في مقارنة بين مصر وتركيا


أحدهم يقول: أن مصر تم احتلالها 2500 عام بينما تركيا لم تُحتَلّ أبدا لذلك قرارها مستقل وشعبها عظيم صاحب حضارة..


قلت: بعيد عن الشعوب الذي يجب احترامهم وعدم احتقارهم بعنصرية ، وبعيدا عن السياسة وصداعها ودوشتها..لكن ما تقوله غير صحيح، وبرأيي أنه ناتج عن شعور (تتريك) يجتاح الآن بعض الإسلاميين من فرط عشقهم لأردوجان، وبعد موت الرجل تعود ريما لعادتها القديمة..


أولا: الشعب التركي الحالي ليس هو الذي عاش في تركيا القديمة، فبعد سيطرة قبائل بني عثمان أرطغرل التركية على الأناضول بدأوا حملات عسكرية وهجوم ضد سكانها المسيحيين ورثة الإمبراطورية البيزنطية، فطردوا الأرثوذكس لليونان والبلقان وأرمينيا وروسيا حتى اكتملت بتطهير عرقي ضد مسيحيين روما القديمة في بداية القرن العشرين لتخلص تركيا الآن إلى شعب مسلم بنسبة 99%


والعكس صحيح أي أن بعض مسلمي دول الجوار هاجروا لتركيا ليفروا من انتقام المسيحيين لطبيعة حروب تركيا الدينية في القرون الوسطى ، أي أن جذور الشعب التركي الحالي خليط متنوع من الأرمن واليونان والرومان الذين أسلموا بعد سقوط القسطنطينية والروس والجورجيين والأذريين والفرس والبلقان الذين أسلموا ( وتترّكوا) فترة حروب العثمانيين مع القياصرة والصفويين والقاجاريين، علاوة على جذرهم التركي القادم من آسيا الوسطى وتحديدا من منطقة الإيجور الصينية شرقا حتى مناطق الأوزبك والتركمان والقوقاز غربا..


ثانيا: تركيا منذ القرن 5 ق. م كانت جزء من الامبراطورية الفارسية بشعب ينحدر من عدة قوميات يونانية ورومانية، اقرأ عن "الثورة الآيونية" عام 499 ق.م هذه كانت في تركيا من اليونان ضد الفرس، يعني مكانش فيه أتراك وقتها..كانت بلاد مملكة ليديا ورثها اليونان بهجرات شرعوا بعدها في الثورة ضد الحكم الفارسي..


ثالثا: الإسكندر الأكبر احتل تركيا في القرن 4 ق. م في سلسلة حروب بينه وبين الفرس ، وبعد 200 عام من غزو الملك قورش الأكبر لتركيا، والمثير إن كلا الملكين احتلوا مصر أيضا لكن حضرتك ذكرت احتلالهم لمصر ولم تذكر احتلالهم لتركيا..


رابعا: مصر في القرآن والعهد الجديد ذكرت بخير ، بينما تركيا ذكرت بطريقة سيئة خصوصا مدينة (ساردس) عاصمة مملكة ليديا الرومانية التي كانت تفعل الشهوات والنجاسات حسب سفر الرؤيا المسيحي، وهذه النقطة ليست دليل تفاضل عندي لا أهتم بها..لكن أذكرها كدليل يؤمن به الإخواني والإسلامجي عموما باعتبار أن تركيا الآن هي أرض الخلافة..علما بأن مدينة ساردس تعرضت لكارثة وتدمير كلي لزلزال أصابها تم تفسيره مسيحيا على أنه انتقام من الرب على فعل المعاصي، وتم اكتشاف أطلالها بداية القرن ال20


خامسا: الاستقلال السياسي والفكري لا يلزمه احتلال بل يلزمه ثقافة قوية معتزة بهويتها، والشعب المصري في هذه قوي جدا لذلك حافظ على ثقافته رغم خضوعه للاحتلال آلاف الأعوام ، وحوائط آثار مصر تشهد أن عاداتهم وأعرافهم وأقوالهم قبل آلاف السنين لا زالت موروثة، بينما الشعب التركي لديه خلل شديد في الهوية حتى أنه لا يعرف، هل ينتمي لأوروبا وحضارتها أم للمسلمين وحضارتهم القديمة؟..وطلب تركيا الآن للانضمام إلى اتحاد أوروبا يشهد على حجم الخلل والحيرة مما انعكس على سياساتهم..مرة تجدهم مع حلف الناتو ضد العرب والمسلمين، ومرة تجدهم مع المسلمين ضد إسرائيل، ومرة تجدهم مع إسرائيل ضد سوريا والعراق...لا موقف واضح لأن الهوية غير واضحة بالأساس..


سادسا: الدولة العثمانية استفادت من هذا التنوع الشديد لشعبها، فالتنوع الثقافي يعني تنوع لغوي وعقلي وروحاني جعلهم أقرب لكل شعب يحتلونه، يعني عندما احتلوا مصر والشام والعراق وشمال أفريقيا والحجاز تقربوا من أعيانها في البداية وشعبها لاحقا..كما عندما احتلوا البلقان فهموهم بحكم الجوار والثقافة المشتركة، القصة لم تكن فقط سلاح..بل تنوع ساعدهم في اختراق كل مجتمع يحتلوه..


قارن بين غزوات العثمانيين والمغول..وكم عاش هؤلاء وهؤلاء، المغول كانوا أقوى لكنهم كانوا شعب واحد صيني تركي فشل في البقاء كما بقي العثمانيين، يعني القصة مش خلافة وتوفيق من الله ونصر رباني سماوي كما يزعم الأتراك والمتأسلمين..بل عوامل مادية واجتماعية ساهمت في بقاء دولتهم 600 عام لم تتوفر لغيرهم بحكم النشأة المختلطة..


سابعا: الدولة العثمانية لم تُنشئ حضارة بل هدمت ما تبقى منها الذي أنجزها المسلمون في العصر العباسي، وتخلف البلاد التي حكموها في كل المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والصحية لأكبر دليل على أن العثماني المحتل كان متخلفا ولا يفهم سوى لغة السيف ليحكم..


ثامنا وأخيرا: الحضارة تقاس بالواقع لا بالماضي مع احتمال بقاء الجذر والهوية للبناء عليها لاحقا، فكما نهضت اليابان بناء على هويتها اليابانية فقط..ستنهض مصر، لكن في المقابل لا أتوقع أن تنهض تركيا ثقافيا لاضطراب الهوية والشخصية التي تعاني منها، والتقدم الاقتصادي الحالي جزء كبير منه أوروبي علماني من جراء الانفتاح..وفي رأيي لو توفر لمصر انفتاحا علمانيا كما أنجزه أتاتورك لتغيرت أحوال مصر المادية..لكن في الثقافة..لا مقارنة