قراءة لرواية ضحى عاصى: "غيوم فرنسية"
بقلم إبراهيم عوض
ندخل فى الموضوع من فورنا هذا خشية أن يسبقنا كورونا قبل أن ننتهى من نشر الدراسة ونقول: الرواية، من ناحية طريقة السرد، تجرى على تعدد الساردين لا بسرد كل بطل من أبطال الرواية لأحداثها كاملة من وجهة نظره كما هو الحال مثلا فى "ميرامار" حيث يروى كل شخص من شخوصها ما حصل بطريقة تختلف كثيرا أو قليلا عما يقوله الآخرون. ومن ذلك على سبيل المثال أن زهرة خادمة البنسيون الذى تجرى فيه معظم وقائع الرواية كانت قد عادت من خارج البنسيون وفى يدها زجاجة خمر كلفها بشرائها أحد الزبائن، ودقت على باب غرفته ففتحها لها ودخلت. وكان هناك من يرقب ما حدث دون أن يحس به أحد، وكانت عينه على زهرة ويريد أن ينالها هو أيضا، فلما أتى دوره فى السرد حسب أن هناك موعدا غراميا داخل الغرفة بين الاثنين وأن زجاجة الخمر قد اشتريت لتلك المناسبة وأن هذا هو السبب فى أنها تأخرت بالداخل على غير العادة. ولكن حين روى صاحب الغرفة المذكورة الذى كلف زهرة بشراء الخمر أحداث الرواية من زاويته هو تحدث عن محاولته اغتصاب زهرة عندما دخلت عليه بالزجاجة، التى كلفها بشرائها لتكون تكأة ومقدمة لما ينوى أن يفعله بها، لكنها قاومته مقاومة عنيفة وطويلة، وانتهى الأمر بأن صفعته على وجهه وتخلصت منه ولم تكد تصدق بالنجاة، وخرجت وعلى وجهها علامات الاضطراب مما زاد من يقين الراوى الآخر أن غريمه قد نال منها ما كان يريد.
لا ليس هذا هو المقصود بتعدد الساردين فى هذه الرواية، بل المقصود أن كلا منهم يحكى مقطعا أو أكثر من الرواية ليس غير بحيث يروى س المقطع الأول أو المقطع الأول والثانى مثلا، ثم يأخذ ص منه الدور ويسرد المقطع الثالث، ثم يأتى ط فيدخل على الخط ويسرد المقطع الرابع والخامس، ثم يظهر ظ فيروى المقطع السادس، وقد يعود الراوى س فيحكى لنا المقطع السابع... وهكذا دواليك حتى تنتهى الرواية. على أن ليس هذا كل شىء، إذ إلى جانب أولئك الساردين الذين يستعملون ضمير المتكلم لأنهم من أشخاص الرواية هناك السارد المطلق العِلْم الذى يروى الأحداث بضمير الغائب ويعرف كل شىء لأنه موجود فى كل مكان ويتابع كل الوقائع ويطلع على كل ما يدور فى النفوس والعقول ويدرك ما يحدث خلف الأبواب المغلقة والجدران القائمة بحذافيره. وهذا ما تتميز به روايتنا عما أذكر اطلاعى عليه من الروايات. وقد يحدث أن يروى هذا السارد العليم بكل شىء القسم كله الذى كُلِّف بروايته، وقد يروى جزءا منه طويلا أو قصيرا ثم يخلى مكانه لراوى ضمير المتكلم، بل قد يكتفى بالكلام على مدى فقرة واحدة أو اثنتين ليهيئ المجال لأحد الساردين من أبطال الرواية. كذلك نجد اختلافا فى طول الأقسام المسرودة. فكما يرى القارئ فقد اتبعت الروائية أسلوبا معقدا بعض الشىء. وقد نجحت فى تشويقنا نحن القراء تشويقا قويا.
لكنْ هناك سؤالٌ فنىٌّ مهمٌّ يحتاج إلى جواب رغم هذا، وهو مَنِ الذى جمع كل هؤلاء الساردين فى مكان واحد ثم قام بتوزيع الأدوار عليهم ونظَّم دخول وخروج كل واحد منهم فى الوقت الذى اختاره له؟ لقد كان الأمر بحاجة إلى اختراع حيلة فنية تسوغ هذا الذى حدث فى السرد. وإلى أن يخترع أحدهم هذه الحيلة سيظل هذا السؤال يؤرقنا، ولسائله كل الحق وكل الاعتبار.
وسؤال آخر. ذلك أن أحد أبطال الرواية، وهو مصرى نصرانى خرج مع بقايا جيش نابليون من مصر، وكان واحدا من جنود الفيلق القبطى الذى أنشأه الخائن يعقوب لمساعدة الفرنسيس على التنكيل بالمصريين وقتلهم وإذلالهم واستنزاف أموالهم وإفقارهم وإرعابهم وإكراههم على الرضا بالاحتلال الفرنسى الوحشى، وعاش بقية حياته فى فرنسا وصار مواطنا فرنسيا وأصبح ضابطا بالجيش الفرنسى، واشترك فى حملة بونابرت على روسيا، وأبلى بلاء قويا وهاما فى خدمة أسياده الجدد الذين خان وطنه من أجل زرقة عيونهم، ثم مات فى نهاية المطاف فى أحد الأنهار المتجمدة بروسيا وغرقت جثته بين قطع ثلوجه، كل ذلك وهو يحكى لنا ما وقع من "طَقْ! طَقْ!" إلى أن هلك وذهب فى ستين كسحة.
والسؤال هو: من يا ترى الذى نقل إلينا ما قاله وما كان يشعر به ويدور فى خاطره طوال أقسام الفصول التى سرد وقائعها، وبخاصة فى لحظاته الأخيرة وهو يغرق فى النهر المتثلِّج وقد خارت قواه وتجمدت أطرافه وشمله اليأس الكامل ثم ابتلعه الثلج ومات؟ ثم كيف يمكن فضل، وهذا اسمه، أن يكون عنده من الوعى وروقان البال والقدرة على التركيز وسط هذه الآلام الرهيبة بحيث يجىء الوصف مذهلا كما هو فى الرواية؟ نعم، الوصف فى حد ذاته مذهل فى براعته رغم العيب الفنى الذى ذكرته آنفا. وهذا نصه: "النجاة من الصقيع لم تكن آخر المخاطر، الجوع الذى لا يرحم. فى مذبحة جماعية لشركاء الرحلة والمصير أكل من تبقى حيا من جنودنا جيادهم حتى لا يموتوا جوعا. فعلها كوتوزوف ونفذ ما وعد به ليلة دخولنا موسكو: "سأجعلهم يندمون على دخول روسيا، سأجعلهم يأكلون جيادهم".
كنت أطيل النظر إلى هذا الأدهم الجامح بلونه الأحمر وعنقه الطويلة ذات العضلات السمينة وجذعه المربع الناعم الأملس كأنه يستشعر الخطر. وعلى الرغم من البرد والجوع كان ذكيا صبورا، حنونا علىَّ يداعبنى بذيله الطويل وشعره الحريرى، يفهم أن نهايته وشيكة. يقول لى ذلك بنظرات عينيه الواسعتين الصافيتين، والتى اعتدت أن أفهمها كما اعتاد هو أن يفهمنى. لم يخذلنى أبدا فى المعارك. الجوع ينهشنى، ولكن لم أقو على أن أكل شريك الرحلة والأصل.
بدا لى أن النجاة وشيكة. لم يبق إلا عدة أميال ونصل إلى الحدود، ولكن الروس اعترضوا انسحابنا عند نهر ترزينا. دمروا الجسر الوحيد الذى يعبر النهر ليأسروا نابليون. كان نابليون شرسا فى مقاومته، هدم بعض البيوت، واستخدم الضباط المهندسون أخشابها لبناء جسر. بدأنا فى عبور جسر ترزينا: فى البداية نابليون وبعض مساعديه، وبدأ الجنود يعبرون. كانت قواى لا تحملنى على الحركة بسرعة شديدة. منهك فى شعور العبور المشجع. كنت أشعر بخوار، رائحة جسدى التى لم أعد أتحملها، ملابس الموتى التى أرتديها، جوادى المجهد المقاوم خار هو أيضا. شعور غريب أقوى منى، أقوى حتى من الرغبة فى النجاة. كان الجنود يصرخون، يشجع بعضهم البعض: تماسكوا، اعبروا الجسر، لم يبق إلا أميال ونصل إلى الوطن، أما أنا لماذا أعبر الجسر؟
الجسر يتكسر من تحت أقدامنا، دمر الروس الجسر، نقع جميعا فى تلك المياه الجليدية، مئات من الجنود والضباط والخيول. مَنْ عَبَرَ لا يلتفت وراءه لمن وقع.
ربما ينجو. أخذت فى فك السرج، حررته، كانت المحاولة الأخيرة لنا، فلكل قَدَرُه، ربما ينجو. أما أنا فبحركة لاإرادية فى البداية ضممت رجلى إلى صدرى، حاولت أن أقاوم قليلا، ولكن بدأت العضلات تتيبس، وقدرتى على الحركة تقل، أما جوادى فمن المؤكد أنه قريب منى فى إحدى تلك الثقوب التى شكلتْها أجسادنا فى تلك الطبقة الجليدية. لمحته وهو يقاوم وينظر لى، يقاوم ليس للخروج، ولكنه يتحرك باتجاهى. كانت آخر حركة استطاعت ذراعى أن تفعلها، ضربته على مؤخرته، نهرته. لا بد أن ينجو، لا بد أن ينجو أحدنا.
كان سيفيز معلقا ببقايا الجسر متشبثا بالحياة، وتملؤه الرغبة فى العودة إلى الوطن. قاوم سيفيز أن يسقط، لمح جسدى الطافى فوق المياه بين الثقوب، مد يده لى، أراد الشاب بقدر رغبته فى الحياة أن يسحبنى:
- جنرال فضل، أعطنى يدك.
إنها دقيقة، ربما أقل، سيسقط سيفيز إذا حاول إنقاذى. لم يسمع سيفيز تحذيراتى، فقد كنت أضعف من أن أنطقها، بدأ الدم ينسحب من وجهى وأطرافى، بدأت الرعشة تسرى فى جسدى، بدأت أفقد الشعور بأطرافى، ولم أعد قادرا على الحركة، العضلات تتصلب، جسدى الطافى على المياه الجليدية، وروحى الطوافة العابرة للمكان والزمان: كنيسة الأمير تادرس الشطبى، أمى، دق الصليب، ضحكاتى فى النيل، فى الغطاس، ميدان النشابة، وجه محبوبة عندما وقع برقعها فى مولد سيدى العريان، المعلم يعقوب، فابيان، الباخرة بالاس، أوسترليتز، نيشان الليجون دوأونر، شمس المحروسة.
بدأ جسدى يتجمد، بدأت أفقد الإحساس، لاحت أمامى صورة الصلبوت، تذكرت كلمات اللص على يمين ربنا يسوع المسيح حينما صرخ: "اذكرنى يا رب متى جئت فى ملكوتك". رددتها وراءه فى داخلى. خرجت آخر كلماتى "يا أبتى، إليك أستودع روحى".
هدىء كل شىء ، أخذ الجسد فى الهبوط تدريجيا حتى استقر عند الطبقة الثالثة فى النهر المتجمد. ظلت جثته معلقة أياما بين طبقات المياة الجليدية فى نهر ترزينا، وبعد عدة أيام طفت على السطح جثة الجنرال القبطى مع مئات من الجثث القتلى التى ظلت أشهرا تسد نهر ترزينا" (274- 276).
لقد كانت أول مرة أواجه فيها هذه المشكلة عام 1986م حين كنت أعرض فى صحيفة "الوفد" القاهرية رواية محمد كمال محمد: "الحب فى أرض الشوك"، التى انتهت نفس النهاية، إذ مات السارد وهو يحكى لنا أحداث الرواية، فتساءلت يومها كما تساءلت الآن: فمن يا ترى نقل إلينا أقوال السارد وأحاسيسه، وبالذات فى اللحظات الأخيرة له فى الحياة؟ ثم مرت السنون، وإذا بى عندما كنت أقرأ رواية "الموت غرقا" للقصاص السعيد نجم أجد نفسى بغتة أمام نفس المشكلة، ولكن قبل أن أكمل السؤال التقليدى بُوغِتُّ مرة أخرى على الفور بأن ما حدث وقيل لم يحدث أو يُقَلْ فى الحقيقة من البطل نفسه الذى غرق فى البحر المتوسط بل فى حلم رآه فى المنام صديق للبطل الذى غرق وهو يحاول الوصول إلى إيطاليا على متن زورق غير شرعى، وكان صديقه قلقا عليه يخشى أن ينقلب به وبمن معه الزورق ويموتوا فى البحر المتوسط، فكانت نتيجة القلق والتوجس أن حلم بأن الزورق انقلب فعلا وغرق صديقه ومات، وهو ما حدث فعلا فى الواقع. وقد سألته يومذك: هل هذا الحل جاء اتفاقا أم هل كان نتيجة وعى وتخطيط؟ فعلمت أنه عن وعى وقصد لا عن مصادفة واتفاق. فسررت أيما سرور بأنه استطاع التغلب على تلك العقبة الفنية. وقد ذكرت ذلك للكاتبة فى نهاية الندوة التى عقدها صالون سالمينا الثقافى مساء الأحد الماضى 16 فبراير 2020م لمناقشة روايتها التى بين أيدينا.
وهذا هو الفصل الذى يحوى تلك الحيلة الذكية كاملا، وهو الفصل الرابع والثلاثون من الرواية المشار إليها فى طبعتها الجديدة بعدما أجال المؤلف يده فى لغة الحوار وحولها من عامية إلى فصحى مبسطة، وسمى الرواية: "هى أو الموت". وقد رأيت أن أنقله هنا حتى يدرك القارئ أبعاد ما أقوله عمليا لا نظريا، وبخاصة أن الفصل غير طويل: "غادر الزورق سفينة الحراسة يتحدى الأمواج المتجبرة وسرعة الرياح العالية والمطر الغزير والظلام الدامس بأقصى سرعة ممكنة. الغانيون يسيطرون. يأتمر القائد بما يأمرون. كل من يعتلون ظهر الزورق حماس ورغبة فى قهر الظروف، والساحل المأمول يداعب مشاعرهم، ويلهب حواسهم. تشتد الأمواج غطرسة. تزمجر الرياح غاضبة. المياه الخبيثة تعرف طريقها جيدا إلى عمق الزورق، يزيد ارتفاعَها مطرٌ موتورٌ. يزيد منسوب المياه حثيثا فى الزورق المنطلق. الغانيون فى شغل عن المياه المتسربة والهابطة باستكشاف الشاطئ المأمول. كلهم يبارون صاحب عين زرقاء اليمامة أيهم سيكون له سبق الإكتشاف!
حسين يلفت أنظار الغانيين مرارا وتكرارا للماء المتزايد فى عمق الزورق. لا أحد يعيره اهتماما. يحاول جاهدا نضح ماءٍ تزايُدُه أعلى من قدراته يائسا من مساعدة أحد من رفاق المصير. اشتد غضب السماء: ترعد وتبرق وتصب عصارة غضبها سيلا عارما. تزداد شراسة الأمواج وهياج الرياح. تلعب الأمواج والرياح بالزورق على هواها. يميل الزورق بشدة فى كل اتجاه. يرتعد جسد حسين بردا وخوفا. الوهن يغزو القلب المريض مصحوبا بالخوف الشديد. الماء المارق من الأمواج العاتية يصفع وجهه بقسوة، ويلسع عينيه بملوحته المركزة. الزورق يتعثر. يميل ميلة مفاجئة عنيفة. يد خبيثة لموجة كالجبل تمتد إلى آخر جركن للبنزين فتختطفه ليتردى فى الأعماق المخيفة.
إنها النهاية، ولا شئ غير النهاية. الجركن المنفلت هو رأس جسرهم للوصول إلى القيعان البعيدة البعيدة، هذا إذا أخطأتهم الأفواه الشرسة المشتاقة إلى لحومهم وعظامهم. الغانيون كالمغيبين فى عالمهم كأن سقوط البنزين لا يعنيهم. لعلهم ما زالوا يحلمون بشاطئ الأمل. القائد المغربى فى صراعه المستميت مع الأمواج، والماء العدوانى يلطم خديه ويقتحم عينيه. الزورق كفرس جامح لن يهدأ إلا بسقوط فارسه، والفارس يتشبث بأهداب النجاة. الأمواج فى إصرار لا يلين لتقلب الزورق. تارة تحاول عكس اتجاهه. تقذفه يمينا. تلقيه يسارا. حسين على يقين بانقلاب الزورق. قد لا يحدث الانقلاب قبل نفاد الوقود، لكنه بعد نفاده حادث حادث، وفى أقل من بضع دقائق.
الرعب يملأ القلب العليل ويرجف الجسد المنهك. اليقين بالنهاية ليس إلا الرعب مجسدا. تتجه عينا حسين عاليا بكل خوف الأرض تستجدى السماء. تشرد موجة كالمارد تعلو كل الموجات تهاجم الزورق فجعلت عاليه سافله، وأنهت المباراة الغبية. الزورق يبصق الغانيين بكل القرف. برهة يسيرة والتهم البحر عاشق المافيا، أسلمه البحر إلى مافياه.
تلتصق يدا حسين بالزورق كأنهما اتحدتا بمادته. مطارق الأمواج تهوى بضرباتها القوية المتواصلة على اليدين المستميتتين، تهوى وتهوى. الماء يتسرب إلى جوف حسين تلفظه رئتاه بعصبية. اليدان هدهما التعب، ونالت منهما المطارق الضاربة. تفقد اليدان قدرتهما على التشبث باطراد. ينفلت منهما الزورق بضربةٍ مَوْجِيَّةٍ قاصمةٍ. يسحب الجسد النحيل إلى الأعماق المخيفة. ترتفع يدا حسين إلى أعلى بينما تسحب الجاذبية القاهرة الجسد المنهك إلى الأعماق.
أصرخ بجنون وأهبّ فزعا من نومى، فيهبّ كل النائمين حولى:
- ما بك يا فتحى، كفى الله الشر؟!
- كنت معهم. عرفت بالضبط كيف غرقوا. رأيت حسين والبحر يسحبه. لن أنسى منظر عينيه أبدا وهو يستغيث.
أخذت أستعيذ بالله من الشيطان الرجيم. لماذا ركبت رأسك ياحسين؟".
وثم ملاحظة هنا لا ينبغى إهمالها فى الحديث عن رواية أ. ضحى عاصى، ألا وهى أن أى سارد جديد حين يبدأ فإن الأمر يأخذ بعض الوقت حتى يفهم القارئ مَنِ المتكلم وعَمَّاذَا. إن المؤلفة لا تذكر اسمه ولا تعطينا للتو واللحظة إشارات تومئ إلى شخصيته بل تتركه يتحدث ويورد بعض الوقائع ويشير إلى بعض من لهم صلة به فى الرواية... وهكذا، قبل أن نتنبه إلى شخصيته. ولا ينبغى أيضا أن ننسى أن لكل شخصية من شخصيات الرواية تقريبا نصيبا فى السرد، وهذا مما يصعّب الأمر قليلا، وبخاصة أنها، كما قلنا، لم تكتف بالساردين المستعمِلين لضمير المتكلم بل أشركت معهم أيضا سارد ضمير الغائب: إما للقسم كله وإما لفقرة أو فقرتين فى بداية القسم ثم تعطى السرد أحد أبطال الرواية. صحيح أن التعرف إلى السارد ليس معضلة لكنه يستغرق بعض الوقت. وهى حيرة غير مزعجة على كل حال بل تزيد شوق القارئ أكثر مما تزعجه وتكدر عليه القراءة.
كذلك يلفت النظر فى موضوع السرد أن الكاتبة قد تعطى السرد فى قسم من الأقسام للراوى المطلق العِلْم رغم أن القسم المروىّ لا يتعرض إلا لشخص واحد من شخوص الرواية، ومن ثم كان من الأنسب أن يُرْوَى هذا القسم بضمير المتكلم، أى على لسان ذلك الشخص الذى يدور حوله وحده القسم المذكور. ومن ذلك القسم الخاص بمقابلة فضل الله للكونتيسة فرانسواز أخت جين فيراى فى بيتها وما دار بينهما من ممارسة جنسية بعدما تعرت له بغتة وعلى غير انتظار منه أو منا لأنه لم تكن هناك أية مقدمات تمهد لنا هذا الذى حدث أو قيل. لم يكن هناك غير فضل والكونتيسة، وكان كل شىء يُسْرَد ويقال من زاوية فضل الله. وعلى هذا كنت أود لو أن فضل الله كان هو السارد لأحداث هذا القسم الخاص به وراوى أقواله. إلا أن الكاتبة آثرت أن تسند السرد فيه إلى الراوى المطلق العِلْم. ترى لماذا جعلت الكاتبة بيننا وبين ما حدث شخصا غريبا رغم أن ما حدث هو من الأمور الشديدة الحميمية، وبخاصة أن الراوى المطلق العلم كان ينظر إلى الأحداث والأشخاص فى ذلك القسم بعين فضل؟ صحيح أن المشاعر والتصورات والخيالات التى وصفها السارد العليم أكبر مما يطيقه عقل فضل وشخصيته بوجه عام، بيد أن هذا موضوع آخر، إذ يمكننا أن نقول للكاتبة: لقد كان ينبغى أن تراعى مستوى فضل الفكرى والنفسى. أما أن تسند السرد هنا للراوى المطلق العِلْم فقد كنت أوثر أن يتم الأمر بخلافه.
شىء آخر شديد الأهمية، وهو أن هناك شخصيات مصرية فى منتهى الأهمية خرجت مع الحملة، وكان من شأنها أن تطلعنا من الحياة الفرنسية على جوانب لم تتطرق إليها الشخصيات التى ركزت المؤلفة عليها الضوء، ففاتتنا أشياء ذات قيمة كبيرة. ومن هذه الشخصيات شخصية إلياس بقطر، وشخصية زبيدة الميزونى زوجة عبد الله مينو قائد الحملة الفرنسية فى مصر بعد هروب بونابرت وقتل كليبر على يد البطل الهمام الشهيد سليمان الحلبى. ذلك أن بقطر كان ملازما للحملة الفرنسية فى مصر مترجما لرجالها. وحين انتقل إلى فرنسا صار يعمل فى مدرسة اللغات الشرقية بباريس يعلِّم العربية الفصحى والعامية. كما وضع كتابا فى قواعد العربية ومعجما فرنسيا عربيا أيضا، ولعله أول معجم يضعه عربى فى هذا المجال. فشخص بهذه الأهمية كان لا بد أن تفسح الكاتبة له مكانا ومكانة واسعة فى روايتها. ولقد بلغ من أهميته رغم موته وهو لم يبلغ الأربعين من عمره أن عبد الرحمن بدوى قد أوسع له موضعا فى موسوعته عن المستشرقين، ومن قبله كتب عنه بروكلمان المستشرق الألمانى مادة خاصة فى "Encyclopædia of Islam". فكيف أهملته المؤلفة كل هذا الإهمال؟ لقد كان كل ما فاز به فى الرواية أَنْ ورد اسمه المجرد مرة يتيمة، وعَرَضًا، بين من خرجوا من المصريين مع مهزومى الحملة الفرنسية وشراذمها المهلهلة (ص89) دون كلمة أخرى عنه.
وقد كتب شفيق غربال فى كتابه عن "الجنرال يعقوب" أنه هو الوحيد الذى كان له أثر ثابت من بين من خرجوا مع شراذم الجيش الفرنسى الفاشل المهزوم، إذ ألف قاموسا عربيا فرنسيا. ثم مضى فقال إنه كان وقت نزول الفرنسيين إلى مصر فى الخامسة عشرة من عمره، وإنه كان يعمل فى الترجمة أثناء الاحتلال وخرج مع بقاياه، وأقام فى مرسيليا أولا ثم باريس بعد ذلك حيث اشترك فى ترجمة بعض الوثائق العربية الخاصة بالحملة إلى الفرنسية وفى تحقيق الأسماء العربية فى الخرائط الجغرافية الخاصة بكتاب "وصف مصر"... إلخ.
أما زبيدة فلها قصة طويلة مع مينو حين وقع هذا القائد فى غرام تلك الشابة الرشيدية الصغيرة ذات الحسب والنسب رغم فارق السن الكبير بينهما وأعلن اعتناقه الإسلام حتى يمكنه الزواج بها وارتدى العمامة كأنه أحد مشائخ الأزهر، ثم تركها رغم ذلك كله حال وصولهما إلى فرنسا وانشغل بعشيقاته الفرنسيات، ثم لم يكتف بهذا بل أصر على تعميد ابنهما فى الكنيسة على يد القسيس زاعما لها، مَيْنًا وخداعا، أن الأديان كلها شىء واحد وأن النصرانية لا تختلف عن الإسلام فى شىء وأن القرآن قد نص على أن أهلها سوف يدخلون الجنة مثل المسلمين دون أى فرق، مستعينا فى إقناعها بصحة هذا الهراء بأحد المستشرقين الأفاقين. وقد كانت زبيدة هى الشخصية الوحيدة التى تحدث عنها رفاعة فى بعض كتبه من بين كل من خرج مع بقايا الحملة الفرنسية، وأشار إلى مخادعة مينو لها. وعلى هذا فإنى أتساءل: لم أهملتها المؤلفة تماما فلم تأت على شىء من سيرتها رغم خطورة موقعها من الحملة الفرنسية إذ كانت زوجة قائد الحملة الأخير، وهو القائد الذى كان عليه تدبير خروج الفرنسيس من مصر وعودة الجيش والمدنيين إلى فرنسا، وفى معيتهم عملاؤهم من المصريين والمتمصرين؟
وقد كتب رفاعة فى "تخليص الإبريز فى تلخيص باريز" أن "سر عسكر المسمّى: "منو" المتولى فى مصر بعد قتل الجنرال كليبر، بفتح الكاف وكسر اللام وكسر الباء، كان أسلم فى مصر نفاقًا كما هو الظاهر وتسمى: عبد الله، وتزوج ببنت شريف من أشراف رشيد. فلما خرج الفرنسيس من مصر وأراد الرجوع أخذها معه. فلما وصل رجع إلى النصرانية وأبدل العمامة بالبرنيطة ومكث مع زوجته وهى على دينها مدة أيام. فلما ولدت وأراد زوجها أن يعمِّد ولده على عادة النصارى لينصِّره أبت الزوجة ذلك وقالت: لا أنصر ولدى أصلًا ولا أعرّضه للدين الباطل. فقال لها الزوج: إن كل الأديان حق وإن مآلها واحد، وهو عمل الطيب. فلم ترض بذلك أبدًا، فقال لها: إن القرآن ناطق بذلك، وأنت مسلمة، فعليك أن تصدّقى بكتاب نبيك. ثم أرسل بإحضار أعلم الإفرنج باللغة العربية البارون دساسى، فإنه هو الذى يعرف يقرأ القرآن، وقال لها: سليه عن ذلك. فسألته، فأجابها بقوله إنه يوجد فى القرآن قوله تعالى: "إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحًا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون". فحَجَّها بذلك، فأذنت بمعمودية ولدها. ثم بعد ذلك انتهى الأمر، على ما قيل، أنها تنصرت وماتت كافرة".
فكما نرى لقد كانت الرواية، لو تناولت الكاتبة فيها حكاية زبيدة الميزونى زوجة جاك (عبد الله) مينو، قمينة أن تزداد تشويقا ونجاحا. لكن الرواية، لشديد الأسف، لم تشر مجرد إشارة إلى تلك السيدة، وقد كان التعرض لحياتها فى مصر وفى فرنسا كفيلا بأن يرينا ما لم تستطع أى من شخصيات الرواية أن ترينا إياه. فمثلا كان يمكن أن تثير المؤلفة قضية الإلحاد الذى كان يغلب على كثير من الفرنسيين بعد الثورة الفرنسية، وبالذات زعماء الثورة، وعلى وجه أخص قادة الحملة، وكيف أن مينو، الذى يفترض بقوة أنه من الملحدين، كان حريصا على تعميد ابنه. لقد كان مينو كقائده بونابرت من أعداء الكنيسة والنصرانية، فلم إذن هذا الحرص؟ وإذا كان الإسلام والنصرانية شيئا واحدا كما زعم لزبيدة كذبا وبهتانا وتدليسا فلم يصر على التنصير ما دام الولد سوف ينجو وهو مسلم، إذ الإسلام هو الأصل بينما النصرانية تلتحق به فى أن أتباعها سوف يدخلون الجنة كالمسلمين؟ ألا يرى القارئ أن هذا الأمر كان من شأنه أن يزيد الرواية عمقا وتشابكا وتعقيدا فنيا ومضمونيا معا؟ فلم حَرَمَتْناه المؤلفة يا ترى؟ حرام عليها والله!
لقد كانت زبيدة أحرى أن تُوسِع لها المؤلفة مكانا كبيرا فى الرواية بدلا من زهرة، التى اتخذت منها كاتبتنا تكأة لفتح موضوع الزواج بين مسلمة وغير مسلم مع أن زهرة غير معروفة لنا معرفتنا بزبيدة ولا كانت لها تلك الأهمية التى لزبيدة فى الحملة الفرنسية. لقد تزوجت فى مصر من ضابط فرنسى اسمه رينيه لم تكن له المكانة التى لمينو. ثم أراد منصور حنين فى فرنسا أن ينالها بالحب دون زواج بعدما مات زوجها هذا، لكنها اشترطت عليه أن يسلم وأن يتزوجها. وهنا قامت مناقشة بينهما: هو يقول إنها لا تزال شيخة، أى متمسكة بالإسلام على غير معنى، وإن هذه مجرد شكليات، وإن زوجها الأول لم يكن مسلما حقيقيا بل أعلن دخوله الإسلام حتى يتزوجها ليس إلا، وكان يعيش ويمارس حياته على غير مبادئ الإسلام وشريعته، بل ربما كان ملحدا فى أعماقه. وعلى هذا فإنه لا يرى أى داع لتمسكها بشرط إسلامه، أما الزواج فهو مستعد له. لكنها لم تقتنع، وبالتالى لم يستطع أن ينالها بزواج أو بغير زواج.
وفى الواقع لست أرى فى موقفه هو أى معنى، إذ هو يقول إن الأديان غير مهمة، والمهم هو الحب والتفاهم. لكنه يتناسى أنها لا ترافئه على هذا الكلام بل ترى أنه لا يمكن المسلمة أن تتزوج غير مسلم، فما الذى يمنعه من أن يسلم ما دام يحبها؟ ألا يرى أن الأديان غير مهمة؟ إذن فليعتنق أى دين ما دام الأمر ليست له أية أهمية على الإطلاق، وما دامت هى تصر عليه، وما دام هو يحبها؟ أم تراه كان يريد منها أن تتنازل حتى عن هذه الشكلية الأخيرة حتى تنقطع علاقتها بالإسلام تماما؟ وهذا إن كانت الرواية قد صورت الموضوع تصويرا سليما. أيكون تفسير الأمر أنه يكره الإسلام ويصر على اختفائه تماما من الصورة ولا يطيق أن يسمع شيئا عنه البتة؟ أخشى أن يكون هذا هو باعثه الحقيقى على اتخاذ ذلك الموقف، وإن كان له لكل إنسان الحق فى أن يقف الموقف الذى يراه.
على أن المؤلفة تركتنا نفهم بل دفعتنا دفعا إلى التوهم بأن زبيدة قد تزوجت رينيه هذا وهو باق على نصرانيته، وأن من أقنعها بالزواج منه على هذا النحو هو الشيخ الدمنهورى. وأتصور أنه هو الشيخ مصطفى الدمنهورى، إذ جاء اسمه بين الموقِّعين على منشورٍ أكرههم بونابرت على كتابته وتوجيهه إلى المصريين ليلزموا الهدوء والسكينة ولا يثوروا على الاحتلال الفرنسى طبقا لما جاء فى كتاب نقولا ترك، ولم أستطع أن أعرف عنه شيئا يفيدنى فى موضوع زواج زهرة ذاك حسبما تقول الرواية. المهم أن الشيخ الدمنهورى، طبقا لما قالته الرواية على لسانها، قد أفهمها أن النصارى هم أول من نصروا الرسول وأنه هاجر إليهم وأن تاريخ الإسلام يبتدئ من تلك الهجرة وأن الإسلام يَعُدّهم من أهل الكتاب، وأنه لهذا السبب قد وضع يده فى أيدى الفرنسيين وتحمل الاتهام بالخيانة، فهو يراهم أفضل من المماليك ومن الأتراك رغم أن هؤلاء مسلمون، وأنهم هم على غير دين الإسلام، إذ العبرة بالعدل وإقرار الحقوق، والفرنسيون عادلون ووعدونا أن ينوِّلونا حقوقنا بينما الآخرون ظَلَمَةٌ مُبْطِلون، وكلا الفريقين فيما عدا هذا أغراب عنا. وعلى هذا فالنصارى أفضل لنا. ثم سكتت زهرة فلم تقل كيف تم الزواج، وهو ما فهمنا منه أنها تزوجته كما هو، أى دون أن يسلم.
هذا ما لا يمكن أن يفهم سواه من الحوار الذى دار بين زهرة ومنصور حنين النصرانى المصرى فى باريس (ص216)، لنفاجأ (ص264) بأن الزواج لم يتم إلا بعد إعلان رينيه ذلك إسلامه. فلماذا يا ترى جرى الأمر على هذا النحو الموهم؟ أقصدت الكاتبة ذلك كى تستغفلنا وتحرز نقطة على حسابنا ثم تكاشفنا بالحقيقة بعدما نجحت فى إثارة فضولنا وتشويقنا؟ لكن هل يصح أن تقوم العلاقة بين الروائى وقرائه على مثل هذا الاستغفال؟ أم تراها نسيت أن توضح ذلك الأمر فى حينه؟ لكن تلك ثغرة تعيب الرواية فى الواقع، تلك الرواية الجيدة رغم كل هذا.
كذلك كيف يقع شيخ من كبار مشايخ الأزهر فى القول بأن النصارى هم أول من نصروا الرسول وأن هجرته هو وأصحابه قد كانت إلى بلادهم؟ هذا كلام مضحك بل يدفع إلى القهقهة دفعا. وطبعا العيب ليس عيب الشيخ، إذ لا يمكن أن يضل الشيخ على هذا النحو الجامح الجاهل مهما كان من ميله إلى الفرنسيين لسبب أو آخر. هذا عيب الرواية بكل يقين. ولقد أذكر أن هذه النقطة قد فُتِحَتْ لدن مناقشة العمل فى صالون سالمينا مساء الأحد 16 فبراير 2020م، وكان رد المؤلفة وبعض من شايعوها أن من أخذوا على الرواية ذلك قد أخطأوا قراءة النص، فالنص لا يتحدث عن النصارى بل عن الأنصار. وأنا، والحق يقال، قد ظننت آنذاك أنه من المحتمل أن يكون الأمر على ما قيل، وبخاصة أنى قرأت الرواية على شىء من العجل لظروف خاصة بى، فقلت فى نفسى: أراجع ما كتبتْه روائيتنا. وهأنذا قد راجعت ما كتبتْه، فوجدت أنها أخطأت خطأ لا يمكن توجيهه ولا اغتفاره، فالحديث فعلا وحقا وصدقا ويقينا عن النصارى وأنهم أهل كتاب. فهل كان الأوس والخزرج نصارى أهل كتاب؟ بل هل كان للنصارى وجود فى يثرب يجعلنا ننسب إليهم استقبال النبى ونصرته ولو على هامش استقبال الأنصار له صلى الله عليه وسلم؟ الواقع أنه لم يكن هناك سوى الأوس والخزرج واليهود كما هو معلوم. كما أن نصارى نجران مثلا، حين عرض عليهم الرسول الإسلام، لم يستجيبوا له ولم يقبلوا أن يباهلوه برفع أكف الدعاء إلى الله أن يعاقب الكاذب من الفريقين. كذلك فإن أى كلام طيب عن أهل الكتاب فى القرآن إنما قُصِد به من أسلم منهم لا من بقى على دينه، وإلا لكان دين الرسول مجرد شُرَّابَة خُرْج يمكن الخرجَ والحمارَ أن يؤديا عملهما من دونها، إذ هى مجرد زينة لا غير.
أما القول بأن الفرنسيين نصارى فمعناه أن الشيخ، إن كان للقصة أساس تاريخى أصلا، ولا أظن، كان نَسَّاء كبيرا ومثقوب الذاكرة على نحو لا برء منه، إذ أعلن الفرنسيون غِبَّ دخولهم مصر أنهم ضد النصرانية وأنهم جاؤوا لنصرة الإسلام. بل لقد أعلن نابليون إسلامه ولبس عمامة المشائخ الأزهريين ظنا منه أنه يستطيع أن يُلْبِس المصريين العمة! وعلى أى حال فإن الثورة الفرنسية قد ساعدت على نشر الإلحاد ونبذ النصرانية وتحولت معها كثير من الكنائس إلى معابد للعقل كما جاء فى الرواية ذاتها. باختصار: لم يعد الفرنسيون نصارى، اللهم إلا العجائز والشيوخ الذين لا اعتبار لهم ولا تأثير ولا قيمة.
وهذه الأخطاء التاريخية التى سقطت فيها الرواية تذكرنى بما ذكرتُه من أخطاء تشبهها فى رواية "الزينى بركات" لجمال الغيطانى، تلك الأخطاء التى كتبتُ عنها فى مقال لى على المشباك (الإنترنت) خاص بهذه الرواية ما يلى نصا: "وفى القصة أخطاء فاحشة لا يقع فيها أقل التلاميذ إلمامًا بتاريخ الإسلام وعقائده. يقول المؤلف على لسان كبير البصاصين: "ألم يكن خاتم المرسلين وسيد البشر مضطهَدًا من قومه؟ ألم يرمه اليهود بالحجارة من فوق أسوار الطائف فألهب الهجير باطن قدميه، وسال دمه؟ ألم يحاربوه وتأكل واحدةٌ منهم كبدَ عمه حمزة نيئة؟ ومن قبل ألم يثقلوا رأس المسيح عليه السلام بالشوك، ودقوا المسامير فى جسده وصلبوه؟". فاليهود لم يرموا النبى عليه الصلاة والسلام بالحجارة، لا فى الطائف ولا فى غيرها. بل الذين رَمَوْه بالحجارة إنما هم صبيان الطائف وعبيدها وسفهاؤها من المشركين الوثنيين. ولم يكن ذلك من فوق أسوارها، بل فى الشوارع التى كانوا يطاردونه فيها. لقد خلط الكاتب بين تآمر اليهود على إلقاء رَحًى من فوق سطح أحد منازلهم على النبى عليه الصلاة والسلام وبين مطاردة سفهاء الطائف وصبيانها له بتحريض من كبارها الكفرة. كذلك فالتى لاكت كبد حمزة رضى الله عنه لم تكن يهودية، بل هى هند زوجة أبى سفيان. وهند لم تأكل كبد حمزة، بل لاكتها ثم لفظتها. ولا أدرى كيف غاب هذا أو ذاك على الكاتب، وهو متعارَف مشهور لا يخفى على أحد! لعن الله الثقافة الضحلة!
أما السيد المسيح عليه الصلاة والسلام فإن القرآن حاسم تمامًا فى نفى الصلب عنه. ولا يَقُلْ أحد إن من حق الكاتب أن يرفض ما جاء فى القرآن ويأخذ بادعاء كتبة الأناجيل، فليس هذا رأيا للكاتب، بل هو كلامُ كبيرِ البصاصين. وكبير البصاصين، مهما يكن من ظلمه ومعاونته للحكام المستبدين، هو رجل مسلم، فضلا عن أنه ينتمى إلى القرن العاشر الهجرى. أقصد أنه لا يمكن أن يكون قد أَوَّل قوله تعالى فى الآية 158 من سورة "النساء": "وما صلبوه" بمعنى أنهم لم يقتلوه صَلْبًا، لكنهم رغم ذلك قد وضعوه على الصليب وسَمَّروه كما يدعى القاديانيون، الذين يقول أحدهم (وهو مالك غلام فريد، محرر ترجمة القرآن الكريم إلى الإنجليزية وتفسيره بها) فى ترجمة هذه العبارة القرآنية الكريمة: "nor did they bring about his death on the cross"، فإن مثل هذا التأويل الغريب الذى لا تسعفه اللغة لم يظهر إلا فى العصر الحديث. وعلى أية حال لا يمكن أن يقول به إلا من كانت صناعته التدقيق فى مثل هذه النصوص وتقليبها على كل وجوهها المحتملة وغير المحتملة. وأين من ذلك بصاص كان يعيش فى القرن العاشر الهجرى؟
ثم هل كان بوذا يُعْبَد فى الصين كما يفهم من قول هذا البصاص نفسه: "أخبرنا كبير بصاصى بلاد الصين العظيمة أنه نجح فى ضم أكابر العلماء فى صفه والأعيان والكهنة خَدَمة البوذا الأعظم"؟ كذلك هل كانت هناك اتفاقيات مشتركة بين الحكومة المصرية فى ذلك العهد والحكومة الصينية وغيرها من الحكومات على تبادل المعلومات الاستخباراتية حتى يَكْذِب كبير البصاصين فى مصر بعين وقحة زاعما أن نظيره فى الصين قد أمده بكذا وكذا من المعلومات؟ هذا هو العته بعينه. وهو يذكرنى بقول الطلبة هذه الأيام: الدكتور امرؤ القيس، والدكتور الطبرى، والدكتور البخارى، والدكتور الجاحظ، والدكتور البوصيرى. وهكذا ينبغى أن يكون الأدباء العالميون الذين يتطلعون إلى إحراز جائزة نوبل، وإلا فلا.
واضح أن الغيطانى لا يعرف كيف ينبغى أن تكتب الرواية التاريخية. بل من الواضح أنه عاجز عن الاستفادة من قراءة كتب التاريخ، التى صدع دماغنا بأنه دائم الرجوع إليها بل العكوف عليها حتى ليظن المساكين من القراء أنه من كبار المؤرخين! ولله فى خلقه شؤون! كذلك فالأسلوب الذى كتب به الغيطانى روايته هو أسلوب صحفى أقل من المتوسط لا يعكس شيئا من روح ذلك العصر بتاتا: لا فى الألفاظ ولا فى العبارات ولا فى التراكيب ولا فى الصور ولا حتى فى الجو. أى أنه قد فشل فى أول خطوة من خطوات كتابة الرواية التاريخية، تلك الخطوة التى تتمثل فى إعاشة القراء داخل العصر الذى تدور فيه وقائع الرواية!
والغيطانى هو واحد من إفرازات الفترة السابقة على الثورة الينايرية، تلك الإفرازات المشوهة التى خرجت علينا بكل ما هو سئ وفاسد فى عالم القلم مما لا يمكن أن تفلح الدعايات المغالطة فى التغطية على سوئه وفساده. والمضحك أنهم كانوا يسوّقون الغيطانى للناس فى سوق الكتابة على أنه مبدع كبير. ولا أدرى أى إبداع وأى كِبَر، والرجل محدود القدرات، ضيق الثقافة، فقير الموهبة. بل إنه لا يحسن الإملاء، ودعنا من أخطاء النحو والصرف والأسلوب، فمن الظلم انتظار استقامة قلمه فى هذه الميادين، وهو ما هو فى عالم التعليم والمدارس والشهادات التى لا تؤهل مثله لأكثر من طباع فى صحيفة.
وقد طبع هذا الكتاب لأول مرة سنة 1974م، ومع هذا لم يتنبه الغيطانى للأخطاء التى فيه، فلم يصلحها فى هذه الطبعة الجديدة بل ولا فى طبعة دار الشروق الثانية عام 1994م، التى لا يزال مكتوبا فيها قوله تعالى: "وجعلنا بعضكم فوق بعض درجات" على النحو الذى أثبته الغيطانى العبقرى فى الطبعة الأولى على لسان الزينى بركات رغم أن الزينى بركات لم يكن يوما خريج مدارس الصنائع، ومن ثم لا يمكن أبدا أن يقول: "وجعلناكم فوق بعض درجات" كما دلس الغيطانى على الرجل متصورا بعبقريته التى ليس لها من ضريع أن القرآن مكتوب بالعامية المصرية، التى لا يعرف جنابه سواها: بالممارسة طبعا لا بالدراسة، فالدراسة بالنسبة له أمر صعب كما هو واضح. أما الفصحى فيَدُك منه والقبر. وهذا أمر طبيعى، فتلك إمكانات الرجل، الذى لم يحصل إلا على شهادة المدرسة الصناعية فى مهنة النِّسَاجة من أكلمة ولباد وأقمشة وأمثالها فيما قرأنا".
وبالمناسبة فهذا نص المنشور الموجود فى كتاب نيقولا ترك: "ذِكْر تملُّك جمهور الفرنساوية الأقطار المصرية والبلاد الشامية" والذى وَقَّعَ عليه الشيخ مصطفى الدمنهورى ضمن من وَقَّعُوا: "نخبركم يا أهل المداين والأمصار وسكان الأرياف والعربان، كبارا وصغارا، أن إبراهيم بيك ومراد بيك وبقية دولة المماليك أرسلوا عدة مكاتبات ومخاطبات إلى ساير الأقاليم المصرية لأجل تحريك الفتن بين المخلوقات، ويدعوا أنها من حضرة مولانا السلطان ومن بعض وزرائه، وذلك كله كذب وبهتان.
وسبب ذلك أنه حصل لهم شدة الغم والكرب والهم، واغتاظوا غيظا شديدا من علماء مصر ورعاياهم حيث ما وافقوهم على الخروج معهم وترك أعيالهم وأوطانهم، وأرادوا أن يوقعوا الفتن والشر بين الرعية والفرنساوية لأجل خراب البلاد وهلاك كل الرعيَّة والعباد. وذلك لشدة ما حصل لهم من الكرب الزايد بذهاب دولتهم وحرمانهم من مملكة مصر المحمية، ولو كانوا فى هذه الأوراق صادقين وأنها من حضرة سلطان السلاطين لكان أرسلها جهارا مع أغاوات من طرفه معينين.
ونخبركم أن الطايفة الفرنساوية بالخصوص عن بقية الطوايف الإفرنجية
دايما يحبون المسلمين وملتهم، ويبغضون المشركين وطبيعتهم، وهم أحباب
لمولانا السلطان قايمين بنصرته، وأصدقاء له ملازمين لمودته ومعونته، ويحبون
من والاه ويبغضون من عاداه، وكذلك بين الفرنساوية والمسكوب غاية العداوة
الشديدة لأجل عداوة المسكوب للإسلام وأهل الموحدين، وأعلمهم أن المسكوب يتمنى الأخذ لإسلامبول المحروسة، ويعمل أنواع الحيل والدسايس المعكوسة فى أخذ ساير الممالك العثمانية الإسلامية، لكنه لا يحصل على ذلك بسبب اتحاد الفرنساوية وحبهم وإعانتهم إلى الدولة العلية، ويريدون يستولون على أياصوفية وبقية المساجد الإسلامية ويقلبوها كنايس للعبادة الفاسدة والديانة القبيحة الردية، والطايفة الفرنساوية يُعِينون حضرة مولانا السلطان على أخذ بلادهم إن شاء الله، ولا يبقون منهم بقية.
وننصحكم يا أيها سكان الأقاليم المصرية أنكم لا تحركوا الفتن ولا الشر بين البرية، وإياكم تعارضوا العساكر الفرنساوية بشىء من أنواع الأذية، فيحصل لكم الضرر والبلية. فإذن لا تسمعوا كلام المفسدين، ولا تطيعوا كلام المصرفين بالفساد فى الأرض الغير مصلحين، فتصبحون على ما فعلتم نادمين، وإنما عليكم دفع الخراج المطلوب منكم لكل الملتزمين، لتكونوا فى أوطانكم سالمين، وعلى أعيالكم وأموالكم آمنين لأن حضرة السر عسكر الكبير أمير الجيوش بونابارته اتفق معنا أنه لا ينازع أحدا على دين الإسلام، ولا يعارضنا فيما شرع من الأحكام، ويرفع عن ساير الرعية الظلم، ويقتصر عن أخذ الخراج، ويُزِيل ما أبدعته الظَّلَمة من المغارم، ولا تعلقوا آمالكم بإبراهيم ومراد، وارجعوا إلى مالك الممالك وخالق العباد، فقد قال نبيه ورسوله الأكرم: "الفتنة نائمة لعن الله من أيقظها بين الأُمَم" عليه أفضل الصلاة والسلام.
الداعى لكم الفقير السيد خليل البكرى نقيب الأشراف عُفِى عنه.
الداعى لكم الفقير عبد الله الشرقاوى عفى عنه.
الداعى لكم الفقير مصطفى الضاوى عفى عنه.
الداعى لكم الفقير محمد المهدى الخفناوى الشافعى عفى عنه.
الداعى لكم الفقير محمد الأمير مفتى المالكى عفى عنه.
الداعى لكم الفقير أحمد العريشى عفى عنه.
الداعى لكم الفقير سليمان الفيومى المالكى عفى عنه.
الداعى لكم الفقير محمد الدواخلى الشافعى عفى عنه.
الداعى لكم الفقير موسى السرسى الشافعى عفى عنه.
الداعى لكم السيد مصطفى الدمنهورى عفا الله عنه".
أما كيف انصاع هؤلاء المشائخ لطلب نابليون وكتبوا هذا المنشور الذى يوصى المصريين بالإخلاد إلى الهدوء والسكينة والاطمئنان إلى الفرنسيس فيقول محمود شاكر فى كتيبه: "رسالة فى الطريق إلى ثقافتنا": "كانت ثورة الجماهير على مظالم المماليك وذهابهم إلى الجامع الازهر وشكواهم إلى المشايخ، فيترك المشايخ دروسهم ويغلقون الجامع الأزهر ويخرجون على رأس الجماهير ويطالبون المماليك برفع الظلم عن الناس حتى كانت آخر حادثة وقعت بينهم فى سنة 1209هـ/ 1794م، أى قبل الحملة الفرنسية بأربع سنوات حين جاء أهل قرية بشرقية بلبيس يشكون الأمير محمد بك الألفى وأتباعه الذين ظلموهم وطلبوا منهم ما لا قدرة لهم عليه، واستغاثوا بالشيخ الشرقاوى، فاغتاظ حين سمع شكواهم فحضر إلى الازهر وجمع المشايخ، وقفلوا أبواب الجامع وأمروا الناس بإغلاق الأسواق والحوانيت، ثم ركبوا فى ثانى يوم ومعهم خلق كثير من العامة وذهبوا الى بيت الشيخ السادات، فأرسل لهم المماليك أميرا يسألهم عن مطالبهم، فقال المشايخ: نريد العدل ورفع الظلم والجور وإبطال الحوادث والمكوسات التى ابتدعتموها وأحدثتموها. فقال لهم: حتى أبلغ. وانصرف ولم يعد لهم بجواب.
وانفض المجلس وركب المشايخ إلى الجامع الأزهر، واجتمع أهل الأطراف من العامة والرعية وباتوا بالمسجد. وفى اليوم الثالث اجتمع الأمراء وأرسلوا إلى المشايخ، فحضر الشيخ السادات والسيد النقيب نقيب الأشراف عمر مكرم والشيخ الشرقاوى والشيخ البكرى والشيخ محمد الأمير ومنعوا العامة من السير خلفهم، ودار الكلام بينهم وطال الحديث، وانحط الأمر على أنهم تابوا ورجعوا بما شرطه العلماء عليهم، وانعقد الصلح بينهم على أن يرفعوا عن الناس المظالم المحدثة والكشوفيات والتفاريد والمكوس وأن يكفوا أتباعهم عن امتداد أيديهم إلى أموال الناس ويسيروا فى الناس سيرة حسنة. وكان القاضى حاضرا بالمجلس، فكتب حجة عليهم بذلك، فوقع الأمراء عليها ورجع المشايخ وحول كل واحد منهم وأمامه وخلفه جملة عظيمة من العامة، وهم ينادون حسب ما رسم ساداتنا العلماء بأن جميع المظالم والحوادث والمكوس بطّالة من مملكة الديار المصرية.
ويعقب الجبرتى على ذلك بقوله: وفرح الناس وظنوا صحته وفتحت الأسواق وسكن الحال على ذلك نحو شهر، ثم عاد كل ما كان مما ذكر وزيادة. وأخفى الجبرتى عنا كل ما كان فى سنة 1210/ 1795 م وبدأ بقوله: لم يقع فيها من الحوادث التى يعتنى بتقييدها سوى مثل ما تقدم من جور الأمراء والمظالم، وبدأها بسطر واحد فى غرة ذى الحجة ثم شرع يذكر الوفيات، ثم جمع السنتين 1211، 1212هـ/ 1796، 1797م معا، وقال أيضا: لم يقع فيهما من الحوادث التى تقيَّد فى بطون الطروس سوى ما تقدمت الإشارة إليه. وحضر طائفة الفرنسيس إثر ذلك فى أوائل السنة التالية كما سياتى خبر ذلك مفصلا. ثم شرع فى ذكر الوَفَيَات ختام الجزء الثانى من تاريخه. وهذا أمر غريب جدا كأن مظالم المماليك التى عادت جَذَعَةً ونقْضهم الحجة التى وقعوها بعد شهر واحد من تحريرها لم يكن لها وقع عند جماهير الناس ولا عند المشايخ. هذا أمر مستبعد بلا شك. وإنما شُغِل الجبرتى عن سرد حوادثها بما نزل بالبلاد من البلاء الماحق بحضور الفرنسيس، فاختصر السنوات الثلاث اختصارا ليس له شبيه فى كتابه.
كل هذا كان يقع بمرأى ومسمع من المستشرقين وأعوانهم، وأدرك المستشرقون أن هذه الحوادث المتتابعة التى انتهت بإعلان المماليك توبتهم ورجوعهم عن مظالمهم حتى اضْطُرّوا إلى توقيع وثيقة يشهدون فيها على أنفسهم بالتوبة وتعهدوا فيها برفع المظالم عن الناس إنما كان نتيجة متوقعة نابعة من اليقظة والنهضة التى أخذت تعم دار الاسلام فى مصر، وتبينوا أيضا أن مشايخ الازهر قد صاروا طليعة هذه اليقظة وقادتها وأن سلطانهم على العامة والجماهير قد أرهب المماليك وأفزعهم. ولولا أن الجبرتى قد أخفى عنا موقف المشايخ والجماهير فى ثلاث سنوات بعد توبتهم ثم نقضهم العهد وعودتهم إلى الجور والظلم لرأينا الصراع واضحا جليا بين المشايخ قادة الجماهير وبين المماليك الذين غرهم ما كانوا يتمتعون به من السلطان على الجماهير وما استمرأوه من إيقاع الجور والمظالم وسكوت الجماهير واستكانتهم لهم زمنا طويلا قبل ذلك، ولعرفنا أيضا أسماء كثير من المشايخ الذين كانوا طليعة اليقظة وقادتها فى هذه المدة من تاريخ دار الإسلام فى مصر، ولربما عرفنا أيضا أسماء من انحاز من أمراء المماليك يومئذ إلى المشايخ والجماهير وانشق عن جمهرة الامراء المماليك الذين أصروا على جورهم ومظالمهم وعنادهم ورجعوا عن توبتهم التى شهدوا بها على أنفسهم فى الوثيقة أنهم تابوا ورجعوا من المظالم.
ومع ذلك فقد أوقفنا الجبرتى على أسماء ستة من المشايخ الكبار الذين شاركوا فى الثورة على المماليك، وهم الشيخ العريشى مفتى الحنفية والشيخ السادات والسيد نقيب الاشراف عمر مكرم والشيخ عبد الله الشرقاوى شيخ الازهر والشيخ البكرى والشيخ محمد الامير. وهؤلاء الستة كانوا ضمن التسعة الذين سجل أسماءهم نابليون فى أمره الذى أصدره بتكوين الديوان فى أول ساعة وطئت قدمه فيها القاهرة يوم الثلاثاء 10 صفر سنة 1213هـ/ 4 يوليه سنة 1798م. وكان تمام التسعة الشيخ مصطفى الصاوى والشيخ سليمان الفيومى والشيخ موسى السرسى، فرفض ثلاثة من الستة الأُوَل أن ينضموا إلى الديوان، وهم السادات وعمر مكرم ومحمد الأمير، فأحل محلهم نابليون ثلاثة آخرين هم الشيخ مصطفى الدمنهورى والشيخ يوسف الشبراخيتى والشيخ محمد الدواخلى.
كيف استجاب هؤلاء التسعة من المشايخ العلماء الكبار لغازٍ مسيحى بهذه السرعة العجيبة؟ كيف استجابوا، وهم يعلمون صريح أوامر الله وأوامر رسوله بقتال الغُزَاة لدار الإسلام؟ كيف استجابوا، وهم كانوا بالأمس القريب قد ثاروا على الأمراء المماليك يطالبونهم بإقامة الشرع؟ كيف خافوا وضعفوا وأخطأوا الطريق، وكان لهم مندوحة فى رفض الاستجابة كما فعل ثلاثة من إخوانهم العلماء الكبار؟ ينبغى أن يكون لهذه السرعة فى الاستجابة بلا تردد تفسيرٌ يقبله العقل ويمهد لهم عذرا يقبله العقل أيضا على مضض.
لما أظل زمان مجىء الحملة الفرنسية، وكان معلوما بلا شك للمستشرقين المقيمين فى دار الاسلام فى مصر، نشط الاستشراق وأعوانه وجالياته من شذاذ الآفاق الذين عبَّأهم وجنَّدهم كما أشرت إليه فيما سلف. نشط الاستشراق نشاطا سريعا خفى الوطء فى ميادين مختلفة لبث أفكار درسوها وأحكموها وأرادوا أن يشيعوها بين جماهير دار الإسلام فى مصر للتحكم فى تصريف أموره وغاياته وللتمكن من إشعال نيران الفتن حين تنزل الحملة الفرنسية أرض مصر ليفرقوا بهذه الفتن شَمْل الناس ويمزقوهم ويشغلوهم عن الكيد الخفى المكيافيلى الذى يراد بهم.
كان أكبر نشاط الاستشراق موجها إلى المشايخ الكبار الذين ثاروا بالأمس القريب على طائفة الأمراء من المماليك المصرية مرات حتى خضعوا ووقعوا على وثيقة ما كان الاستشراق يوحيه إلى المشايخ بصدد الحملة الفرنسية يشهدون فيها على أنفسهم ويتعهدون فيها برفع المظالم التى أوقعوها على جماهير الأمة وبالتزام أوامر الشرع، ولكنهم لم يفوا بذلك فنقضوا الوثيقة وعادوا بعد شهر واحد إلى جَوْرهم ومظالمهم وزيادة كما قال الجبرتى فيما سلف قريبا.
ولا شك أن نقض هذه الوثيقة قد أورث قلوب المشايخ الكبار غضبا وكراهية لطائفة الأمراء المماليك الذين لا يرعَوْن لله إِلًّا ولا عهدًا ولا ذمة ولا يقيمون للشرع حرمة ولا للمشايخ هيبة ولا كرامة. كان هذا كله معلوما واضحا عند الاستشراق وأعوانه وحواشيه. فلما دنا نزول جند الفرنسيس ثغر الاسكندرية كانت الأخبار قد وصلت إلى القاهرة غامضة، فلم يهتم أمراء المماليك بشىء من ذلك ولم يكترثوا به اعتمادا على قوتهم فقالوا وزعموا أنه إذا جاءت جميع الإفرنج لا يقفون فى مقابلتهم وأنهم يدوسونهم بخيولهم.
وعندئذ خرج الاستشراق من مكامنه وخرج المستشرقون الذين كانوا يتزيَّوْن بزى أهل الاسلام ويجاورون فى الازهر لطلب علم الدين والدنيا مسلمين ويخالطون المشايخ الكبار فى دروسهم وبيوتهم لا يميزهم شىء عن سائر المسلمين المجاورين فى الأزهر من كل جنس ولون وطافوا على المشايخ الكبار، وبرفق ودهاء ومكر فاتحوهم فى شأن الفرنسيس الذين شاع أنهم قد دنا نزولهم أرض مصر. فنصيحةً لله ولرسوله وللمسلمين بينوا لهم أنهم على علم بشأن هؤلاء الفرنسيس، وأن الذى يحملهم على القدوم إلى الديار المصرية هو ما كان المماليك يعاملون به الجالية الفرنسية بإذلال واحتقار ويظلمون تجارهم بأنواع الإيذاء والتعدى كما يظلمون جماهير أمة الاسلام فى مصر بألوان من الجور والظلم والمهانة وإقدامهم على مخالفة الشرع وعلى نقض العهود والمواثيق وجرأتهم على هيبة المشايخ الكبار بلا رعاية لكرامتهم، وأن كل هدف الفرنسيس هو رفع الظلم الواقع على تجارهم وتخليص حق الامة الإسلامية من يد الظالمين والقضاء على دولة المماليك الفاسدة الظالمة ووضع أمور البلاد فى يد العلماء والفضلاء من أهالى مصر.
وظلوا يفتلون لهم فى الذروة والغارب برفق ودهاء حتى انتهَوْا إلى أن الفرنسيس لم يقدموا على نية القضاء على دولة المماليك إلا باتفاق مع السلطان العثمانى لأنهم أحباؤه المخلصون، والمماليك كثيرا ما امتنعوا عن طاعة السلطان ولم يمتثلوا لأمره، وأنهم يحترمون النبى صلى الله عليه وسلم والقرآن العظيم، وأنهم هم الذين نزلوا فى روميه وخربوا كرسى البابا، الذى كان دائما يحث النصارى على محاربة المسلمين. واستمع المشايخ لهذا وأمثاله. ولقلة علمهم بما هو خارج عن حدود القاهرة ألان مثل هذا الحديث قلوب أكثرهم وغرتهم الأمانى وعَدُّوه نصيحة لله ولرسوله وللمؤمنين. وكان آخرون من المستشرقين لهم مودةٌ بالمماليك يفاوضونهم ويهونون عليهم شأن الفرنسيس ويمنُّونهم بالظَّفَر عليهم إذا هم أقدموا على دخول القاهرة، ويزيدونهم إصرارا على الغرور بقوتهم وأنهم إذا جاءت الافرنج فهم قادرون على أن يدوسوهم بخيولهم. أما الذين كانوا منهم يطوفون بالمشايخ فكانوا يخوفونهم من تهور المماليك وأنهم لا علم لهم بقوة الفرنسيس وما فى حوزتهم من المدافع والأسلحة مما لا يملك مثله المماليك، وأنه إذا وقعت الواقعة لم تغن عن المماليك مدافعهم وأسلحتهم، وأنهم سرعان ما يفرون من وجه الفرنسيس ثم يتفرقون شَذَرَ مَذَرَ ويتركون القاهرة مكشوفة بلا حامٍ يحميها أو يدافع عنها.
وكان آخرون من المستشرقين يتأهبون لإحداث فتنه كبيرة إذا ما دخلت جيوش الفرنسيس القاهرة، فطافوا بالكنيسة القبطية المصرية وحاولوا أن يستثيروا حميتها وأن يغروها بأن استجابتهم للفرنسيس إنما هو نصرة لدين المسيح على دين الإسلام، وأن واجبهم هو أن يناصروا الفرنسيس ويناصبوا المسلمين العداء حتى تعلو راية المسيحية ويصبح المسلمون أتباعا لهم ورعيَّة لا سلطان لها، ولا يملكون الا الطاعة المستكينة لدين المسيح. بيد أن الكنيسة القبطية أعرضت عنهم وعن إغرائهم لسبب بينه لنا المستشرق الانجليزى إدوارد وليم لين فى كتابه: "المصريون المحدثون: شمائلهم وعاداتهم" بعد جلاء الفرنسيين عن مصر بأربع وثلاثين سنة سنة 1834 فقال: ومن اكثر الخاصيات اعتبارا فى خلق الأقباط تعصبهم الشديد. وهم يكرهون المسيحيين الآخرين جميعا كراهية شديدة (يعنى المسيحية الشمالية) تفوق أيضا كراهية المسلمين للكفار فى الإسلام، ويعتبرهم المسلمون مع ذلك أكثر المسيحين ميلا للإسلام. لذلك لم يستجب للمستشرقين أحد من رجال الكنيسة القبطية وأخفقوا إخفاقا كاملا فوَلَّوْا وجوهم شطر طائفة الأقباط الأغنياء الذى كان عملهم جباية الأموال وضبط مالية المماليك، فاستعصى عليهم أكثرهم، واستجاب لهم جابى المملوك محمد بك الالفى، وهو المعروف باسم المعلم يعقوب، وجمع لهم من سفلة القبط وعامتهم وغوغائهم عددا كبيرا وانضم جهرة الى الفرنسيس فكوَّن منهم نابليون فيما بعد جيشا سماه: "جيش الاقباط" على كراهية الكنيسة القبطية وعلى غير رضاها. وهذا الخسيس المعلم يعقوب كان هو وجيشه فتنة كبيرة وبلاء وبيلا.
لما وقعت الواقعة ونزل جند الفرنسيس أرض الاسكندرية واجتاحوا بلاد الوجه البحرى يحرقون القرى ويسفكون الدماء سبقهم إلى القاهرة منشور نابليون المؤرخ آخر المحرم سنة 1212 هـ، وكتبه المستشرقان فانتور ومارسل، رأى المشايخ فيه جُلَّ ما طرق أسماعهم من حديث المستشرقين الذين كانوا يتزيَّوْن بزى الاسلام وجاءتهم أنباء حرائق القرى وسفك الدماء حين قاوم المصريون الجيش الغازى. كما توعد نابليون فى منشوره كل من يقاومه. ثم بعد أيام قلائل وصل نابليون مشارف القاهرة ولقى جيشه جيش المماليك، ودارت الدائرة على المماليك وأخذهم الرعب وتفرقوا شذر مذر، وتركوا القاهرة عارية مكشوفه ليس لها حام يحميها، فكان ذلك كله مصداقا لما سمعه المشايح من المستشرقين، فوجفت قلوبهم وخافوا أن يحل بالقاهرة ما حل بقرى الوجه البحرى من الفظائع. فلما دخل نابليون القاهرة وأصدر أمره بتكوين الديوان من تسعة من المشايخ الكبار استجاب ستة منهم لدعوة نابليون، ثم استجاب أيضا ثلاثة آخرون لتمام التسعة. رفض السادات وعمر مكرم ومحمد الأمير أن يستجيبوا لدعوته. والذى دعا هؤلاء للاستجابة خوفهم على مصير القاهرة التى تُرِكَتْ بلا حام يحميها بعد أن خذلها حماتها من صناديد الحرب والقتال، وهم المماليك المصرية، فلم ير المشايخ سبيلا إلى حقن دماء العامة رجالا ونساء إلا المهادنة وإلا الصبر والسكينة حتى يكشف الله هذه الغمة بما شاء سبحانه.
فكانت استجابةُ هؤلاء المشايخ التسعة لتكوين الديوان منهم أولَ زَلَّة، وكانت هذه الاستجابة أيضا أول نجاح حازه الاستشراق فى تدجين بعض المشايخ الكبار. ولكن لم تلبث الأمة: خاصتها وعامتها أن رفضت الاستماع إلى هؤلاء المشايخ المدجَّنين، واستمعت إلى آخرين من المشايخ وإلى صغار طلبة العلم بالأزهر الذين رفضوا نصيحة المشايخ التسعة الكبار، وقامت ثورة القاهرة وثورات الاقاليم بعد ثلاثة أشهر من تدجين التسعة الكبار ومن دخول جزار القاهرة أرضا لم تطأها من قبل قدم غاز صليبى محترق كالميكافلى نابليون، الذى غر هؤلاء التسعة وخدعهم حُسْن استقباله لهم وتوقيرهم خداعا لهم بمداهنته ومكره ودهائه. وكان بعد ذلك ما كان من سفح الدماء ليلا ونهارا جهرة وخفية. لم يستثن الجزار ولا خلفاؤه شيخا فانيا ولا طفلا رضيعا ولا امرأة عاجزة حتى انكشح هو وجنوده من أرض مصر بعد ثلاث سنوات خزايا مقهورين".
وبعد فأنا حين أنقل هذا الكلام لا أعنى أنه كلام مفروغ من صحته بلا جدال، فقد يكون فى الأمر خيال كثير أو قليل، بل إنى لأرى فيه خيالا كثيرا جدا. وهو ما يذكرنى بنظرية الأستاذ شاكر عن والد المتنبى وأنه أحد العلويين مما فصل فيه القول فى كتابه المعروف عن الشاعر الكبير وترك لخياله العنان دون ضابط ولا رابط، وفصلت أنا أيضا القول فى مناقشته وتفنيده وإبراز عناصر اللامعقول واللامقبول فيه فى كتابى: "المتنبى- دراسة جديدة لحياته وشخصيته". كما يذكرنى أيضا بنظرية ابن سبإ ودوره فى الفتنة الكبرى أيام عثمان، إذ تصوره هذه النظرية رجلا خارقا يذهب هنا وهناك كأن تحت يده طائرة خاصة تقطع به المسافات الشاسعة فى لاوقت ويتصل بهذا وبذاك بسهولة تامة دون أية مشاكل أو تحضيرات ويدعو بدعوته السامة فيردد الناس ما يقول دون مراجعة أو تدقيق ويكتب الكتب والرسائل التى تفسد أمور المسلمين وينجح نجاحا مذهلا كأنه السكين الماضى فى قالب القشدة لا يجد فى طريقه أى عائق أو مانع البتة، إذ المسلمون سُذَّج يتم الضحك عليهم بكل سهولة، فقد أَلْغَوْا عقولهم وتركوا ابن سبإ يتلاعب بهم جميعا وهم مسيَّرون غير واعين بالخطر ولا عارفين كيف يتقونه إن وَعَوْا به، وإلا فأين أسماء أولئك المستشرقين وعملائهم الذين مهدوا الطريق للحملة الفرنسية وكانوا منتشرين فى كل مكان ويوسوسون لهذا وذاك من علمائنا وزعمائنا ورجالنا بكل سلاسة وانسيابية كما يصور ذلك كلامُ شاكر؟ ولماذا نحن دائما بهذه السذاجة بل البلاهة بحيث نفتح بلادنا وبيوتنا وآذاننا وعقولنا وصدورنا لأعدائنا دون تحسُّب أو يقظة أو اتخاذ أى لون من ألوان الحيطة؟ أما تصوير الأمر على أنه نية طيبة وقلب أبيض من جانبنا فهذا ليس عذرا بل هو بلاهة حضارية نستحق معها ما جرى ويجرى لنا.
وعلى كل حال فإن الأوربيين بوجه عام، حسبما تقول لنا تصرفاتهم وطريقة تفكيرهم وتعاملهم معنا فى الأزمنة الأخيرة، يؤسسون كل أمورهم على العلم والتخطيط واستعمال البدائل فى كل خطوة بحيث إذا فسد بديل منها أخرجوا أحد البدائل الأخرى المنتظِرة واستعملوه. كذلك من الغباء الإجرامى تصوُّرنا أن الغربيين يمكن أن يفكروا يوما فى مصلحتنا أو يذرفوا دمعة علينا. وعلى هذا فإن كنا نريد الانعتاق من المأزق الحضارى الذى نحن منغمسون فيه الآن إلى أنوفنا ونوشك أن نختنق ونموت غير مأسوف علينا فلا مناص أمامنا سوى أن نتعلم منهم الدهاء والتخطيط والعمل الدائب والإتقان لكل شىء نصنعه وننفض عن أنفسنا السذاجة الحضارية وأن نفهم الإسلام العظيم كما ينبغى أن يكون الفهم وأن نتخلص من أفكار العوام وعقائدهم فى السحر والعين والوهم الذى يخيل لنا أن الصيغ الكلامية المحفوظة قادرة فى حد ذاتها ودون عمل واجتهاد مؤسس على العلم والتخطيط على انتشالنا من المصائب المتلتلة التى تضغط على رؤوسنا وصدورنا والإيمان بكل قوة وبدون أدنى تلجلج أنه لا أمل فى شىء بعد الله سبحانه إلا فى العلم واتباع طريقه وإلا العمل وإلا الإتقان وإلا الثقة بالنفس وإلا مراجعة الأخطاء وتصحيحها أولا بأول وإلا أن نخطط ونكون دهاة كتومين لأسرارنا ولا نثق أبدا فى المستعمرين وبطائنهم مهما أظهروا لنا المودة والأَرْيَحِيّة وأن نعرف أنهم لا يؤمنون إلا بالقوة، ومن ثم فنحن لا نمثل لهم شيئا إنسانيا ولا يمكن أن تأخذهم بنا رأفة أو رحمة البتة لأن هذا ضد عقيدتهم وإيمانهم المخالِط منهم لِلَّحْم والدَّمِ.
وتتحدث الرواية فى بدايتها عن المتاعب التى كان يواجهها النصارى فى مصر قبيل مجىء الحملة الفرنسية حسبما تقول، ومنها هتاف العامة حين يَرَوْن نصرانيا يمشى على اليمين: "اشمل يا نصرانى" أو عندما يجدون نصرانيا يلبس ملابس المسلمين طبقا لأحداث الرواية المذكورة. ومعروف أن الإسلام يتشدد فى إحسان معاملة أهل الذمة، ومنهم النصارى، فلا ينبغى أن يؤذيهم المسلمون، إذ يقول الرسول عليه السلام مثلا: "من آذى ذِمِّيًّا فقد آذَنْتُه بحَرْبٍ"، ويقول: "مَنْ ظلم مُعَاهَدًا أو انتقصه أو كلَّفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئا بغير طِيب نفسه فأنا حَجِيجُه يوم القيامة". وفى حديث نبوى شريف نرى الرسول عليه السلام يقوم واقفا لدن مرور جنازة يهودى به، ولما سئل من قبل صحابته فى ذلك استغرابا لموقفه كان جوابه الكريم: أليست نفسا؟ ولم نسمع أنه صلى الله عليه وسلم قد حَرَّم على غير المسلمين ارتداء ما يرتديه المسلمون ولا جاء فى القرآن شىء من هذا القبيل. بل لقد كان عليه السلام يلبس ما تيسر من الملابس حتى لقد لبس ذات مرة جبة رومية. وفى سورة "النساء" معاتبة للرسول صلى الله عليه وسلم لأنه "انخدع" بكلام بعض المسلمين فى واقعة سرقةٍ، وصدَّق أن السارق رجل يهودى، بينما كان السارق الحقيقى واحدا من أولئك الذين كذبوا على النبى وأوهموه بعكس ذلك. بل إنه ليجب على المسلمين ألا يجادلوا أهل الكتاب إلا بالتى هى أحسن حسبما أمرهم القرآن المجيد فى سورة "العنكبوت"، اللهم إلا إذا كانوا معتدين، فهذا شأن آخر مختلف بطبيعة الحال. وقبل هذا كله كتب الرسول دستورا لطوائف المدينة غداة الاستقرار فيها بعد الهجرة سَوَّى فيه بين المسلمين واليهود تمام المساواة فى الواجبات وفى الحقوق جميعا. وفى سورة "الممتحنة" يعلن الله سبحانه للمؤمنين أنه لا ينهاهم عن موادّة من لم يقاتلوهم فى الدين أو يخرجوهم من ديارهم أو عن معاملتهم بالبِرّ والقسطاس. إنما ينهاهم عن مودة من قاتلوهم فى الدين وأخرجوهم من ديارهم وظاهروا على إخراجهم ظلما وعدوانا.
و"ورد فى وصايا أبى بكر رضى الله عنه: لا تقتلَنّ أحدًا من أهل ذمة المسلمين، فيطلبك الله بدمه فيكبّك على وجهك فى النار. ومن وصايا عمر رضى الله عنه وهو على فراش الموت: أُوصِى الخليفة من بعدى بأهل الذمة خيرًا، وأن يوفى لهم بعهدهم وأن يقاتل من ورائهم وألا يكلفهم فوق طاقتهم. وقد انعكس هذا على الممارسات والتطبيقات التى أطلقت على القاعدة الفقهية: لهم مالنا وعليهم ماعلينا. ومن ثم حدد الفقهاء حقوق أهل الذمة كما يلى: 1- الكف عنهم، وذلك بألا يتعرض لهم أحد بسوء فى أنفسهم أو أموالهم، فإن أتلفها لهم أحد، فإنه يضمنها لهم. 2- الدفاع عنهم إذا تعرض لهم أحد بالاعتداء وهم فى ديار المسلمين. 3- إقرار معاملتهم وأنكحتهم" حسبما نقرأ فى مادة "أهل الذمة" فى "الموسوعة العربية الميسرة"، وهو ما يترتب عليه مثلا أنه إذا أتلف مسلم خمرا أو لحم خنزير فعلى المسلم أن يتحمل تكلفة ما أتلفه رغم أن الخمر ولحم الخنزير حرام فى الإسلام. وتمضى الموسوعة المذكورة قائلة إنهم إذا قاموا بمناصرة أعداء المسلمين أو إيواء جواسيسهم مثلا فلا ذمة لهم.
لكن لا بد أن نعرف أن من الصعب سير الأمور على هذا المستوى المثالى دائما، وبخاصة فى وقت كوقت الحملة الفرنسية كانت الصدور فيه متوجسة، وعدد غير قليل من النصارى قد انحاز ناحية الفرنسيس ضد إخوان الوطن وتَحَدَّوْهم وعالنوهم بالعداء وأساؤوا إليهم إساءات بالغة وشتموهم وأهانوهم وآذَوْهم فى دينهم اعتمادا على ما رَأَوْه من قوة الفرنسيس، وكانوا يد هؤلاء الباطشة فى كثير من الأحيان. بل لقد كونوا فيلقا لمساعدة الفرنسيس فى إخضاع المسلمين وضربهم وقتلهم وكأنهم لم يعودوا مصريين بل صاروا فرنسيين مثلهم، ولم يجعلوا باب الود مواربا وأغلقوه بالضبة والمفتاح غير مُبْقِين على شعرة معاوية. فكان من الطبيعى أن يكون رد فعل المسلمين على النحو الذى رأيناه والذى افتُتِحت به الرواية. ولقد عاش عنصرا الأمة قرونا طوالا لم يمس المسلمون إخوانهم فى الوطن بأى أذى، فلم تغيرت الأمور عند مجىء الحملة الفرنسية، اللهم إلا لأن بعض النصارى شاموا فى ذلك المجىء فرصة ذهبية للتنكيل بالمسلمين ظنا منهم أن الفرنسيس لن يتركوا مصر إلى أبد الآباد، ومن ثم سوف تكون لهم الدائرة على المسلمين دائما وأبدا؟ ولكن لما خاب ظنهم سُقِط فى أيديهم ولم يجدوا مناصا من الخروج معهم لمعرفتهم أن خيانتهم لن تمر بسهولة أبدا.
قال الجبرتى عن الأوضاع فى مصر عقب فشل الثورة على الاحتلال الفرنسى المجرم: "وكَّلوا (أى الفرنسيون) بالفِرْدَة العامة وجمع المال يعقوبَ القبطى، وتكفل بذلك وعمل الديوان لذلك ببيت البارودى، وألزموا الآغا بعدة طوائف كتبوها فى قائمة بأسماء أربابها وأعطَوْه عسكرًا وأمروه بتحصيلها من أربابها، وكذلك على آغا الوالى الشعراوى وحسن آغا المحتسب وعلى كتخدا سليمان بك، فنبهوا على الناس بذلك وبثوا الأعوان بطلب الناس وحبسهم وضربهم، فدُهِىَ الناس بهذه النازلة التى لم يصابوا بمثلها ولا ما يقاربها.
ومضى عيد النحر، ولم يلتفت إليه أحد بل ولم يشعروا به ونزل بهم من البلاء والذل ما لا يوصف، فإن أحد الناس غنيًا كان أو فقيرًا لابد وأن يكون من ذوى الصنائع أو الحرف، فيلزمه دفع ما وزع عليه فى حرفته أو فى حرفته وأجرة داره أيضًا سنة كاملة، فكان يأتى على الشخص غرامتان أو ثلاثة ونحو ذلك، وفرغت الدراهم من عند الناس واحتاج كلٌّ إلى القرض فلم يجد الدائن من يدينه لشغل كل فرد بشأنه ومصيبته، فلزمهم بيع المتاع فلم يوجد من يشترى، وإذا أعطَوْهم ذلك لا يقبلونه، فضاق خناق الناس وتمنَّوُا الموت فلم يجدوه، ثم وقع الترجِّى فى قبول المصاغات والفضيات، فأحضر الناس ما عندهم فيُقَوَّم بأبخس الأثمان.
وأما أثاثات البيوت من فرش ونحاس وملبوس فلا يوجد من يأخذه، وأمروا بجمع البغال ومنعوا المسلمين من ركوبها مطلقًا سوى خمسة أنفار من المسلمين، وهم الشرقاوى والمهدى والفيومى والأمير وابن محرم والنصارى المترجمين وخلافهم لا حرج عليهم، وفى كل وقت وحين يشتد الطلب وتنبث المعينون والعسكر فى طلب الناس، وهجم الدور وجرجرة الناس حتى النساء من أكابر وأصاغر وبهدلتهم وحبسهم وضربهم، والذى لم يجدوه لكونه فر وهرب يقبضون على قريبه أو حريمه أو ينهبون داره، فإن لم يجدوا شيئًا ردوا غرامته على أبناء جنسه وأهل حرفته.
وتطاولت النصارى من القبط والنصارى الشوام على المسلمين بالسب والضرب، ونالوا منهم أغراضهم وأظهروا حقدهم، ولم يُبْقُوا للصلح مكانًا، وصرحوا بانقضاء ملة المسلمين وأيام الموحدين. هذا، والكتبة والمهندسون والبناؤون يطوفون ويحررون أجر المكان والعقارات والوكائل والحمامات ويكتبون أسماء أربابها وقيمتها. وخرجت الناس من المدينة وجَلَوْا عنها وهربوا الى القرى والأرياف، وكان ممن خرج من مصر صاحبنا النبيه العلامة الشيخ حسن المشار إليه فيما تقدم، فتوجه لجهة الصعيد وأقام بأسيوط فأقام بها نحو ثمانية عشر شهرًا .
ثم إن أكثر الفارِّين رجع الى مصر لضيق القرى وعدم ما يتعيشون به فيها وانزعاج الريف بقطاع الطريق والعرب والمناسر بالليل والنهار والقتل فيما بينهم وتعدى القوى على الضعيف. واستمرت الطرق محفرة والأسواق معفرة والحوانيت مقفولة والعقول مخبولة والنفوس مطبوقة والغرامات نازلة والأرزاق عاطلة والمطالب عظيمة والمصائب عميمة والعكوسات مقصودة والشفاعات مردودة، وإذا أراد الإنسان أن يفر إلى أبعد مكان وينجو بنفسه ويرضى بغير أبناء جنسه لا يجد طريقًا للذهاب، وخصوصًا من الملاعين الأعراب الذين هم أقبح الأجناس وأعظم بلاء محيط بالناس. وبالجملة فالأمر عظيم والخطب جسيم ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم. "وكذلك أَخْذُ ربك إذا أخذ القرى وهى ظالمة. إن أخذه أليم شديد". وفى عشرينه انتقلوا بديوان الفِرْدَة من بيت البارودى الى بيت القيسرلى بالميدان، ووقع التشديد فى الطلب والانتقام بأدنى سبب".
وذكر أيضا العقوبات المالية المهلكة التى فرضها الفرنسيون الخنازير على المصريين ووكلوا الأقباط لجمعها فساروا أسخم سيرة وأهانوا المسلمين أيما إهانة وتغطرسوا عليهم وأذاقوهم ضروب الذلة والاحتقار والعسف والجبروت وضربوهم ضربا وحشيا بلا أية رحمة. لقد استولى الفرنسيون "على المخازن والغلال التى كان جَمَعَها العثمانية من البلاد الشرقية وبعض البلاد الغربية والقليوبية، وكذلك الشعير والأتبان، وطلب الفرنساوية مثل ذلك من البلاد وقرروا على النواحى غلالًا وشعيرًا وفولًا وتبنًا، وزادوا خيلًا وجمالًا، فوقع على كل إقليم زيادة عن ألف فرس وألف جمل، سوى ما يدفع مصالحة على قبولها للوسائط، وهو نحو ثمنها أو أزيد، وكذلك التعنت فى نقض الغلال وغربلتها وغير ذلك. وكل ذلك بإرشاد القبطة وطوائف البلاد، لأنهم هم الذين تقلدوا المناصب الجليلة وتقاسموا الأقاليم والتزموا لهم بجمع الأموال، ونزل كل كبير منهم إلى إقليم وأقام بسُرَّة الإقليم مثل الأمير والعساكر الفرنساوية، وهو فى أبهة عظيمة، وصُحْبَتُه الكَتَبَةُ والصيارفُ والأتباعُ والأجنادُ من الغُزّ البطّالة وغيرهم والخيام والخدم والفراشون والطباخون والحجاب، وتقاد بين يديه الجنائب والبغال والرَّهَونات والخيول المسوَّمة والقوَّاسة والمقدَّمون، وبأيديهم الحراب المفضضة والمذهبة والأسلحة الكاملة والجمال الحاملة، ويرسل إلى ولايات الإقليم من جهته المتسوفين من القبط أيضًا بمنزلة الكشاف، ومعهم العسكر من الفرنساوية والطوائف والجاويشية والصرافين والمقدمين على الشرح المذكور، فينزلون على البلاد والقرى ويطلبون المال والكلف الشاقة بالعسف، ويؤجلونهم بالساعات، فإن مضت ولم يوفوهم المطلوب حل بهم ما حل من الحرق والنهب والسلب والسبى، وخصوصًا إذا فر مشايخ البلدة من خوفهم وعدم قدرتهم، وإلا قبضوا عليهم وضربوهم بالمقارع والكسارات على مفاصلهم وركبهم، وسحبوهم معهم فى الحبال وأذاقوهم أنواع النكال، وخاف من بقى فصانعوهم وأتباعهم بالبراطيل والرشوات، وانضم إليهم الأسافل من القبط والأراذل من المنافقين، وتقربوا إليهم بما يستميلون قلوبهم به وما يستجلبونه لهم من المنافع والمظالم، وأجهدوا أنفسهم فى التشفى من بعضهم وما يوجب الحقد والتحاسد الكامن فى قلوبهم، إلى غير ذلك مما يتعذر ضبطه، "وما كنا مهلكى القرى إلا وأهلها ظالمون"...".
والمسلمون حتى الآن ينالهم أذى شديد فى الدول الأوربية وفى أمريكا، وهى بلاد الديمقراطية التى تتشدق بحقوق الإنسان، ومع هذا نسمع كل قليل بالاعتداء على المساجد بطرق شتى أو ضرب المسلمين والمسلمات فى الشوارع عينى عينك أو انتفاض الصحافة أو النواب ضد ملابس المرأة المسلمة أو الاعتراض على الأذان أو على بناء المآذن تحت ذرائع شتى أو التطاول على الرسول بحجة ممارسة حرية التعبير وكأن حرية التعبير تنحصر فقط فى إهانة المسلمين ودينهم والإساءة إلى نبيهم، مع أنه من المعروف أن حرية إصبعى تنتهى حينما تبدأ حرية عين جارى. ويفضح هذه الدعوى الكاذبة أن أيا من الأوربيين لا يمكنه أن يقترب مثلا من معسكرات الاعتقال النازية التى كان يوضع فيها اليهود أيام هتلر بأى تكذيب حتى لو كان مؤرخا أو أستاذا جامعيا يريد أن يدرس الموضوع دراسة علمية. وما عليك سوى ترديد ما يقوله اليهود فى هذا الصدد، وإلا فالمحاكمة تنتظرك، والعقوبة مسلطة على رقبتك لا مَعْدَى عن ذلك. فماذا تكون معاملة النصارى فى مصر آنذاك بالقياس إلى ما وقع على اليهود وغير اليهود فى معتقلات ألمانيا النازية من عذاب وكوارث؟ ومنذ يومين قرأت عن هجوم إرهابى على مسجد من مساجد لندن. ثم هأنذا أقرأ فى الليلة التالية خبرا آخر عن هجوم إرهابى عنصرى فى ألمانيا. وهذه أخبار اعتيادية جدا. ومنذ فترة كان هناك هجوم رهيب على مسجد فى أستراليا، ولم يبد المجرم القاتل أى شعور بالأسف، ودعك من الندم. بالعكس لقد تمسك بموقفه، ولم يتزحزح عن موضعه قط، ورأى أن ما صنعه هو الصواب المطلق. وطبعا هناك الإعلام الغشوم الذى لا يكف عن النيل من الإسلام والمسلمين أبدا، وهو أحد العوامل فى إبقاء هذا الجرح الدامى فاغرا من خلال أكاذيبه عن الإسلام التى يضخها على الدوام دون توقف أو التقاط أنفاس.
كذلك ليس بالمجهول ولا بالذى نسيته ذاكرة العالم ما حدث قبل عقود قليلة لمسلمى البوسنة على يد الصرب من مذابح جماعية واغتصاب لأعداد هائلة من النساء المسلمات أدت بكثيرات منهن إلى التخلص من حياتهن هروبا من العار والشنار، كل ذلك تحت سمع وبصر جنود الأمم المتحدة. ومعروف أن المسلمين هناك هم أصحاب البلاد، وليسوا أقلية. ومن المعروف أيضا ما اجترحته القوات الأمريكية فى العراق من اغتصاب للنساء وقتل للرجال وإهانة للعراقيين بكل ألوانهم وأطيافهم ودك للملاجئ على رؤوس المحتمين بها وتفجير للبيوت وتلويث للأجواء بالنووى القاتل ونشر للموت بكل سبيل. ولدينا الفلسطينيون، وما أدراك ما يقع عليهم من ظلم وإجحاف وحشى طوال عشرات الأعوام من سرقة الوطن شيئا فشيئا وقتل الأبطال واغتصاب الحرائر وتيتيم الأطفال وتأييم النساء وتفجير البيوت ومصادرة الحقول والبساتين دون أن ترتفع إصبع واحدة بالاعتراض من جانب هلاسى حقوق الإنسان الزاعمين بأنهم يحاربون الإرهاب مع أن ما يفعله الصهاينة فى فلسطين وأهلها هو الإرهاب بألف ولام الماهية؟
وبالمثل فالدنيا كلها تعلم ما عومل به المسلمون حين دارت الدائرة عليهم فى الأندلس، فكانت محاكم التفتيش وكان التقتيل وكان الحرق وكان الطرد من البلاد وكان الاعتقال الرهيب وكان التنصير الإكراهى وكان التجسس ليل نهار ونهار ليل على بيوتهم وتصرفاتهم مع إجبارهم على ترك أبواب منازلهم مفتوحة على الدوام حتى تستطيع السلطات اقتحامها فى أى وقت تشاء كى تعرف هل أصحابها تنصروا فعلا من قلوبهم أم هل لا يزالون مسلمين فى الباطن مع تظاهرهم بالنصرانية. كذلك ليست بالمجهولة أخبار المذبحة التى اقترفها الصليبيون عندما دخلوا القدس عام 1099م إذ قتلوا سبعين ألفا من المسلمين حتى لقد صارت الدماء للركب، إذ بعد أن دخل الصليبيون المدينة المقدسة تملكتهم روح البطش والرغبة فى سفك دماء العُزْل الأبرياء، فانطلقوا فى شوارع المدينة يذبحون كل من يقابلهم من رجال ونساء وأطفال، ولم تسلم المنازل الآمنة من اعتداءاتهم الوحشية، واستمر ذلك طيلة اليوم الذى دخلوا فيه المدينة ليستكملوه صباح اليوم التالى فقتلوا المسلمين الذين احتمَوْا بحرم المسجد الأقصى، وكانوا سبعين ألفًا منهم أعداد ضخمة من أئمة المسلمين وعلمائهم وعبادهم وزهادهم ممن فارقوا الأوطان وأقاموا هناك. وقد ذكر المؤرخ الصليبى ريموند أوف أجيل أنه عندما توجه لزيارة ساحة المعبد غداة تلك المذبحة لم يستطع أن يشق طريقه وسط أشلاء القتلى إلا بصعوبة بالغة، وأن دماء القتلى بلغت ركبتيه.
وطوال قرن وثلث كانت فرنسا تحتل الجزائر وتنكل بأهلها أفظع تنكيل وتعمل على استئصال العربية والإسلام هناك وفرنسة الناس. ويا ليتها كانت تعاملهم على أنهم فرنسيون فتساويهم بالفرنسيين الحقيقيين. لا بل كانت تستولى على ثروات البلاد وتحرم الأهلين منها وتجتهد فى إفقارهم وتجويعهم وإهانتهم والتضييق عليهم وسجنهم وقتلهم دون أن يذرف أحد من الأوربيين ولو دمعة كاذبة عليهم بل كانت الدول الأوربية تتنافس فى احتلال بلاد المسلمين وكسح ثرواتهم وإهانتهم وإذلالهم وتحويل حياتهم إلى معاناة متصلة. والآن ها هى ذى الصين، وها هى ذى ميانمار، تؤذيان المسلمين وتحولان حياتهم جحيما لا يمكن إطاقته، ولا تبالى أى منهما بما يقوله العالم لو كان العالم يقول شيئا من قلبه.
وعندنا الهنود الحمر فى أمريكا الشمالية. وقد استأصلهم الأوربيون المهاجرون الذين استقبلهم الهنود المساكين هناك بكل ترحاب، فكانت النتيجة أَنْ عَمِل أولئك المجرمون الأنانيون المسعورون على القضاء عليهم بكل سبيل حتى خلا لهم وجه البلاد التى تفيض سمنا وعسلا وصاروا هم أصحابها بينما اندثر أصحابها الحقيقيون. ولنتنبه إلى أن الهنود الحمر لم يكونوا أقلية بل كانوا بعشرات الملايين، وكانوا هم أهل البلاد، بينما الأقلية القليلة الواغلة المقتحمة المعتدية المجرمة هى الأوربيون، الذين استغلوا تفوقهم العلمى والطبى والعسكرى ضد الهنود فاستعملوا كل الوسائل الشيطانية فى محوهم من قيد الحياة. ونفس الشىء يقال عن سكان أستراليا وقضاء الغربيين المهاجرين هناك عليهم. وفى أمريكا ظل السود يعاملون معاملة أسوأ من معاملة الحيوانات إلى عدة عقود قريبة خلت، ولم ينالوا شيئا من حقوقهم إلا بعد أن دفعوا ثمنه باهظا. وكان النصارى الأوربيون يقتل بعضهم بعضا بسبب اختلاف المذهب: وليس بالغريب أمر مذبحة سانت بارتلمى عام 1572م، التى أُزْهِق فيها من الأرواح فى ليلة واحدة ما بين ثلاثة آلاف نفس وخمسة آلاف من البروتستانتيين (وبعضهم يصل بالعدد إلى ثلاثين ألفا) على أيدى الكاثوليك فى فرنسا والتى انطبع جراءها فى نفوس البروتستانت أن الكاثوليكية ديانة دموية وغادرة. وهناك المذابح التى وقعت فى رواندا وبوروندى منذ وقت ليس بالبعيد بين بعض القبائل وبعض وراح فيها مئات الآلاف.
ومع هذا كله ينبغى أن نعرف موقف المسؤولين فى القاهرة من النصارى المصريين عند مجىء الفرنسيين لاحتلال مصر حين فكر بعض الناس فى إيقاع الأذى بهم انتقاما مما فعله الفرنسيون لدن دخولهم مصر واحتلالها. فيقول نقولا التركى فى كتابه: "أخبار المشيخة الفرنساوية فى الديار المصرية": "اتفق رأيهم أن يسجنوا القنصل والتجار الموجودين من الفرنساوية فى مصر القاهرة خوفا من الخون والمخامرة، وسجنوهم جميعا فى قلعة الجليلة. وبعد ذلك اتفق الجميع الكبير منهم والوضيع على القتال والصدام، وأن مراد بيك يسير فى العساكر المصرية لملاقاة الفرنساوية عند دمنهور، وإبراهيم بيك الكبير وباكير باشا الوزير مع بقية العساكر والقواد والدساكر يقيمون فى المدينة. وكان قد هاج أكثر العلماء والأعيان وقالوا: لا بد نقتل بالسيف جميع النصارى قبل أن نخرج لحرب الكفار. وقال الوزير وشيخ البلد إبراهيم بيك: غير ممكن أن نسلم إلى هذا الغرم والرأى لأن هؤلاء رعية مولانا السلطان صاحب النصر والشان. وأما النصارى فوقع عليهم وهم عظيم وخوف جسيم، وبدوا الإسلام يتهددوهم بالقتل والسلب، ويقولوا لهم: اليوم يومكم قد حل قتلكم ونهبكم وسلبكم، وكانت مدة مهولة مرعبة ونار ثايرة ملهبة، ولكن بالمراحم المولى عز شانه، إذ إنه قد عطف وحنَّن عليهم قلب الوزير وشيخ البلد، وكانوا فى كل يوم يرسلوا إليهم سليم أغا أغة الإنكشارية حالا يطمنوهم على أرواحهم وأموالهم، ويطلق المناداة فى كل البلد على حفظ الرعايا وعدم المعارضة لهم".
بل إن المجرم المسمى بـ"المعلم يعقوب"، ذلك الخائن الذى انحاز إلى جيش الاحتلال وأعانه بإنشاء فيلق قبطى يحارب معه المسلمين وينكل بهم ويقتلهم، وأمد الفرنسيين بالمال الذى يحتاجونه فى إخضاع البلاد لهم وسحق الأحرار الذين يرفضون احتلالهم لبلادهم الكريمة، هذا المجرم كان يعيش عيشة مرفهة مترفة لا يحلم بفمتو واحد منها معظم المصريين، وكانت له فى البلاد شنة ورنة قبل الحملة، وكان مقربا من المسؤولين الكبار، وكان يكسب الأموال الطائلة الهائلة ولايتعرض له أحد، بيد أنه لم يحفظ فى قلبه شيئا من هذا بل رد الجميل خيانة وغدرا وإجراما وانحيازا سافرا وقحا إلى الفرنسيين ضد المسلمين. وهناك جرجس الجوهرى، وكان يعيش عيشة الملوك هو أيضا. وهناك برطلمان، الذى كانت تسميه العامة: "فرط الرمان"، وكان عريقا فى القسوة والإجرام حتى لقد كان يتسلى بقتل البدو والعامة الذين يقابلونه فى الطريق لا لشىء إلا لإذهاب الملل عن نفسه وإشباع ميوله السادية المريضة. وكانت هناك ذات مرة وليمة طعام مدعوٌّ إليها الفرنسيون، فقَدِم فرط الرمان هذا المجرم النجس من جولته ومعه جوال يحتوى على رؤوس قتلاه فى ذلك اليوم من مساكين المسلمين مما أثار تقزز أولئك المدعوين وتفززهم رغم إجرامهم وقسوتهم مما يدل على أنه قد تجاوز فى إجرامه وساديته الحدود جميعا. والعجيب أن بعض الكذابين الهجاصين يزعمون أن المجرم يعقوب فى هذا كله كان يعمل على استقلال مصر وأن هذا هو السبب فى أنه لم يبق فى البلاد بعد هزيمة الحملة الفرنسية بل خرج مع الفرنسيين لكى يكمل مساعيه فى فرنسا فى الحصول على الاستقلال المدَّعى الكذوب. وما أكثر الخراصين!
ومما يتصل بما نحن فيه حديث فضل الله زوج محبوبة عن الضرائب التى كان النصارى آنذاك يدفعونها للدولة بوصفهم أهل ذمة (ص119). وهذا الكلام بهذا الشكل يوحى بأن تلك الضرائب عبء بالغ وظلم مبين وأنها قائمة على التمييز بين المسلمين وغير المسلمين بمعنى أن المسلمين لا يدفعون للدولة شيئا بالمقابل. لكن لا بد أن نعرف أن تلك الضريبة، والمقصود بها الجزية، التى ألغيت فيما بعد، كانت تعادل شيئين يتحملهما المسلم ولا يتحمل النصرانى منهما شيئا: الأول الزكاة، وهى تزيد على الجزية كثيرا، تلك الجزية التى يُعْفَى منها النساء والأطفال والشيوخ والرهبان والزَّمْنَى ومن إليهم ممن لا يستطيعون الحرب. وفضلا عن ذلك كانت الجزية مبلغا صغيرا لا يجشِّم دافعه عناء على الإطلاق. والثانى الانخراط فى الجندية، إذ كان المسلمون يعفون غير المسلمين من ذلك احتراما لعقيدتهم ومراعاة لمشاعر ضمائرهم حتى لا يشتركوا فى مواجهة عسكرية ضد أهل دينهم. وفى العصر الحديث زال هذا الوضع، وصار النصارى يخدمون فى الجيش ويشتركون فى الحروب كالمسلمين سواء بسواء بعدما تغيرت أوضاع الحرب ولم تعد هناك فتوح. ثم تطورت الأمور حتى صار النصارى يملكون من الاقتصاد المصرى نسبة أكبر كثيرا جدا جدا من نسبتهم فى المجتمع المصرى، فضلا عن أن أوقافهم مستقرة فى أيديهم بخلاف أوقاف المسلمين، التى تضع الدولة يدها عليها. كما ينبغى التنبه إلى أن النصارى قبيل مجىء الحملة الفرنسية وأثناءها وبعدها كانوا يسيطرون على بعض الوظائف التى تتصل بالمال وتضمن لكثير منهم عيشة جد راقية وغنى شديدا يثير الحسد. وفى هذا السياق تبرز أسماء تتردد بكثرة فى كتب تلك الفترة. ثم إنهم الآن يمارسون عبادتهم وشعائرهم بحرية تامة، وكنائسهم تظل طول النهار وطول الليل مفتوحة لا تغلق بينما تغلق المساجد أبوابها عقب كل صلاة، ولا يمكن أن تفتح أبدا بعد صلاة العشاء إلى أن يحين الفجر. فتَرْكُ كل هذا والتباكى على وضعهم قبيل الحملة الفرنسية، إن كان وضعهم فعلا آنذاك كما تصوره الرواية، هو عمل فى غير محله.


وهناك أشياء فى الرواية كانت تحتاج إلى تسوية وتوفيق حتى لا تكون هناك تناقضات فى الحوادث أو الأشخاص أو التواريخ أو الأوضاع: فعلى سبيل المثال نقرأ فى الرواية أن المدعوّ: برطلمان، وهو من كانت العامة تسميه: فرط الرمان، وكان مجرما جبارا متوحشا متعطشا إلى القتل بدون سبب، هذا البرطلمان نقرأ فى موضع من الرواية أنه شامى (ص55) بينما فى موضع آخر نجد أنه رومى، أى يونانى (245). والثانية هى الصحيحة حسبما نقرأ فى الجبرتى.
وفى الرواية أيضا أن طفلة فرنسية اختطفها البربر من سفنية أبيها التاجر، فى البحر المتوسط طبعا، وبيعت فى صقلية ليشتريها تاجر عربى لحساب الأتراك العثمانيين (ص77). ترى كيف يخطفها القراصنة الجزائريون كما وضحت الرواية فى موضع آخر (ص121) ثم تباع فى صقلية، التى لم تكن لا تابعة للجزائر ولا تابعة للعثمانيين؟ ثم ألم يكن الأتراك يستطيعون شراء الجوارى والعبيد مباشرة دون وساطة تاجر عربى؟ كذلك فصقلية بلد أوربى، فكيف قبلت بيع بنت أوربية بيضاء ولم تفكها من عقالها؟ وتباع لمن؟ لتاجر عربى؟ ولحساب من؟ لحساب العثمانيين. ثم لا تنسى الرواية البهارات المطلوبة لتشويه العرب والمسلمين، فتصف بالتفصيل كيف كان الشارى النخاس يضع أصابعه (التى تستأهل الحرق طبعا) فى كل مكان حساس من جسد البنت كى يطمئن إلى أنها صاغ سليم، مضافا إلى ذلك وصف ملابسه الحريرية الفاقعة الألوان وعمامته وما إلى هذا كى يتم التنفير من العرب والمسلمين على أصوله. أما النخاسون الأوربيون ونخاسو الجنسيات الأخرى فلا موضع لهم فى الرواية.
ليس ذلك فحسب، إذ إن جين فيراى (الفرنسية)، وهى تلك الجارية التى شاهدناها والنخاس العربى يجس كل موضع من جسدها، بعدما كبرت ومضى عليها أكثر من عشرين عاما وهى جارية، وخرجت من مصر ولم تعد جارية كما كانت فى بيت إبراهيم الألفى بك، الذى هربت منه والتحقت ببقايا الحملة الفرنسية العائدة إلى أرض الوطن، ومرت وهى فى السفينة الفرنسية قريبا من صقلية، تذكرت فجأة تلك الذكرى، فأصابها ما يشبه الهستريا جراء ما لاقت فى سوق النخاسة فى طفولتها من هوان... والسؤال الذى يفرض نفسه: أتراها من الممكن أن تعيش كل تلك الأعوام فى مصر معززة مكرمة فى بيت سيدها حتى إنها حين عادت إلى فرنسا وعملت غسالة فى مغسلة عامة كانت تريد العودة إلى بيت إبراهيم الألفى حيث كانت تشتغل جارية (ص135- 136)، ثم فجأة تصيبها الهستريا لتلك الذكرى البعيدة التى من الواضح أنها لم يكن لها أى تأثير عليها طوال تلك الأعوام، وبخاصة أن رغبتها فى العودة إلى قصر سيدها رغم تحريرها معناها أن حياتها كانت هناك سمنا على عسل، أو على الأقل: لم تكن بالسوء الذى صارت عليه بعد نيلها حريتها ورجوعها إلى وطنها؟
كذلك هل يعقل أن يكون أبوها تاجرا ثريا صاحب سفينة تجوب البحر المتوسط ثم يكون بيته على هذا النحو المدقع من الفقر، إذ كان مبنيا من أنصاف سيقان الشجر والطوب النيئ وقطع الحجارة العشوائية، وتنام بنتاه على مسطبة مفروشة بالقش فى وسط الدار (ص 77، 101، 121)؟ وهل يمكن أن يصمد بيت كهذا لأكثر من عشرين عاما فى وجه الأمطار الغزيرة التى تعرفها فرنسا حتى لتجده جين فيراى بعد عودتها إليه كما تركته طيلة تلك الأعوام الطوال؟ الحق أن لو كان هذا البيت فى مصر المشمسة ذاتها التى قلما تهطل فيها الأمطار لما استطاع الصمود طوال تلك المدة الطويلة، فما بالنا وهو موجود فى فرنسا، وجو فرنسا على ما نعرف من غزارة الأمطار ونزول الثلوج، علاوة على أن البيت لم يرمَّم ولا مرة على مدار ذلك الزمن الطويل؟
وبالمثل كيف يقال فى مكان من الرواية (ص120) إن جين وفضل الله وأختها الكونتيسة فرانسواز كانوا يتحدثون فيما بينهم بالفرنسية معظم الوقت لدى اجتماعهم معا دون أن تكون هناك أية مشكلة بالنسبة لجين فى استعمال لغتها الأصلية بعد عودتها من مصر حيث كانت تتكلم التركية والعربية بطبيعة الحال، ثم نجدها بعد ذلك بعشر صفحات فقط (ص130- 131) تذكر أن فرنسيتها طوال العشرين سنة وأكثر التى قضتها جارية بعيدا عن وطنها قد تهافتت بحيث لم تعد تتذكر منها سوى كلمات محدودة ولم يكن فى مقدورها أن تكوِّن جملة صحيحة إلا باللَّتَيَّا والَّتِى.
وعلى نفس الشاكلة من التناقض فإن الكونتيسة فرانسواز أخت جين فيراى، حين أتت لمقابلة فضل الله، كانت تركب عربة يجرها جواد إنجليزى، ويسوسها حوذى متأنق فى سترة لها أزرار ذهبية تبرق، وترتدى ملابس غاية فى الأناقة تشبه ملابس النبلاء فى القصور، وفوق ذلك كانت آية فى الجمال (ص99)، وفى المقابلة الثانية كانت ترتدى ملابس الأميرات، وفى عنقها قلادة من اللؤلؤ (ص118)، وتسكن بيتا فى منطقة كلها قصور (ص120)، وفى المقابلة الثالثة، وقد تمت فى بيتها، قامت على إعداد العشاء وتقديمه خادمة، وفى غرفة خاصة بالطعام، ووصفها فضل الله بالرقة والجمال والثراء (ص122- 123)، مما يظهر معه حتى للأعمى الذى لا يرى أنها على قدر من الثراء كبير رغم أنها فقدت جزءا كبيرا من ثروتها التى ورثتها عن زوجها، ثم تقول الرواية بعد ذلك بقليل إن طعامها كان فقيرا، وفى أحيان كثيرة لا يُشْبِع، ولم يكن يزيد فى معظم الأحيان عن خبز وحساءٍ شَظِف، إذ لم يكن بمستطاعها شراء اللحم، كما كانت تعيش فى شقة صغيرة تفتقر إلى التدفئة طوال فصل الشتاء بسبب ضيق ذات اليد (ص131). فهذا تناقض آخر، وفى عدد محدود من الصفحات، ويحتاج بكل تأكيد إلى تسوية وسَحْج وتنعيم.

على أنه من الصعب أن يتنزه الروائى تماما عن الوقوع فى مثل تلك التناقضات، إذ الرواية واسعة، وتفاصيلها جد كثيرة، ولم تتم كتابتها بين عشية وضحاها بل أخذت وقتا طويلا بحيث إنه من السهل جدا أن تنسى الكاتبة ما كتبته مبكرا وتكتب شيئا مختلفا بعد مرور ذلك الوقت. وقد ألفيت بعضا من مثل هذه التناقضات فى رواية "رحلة ابن فطومة" لسيد الرواية العربية الأستاذ نجيب محفوط، الذى كان مشهورا بأنه يضع لرواياته قبل أن يخط حرفا فيها خريطة بشخصياته وأسمائهم وأوصافهم وعلاقاتهم وأعمالهم وما يتصل بذلك كله حتى لا يسهو أو ينسى أو يضطرب قلمه فيقول عن شخص من أشخاصه شيئا ثم يقول فى مكان آخر من الرواية شيئا مختلفا أو متناقضا: فمن ذلك قول قنديل بطل رواية محفوظ قبيل مغادرته أرض الوطن فى رحلته الطويلة حول العالم إنه أدى آخر صلاة جامعة له، رغم أنه صلى بعد ذلك أثناء الرحلة المذكورة جماعة عدة مرات. ومن ذلك أن قنديل قد سأل شيخه ذات يوم سؤالا عن الإسلام ثم عقب بقوله إنه لا يذكر فى أى فترة من العمر تم ذلك السؤال، ليعود فيقول بعد عدة صفحات قلائل إن ذلك كان فى أوائل الشباب، ثم يؤكد هذا بعد عدة صفحات أخرى. وهو ما يجده القارئ، إن أراد الاطلاع عليه، فى آخر فصل من كتابى: "فصول من النقد القصصى". على أننى لا أقصد أن يرضى القارئ بهذا العيب بل أحاول أن أفسر السبب فى وقوعه ليس غير.
وإلى جانب التناقضات التى أشرنا إلى بعضها فيما مر هناك أيضا الأفكار وطريقة التعبير التى لا يمكن أن تدور بأذهان من تنسب إليهم. لنأخذ على سبيل المثال ما جاء فى الصفحة الثانية والخمسين والثالثة والخمسين من حديث عن محبوبة وفضل الله عشية سفره مع بقايا الحملة الفرنسية، وفى نيته أن يَؤُزّ هو وأمثالُه الفرنسيين على تكوين جيش قوى والعودة مرة أخرى لغزو مصر حتى يخلصوه هو وبنى طائفته من مناداة العامة له: "اشمل يا نصرانى"، "انزل من على البغلة يا نصرانى"، وكأن الأوطان ينبغى أن تفقد استقلالها وتُسْحَق وتُمْحَق من أجل كلام بعض العامة الجهلاء إن كان الأمر كذلك بالضبط من الإهانة والتحقير.
ولو افترضنا أن الأمر على هذا النحو من العنت والإذلال لقد كان الفرنسيون لا يشجعون النصارى على الخروج عن تلك الحدود. وقد ذكر شفيق غربال فى كتابه: "الجنرال يعقوب والفارس لاسكارس ومشروع استقلال مصر سنة 1801" أن بونابرت لم يكن يحب من الأقباط والروم والمسيحيين الغربيين هذا التحرر لأنه لا يريد استفزاز المسلمين بل كل ما يهمه هو استقرار الأمور له فى مصر، وليذهب النصارى وشكاواهم من تلك الناحية إلى الجحيم. بل لقد كان يريد منهم أن يكونوا أكثر خضوعا وأكثر احتراما لكل ما يتعلق بالإسلام والمسلمين مما كانوا فى الماضى. ثم يمضى غربال فيستشهد بالجبرتى مصداقا لما قال نابليون، إذ كتب مؤرخنا الكبير فى حوادث رمضان سنة 1213هـ عن "رجوع نصارى الشوام إلى لبس العمائم السود والزرق وإلى ترك لبس العمائم البيض والشيلان الكشميرى الملونة والمشجرات، وذلك بمنع الفرنسيس لهم من ذلك. ونبهوا (أى الفرنسيون) أيضا بالمناداة فى أول رمضان بأن نصارى البلد يمشون على عادتهم مع المسلمين أولا ولا يتجاهرون بالأكل والشرب فى الأسواق ولا يشربون الدخان".
وتقول روايتنا:"غيوم فرنسية" فى مفتتح القسم السابع من الفصل الأول عن محبوبة بعدما أنهى إليها زوجها أنه مسافر إلى فرنسا وأن هذا قرار لا رجعة فيه: "انتهى كل شىء. كيف سيهاجر فضل الله؟ ومن أجل ماذا سيترك أرضها الممهدة له؟ وأين سيحرث بعيدا عن جسدها الخصب المشبع بطمى النيل؟ أى أرض تلك التى سيهاجر إليها ويتركها بعد أن اكتشفت ما لم يجب عليها اكتشافه، وبعد أن فقدت فرصتها أن تكون طاهرة كالعذراء؟ إنه الجنون. بالأمس القريب، القريب جدا، كانت تبكى ليلة الفرح لأن رجلا سيلامسها، فلن تصبح البتول ولن تكون العذراء أيقونتها التى عاشت عمرها كله تتمنى أن تكون مثلها. لماذا قبلت من البداية أن تكتشف مواضع الأنوثة وتحرك تلك الرغبة والغريزة المرعبة، الوحش الذى حتما سيفتك بجسد امرأة شابة لم تتجاوز العشرين إذا ما تركها زوجها ورحل؟...
الليلة هى آخر لياليها مع فضل الله. سيرحل غدا مع يعقوب، سيركب البحر ويسافر إلى فرنسا، سيتركها ليبحث عن... عن ماذا؟... هناك محبوبة، التى فسرت معنى النشوة واستطعمت شغف الفراش. هناك جسد فضل، الذى أدمنتْه كوتد عتيد تدور حوله حياتها... عرض فضل الله عليها السفر معه، ولكنها رفضت، رفضت بعناد عجيب. شىء ما يربطها بتلك الأرض لا تعرفه. وتد آخر أقوى من وتد فضل الله".
إن هذه الأفكار والخواطر والصور البيانية عن طمى النيل والجسد الخصب وحرث فضل بعيدا عن هذا الجسد لهى أكبر من محبوبة ولا يمكن أن تدور فى عقلها. ثم هناك الوتد، وما أدراك ما الوتد؟ بل هناك وتدان، لكن الذى يهمنا منهما هو وتد فضل الله. هذه صورة لا يمكن أن تدور فى عقل محبوبة، وبخاصة أنها بنت القاهرة حيث لا تعرف الوتد ولا تستخدمه أصلا، فما بالنا بأن تنسبه لزوجها؟ وإذا عرفنا أن محبوبة قبل الزواج كانت تطمح أن تترهب وتدخل الدير وتظل عذراء كمريم عليها السلام كان خطور الوتد والجسد المشبع بطمى النيل على عقلها أمرا مستبعدا تماما أو إذا خطر ببالها طردته فى الحال أو دار بينها وبينه صراع ولم يطف على لسانها بهذه البساطة وذلك الترحيب والانتشاء.
ثم هناك أيضا الكلام عن الطهارة فى مقابل الزواج والجنس، بما يفيد أن الزواج شىء نجس دنس. وهذا خطأ فادح، فليست العزوبة طهارة، وليس الزواج نجاسة أبدا. إنه أمر من أمور الحياة، بل هو أهم أمور الحياة، إذ لا يمكن الحياة أن تستمر بدون ممارسته. والله خلقنا لكى نتزوج وننجب ونبتهج بالزواج والإنجاب، ولم يحدث قط أن قال سبحانه فى أى كتاب من كتبه إن الزواج شىء سيئ، فضلا عن أن يكون دنسا. الزواج هو أطهر ما يكون فى ميدان الجنس والحب. أما المعيب والمحرَّم والمجرَّم فهو الزنا ليس غير. والإنسان السوى الذى لا يتزوج يعانى معاناة فادحة لا أظنه يمكن أن يتحملها، فعواء الغريزة الجنسية فى جسده وروحه لا يمكن تجاهله ولا يمكن التعايش مع صياحه المزعج المقلق المؤلم لا فى الصحو ولا فى الرقاد. ترى هل يمكن أن يعيش الإنسان دون أن يأكل أو يشرب؟ فكذلك الزواج. إنه غريزة لا بد من إشباعها ولا يمكن أن يكون هناك حل غير ذلك بالنسبة للبشر الأسوياء، وإلا انحرف الشخص فَشَذَّ أو مارس الزنا فى الحرام، والحرام هو الدنس لا الجنس نفسه.
ولقد كانت مثل تلك الأفكار عن الجنس من أسباب انقلاب الثورة الفرنسية على الكنيسة ورجال الدين، فرأينا الاتجاه بعد الثورة نحو التركيز على الدنيا والأرض وإهمال الآخرة والسماء، وصار الغربيون بوجه عام يحصرون كل همهم فى إشباع غرائزهم وشهواتهم فى الدنيا لإيمانهم بأنهم ليس لهم إلا فرصة واحدة للعيش والمتعة إن ضاعت ضاع كل شىء عليهم. ومن هنا رأينا الكونتيسة فرانسواز تقول لفضل وقد دخلت عليه وتجردت تماما من ملابسها بغتة حين كان يزورها وينتظرها فى غرفة الضيوف، وتهيب به أن ينظر إليها ويملأ عينيه من جسدها وأن يجيل أصابعه على كل جزء فيه بحريةٍ واستمتاعٍ مِنْ شعرها حتى أصابع قدميها وغير شعرها وأصابع قدميها وأن يتذوق كنوزها براحته تماما وأن يكون فارسها فيركبها ويمسك بلجامها وينصهر فيها (ص140- 143). كل ذلك دون أن يكون هناك حب بينهما ولا مقدمات تقود إلى تلك النهاية. إنها الرغبة الشهوانية التى ترى هى وأمثالها أنه لا بد من إروائها وإطفائها هنا والآن، إذ لا قيامة ولا جنة بل دنيا، ودنيا فقط. بيد أن هذا لا يعنى أننا نقبل فنيا هذا التصرف من الكونتيسة، إذ من الصعب أن تقدم امرأة أرستقراطية مثلها على هذا التصرف مع شاب أجنبى من العامة وتهبه نفسها وتترامى عليه متخذه زمام المبادرة فى كل خطوة منذ خلعت ثيابها إلى أن ركبها ومزقها تمزيقا، وبخاصة أنه لا يشاركها موقفها من الثورة: فهى تكرهها، وهو يتعاون مع رجالها ويحارب فى صفوف جيشها. وفوق هذا فإننى، لكراهيتها للثورة جراء كونها أرستقراطية، أستغرب تأثرها بتلك الثورة فيما وصلت إليه من الإباحية الجنسية وتحولها فى فهم الدين من الشعور الحاد بالتأثم والخطيئة إلى الحرية فى الاستمتاع بممارسة اللذائذ دون أى تحرج، ومنها اللذة الجنسية خارج الزواج.
وقبل أن أنتقل إلى نقطة أخرى أحب أن أشير إلى أن زميلا لنا كان قد كتب بحثا منذ سنوات عن المرأة فى البلاغة العربية أُسْنِد إلى العبد لله أمر قراءته والحكم عليه وكتابة تقرير عنه. وقد اجتهد الزميل بكل عنفوانه فى الزراية على العرب والأدب العربى لأنه فى نظره يحتقر المرأة ويشبّهها ضمن ما يشبّهها به بالحيوان، ويجعل الرجل يركبها كما يركب الواحد منا دابته. وقد تذكرت بحثه الآن وأنا أقرأ قول الكونتيسة الفرنسية، فى عصر الثورة التى غيرت كثيرا من المفاهيم والأوضاع، لفضل الله إنه فارسها وكيف استجاب هو لهذا الكلام الكبير فتصرف على أنه فارس فعلا وأنها فرسه وأمسك بشعرها من الخلف جاعلا منه لجامه وكيف كانت هى سعيدة بتصرفه هذا كما لم تسعد من قبل. فقلت فى عقل بالى: تعال يا صديقى شُفْ بنفسك كيف تقول امرأتان مثقفتان هذا الكلام الذى تظن أنت أن البلاغة العربية تفضح به تخلفنا ورَأْينا المخزى فى المرأة، وهما الكونتيسة الفرنسية والكاتبة المصرية على اختلاف العصرين وتباين النزعتين وتغاير البلدين وتنوع اللغتين وتباعد الثقافتين.
وكنت قد علقت على كلام الزميل بردود متعددة ومفصلة، ومنها أنه إذا كان الزميل يستنكر كناية العرب عن معاشرة الرجل للمرأة بطريقة خاصة بقولهم: "رَكِبَها" فإنهم يقولون أيضا: ركب فلان فلانا بالسخرية أو بالإساءة، وركبه الهم، وركبه الدَّيْن، وركب فلانٌ ذَنْبا، وركب رأسه، أى سار معتسفًا أمره لا يطيع مرشدا. فكما ترى فالركوب واقع على الرجل والمرأة وغيرهما على السواء. كما أننا كثيرا ما نقول عمن تسيطر عليه امرأته إن امرأته تركبه، مع ملاحظة أنها هنا فى الزراية على الرجل، بخلافها فى الكناية عن المعاشرة الجنسية... ويستخدم المتحدثون بالإنجليزية أيضا كلمتى "to ride" و"to mount" (ومعناهما الأصلى: "يَرْكَب، يمتطى") للدلالة على إتيان الرجل للمرأة كما فى لغة الضاد بالضبط.
بقيت نقطة هى أن الخواطر والأفكار والعبارات والتصورات التى أسندتها الكاتبة لفضل الله وهو يعاشر الكونتيسة حين فاجأته بتعريها تماما فى الضوء أكبر كثيرا من مستواه الفكرى والنفسى، فقد كان مجرد نجار وجندى، وكان حديث عهد بفرنسا، فأنى له بالكلام التالى؟ "كيف لها أن تفهم أننا نطفئ الأنوار لنختبئ بشهواتنا فى الظلام وأننى أحتاج إلى شجاعة تفوق ألف مرةٍ شجاعةَ شمشون حتى أعتاد النظر إلى جسد امرأة؟". ومع ذلك فإنه عقيب هذا كان ينظر إلى كل جزء من جسدها، كل جزء فعلا وحرفيا ودون استثناء، وبمنتهى الشجاعة واليقظة العنيفة. ولنتابع: "كم هى مختلفة تلك المرأة التى قادتنى دون أن أدرى إلى كل هذا التيه فى جسد كأنه بركان لا يسمح لأحد أن يهرب من فوهته، الاختراق بكل ما فيه من ألم معجون بلذة، كيف لهذه الشقراء كل هذه السخونة؟ وكيف لى أن أطفئ بركانها المتقد تحت سرتها؟ استفزتنى وتجرأت عيناى شيئا فشيئا لأنظر إلى هذا الجسد العارى المنحوت بدقة، إلى تلك البشرة البيضاء المرمرية، وهذا الجلد الأملس، إلى ثدييها النافرين تتوسطهما قمتا جبل ورديتا اللون، هذا الخصر النحيل الذى يقودك كخارطة طريق إلى البراح تحت سرتها يشعل الرغبة التى تنال منى كوحش وقعت فى قبضته. لم تعطنى فرانسواز أى فرصة للارتباك. كانت تقودنى إلى كل شىء. أخذت يدى ووضعتها على جسدها المندَّى بقطرات الشهوة...".
الحق أن هذا لا يمكن أن يصدر من فم شخص مثله لأنه لا يمكن أن يخطر بباله ولا أن يمر بخياله. فهو، كما وضحت أكثر من مرة، مجرد نجار وجندى. ولنلاحظ أيضا أنه كان شابا صغيرا فى الحادية والعشرين من عمره (ص143). إن الشهوة عند أمثاله مجرد انفعال هائج لا ملامح له، انفعال غير محدد كالهيولى الأولى التى كان عليها العالم قبل تشكيله. مجرد سديم لا يميز فيه الإنسان شيئا من شىء. كتلة، والسلام. أما هذا الكلام فهو كلام مثقف من عصرنا هذا يعرف البركان وخارطة الطريق والتيه، ويميز إحساس اللذة الممزوجة بالألم، ويدرك مغزى الوحش الذى وقع فى قبضته، ويسمى عضو الكونتيسة بـ"جسدها المندَّى بالشهوة"... وهكذا. الحق أن فضل الله هنا لا يتكلم بما فى عقله وقلبه وضميره بل بما تضعه الكاتبة على لسانه وتأمره بترديده فلا يملك إلا الترديد. إن النص فى حد ذاته، وأنا لم أنسخه كله بل بعضه فقط، نص أدبى رائع بغض النظر عن محتواه وما فيه من عرى وجرأة شديدة، وإن خلا من الفجاجة والبذاءة والسوقية، لكنه لا يمكن أن يصدر عن نجار على قد حاله فى الثقافة وتجارب الحياة بل عن كاتبة تقدمية جريئة تعرف ماذا تقول وماذا تكتب وإلام تهدف. وشىء آخر هو أن الوصف هو وصف بعين رجل لا امرأة. لا أقصد أن الكاتبة هى التى كتبت هذا الوصف، بل أقصد أنه يعبر عن نظرة الرجل ومشاعره واشتهائه وغير صادر عن المرأة وما لديها من استعراض وتشهية. كذلك من الصعب علىَّ الاقتناع بأن كونتيسة فرنسية تعادى الثورة الفرنسية، أى لا تزال تتمسك بأرستقراطيتها تمام التمسك، تسلم نفسها بهذه السهولة والبساطة بل بهذا التهافت الرخيص على رجل أجنبى من أصول شعبية ومن بلد كان بلدها يحتله قبيل قليل ولم تره سوى مرة واحدة من قبل، أى لم تكن لها علاقة به تذكر، ثم لا تكتفى بكل ذلك بل تقول له إنه فارسها، وإنها فرسه يمتطيها ويصنع بها ما يشاء، ثم مرة أخرى لا تكتفى بذلك بل تقوم له بدور المرشد السياحى وتطلعه على خارطة الطريق وتأخذ بيده لتريه المرتفعات والمنخفضات والمنعرجات والحفر والكهوف وتشرح له كيف يتعامل مع كل شىء من ذلك. الواقع أن هذه لقمة لا يسهل ابتلاعها رغم ما لها من روائح تستحلب الريق استحلابا بل تجنن الشخص الذى وقعت فى يده.
والطريف فى الأمر أن هذا النص يخلو من الهنات الإعرابية والصرفية التى تكثر فى لغة الكاتبة حسبما سنوضح فى موضعه. فهو إذن نص مبارك لغويا بدءا من شَعْر الكونتيسة إلى ما لا أدرى ماذا. ولقد جرؤت الروائيات العربيات فى الآونة الأخيرة على كتابة مثل هذه النصوص فى رواياتهن مما لم يكن متخيلا من امرأة عندنا من قبل. وتحضرنى فى هذا السياق على الطائر أسماء سهير المصادفة فى "لهو الأبالسة"، وفضيلة فاروق فى "تاء الخجل"، وسلوى النعيمى فى "برهان العسل". وفى الأخيرة تفصيلة شديدة الحميمية تتشابه إلى حد بعيد جدا مع واحدة من تفصيلات هذا النص.
ومن طريف الأمر أن النظر إلى المرأة على أنها حصان أو فرس يركبه الرجل كان موجودا فى أدبنا من قديم، ولم تكن هذه النظرة تزعج المرأة، بل ردت ليلى الأخيلية على النابغة الجعدى حين صورها بتلك الصورة ظنا منه أنه يهينها، قائلة: وأى امرأة لم تُرْكَب ويقال لها كما يقال للحصان: هَلَا؟ ألم يُفْعَل بأمك هذا؟ فأفحمته. جاء فى "أغانى" الأصفهانى تحت عنوان "أخبار ليلى مع النابغة الجعدى": "هاجى النابغة الجعدى ليلى الأخيلية فقال لها:
ألا حَيِّيَا ليلى وقولا لها: هَلَا = فقدْ ركِبَتْ أَيْرًا أَغَرَّ محجَّلا
فقالت ترد عليه، وهما قصيدتان له ولها، فغلبته بقوله:
وعَيَّرْتَنى داءً بأُمِّك مِثْلُه = وأىّ جوادٍ لا يقال لها: هَلَا؟
وهَلَا: كلمة تقاس للفرس الأنثى إذا أنزى عليها الفحل لتسكن". وإذا كان الشىء بالشىء يذكر فإن نزهون الغرناطية، وهى من الشاعرات الأندلسيات الجريئات البذيئات الجميلات البرزات، دخلت فى أحد المجالس الأدبية المختلطة فى الأندلس فى ملاحاة مع شاعر أعمى وقح سليط اللسان تتحاشاه الناس، ولا يقلّ إن لم يزد عنها بذاءة، هو أبو بكر المخزومى، فشرع يرد على تحرشها به، وكانت مقتحمة غير هيابة ولا تبالى بما يقال لها ولا بما تقوله للآخرين مهما كان القول عاريا بذيئا ينهش الأعراض، فتدخَّل صاحب البيت منبها الشاعر الأعمى إلى أن من يحدثها هى نزهون الغرناطية، ظنا منه أن هذا سوف يكفكف من غَرْبه فى الكلام الجارح الذى يوجهه إليها... ولنترك الوزير الكاتب الشاعر لسان الدين بن الخطيب يحكى لنا القصة، والمتحدث هو الشاعر الأعمى، والتى ترد عليه هى نزهون: "فقال من هذه الفاعلة؟ فقالت: عجوزٌ مقام أمك. فقال: كذبتِ! ما هذا صوت عجوز. إنما هذه نغمة قحبة محترقة تُشَمّ روائح هَنِها على فرسخ. فقال له أبو بكر (بن سعيد الوزير، وهو صاحب المجلس): يا أستاذ، هذه نزهون بنت القلاعى الشاعرة الأديبة. فقال: سمعتُ بها، لا أسمعها الله خَيْرا، ولا أراها إلا أَيْرا. فقالت له: يا شيخَ سوءٍ، تناقضتَ! وأى خيرٍ أفضلُ للمرأة؟".
ومما لا يتمشى مع المنطق أيضا رد الفعل الذى شعر به فضل الله بعد تجربته العجيبة مع الكونتيسة. لقد انتابه تأثم عنيف حتى لقد ذهب إلى إحدى الكنائس ليعترف بما اقترفه أمام القسيس، لكن القسيس أفهمه أنه لا بد أن يتكثلك حتى يعتبر نصرانيا ومن ثم يمكنه أن يقبل منه الاعتراف، وهو ما رَجَّ نفسية فضل الله رَجًّا شديدا، وأربكه أيما إرباك. ولما انسد فى وجهه باب الاعتراف والغفران فكر فى أن يقطع عضوه بالمقص بعد أن حماه فوق النار، ولكنه خارت منه العزيمة ووقع منه المقص ولم ينفذ ما كان اعتزمه. لكن كيف لنا أن نصدق أن يكون رد فعل فضل الله بهذا الجموح وبتلك الرغبة المجنونة فى قطع ذكره؟ إنه لم يكن متدينا فى يوم من الأيام لا فى مصر ولا فى فرنسا، إذ لم يكن يحضر القداس فى مصر إلا على سبيل العادة، أما فى فرنسا فلم يذهب للصلاة قط. كما أن الرواية، منذ ترك مصر تقريبا، لم تذكر لنا أنه كان منشغلا بمحبوبة زوجته على الإطلاق. فلماذا ثار شعوره بالذنب تجاهها هكذا فجأة وبدون أى منطق؟ (ص143- 148، 157- 158).
كذلك لست أفهم أن يقول لنفسه إن "الزناة لا يرثون ملكوت السماوات" مع أن المسيح عليه الصلاة والسلام حين أتاه اليهود بامرأة زانية يريدونه أن يرجمها لم يستجب لهم بل قرَّعهم وأحرجهم أمام أنفسهم، وألجأهم إلى الإقرار ضمنيا بأنه ما من واحد منهم إلا وارتكب هذه الخطيئة، ثم أطلق سراحها وأعلن بكل قوة أنه لا يدينها. وكل ما طلبه منها ألا تعاود الزنا ثانية، ثم لا شىء آخر. فإذا كان المسيح ذاته، وهو الرب فى نظر فضل وأهل دينه، قد سامح الخاطئة وعفا عنها ولم يعاقبها بأية عقوبة مهما صغرت وضؤلت، فكيف يشعر فضل الله بكل هذا الرعب، وهو غير متدين أصلا، وكان يعيش فى فرنسا الثورة، التى أعطت الدين ظهرها وكفرت بالكنيسة والإنجيل وتهافتت على الدنيا والأرض والشهوات؟ وفوق ذلك فالنصرانية تقول إنها دشنت عهدا جديدا للبشرية يقوم على الرحمة والمغفرة لا على العقوبات الصارمة التى تعرفها اليهودية. وأخيرا أفلم يأت المسيح للموت على الصليب وفداء البشر جميعا من الخطيئة الأولى التى ارتكبها أبواهم فى بدء الخلق وورَّثاهم إياها حسبما يعتقد فضل وأهل عقيدته؟ فلم كل هذا الرعب عند فضل الله؟ ألا إنه لرعب غير مفهوم كما شرحنا ووضحنا.
والغريب بعد هذا كله أن فضل، بعد انقطاع صلته تماما بفرانسواز وعدم تفكيره فيها طيلة عشر سنوات عقب تلك الليلة العجيبة، يتذكرها ويحن إليها فجأة بعد كل تلك الأعوام الطوال ودون أية مقدمات، ويخطط للقائها ويركب عربته متجها إلى مدينتها، وإن كان هذا اللقاء لم يتم لأنه كما خطر له فجأة غير رأيه فى الطريق وتخلى عنه فجأة (ص255 وما بعدها). وواضح أن الغريزة الجنسية عند بطلنا غريزة عاقلة تحت السيطرة طول الوقت تقريبا، اللهم إلا تلك المرة اليتيمة التى وقع فيها فى غواية فرانسواز، وهو ما لا يعقل ولا يفهم، إذ إنها غريزة ناشطة طول الوقت عند كل الناس لا تهدأ ولا تنام وتكلف صاحبها جهدا عظيما لضبطها وصراعا دائما لا ينتهى، لأنها ليست زرا كهربيا نتحكم فيه بضغطة إلى هذه الناحية أو تلك. وحتى الزر الكهربى لا يمكن أن يتركه صاحبه بالسنين الطوال كما فى حالة فضل الله!
هذا، وما دامت الرواية تاريخية فالمنتظر أن تجتهد الكاتبة فى الإيحاء، عن طريق اللغة، بالعصر الذى وقعت فيه حوادثها. وقد استخدمت فعلا كلمات مثل "الصُّلْدَات"، أى الجنود، وهى كلمة فرنسية: "soldats"، واستعملها مثلا نقولا التركى فى كتابه: "ذكر تملك جمهور الفرنساوية الأقطار المصرية والبلاد الشامية"، وإن كنت آخذ على الكاتبة أنها لم تحاول أن تُفْهِم القارئ معناها بل استخدمتها وحسب، زيادة على أنها لم تضبطها حتى يقرأها القارئ صحيحة. وكان يمكن مثلا أن تضع فى مقدمة الرواية معجما بالكلمات التى سوف يقابلها القارئ فى الرواية مما لم يعد يستخدم الآن، وأمام كل كلمة معناها آنذاك، مع ضبطها. وفى معجم رينهارت دوزى "عَدَّ الصلدات" أى "نادى على الجنود". ومن تلك الكلمات الموحية بجو التاريخ الذى دارت فيه الرواية كلمات "العثمانلى" (العثمانيون) و"العكسة" (المحنة) و"الفرنساويون" (الفرنسيون. وربما كانت "الفرنساوية" أشيع فى كتابات الجبرتى مؤرخ العصر بامتياز، إذ قد استُخْدِمَت مئات المرات فى كتابه الذى أرخ فيه للحملة الفرنسية. وقد استعملتها الكاتبة أحيانا. وهناك "الفرنساوى" أيضا بهذا المعنى، لكنها محدودة جدا بالقياس إلى "الفرنساوية"). وعندنا كلمة "السبكتاكل" (ص68 )، أى العرض المسرحى. وهى من الكلمات التى استعملها رفاعة تعريبا للكلمة الفرنسية حين كان فى فرنسا وشاهد المسرح هناك، ولم يكن يعرف ماذا يمكن أن يسميه بالعربية لأنه كان شيئا جديدا عليه وعلى العرب فى ذلك الحين. قال رحمه الله فى "تخليص الإبريز": "ولا أعرف اسما عربيا بمعنى "السبكتاكل" أو "التياتر". غير أن لفظ "سبكتاكل" معناه: منظر أو متنزه أو نحو ذلك". إلا أن الكاتبة قد استخدمت أيضا فى نفس الجملة كلمتى "مسرح" و"مسرحية"، فاهتزت الصورة بعض الاهتزاز. ثم إن المتكلم مستعمل هذه الكلمة هو فابيان الضابط الفرنسى فى جيش نابليون لا أحد المصريين الذين خرجوا فى ركاب الفرنسيين المنهزمين بعد فشل حملتهم على مصر. قال: "نعيش حياتنا وكأننا متفرجين فى مسرح نشاهد سبكتاكل، وبعد قليل ستنتهى المسرحية وسنعود إلى أهلنا". ومن هذا القبيل أيضا كلمة "الطبلية"، التى يطلقها فضل الله فى فرنسا على المائدة واصفا إياها بـ"العالية": "الطبلية العالية" (ص122). وكان رفاعة يستعمل كلمة "الطبلية" للمائدة أيضا كما فى النص التالى الذى يتحدث فيه عن تناوله هو ورفاقه الطعام فى فرنسا لأول مرة عليها: "أحضروا لنا عدة خدم فرنساوية لا نعرف لغاتهم، ونحو مائة كرسى للجلوس عليها لأن هذه البلاد يستغربون جلوس الإنسان على نحو سجادة مفروشة على الأرض فضلًا عن الجلوس بالأرض، ثم مدّوا السفرة للفطور ثم جاءوا بطبليات عالية ثم رصوها من الصحون البيضاء الشبيهة بالعجمية وجعلوا قدّام كل صحن قدحًا من القزاز وسكينًا وشوكة وملعقة، وفى كل طبلية نحو قزازتين من الماء وإناء فيه ملح وآخر فيه فلفل، ثم رَصُّوا حوالى الطبلية كراسىَّ لكل واحد كرسى، ثم جاءوا بالطبيخ فوضعوا فى كل طبلية صحنًا كبيرًا أو صحنين ليغرف أحد أهل الطبلية ويقسم على الجميع فيعطى لكلّ إنسان فى صحنه شيئًا يقطعه بالسكين التى قدّامه ثم يوصله إلى فمه بالشوكة لا بيده، فلا يأكل الإنسان بيده أصلًا ولا بشوكة غيره أو سكينه أو يشرب من قدحه أبدا". كذلك نراها تستخدم أسماء الشهور الجديدة التى أتت بها الثورة الفرنسية كشهر فلوريال وشهر فركتيدور. وهذا بلا شك أمر جيد.
لكنها للأسف لم تمض على هذا المنوال بل استخدمت كلمات لم تكن قد عرفت بعد آنذاك ككلمة "المسيحيون"، إذ كانت الكلمة المستعملة حينئذ هى "النصارى" كما فى الجبرتى. وبالمثل لم تكن كلمة "اتفاقية" بمعنى "معاهدة" قد عرفت بعد بهذا الاصطلاح بل كانت تستعمل صفة بمعنى أن الأمر حدث على سبيل المصادفة لا التخطيط المسبق كقولنا مثلا: "حادثةٌ اتفاقيةٌ". ومما يؤخذ على الرواية فى هذا المجال استعمالها كلمة "الجمهورية" ترجمة لكلمة "la république" رغم أن تلك الكلمة لم تكن قد دخلت العربية بعد بل كانت تستعمل فى ترجمتها كلمة "المشيخة" أو "الجمهور" حسبما يقول معجم رُوفِى (Ruphy) الصادر فى فرنسا عام 1802م ومعجم إلياس بقطر (Elious Bokhtor) الصادر فى فرنسا أيضا عام 1828م، والمعجم الصادر عن المطبعة الكاثوليكية ببيروت عام 1837م بعنوان "قاموص فرنساوى عربى"، وكذلك حسبما نقرأ فى عنوان كتاب نيقولا ترك: "أخبار المشيخة الفرنساوية فى الديار المصرية"، وهو مرجع من المرجع التى اعتمدت عليها الكاتبة فى تأليف روايتها، فكان ينبغى أن تتنبه إلى ذلك بسهولة. وله "ذكر تملك جمهور الفرنساوية الأقطار المصرية والبلاد الشامية"، وفيها نقرأ من افتتاحية أول منشور يصدره بونابرت حين دخوله مصر ما نصه: "من طرف الجمهور الفرنساوى المبنى على أساس الحرية، والسر عسكر الكبير بونابارته أمير الجيوش الفرنساوية"، وتجرى خاتمتها على النحو التالى: "فى ثلاثة عشر من شهر مسيدور سنة ست من إقامة الجمهور الفرنساوى. أعنى أواخر شهر محرم سنة ١٢١٣هجرية". ومن هذا الوادى كلمة "التقنيات" (ص77)، التى لم تعرفها العربية إلا بعد منتصف القرن العشرين فيما أذكر، أى بعد قرن ونصف على الأقل. وهى تعريب لكلمة "technique". وهناك "تكتيكات" (ص31)، ولم تكن معروفة أوانئذ. ومثلها عبارة "جداول زمنية" (ص32)، التى لم يعرفها العرب ولا المصريون إلا بعد ذلك بوقت طويل. كذلك ورد فى الرواية على لسان القسيس عبد الملك كلمة "الإمبراطوريات" (ص65)، وهى من الكلمات الجديدة التى لم يكن للعرب بها عهد من قبل، ولم تقابلنى لدى الجبرتى ولا غيره من الكتب التى تتصل بتلك الحقبة مما وقع فى يدى. وقد ترجمها روفى فى معجمه بـ"دولة"، بينما ترجم الإمبراطور بـ"سلطان"، أما إلياس بقطر فقد ترجمها فى معجمه بـ"سلطنة"، وترجم "الإمبراطور" بـ"سلطان" و"قيصر" جميعا. وبقطر هذا هو أحد الذين خرجوا من مصر مع جيش الاحتلال الفرنسى واستقر فى فرنسا، وكان فى مصر يتعاون مع الغزاة مترجما لهم، ففر من مصر معهم كما أشرنا من قبل. ولكن لدن مطالعتى كتاب نقولا التركى: "ذكر تملك جمهور الفرنساوية الأقطار المصرية والبلاد الشامية"، وهو نفسه "أخبار المشيخة الفرنساوية فى الديار المصرية"، وجدته يقول: "الإنبراطور ملك النمسا" أو "ملك النمسا الإنبراطور" أو "الملك الإنبراطور" مستخدما بدل الميم نونا كلما أتى ذكره.
كذلك هناك تركيبان لمَّا يكونا قد عُرِفا أوانئذ، وأولهما تتالى عدة جمل دون حرف عطف بخلاف الأمر فى اللغة العربية، التى كثيرا ما تستعمل الواو فى هذا السياق عطفا أو استئنافا، وثانيهما هو قولنا مثلا متأثرين بالأسلوب الإنجليزى والفرنسى: "لا أعرف ما إذا كان سعيد قد نجح أم لا" بدلا من قولنا: لا أعرف أنجح سعيد أم لا". وأذكر أن حوارا دار بين العقاد وبين د. أحمد فؤاد الأهوانى حول هذا التركيب الذى استعمله الأهوانى فى ترجمة أحد الكتب، فأنكر العقاد عليه ذلك، وإن كنت أرى أن له مساغا على نحو أو على آخر. لكن الذى يهمنا هنا هو أن ذلك التركيب لم يكن من لغة ذلك العصر.
وفى الرواية أغلاط لغوية كثيرة جدا رغم أن فى أسلوبها انسيابية وتدفقا، وأحيانا يحلق أسلوبها تحليقا، لكن الأغلاط تأتى فتفسد شيئا كثيرا فى هذا التحليق. وهذه الأغلاط متنوعة: فمنها الإعرابى، ومنها التركيبى، ومنها الصرفى، ومنها المعجمى، ومنها الإملائى. فمن أخطاء التركيب قولها: "تحدث أبونا عبد الملك والذى كان على غير جرجس (أى على عكس جرجس. وهو استعمال غريب جدا) أقل هلعا وأكثر هدوءا" (ص19)، و"أحمل الأسلحة والتى عرفتُ فيما بعد أنها وارد لندن" (ص28) ومنها "المجلس اليومى والذى..."، "ومنها تجارتنا والتى..."، "رأس لورد دى بركو والتى..." (76، 77) بوضع واو بين الموصوف والصفة، وهو ما لا يجوز أبدا ولا فى الأحلام لأننا لسنا هنا أمام حالةعطف بل نعت. وهذا كثير عند الكاتبة وعند كتاب كثيرين هذه الأيام بما فى ذلك الباحثون فى مرحلة الدكتورية بأقسام اللغة العربية وآدابها. وأنا أسميها: "الواو اللعينة" قياسا على "الواو الاستئنافية والواو الحالية والواو العاطفة وواو المعية وواو القسم". فأنا أيضا من نفسى أضفت هذا المصطلح. أما قولها: "لاحظ كريستيان انشغالى بالبحث عن القبط والذى كان يحلو له تسميتهم: إيجبسيان" (ص134) فالمشكلة فيه أكبر إذ المفروض أن تكتب "الذين" بدلا من "الذى" لأنها نعت لـ"القبط"، و"القبط" جمع لا مفرد، فضلا عن وجوب حذف الواو التى قبلها. ومنها " عيناه كانتا داكنتين قليلا عن اللون المعتاد للفرنساوية" (ص134)، وهو تركيب عامى صوابه "كانتا أدكن (أو أكثر دُكْنَةً) من اللون المعتاد للفرنساوية". عندنا كذلك "سِبْحَة" (ص17) بكسر السين، وصحتها "سُبْحَة" بضمها، وهى صيغة سماعية من صيغ اسم الآلة، أو "مِسْبَحة" إذا أرادت أن تستعمل صيغة قياسية من صيغ اسم الآلة.
وكثيرا ما تثبت الكاتبة همزة الوصل جاعلة إياها همزة قطع. وهى كثرة تخزق العين. بل إن الهمزة قد تكتب على عكس ما ينبغى أن توضع لو افترضنا جواز كتابتها أصلا، فتوضع فوق الألف فى حالة كسرها مثلا كما هو الحال فى "أسم" بدلا من "اسم"، وفى "أحتدَّ صوته" عوضا عن "احتدّ"، وفى "لأنضمامى إلى الجيش"، وفى "يا رب، إرحم"، وفى "بإحتقار"، وفى "بإثنين". وهذا كثير جدا جدا جدا عندها. وبالمناسبة يكثر عندها استعمال "أنّ" بفتح الهمزة بعد القول. وفى قولها: "أما هو هدأت نبرته قليلا" (ص26) نراها قد حذفت الفاء من جواب "أمّا"، وهو ما لا أذكر أنى وجدته، عند الكتاب والشعراء القدماء ونظرائهم من المحدثين والمعاصرين الذين يُحْتَذَوْن، طَوَال عشرات السنين التى مارستُ القراءة فيها عن وعى بالصواب والخطإ، لا فى القديم ولا فى الحديث، اللهم إلا مرة فى مسرحية "عنترة" لأحمد شوقى، ومعروف أن الشعر يتسع للضرورات الشعرية، علاوة على أن شوقى ليس مثالا فى اللغة يحتذَى رغم أنه شاعر كبير، وإلا مرة يتيمة أخرى، وفى بيت شعرى أيضا، ولكنى لا أذكر الآن لمن كان ذلك الشعر. وهذا الكلام لا ينطبق بطبيعة الحال على كثير من الكتابات المعاصرة الصحفية وأشباهها ومن كتاب الدرجة الثانية والثالثة وما دونهما. إنما الكلام عمن يُحْتَذَى بلغتهم وأساليبهم كما قلت. وهناك التركيب التالى: "وعلى الرغم من محاولتى الدائمة لكنْ كان هناك شىء جديد" (ص36)، وهذا التركيب منتشر على طول الرواية، فهو سمة واضحة فى أسلوبها. والصواب "وعلى رغم محاولتى الدائمة كان هناك شىء جديد"، إذ لا موضع هنا للاستدراك ما دامت الجملة لم تتم. ومن أخطاء الرواية أيضا "الأشبه إلى كذا" (ص118)، والصواب "الأشبه بكذا". ومن هذا اللون من الأخطاء قول كاتبتنا: "سِوَى بالخيانة"، والصواب "إلا بالخيانة" لأن "سوى" اسم مضاف، والمضاف لا يضاف للجار والمجرور بل إلى اسم مثله. وهذا منتشر فى كتابات هذه الأيام. بل لقد وجدت ناقدا يشار إليه بالبنان وبغير البنان يستخدم هذا التركيب الخاطئ فى مقال له عن ضحى عاصى نفسها. ومن تلك الأخطاء أيضا "ما إن دخلنا شارع كذا طلب منى الحوذى..." (ص177) بدلا من "حتى طلبَ منى الحوذى"، وقد تكرر هذا التركيب مرة أخرى على الأقل (ص188). ومنها "ولمَّا ينفد النفط أفعل كذا" (ص192) باستعمال "لما" بمعنى "وعندما". ومنها "الغير متوقعة" (ص255)، والصواب "غير المتوقعة". ومما تكرر خطؤها فى استعماله الأعداد كما فى الأمثلة التالية: "كانت فى الرابعة عشر" (ص51)، والصواب "الرابعة عشرة"، و"بخمس وثلاثين عاما" (ص85)، والصواب "بخمسة وثلاثين عاما"، و"أيامَنا المائتين وستة وخمسين" (ص163)، والصواب "أيامنا المائتين والستة والخمسين"، و"مائتين ألف" (ص267)، والصواب "مائتَىْ ألف" بحذف النون بسبب الإضافة.
وهناك الأخطاء الإعرابية والصرفية بالكوم. والكاتبة تستطيع بسهولة، لو صح منها العزم، أن تستكمل هذا النقص بشىء قليل من الاهتمام بمراجعة النحو والصرف. لقد شاع بين معظم الطلاب والخريجين والكتاب المتأخرين أن القواعد العربية صعبة. وهو كلام لا يصح أن يقوله كاتب حقيقى، وإلا فهل يعقل أن يشكو نجار مثلا من أن دق المسامير أو تغرية قطع الخشب أو استعمال المسحجة (الفارة) أمر صعب؟ إذن فكيف يكون نجارا؟ كذلك هل يصح أن تخرج سيدة إلى الشارع فى ملابس زرية أو مبقَّعة أو ممزقة مثلا؟ فهذا مثل هذا. ولقد كان كتابنا الكبار لا يخطئون فى اللغة رغم أن معظمهم ليس خريج أقسام اللغة العربية، بل رغم أن بعضهم لم يحصل على شهادة عالية بل حتى ولا ثانوية. هل كان المازنى مثلا يخطئ؟ كلا وحاشا. هل كان توفيق الحكيم يخطئ؟ أبدا. هل كان محمد عبد الله عنان يخطئ؟ بعد الشر! هل كان باكثير يخطئ؟ قطع لسان من يقول هذا. هل كان العقاد يخطئ؟ الله أكبر. من يجرؤ أن يقول هذا؟ ترى من يجرؤ أن يشكك فى سطوع الشمس فى عز الظهيرة فى الصيف بمصر؟ هل كان الرافعى يخطئ؟ لم يبق إلا هذا؟ هل كانت مى زيادة تخطئ؟ لم يحدث. هل كانت عائشة التيمورية تخطئ؟ كله إلا ذاك. هل كانت باحثة البادية تخطئ؟ هل أنت جاد فيما تقول؟ وهكذا وهكذا وهكذا. فلماذا يخطئ كثير من كتاب العرب وكاتباتهم الآن وبكل هذه الأريحية، وبخاصة إذا كانوا وكن ذوى وذوات مواهب فى فنهم؟
ومن الأخطاء الإعرابية والصرفية عند كاتبتنا قولها: "أذكّرك بشىء قد يكون غائب عنك" (ص24)، وصوابه "غائبا" خبرا لـ"يكون" منصوبا. ومنها "نحن القبط لم نعتاد على هذا"، وصوابه "لم نَعْتَدْ" على هذا بحذف ألف الفعل الأجوف جزما. ومنها "لم تبدو على جبهتى أى استجابة" (ص26)، وصوابها "لم تبدُ" على الجزم جراء دخول "لم" على الفعل المضارع. ومنها "استردت هدوئها" (ص30)، وصوابها "استردت هدوءَها" على النصب مفعولا به. ومنها "تلَى ذلك أمطارٌ" (ص31)، وصوابها "تلا" بالألف لأن أصلها واوىّ (يَتْلُو). ومنها "حوالى مائة وخمسون جنديا" (ص31)، وصوابها "وخمسين" لأنها معطوفة على مضاف إليه، فتُجَرّ مثله. ومنها "أشياء لم أراها من قبل"، وصوابها "لم أرها من قبل" (ص32) بحذف الألف من الفعل الأجوف المجزوم كما وضحت قبل قليل فى مثال مشابه. ومنها "بكِلْتَىْ يديها" (ص37)، والصواب "بكلتا يديها"، وإن كان من العرب قديما من يعربها هكذا رغم إضافتها إلى اسم ظاهر. لكن هذا أمر مضى وانقضى منذ زمن جد بعيد. ومنها "حتى يُشِلُّون حركتها" (ص39)، وصوابها "حتى يشلوا" بحذف النون على النصب بسبب دخول "حتى" على الفعل المضارع. وعكس ذلك قولها: "فكثير منهم لا يعرفوا شيئا" (ص74) بحذف النون من "يعرفون"، والصواب إثباتها لأنه لم يسبق الفعل المضارع ناصب ولا جازم. ومنها "واقعة ضَرْب الجنديان" (ص43)، والصواب "ضرب الجنديين" بالخفض على الإضافة. ومنها "وكان واضحا أنّ وضعهم صعبًا" (ص48)، والصواب "أنّ وضعهم صعبٌ" على الرفع لا النصب لأنها خبر "أن". ومنها "دون أن يُشَنّ عليها هجوما منظما" (ص47)، والصواب "دون أن يُشَنَّ عليها هجومٌ منظمٌ" برفع "هجوم" و"منظم" لأنهما نائب فاعل وصفته. ومنها "كان واضحا أن وضعهم صعبًا" (ص48) بنصب خبر "أن"، وحقه الرفع: "صعبٌ". ومنها "دون أن يَمْسَسْها بشر" (ص51)، والصواب "دون أن يَمَسَّها بشر" بإبقاء الإدغام على ما هو عليه دون فك لأن الفعل منصوب لا مجزوم. ويبدو أنها تأثرت بالقرآن فى قوله على لسان مريم فى أكثر من موضع: "ولم يمسسنى بشر" وقوله مخاطبا المسلمين بعد غزوة أحد: "إن يَمْسَسْكم قَرْحٌ..."، و"إن تمسسكم حسنةٌ تَسُؤْهم"، وقوله مخاطبا النبى عليه السلام: "وإن يَمْسَسْك اللهُ بضُرٍّ فلا كاشفَ له إلا هو"... وهكذا. ولكن فاتها أن الفعل فى هذه الأمثلة كلها فى حالة جزم فصَحَّ أن يُفَكّ إدغامه، أما فى عبارتها فليس مجزوما بل منصوبا. ومنها "مات المعلم شبه وحيدا" (ص62). والصواب "شبه وحيدٍ" بالخفض لأنه مضاف إليه. ومنها "المُرَبَّات" (ص76) جمعا لـ"مُرَبَّى"، وصوابها "مُرَبَّيَات" كما نقول: "مُصَلَّيَات" لا "مُصَلَّات"، و"مستشفيات" لا "مُسْتَشْفَات"، و"مُنْتَدَيَات" لا "مُنْتَدَات"... وهلم جرا. وقد وقع د. محمد مندور فى استعمال "مربَّات" هو أيضا فى ترجمته لرواية فلوبير: "مدام بوفارى"، ويجد القارئ كلامى عن هذا الخطإ وغيره فى الفصل الذى خصصته للحديث عن ترجمة مندور لتلك الرواية من كتابى: "د. محمد مندور بين أوهام الادعاء العريضة وحقائق الواقع الصلبة". ومنها "إنك ذكيا ولماحا" (ص76)، وقد سبق أن نصصنا على خطإ مشابه لهذا الخطإ. ومنها "عرفت فيما بعد إنها..." (ص76) بكسر الهمزة، والصواب فتحها. ومنها "لم أراها من قبل" (ص76). والصواب "لم أرها"، وقد مرت الإشارة إلى ذلك الخطإ من قبل. ومنها "مِنْ مائتى وأربعين شخصا" (ص105). والصواب "من مائتين وأربعين شخصا". ومنها "إحدى الأعياد" (ص124). والصواب "أحد الأعياد" لأن "العيد" مذكر لا مؤنث. ومنها "المِخْلة" العامية بدلا من "المِخْلاة" الفصحى (ص174). ومنها "دعيتُ الله" (ص279)، وصوابها "دَعَوْتُ الله" لأن الألف فى "دعا" واوية (يدعو)...
وهذه مجرد عينة صغيرة جدا جدا جدا من الأخطاء اللغوية فى الرواية، التى تعج بالمئات من هذه الأخطاء. وهو أمر يؤسف له لأن الرواية من الناحية الفنية جيدة رغم ما نختلف فيه مع كاتبتها، فكان ينبغى أن تكون مبرأة من تلك العيوب الكثيرة المتلتلة. وفى نهاية الحديث عن اللغة لا أدرى لم كتبت دار النشر عنوان الرواية فوق العنوان العربى باللغة الإنجليزية. الواقع أنه لا معنى لترجمة العنوان فى رواية عربية. أما إن كان لا بد، وهو ما لا أراه، لقد كان يبغى لمن فعلوا ذلك أن يجعلوه بالفرنسية (Nuages Français Desمثلا): فالرواية تتحدث عن الحملة الفرنسية، كما تجرى معظم أحداثها فى فرنسا بعد فشل الفرنسيس فى البقاء بمصر وانكساحهم إلى غير رجعة وبصحبتهم أولئك الخونة الذين تعاونوا معهم ضد وطنهم ومواطنيهم، وخافوا العواقب إن هم بقوا فى أرض المحروسة، ويحاول البعض تحسين صورتهم الملطخة بعار الخيانة والغدر من خلال الزعم بأنهم كانوا يَسْعَوْن لاستقلال مصر بالاستعانة بفرنسا وبريطانيا، وكأن القتلة اللصوص المجرمين يمكن أن تأخذهم الشفقة والإنسانية بمن كانوا يريدون احتلال بلادهم وتقتيل مئات الآلاف منهم والاستيلاء على أموالهم. لكنْ ما أكثر المتنطعين ذوى الجلود السميكة والوجوه التى لا تعرف الحياء بيننا! ولله فى خلقه شؤون.
ورغم كل ما سبق فإن الرواية جيدة كما قلنا: فهذه أول مرة فى حدود علمى تحاول رواية من الروايات تتبُّع حياة عدد ممن هربوا مع شراذم الحملة الفرنسية من الذين تعاونوا معها ضد وطنهم وضد إخوان هذا الوطن. فالموضوع جديد تماما فى نطاق علمى، ولعلى لا أكون مخطئا. لقد صورت الرواية العربية الصراع أو اللقاء بين الشرق والغرب سواء تم هذا اللقاء فى بلد غربى أو تم فى بلد عربى كما هو الحال فى "فتاة مصر" ليعقوب صروف، و"أديب" لطه حسين، و"عصفور من الشرق" لتوفيق الحكيم، و"نادية" ليوسف السباعى، و"الحى اللاتينى" لسهيل إدريس، و"فيينا 60" ليوسف إدريس، و"جسر الشيطان" لعبد الحميد جودة السحار، و"موسم الهجرة إلى الشمال" للطيب صالح، و"قصة حب مجوسية" لعبد الرحمن منيف، و"أصوات" لسليمان فياض، و"عابر سرير" لأحلام مستغانمى، و"العمامة والقبعة" لصنع الله إبراهيم، و"الغزو عشقا" لنجلاء محرم، أما تتبع حيوات المتعاونين مع الفرنسيين إبان حملتهم على مصر فهو إن لم يكن موضوعا جديدا تماما فى نطاق علمى إنه لموضوع نادر أشد الندرة.
ويحسب للكاتبة أنها استطاعت أن تُعِيشنا فى مصر فى تلك الأيام وفى فرنسا أيضا وتنجح فى ذلك إلى حد معقول. لقد قرأت مثلا رواية صنع الله إبراهيم: "العمامة والقبعة" منذ سنوات وكتبت عنها، وكان رأيى فيها شديد السوء. أما روايتنا هذه فرغم ملاحظاتى السلبية عنها فإنها أفضل كثيرا من "العمامة والقبعة". لقد كنت، وأنا أطالع الصفحات التى تتناول حياة أولئك الهاربين، أشعر أننى فعلا فى فرنسا، ومتى؟ أيام الثورة الفرنسية. بطبيعة الحال لم يكن عندى علم بكيفية الحياة فى فرنسا فى تلك الفترة. بيد أن الأفلام والروايات الفرنسية التى تتناول فرنسا القديمة أيام النبلاء والملكية مثلا يمكنها أن تقدم لنا مساعدة فعالة وقيمة فى هذا السبيل. ثم إن الأمر هنا فى الأول والأخير هو أمر إحساس داخلى بأن الكاتبة قد نجحت فى مهمتها. لكن لا بد أن يكون القارئ على ذكر طوال الوقت من أن هذا لا يعنى أبدا أننا نوافقها على ما تريد أو ما نتصور أنها تريد قوله فى روايتها. فتلك نقرة، وهذه نفرة، ونرجو ألا يتم الخلط بينهما.
كذلك قدمت الكاتبة صورة للثورة الفرنسية جعلتنا نعيشها حية نابضة لا كلاما محنطا فى الكتب التاريخية. لقد كنت أحس أننى هناك فعلا زمانا ومكانا. لقد كنا نسمع عن معاداة الثورة للدين ورجاله مثلا، لكن ما راءٍ كمن سمعا. فسماعى لهذا شىء، ومصاحبتى للقسيس عبد الملك الشفتشى إلى الكنائس أو فى مسكنه ومرورى معه بالتجارب التى مر بها وإنصاتى إلى ما يقول واستيعابى لما قام به من تحليل للأمور الدينية والأوضاع الكنسية شىء آخر تماما. إنه الفرق بين تمثال جامد بارد وإنسان حى يمور بالحرارة والحركة والانفعال والغرائز. ويكفى ما قرأته فى الرواية عن تحويل الكنائس إلى معابد للعقل كى أعرف جيدا موقف الثورة من المعابد الدينية بل ومن الدين نفسه أيضا. ولقد عشت مع الكونتيسة مباشرة، وركبت معها عربتها التى يسوسها الحوذى ذو البدلة ذات الأزرار الذهبية اللامعة، وتطلعت إلى نهر اللوار الذى كانت تحاذيه العربة وهى تنهب الأرض نهبا، ودخلت بيتها وأكلت طعامها وسمعت حديثها وتحليلها للأحوال الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والدينية، بل ورأيتها وهى تخلع ملابسها بغتة كما ولدتها أمها وتهب نفسها لفضل الله وهى تتفلسف لإقناعه بالتهامها وتغريه بجسدها العريان بذلك الالتهام فى ذات الوقت. ويضيف أحد من قرأوا الرواية متفكها أنه قد سارع بوضع يده على عينه كيلا يرى هذا المنظر المُوقِع فى الفتنة والذى لم يخض، كما قال، تجربة مثله فى حياته قبلا بينما يفرّج الشيطان ابن الذين ما بين أصابعه حتى لا يحرم عينه تماما من التطلع والخروج بشىء من المنظر. لعنة الله على الشياطين!
وقد كانت الكاتبة بوجه عام بارعة فى تتبع مسار حياة كل واحد من هؤلاء الهاربين منذ أول الهروب حتى انتهاء الرواية. وكان مسار حياة كل واحد منهم مختلفا عن الآخر حتى لو تقاطع المساران أحيانا: فهذا قسيس. وهذا نجار صار ضابطا فى الجيش الفرنسى واشترك فى حرب الروسيا، ومات هناك غرقا فى ثلوج أحد الأنهار ميتة شنيعة عجيبة برعت الكاتبة فى تصويرها وإشعارنا بها حتى لقد كنت أحس أننى أخوض الثلوج بنفسى وأجد له على جلدى برودة لا تحتمل عرفتها من تجربة لى مع الجليد فى بريطانيا مرة. وهذه جارية هربت من بيت سيدها فى مصر وأتت إلى فرنسا واشتغلت غسالة فى مغسل عام وقاست شظف العيش والحياة... وهلم جرا.
وهنا نبلغ سببا آخر من أسباب نجاح الرواية، ألا وهو ما تبدو عليه الكاتبة من خبرة فى كثير من شؤون الحياة: فمثلا نراها تصف المغسل الذى اشتغلت فيه جين فيراى بعض الوقت والأسلوب المتبع فى تلك المغاسل وكأنها كانت تعمل فيها بنفسها رغم أننا جميعا الآن بما فينا الريفيات قد صرنا نستعمل الغسالات الآلية ونسينا طرق الغسل القديمة. بل لا أذكر أننى رأيت أحدا يعصر الملابس المغسولة بالدق عليها بالعصا، ومع هذا لم تنس الكاتبة أن تصور هذه الطريقة القديمة فى عملية العَصْر وترينا ما تجشّمه الغاسلةَ من تعب ومشقة. كذلك تكلمت عن الأرابيسك التركى الذى برع فيه عبد الملك الشفتشى، ذلك القسيس الذى لم يستطع إنشاء كنيسة قبطية فى فرنسا فارتد إلى صنعته القديمة قبل التحاقه بالكنيسة، وهى صنعة النجارة، وانتهى الأمر به إلى إنشاء شركة لصناعة الأثاث ذى الصبغة التركية الذى كان رائجا فى فرنسا فى ذلك الحين طبقا لما تقوله الرواية. ومما وصفتْه أيضا عصر العنب فى فرنسا لاستخلاص الخمر منه بدَوْس الفتيات الجميلات بأقدامهن الجميلة عليه، كما وصفت مزارع العنب هناك، تلك التى يملكها فابيان الضابط الكبير الذى استقال من الجيش اعتراضا على ما كان يُرْتَكَب فى الثورة من تجاوزات لا تغتفر.
حتى الحرب استفاضت كاتبتنا فى الحديث عنها لدن الكلام عن الحرب الفرنسية الروسية معتمدة كما هو واضح على كتب التاريخ وبعض الكتب التى تتناول فن الحرب ذاته حسبما ذكرت فى قائمة المراجع التى استعانت بها فى تأليف روايتها. وكلنا قرأنا عن تلك الحرب والأسباب التى أدت إلى هزيمة نابليون وعودته يجرر ذيول الفشل والخزى بعدما كان منتصرا انتصارا باهرا فى بداية المعارك، ولكن شتان بين ما قرأناه فى كتب التاريخ وما كتبته ضحى عاصى فى وصف تلك الحرب وحكاية وقائعها وتصوير الجو الثلجى الشنيع الذى قاد إلى الهزيمة الفرنسية المخزية والذى وصل إلى الذروة فى وصف الطريقة الرهيبة التى مات بها فضل الله فى أطواء الثلوج بأحد الأنهار الروسية.
وهناك أيضا الطريقة التى سردت بها الكاتبة لنا روايتها. ولقد سبق أن شرحتُ تلك الطريقة بشىء من التفصيل فى هذه الدراسة قبلا وأخذتُ عليها شيئا هاما يمكن القارئ الرجوع إليه بنفسه. لكن هذا لا يعنى أن تلك الطريقة كلها معيبة. إن فيها رغم عيبها تنوعا وجدة وشاعرية، وهو ما يخفف من ذلك النقد الذى وجهتُه إليها. وحين أتحدث عن جدة تلك الطريقة لا أقصد أبدا أن ضحى عاصى هى مبتدعتها بل أقصد أنها طريقة جديدة فى القص عندنا عموما.
وإذا كنت قد أخذت على الرواية أنها تحتوى على أخطاء لغوية كثيرة فإن الأسلوب، بمعنى تركيب الألفاظ بعضها مع بعض بعيدا عن الإعراب، هو أسلوب منساب فى الغالب ليس فيه ركاكة ولا عسلطة. كما أن اللغة فى العموم طيعة فى يد الكاتبة تعبر عما تريد التعبير عنه تعبيرا واضحا موحيا. وهناك عدة لوحات ارتفعت فيها الكاتبة فى تصويرها ارتفاعا كبيرا: وهى اللوحة التى صورت فيها خوزقة سليمان الحلبى من خلال حلم محبوبة بأن الخوزقة لها هى ومعاناتها فى الحلم جراء ذلك وتوهُّمنا جراء براعة الكاتبة أن محبوبة هى فعلا التى يخوزقونها، وفى الواقع وليس فى الحلم. ولكن لم لجأت الكاتبة إلى هذا الاستبدال فوضعت محبوبة بدلا من سليمان الحلبى؟ أتراها أرادت للقراء ألا يتعاطفوا مع الحلبى الشهيد قاتل كليبر المجرم بل مع محبوبة النصرانية جريا مع جو الرواية كله وروحها السائد؟
وهذه هى اللوحة المذكورة: "دُفِع الباب دفعة قوية، لم يكن لديها الفرصة لأن ترى أحدا ممن اقتحموها واقتحموا البيت. جذبوها عنوة، أطاحوا بها أرضا حتى سمعت صوت ارتطام عظامها، وفى ثوان معدودة كانت تُجَرّ معصوبة العينين من يديها ورجليها وشعرها جَرًّا وسط صراخ كل من حولها فى البيت والحارة. تداخلت أصواتهم المفزعة فأصبحت لا تفسر ما يقال ولا بأى لغة. كل ما أدركتْه أنها هى المقصودة، فقد كانت تسمع اسمها يجلجل فى حناجرهم: محبوبة. محبوبة.
لامس جسدها المجرور إلى غير وجهة الحصير الذى افترشته وصنعته يدى سليمة، حصى الطريق الذى جمعته ولعبت به فى طفولتها، ورَوْث الماعز التى ترتع أمام دارها تؤنس جسدها المنقول إلى حيث لا تدرى، فتشعر به يطمئنها أنها لا تزال على الأرض الجمّاء التى تعرفها، تشم رائحتها.
لا تعرف إلى أين يقتادها هؤلاء؟ اختفت روائح البيوت، تغير ملمس الأرض، ابتعدت أصوات حفيف الأشجار التى عهدتها، أخذت يداها تتخلعان من جسدها من شدة السحب، هكذا هيىء لها، توقف من يسحبونها عن جرها، فَكُّوا العصبة من عينيها لترى الآلاف من المحتشدين كأنهم فى سوق. ألوانهم شتى، وملابسهم مختلفة: جلاليب وسراويل، وملابس فرسان وجيوش. صوت آمر يأتى من بعيد، أطاحوها أرضا، وبسرعة شديدة ينفذ الملثمون الأمر. قام أحدهم بإلقائها على بطنها، وفتح رجليها. أخذت تصرخ وتدافع عن عفتها، وتعلن أنها لن تمكن أى رجل منها، تستنجد بالعذراء. كانوا ثمانية، تكفل كل اثنين بأحد أطرافها حتى يشلون حركتها تماما ويمنعونها من أى مقاومة، قام آخر بشق شرجها بموس، ثم حشاه بعجين، بينما الجلاد يحضر تلك العصا الطويلة ذات القمة المدببة والتى طولها يزيد عن ثلاثة أمتار، وبدأ فى إدخال الخازوق. ومع أول دخول للعصا فيها أدركت محبوبة أنه الموت، بدأ صراخها يعلو، لماذا أنا؟ لماذا أنا بالذات؟ صوت قهقهات يجيبها من بعيد: لأنك الجميلة. وآخرون: أنت صاحبة الخير. كانت شبه عارية، شعرها الأسود الكثيف ينسدل على ظهرها الحنطى. بدأ الجلاد يدق الخازوق بمطرقة فى دبرها، أخذ يمرره بين عمودها الفقرى وجلدها بمهارة وخفة دون أن يمس قلبها أو رئتيها. كان حريصا أن تظل على قيد الحياة مدة أطول ليثبت مهارته، تزداد نشوته كلما تعلو صرخاتها المحمومة الممزوجة من الألم، وينتفض جسدها مع كل تمريرة، حتى أخرجه من أعلى كتفها الأيمن.
دخل الليل، انفضت الحشود، بينما هى المعلقة على الخازوق متهافتة من الألم لا تقوى حتى على الصراخ. تبدلت محبوبة فشاب شعرها، هدأ الضجيج من حولها، وساد الصمت. أصبحت لا تسمع إلا فحيحا وصرصرة ونعيقا وعواء، ظلت ليلتها لا ترى إلا هؤلاء الملثمين الذين لم ينفضوا بعد، يراقبون آلامها، تأوهاتها، استغاثتها الخافتة، هذيانها، صلواتها الباكية: "أبانا الذى..."، شعرها المتناثر، جسدها وهو ينزلق تدريجيا إلى الأسفل.
كيف دُمِّرَت الحواس؟ كانت فى البداية تستنجد من العذاب، ولكن عندما ارتفعت درجة الألم فقدت الإحساس به، فقدت القدرة على الصراخ والتعبير، تمنت الموت لأنه راحتها. ظل جسدها على الخازوق طول الليل حتى أكلته الجوارح. ومع الشفق بدأت تسمع من جديد صوت الرحى، وشَمَّ أنفُها رائحة طلع النخل، بينما الطير يقف على شعرها يداعب خصلاته.
عندما عدت فى إجازتى التالية، تحدث معى جرجس غزال أن محبوبة حالتها سيئة، تهاجمها الكوابيس والأحلام المزعجة بكثرة منذ تلك الليلة التى عُلِّق فيها الحلبى على الخازوق فى تل العقارب، أصبح نومها قليلا، وصحتها فى تدهور. تغيرت كثيرا، أصبحت تشكو دائما من ثقل وصداع متنقل، رأسها لا يجدى معه أى دواء، صارت متخبطة فى أفعالها وأقوالها، لم يعد لديها أى شهية للطعام، ترفض الأكل دائما، تبكى أحيانا وتضحك أحيانا بدون سبب، كارهة ورافضة للجميع، هذا غير الهذيان بأقوال وحركات غير مفهومة، لدرجة أن تتغير معها ملامح وجهها إلى شىء مخيف".
ومن هذه اللوحات أيضا اللوحة التى صورت فيها جسد الكونتسية فرانسواز حين نضت عن نفسها كل ثيابها وقالت لفضل الله: هَيْتَ لك، وتم لها ما كان. وكل من يقرأ هذا الوصف يحس أنه مكتوب فعلا بعين وقلم رجل. أتراها براعة من الكاتبة فى تقمص مشاعر الرجال نحو المرأة؟ أم تراها تنظر إليها بعين المرأة لكنها وضعت الكلام على لسان رجل؟ أم ماذا؟ وهذا نص ما قالته، والكلام على لسان فضل الله: "تفتح فرانسواز لى الباب تدعونى إلى الدخول إلى غرفة الضيوف المظلمة. تشعل المصابيح وتتركنى قليلا، ثم وبدون مقدمات تعود وتقف أمامى عارية تماما. أغمضتُ عينى كمن لا يستطيع أمام الضوء الشديد أن يرى. لم أر جسد امرأة من قبل. اخترقته: نعم، ولكن دون أن أراه. نظرتْ إلىَّ بدهشة عجيبة:
أنت أيها الفارس تغمض عيناك وتدير وجهك؟
كيف لها أن تفهم أننا نطفئ الأنوار لنختبئ بشهواتنا فى الظلام وأننى أحتاج إلى شجاعة تفوق ألف مرة شجاعة شمشون حتى أعتاد النظر إلى جسد امرأة؟ لم تدعنى فرانسواز أغمض عينىَّ. قالت بكل وضوح وغنج:
الرجل الذى لا يقوى على النظر إلى جسد امرأة لا يستحق أن يكون فارسها. كيف للحب أن يكون دون أن ننظر إلى ما نحب؟
كم هى مختلفة تلك المرأة التى قادتنى دون أن أدرى إلى كل هذا التيه فى جسد كأنه بركان لا يسمح لأحد أن يهرب من فوهته. الاختراق بكل ما فيه من ألم معجون بلذة. كيف لهذه الشقراء كل هذه السخونة؟ وكيف لى أن أطفئ بركانها المتقد تحت سرتها؟ استفزتنى وتجرأت عيناى شيئا فشيئا لأنظر إلى هذا الجسد العارى المنحوت بدقة، إلى تلك البشرة البيضاء المرمرية، وهذا الجلد الأملس، إلى ثدييها النافرين تتوسطهما قمتا جبل ورديتا اللون، هذا الخصر النحيل الذى يقودك كخارطة طريق إلى البراح تحت سرتها يشعل الرغبة التى تنال منى كوحش وقعتْ فى قبضته. لم تعطنى فرانسواز أى فرصة للارتباك. كانت تقودنى إلى كل شىء. أخذتْ يدى ووضعتْها على جسدها المندَّى بقطرات الشهوة قائلة:
كيف للحب أن ينضج دون أن تلمس ما تحب؟
لأول مرة تتجول يدى بجسد امرأة بكل هذه الحرية. لامست فيها كل شىء، كل شىء، كل جزء من شعر رأسها حتى أصابع قدميها. وبينما أصابعى تكتشف كل الممنوعات اقتربت منى أكثر وأكثر قائلة:
كيف للحب أن يكون دون أن نتذوق ما نحب؟
وضعت جبلها الوردى فى فمى ثم سحبته برفق. كانت حرارة زفيرها فى أذنىَّ، همسات الحب والرغبة الشرهة التائهة بين شفتيها، وريقها يبلل كلِّى. تطالبنى بفيضانات الارتواء:
أنت فارسى. تى إيه مون كافالير.
لأول مرة أتذوق امرأة، ولأول مرة أعلم أن للشفاه طعما، ولأصابع القدم طعما آخر. وفى لحظة كانت فرانسواز جاثمة على ركبتيها، وأنا ممسكا بشعرها من الخلف كفارس يمسك لجام فرسه. طرت بجسدها إلى ساحة العشق والنشوة مدفوعا برائحة لم أشمها من قبل، ممزوجة بعرق الرغبة. أدارت جسدها، جذبتنى إليها، أحاطتنى بساقيها المتلفتين حول جذعى. كانت تبعدنى وتقربنى بساقيها كما تشاء مسافة أقل من كف يد، ولكن بين ثوانى البعد والقرب تتولد فىَّ أميال من الشهوة والرغبة فيها. صوت ارتطام حميم يعلو ويهبط إيقاعه كصليل السيوف فى معركة.
اندفعت فرانسواز فى نوبة من التأوهات، وجسدها ينتفض برعشة متقطعة، وصوتها يعلو مصحوبا بتأوهات سكارى من نبيذ الشبق، بينما أنا جاثم عليها بين الحلم والحلم فاقد الإحساس بالزمن والمكان. بداخلى زئير مكتوم أسمعه فى عروقى النافرة وجسدى المتأجج الذى تحول إلى قطعة من الحديد على وشك الانصهار تحت وطأة حرارتها. غربت عيناها فى عالم آخر، كفَّتْ عن إبعادى عنها. كانت ساقاها تضمانى لها أكثر وأكثر، تدفعان بى أكثر وأكثر إلى العمق. احتضنتنى ضاغطةً علىَّ بشدة، تلك الضغطة التى فجرتنى، فعلا صوتى بالنهيم، بينما هى تصرخ وتشهق وتختبئ وتبكى بقوةٍ مبللةً جسدى بدموعها التى أفزعتنى وأخرجتنى من نشوة الاكتمال فأعادتنى إلى الزمان والمكان قائلا بجزع:
لماذا تبكين يا فرانسواز؟ هل آلَمْتُكِ؟ هل ضايقتُك فى شىء؟
نظرت إلىَّ وفى عينيها لمعان ثمالة الارتواء قائلة:
ألا تعرف ما هذه الدموع؟
لم يكن هذا الضابط البالغ من العمر واحدا وعشرين عاما حقا يعرف ما هذه الدموع، فقد كانت خبرته فى معرفة النساء قليلة، وكانت عواطفه أشبه بعواطف مراهق متطرفة متأرجحة".
وثم لوحة أخرى كانت براعة الكاتبة فى رسمها فوق الرائعة، وهى لوحة موت فضل الله فى ثلوج النهر المتجمد. ولأدع القارئ أمام هذا النص الفريد البديع: "النجاة من الصقيع لم تكن آخر المخاطر، الجوع الذى لا يرحم. فى مذبحة جماعية لشركاء الرحلة والمصير أكل من تبقى حيا من جنودنا جيادهم حتى لا يموتوا جوعا. فعلها كوتوزوف ونفذ ما وعد به ليلة دخولنا موسكو: سأجعلهم يندمون على دخول روسيا، سأجعلهم يأكلون جيادهم.
كنت أطيل النظر إلى هذا الأدهم الجامح، بلونه الأحمر وعنقه الطويلة ذات العضلات السمينة وجذعه المربع الناعم الأملس كأنه يستشعر الخطر. وعلى الرغم من البرد والجوع كان ذكيا صبورا، حنونا علىَّ يداعبنى بذيله الطويل وشعره الحريرى، يفهم أن نهايته وشيكة. يقول لى ذلك بنظرات عينيه الواسعتين الصافيتين، والتى اعتدت أن أفهمها. كما اعتاد هو أن يفهمنى، لم يخذلنى أبدا فى المعارك. الجوع ينهشنى، ولكن لم أَقْوَ على أن آكل شريك الرحلة والأصل.
بدا لى أن النجاة وشيكة. لم يبق إلا عدة أميال ونصل إلى الحدود، ولكن الروس اعترضوا انسحابنا عند نهر ترزينا. دمروا الجسر الوحيد الذى يعبر النهر ليأسروا نابليون. كان نابليون شرسا فى مقاومته، هدم بعض البيوت، واستخدم الضباط المهندسون أخشابها لبناء جسر. بدأنا فى عبور جسر ترزينا: فى البداية نابليون وبعض مساعديه، وبدأ الجنود يعبرون. كانت قواى لا تحملنى على الحركة بسرعة شديدة. منهك حتى فى شعور العبور المشجع. كنت أشعر بخوار، رائحة جسدى التى لم أعد أتحملها، ملابس الموتى التى أرتديها، جوادى المجهد المقاوم خار هو أيضا. شعور غريب أقوى منى، أقوى حتى من الرغبة فى النجاة. كان الجنود يصرخون، يشجع بعضهم البعض: تماسكوا، اعبروا الجسر، لم يبق إلا أميال ونصل إلى الوطن، أما أنا لماذا أعبر الجسر؟ الجسر يتكسر من تحت أقدامنا، دمر الروس الجسر، نقع جميعا فى تلك المياه الجليدية، مئات من الجنود والضباط والخيول. مَنْ عَبَرَ لا يلتفت وراءه لمن وقع.
ربما ينجو. أخذتُ فى فك السرج، حررتُه، كانت المحاولة الأخيرة لنا، فلكلٍّ قدره، ربما ينجو. أما أنا فبحركة لاإرادية فى البداية ضممت رجلى إلى صدرى، حاولت أن أقاوم قليلا، ولكن بدأت العضلات تتيبس، وقدرتى على الحركة تقل، أما جوادى فمن المؤكد أنه قريب منى فى إحدى تلك الثقوب التى شكلتْها أجسادنا فى تلك الطبقة الجليدية. لمحته وهو يقاوم وينظر لى، يقاوم ليس للخروج، ولكنه يتحرك باتجاهى. كانت آخر حركة استطاعت ذراعى أن تفعلها، ضربته على مؤخرته، نهرته. لا بد أن ينجو، لا بد أن ينجو أحدنا.
كان سيفيز معلقا ببقايا الجسر متشبثا بالحياة، وتملؤه الرغبة فى العودة إلى الوطن. قاوم سيفيز أن يسقط، لمح جسدى الطافى فوق المياه بين الثقوب، مد يده لى، أراد الشاب بقدر رغبته فى الحياة أن يسحبنى:
جنرال فضل، أعطنى يدك.
إنها دقيقة، ربما أقل، سيسقط سيفيز إذا حاول إنقاذى.
لم يسمع سيفيز تحذيراتى، فقد كنت أضعف من أن أنطقها، بدأ الدم ينسحب من وجهى وأطرافى، بدأت الرعشة تسرى فى جسدى، بدأت أفقد الشعور بأطرافى، ولم أعد قادرا على الحركة، العضلات تتصلب، جسدى الطافى على المياه الجليدية، وروحى الطوافة العابرة للمكان والزمان: كنيسة الأمير تادرس الشطبى، أمى، دق الصليب، ضحكاتى فى النيل، فى الغطاس، ميدان النشابة، وجه محبوبة عندما وقع برقعها فى مولد سيدى العريان، المعلم يعقوب، فابيان، الباخرة بالاس، أوسترليتز، نيشان الليجون دوأونر، شمس المحروسة.
بدأ جسدى يتجمد، بدأت أفقد الإحساس، لاحت أمامى صورة الصلبوت، تذكرت كلمات اللص على يمين ربنا يسوع المسيح حينما صرخ: "اذكرنى يا رب متى جئت فى ملكوتك". رددتها وراءه فى داخلى. خرجت آخر كلماتى: "يا أبتى، إليك أستودع روحى".
هدىء كل شىء، أخذ الجسد فى الهبوط تدريجيا حتى استقر عند الطبقة الثالثة فى النهر المتجمد. ظلت جثته معلقة أياما بين طبقات المياة الجليدية فى نهر تريزنا، وبعد عدة أيام طفت على السطح جثة الجنرال القبطى مع مئات من الجثث القتلى التى ظلت أشهرا تسد نهر تريزنا".
ومما يكسب الرواية الحالية أهميتها أيضا طرحها عددا من القضايا الخطيرة: فمن ذلك ما قالته الكونتيسة فرانسواز عن الحب والدين. لقد كانت فى صباها وشبابها نصرانية متمسكة، وكانت تتردد على الكنيسة وتسمع عظات القسس التى كانت تخوّفها الجحيم وتُفْهِمها أن كل شىء تفعله هو خطيئة سوف يكون عقابها عليه رهيبا حتى صار الإحساس بالخطيئة شيئا ملازما لها لا يفارقها أبدا، لكنها تطورت مع الأيام وبخاصة بعد اشتعال الثورة، التى غيرت كل المفاهيم وحاولت أن تحل إلها مكان إله: إله الفضيلة المجردة بدلا من إله الإنجيل، فكان هذا التطور المتسارع من العوامل الحاسمة التى جعلتها تبعد عن الكنيسة والقسس وتتخلص من هذا الشعور الحاد بالخطيئة وتنظر إلى البحث عن اللذة والاستمتاع بالحياة وبكل ما تتيحه لنا من مسرات، وممارسة الجنس بحرية ودون تأثم، وكأنه دين جديد (ص208 وما بعدها).
لقد كفرت فرنسا الثورة بالدين، وما دامت كفرت بالدين فليس هناك ما يمنعها من ممارسة الجنس دون مراعاة لحلال أو حرام ودون تفكير فى الجنة أو النار ودون اهتمام بما يقوله الدين والكتاب المقدس، إذ فى هذه الحالة يكون الناس هم مقياس أنفسهم، وكانت فرانسواز فى هذا بنت الثورة الفرنسية بامتياز رغم أنها، فيما عدا هذا، كانت ضدها. إن الناس كثيرا ما يزدجرون عن المعاصى بسبب الدين، لكن لم يعد ثم دين، فما الذى يمكن أن يزجرهم؟ وفى رواية الكاتب الروسى الأشهر فيودور ديستويفسكى: "الإخوة كارامازوف" عبارة قالها إيفان الملحد تلخص الموقف كله، ألا وهى "إذا لم يكن الله موجودا فكل شىء إذن مباح". وفرانسواز تقول فى القسم الخامس من الفصل السادس الذى تتولى السرد فيه: "كل ما كان مسلمات من قبل لا يجوز المساس بها تغير: فلا الملك هو الملك، ولا الكنيسة بقيت كما هى. أصبحت معابد لرب آخر اسمه المنطق. إنها الثورة" (ص209). ثم تقول فى ختام هذا القسم: "قررت أن أرفض كل ما تلقنته من قبل وأخلق لنفسى قاموسى الجديد، وأن أبحث عن معناى الخاص للفضيلة حتى لو فى أحضان الفارس القبطى" (ص211).
وهناك من فلاسفة الأخلاق من يجعل اللذة هى هدف الإنسان فى الحياة ويتخذ منها محورا للأخلاق الصحيحة. واللذة شعور حلو لا مشاحة فى ذلك. بيد أن اللذة ليست كل شىء فى الحياة. فقد يتعارض تحقيق اللذة مع حبنا لأولادنا أو أسرتنا أو أوطاننا ومواطنينا أو الإنسانية. إننا نحب الحياة ما فى ذلك أدنى ريب، لكن أوطاننا كثيرا ما تدفعنا إلى التضحية بكل ألوان اللذة بل بالحياة ذاتها، التى لا يمكن أن تكون هناك لذة بدونها لأننا ساعتذ لن نكون موجودين حتى نشعر بها. فماذا نفعل؟ هل نترك وطننا ساعة الخطر واقتحام الأعداء لحدوده واحتلاله وانتهاب أمواله وتحقير أبنائه ونتمسك باللذة ونجعل من البحث عنها وتحقيقها هِجِّيرانا؟ والأم التى يبكى رضيعها ويحتاج إلى يقظتها ورعايتها وهى نائمة مرهقة: هل يا ترى ينبغى أن تتجاهل صرخات رضيعها وآلامه ومعاناته العاجزة وتمضى فى النوم سادَّةً أذنيها وقلبها عنه وعن حاجته إليها؟ إن الحياة لا يمكن أن تمضى على هذا النحو. كما أن اللذة بعد قليل تفقد كثيرا من بريقها وحلاوتها متى جعل الإنسان منها محور حياته وصار يعكف عليها ولا ترى عينه سواها، وتتحول مللا وسأما؟ بل إن الجنس مثلا الذى يتهوس به أصحاب مبدإ اللذة ويكثرون منه ولا يحاولون فطم أنفسهم عنه أبدا سرعان ما ينحرف شذوذا جنسيا هربا منه ورغبة فى التجديد وتجريب ألوان أخرى منه مع أشخاص من نفس النوع بل مع الحيوانات بل مع الآلات ذاتها؟ بل إن الحضارات تنتهى إلى الفساد حين يجعل أصحابها اللذة مبدأ حياتهم لا يعرفون غيرها، فيتبلدون وتضعف فى نفوسهم قيمهم الأخلاقية الأولى التى جعلت منهم أصحاب حضارة قوية منتصرة. الحق أن الحياة تحتاج إلى فضيلة الإيثار والتضحية فى كثير من المواقف والأحيان، وإلا توقفت وانهارت. لنفترض أن شخصا يشتهى امرأة ما بينما هى لا تحبه. إن بحثه عن اللذة يقتضيه أن ينال منها ما يشتهيه ولو بالقوة. فهل هذا يصنع مجتمعا سليما قويا؟ ولنفترض أن زوجة تجرى وراء لذتها ولم تستطع أن تحقق لذتها إلا فى خيانة زوجها وجلب العار لأولادها، فهل نبارك لها تلك الخيانة بحجة أنها بذلك تحقق لذتها، التى جعلتها عمود حياتها وبوصلة أخلاقها؟
ولكن على الناحية الأخرى ينبغى ألا ننظر إلى شهواتنا على أنها شر فى كل الحالات. إنها شر متى أشبعت فى الحرام، لكنها الخير كل الخير متى أشبعناها فى الحلال ومارسناها باعتدال ووازنا بينها وبين واجباتنا نحو أسرتنا وأصدقائنا وأوطاننا وأفراد الإنسانية، وإلا فالأنانية الجامحة لا تجلب سعادة، أو لا تجلب سعادة صافية بل سعادة تمازجها المرارة ولا تروى صاحبها أبدا مهما استزاد منها. وعلى الإنسان أن يحب لأخيه فى الوطن وفى الدين وفى الإنسانية ما يحب لنفسه، وإلا فسدت الحياة. كذلك ينبغى ألا يتطرف رجال الدين فيحرموا الحلال ويسدوا منافذه فلا يجد الشخص مفرا من التمرد وكسر القيود كلها. وبالمثل لا يصح تصوير الله على أنه إله قاس ينزل عقابه الصارم العنيف على عباده لأقل هفوة فلا يرحم ولا يراعى ضعفنا أبدا. فالله سبحانه قبل أن يكون شديد العقاب ذا طَوْلٍ هو إله رحيم. وفى الإسلام يحاسبنا ربنا على الحسنة بعشر أمثالها إلى ما شاء سبحانه، أما السيئة فلا يحاسب عليها إلا بمثلها، وكثيرا ما يغفر فلا يعاقب. وفيه أيضا أن الإنسان متى فكر فى عمل سيئة ثم كبح جماح نفسه فلم يعملها كتبت له حسنة، ولكنه إذا فكر فى عمل حسنة ثم لم يعملها لسبب ما كتبت له حسنة واحدة لتتضاعف حسنات بلا حساب لو حققها فعلا كما مرت الإشارة آنفا... وهكذا. إن الغرائز هى وقود الحياة ومحركها، ولولا تلك الغرائز لتوقفت الحياة وما تحركت إلا الأمام خطوة واحدة. لكنها إذا تغولت واعتدت على المبادئ الخلقية الكريمة أفسدت الحياة، وصارت الدنيا غابةً كل همّ البشر هو السعى المحموم وراء اللذة، وتعارضت اللذات وتحولت الحياة صراعا شرسا يكون الإنسان فيه إما قاتلا وإما مقتولا. وأى حياة تلك؟
وأهم تلك القضايا التى تثيرها الرواية ما يزعمه بعضهم عمن يسمى بـ"المعلم يعقوب" من أنه كان يهدف فيما عمله من إنشاء جيش قبطى أثناء وجود الفرنسيس بمصر وخروجه معهم بعد فشلهم فى إخضاع المصريين لهم واستذلالهم وسرقة أموالهم إلى استقلال مصر. وهذه دعوى وقحة مفعمة بالتنطع والكذب السافل: فيا ترى من فوَّض هذا المجرم فى الحديث بلسان ملايين المصريين من مسلمين ونصارى؟ إن النصارى أنفسهم لم يكونوا كلهم يرافئونه على إجرامه وخيانته، بل كان كثيرون منهم يعارضون ما يفعل. وكيف بالله يوصف خائن مثله ينقلب على بنى وطنه ويؤلف جيشا يساعد الفرنسيس على التنكيل بالشعب الذى ينتمى إليه وعلى قتله وسرقته وإذلاله وإهانته بأنه يسعى إلى استقلال ذلك الوطن؟ أيمكن أن يقال عن ذبح البشر إنه عملية جراحية تهدف إلى تخليصهم من الآلام؟ من قال هذا؟ وهل يمكن أن يفكر عاقل فى الاستعانة بأعداء الوطن على تحقيق استقلاله بعدما فشلوا فى احتلاله والاستمرار فى استنزاف ثرواته واستذلاله وخرجوا بالخزى والعار، بَلْهَ أن يكوِّن جيشا لمساعدتهم يعود معهم من جديد بعد أن يضمدوا جراحهم ويعالجوا فشلهم ليحتلوا مصر ويعينوها على الاستقلال؟ ألا إن هذا هو الدجل والتدليس بعينه. ترى أى استقلال هذا يا إلهى؟
والغريب أن يدافع عنه القسيس الشفتشى، ويكفى اسمه لننفر منه، فكلمة "الشفتشى" لا ترتبط بشىء جاد ولا محترم أيا كان معناها الأصلى، بل ترتبط بملابس النساء الغنجات الخارجات على العرف الكريم، الغريب أن ينبرى الشفتشى هذا ليدافع عنه رغم وقاحته وغطرسته وإساءاته الإجرامية المتكررة التى لم يُعْفِ منها الكنيسة ورجاله أنفسهم، إذ دخل مرة الكنيسه على صهوة حصانه وأمر القسيس أن يناوله لقمة التناول وهو راكب، مما أثار استياء القسيس، فيشبهه الشفتشى بالمسيح، والمسيح عند النصارى ربهم. إى وربى: شبهه بالمسيح، وكأن المسيح يبارك الخيانة والغدر والتنكر للوطن ومد يد التعاون الدنس لأعداء البلاد ومساعدتهم فى تقتيل أفراد الشعب والتنكيل بهم وسرقة أموالهم وممتلكاتهم! مثل المجرم يعقوب هذا لا يشبَّه بالمسيح بل بيهوذا الخائن الذى يذكر الإنجيل أنه سلم المسيح لأعدائه لقاء بضعة دراهم معدودات. نعم إنه يهوذا عن جدارة واستحقاق. أما المسيح فرسول كريم عالى القدر عند ربه سبحانه وتعالى يعلم الناس محبة الأوطان والوفاء والرجولة والنبل وكرم النفس وطهارة الضمير ونظافة السلوك لا الخسة والدناءة والإجرام والوحشية. جل المسيح أن يشبَّه به الخائن يعقوب (انظر مثلا ص61 فما بعدها من الرواية)!
وهذه بعض نقول من الجبرتى تسجل خيانات يعقوب المجرم الدنس: "سافر عدة كبيرة من عسكر الفرنساوية إلى جهة الصعيد وكبيرهم ديزه، وصحبتهم يعقوب القبطى ليعرِّفهم الأمور ويُطْلِعهم على المخبآت"، "وأما يعقوب فإنه كَرْنَكَ فى داره بالدرب الواسع جهة الرويعى، واستعد استعدادًا كبيرًا بالسلاح والعسكر المحاربين، وتحصن بقلعته التى كان شيدها بعد الواقعة الأولى"، "وركب سارى عسكر من يومه ذلك وذهب الى الجيزة، ووكَّل يعقوب القبطى يفعل فى المسلمين ما يشاء"، "ثم إنهم وَكَّلوا بالفِرْدة العامة وجميع المال يعقوب القبطى، وتكفل بذلك وعمل الديوان لذلك ببيت البارودى" ، "وأبرزوا أوامر أيضًا بتقرير مليون على الصنائع والحرف يقومون بدفعه فى كل سنة قدره مائة ألف وستة وثمانون ألف ريال فرانسة، ويكون الدفع على ثلاث مرات كل أربعة أشهر: يدفع من المقرر الثلث، وهو اثنان وستون ألف فرانسة. فدُهِىَ الناس وتحيرت أفكارهم واختلطت أذهانهم وزادت وساوسهم، وأشيع أن يعقوب القبطى تكفل بقبض ذلك من المسلمين، ويقلد فى ذلك شكر الله وأضرابه من شياطين أقباط النصارى"، "ومنها أن يعقوب القبطى لما تظاهر مع الفرنساوية وجعلوه سارى عسكر القبطة جمع شبان القبط وحلق لحاهم وزَيَّاهم بزىٍّ مشابهٍ لعسكر الفرنساوية مميَّزين عنهم بقُبَّع يلبسونه على رؤوسهم مشابه لشكل البرنيطة، وعليه قطعة فروة سوداء من جلد الغنم فى غاية البشاعة مع ما يضاف إليها من قبح صورهم وسواد أجسامهم وزفارة أبدانهم، وصَيَّرَهم عسكره وعزوته، وجمعهم من أقصى الصعيد، وهدم الأماكن المجاورة لحارة النصارى التى هو ساكن بها خلف الجامع الأحمر، وبنى له قلعة وسوَّرها بسور عظيم وأبراج وباب كبير يحيط به بدنات عظام، وكذلك بنى أبراجًا فى ظاهر الحارة جهة بركة الأزبكية، وفى جميع السور المحيط والأبراج طيقانًا للمدافع وبنادق الرصاص على هيئة سور مصر الذى رَمَّه الفرنساوية، ورَتَّب على باب القلعة الخارج والداخل عِدَّةً من العسكر الملازمين للوقوف ليلًا ونهارًا، وبأيديهم البنادق على طريقة الفرنساوية" (وهؤلاء الأوغاد الخونة وجدوا فى شفيق غربال من يطلق عليهم: أول جيش وطنى منذ الفراعنة، بينما هو جيش الغدر والعمالة والانحطاط وانعدام الوطنية لأن الجيوش الوطنية لا تقوم على الطائفية والانحياز إلى المستعمر، فضلا عن أن ترجو على يديه المعاونة فى الحصول على الاستقلال، فهو استقلال من أجل الخضوع للمستعمر الفرنسى كرة أخرى بعد أن يعود الجيش الفرنسى المهزوم المنهوك إلى بلاده ويرمم نفسه ويتقوَّى من جديد ثم يرجع ليحتل مصر ويستعمرها ويبطش بأبنائها ويكسح ثرواتهم ويذلهم ويهينهم ويقتلهم بلا هوادة وينتقم منهم. فكهذا تكون الجيوش الوطنية عند غربال، وإلا فلا)، "وفى عشرينه توكَّل رجل قبطى يقال له: عبد الله من طرف يعقوب بجمع طائفة من الناس لعمل متاريس، فتعدى على بعض الأعيان وأنزلهم من على دوابهم وعَسَف وضرب بعض الناس على وجهه حتى أسال دمه"، "وفيه أرسل إبراهيم بك أمانًا لأكابر القبط، فخرجوا أيضًا وسلَّموا ورجعوا الى دُورهم. وأما يعقوب فإنه خرج بمتاعه وعازقه وعَدَّى إلى الروضة، وكذلك جمع إليه عسكر القبط وهرب الكثير منهم واختفى، واجتمعت نساؤهم وأهلهم وذهبوا إلى قائمقام وبَكَوْا وولولوا وتَرَجَّوْه فى إبقائهم عند عيالهم وأولادهم، فإنهم فقراء وأصحاب صنائع ما بين نجار وبناء وصائغ وغير ذلك، فوعدهم أنه يرسل إلى يعقوب أنه لا يقهر منهم من لا يريد الذهاب والسفر معه (أى إلى فرنسا بعد هزيمة الفرنسيين وخروجهم من مصر"، "وحضر أيضًا صحبةَ أولئك الفرنسيس الخبرُ بموت يعقوب القبطى، فطلب أخوه الاستيلاء على مخلفاته، فدافعته زوجته وأرادت أخذ ذلك على مقتضى شريعة الفرنسيس، فقال أخوه إنها ليست زوجته حقيقة بل هى معشوقته، ولم يتزوج بها على ملة القبط، ولم يعمل لها الإكليل الذى هو عبارة عن عقد النكاح، فأنكرتْ ذلك، فأرسل الفرنسيس يستخبرون من قبط مصر عن حقيقة ذلك، فكتبوا لهم جوابًا بأنها لم تكن زوجته على مقتضى شرعهم وملتهم، ولم يُعْمَل بينهم الإكليل، فيكون الحق فى تركته لأخيه لا لها".
ثم ما دخل رجال الدين النصارى فى السياسة؟ ألم يقل المسيح عليه السلام فى الإنجيل: أعطوا ما لقيصر لقيصر، وما لله لله؟ ألا يقول المسيح لأتباعه بكل قوة وتحمس: "أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ، أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ، بَارِكُوا لاَعِنِيكُمْ، وَصَلُّوا لأَجْلِ الَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ. مَنْ ضَرَبَكَ عَلَى خَدِّكَ فَاعْرِضْ لَهُ الآخَرَ أَيْضًا، وَمَنْ أَخَذَ رِدَاءَكَ فَلاَ تَمْنَعْهُ ثَوْبَكَ أَيْضًا. وَكُلُّ مَنْ سَأَلَكَ فَأَعْطِهِ، وَمَنْ أَخَذَ الَّذِى لَكَ فَلاَ تُطَالِبْهُ. وَكَمَا تُرِيدُونَ أَنْ يَفْعَلَ النَّاسُ بِكُمُ افْعَلُوا أَنْتُمْ أَيْضًا بِهِمْ هكَذَا. وَإِنْ أَحْبَبْتُمُ الَّذِينَ يُحِبُّونَكُمْ، فَأَىُّ فَضْلٍ لَكُمْ؟ فَإِنَّ الْخُطَاةَ أَيْضًا يُحِبُّونَ الَّذِينَ يُحِبُّونَهُمْ. وَإِذَا أَحْسَنْتُمْ إِلَى الَّذِينَ يُحْسِنُونَ إِلَيْكُمْ، فَأَى فَضْل لَكُمْ؟ فَإِنَّ الْخُطَاةَ أَيْضًا يَفْعَلُونَ هكَذَا. وَإِنْ أَقْرَضْتُمُ الَّذِينَ تَرْجُونَ أَنْ تَسْتَرِدُّوا مِنْهُمْ، فَأَى فَضْل لَكُمْ؟ فَإِنَّ الْخُطَاةَ أَيْضًا يُقْرِضُونَ الْخُطَاةَ لِكَى يَسْتَرِدُّوا مِنْهُمُ الْمِثْلَ. بَلْ أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ، وَأَحْسِنُوا وَأَقْرِضُوا وَأَنْتُمْ لاَ تَرْجُونَ شَيْئًا، فَيَكُونَ أَجْرُكُمْ عَظِيمًا وَتَكُونُوا بَنِى الْعَلِىّ، فَإِنَّهُ مُنْعِمٌ عَلَى غَيْرِ الشَّاكِرِينَ وَالأَشْرَارِ. فَكُونُوا رُحَمَاءَ كَمَا أَنَّ أَبَاكُمْ أَيْضًا رَحِيمٌ. وَلاَ تَدِينُوا فَلاَ تُدَانُوا. لاَ تَقْضُوا عَلَى أَحَدٍ فَلاَ يُقْضَى عَلَيْكُمْ. اِغْفِرُوا يُغْفَرْ لَكُمْ. أَعْطُوا تُعْطَوْا، كَيْلًا جَيِّدًا مُلَبَّدًا مَهْزُوزًا فَائِضًا يُعْطُونَ فِى أَحْضَانِكُمْ. لأَنَّهُ بِنَفْسِ الْكَيْلِ الَّذِى بِهِ تَكِيلُونَ يُكَالُ لَكُمْ"؟
لكن القسيس الشفتشى يكذب ويقول إن المسيح كان ثوريا يعتمد أسلوب العقاب الصارم والهجوم العنيف مع الأعداء. نعم يكذب لأنه لو كان المسيح عليه السلام كذلك، وأنا هنا إنما أعتمد على الأناجيل التى يؤمن بها الشفتشى، لكان دافع عن نفسه يومَ وَشَى به يهوذا (شبيه يعقوبَ فى الغدر والخيانة) وعرف أن نهايته قد دنت وأنه لم يبق إليها سوى ساعات قضاها فى الابتهال إليه سبحانه أن يعفيه من شرب تلك الكأس المرة، كأس الصلب والموت. لكنه عليه الصلاة والسلام لم يحاول الدفاع عن نفسه بتاتا، بل ولم يحاول الفرار من أيدى ظالميه وجلاديه واستسلم استسلاما تاما، مكذبا هذا الشفتشى، الذى أُرِيدَ له أن يسبق عصر قساوسة أمريكا اللاتينية دعاة "لاهوت التحرير"، فجاء تصوير شخصيته مضطربا لأن هذا اللاهوت لم يكن قد هل هلاله بعد، بل كان على التاريخ أن ينتظر أكثر من قرن ونصف، علاوة على أن لاهوت التحرير إنما يقوم على الكفاح ضد الاستعمار وغشمه وإجرامه ودنسه وقذاراته لا على الخيانة والغدر والتعاون مع الاستعمار والمستعمرين ضد البلاد والعباد. هذا ما كان من أمر المجرم يعقوب حين كان فى مصر، أما لدن خروج الفرنسيس من بلاد المحروسة فكان لا مناص له من الخروج معهم تحت آباطهم وإلا لقُطِّع قِطَعًا ورميت قِطَعه لكلاب السكك، فتعافها وتشمئز منها ولا تقربها لأنها لحم مسموم مغموس فى عار الغدر والخيانة وكراهية الأوطان.
وأخيرا وليس آخرا ها هو ذا سجل حياة المجرم يعقوب خائن مصر وغدارها كما نقرؤه فى مقال للدكتور عبد الحليم عويس عنوانه "المعلم يعقوب الخائن العميل"، وقد نقلته من المشباك على الرابط التالى: https://www.facebook.com/54231065926...6198808539886/: "ولد يعقوب حنا فى ملوى بصعيد مصر سنة 1745م تقريبًا. وهو ينتمى إلى أسرة قبطية متوسطة الحال، وقد تلقى فى طفولته مبادئ القراءة والكتابة والحساب وحفظ بعض النصوص الدينية المسيحية، وذلك فى أحد الكتاتيب القبطية التى كانت منتشرة بصعيد مصر آنذاك. وشأن كثير من الأقباط احترف يعقوب منذ صباه الباكر حرفة "الكتابة" وتحصيل الأموال وضبط الحسابات، ومن هنا اتصلت أسبابه بالأغنياء وأهل اليسار، وانتهى أمره إلى العمل مع واحد من كبار أثرياء المماليك، وهو سليمان بك أغا.
ومن خلال العمل فى هذا المجال استطاع يعقوب أن يكتسب خبرة واسعة بالشؤون المالية الإدارية ومعرفة عميقة بحياة عموم المصريين وأوضاعهم، كما تمكَّن من جمع ثروة طائلة أورثته شيئًا غير قليل من الغرور والكبرياء، فكان حريصًا على أن يبدو مختلفًا عن الآخرين من بنى جلدته وأبناء طائفته، مُولَعًا بالخروج على مألوف عاداتهم وما دَرَجوا عليه، فكان يخالفهم فى الزى والهيئة وأسلوب الكلام وطريقة الحياة حتى إنه اتخذ امرأة سورية من غير جنسه يتسرى بها بطريقة غير شرعية. ومن مظاهر اختلاف يعقوب عن سائر الأقباط إتقانه بعض مهارات الفروسية وفنونها. وقد اشتهر عنه نزوع إلى القتال والنزال، ومن ذلك أنه حارب بالفعل فى صفِّ المماليك ضد قوات القبطان حسن باشا، التى أرادت تثبيت الحكم العثمانى فى مصر قُبَيْل الغزو الفرنسى بقليل.
المعلم يعقوب ونابليون بونابرت: كان "المعلم يعقوب" حين وصلت الحملة الفرنسية إلى مصر معدودًا من أثرياء القبط وزعمائهم المبرِّزين، سواء فى أقاليم الصعيد أو فى القاهرة، وكان الفرنسيون منذ اللحظة الأولى التى وطئت فيها أقدامهم مصر بحاجة إلى مساعدة الأقباط لأنهم كانوا على دراية كبيرة بشؤون الإدارة المالية: فهم الذين يسجلون الملكية الزراعية، وهم الصيارفة، وهم جُبَاة الضرائب والأموال العامة. وبعبارة أخرى كان الأقباط يحتكرون البيانات الصحيحة بالدخل العام للبلاد، وبالتالى فإن تأمين الوجود المادى للجيش الفرنسى وتوفير الأموال اللازمة لتدبير احتياجاته يتوقف على مساعدة القبط للغزاة ومدى تعاطفهم معهم.
والحق أن بعض الأقباط لم يجدوا حرجًا فى التعاون مع الفرنسيين، ولم يؤرق ضمائرهم أن يكونوا ذراع المحتل الغاضب فى جباية الأموال وتحصيل الضرائب، ومن هنا قَبِل المعلم جرجس الجوهرى أن يكون مسؤولًا عامًّا عن تحصيل الضرائب العقارية، كما قام فى الوقت نفسه بتنظيم الموارد المالية. أما المعلم يعقوب فقد بادر إلى عرض خدماته على الفرنسيين، وكان مخلصًا فى تعاونه معهم بقدر ما كان خائنًا للبلد الذى نشأ فيه والناس البسطاء الذين شبَّ بينهم، سواء كانوا من المسلمين أم القبط المخلصين الذين أَنِفُوا أن يضعوا أيديهم فى يد المحتل الفرنسى. ومهما يكن من أمر فقد وافق نابليون بونابرت على أن يرافق المعلم يعقوب الجنرال ديسيه فى حملته على الصعيد نظرًا لسابق معرفته بأقاليم الصعيد، واطّلاعه على أوضاعها المالية والإدارية. وقد بذل المعلم يعقوب جهودًا مضنية لإنجاح حملة ديسيه، فأشرف على تجهيز ما يلزم الحملة، وأمَّن لها طرق السير، وتوفر على ضبط الشؤون المالية والإدارية للأقاليم المفتوحة، وعمل على التوفيق بين الأوامر الجديدة التى كان يصدرها الجنرال ديسيه والأنظمة القديمة المألوفة فى البلاد.
وكان يعقوب سخيًّا فى مساعدته للفرنسيين أشد ما يكون السخاء، إذ لم يكتف بتوظيف خبرته المالية والإدارية لصالحهم، بل شارك فى العمليات الحربية مشاركة فاعلة تنبئ عن نفسٍ حاقدة على الإسلام والمسلمين. وتقديرًا لحسن بلائه فى المعارك منحه الجنرال الفرنسى سيفًا تذكاريًّا منقوشًا عليه "معركة عين القوصية - 24 ديسمبر 1798م".
المعلم يعقوب والجنرال كليبر: لم يكد يمضى عام على الغزو الفرنسى لمصر حتى أدرك نابليون، بعد الصعوبات الهائلة التى تعرض لها هو وقواته، استحالة تحقيق حلمه فى بناء إمبراطورية فرنسية بالشرق تكون مصر قاعدة لها، ومن ثَمَّ كان بقاؤه فى مصر عبثًا لا نفع من ورائه، فعاد إلى فرنسا فى مطلع أغسطس سنة 1799م تاركًا قيادة الحملة للجنرال كليبر، الذى قام بقمع ثورات المصريين فى وحشية بالغة وقسوة سجَّل المؤرخون كثيرًا من مظاهرها. وكان للمعلم يعقوب دور "قذر" فى قمع الثورة وتعقُّب الثوار والقضاء عليهم حيث تحصن بداره فى الدرب الواسع جهة الرويعى، واستعد استعدادًا كبيرًا بالسلاح والعسكر المحاربين، وتحصن بقلعته التى كان شيدها بعد ثورة القاهرة الأولى.
وقد انضم إلى المعلم يعقوب فى حروبه ضد العثمانيين أو المماليك بعد نقض معاهدة العريش عددٌ من القبط والشوام والأروام. وبعد نجاح كليبر فى إخماد الثورة فرض على المصريين كثيرًا من الأموال عقابًا لهم، وفى الوقت نفسه كافأ المعلم يعقوب على ما قدمه للفرنسيين من ألوان الدعم والمعونة العسكرية بأَنْ سلَّطه على المسلمين يفعل بهم ما يشاء. ومن المؤسف حقًّا أن بعض الأقباط ونصارى الشام، وخاصة من التحق منهم بخدمة الفرنسيين، تطاولوا على المسلمين، وأساؤوا إليهم بالقول والفعل بعد إخماد ثورة القاهرة الثانية. ويشير الجبرتى إلى تعسف الفرنسيين فى تحصيل الأموال التى فرضوها على المصريين منوِّهًا بدور الأقليات المسيحية فى ذلك: "وكل ذلك بإرشاد القبط وطوائف البلاد (أى الأقليات المسيحية) لأنهم هم الذين تقلدوا المناصب الجليلة، وتقاسموا الأقاليم، والتزموا لهم بجمع المال. ونزل كل كبير منهم إلى إقليم، وأقام بسرة الإقليم مثل الأمير الكبير، ومعه عدة من العساكر الفرنساوية، وهو فى أبهة عظيمة، وصحبته الكتبة والصيارفة والأتباع والخدم والفراشون... ويرسل إلى ولايات الأقاليم من جهته المستوفين من القبط أيضًا، ومعهم العسكر من الفرنساوية والصرافين، فينزلون على البلاد والقرى ويطلبون المال والكُلَف الشاقة بالعسف، ويؤجلونهم بالساعات، فإن مضت ولم يوفوهم المطلوب حلَّ بهم ما حل من الحرق والنهب والسلب والسب".
المعلم يعقوب والفيلق القبطى: وكذلك فقد منح الجنرال كليبر المعلم يعقوب رتبة "كولونيل"، وجعله على رأس فرقة عسكرية من شباب القبط كان أمر تدريبهم مَنُوطًا بعدد من الضباط الفرنسيين. ويذكر بعض مؤرخى الأقباط أن المعلم يعقوب هو الذى جهَّز هذا الفيلق القبطى بالسلاح والميرة من ماله الخاص. يقول الجبرتى: "طلبوا (أى الفرنسيون) عسكرًا من القبط، فجمعوا منهم طائفة وزَيَّوْهم بزيهم، وقيدوا بهم من يُعلِّمهم كيفية حربهم ويدربهم على ذلك، وأرسلوا إلى الصعيد فجمعوا من شبابهم نحو الألفين، وأحضروهم إلى مصر وأضافوهم إلى العسكر". ومعنى ذلك أن الفيلق القبطى الذى تزعمه المعلم يعقوب كان عبارة عن فرقة عسكرية مدربة ملحقة بالجيش الفرنسى أُنشئت لمعاونة الفرنسيين فى حربهم ضد المماليك والعثمانيين. والحق أن سياسة الفرنسيين فى تجنيد بعض أبناء الأقليات الدينية فى مصر لم تكن مقصورة على القبط، بل اتسعت دائرتها لتشمل اليونانيين وغيرهم. وقد وقعت هذه السياسة من نفس يعقوب موقعًا حسنًا، وصادفت منه تجاوبًا واهتمامًا. وكما يقول الدكتور أحمد حسين الصاوى "فإن الفرنسيين بخطتهم الاستعمارية ويعقوبَ بأحلامه وتطلعاته التقيا على إرادة واحدة تجسدت فى إنجاز واحد هو تكوين الفيلق القبطى".
وقد أراد الأستاذ شفيق غربال أن يمحو عن المعلم يعقوب وصمة الخيانة للأمة المصرية وخطيئة العمالة للاحتلال الفرنسى، فحاول أن يجعل منه رائدًا للتحديث وداعية من دعاة الاستقلال عن المماليك والعثمانيين جميعًا عن طريق تكوين جيش مصرى مدرب على الطراز الغربى يكون أداة لاستقلال مصر. وهى محاولةٌ لا تقوم على سند صحيح من التاريخ، وتصوُّرٌ يناقض المتواتر من روايات المؤرخين المعاصرين للحملة الفرنسية، سواء كانوا من المصريين أو الفرنسيين أنفسهم. فالمعلم يعقوب، فى ضوء الروايات، قبطى مارق وضع يده فى يد المحتل الفرنسى، وكان حربًا على أمته. وأعجبُ من محاولة الأستاذ غربال تصويرَ يعقوب فى صورة المصرى الوطنى والمناضل الغيور على أمته الحريص على استقلالها غَمْزُه للسيد عمر مكرم بأنه مثال لعالم الدين التقليدى الذى يركن إلى تهييج العامة وإثارة عواطفهم دون وضع قاعدة سليمة للعمل السياسى الدائم. وثالثة الأثافى تقديم المعلم يعقوب الخائن على السيد عمر مكرم العالم المناضل المخلص الذى لا ينكر دورَه الوطنىَّ المجيدَ إلا صاحبُ هوًى. ومهما يكن من أمر فقد مكث المعلم يعقوب بالقاهرة على رأس الفيلق القبطى المساند للاحتلال الفرنسى، المؤيِّد لخططه وبرامجه.
المعلم يعقوب فى عهد منو: ولم يكد كليبر ينجح فى قمع ثورة القاهرة الثانية حتى اغتيل على يد سليمان الحلبى فى 14 يونيو 1800م، فآلت قيادة الحملة إلى جاك منو. وقد ظل المعلم يعقوب فى عهد منو "يؤدى مهمته فى خدمة السلطات الفرنسية، ويتفانى هو وأعوانه فى أداء هذا العمل على حساب أمن المصريين وسلامتهم وحرياتهم وكرامتهم وحرمة بيوتهم وأموالهم". والحق أن تعاون هؤلاء الخونة مع الفرنسيين لم يكن نابعًا من مجرد التعصب الدينى فحسب، بل كان يغلب عليه الطمع والأثرة العمياء التى تجرد النفوس من المشاعر الإنسانية الطيبة. وقد واصل هؤلاء تعسفهم فى جمع الأموال التى فرضها الاحتلال الفرنسى على المصريين.
فى عهد منو استمر يعقوب وأعوانه فى تقديم المساعدة العسكرية للفرنسيين حيث قاموا بتحصين القاهرة فى وجه العثمانيين عندما اقتربوا منها للمرة الثانية (مايو 1801م). وفى ذلك يقول الجبرتى: "توكل رجل قبطى يقال له: عبد الله من طرف يعقوب بجمع طائفة من الناس لعمل المتاريس، فتعدى على بعض الأعيان، وأنزلهم من على دوابهم، وعسف وضرب بعض الناس على وجهه حتى أسال دمه، فتشكى الناس من ذلك القبطى...". ومن المؤسف حقًّا أن بعض المسلمين كانوا من أعوان يعقوب فى قهر المصريين وإذلالهم، ويذكر الجبرتى منهم رجلًا يُدعى: مصطفى الطاراتى، وكان من موظفى الإدارة العثمانية ثم التحق بخدمة الفرنسيين. وقد تم القبض عليه وإعدامه فى ميدان باب الشعرية بعد رحيل الحملة الفرنسية. وتقديرًا لإخلاص المعلم يعقوب للفرنسيين وما قدمه لهم من ألوان الدعم والمساندة فقد منحه منو رتبة جنرال فى مارس 1801م.
المعلم يعقوب والأيام الأخيرة للحملة الفرنسية: تحرَّج موقف الفرنسيين نتيجة الضغوط العسكرية التى مارسها عليهم العثمانيون والإنجليز حيث زحف الجيش العثمانى نحو القاهرة، فى حين زحف الجيش الإنجليزى من رشيد بعد أن فرض حصارًا على منو فى الإسكندرية. وزاد من صعوبة الموقف الفرنسى انتشار مرض الطاعون فى صفوف الجند وحصده أرواح كثير منهم، ومن ثَمَّ لم يجد الفرنسيون بدًّا من الدخول فى مفاوضات مع العثمانيين والإنجليز، وهى المفاوضات التى أثمرت عن توقيع اتفاق الجلاء عن مصر.
وقد تضمنت اتفاقية الجلاء مادتين مهمتين تتعلقان بوضع عملاء الفرنسيين ومعاونيهم من قبط مصر وغيرهم إبان فترة الاحتلال، وهاتان المادتان هما: 1- كل من أراد من أهل مصر أيًّا كان دينه أن يصحب الفرنسيين فى عودتهم إلى فرنسا فله ذلك. 2- كل من التحق بخدمة الفرنسيين لا يكون قلقًا على حياته أو ممتلكاته. وهكذا فقد أَمِن على نفسه وماله وعياله كل من تعاون مع الفرنسيين إبان الاحتلال. وقد أصدر الأمير المملوكى إبراهيم بك أمانًا لأكابر القبط، فخرجوا وسلموا ورجعوا إلى دورهم. وقد قرر عدد غير قليل ممن كان يتعاون مع الفرنسيين الرحيل معهم إلى فرنسا، وعلى رأس هؤلاء المعلم يعقوب، الذى خرج بمتاعه إلى الروضة فى صحبة عدد كبير من عسكر القبط، فاجتمعت نساؤهم وأهلهم وتوجهوا إلى القائد الفرنسى بليار يبكون ويرجونه أن يدع هؤلاء القبط الفارين، فوعدهم بليار أن يرسل إلى يعقوب يأمره بألاَّ يجبر من لا يريد السفر معه. ومع ذلك فقد آثر الهجرة إلى فرنسا جمهور غفير من القبط والأروام ونصارى الشام وتجار الإفرنج وبعض المسلمين ممن كانوا يتعاونون مع الفرنسيين، بيد أن الجبرتى يذكر أنه بعد مرور نحو شهر من خروج هؤلاء المهاجرين إلى القاهرة "حضرت جماعة من عسكر القبط الذين كانوا ذهبوا بصحبة الفرنساوية، فتخلفوا عنهم ورجعوا إلى مصر".
ومعنى ذلك أن جزءًا من عسكر الفيلق القبطى التابع للمعلم يعقوب تراجع عن قرار الهجرة وقرر البقاء فى مصر. ومما ساعد على ذلك حرص العثمانيين على تكرار المناداة بالأمان وإشاعة جو من التسامح والتجاوز عن الماضى وبدء صفحة جديدة فى العلاقات بين مختلف طوائف السكان. وكان العثمانيون يهدفون من وراء هذه السياسة إلى اكتساب تأييد أهل مصر جميعًا، ومنع وقوع أى منازعات طائفية تضرُّ بأمن البلاد. ويذكر الجبرتى أنه بعد مرور شهر من توقيع اتفاقية الجلاء عن القاهرة "نُودِى بألَّا أحد يتعرض بالأذية لنصرانى ولا يهودى، سواء كان قبطيًّا أو روميًّا أو شاميًّا، فإنهم من رعايا السلطان، والماضى لا يعاد". ولم تكن إذاعة هذا الأمان مقصورة على القاهرة، ولكنها شملت عددًا من أقاليم الوجه البحرى والقبلى، وهو الأمر الذى سمح للأقباط بالعودة مرة أخرى إلى مزاولة وظائفهم الإدارية والمالية.
أما المعلم يعقوب فلم يتراجع عن قرار الهجرة إلى فرنسا، وقد رافقه من أسرته والدته وزوجته وابنته وأخوه حنين وابن أخته غبريال. ومن الجدير بالذكر أن السلطة العثمانية أرسلت إلى القائد الفرنسى بليار تطلب منه أن يحاول إقناع المعلم يعقوب بالبقاء فى مصر لتنتفع بخبراته المالية والإدارية، ولكن المعلم يعقوب رفض البقاء رفضًا قاطعًا لأنه خشى أن تكون دعوة العثمانيين له بالبقاء مؤامرة قد تودى بحياته جزاء خيانته لوطنه وأمته إبان الاحتلال الفرنسى. وفى العاشر من شهر أغسطس أبحرت السفينة الفرنسية بالاس تحمل على متنها، فيمن تحمل، المعلم يعقوب ورفاقه. وبعد إقلاعها بيومين نزل عقاب السماء بالخائن يعقوب حيث أصيب بحمى شديدة ومات فى عُرْض البحر بعد أربعة أيام. وظلت جثته على ظهر السفينة حتى مرسيليا حيث دفن هناك".