأدباء هذه الأيام. وقد تكرر فى الرواية فى قول الكاتب: "فنحن نعرف بعضنا جيدا" (ص93)، وصوابه "يعرف بعضنا بعضا جيدا". وعندنا أيضا قول الكاتب: "بالرغم من أن رامى كان على شاكلة رئيسه فى العمل إلا أنه امتعض من الطريقة التى تعامل بها فهيم مع أهالى المخطوفين" (ص58). وهذا تركيب لا تقبله لغة الضاد، وصحته أن يقال: "برغم كذا فإنه امتعض/ فقد امتعض". وفى الصفحة الحادية والستين تقابلنا ثلاث غلطات نحوية. الأولى "واستهوت شخصية الحسن الصباح الشيخُ مسعودٍ"، وصوابها "استهوت شخصيةُ الحسنِ الصباحِ الشيخَ مسعودًا". ولست أحسبنى بحاجة إلى أن أشرح وجه الخطإ فى عبارة الرواية. والثانية "كان الشيخ صعب المراس ذو شخصية قوية وآسرة"، والصواب "ذا شخصية قوية" بنصب "ذا" لأنه خبر ثان لـ"كان". والثالثة "ولما يحين الحين لم تك تأخذه رأفة بأى هدف يقع فى مرماه". وصحة الكلام "وعندما يحين الحين..." لأن "لمّا" بمعنى "حين/ حينما/ عندما" لا تدخل على المضارع بل على الماضى، وأما إذا دخلت على المضارع فإنها تجزمه وتقلب معناه من الحاضر إلى الماضى المستمر. فحين نقول: "لما يقم سعيد من نومه" يكون معناه أنه لم يقم من نومه بعد.
وبعد ذلك بثمانى عشرة صفحة نفاجأ بنصب خبر "أنَّ": "يظنون أنهم بعيدين كل البعد عن تلك الأخلاق". صحيح أنه كانت هناك لغة قبلية فى القديم تنصب اسم "إن" وأخواتها وخبرها جميعا، لكن لم يعد ذلك مقبولا. ثم إن الكاتب لم يقصد ذلك البتة، فلا يُعْتَدّ إذن بذلك بل نَعُدّه خطأ، ونطالب بتصويبه. وعلى ذلك المنوال جرى الكاتب فى قوله: "بدا أن شوقى متحرجا" (ص128)، وكان ينبغى أن يقول: "بدا أن شوقى متحرجٌ". أما فى "ضَمِنَ أحدُ الأطراف إنهائها لمصلحته" (ص111) فقد جر المفعول به: "إنهائها" بدلا من نصبه: "إنهاءها". ويشبهها قوله فى الصفحة التالية: "أبيّن فيه سلبياتهم وأخطائهم" عوضا عن "وأخطاءهم" على النصب لأنه معطوف على "سلبياتهم" المفعول به. أما فى قوله: "عينان زرقاوان تشبهان عينا الصقر" فقد رفع المفعول به، وكان يجب أن يقول: "تشبهان عَيْنَىِ الصقر". ومرة أخرى كان من العرب القدماء من يعربون المثنى بالألف دائما فى كل الأحوال رفعا وجرا ونصبا. ومرة أخرى نقول إن ذلك صار فى خبر كان، ولم يعد مقبولا أن نستعمله. وأما فى النص التالى: "لا يَبِين العشبَ تحت أقدامهم" (ص174) فقد نصب الكاتب "العشب" رغم كونها فاعلا كما هو واضح تمام الوضوح.
وفى قول الكاتب: "فى كل مرة يواجه شوقى فهيما بما يصل إليه من معلومات إلا ويجد لدى فهيم الحجة الحاضرة والعذر الواضح" (ص130) يرتبك التركيب، وكان ينبغى أن يكون الكلام على النحو التالى: "ما من مرة يواجه شوقى فهيما بما يصل إليه من معلومات إلا ويجد لدى فهيم الحجة الحاضرة والعذر الواضح".
أما فى النص التالى فترتبك الضمائر ارتباكا واضحا: "كان محمود العزاوى ورجب اليتيم من الفتيان الذين كُلِّفوا بأعمال أخفقوا فيها، وتم التخلص منهما دون أن يتركوا خلفهم أثرا. ولم يدر أحد من بقية الفتيان ما الذى حدث لهما، فهم قد دخلا الغرفة السوداء، ولم يخرجا منها أبدا" (ص146). ولو أردنا أن نكتبها مستقيمة الضمائر لجاءت على هذا النحو: "كان محمود العزاوى ورجب اليتيم من الفتيان الذين كُلِّفوا بأعمال أخفقوا فيها، وتم التخلص منهما دون أن يتركا خلفهما أثرا. ولم يدر أحد من بقية الفتيان ما الذى حدث لهما، فهما قد دخلا الغرفة السوداء، ولم يخرجا منها قَطّ". ولعل القارئ قد لاحظ أننى قد غيرت "أبدا" فى آخر النص إلى "قط" لأنهم علمونا أن "قط" للماضى، و"أبدا" للحاضر، و"عَوْضُ" للمستقبل. وما زلت أحفظ البيت التالى من كتاب "شرح ابن عقيل":
أعوذ بربِّ العرش من فئةٍ بَغَتْ = عَلَىَّ، فما لى عَوْضُ إلاهُ ناصِرُ
وكان معنا زميل فلسطينى كان ينطق الجملة الأخيرة على النحو التالى: "فما لى عِوَضٌ إلاه ناصرُ". وعبثا كنت أشرح له أنها ليست من التعويض بل هى ظرف زمان مفتوح العين، ساكن الواو، مضموم الضاد، ومعناه "أبدا" للمستقبل.
ومن الملاحظات النحوية أيضا حذف حرف العلة الأخير من الفعل المضارع: "يدرى" فى الجملة التالية: "لم يكن يَدْرِ إلى أين يتوجه" (ص148) دون أن يكون هناك جازم، إذ لا يحذف مثل هذا الحرف إلا بسبب الجزم. وربما ظن الكاتب أن "لم"، التى تسبق "يكن" قد جزمت الفعلين المضارعين: "يكن" و"يدر" جميعا لا الفعل الأول فقط، وهو ما لا يمكن أن يكون. وقد تكرر هذا الحذف دون جازم، ومن نفس الفعل، فى الجملة التالية:"أتدرِ يا أبت؟".
هذا، وقد سبق جرجى زيدان عبد الحميد السنبسى بتاليف رواية عن فرقة الحشاشين فى بدايات ظهور صلاح الدين الأيوبى على مسرح السياسة واصطدامهم به، وهو ما دفعنى إلى الموازنة بين الروايتين ورصد وجوه الاتفاق والاختلاف بينهما سواء كانت هناك صلة تاريخية بين العملين أو لا، أى سواء كان السنبسى قد قرأ رواية زيدان وتأثر بها أو لم يفعل. والموازنات الأدبية مجال من مجالات النقد الأدبى. وإلى القارئ بيان ذلك:
فأما رواية زيدان فرواية تاريخية لأنها تتكلم عن الحشاشين الذين كان يسكنون قلعة أَلَمُوت ويحكمون المنطقة هناك، وأبطالها أبطال تاريخيون: صلاح الدين الأيوبى وعماد الدين وقراقوش والخليفة الفاطمى العاضد وأخته سيدة الملك، وحوادثها تاريخية. وأسماء الشخوص وأسماء المواضع التى تدور فيها الحوادث هى الأسماء الحقيقية لأولئك الشخوص وهذه الأماكن. وكان زيدان حريصا على إثبات أسماء شخوصه فى بداية الرواية، بل إنه قد بدأها بما يسميه: "فذلكة تاريخية" يلخص فيها أوضاع العصر وعلاقته بأحداث الرواية، ويمهد لوقائع روايته بحيث إن القارئ، بعد الإلمام بهذا التمهيد وبعد مطالعته قائمة أبطال الرواية، يجد نفسه فى قلب الرواية دون حاجة إلى إرهاق ذهن، وذلك على العكس من رواية السنبسى، فهى رواية عصرية، اللهم إلا الصفحات الأخيرة منها التى قفز فيها بغتة من الحاضر إلى الماضى فى عصر الحشاشين وتحدث عن زعيمهم. وفيما عدا هذه الصفحات القليلة التى تبدو غير ذات صلة ببقية الرواية ليس فى الرواية اسم واحد حقيقى لشخص من أشخاصها أو مكان من أمكنتها، ويجد القارئ نفسه منذ البداية فى جو من الغموض لا يتضح إلا شيئا فشيئا. وكثير من شخوص روايته شخوص عاديون، وبعضهم أقل من العاديين.
صحيح أن أوصاف بعض من ورد ذكرهم فيها تنطبق على بعض الأشخاص المعروفين فى مصر كذلك الصحفى الكبير المعروف بـ"الأستاذ" والذى طبقت شهرته الآفاق المحلية والعالمية والمغرم بتدخين السيجار الكوبى وصاحب الدارة الكبيرة التى بناها وسط الحقول والبساتين على أطراف القاهرة، وكذلك الناشط السياسى المتنقل بين بعض الجماعات السياسية والذى انتهى الأمر به إلى العمل مع الدولة، إلى جانب سيدة الأعمال التى تومئ إلى من كانت تسمى ذات يوم بـ"السيدة الحديدية". وأسماؤهم على هذا الترتيب هى صديق الأباطرة، والسيدة نوال، وعزت الخلفاوى. وإذا كان لكل شخص من شخوص رواية زيدان موضعه القارّ من الرواية دون أن يشكِّل عبئا عليها، أى دون أن يكون زائدة من الزوائد التى لا تحتاجها الرواية، فإن عزت الخلفاوى مثلا ليس له دور فى رواية "عودة الحشاشين" رغم ما حاوله المؤلف من ربطه على نحو أو آخر بها.
والطريف أن زيدان كان حريصا دائما على القول بأن كل ما فى رواياته الإسلامية، بما فى ذلك رواية "صلاح الدين ومكائد الحشاشين"، تاريخى مائة فى المائة، اللهم إلا قصة الحب التى يأتى بها فى كل رواياته لتشويق القراء العاديين كما يقول حتى يقبلوا على قراءة تاريخهم، فى الوقت الذى نجد السنبسى حريصا على القول بأن روايته كلها محض خيال. والواقع أن كلا منهما قد أخطأ فى توصيف عمله، فلا رواية زيدان تاريخية مائة فى المائة ولا رواية السنبسى محض خيال.
ذلك بأن القول بالخيال المحض يفترض أن كل ما تتضمنه الرواية لا علاقة له بالواقع. ولكن هل هناك عمل خيالى حقا؟ الجواب: لا، لأن ما نسميه: "خيالا" هو فى الحقيقة تجميع لعناصر متفرقة فى الواقع وتشكيلها من جديد. وإذا كان بعض الناس يظنون أن الرواية الواقعية هى الرواية التى وقعت أحداثها كما هى بالضبط، والتى تتضمن أشخاصا حقيقيين، فهذا لا يمكن أن يكون لأن الحياة لا تمدنا برواية جاهزة ومكتملة ومبنية بناء فنيا جذابا أبدا. وعلى أية حال فهذا هو الفهم العامى والسطحى للواقعية، أما الفهم العميق الذى يأخذ به ويقصده أهل الأدب والنقد فهو أن تكون أحداث الرواية وشخصياتها منطقية مقنعة، وتشبه ما نراه ونسمع به من حولنا ولا تخرج على نظام الحياة أو تخالف الطبيعة البشرية أو تناقض الجو التاريخى الذى تنتسب إليه أو تدابر أوضاع الطبقة الاجتماعية أو الثقافية التى صدرت عنها. وعلى هذا فإن رواية السنبسى ليست رواية خيالية، وإن كان بعض أحداثها أو تصرفات بعض أشخاصها مما لا يقتنع به العقل بسهولة، إذ ما من مشكلة من المشاكل التى تقابل الحاج مسعود أو صبيانه الذين يستخدمهم فى تنفيذ ما يريد إلا ولها دائما حل، وحل سريع وسهل، مع أن الحياة ليست بهذه السهولة على الدوام ولا تنحلّ فيها المشاكل بتلك السرعة.
وعلى كل فإن النقاد عادة متى رَأَوْا هذا التحذير الذى وضعه الأستاذ السنبسى لقرائه فى أول روايته من أن الرواية محض خيال قَرَّ فى رُوعِهم أنه تحذيرٌ فِشِنْك المقصودُ به إزالةُ الحرج الذى يمكن أن يتعرض له المؤلف أو درءُ المخاطر التى قد تصيبه جَرَّاء فهم البعض أنهم هم المقصودون بما فى الرواية، وهو ما قد يدفعهم إلى رفع دعوى أمام المحكمة على أساس أن ما فى الرواية يشهّر بهم ويسىء إليهم. وقد يكون المقصود بهذا التحذير إيقاظ حاسة الشوق لدى القارئ واستحثاثه على قراءة الرواية بمنتهى الوعى والاهتمام والتركيز وتوجيهه إلى فهم معين لأحداثها وأشخاضها. فهو تحذير فى الظاهر، بينما هو فى الحقيقة إغراء وإثارة.
أما أن روايات زيدان تاريخية هى بمثابة بحث علمى فى التاريخ فهو ما لايمكن أن يكون، إذ البحث التاريخى يستعرض الروايات والتفسيرات التاريخية المختلفة للوقائع والأشخاص ويقلبها ويقارن بها ويدرسها ثم يصدر حكمه عليها شافعا كل ذلك برأى مؤلفه، أما الرواية فلا تتسع لهذا كله، وإلا ما كانت رواية. ومعروف أن النقاد بوجه عام يقولون بحقِّ الروائىِّ التاريخىِّ فى إعادة صياغة التاريخ واتخاذه سلما للوصول إلى ما يريد تقريره أو الإيماء إليه من أفكار وآراء ومواقف. ثم إن مزج حكاية عاطفية بأحداث التاريخ معناه أن القارئ سوف يتصور أن تلك الحكاية هى بدورها تاريخية، فضلا عن أنه لا يمكنه تجريد الرواية منها، وإلا أفسد كل شىء. ترى هل يمكن فضل الخضراوات مثلا عن الماء والملح والصلصة والتوابل بعد مزج ذلك كله ووضعه على النار والحصول فى النهاية على الطبق المشتهَى أكله؟ فكما أن هذا غير ممكن فكذلك هذا غير ممكن. وكلام زيدان فى هذا المجال سفسطة لا معنى لها ولا مصداقية.
وزيادةً على ذلك فإن زيدان لا يكتفى بالقصة العاطفية بل قد يضيف أشياء أخرى خطيرة غير تاريخية على أنها تاريخ وقع: ففى روايته: "شارل وعبد الرحمن" مثلا، يجعل عبد الرحمن الغافقى، وهو قائد عسكرى شهير فى تاريخ الأندلس، ينتحر إثر هزيمة المسلمين فى معركة بواتييه، فينزل النهر ويتقدم فيه ويترك نفسه يغرق، ودون أية محاولة للفلفصة تخلصا من آلام الاختناق وتمسكا بالحياة، وهو ما لا حقيقة له لأنه لم يحدث أولا، ولأنه ثانيا مناقض للطبيعة البشرية، التى تغلب صاحبها فى آخر لحظة فتحاول الفرار من الموت حين تراه مكشرا أنيابه يريد أن يلتهمه التهاما. وبالمثل يفترى زيدان على هارون الرشيد الكذب فينسب إليه قتل ولدى أخته العباسة من زوجها خالد البرمكى، وهذا أيضا غير صحيح. وقد بلغ ابتلاعى هذا الطعم الزيدانى، وأنا صبى صغير فى المرحلة الإعدادية، أن صدقت كل ما قاله فى روايته وانطلقت أشتم الخليفة العباسى على ظهر إحدى رسوم الرواية شتما شديدا وأتهمه بالوحشية والقسوة البشعة تصورا منى أنه قد قتل الطفلين البريئين حقا وصدقا دون أية خشية من الله أو أية مراعاة للإنسانية.
وبالنسبة للغة فإن لغة زيدان أصوب من لغة السنبسى رغم ما فى لغة الأول من حيادية، وما فى لغة الثانى من دفء وحرارة. ولا يمكن الاعتذار عن أخطاء رواية كاتبنا المعاصر بأنه غير متخصص فى اللغة العربية، إذ إن زيدان غير متخصص فيها هو أيضا، فضلا عن أنه ينبغى أن يتقن كل متعلم عربى لغته، وإلا فما الداعى لدراسة اللغة وقواعدها وأدبها منذ المرحلة الابتدائية حتى التخرج من الجامعة إذا كانت النتيجة هى ما نراه الآن من عجز الغالبية الساحقة الماحقة من خريجى الجامعات عن الكتابة الصحيحة بلغتهم؟ ولقد كانت ابنتى الكبرى منذ عدة ليال، وفى غرفة مكتبى التى أكتب فيها حاليا هذا الكلام الذى يقرؤه القارئ، كانت تعلِّم ابنها الصغير ذا السنوات السبع وابن أخيها، وهو مماثل له فى العمر، درسا من دروس القواعد الصرفية، وهو صيغة "ما أفعل" التعجبية، فكان الطفلان الصغيران يجيبانها بشىء واضح من اليسر وهما يتقافزان ويضحكان قائلين: "ما أجمل كذا، وما ألذ كذا، وما أدفأ كذا". فقلت فى نفسى وأنا معطيهم ظهرى لأنى كنت متابعا لشىء فى كاتوبى: هذان ولدان صغيران يتابعان درسا فى الصرف دون عناء، فمن أين يأتى الاعتقاد بصعوبة العربية بعد ذلك واليأس من معرفتها ومراعاتها فى القراءة والكتابة؟ لا نقول إن لغتنا سهلة تمام السهولة، ولكن هل هى أصعب من العزف على الآلات الموسيقية أو من السباحة أو من قيادة السيارة أو من لعب الكرة مثلا؟ إن كل شىء فى الحياة يُلْزِم من يريد تعلمه بذل الجهد وتحمل العناء حتى إذا ما جوّده وأتقنه صار الأمر يشبه التنفس والدم الذى يجرى فى العروق سهولة وتلقائية. ثم إن قواعد اللغة التى يحتاجها الكاتب، وبخاصة فى عصرنا، ليست كثيرة حتى إننا نستطيع أن نسقط من كتب القواعد الآن أبوابا كاملة كبابى "الاشتغال والتنازع" مثلا دون أن نخسر شيئا، وأن ننصب كل المستثنى بـ"إلا" ماعدا مستثنى الاستثناء المفرغ، وننصب كذلك دائما أى مستثنى بـ"عدا وخلا وحاشا"، وأن نضرب صفحا عن توجيه الإعراب فى بعض الأبواب الأخرى فنقول مثلا إن الاسم الذى يأتى بعد "لا سيما" ينصب ويجر ويرفع، دون أن نضيف أى شىء آخر من شأنه أن يكظ الذهن ويربك المتعلم، وخاصة أن التوجيهات الإعرابية فى هذا الباب وفى بعض الأبواب المشابهة هى توجيهات مصطنعة لا تقنع أحدا وتتسم بالسخف والتهافت، ولاتقدم ولا تؤخر فى نهاية المطاف. فلو وضع المتعلمون هذا فى أذهانهم وركزوا وهم يراجعون النحو والصرف على المفيد من أبوابهما لوجدوا الأمر أسهل أو فلنقل: وجدوه أقل صعوبة مما كانوا يظنون. ثم إن الحياة بطبيعتها مرهقة لا تعطى ثمارها لمن لا يجتهد ويتعب ويأخذها مأخذ الجد.
وما دمنا ماضين فى سبيل المقارنة بين الروايتين فهناك أيضا وجه شبه بينهما فى مسألة الفصول، إذ كلا الكاتبين يعنون فصول روايته ولا يتركها غفلا: فجرجى زيدان فى روايته: "صلاح الدين ومكايد الحشاشين" يعنون فصول روايته على النحو التالى: "فذلكة تاريخية، الخليفة العاضد وصلاح الدين، أبو الحسن والحشاشون، سيدة الملك، عماد الدين، الهكارى وقراقوش، آخرة الفاطميين، السلطان نور الدين، عند زعيم الحشاشين، مقتل أبى الحسن، هناء الحبيبين"، وعبد الحميد السنبسى يعنون فصول روايته هكذا: "اللقاء الغامض، النشأةالأولى، النادى، السنوسى بك، المعسكر، الفردوس، الدكتور، بسيونى، المنشاوى، الوهم، السنوسى بك، الرسالة، السباعى المشلوح، فهيم، فهيم والبرلمان، الشيخ الكبير مسعود، السحب الغامضة، اليوم الموعود لعبّود، الجدار المسدود، الدكتور شفيع، الموت الأبيض، الاتفاق، الأنفس المستباحة، الحشيش، السابق فائز، المواجهة، اللقاء العاصف، الهدية، المحادثة المجهولة، السيدة نوال، الرحلة الأخيرة، مدكور بك، عزت الخلفاوى، صديق الأباطرة، مراد القاضى، الأخطاء القاتلة، شوقى والشيخ مسعود، النظام الجديد، الخواجا سميث، المذيع الشهير، أوهام حقيقية، إماطة اللثام، التمرد، عبود، المحقق مهاب، قلعة آلموت، الهاوية، هولاكو المهلك، الحصار، لقاء الأضداد، النصر المنقوص، الصفحة الأخيرة"، وإن كان زيدان قد أثبت عناوين روايته فى الفهرست الذى يسبقها، فى حين أن السنبسى لم يضع لروايته أى فهرست لا قبلها ولا بعدها، علاوة على أنه دخل فى روايته على الفور دون أية فذلكات لا تاريخية ولا غير تاريخية.
ولا شك أن القارئ قد لاحظ بكل سهولة أن عناوين السنبسى أكثر كثيرا من عناوين زيدان رغم أن الروايتين متقاربتان فى عددالصفحات. وهناك فرق آخر بين العملين، وهو أن الفصول فى رواية زيدان متوازنة فى عدد صفحاتها بينما قد نجد عند السنبسى فصلا لا يزيد عن ثلث صفحة، وفصلا آخر يصل إلى نحو عشر صفحات. كما أن عناوين زيدان كلها تقريبا عبارة عن أسماء أعلام، بخلاف عناوين السنبسى، التى قد تكون كذلك، وقد تكون إشارة إلى بعض أحداث الرواية مثلا، علاوة على أن فى بعضها غموضا مقصودا يراد به إشعال حاسة الشوق عند القراء.
كذلك يربط زيدان فصول روايته بعضها ببعض من خلال القول فى أول الفصل أو فى أثنائه إنه ترك فلانا يفعل كذا، ولنذهب أو فلنعد الآن إلى علان لنتابع ما كنا نقوله عنه، أو كلاما بهذا المعنى. وهذا الأسلوب فى الربط بين بعض الفصول وبعض وعدم ترك الأمر للقارئ يقوم به بنفسه هو امتداد لما نجده أحيانا فى بعض الكتب التراثية كـ"ألف ليلة وليلة"، التى نجد فيها النص التالى على سبيل المثال: "هذا ما كان من أمرها. وأما ما كان من أمر أبى الحسن فإنه لم يزل فى دكانه إلى آخر النهار فلما مضى النهار قام وقفل دكانه وأتى إلى دار على بن بكار". كما أن شهرزاد حين تشرع فى فصل جديد من فصول حكايتها تجد لزاما عليها أن تلخص ما سبق أن حكته حتى تربط اللاحق بالسابق، فتقول مثلا: "بلغنى أيها الملك السعيد أن أبا الحسن ذهب بالجارية ودخل البيت، فلما رآه على بن بكار فرح به، فقال له أبو الحسن: سبب مجيئى أن فلانًا أرسل إليك جاريته برقعة تتضمن سلامه، وذكر فيها أن سبب تأخره عنك عذر حصل له، والجارية واقفة بالباب. فهل تأذن لها بالدخول? فقال على بن بكار: أدخلوها. وأشار له أبو الحسن أنها جارية شمس النهار، ففهم الإشارة. فلما رآها تحرك وفرح وقال لها بالإشارة: كيف حال السيدة شفاها الله وعافاها؟".
ومثل "ألف ليلة وليلة" فى ذلك هذا النص الموجود فى "مفاكهة الخلان فى حوادث الزمان" لابن طولون: "وأما ما كان من أمر ابن عم قاضى البلد البدرى فإنه تضاعف فى صيدا، وأما ما كان من أمر الجلال ابن البصروى والسيد الصلتى القصير فإن نائب صيدا أرسل معهما مشاة مرسمين عليهما، ووجههما إلى أستاذه النائب، وهو الآن على ما قيل نازل على العرجاء بالقرب من الرملة، وذهب مع قاضى البلد إلى الروم نائبه العلاى بن حمص، والشيخ معروف الحشرى" . أما السنبسى فلا يجرى على هذه الوتيرة بل يضعك مباشرة أمام الفصل الجديد. بل إنه قد يهمل الإشارة فى أول الفصل إلى أشياء كان من شأنها، لو ذكرها، أن تسهل على القارئ الاندماج السريع مع الفصل الجديد. وبالمناسبة فقد يغلو بعض الكتاب الروائيين فى هذا الاتجاه مما ينجم عنه أن يجد القراء صعوبة شديدة فى تتبع الوقائع والشخوص.
وهذا نص من فصل "أبو الحسن والحشاشون" من رواية زيدان يبين هذا الذى نقول: "تركْنا الخليفة العاضد فى قاعة الذهب بعد خروج نجم الدين وابنه، ولم يبقَ معه إلا أبو الحسن. فلما خرج الكُرْديَّان أمر الحاجب أن يأتى بصاحب اللباس لينزع عنه ثيابه وحلاه لأنه فى حاجة إلى الراحة وألا يأذن لأحد فى الدخول". ثم هذا نص من آخر فصل فى الرواية، وهو فصل "هناء المحبين": "فلنتركهم جميعًا يستريحون ولنعد إلى القاهرة، فقد طال سكوتنا عن أهلها. تركناهم بعد صَلْب عمارة وأصحابه المتآمرين وخروج رسول عماد الدين عبد الرحيم بالكتاب والجواهر إلى بيت المقدس. وقد اطمأن بال سيدة الملك وسَرَّها أنها خطرت ببال حبيبها. وقد ذكرنا ما كان من نقمة أبى الحسن بعد فشله فى دمشق وأنه أصبح همه الانتقام من سيدة الملك بأى وجه كان، فأغرى بعض الأشقياء من الفدائيين على الاحتيال لاختطافها وذهب هو إلى مصر".
ومن أوجه المقارنة بين روايتى زيدان والسنبسى أن زيدان حين يصف شخصا أو شيئا لأول ظهوره فى الرواية فإنه يصف كل شىء فيه تفصيلا، وفى مرة واحدة، لا يترك شاردة ولا واردة إلا ذكرها. ومثالا على ذلك نسوق وصف صلاح الدين حين خرج الخليفة العاضد الفاطمى ليستقبله عند مجيئه إلى مصر. وهذا الوصف متاح فى الفصل الأول من رواية زيدان: "قال عمر...: قل لى مَن هذا الذى أراه؟ إن موكبه لا يقل عن موكب الخليفة فى شيء، وأرى عليه لباسًا أفخر من لباسه.
- هذا هو يا صاحبى صلاح الدين الوزير. وهذا الثوب الذى عليه هو خِلْعة السلطة خلعها عليه هذا الخليفة نفسه ثلاث سنوات. وهى، كما ترى، عمامة بيضاء من نسج تنيس لها طرف مذهب، وتحتها ثوب ديبقى بطراز ذهب. وكذلك الجُبّة التى عليه، فإن طرازها من الذهب. وفوق ذلك طيلسان مطرز بالذهب. وانظر فى عنقه: هل ترى العِقْد؟ إنه من الجوهر يساوى عشرة آلاف دينار، وإلى جانبه سيفٌ مُحلًّى بخمسة آلاف دينار، وتحته فرس قيمتها ثمانية آلاف دينار. وعليها سرج مذهب، وفى رأسها مائتا حبة جوهر. وانظر إلى قوائمها، فإن حولها أربعة عقود جوهر، وعلى رأسها قصبة بذهب، وفيها شدة بياض بأعلام بيض. هذا هو صلاح الدين. إن منظره يدعو إلى الهيبة أكثر من منظر الخليفة. انظر إلى هيبته، وكيف أن الشجاعة ظاهرة فى وجهه، ولا يراه إنسان إلا احترمه وخافه. والحق يُقَال إن الأمور الآن فى يديه، وهو الآمر الناهى كما قلت لك. وانظر إلى الرجال المحيطين بموكبه، وفيهم قوم يُقال لهم: "صبيان الزرد" من أقوياء الأجناد يختارهم لنفسه. وهم مئات يمشون إلى الجانبين، وبينهم فسحة أمامه مثل فسحة الخليفة. وراءه الطبول والصنوج والصفافير. ألا تسمع صوتها يدوى به البَرّ؟ ووراء موكب الوزير يأتى حامل الرمح. تأمَّلْه، فإنه رمح لطيف فى غلاف منظوم من اللؤلؤ، وله سنان قصير بحلية من الذهب، ومعه درقة بكوامخ يقولون إنها درقة حمزة بن عبد المطلب، رضى الله عنه...".
وقد صارت هذه الطريقة فى الوصف قديمة لا يأخذ بها أحد الآن تقريبا من كتاب القصة والرواية، بل ينثرون أوصاف أشخاصهم وأماكن تحركاتهم نثرا فى أرجاء العمل وقليلا قليلا لا فى مكان واحد ولا فى نَفَسٍ واحد، ولايجعلون وُكْدَهم ذِكْرَ كل شىء فى هذه الصفات، بل يركزون على ما يريدون إبرازه من الشخص أو الشىء الموصوف. لنأخذ مثلا وصف عبود أحد أبطال الرواية فى أول صفحة من أول فصل منها: "سار الفتى النحيل ذو القوام المنحنى من سوء التغذية متلفعا بأسماله البالية، ومنقبضا على نفسه من قسوة الشتاء يجر ساقيه بخطوات لاهثة، خارجا من الميدان الفسيح المتلألئ الأضواء إلى الزقاق الضيق المظلم. وما إن دلف إلى ذلك الزقاق ومر تحت بقعة الضوء الخافتة الصادرة عن عمود الإنارة القديم حتى انتفض فجأة واعتراه خوف شديد على إثر قبضة باردة وعنيفة من يد قوية خشنة الملمس ذات أصابع طويلة مستدقة التفت حول عنقه حتى كادت تتلامس من جانبى رقبته النحيلة...". فالمؤلف لم يتطرق من وصف عبود إلا إلى رقبته النحيلة وقوامه المنحنى وأسماله البالية، وبذلك الاختصار الذى يراه القارئ. وذلك أنه أراد إبراز حالته المادية المتهالكة حتى يقدِّر القارئ قيمة النغنغة التى سينتقل إليها عقب ذلك حين يوظفه الشيخ مسعود فى تأدية المهمات القذرة التى يضطلع بها لحساب كبار القوم فى عالم رجال الأعمال السفلى المفعم بالمؤامرات والإجرام.
ومما يبعث أيضا على الموازنة بين الروايتين مشهد وصول أحد الحشاشين إلى غرفة نوم شخص يراد تحذيره وتخويفه من أنه معرض للهلاك إن لم يرعو عما يفعل: فأما فى رواية زيدان فقد بوغت صلاح الدين الأيوبى ذات ليلة بخنجر تحت وسادته وورقة فى غمد الخنجر ممتلئة بالتهديد، وأما فى رواية السنبسى فمظروف يحتوى على رصاصة وورقة تهديدية سبقه مكالمة هاتفية تحذر الشخص المراد تحذيره من المنافسة فى السوق بغية الحصول على صفقة هائلة تحقق لمن يفوز بها مكسبا شديد الضخامة.
وإلى القارئ التفاصيل. فقد جاء فى رواية "صلاح الدين ومكايد الحشاشين": "بات صلاح الدين تلك الليلة كعادته وهو يفكر فى أمر مصر ومطامعه فيها حتى غلب عليه النعاس فنام، وقد أطفئت مصابيح القصر واطمأن الحراس إلا عماد الدين، فإنه شعر بعد أن اختصه صلاح الدين بقربه أنه يجب أن يكون أكثر يقظة وسهرًا على حياته. فبات وهو يفكر فى ذلك، فحلم لفرط قلقه أن صلاح الدين يناديه، فنهض مذعورًا وأصاخ بسمعه فلم يسمع شيئًا، فحدثته نفسه أن ينهض ويتسمَّع فخاف أن يوقظ مولاه وهو على يقين أنه سمع ذلك فى الحلم. فعاد إلى فراشه وقد طار نومه وكثر تقلبه بين اليقظة والمنام. وإذا هو يسمع وقع خطوات، فهبَّ من رقاده وتسمَّع فلم يسمع شيئًا، فغلب على خاطره أنه يسمع هاجسًا. ونظر إلى السماء فعلم أن الفجر قريب ورأى أنه لم يعد قادرًا على الرقاد فلبس ثيابه. وحالما لاح الفجر خرج ليطل على غرفة صلاح الدين فرآها مقفلة، وكل شيء هادئ، والحراس بالباب كالعادة، فعاد إلى غرفته.
ولم تمضِ هنيهة حتى سمع صلاح الدين يناديه فلبَّاه ودخل غرفته، فرآه جالسًا على سريره بلباس النوم وقد أخذته الدهشة. فأسرع إليه وحيَّاه، فصاح به صلاح الدين، وأشار إلى الوسادة عند رأسه. فتقدم عماد الدين فرأى خنجرًا مسلولًا عليه آثار دم قديم قد أُلْقِى عند موضع رأس صلاح الدين من الوسادة فأجفل وصاح: من فعل هذا يا سيدى؟ فقال: لا أدرى، لكنى صحوت فى هذه الساعة فرأيت الحال كما تراها. فأطرق عماد الدين يفكِّر فوقع بصره على شيء عند قدمى السرير، فإذا هو غِمْد ذلك الخنجر، فتناوله وتأمله فلم يذكر أنه يعرف صاحبه. وبينما هو يتفرَّس فيه إذ رأى فى جوفه بطاقة استخرجها ودفعها إلى مولاه، ففضها وقرأها، فبانت البغتة فى عينيه، ثم دفعها إلى عماد الدين وصفَّق، فدخل عليه أحد الغلمان، فأمره أن ينادى الأمير نجم الدين والده حالًا. أما عماد الدين فإنه قرأ البطاقة وأعاد قراءتها وتناول الخنجر وتأمله وأعاد النظر فيه، فقال صلاح الدين: كيف يدخل الناس على وأنا نائم داخل هذا القصر، والأبواب موصدة، ولا يشعر أحد من الحراس؟ فأحس عماد الدين أن التوبيخ موجه نحوه لأنه أقرب الحراس إليه، فأُرْتِج عليه من شدة التأثر، وهمَّ أن يجيب، وإذا بنجم الدين قد دخل، فلما رآهما فى تلك الحال تناول البطاقة وقرأها، وإذا فيها:
"من أحد مريدى سيد الإسماعيلية إلى يوسف صلاح الدين. اعلم يا يوسف أنك، وإن أقفلت عليك الأبواب وأقمت الحراس، لا تقدر أن تنجو من القصاص. أراك قد بالغت فى القحة وتطاولت وظلمت ونسيت شيخ الجبل زعيم الإسماعيليين. لو أردت قتلك الليلة لما أبقيت عليك، ولكننى عفوت عنك. وأنا منذرك أن تصلح من سيرك. ولا تطمع أن تعرف مَنْ أنا، فإن ذلك بعيد المنال، إذ قد أكون أخاك أو خادمك أو حارسك، وقد أكون خيطًا فى عمامتك أو شعرة فى رأسك، وأنت لا تدرى! وإنما أطلب منك أن تلزم حدك، والسلام."
فاستولى السكوت على الجميع لحظة. ثم أشار نجم الدين إلى عماد الدين أن يقفل الباب وأن يجلسوا فى خلوة لا يدخل عليهم أحد، ففعل وقلبه يتقد غيظًا، وقد ساءه حدوث هذا الأمر فى الليلة الأولى التى تولَّى فيها الحراسة الخاصة، وأصابه الجمود لا يدرى ما يقول، وأدرك نجم الدين قلقه فناداه وابتسم له وقال: لا تضطرب يا بنى ولا يداخلك خوف...".
وهو ما نجد شيئا قريبا منه فى رواية الأستاذ السنبسى مع اختلاف فى بعض التفصيلات جراء اختلاف عصر صلاح الدين عن العصر الحديث واختلاف طبيعة العمليات القذرة التى يرتكبها الحشاشون القدماء عن حشاشى عصرنا، فقد كُلِّف عبود أحد الحشاشين فى الرواية، وهم الشبان المدربون على القيام بالعمليات القذرة لحساب بعض رجال الأعمال ضد بعض نظير عمولة هائلة للشيخ مسعود، بحمل رسالة مغلقة بداخلها رصاصة والتسلل بها إلى غرفة نوم السنوسى بك ودسها تحت وسادته على سبيل التهديد. وقد قام عبود بالأمر على خير وجه بعدما ارتدى ملابس للغوص تناسب تسلق الأسوار وأُرْكِب سيارة تَنْهَبُ الأرضَ نهبا إلى أن وصلت قريبا من فيللا السنوسى بك، وكانت مُقامةً فى أحد الأحياء الجديدة على ربوة عالية على مساحة تزيد على ثلاثة آلاف متر، وإن لم يُبْنَ منها إلا منزل صغير، وتُرِك الباقى مسطحات خضراء تحتوى على حمام سباحة وبِرْجُولا خشبية يتعاطى فيها السنوسى بك النرجيلة مع أصدقائه عند السَّمَر. وقبل الفيلا بقليل نزل عبُّود لا تكاد قدماه تلامسان الأرض من فَرْط الحماسة وتدفق الأدرينالين فى جسده، وتسلق السور الخلفى بخفة الفهد، وقفز إلى داخل الحديقة ومنها إلى سُلَّم العاملين حتى وصل إلى المطبخ حيث كان الصمت العميق يلف المكان، إذ كان سكان الفيللا فى سُبات عميق. ففتح باب المطبخ بمهارة شديدة حسبما دُرِّبَ، ودَلَفَ إلى الداخل بخطوات واثقة، ثم إلى غرفة النوم مسرعا، وبيد مُرتعشة من فرْطِ الإثارة دسَّ المظروف تحت الوِسادة وخرج من الغرفة كأنه الشبح، لكنه فوجئ بصوت صَرير بابٍ يُفْتَح وصفير سُعالِ أحدِ الرجال يدوّى فى المكان، فتَسَمَّر فى مكانه خلف أحد أعمدة البَهْو حابسا أنفاسه، ويده على قارورة المخدر، وجمد فى مكانه حتى ليكاد يسمع صوت الدماء فى تجاويف أذنه الداخلية. وما هى إلا بُرهة حتى مرَّ السفرجى من أمامه دون أن يلحظه فى سبيله إلى الحمام ليتوضأ استعدادا لصلاة الفجر، فتنفس عبُّود الصعداء، ثم تسلل عائدا من حيث أتى بنفس الطريقة. وما إن قفز من السور الخارجى حتى وجد بسيونى يفتح له باب السيارة الرياضية من الداخل، ثم مد يده إليه مهنئا بنجاح المهمة، وأسدل على وجهه قطعة القماش السوداء حتى لا يستطيع أحد التعرف عليه، ثم انطلقت السيارة تشق الطريق إلى المقر، وزَفَّ الخبر إلى الشيخ برسالة هاتفية من كلمة واحدة: "تمت" بعدها أغلق الهاتف ونزع الشريحة وشقها نصفين، ثم ألقاها فى عرض الطريق حسب التعليمات.
وكانت رسالة مكتوبة قد وصلت السنوسى بك على هاتفه المحمول قبل هذا تحذره من المزاحمة على بعض مشاريع البيزينس ومحاولة التهام كل شىء وحده. وسرعان ما عثر السنوسى بك على مظروف الرصاصة تحت مخدته، إذ ما إن أخلد للنوم ووضع رأسه على الوسادة حتى شعر بشىء ما تحتها، فمد يده بحذر، وإذا به يجد مظروفا صغيرا أحمر اللون وأثقل من أن يحتوى على ورقة فقط، ففضه ليسقط منه شىء صلب تدحرج تحت السرير، واتضح أنه رصاصة نحاسية لامعة وسليمة، كما عثر فى المظروف على رسالة ورقية تحتوى على نفس التهديد السابق.
وكما يرى القارئ فهناك تشابه قوى فى الخطوط العامة للمهمتين، وإن تكن أداة التهديد فى رواية زيدان خنجرا ملوثا بدماء قديمة ورسالة فى غمد الخنجر تنذر صلاح الدين بأنّ قتله أهون شىء إن لم يرعو عما يفعل، أما هنا فأداة التهديد رصاصة سبقتها رسالة هاتفية مكتوبة تقول للسنوسى بك إن القَدْر الكبير من الطعام يصيب بالتخمة. وثم فرق آخر هو أن صلاح الدين لم يُقْتَل، أما السنوسى بك فقد تسلل عبود مرة أخرى إلى فيلته وخدره ثم حقنه بحقنة سامة أودت بحياته. وكانت العملية كلها لحساب أحد منافسى السنوسى، الذى كان يضيق ذرعا به فى ميدان البيزينس، ولم يجد وسيلة للتخلص منه إلا بالقتل. كذلك فبينما نرى العملية الحشاشية القديمة ذات طبيعة سياسية ودينية نجد أن العملية الحشاشية المعاصرة ذات طبيعة اقتصادية وتتصل بالتنافس الجامح بين لصوص البيزينس الكبار. ويجد القارئ تفاصيل العملية كلها فى فصول "السنوسى بك" و"الرسالة" و"اليوم الموعود لعبود".
وكنت أظن أ. السنبسى قد قرأ رواية زيدان وتأثر بها، لكنه نفى ذلك قائلا إن حادثة الخنجر مذكورة فى كتاب برنارد لويس الذى ترجمه محمد العزب موسى: "الحشاشون- فرقة ثورية فى تاريخ الإسلام". وفعلا يذكر هذا الكتاب أن حسن الصباح قد استطاع تجنيد أحد الخصيان فى قصر السلطان سانجار السلجوقى، وبعث إليه بخنجر رشقه فى الأرض بجوار سريره بعد أن أوى ذات ليلة إلى الفراش مخمورا، وحين استيقظ السلطان فى الصباح وشاهد الخنجر ملأه الرعب، لكنه كتم السر لأنه لم يكن يعرف من يمكنه اتهامه بذلك. وهنا أتته رسالة من حسن الصباح تقول له: "ألا ترى أننى أردت بالسلطان خيرا، إذ إن هذا الخنجر الذى غرس فى الأرض الصلبة لم يغرس فى صدره الطرى؟"، وهو ما ترتب عليه أن خافه السلطان وتوقف عن مهاجمة الحشاشين ومال للسلام معهم. ولكن لا يوجد فى كتاب لويس وصف لمشهد الجنة وما فيها من مروج فيحاء وأبسطة وثيرة تغوص فيها الأقدام وأطعمة وأشربة وملابس فخمة، وهو المشهد الذى فَصَّلَتِ القولَ فيه كلٌّ من روايتى زيدان والسنبسى. فهل كان ذِكْرُ ذلك فى رواية الأخير مجرد مصادفة؟ ولكن هل يعقل أن يكون مشهد كهذا محض صدفة؟ أم ترى المؤلف قرأ رواية زيدان منذ وقت جد بعيد ونسى أنه قرأها؟ لا أدرى. أما أنا فقد اتضح لى بعد مراجعة بعض فصول "صلاح الدين ومكائد الحشاشين" أننى ما برحت أذكر منها جيدا تفصيلات مشهد الخنجر ومشاهد النعيم فى الجنة من حور عين وطعام ومياه جارية وما إلى ذلك رغم مرور نحو ستين عاما على قراءتى لرواية زيدان وأنا صبى صغير فى أواسط ستينات القرن البائد.
ولكن كيف كان يتم تدريب الحشاشين القدماء والحشاشين من أبناء عصرنا؟ لقد كان الشيخ مسعود فى رواية السنبسى يجمع المعلومات عن الشبان والرجال الذين يريد استخدامهم فى عملياته ثم يكلف أحد رجاله المخلصين المقربين منه باصطيادهم وإحضارهم حيث يوهمهم، من خلال ما كان قد جمعه عنهم من معلومات دقيقة تشمل كل شىء دون أن يدروا، أنه مطلع على الغيب ويعرف عن طريق هذا الاطلاع جميع خفايا حياتهم، وأنه سوف يوفر لهم كل ما تشتهيه أنفسهم من طعام وترف فى أحلامهم كتصبيرة عما ينتظرهم فى الحياة الآخرة إن سمعوا وأطاعوا كل ما يقوله لهم ويكلفهم بعمله دون نأمة اعتراض. وهو ما كان الحشاش القديم يمر به فى خطوطه العامة، وإن لم يصل الأمر إلى مرحلة التطابق، إذ فى الوقت الذى كانت جنة قلعة ألموت تحتوى، ضمن ما تحتوى، على النساء اللاتى يفترض أنهن حور عين، لم يكن فردوس الشيخ مسعود يشتمل على عنصر النساء بل الأكل والشراب الفخم والمسكن المترف ليس إلا. وكان كلا الشخصين يُعْطَى مشروبا يغيبه عن الوعى بعض الوقت ليستيقظ بعده فيجد نفسه فى الجنة هناك، وفى الفردوس هنا، ثم يعود كرة أخرى إلى العالم الواقعى بعد تخديره ثانية.
جاء فى فصل "أبو الحسن والحشاشون" من رواية زيدان أن أصل هؤلاء الحشاشين الموجودين فى عصر صلاح الدين والعاضد بالله آخر خلفاء الفاطميين هم أتباع الحسن بن الصباح فى زمن الحاكم بأمر الله قبل أكثر من مائة وخمسين سنة، إذ أقام ابن الصباح هذا فى قلعة أَلَمُوت قرب قزوين وألَّف جماعة من الفدائيين الذين لا يخافون الموت، ويُعْرَفون بالحشاشين نسبة إلى العقَّار المخدِّر المعروف الذى كانوا يتناولونه، وأنهم قد توالى عليهم زعماء كثيرون فى بلاد فارس والعراق والشام إلى أن صار الأمر الآن إلى زعيمهم الحالى راشد الدين سنان، الذى يقيم فى جبل السماق من أعمال حلب حيث يعتصم هناك بالقلاع، وعنده رجال مجربون يطيعونه حتى الموت دون أى تردد بحيث إذا أمر أحدهم بقتل ملك أو سلطان بادر إلى الطاعة حالًا، وأنهم قد قتلوا بهذه الطريقة كثيرين، وأن هؤلاء الفدائيين يتنكرون عادة فى ملابس السُّيَّاس أو الخدم ويختلطون بأتباع من يكلَّفون بقتله زمنًا يترقبون الفرص، فإذا سنحت فرصة فعلوا فعلهم ثم لا يهمهم ماذا يصيبهم بعد ذلك ولا يبالون حتى لو قُتِلوا لأنهم يرون القتل فى هذا السبيل حياة سعيدة.
وقد اشتهر جبل السماق، حسبما نقرأ فى فصل "صلاح الدين الأيوبى" من الرواية الزيدانية، بالقلاع التى تخص طائفة الإسماعيلية، وأهمها قلعة مصياف حيث كان راشد الدين زعيم الإسماعيلية آنذاك يقيم بها على مسافة نصف يوم غرب حماة. وهى قلعة شدية المناعة قائمة على صخرٍ جوانبه عمودية يعسر تسلقها أشد العسر، كما أنها محصنة بسور سميك ليس له إلا باب سقفه عقد متين، إذا دخل الرجل منه سار فى ممر كله عقود يصل من الداخل إلى قمة القلعة وما وراءها وفوقها من الغرف، وكلها مبنية من الحجر الصلد، وعلى السور أبراج متلاصقة تقيم بها الحامية ترمى كل من تسول لهم نفوسهم مهاجمتها بالسهام أو بالحجارة قبل وصولهم إلى الباب بمسافة بعيدة بحيث يستحيل استيلاؤهم عليها إلا بعد قتل الألوف منهم.
وفى الفصل المسمى: "عند زعيم الحشاشين" نقرأ فى حديث الجنة ووصفها وكيفية الوصول إليها والاستمتاع بلذائذها ما يلى مع بعض التصرف، والكلام فيه عن أحد من بلغوا القلعة رغبة فى الالتحاق بفدائيى راشد الدين، وحاز القبول المبدئى. وكان قد قُدِّم له قدح من الشراب، فشربه وأومأ إليه الشيخ أن يقعد، فقعد وأحس بعد قليل بالخدر ثم غاب عن رشده. ولما أفاق من غيبوبته رأى نفسه فى حديقة كالجنة بما يصفونها به من الأنهار الجارية والأشجار المتعانقة والأطيار المتجاوبة من صادح وسابح.
"وأول ما نبهه من رقاده نسيم مر على وجهه ويد لمست جبينه، فإذا هى يد غادة أو حورية كأنها البدر عليها ثوب يجللها لكنه لا يكسوها لشفافيته، وبيمناها مروحة من ريش النعام تروِّح له بها، وقد وضعت يسراها على جبينه كأنها تمسح عرقه، فظن نفسه أول وهلة فى حلم وخاف إذا نهض أن يفقد تلك المناظر البديعة فصبر قليلًا، فإذا بتلك الحورية تخاطبه بصوت رخيم قائلة: انهض يا حبيبى. إلى متى الرقاد ؟ فنهض ونظر إلى نفسه فرأى عليه ثوبًا يشبه أثواب الأمراء لم يرَ على السلطان صلاح الدين أحسن منه، وعلى رأسه عمامة من نسيج مزركش بالقصب، وقد جلس على بساط من أجمل أبسطة عصره عليه الصور المنسوجة بالذهب. وقضى برهة، وقد أخذته الدهشة، ينظر تارةً إلى نفسه، وطورًا إلى تلك الحورية، وآونةً لما بين يديه أو لما يقع عليه بصره من الأشجار والأزهار وما يسمعه من خرير الماء وتجاوب الأطيار، وما يفوح من الروائح العطرية مما لم يرَ مثله ولا خطر بباله. وبينما هو يفكر فى ذلك تقدمت إليه تلك الغانية وقد أزاحت نقابها عن رأسها وأرسلت شعرها الذهبى على كتفيها، وهى تنظر إلى عماد الدين بعينين تكادان تنطقان بعبارات الحب وتشكيان لواعج الغرام.
على أنه تجلَّد ونظر إليها وصبر لما يبدو منها، فمدت يدها للمصافحة، فناول يده وهو ما زال يحسب نفسه فى رؤيا، فقبضت على أنامله وهى تقول: ما بالك يا عبد الجبار؟ ما زلت تحسب نفسك فى منام؟ أنسيتَ أنك شربت ماء الحياة من يد مولانا الشيخ الأكبر؟ إنك فى الجنة الآن التى لا يدخلها إلا المستحقون. فتذكر القدح الذى شربه من يد راشد الدين، فغلب على اعتقاده صدق دعوى ذلك الرجل وأنه فى الواقع انتقل إلى الجنة بأنهارها وأشجارها وأطيارها، وأن هذه المرأة ما هى إلا حورية من حورها. ثم تذكَّر سيدة الملك فأجفل وقال فى نفسه: ما لهذه المرأة تهم بقلبى لتختطفه وهو ليس لى؟ وتباعد عنها، فتباعدت، وبان العتب فى وجهها وتحوَّلت عنه ثم غابت عن عينيه، فتركها ومشى على أرض مكسوة بالعشب الأخضر اللون كالبساط المزركش وقد فاحت منه الروائح المنعشة، فوقع بصره عن بُعْدٍ على قناة يجرى فيها الماء لامعًا كأنه الزلال، وعلى ضفتيها أشجار الفاكهة، وقد وقعت أشعة الشمس من خلال الأغصان على ذلك الماء وهو يجرى، فتلوَّن بألوان قوس قزح، فدنا من تلك القناة ووقف على ضفتها ينظر إلى الأشعة الواقعة على الحصى فى قاعها كيف تتكسر وتتلون. وإنه لفى ذلك إذ رأى فى الجانب الآخر حورية برزت من بين الأشجار ومشت نحوه وهى تبتسم له، فسرَّه أن بينه وبينها قناة تحول دون وصولها إليه، وتوقَّع أن تقف على الضفة الأخرى وتخاطبه، فإذا هى تجاوزت الضفة ولم تزل ماشية إليه فوق سطح الماء ولم تبتل قدماها. وتعاظمت دهشته لما رآها وصلت إليه، وقدماها العاريتان تنتقلان فوق سطح الماء الجارى لا تقع فيه ولا تعكره أو تعيق سيره، فتحقق لديه أنه فى مكان غير الأرض، وأن أولئك الحور من الملائكة. وصلت تلك الحورية إليه والهواء يعبث بشعرها ويلاعب أطراف ردائها، وبسطت يدها نحوه كأنها تستقبله، فوقف ريثما وصلت الحورية إليه ومدت يدها نحوه، فمد يده وتصافحا وهو يتفرس فى وجهها.
فلما دنت منه فاحت رائحة الطيب من ثوبها، فوضعت يدها على كتفه، فاقشعر بدنه فقال لها: من أنت يا هذه؟ وأين أنا؟ قالت: ألا تعرف أين أنت؟ إنك فى جنة شيخ الجبل مولانا الإمام الأكبر. قال: وهذا مقرُّ أتباعه أجمعين؟ قالت: نعم، ولكن لا يمكث فيها إلا مَنْ أحسن البلاء فى طاعته. وأمسكت بيده ومشت، فمشى، وأومأت إليه أن يتبعها فوق تلك القناة، فتردَّد هنيهة فمشى، فإذا هو يخطو على شيء صلب يفصل بين قدميه وبين الماء. فظن الماء جمد تحت قدميه. ووصل إلى الجانب الآخر وسار مع الفتاة وهو شديد الرغبة فى معرفة حقيقة ما يراه، فلما سمع قولها قال :هل أنا باق هنا؟ قالت: أنت حديث العهد، وإنما جئت لترى ما أعده المولى لأتباعه ومريديه إذا قاموا بأوامره. وعسى أن تكون من المستحقين.
فعلم أنه هناك إلى أجل ولا يلبث أن يعود. فمشى لترويح النفس، وعيناه تنتقلان بين الأشجار والرياحين، ويرى الأطيار تتنافر بين أيدى تلك الحورية، وفيها الكراكى والطواويس بألوانها الجميلة، والبلابل والحساسين تتجاوب بالتغريد أو الزقزقة، والفتاة تناديها، فتأتيها وتقع على كتفيها أو على يدها وتنتقل كما تأمرها كأنها تفهم لغتها. ثم سمع عماد الدين زئيرًا علم أنه زئير الأسد، وكان قد سمعه مرارًا، فأجفل وقال: أليس هذا زئير الأسد؟ قالت: بلى. وهل خفته؟ إن الأسود لا تؤذى أهل هذه الدار. ومشت حتى دنت من مربض لأسد تحت شجرة، فإذا هو مُقْعٍ وعيناه تبرقان، لكنه لم ينتقل من مكانه، فتقدمت الفتاة إليه ومدت يدها إلى رأسه وعبثت بشعره كما تعبث بشعر الهر، فلم يتحرك، فاستغرب عماد الدين ذلك أيضًا.
وجاء إلى السير، فوقع نظره فى بعض جوانب الحديقة على غرف مفردة تغطيها الأزهار والأغصان، فسألها عنها، فقالت: هذه مساكن الذين استحقوا البقاء هنا يتمتعون بالملذات والنعيم، لا يعكر عليهم ذلك أحد. وبعد المسير برهة بين صعود وهبوط وقفت به الفتاة عند حائط وقالت له: انظر إلى هنا. فنظر من كوة فى الحائط تشرف على وادٍ أجرد لا شيء فيه من الماء ولا الخضرة، فأجفل لما رآه هناك من الثعابين والوحوش المفترسة تسرح بين جماجم البشر، فقال لها: أظن هذه هى الجحيم. قالت: نعم، هذه هى. فلو لم تُطِع الشيخ الإمام لكنت فى عداد المغضوب عليهم هنا. لم يشأ أن يقف هناك طويلًا فتحوَّل، وعادت معه حوريته وهى تلاطفه وتقطف من الثمار وتعطيه، وهو كالتائه فى أفكاره لا يدرى ماذا يرى. وكان قد شعر بارتياح إلى تلك الحورية لحسن أدبها وكثرة ما بذلته فى سبيل استرضائه واجتذاب قلبه وهو شاب فى مقتبل العمر، فغلب على اعتقاده أنه فى جنة أو مكان يشبه الجنة جاءه بكرامة أو معجزة من معجزات راشد الدين، وأوشك أن يشتغل عن سيدة الملك. فلما سمع ذلك الصوت توهَّم أنه صوت ضميره يناديه بالثبات على حب حبيبته فلا يشتغل عنها بسواها، فأحس بانقباض، وودَّ الخروج من ذلك النعيم.
وفيما هو يفكر فى ذلك لا يلتفت يمينًا ولا شمالًا سمع وقع خطوات غير خطوات رفيقته فالتفت فرأى غلامًا كالبدر طلعةً وبهاءً قد تمنطق بمنطقة من الخَزّ أرسل جانبًا منها إلى الأمام كالمئزر، وأرسل شعره ضفائر ذهبية، وعليه ثوب سماوى اللون، فلما دنا من عماد الدين انحنى انحناء الاحترام وقال بصوت رخيم: ألا يتفضل المولى لتناول الغداء؟ فالتفت إلى رفيقته كأنه يستزيدها بيانًا فابتسمت له قائلة: تفضل يا مولى إلى الطعام، فقد آن وقت الغَدَاء. وكان فى شغل عن الطعام، فلما ذُكِر له أحس بالجوع فمشى فى طرقة مسوَّاة كأنها فُرِشت بالزعفران يحف بها من الجانبين سياج من الأزهار الجميلة ينتهى فى آخره بباب كباب القصر الفخم. وقبل الوصول إلى الباب فاحت روائح الطعام الشهى مما لم يعرف مثله إلا فى قصور الفاطميين فى أثناء الأعياد.
ولما اقتربوا من ذلك الباب فُتِح بنفسه، وتقدم غلامان آخران يرحِّبان بالقادم ومشيا بين يديه من باب إلى باب حتى وصل إلى غرفة المائدة وهو يلتفت إلى الجانبين، وقد أدهشه ما على جدران الممرات من الستائر المصورة تمثل البساتين والقصور ومواقف البذخ والرخاء، وتلفت النظر وتجتذب القلب. وأما غرفة المائدة فقد ذهبت برشده وأوقفته موقف الحيرة ونسى مكانه لأن جدرانها الأربعة مكسوة بالمرايا على طول الحائط. فيظهر الشخص الواحد عشرات من المرات من كل جانب. فتقدمت الفتاة أولًا وأشارت إلى عماد الدين أن يتفضل، فجلس على مقعد مغشًّى بالديباج المزركش، وبين يديه مائدة مكسوة بملاءة من الحرير الوردى. ولم تمضِ دقائق قليلة حتى تواردت الأطباق وعليها الألوان من اللحوم والفاكهة. وجلست تلك الحورية بجانب عماد الدين وهى تلاطفه وتقدِّم له اللقمة بعد اللقمة وتبالغ فى إكرامه، والغلمان وقوف بين أيديهما للقيام بالأوامر، فعاد عماد الدين إلى نسيان سيدة الملك وقد سحرته تلك الفتاة بجمالها ولطفها، ولا سيما بعد أن دارت الأقداح وفيها الخمور اللذيذة، فأصبح لا يعرف غير تلك الساعة، وقام فى ذهنه أنه فى النعيم الحقيقى.
ولما رأت الفتاة ميله ورضاه أخذت فى الإعراض عنه وهو يزداد شغفًا، وقد زادته الخمور اندفاعًا حتى أصبح يتزلَّف إليها ويغازلها وهى تتمنَّع. فلما تحققت افتتانه بها قالت: لا تخرج عن حدك، فأنت إنما جئت إلى هنا على سبيل التجربة. وليس الوصول إلى ما تطمع فيه سهلًا. إن من دونه بذل النفس فى طاعة الإمام الأكبر. فشقَّ عليه هذا الإعراض لكنه زاد افتتانًا وقال: قد كنت منذ هنيهة تتقربين وأنا أبعد. فهل كنتِ تخادعيننى؟ قالت: كلا، ولكن لا بد أن تأتى عملًا يؤهلك إلى المقام فى هذا النعيم دائمًا، وعند ذلك أكون طوع إرادتك، وإذا خاطبت الأطيار أجابتك، وتجد النعيم الحقيقى من كل شيء. وليس ما تراه إلا مثالًا صغيرًا من ذلك النعيم، فعسى أن تعمل عملًا يؤهلك لبلوغه. والحق يُقال إنى فُتِنْتُ بجمالك وبسالتك، وشعرت نحوك بما لم أشعر به قبلًا نحو أحد. ولكننى لا أقدر أن آتى أمرًا يخالف رضا مولانا، ولا أقدر أن أخفى عليه شيئًا لأنه فاحص القلوب يطَّلع على خفايا السرائر. ولكننى تأكيدًا لعلائق المودة بيننا أدهن شعرك. قالت ذلك واستخرجت علبة من بين أثوابها فتحتها ففاحت منها رائحة لم يشم مثلها فى حياته. فأخذت بعض الطيب ودهنت به يديه وشعره، فلذَّ له ذلك وطابت نفسه. ثم قالت له: احفظ هذه الرائحة تذكارًا بيننا حتى نلتقى اللقاء الدائم إن شاء الله. وبان الإعجاب فى عينيها، فازداد هو تهيُّبًا من ذلك الشيخ العجيب، فسكت.
وبعد الفراغ من الطعام والشراب أحس عماد الدين بميل إلى النعاس فتوسَّد فراشًا من الحرير المحشو بريش النعام وتلك الحورية إلى جانبه تداعبه وتعرض عنه، ولم تمضِ دقائق قليلة حتى غلب عليه النوم واستغرق فى رقاده. وأفاق فى اليوم التالى، فإذا هو فى قاعة راشد الدين كما كان من قبل، وعليه الثوب الأبيض، وشعره محلول. فجعل يتلفت يمينًا وشمالًا وينظر فى ثوبه، فتبادر إلى ذهنه أول وهلة أنه رأى حلمًا. ثم ما لبث أن شم رائحة الطيب فى شعره ويديه، فلم يبقَ عنده شك أنه رأى ما رآه حقيقة. وانتبه بعد قليل لنفسه فرأى راشد الدين جالسًا كما تركه، ورأى صديقه عبد الرحيم بجانبه، فهشَّ له وضمه إلى صدره، فقال له عبد الرحيم: إن رائحة الجنة تنبعث من شعرك. هنيئًا لك! وعسى أن يُتَاح لك النعيم الدائم. قم وَاجْثُ عند قدمى مولانا وقبِّل ركبته وادعُ بطول بقائه.
فنهض وترامى على قدمى الشيخ عن اعتقاد صحيح بكرامته، وقبَّل ركبته، فمنعه ودفع إليه يده فقبَّلها، ثم قال له الشيخ: أنت الآن من أبنائنا الفدائيين، ويلوح لى أنك لا تلبث أن ترتقى إلى مصافّ المستنيرين. قم إلى غرفتك. وقد أوصيت الشيخ دبوس بك خيرا. ولكننى أحب قبل خروجك أن أزودك بعهد منى. قال ذلك ونهض، وأنهض عماد الدين معه وهو يحدِّق فى عينيه، وعماد الدين يشعر بقوة تنبعث من عينى ذلك الرجل وتوشك أن تغلبه على أمره، وقد قبض الشيخ على يدى عماد الدين بيديه قبضًا شديدًا. ومكث كذلك عدة دقائق ثم صاح به: افتح فمك. ففتحه، فتفل فيه وقال: كن فدائيًّا مطيعًا. وتركه وأشار إلى عبد الرحيم أن يذهب به إلى غرفته. فمشيا إلى غرفة الشيخ دبوس وهما صامتان، وقد استولت الدهشة على عماد الدين، وأصبح كالمأخوذ أو مَنْ أصابه السِّحْر. فلما وصلا إلى الشيخ دبوس بدَّل عماد الدين ثيابه، وهنَّأه دبوس بما ناله من رضا الشيخ الأكبر، وأعاد إليه خنجره ونقوده وجواهره، وأصبح واحدًا منهم".
هذا عن قلعة ألموت وما فيها مما يقال إنه هو الجنة التى تنتظر لذائذُها كلَّ فدائى من الحشاشين بعدما يبرهن على صدق ولائه وخلوص وفائه وأنه على استعداد لأن يرمى نفسه من حالق فتُدَقّ عنقه طاعة للشيخ الكبير. وأما المكان الذى قصده عبود فى أول رواية الأستاذ السنبسى حين التقطه بسيونى ليلا من الحارة المظلمة فهو شقة فى بيت زَرِىّ الهيئة فى منطقة شعبية فقيرة زَرِيّة مثله، لكن الشقة التى يسكنها الشيخ مسعود كانت شيئا آخر من الداخل، إذ كانت مفروشة بأبسطة تكاد الأقدام تغوص فى وبرتها، وقد عُلِّقَت اللوحات العالمية على جدرانها المدهونة بألوان مريحة للعين والأعصاب. وحين دعاه بسيونى إلى الدخول لمقابلة الشيخ مسعود وجد الشيخ يعرف كل شىء عنه وعن أسرته وظروفه وعمله ومعارفه، وكان حوله شبان فى مثل سن عبود وشكله وبين أيديهم أقداح شراب معطر الرائحة، وأمام الشيخ مجمرة متقدة تنفث دخانا أخضر فى زرقة، وعيناه النافذتان تلقيان فى قلبه الرهبة وتكادان أن تقيداه كلما هم بقول أية كلمة حتى لو كانت استفسارا، مما أدهش الفتى وملأه بالهواجس، بيد أن الشيخ طمأنه بأنه لن يجد معه إلا ما يرضيه وأن الجنة فد فتحت أبوابها له.
وكان عبود قبل ذلك يلتقط رزقه فتاتا يحصله بشق الأنفس، وكان مريضا أعجف لا يعرف جسمه النظافة ولا بطنه الشبع، بيد أن ذلك كله قد صار فى خبر كان، وتغيرت حالته وأوضاعه وأصبح يأكل ويشرب ملء بطنه من الطعام الفخم والشراب الهنىء، ويمارس التمرينات الرياضية التى هيأها بسيونى فى أحد الأندية الرياضية تجهيزا له للنهوض بالمهام التى سوف يكلف بها فى عالم البيزينس القذر المظلم، وإن قيل له إن الشيخ يحب أن يكون الناس أقوياء اتباعا لحديث الرسول القائل بأن المؤمن القوى خير وأحب غلى الله من المؤمن الضعيف، حتى صار فى النهاية شخصا آخر يوحى مظهره وثيابه وعلامات النعمة الوافرة الواضحة على جسده بأنه لم يعرف الفقر ولا الجوع ولا القذارة ولا الأمراض يوما. وكان بسيونى يفهمه دائما أن الشيخ مسعود رجل خيّر يحب مساعدة المحتاجين، ومن ثم التقطه من الفقر والمعاناة ليكفل له حياة كريمة. ورغم أن عبود لم يقتنع تماما بهذا التفسير فإن النعمة التى وجد نفسه على حين غرة يتقلب فيها جعلته يسكت ولا يفكر فى هذا الموضوع.
وكانت هذه التدريبات فى الواقع إعدادا لعبود وأمثاله للمهام التى يكلفهم بها الشيخ مسعود، وهى مهامّ شاقة ومحفوفة بالخطر، إذ تقتضيهم القفز فوق الأسوار والتسلل إلى البيوت والمخادع والحصول على الأسرار المستعصية من مكامنها، بل والقتل فى بعض الأحيان إذا استلزم الأمر. وهم يرتدون عند ذلك ملابس تناسب تلك المهام وتساعدهم على التسلق والانسياب والاقتحام، ومعهم بعض الأدوات التى يفشّون بها الأقفال والكوالين، إلى جانب بخاخة تحتوى على غاز مخدر ينفثه الواحد منهم إن استلزم الأمر فى وجه ضحيته أو من يشكل عليه خطرا حتى يسكته ويشل حركته، إلى جانب بعض الحقن السامة وما أشبه مما تقتضيه بعض المهام الخاصة.
وبعد تدريبات النادى بدأت مرحلة أخرى لإعداده هو وأمثاله إعدادا أقسى وأعنف فى معسكر خاص حيث تعلموا الدفاع عن النفس والتخفى والتسلق والرماية تحت إشراف مدربين محترفين. وكان الفتيان الذين يتم تجهيزهم على هذا النحو يقيمون فى عنابر كعنابر الجيش، ويتناولون طعاما كافيا شهيا، ويقومون بأنفسهم بتنظيف أَسِرَّتهم وغرفهم وفق نظام صارم لا تهاون فيه. ثم تلت ذلك مرحلة مختلفة تماما هى مرحلة دخول الفردوس، وهو مكان بعيد فى الصحراء تحيط به المروج السندسية وتجرى من تحت أرضيته الزجاجية الأنهار وتقدم فيه أفخر الأطعمة والمشروبات ويلبس فيه الشباب أفخم الثياب المزركشة المترفة، ويخدمهم فيه صبيان صغار. ولكن قبل أن ينتقلوا إلى الفردوس يحقنهم الدكتور الذى يشتغل فى خدمة الشيخ مسعود بحقن مخدرة بحيث ينتقلون إلى ذلك المكان النائى ويفتحون عيونهم فيه دون أن يعرفوا شيئا عما حدث لهم فيظنون أن ما يَرَوْنَه ويسمعونه ويأكلونه ويشربونه ويلبسونه إنما هو الحلم الذى أنبأهم الشيخ مسعود بأنهم سوف يحلمونه كمقدمة لما سوف ينالونه فى الجنة جزاء وفاقا لطاعتهم إياه وخدمتهم له. وبعد الانتهاء من هذه الفقرة الفردوسية يتم تخديرهم مرة أخرى بوضع المخدر فيما يتناولونه من أشربة، ثم ينقلون كما جاؤوا فى حافلة تُقِلُّهم وهم نائمون لا يدرون من أمرهم شيئا حتى إذا ما استيقظوا من خَدَرهم حسبوا أنهم كانوا فى الجنة فى المنام كما أنبأهم الشيخ، الذى كان بارعا فى حديثه فى تلك الأمور وفى اللعب على عقولهم الساذجة الجاهلة، فكانوا يصدقون ما يقول.
ولا ريب أن القارئ قد رأى وجه الشبه الكبير بين جنة الحشاشين الصبَّاحيين وبين فردوس صبيان الشيخ مسعود، اللهم ما عدا أن الفردوس المسعودى يخلو من الحور العين. فهناك الأبسطة التى تغوص فيها الأقدام، وهنا المرج الذى ينبت فيه العشب الكثيف وتغوص فيه أيضا الأقدام. وهنا وهناك الطعام والشراب الهانئ الفخم الوفير. وهنا وهناك أيضا الولدان الذين يقومون بخدمة الشبان طوال الوقت. وهنا وهناك المياه التى تجرى من تحت الأرضيات الزجاجية. وهنا وهناك رغبة الشباب المغرر بهم من قِبَل شيخ الجبل والشيخ مسعود فى معرفة حقيقة ما يستمتعون به من طعام وشراب وملابس ومروج وبساتين (ونساء هناك فقط): أهو مجرد حلم أم هو واقع فعلى؟ وفى جنة الحسن الصباح حين يستيقظ عماد الدين من خدره ويتذكر الجنة التى كان يستمتع بلذائذها قبل أن يفقد وعيه جراء التخدير يتنبه إلى رائحة الطيب الذى ضمَّخته إياه الحورية فى تلك الجنة، وهو ما استغربه أشد الاستغراب، إذ الطِّيب الذى يُطَيَّب به الإنسان فى المنام لا يبقى عالقا بجسده بعد الإفاقة، وهو ما يذكرنا بالندبة التى تخلفت عن جرح فى يد عبود حدث له حين كان يتلذذ بمتع الفردوس ثم خاطوه له وهو لا يزال فى دار النعيم حتى التأم ولكن بقيت منه ندبة لاحظها عبود بعدما صحا من نومه حسبما أفهموه، واستغرب بدوره بقاءها رغم أنها إنما نتجت عن جرج وقع له فى الحلم.
ومع هذا كانت هناك اختلافات صغيرة هامشية تبعا لاختلاف العصرين والإقليمين واختلاف الوسائل المتاحة فى كل عصر وإقليم. فمصر مثلا ليس فيها جبال شامخة تكاد تلامس صفحة السماء ولا قلاع فوق قُنَن تلك الجبال، ولكن فيها صحراء شاسعة بنى فيها الشيخ مسعود ذلك القصر العجيب الذى يوحى للمقيم فيه بأنه فى الفردوس. ومصر فيها حافلات تنقل الشبان إلى ذلك النعيم وهم مخدرون، بينما عصر الحشاشين القدامى لم يكن يعرف السيارات، بل كانت وسيلة المواصلات هناك هى الخيول... وهكذا.
ولا شك أيضا أن القارئ هنا مطالب بإسكات حاسته النقدية إن أراد ألا يعكر على نفسه صفو الاستمتاع بالقراءة، وإلا فكيف مثلا بنى الشيخ مسعود هذا القصر الفخم الضخم فى تلك الصحراء بما يترتب عليه من معرفة المهندسين والعمال والمقاولين بمكانه ووضعه المريب، ثم يسكت كل هؤلاء فلا يبلغون الحكومة أو يثرثرون به فتتسع دائرة المعرفة بالقصر إلى أن تصل بطريقة أو أخرى إلى الحكومة؟ إن الوضع فى عصر الحشاشين القدامى يختلف تماما عن عصر الحشاشين الجدد، ففى العصور القديمة كانت الحكومة فى تلك الأماكن النائية المنعزلة وسط الجبال وفوق قممها هى حكومة شيخ الجبل نفسه، أما اليوم فيصعب أشد الصعوبة مع وسائل الإعلام المختلفة من صحف وإذاعة وتلفاز ومشباك بل يستحيل أن يفلت الشيخ مسعود بما صنعه من خلال صبيانه الذين يكلفهم بمهماته القذرة فلا تلحظه عيون الحكومة وكأنه غير موجود. ومن ثم فإنه إذا صح أن شيخ القلعة ونواحيها كان يأمر أحد أتباعه من الفداوية أن يلقى بنفسه من حالق فيقفز وتدق عنقه ولا يسأل أحد عن صحته لأن من أمره هو الحاكم نفسه، فكيف يصح أن يأمر الشيخ مسعود أحد صبيانه من الشبان الذين يدربهم ويطعمهم للقيام بما يكلفهم به من مهام قذرة بأن يقفز من فوق سطح بناية شاهقة، ثم ينفذ الشاب ما أمر به ويموت (ص27) دون أن يستتبع ذلك سؤال أحد عنه ولا حتى الدولة وكأنه كلب ومات، وليس للكلب أحد يهتم به أو يستفسر عن مصيره، فالكلاب فى بلادنا على قفا من يشيل؟ كذلك كيف كانت هناك مروج سندسية منداحة فى الصحراء تغوص فيها الأقدام كأنها السجاجيد العجمية الوثيرة؟
لكننى كنت، وأنا أقرأ هذه الرواية، عاملا نفسى من بنها، فكنت أقرأ دون اعتراض أو انتقاد تاركا نفسى راقدا بكل راحة وانسجام فوق محفة الخيال التى فردها لى الأستاذ السنبسى فحملتنى وأخذت تسبح بى فى الفضاء، وبخاصة أنه ما من مشكلة كانت تواجه الشيخ مسعود أو أحد معاونيه أو أيا من صبيانه إلا ويحلها، يا أخى، فى الحال ودون أن يترك وراءه أثرا يمكن أن يقود إليه أو ينم عليه، وكأنه إبليس، لا بل كأنه أستاذ إبليس ذاته. وسوف نراه فى نهاية المطاف بعد خراب بصرة وبعد كل ما اقترف من جرائم ومؤامرات ينفض يده من جميع ذلك ويأخذ قبعته ويفلسع دون أن يضع أحد من الدولة يده عليه كأنه فص ملح وذاب. ألم أقل لكم إنه أستاذ إبليس؟ ومع أن أ. السنبسى هو صانع الشيخ مسعود بل هو خالقه فأنا موقن أنه متى واجهته أية مشكلة مهما كانت تافهة ضئيلة الشأن لا خطورة لها فلسوف يغرق فى شبر ماء مثلى أنا العبد العاجز الضعيف الفقير إلى ربه تعالى.
ولعل استمرارى فى مطالعة الرواية رغم هذا المأخذ راجع إلى أنها تدور حول الحشاشين، وما أدراكم ما الحشاشون وما الحشيش الذى يحششه الحشاشون؟ لقد كنتُ، فيما أظن، متأثرا بجو الحشيش، وجو الحشيش لا منطق فيه ولا وعى بصواب أو خطإ بل كله فرفشة وانسجام. ومن الواضح أن الرواية تراوح بين العصر الحديث والعصر القديم، فهى قد استبدلت بكثير من الأشياء القديمة ما لا يتفق مع عصرنا كما فعلت حين نقلت الشبان فى حافلات إلى الفردوس لا على ظهور الإبل أو الخيل مثلا، لكنها استبقت أشياء أخرى لم تفكر فى تغييرها أو تبديلها كما هو الحال حين أمر الشيخ مسعود أحد صبيانه بالقفز من مبنى شاهق ليموت دون أن يفكر أحد ولو من المارة أن يقف ليتفرج على هذه الحادثة المأساوية الغريبة. ولعل هذا يفسر لنا كيف رجع بنا المؤلف القهقرى قرونا طوالا وتحدث عن الحشاشين القدامى فى نهاية الرواية وكأن لهم بنظرائهم الجدد صلة، وصلة قوية، مع أنهم قد مضوا فى التاريخ البعيد وانطوت صفحتهم من الوجود تماما ولم تعد لهم صلة بأحد، إذ صاروا مجرد أخبار فى الكتب.
كذلك فالمؤلف، حسبما نرى فى الرواية، يبدو وكأنه مطلع على كل ما يدور فى العالم السفلى لرجال الأعمال، وعلى عالم الجماعات الدينية، وعلى عالم الإدارة فى الدولة، وعلى عالم الصحافة، وعلى عالم التقنية، وعلى عالم الأطباء والممرضين والصيادلة والسموم والتخدير، وعلى أساليب أجهزة الإعلام فى مسح عقول الشعوب وملئها بما تريد هى لا بما هو حق وصدق، وعلى عالم المحاكم والقضاء، وعلى عالم المؤامرات والتخطيط، وهو ما يجعلك تصدق رغم أنفك ما يحكيه لك مهما يكن فيه من تَأَبٍّ على المنطق. علاوة على دفء لغته وانسيابيتها بوجه عام وكثرة محصوله التعبيرى وتنوع معجمه اللفظى رغم ملاحظاتى الإعرابية عليها، إذ اللغة ليست إعرابا فقط كما قلت من قبل ووضحت.
وكنت قد قرأت للأستاذ السنبسى كتابه: "دقات على باب الغربة" قبيل هذه الرواية فاستمتعت بما فيه من آراء وذكريات وقصص ومواقف وتعليقات على أحوال الحياة وأوضاع البشر أيما استمتاع حتى لقد انتهيت منه فى الجامعة مرة واحدة وأنا جالس فى مكتبى بعد المحاضرات، فكان انعكاس ذلك الكتاب الممتع اللذيذ الشهى على الرواية قويا، إذ جعلنى أزدرد ما فيها دون اعتراض يذكر، أى دون أن ينشب فى حلقى شىء من هذه الوجبة الأدبية يمنعنى من المضى معها حتى النهاية. وفوق ذلك فهو رجل دافئ الشخصية هادئ دمث لطيف المعشر يدخل قلبك على الفور لأول تعارف بينكما، ومثله يصعب عليك أن تحاسبه بالدانق والسحتوت بل تجد نفسك متسامحا معه تسامحا كبيرا مثلما هو متسامح معك ومع الحياة نفسها. إننى لم أره سوى مرتين طوال حياتى، وتهاتفنا أيضا مرتين لا غير، وكل ذلك فى الأسابيع الثلاثة الماضية، ومع هذا أحس أن معرفتنا ترجع إلى أول الخليقة. وقد رأيت أسرته معه مرة، وكان الأولاد والبنات لا يقلون عن أبيهم هدوءا ودفئا ودماثة وظرفا. فكيف أُفْسِد كل هذه المكتسبات من أجل أن يقال عنى إننى ناقد نحرير لا تفلت منه شاردة ولا واردة من عيوب ما يبدعه الأدباء؟ ملعون أبو خاش النقد إذا كان يُغْضِب منى إنسانا لطيفا طيبا كالأستاذ السنبسى. ثم هذا اللقب الغريب الظريف الذى أسمعه لأول مرة، لقب "السنبسى"، أليس من حقه علىَّ بما فيه من ظرف ووقع موسيقى جميل أن أكون لطيفا بدورى مع صاحبه وروايته؟
كذلك لا ينبغى أن ننسى ما ظهر فى العقود الأخيرة من عصرنا هذا من الواقعية السحرية، وقصصها الذى يقوم على ما يسمى بـ"الفانتازيا"، أى يغلب عليه عنصر الغرائب والعجائب. وقد كانت لى تجربة كاملة مع إحدى الروايات الواقعية السحرية حين قرأت فى أواخر ثمانينات القرن الماضى رواية سلمان رشدى المسيئة للإسلام والنبى والقرآن والله سبحانه وتعالى، ووضعت عنها دراسة مفصلة تناولتْ لغتها فى خمسين صفحة، وبناءها الفنى فى عشرات الصفحات، وأرجعت كل شىء فيها إلى أصوله، وفسرت ما كان منها غامضا. وقد وجدت فى البداية صعوبة بالغة فى فهم ما أقرأ وتتبُّعه والاقتناع به إلى أن وضعت المنطق الإنسانى والتاريخى ومنطق الطبيعة البشرية جانبا وأخذت أطالع الرواية كما هى مجتهدًا فى التأقلم معها لا مُصِرًّا على أن تتأقلم هى معى ومع ما لدىَّ من أفكار وآراء وفهم للحياة والتاريخ والإسلام. فمثلا بدأت الرواية بانفجار طائرة فى أعالى السماء وكيف تناثرت فى الفضاء وهلك كل من فيها حاشا رجلين نزلا بسلام إلى الأرض دون مظلة وكأنها قفزا من علو مترين مثلا. كما أن كلا من أبطالها يعيش فى عدة عصور متباعدة وبشخصيات مختلفة. وبالمثل صورت الخمينى تصويرا عجيبا غريبا، إذ جعلته يطير فى الهواء وقد تلفع بلحيته الهائلة ونبت حاجباه على نحو مخيف وطالت أظفاره كأنه وحش خرافى. كذلك فإن إحدى بطلات الرواية كانت تفتح فمها فتتدفق الفراشات إليه تدفقا فتلتهما التهاما... وهكذا. وفى رواية "مزرعة الحيوانات" لأورويل نرى الخنازير تدير مزرعة من مزارع الحيوان وتجلس للتفاوض مع أصحاب المزارع الأخرى من البشر بوصفها جيرانا لهم وعلى شاكلتهم فى الفهم والإدراك والقدرة على الإدارة والتحاور سواء بسواء. وفى "خريف البطريرك" لجابرييل جارسيا ماركيز يجلس رئيس الدولة الطاغية الجاهل مع ضباط جيشه الكبار على المائدة وقد وُضِع بأمره طبق كبير أمامهم يحتوى على وزير الدفاع الذى كان ينوى أن يقوم بانقلاب، وقد تم تتبيله وشَيُّه ووُضِعَتْ فى فمه حزمة بقدونس، وشرعوا يقتطعون شرائح من لحمه ويأكلون بكل شهية. ومن ثم ما المانع أن أقرأ الرواية على هذا الأساس؟ لا أقصد أنى كنت مقتنعا بهذا، إذ لا أظن المؤلف قد خطر فى ذهنه هذا التوجه، بل أقصد أن هذا ربما كان فى مؤخرة رأسى وأنا أطالع الرواية وحفزنى على إتمامها رغم ما فيها من تأب على المنطق فى بعض أحداثها، وإن لم أكن واعيا بذلك أصلا. وعلى كل حال فإن ما فى رواية "عودة الحشاشين" لايصل فى فانتازيته إلى عشر معشار ما فى رواية الزنديق سلمان رشدى من خروج على كل معالم المنطق ومعانيه.
وعلى كل حال فكما جاء فى فصل "الشيخ الكبير مسعود" فإن ثمة علاقة شديدة بين حشاشى السنبسى وحشاشى التاريخ القديم لا فى الأحداث وطبائع الشخصيات فحسب بل فى أن الشيخ مسعود المشرف على إنشاء جماعة الحشاشين الجدد ومستعملهم فى أغراضه لحساب من يدفع له من رجال الأعمال كان قد قرأ بعض العلوم الشرعية واهتم بتاريخ الفرق والطوائف والملل والنحل واستوعب كثيرا مما ورد فيها من أفكار، وبخاصة جماعة الحشاشين الإسماعيلية وأفكارها، وأعجب بحيلهم وألاعيبهم ومغامراتهم وزعيمهم الحسن الصباح وبراعته فى إدارة قلعة أَلَمُوت. بل إنه، فى غمرة انخراطه فى القراءة عن الصباح وطائفته، قد اكتشف أنه ينحدر من سلالة ذلك الرجل وأن به مشابه كبيرة منه، وهو ما زاده شغفا به وتعمقا فى علم الكلام حتى صار بارعا براعة شديدة فى التأثير بحديثه على الآخرين بلسانه وإيماءات جسده. ليس هذا فحسب بل إنه من فرط شغفه بالصباح وحشَّاشيه قام برحلة إلى أَلَمُوت ليرى كيف كان يعيش جده الأعلى طبقا لما جاء فى الرواية (ص61). ومن هنا أوجد المؤلف صلة بين طائفتى الحشاشين: الحشاشين القدماء والحشاشين المحدثين، ولم تعد المسألة مجرد نزوة نبتت فى دماغ الكاتب، والسلام. بل إننا سوف نراه قرب نهاية الرواية يترك عصرنا تماما وأحداث روايته التى بين أيدينا ويعود القهقرى إلى الحشاشين القدماء ليرينا كيف تم القضاء عليهم، وكأنه يريد الربط بين الطائفتين فى نشوئهما وفى انهيارهما، وهو ما يُكْسِب القصة قدرا إضافيا من إحكام البناء. لقد تحدث عن الحشاشين القدماء فى أوائل الرواية، وها هو ذا يعيد الحديث عنهم فى أواخرها، ليتداخل الماضى مع الحاضر فى روايته على نحو غير اعتيادى فيلفت الأنظار ويشد الانتباه.
على أن المشابه بين روايتى السنبسى وزيدان ليست هى كل شىء فى رواية كاتبنا، فقد لاحظت مثلا تعدد الكلام فى الرواية عن العقاقير والسموم والحقن كما فى الصفحات 32، 34، 35، 76، وهو ما يذكرنا بالقصص البوليسية التى كتبتها أجاثا كريستى، فقد كان كثير من جرائم القتل فى تلك القصص تتم بالسموم، والسبب فى ذلك هو أن أجاثا كريستى كانت تشتغل فى الحرب العالمية الأولى ممرضة، وفى الحرب العالمية الثانية مساعدةَ صيدلانيةٍ، فلديها خبرة واسعة فى هذا المجال. ورواية "عودة الحشاشين" هى رواية بوليسية بكل استحقاق وجدارة. فإن كان هذا توافقا غير مقصود فبها ونعمت وإلا فليس غريبا أن يتأثر المؤلف بمؤلفة قصص بوليسية مشهورة يعرفها العالم أجمع حتى لقد تجاوز عدد النسخ التى طبعت من رواياتها مليارى نسخة، وترجمت أعمالها إلى ثلاث ومائة لغة، ولا يسبق كتبَها فى الرواج، حسبما قرأت، سوى الإنجيل وشكسبير، وطالعت أنا مثلا فى صباى وشبابى الأول عددا كبيرا من رواياتها، التى كانت تستفز عقلى ويصعب علىَّ التوصل إلى معرفة المجرم فيها ولو تخمينا. وفوق هذا فإن كريستى قد زارت مصر زيارة غير قصيرة فى بدايات العقد الرابع من القرن المنصرم كانت ثمرتها أن وضعت رواية بوليسية تدور معظم أحداثها فى مصر اسمها "Death on the Nile" قرأتها أيضا مترجمة فى صغرى. كما كتبتْ مسرحية عن الملك المصرى أخناتون.
وهناك أيضا وجه شبه يربط بين روايتنا ورواية جورج أورويل: "1984" حيث يعيش الناس فى الدولة الاشتراكية التى تدور فيها الأحداث داخل سجن خانق مرعب، وتحت المراقبة الدائمة ليل نهار، وفى أى مكان يذهبون إليه بما فى ذلك دورة المياه. ذلك أن الشيخ مسعود قد وزع سماعات فى أرجاء المكان الذى يعيش فيه صبيانه وفق نظام صوتى بديع ابتكره السباعى، وهو راهب مشلوح يشتغل عند الشيخ مسعود مهندسا كهربائيا، بحيث يصل صوت الشيخ إلى كل مكان فى المبنى المذكور عن طريق ميكروفون مخبَّإ بين طيات ملابسه، فيتصور كل من بالمكان أنه تحت بصر الشيخ وسمعه طوال الوقت لا يمكنه أن يلعب بذيله على أى نحو (ص60). وهذا يذكرنا نوعا ما بالأخ الكبير (Big Brother) فى رواية جورج أورويل المشار إليها آنفا. ورواية أورويل قد يمكن النظر إليها من إحدى الزوايا على أنها رواية بوليسية أيضا لا رواية سياسية وعقائدية ونبوئية فقط.
وقد خصص المؤلف فى بداية الرواية لكل شخصية أو أكثر من شخصياته فصلا يقدمها إلى القارئ ويعرفه بها. فعلى سبيل المثال نراه فى الفصل الأول المسمى: "اللقاء الغامض" يقدم إلينا عبود وبسيونى: الأول شاب فقير بائس، والثانى هو كشاف الشيخ مسعود، أى الشخص الذى يبحث له عن أولئك الشبان الذين يحتاج إليهم الشيخ فى تنفيذ عملياته القذرة فى عالم البيزينس، تلك العمليات التى تستلزم ممن يقوم بها أن يكون رياضيا قوى البنية خفيف الحركة، قادرا على تسلق الأسوار والمواسير، بارعا فى التخفى والهرب، رابط الجأش سريعا فى اتخاذ التصرف الملائم فى المواقف الحرجة، وأن يكون قبل ذلك كله مطيعا ينفذ ما يسند إليه من مهام دون أخذ ورد حتى لو كان المطلوب هو إلقاء نفسه من شاهق، وذلك اتباعا لما كان يجرى قديما فى قلعة ألموت.
وقد كان المؤلف بارعا فى بدء روايته إذ استطاع أن يجعل افتتاحها مشوقا تشويقا كبيرا، فقد صور عبود وهو يمشى فى أسماله البالية فى الزقاق الضيق المظلم راجعا إلى بيته ليلا يجر رجليه من الإرهاق والجوع جرا، وكأنه فأر متهافت أعجف مسكين انقض على قفاه قط متوحش وأمسكه بمخالبه التى لا تفلت شيئا، وقد استسلم الفأر المسكين للقط الجبار دون أن يبدى أى قدر من المقاومة أو حتى الاستفسار عما يجرى، وكأن الأمر لا يخصه فى شىء. لقد شل الرعب لسانه: "سار الفتى النحيل ذو القوام المنحنى من سوء التغذية متلفعا بأسماله البالية، ومنقبضا على نفسه من قسوة الشتاء يجر ساقيه بخطوات لاهثة خارجا من الميدان الفسيح المتلالئ الأضواء إلى الزُّقَاق الضيق المظلم، وما إن دَلَفَ إلى ذلك الزقاق ومر تحت بقعة الضوء الخافتة الصادرة عن عمود الإنارة القديم حتى انتفض فجأة واعتراه خوف شديد على إثر قبضة باردة وعنيفة على عنقه من يدٍ قويةٍ خشنة الملمس ذات أصابع طويلة مستدقّة التفت حول عنقه حتى كادت تتلامس من جانبى رقبته النحيلة. توقف الفتى فجأة ليجد نفسه وجها لوجه أمام بسيونى ذلك الرجل الغامض الذى يظهر فجأة، ويختفى فجأة. همس فى أذنه بسيونى بلهجة لطيفة وابتسامة فاترة مع ضغطة آمرة على كف يده قائلا: اتبعنى.
تبعه الفتى فى صمت كأنه مسحور، وكأن بسيونى يربطه إليه بخيط غير مرئى متسلِّلَيْن عبر الأزقة الضيقة المظلمة إلا من بصيص ضئيل من الضوء الذى تلقيه أعمدة النور الصدئة على مسافات متباعدة كانا يمرات حينها خلال الظلام الدامس، فكأنها تتصدق على الزقاق ببعض نورها وتضن أن تمنحه ضياءها الكامل مثلما تتصدق الأحياء الراقية على الفقيرة ببعض ما زاد عن حاجتها لتظل تلك الأحياء على حالها لا تنهض لتعتمد على نفسها ولا تقتلها الفافة فتتعرض للانهيار، ومن ثم تصبح مشكلة للأرستقراط...
وكانت أمام الشيخ مجمرة كبيرة تنفث دخانا أخضر مشوبا بزرقة خفيفة له تلك الرائحة التى استنشقها الفتى من مدخل المنزل. شعر الفتى بأحاسيس مختلطة وغريبة، لكنها كانت أحاسيس مريحة مبهجة. مدَّ الشيخ مسعود إليه يده مرحبا: أهلا يا "عبُّود"! فوجئ الفتى بأن الرجل يعرف اسمه، فتساءل: أَوَتعرفنى؟ رد الشيخ: ألَسْتَ عبُّود بن محمود السمَّاك الذى كان يبيع السمك فى أول زقاق الشيخ هاشم فى البيت ذى الغرفة الواحدة، والذى باعه أخوك وألقى بكم فى عرض الشارع منذ سنتين، وأنت الآن بلا مأوى؟ أصابتِ الدهشة قلب الفتى من غزارة المعلومات التى يعرفها الشيخ عنه، فارْتجَفَ واعْتَراه خوفٌ شديد، وأوشك أن يُطْلِقَ ساقَيْه للريح هربا من هذا الموقف الغامض، غير أن اليد الناعمة الدافئة للشيخ استبقت راحته فيها، وأخذ يضغط عليها بحنوٍّ بالغٍ قائلا: اطمئن يا بنى، ليس عندنا إلا ما يرضيك وقد فتحت لك الجنة أبوابها. انْتَحَى بسيونى بالفتى جانبا وهمس فى أذُنِه: أَطِعِ الشيخ يا عبُّود تُفْتَح لك أبواب الجنة، كما قال لك، ولا تخْشَ شيئا، فالشيخ "إيده طايلة"، ولا تقف كراماته عند حدّ.
لم يفهم الفتى ما يدور أمامه ولا ماهيّة هؤلاء الفتية الصامتين الذين كلما ذكر الشيخ شيئا أوْمَأوا بالموافقة على كلامه كأنه وحى منزّل. كانتا عينا الشيخ النافذتان تُشعرانِه بالرهبة وتَكادان تُقَيِّدانِه بخيوطٍ غير مرئية كلما هَمَّ بالاعتراض أو الاستفهام أو حتى الاستفسار عن سبب استدعائه، وأوحت إليه نظرات بسيونى أن مجرد الاعتراض على كلام الشيخ قد يعتبر إهانة له. صمت الفتى منقادا على غير رغبةٍ منه، لكنَّه كان لايزال قَلِقَ النفس مُزَعْزَعَ الوجدان. أعطاه الشيخ بيده كأسا مُتْرَعَة من ذلك العصير الذى يشربون، وما إن أدناها الفتى من شفتيه حتى شعر بطعم غريب لكنه رائع، ولأول مرة يتذوق طعما مثله، وصعدت الرائحة الزكية إلى خياشيمه فزادته متعة، وبدأ رَوْعَهُ يَفْرُخ دون أن يعرف سببا للقلق أولًا ولا للراحة بعده. استمرّ بسيونى يهمس فى أذن الفتى ويَسْرِدُ عليه من كرامات الشيخ والأيادى التى قدَّمها لأهل الحى وشبابه، وأنه سوف يناله من كرامات الشيخ الكثير شرْط أن يطيعه فى كل ما يأمر به. ثم رانَ على البهو صمتٌ عميق لم يقطعه إلا أذان الفجر من المسجد القريب. قام الشيخ يتوضأ، وقام الفتية مثله يتوضأون، ووجد الفتى نفسه وحيدا، ثم أتى الشيخ يقطر الماء من لحيته وأشار للفتى بلطف قائلا: توضأ وصلِّ معنا الفجر. دخل الفتى إلى الحمَّام الْمُزَخْرَفِ من الداخل، وبلغت حَيْرته مُنتهاها عندما لم يَدْرِ كيف يفتح صنبور المياه، وباءت محاولاته بالفشل، ولما فقد الأمل فى كيفية فتح الصنبور، حانَت منه حركة عفْوية اصطدمت بِمِقْبض الصنبور المزخرف فتدفق الماء منه، ساعتها عرف كيف يفتحه، ثم وقف جامدا، فلم تنته بعدُ حَيْرَته لأنه لم يتوضأ من قبل ولا يعرف كيفية الوضوء. بلَّل الفتى وجهه ويديه وقدميه بالماء، ولما خرج وطِئَ البساط النفيس بقدميه المتشققتين، اللتين لم يغمرهما الماء جيدا، فَنَبَّهَهُ الشيخ إلى أن يعيد الوضوء ويُسْبِغَه على أعضائه، وتقدم الشيخ ليصلى بهم. لم يكن عبود يَدْرِى ما يقول فى صلاته ولا ما يفعل، غير أنه حَاكَى حركات الصلاة كما يفعل الفتيان، وفعل مثلما فعلوا، وقضى وقته فى الصلاة يفكر فيما وضع نفسه فيه وهو مأخوذ، وكان يُتَمْتِمُ بكل ما يعرف من أدعية وآيات أو ما ظنَّ أنها آيات سمعها عَرَضًا من تلفاز المقهى أو من أفواه الناس، فقد كانت هذه أول مرة يصلى فيها، ومع ذلك شعر براحة عجيبة تتمشى فى أنحاء جسده ومفاصله لم يألفها من قبل ولا يعلم لها سببا، ثم جلس الشيخ يحدثهم فى أمور الدنيا والدين. كان مما قاله الشيخ إن هذه الدنيا ممر وليست بمستقر، وقد أفلَحَ من نجا منها وعبر جسورها سالما غانما، ثم صمت وزاد بعدها: وفى طاعتنا الخير والسلامة.
كان الفتى يسمع هذا الكلام لأول مرة، وما معنى مَمَرّ؟ أهناك حياة أخرى غير التى نحياها؟ وما شكلها؟ وما قوامها؟ ثم ما الداعى إلى حياة أخرى نعانى فيها شَظَفِ العيش مثلما نعانى الآن؟ لم يكن الفتى يدرى شيئا عن ذلك، فهو لم يُعْطِ الدين جانبا من حياته قط، وإنما يسير مع الناس فيما هم سائرون، ينام ويصحو ويمارس حياته بنفس النمط يوما بعد يوم، ولم تك تحمل له كلمة "حرام" إلا أن هذا الشيء ممنوع ولا يدرى من الذى حرَّمه ولمَ. كان أحد شباب الزقاق يقوم على تحفيظ القرآن لأولاد الحى، وكلما حادَثَ عبودا فى ذلك اعتذر له بضيق الوقت، لكنَّ ما قاله الشيخ جعله يفكر مرة أخرى فى معنى الحياة الأخرى. انقطع وارد الفكر لدى عبُّود عندما هبَّ الشيخ واقفا، وكانت هذه إشارة إلى انصراف الفتية. بدا الشيخ ذا قامة رياضية وطولٍ فارع، كما أن عضلاته المجدولة كانت بادية من خلال الثوب الحريرى الفاخر الرقيق الذى يرتديه. كان كلام الشيخ ينزل على قلب الفتى عبود بردًا وسلامًا إلا من غُصَّةٍ تلوحُ دائما فى ثنايا كلامه تجعله يشعر بعدم الارتياح قليلا مثل المرارة الخفيفة فى سُؤْرِ الشاى الثقيل الذى كان يشربه فى قهوة اللَّبَّان عندما يكون موسِرًا. كان عبُّود لا يرتاح لمرأى بسيونى بطبعه، كما لم يكن الفتى الذى يقع عليه اختيار بسيونى يظهر فى الحى مرة أخرى، ولم يكن أحد يدْرى إلى أين ذهب".
وأنا حين قرأت الفقرات الأولى من هذا النص وجدتنى أطير إلى أيام كنت أقرأ قصص أرسين لوبين والدكتور واطسن وهركيول بوارو وغيرهم من أبطال القصص البوليسية الغربية. وهأنذا الآن أضحك وأنا أقرأ هذا الكلام الظريف الذى لم أقرأه منذ عقود بعيدة وأعيش لحظات مستعادة من صباى الساذج حين كنت لا أزال فى المرحلة الإعدادية وأتردد على مكتبة فافا فى شارع القاضى بطنطا لأستبدل بكل عدد أقرؤه من أعداد هذه القصص عددا آخر لم أقرأه وأدفع فى المقابل نصف قرش. صحيح أن الرواية ليست كلها مشوِّقة إلى هذا الحد ولا مقنعة إلى هذا الحد، ولكن البداية على كل حال بداية ناجحة بل بارعة. لقد وضعنا المؤلف فى قلب الحدث مرة واحدة، ونشر الغموض نشرا شمل الزقاق الضيق المظلم، وصور لنا الأظافر وصاحبها الغامض الذى لا نعرف عنه شيئا وهو ينشبها فى قفا شاب مسكين نجهل كل شىء عنه، فازبأرّ شعر رأسنا خوفا ورعبا واستُنْفِرَتْ كل حواسنا وعقولنا وخيالاتنا انتظارا لمعرفة طبيعة هذا الذى يحدث ولماذا يحدث وإلام سينتهى. ثم لدينا كذلك الغموض ذاته يسيطر على مجلس الشيخ مسعود، الذى تسوده رائحة نفاذة غامضة هى أيضا، والذى يتصدره الشيخ ذاته ويواجه الشاب المسكين بما يدل على أنه يعرف عنه كل شىء صغيرا كان أو كبيرا، وهو ما يزيدنا تشوقا ولهفة.
وقد جرى هذا كله فى شقة فخمة مترفة رغم أن المنزل الذى تقع فيه الشقة منزل زرى الهيئة ككل شىء فى الحى. وإنى لأتساءل: كيف استطاع الشيخ مسعود أن يؤثث الشقة بكل ذلك الأثاث الفخم وتلك اللوحات العالمية، وكيف كانت شقته مقصدا لهؤلاء الشبان وأمثالهم فى تلك المنطقة الشعبية دون أن تثير فضول أهلها، وهم عوام، والعوام شديدو الفضول، وبخاصة أنه لا يمكن أن يحدث فى منطقتهم المزدحمة التى يعرف كل شخص فيها كل من حوله شىء من غير أن يستلفت نظرهم؟ وقبل هذا لم كان لا بد أن يزين جدران الشقة باللوحات العالمية، وروادها كما نعلم هم أولئك الشبان الذين يكلفهم الشيخ بتنفيذ مهامه القذرة، وهم كلهم فقراء أميون أو أشباه أميين ولا يعنيهم شىء سوى الأكل والشرب واللبس، وليس لهم فى الثقافة والفن الراقى قليل أو كثير؟ بل كيف يمكن أن توجد شقة متسعة ومؤثثة بهذا الأثاث المترف فى تلك الحارة العشوائية؟
على أى حال فالرواية تضم عددا من الشخصيات أُحْسِن تصويرها بوجه عام، وتتفرد كل شخصية بسمات لا تعرفها الشخصيات الأخرى. وهذا أمر يحسب للراوى: فعندنا عبود، وقد عرفناه هو وبسيونى، وعندنا الدكتور، وهو شاب ابن ناس كان قد ورث عن أهله الكثير، لكنه بتصرفاته الخرقاء ولامبالاته بالعواقب وإدمانه قد ضيع كل شىء وانتهى به الحال إلى فصله من عمله بالمستشفيات ليقع فى يد الشيخ مسعود، الذى يعرف كيف يستغل مثل تلك الظروف ويضع يده على أصحابها ويضمهم لرجاله. وعندنا كذلك السباعى، الراهب المشلوح البارع فى أمور الكهربا وما يتصل بها، والذى سقط كغيره فى كف الشيخ فضمه لأتباعه... وهكذا.
ولكن إذا كان لهؤلاء وأمثالهم دورهم فى الرواية فما دور الكاتب عزت الخلفاوى؟ لقد ظهر فى فصل خاص به بغتة ثم اختفى فى الحال بغتة كما ظهر، ولم يترك وراءه شيئا يمكن أن يكون له أثر على أحداث الرواية أو شخصياتها. لقد صنع له المؤلف فصلا خاصا لا تحتاجه الرواية، وكأنه عز عليه أن يكون لديه بعض المعلومات المفيدة عن ذلك الشخص ثم لا يستغلها فى تزويد روايته ببعض الأسرار التى قد لا يجدها القارئ فى مكان آخر بهذه السهولة. ومن هذا الفصل نرى كيف أن الجماعات الدينية ليست كلها أشخاصا طيبين متجردين للدعوة والإسلام بل فيها انتهازيون منافقون لا يعملون إلا لمصلحتهم، فهم يدورون مع المصلحة وجودا وعدما، ومنهم الخلفاوى ذاته، الذى ألقى فى كلامه مع محاوره بالفصل الخاص به بعض الأضواء على الجماعة الدينية التى كان عضوا فيها وما يحيط بها من أسرار وما يحرك تصرفاتها من بواعث ودوافع وعلى أى أساس ترسم مواقفها... وهكذا.
ومثل الفصل الخاص بعزت الخلفاوى الفصل الذى يعقبه، وإن كان أقل منه انفصالا عن جسد الرواية كما سوف نرى. وهو خاص بمن سمته الرواية: "صديق الأباطرة". إنه فصل شائق ومهم فى حد ذاته، وفيه تصوير حساس لشخصية ذلك الصحفى المعروف وتفسير لبعض تصرفاته ووصف لدارته القائمة وسط المزارع والبساتين على أطراف القاهرة الجنوبية وإشارة إلى واقعة هامة قرأناها وقتذاك فى الصحف. لكن الفصل رغم كل هذا لا يرتبط ببقية فصول الرواية ارتباطا عضويا. إنه مهم ومثير فى حد ذاته، لكنه لا يمتزج بالرواية امتزاج السكر بالماء بل يظل كل منهما مستقلا عن الآخر، اللهم إلا أن بعضهم قد طلب من الشيخ مسعود الحصول له على بعض المستندات من دارة صديق الأباطرة، لكن صبيانه فشلوا فى العثور عليها، ثم لا شىء آخر بعد ذلك. وكلا الفصلين يقوم على حوار بين صاحبه وشخصية مهمة تلقى عليه الأسئلة فيجيب عنها بما يلقى الضوء على بعض الأسرار غير المعروفة للناس بوجه عام. إلا أن هناك فرقا بين الفصلين، فقد كانت الشخصية الهامة التى حاورت صديق الأباطرة هى الشيخ مسعود ذاته، إذ ذهب بناء على استدعاء الصحفى نفسه لعله يساعده على معرفة الجهة التى كانت وراء اقتحام الدارة فى غيابه بأوربا بينما كان الشيخ مسعود ذاته هو الشخص الذى تمت محاولة السرقة بأمره لحساب طرف آخر لم تفصح الرواية عنه ولا أومأت إليه.
وهناك فصلان عن السيدة نوال، التى كانت تعمل فى أحد المصارف الكبرى بالقاهرة والتى استغلت وظيفتها فى الاستيلاء على أموال بعض العملاء، ومنهم مدكور بك صاحب أكبر مبلغ سرقته من أولئك العملاء، وتريد الآن أن يقتلها أحدٌ قتلا صوريا حتى يكف مدكور بك عن مطالبتها برد عشرات الملايين التى أخذتها من حسابه دون وجه حق والتى كونها هو بدوره من التلاعبات والسرقات المصرفية. وقد اتصلت من ثم بالشيخ مسعود ليرتب لها أمر ذلك القتل الصورى والخروج من البلاد بعد تحقيق شكلى يتم فيه غلق القضية، ثم تحويل تلك الملايين لها فى البلد الذى سوف تستقر فيه باسم جديد لقاء عمولة قيمتها خمسة وعشرون بالمائة من المبلغ المذكور. وفى نفس الوقت كان مدكور بك قد اتصل بمسعود واتفق معه على مساعدته فى استرداد ملايينه من السيدة نوال مقابل عمولة سخية أيضا، ووضع معه خطة للتخلص منها بعملية قتل حقيقية. والمهم أنه بعد أن تم قتلها وحول مدكور بك عمولة الشيخ إليه كان الشيخ قد رتب أمره بحيث يستولى هو على الملايين كلها لنفسه. و"كانت هذه هى العملية الوحيدة التى شذ فيها الشيخ عن استخدام وسائله الأنيقة فى مثل تلك العمليات لطبيعتها الخاصة وغنيمتها الكبيرة منها" كما جاء فى نهاية الفصل الثانى من الفصلين الخاصين يالسيدة نوال. ولا شك أن هذا الفصل بالذات يشهد على اتساع معرفة الكاتب بعالم البيزينس وتياراته الخفية فى عالم الظلام والفساد والسرقات والاختلاسات. وأقرب شىء إلى ذلك فى عالم الرواية العربية ما كتبه إحسان عبد القدوس فى روايته المشهورة: "يا عزيزى، كلنا لصوص"، فهى تقوم على أن كلا من بطلى الرواية يبذل جهده الجبار لخداع الآخر ليرى فى النهاية أن الطرف الآخر قد أحبط له تآمره بتآمر أدهى.
وقد استعمل المؤلف فى هذين الفصلين شيئا جديدا فى بناء الرواية، إذ أوهمنا كلامه فى الفصل الأول منهما أن هذه أول مرة يسمع فيها الشيخ مسعود باسم السيدة نوال أو يعرف شيئا عنها، لنفاجأ فى الفصل الثانى أنه كان يعرف أمرها منذ بعض الوقت من مدكور بك، وأنه أيضا قد صمم خطته على أساس أن يضحك على الطرفين جميعا ويستولى على الغنيمة كلها دونهما مضافا إليها عمولته التى حولها له مدكور بك فور علمه بقتل نوال حسبما خططا لاسترداد ملايينه عن طريق الشيخ، ولكنه بعد موتها وضع يده على كل شىء، إذ كان المبلغ هائلا يغرى بالتنكر لأصول اللعبة، وبخاصة أن مدكور ونوال لصان حقيران ولا يستحق أى منهما شيئا من تلك الملايين. فليفز هو بها ما دام الآخران لاحق لهما فيها. ترى هل هو أقل من أيهما؟
وهذا الأسلوب الفنى فى بناء القصة قد تكرر، وعلى نحو أوضح، فى فصلين آخرين على الأقل، وهما فصل "شوقى والشيخ مسعود" الذى يصور لنا حوار الاتفاق على قتل عم شوقى: الشريف سراج، وكأن القتل لم يتم بعد رغم أنه قد تم وانتهى الأمر فى الفصل السابق. وهو ما ينطبق على فصل "الخواجا سميث". وقد ظننت فى البداية أن هذا خطأ أو سهو من المؤلف، لكنى عدت ففهمت أنه قد قصد ذلك قصدا، وأنه أراد أن يشرح لنا الأمر بأثر رجعى، فنراه من زاوية جديدة غير معهودة فى الروايات حتى ترسخ الأحداث والحوارات فى الذاكرة لا تزايلها، ويبدو الأمر بطعم مختلف جديد. ولست أذكر أنى قرأت شيئا مثل هذا من قبل. ومن المحتمل أن يأتى روائى فى المستقبل فيستثمر هذا الأسلوب ويطوره فيصير فتحا فى عالم الرواية يجرى عليه الجميع ويفاخرون به. وحينئذ يقال إن عبد الحميد السنبسى هو ابن بجدتها وإنه هو مخترع هذا الأسلوب. اللهم إلا إذا ثبت أن أحدا آخر قبله هو مخترع هذه الطريقة. أيا ما يكن الأمر فقد كان لا بد من الإشارة هنا إلى تلك التقنية غير المعهودة. فهذه إحدى مهام النقد والنقاد. ولكى أوضح الأمر أذكر أنى كثيرا ما أعيد النظر إلى بعض الكوارث بعين أخرى حين أراجع ما كان يدور فى نفوس المكروثين من آمال تطاول السماء قبل أن تقع تلك الكوارث، فأستغرب كيف كانت آمالهم فى ذروتها فى نفس الوقت الذى كان القدر يعد لهم مباغتته المرعبة.
ومثالا على ذلك أشير إلى المباراة التى لعبها ليفربول وأتليتكو مدريد منذ أيام، وكان على الفريق الإنجليزى أن يفوز على ضيفه الأسبانى بهدفين إذا أراد أن يتأهل لنصف النهائى فى كأس الاتحاد الأوربى لأنه كان قد هُزِم فى أسبانيا فى مباراة الذهاب بهدف. وبدأت المباراة بتفوق واضح لليفربول، الذى استطاع إحراز هدف وضاعت منه أهداف محققة أو شبه محققة فى الشوطين الأصليين، ثم لما لعب الفريقان الشوط الإضافى الأول سجل ليفربول هدفه الثانى الذى يكفل له الصعود. وهنا كانت الآمال فى القمة: آمال المدرب وآمال اللاعبين وآمال الجمهور وآمالنا نحن المتحمسين لمحمد صلاح لاعب ليفربول، واشتعلت حماسة اللاعبين الليفربوليين يريدون أن يحرزوا هدفا ثالثا، ورابعا أيضا، ولم لا؟ لنفاجأ بهجمة مرتدة غير متوقعة يسجل منها الفريق الضيف هدفا أول يتبعه هدف ثان فهدف ثالث فى آخر دقائق المباراة، ويطاح بليفربول ويخرج الجمهور غير مصدق، ونحزن نحن من أجل ابن بلدنا الذى يلعب لليفربول والذى تألق ذلك المساء كما لم يتألق منذ فترة. والآن حين أعيد الفرجة على تسجيل المباراة وأستمع إلى المعلق قبل إحراز الإسبان أهدافهم وهو يثنى على لاعبى ليفربول، وبالذات محمد صلاح، ويتحدث عن الصعود الوشيك له ولفريقه أضحك فى حزن وأقول: هلا انتظرت قليلا أيها المعلق؟ لسوف ترى ليفربول وهو يخرج مكسورا محبطا حزينا لا يصدق ولا نصدق نحن. إن طعم المباراة فى المشاهدة المسجلة شىء آخر تماما، وبدلا من الفرحة بهدفى ليفربول نشعر بتعاسة مضاعفة. فهذا مثل هذا. أى أن مشاهدتنا للمباراة مسجلةً تشبه قراءتنا للفصل الذى يعرض علينا ما دار ووقع بين أبطال الرواية لا على أنه ماض راح وانقضى بل على أنه حاضر يبسط أوراقه لنا الآن.
وفى القصة أسرار كثيرة من عالم المال والأعمال وعالم القضاء وعالم الإعلام وعالم الجماعات الدينية كما قلت، ويجد القارئ كثيرا منها مفيدا وجديدا. والانطباع الذى يخرج به من قراءته للرواية هو أن الفساد متغلغل فى كل مفاصل الدولة، وأن الأمر من التعقيد والرسوخ بحيث يصعب التغلب على ذلك الفساد، اللهم إلا إن وقعت تغيرات حاسمة وصعبة. وقد ظل الشيخ مسعود يمارس خدماته الشيطانية لرجال الأعمال وأشباههم إلى أن شك عبود فى أمر الجنة وبدأ يتصور أن ما يراه من لذائذها هو لذائذ واقعية حقيقية لا أحلام ومنامات كما أوهمهم الشيخ. وقد لجأ عبود إلى حيلة ساذجة كى يتيقن من الحقيقة، فاتضح له أن شكوكه فى محلها. وهنا أحب أن أقول إن الإنسان إذا كان متيقظا لا تعتريه الشكوك فى أن ما يدركه فى يقظته إنما هو أحلام ومنامات، أما ما يراه فى المنام فلا يحدث أن يتصور أنه حلم لا يقظة. ومن هنا فمن الصعب أن يصدق صبيان الشيخ مهما كانوا عوامَّ جهلة أن ما يأكلونه من طعام شهى لذيذ ويشربونه من مشروبات رائعة ويرتدونه من ملابس فخمة غالية إنما هو حلم كما يوهمهم الشيخ.
وزاد من تمرد عبود ما تناهى إلى سمعه بالمصادفة المحضة من أن الشيخ قد شرع يرتاب فيه وفى إخلاصه وأنه قد اشتبه فى معرفته حقيقة أمره واعتزم على التخلص منه، ولهذا قرر عبود أن يهرب من قبضة الشيخ ويبلغ عنه السلطات. وبعد عدة مغامرات تشبه المغامرات الساذجة التى نراها فى بعض الأفلام المصرية السطحية التى لا يبتلع ما فيها من مبالغات وتفاهات سوى ذوى العقول المغرقة فى العامية والجهل استطاع الهرب وتبليغ النيابة بحقيقة الشيخ، لكن الشيخ، كما فى الأفلام المصرية المضحكة أيضا، كان من الحنكة والدهاء بحيث استطاع الهرب من القبض عليه متخفيا فى ملابس غير التى كان يرتديها بعد أن أحدث بالحلاقة بعض التغييرات فى سحنته، وانطلق إلى المطار بجواز سفر واسم جديدين حيث استطاع الإفلات إلى خارج البلاد.
ولكن قبل أن يتناول المؤلف نهاية الشيخ مسعود على هذا النحو كان قد عاد القهقرى فى التاريخ إلى قلعة ألموت أيام كان الحسن الصباح يديرها ويحكم المنطقة حولها ويخضع الجميع لإمرته. وكما تمرد عبود على الشيخ مسعود ألفينا محمد ابن الشيخ حسن الصباح يتمرد على أبيه ويخالفه فى عقيدته الخارجة على عقيدة الإسلام الصحيحة. وقد حاول الشيخ أن يَثْنِىَ ابنَه عن هذا التمرد، لكن محاولاته ضاعت أدراج الرياح، فصمم على قتله، وأخرجه إلى الجمهور ذات يوم مقيدا بالسلاسل زاعما أنه وجده يشرب الخمر، ومن ثم قرر أن يقيم عليه الحد، لكن ليس الحد الذى يقام على من يشرب الخمر بل الحد الذى يقام على أهل الحرابة، فهو ابنه، ولا بد أن يقسو فى معاقبته كى يعرف القاصى والدانى أن الشيخ لا يفرط فى حدود الله وأنه لا يتساهل مع فلذة كبده أبدا. ثم صاح بالجلاد أن يتقدم فيوقع العقوبة على ولده، فما كان منه إلا أن امتشق حسامه، وبضربة واحدة طير رقبته، فسقط الولد من فوق الجبل المشمخرّ إلى الوادى السحيق لتأكله الصقور والنسور. ثم تطورت الأمور بعد ذلك تطورا مخيفا، وهجم المغول على الدولة الإسلامية انطلاقا من أطرافها الغربية، ولما وصلوا إلى قلعة ألموت شددوا عليها الحصار ولم يتركوا شيئا من الطعام يمر إليها، مما أدى فى النهاية إلى استسلامها بقيادة ابن آخر للحسن الصباح بعد أن مات أبوه قبل الاستسلام بقليل، وكان مصير الابن أَنْ قَتَلَه المغول.
وقد أبدع الأستاذ السنبسى فى تصوير مشهد اللحظات الأخيرة فى حياة محمد بن الحسن الصباح وفى تنفيذ حكم الإعدام فيه بل فى الفصل كله إحسانا عظيما، وكان أسلوبه متوترا شديد الحساسية. وإلى القارئ الكريم هذا النص المتميز، وهو الجزء الأول من الفصل المسمى بـ"الهاوية": "صباح أحد الأيام المطيرة كانت السماء ملبَّدَةً بالغُيوم الداكنة وتُنْذِرُ بقرب العاصفة، وقد احتجبت الشمس تماما خلف السحب السوداء الْمُقْبِضة للنفس، ولم يبدُ لها أثر فى السماء كأنها لم تَطْلع ذلك اليوم، واقتربت السحب فى هذا الصباح من هامِ الجبال تَلُوثُ عليها أستارا سوداء وسقطت نُدَفً متناثرة من البَرَدِ تركت آثارها على الأرض كالقطن المندوف، وخيّم على القلعة شعور عام بالحزن والأسى لا يُعْرَف له سبب، وانقبضت قلوب الحاضرين وهم يَتَوَجَّسُون شرا من هذا الاجتماع الذى دعا إليه الحسن الصبَّاح فى الصباح الباكر. فجأة انفتح مصراعا الباب الكبير مُصْدِرًا صريرا مرعبا، وحضر الحراس بأزيائهم الْمُنَمَّقَةِ الْمُزَرْكَشَةِ يسيرون صفا واحدا بخطوات بطيئة متثاقلة تسبقهم أصوات الدروع التى يلبسونها حتى لتجعل أسنان الحضور تصطك من جَرْسِها الحاد.
جاء من خلفهم مجموعة أخرى يجرُّون محمد بن الشيخ حسن الصبَّاح مقَيَّدا ومُكَمَّمَا، وأمام هذا الجمع الغفير من الناس الذين تمت دعوتهم لحضور محاكمة محمد، وكان الشيخ حسن الصبَّاح هو الذى تلا على الناس أن ابنه تم ضبطه البارحة وهو يتعاطى الخمر، وهو لن يقيم عليه حد الخمر وهو الجلد، لكنه سوف يقيم عليه حدَّ الحرابة والإفساد فى الأرض تعذيرا له لأنه ابنه ولأنه يجب أن يكون قدوة للناس لا أن يتعاطى المُسْكِرَ، وكما أن كرامات الكبار كبيرة، فكذلك عقوبتهم إذا ضلوا الطريق كبيرة.
أشار الحسن إلى القاضى بجواره الذى قام خطيبا فى الناس يمدح الحسن الصبَّاح بكل ما أوتى من بيان، ويضفى عليه صفات الأولياء تَزَلّفا إليه لأنه ضحى بفَلْذَةِ كَبِدِهِ تنفيذا لأحكام الشرع، وقد حكم عليه بأقصى عقوبة ليكون عِبرة لغيره. وكالَ القاضى للحسن من المديح والاستحسان ما أوشك أن يضعه فى رُتْبَة الأنبياء والصديقين، والناس ما بين مُصَدِّقٍ مُتَمَلِّقٍ وبين مكذِّبٍ ألْجَمَ الخوف لسانه، لكن تعبيرات التَهَكُّمِ والغضب كانت قد عَلَتْ أوجه بعضا من أتراب محمد بن الحسن الصبَّاح، لكنهم أيضا وَجَمُوا ولم ينطقوا. كان العامّة يستمعون إلى كلام الشيخ فى وَجَلٍ، وعقدت الدهشة أَلْسِنَتَهُمْ، وجمَّد الخوف قلوبهم، وساد الصمت حتى ليسمع القوم حفيف أوراق الأشجار وخفقات قلوبهم التى فى الصدور. ثم أتم الشيخ كلامه قائلا: سيتم تنفيذ الحدِّ الآنَ ليكون عِظَةً وعِبْرَةً لمن خلفه. ورمَق بطرف عينه ثُلةً من الشباب الذين كانوا يتّبعون ابنه.
أمر القاضى الحارسَ أن يرفع اللِّثام عن وجه محمد. كان وجه الفتى مُمْتَقِعا وشاردا على غير العادة، ونظراته الزائغة توحى لمن يراه أن به مسًّا من الجنون، أو أنه كان يُعاقِر الخمر فعلا، ولما وجّه إليه القاضى السؤال لكى يدفع عن نفسه التهمة أمام الناس اكتفى بأن نظر إلى القاضى نظرةً حَمَّلها كل ما فى وجدانه من تعبيرات الاشمئزاز والاحتقار، وهمْهَمَ بكلامٍ غيرَ مفهوم، ثم نظر إلى السماء، ولاذَ بالصمت.
تغيرت سحنة القاضى، وقد فهم معنى النظرات التى حدَّجَه بها محمد، وأنه فى قرارة نفسه يَحْتَقِرُه لإذْعانه دائما لأوامر الحسن، وهو أجبن من أن يعصى للحسن أمرا، وقد أغدقَ عليه العطايا، كما أنه لا يأمن صَولته إذا عصاه. أمر القاضى الجندى الواقف خلفه أن يبدأ التنفيذ لينتهى من هذا الموقف الْمُهين. اقتيد محمد بخطى متثاقلةً إلى ربوةٍ عالية تُشْرف على هاوية عميقة، وسَلَّ الجندى حُسَامه الصقيل، فبرق فى أشعة الشمس التى ظهرت من فُرْجة صغيرة من بين السحب كأنها تَرْقُبُ المشهد الدموى، وأهوى به على عُنُقِ الولد الذى تفجَّرت منه الدماء وخرَّ صريعا إلى هُوّة الوادى السحيق ليُتْرَك هناك، فَتَخْطَفَهُ الطير أو تنهشه الضَّوارى.
عَّم الوجوم وجوه القوم، وأشار لهم الشيخ حسن بالانصراف، فتركوا المجلس يغشاهم الخوف، ويتصبب العرق البارد من جباههم فَرَقا ووجلا. تركت هذه الحادثة أثرها الكبير فى نفوس الناس، وكانت محل جدلهم ونقاشاتهم، أما العامّة فقد زاد احترامهم وخشيتهم من الشيخ حسن لأنهم ظنُّوا فيه التُّقَى والورع حيث أقام الحدّ على ابنه وفلذة كبده دون أن يهتز له طرْف. وأما آخرون فقد كانوا يرَوْن الحادثة بعين الخبث والدهاء، وأن الحسن داهية ماكر ضحى بابنه ليأمَن الثورة عليه من أقرب الناس إليه، وهو ابنه ورفقاؤه. وفى كل الأحوال خفتت حدة المعارضة التى أثارها ابنه قبل موته رويدا رويدا، وإن بقيت جذوة أفكاره فى عقول بعض الشباب خافتة، لكنها لم تمت لأن الأفكار التى زرعها محمد فى نفوس تابعيه كانت كالجمرة تحت الرماد بالرغم من أن خطة الحسن أثمرت مرحليًّا فى التخلص من معارضة ابنه ومَن وراءه، وتم تثبيت دعائم السلطة فى القلعة وما حولها من إقطاعياتٍ كانت تحت حكمه".
ومن الواضح أن الكاتب قد أراد أن ينهى صفحة الحشاشين الجدد مع النهاية التى آلت إليها صفحة حشاشى قلعة ألموت، وكأنه يريد أن يقول لنا إن الحشاشين لا يمكن أن يفلحوا ولو طال الزمن: لا الحشاشين القدامى ولا الحشاشين المحدثين. ولكنْ كان كاتبنا فى غنى عن هذا وعما احتوته الرواية من أحداث وتصرفات غير واقعية لو اتخذ خطة من اثنتين: إما أن يكتب رواية تاريخية مع إسقاط ما فيها على أوضاعنا الحالية. وفى هذه الحالة لن يجد من ينظر إليه بالعين المتشددة التى أنظر بها إلى عمله كما تقدم فى هذه الدراسة. وإما أن يكتب رواية عصرية لكن دون أن يحتذى ما ورد فى كتب القدماء عن الحشاشين واستعداد كل منهم لرمى نفسه من فوق الجبل الطمَّاح الذؤابة إلى قاع الوادى وما إلى ذلك. لكنه، كما رأينا، اختط سبيلا صعبة جدا فعرض نفسه لانتقادات مختلفة كان يستطيع تجنبها بكل سهولة لو اختار هذه الخطة أو تلك، وهو ما بعثنى على أن أبحث له عن بعض الأعذار لتخفيف ما وجهته إليه من انتقادات حسبما لاحظ القراء فى الصفحات الماضية.
وكما ربط المؤلف بين بدايات روايته ونهاياتها عن طريق الحديث عن الحشاشين وقلعة ألموت وما يوازى ذلك فى عصرنا متمثلا فيما يصنعه الشيخ مسعود كذلك ربط المؤلف ثانية بين بدايات الرواية ونهاياتها، ولكن من طريق آخر، وهو علاقة عبود بثامر ابن أحد رجال الأعمال المصريين، الذى تعرف إليه بالنادى أيام كان يتلقى هو وزملاؤه صبيان الشيخ مسعود تدريبات رياضية إعدادا لهم للقيام بالمهام القذرة التى يكلفهم بها الشيخ، إذ وجد فيه ثامر ضالته التى يبحث عنها ليطبق عليه ما يعرفه ويتحمس له من الاشتراكية كعادة بعض أولاد الأغنياء الذين يتخذون من هذا التحمس وسيلة للقضاء على ما فى حياتهم من ملل ولإيهام أنفسهم أنهم ناس تقدميون وذوو نوازع إنسانية ويحبون الارتقاء بمستوى المستضعفين ماديا وفكريا، واستطاع عبود أن يلتقط بعض المصطلحات الماركسية على قدر فهمه ونطقه، ثم باعدت الأيام بينهما، إلى أن وصلت الرواية قريبا من خط النهاية حيث ألفى عبود نفسه متورطا فى قتل والد ثامر، وهو ما وخز ضميره وجعله، مع بعض العوامل الأخرى، يعمل على الوصول لثامر ويخبره بأن أباه قد قتله الشيخ مسعود، مما حرك النيابة والقضاء ضد مسعود، وإن كان الأمر قد انتهى، كما عرفنا، بأَنْ عَلِمَ مسعود بما ينتظره من محاكمة وعقاب شديد على أفعاله الإجرامية الشريرة، فغير هيئته وشكله وملابسه وحلق لحيته وارتدى قبعة واستخرج جواز سفر مزورا يحمل اسم شخص آخر، وفلسع من البلاد إلى غير رجعة.