هشام السلامونى " جدلية الفعل والانفعال"


بقلم / سمير الأمير
===

مضت ست سنوات على رحيل الدكتور هشام السلامونى ، لكنه يظل حاضرا فى ذاكرة المثقفين والأدباء من أصدقائه ومحبى إبداعه، ولا أعتقد أن الذاكرة الوطنية ستغفل أبدا عن أمثاله من المبدعين والمفكرين المدافعين عن هويتنا وثقافتنا ،

كان هشام السلامونى رحمة الله عليه كاتبا عظيما مارس كل فنون الكتابة فقد كان شاعرا ومسرحيا وكاتب سيناريوهات للسينما وكان مجيدا فى كل تلك الأشكال الإبداعية ويرجع ذلك بقدر كبير لأن دافعية الكتابة عنده، شكلها بحثه عن نص أكبر من كل النصوص، لقد كان هشام يوظفكل نصوصه الإبداعية لخدمة النص الأعمق والأشمل وهو " نص " الوطن والإنسان" الذي يكتبه الشعراء والمسرحيون والسينمائيون والمهندسون والمدرسون والعمال، إذ آمن هشام السلاموني دائما بالشعب المصري وكان يري أبعد ممانري نحن، بل وكثيرا ما أشفقت علي قلبه وهو يناقش الأصدقاء بحدة تكاد تودي بهأو تودي بالصداقة نفسها ولكنه أبدا لم يخسر صديقا، بل كان يجمع أحباباومريدين كل يوم كصوفي مشدوه بحب بلاده،

لم يكن السلامونى إذن مشغولا بالمنافسات والمباريات بين الشعراء والمسرحيين وكان همه الأوحد أن يعبر بصدق عن رؤاه وأمانيه ولذلك لن يكون مستغربا حين نطالع أشعاره بالعامية أن نجد مراوحة بين شكل القصيدة ( العاميه الفصيحة) كما كتبها الشاعر العظيم فؤاد حداد وبين شكلها الزجلى عند بديع وبيرم ، وإن كان لهشام السلامونى خفة ظله الخاصة وسخريته الجادة أيضا، تماما كما أن لرقته وعذوبته ملامح متفردة تختلف عن كل شعراء العامية من أبناء جيله فقد تميز هشام حتى عن هذا الجيل الذى أخضع الفن للسياسة بأنه فعلها بمهارة بالغة فلم تكن أشعاره جافة وثقيلة على القلب كما يقول العامة من أبناء شعبنا، ولم ينس الدكتور هشام السلامونى أبدا أحدا إلا ذاته ومصالحه وأذكر حكاية طريفة عن انتدابه من التأمين الصحى للثقافة الجماهيرية، ثم انتظاره شهورا دون أن يقبض مرتبا من هنا أو هناك لأنه نسي أن يتمم أوراقه، وأتذكر حضوره ندوة بالمنصورة لمناقشة ديوان صدر لشاعر شاب لإنقاذ الموقف بعد أن اعتذر السيد الدكتور الناقد قبل الندوة بساعات، فاتصل الشاعر الشاب بهشام السلامونى وشرح له الموقف الصعب وكان السلامونى فى طريق العودة من مرسى مطروح للقاهره، فرد هشام " لا تقلق.. سأضع حقيبة السفر فى البيت وأطمئن على الأولاد وأركب الميكروباص.. سأكون عندك فى المنصورة قبل الندوة بوقت كاف ، كان ذلك منذ أكثر من عشرين سنة وكنت أنا كاتب هذه السطور من اتصل به !
لقد كان هشام شاعرا حقيقيا يمارس الانفعال والفعل معا بمعنى أنه لم يكن يعظ بما لا يفعله ولم يكن يفصل بين العام والخاص ولا بين الفن والحياة ولذا جاءت أشعاره العامية متفردة وغير تقليدية ودالة عليه حتى إنك تستطيع أن تنسبها إليه بسهولة لأنك ستراه شاخصا أمامك وأنت تقرأها، ولنتأمل مثلا قصيدته " يوم البياض" التى يقول مطلعها: يوم البياض نزعوا الصور م الحيط/ حسّيت كأنى صورة منزوعه... وما حسيت/ لقيتنى باتكور فى وضع جنينى / وبا اتولد فى دنيا ضلمة وضياع... / من غير هدوم.. ولا لزوم.. ولا بيت/ المهجة زى الصرة مقطوعه/( شجره بلا أوراق ف الصحرا ملطوعه) / مسامير فى زندى... وف كعابى.. وف جبينى/ كان المطر بيرخ ألوان زيت/ ( وملامحى بتضيعها سكينه وعلب معاجين)، سنلاحظ هنا فرادة الصورة وتميزها عبر مخالفتها للمألوف فبياض الحائط الذى من المفترض أن يثير البهجة يبعث الخوف من فقد الملامح، باعتبار أن الصور التى ستنزع لإتمام البياض هى التاريخ ذاته وعندما يفقد الإنسان ملامحه/ تاريخه يصاب بالرعب ويتكور كجنين عاري ملقى على الطرقات بلا أم أو أب، أى بلا هوية، كأنه شجرة عارية فى الصحراء ليس لها ظل ولا فائدة، يمكن فقط أن تصبح عرضة للقطع ولدق المسامير فى كيانها كله، ولعلنا نلحظ روعة التصوير إذ المسامير تدق هنا فى لحم ودم باعتبار الشجرة هى الشاعر ذاته، إن المفردات الصناعية هنا من مسامير وعلب معجون تكتسب معنى قبيحا والصياغة كلها تشكل " رومانسية" ليست وثيقة الصلة بالدفاع عن هدوء الطبيعة أو بساطة الإنسان فقط ولكنها رومانسية تعى أن ما يحدثه الإنسان من أفعال وتاريخ وحوادث تشكل ملامحه لا ينبغى التخلي عنها مقابل صورة بيضاء زائفة جوهرها الموت، أظن أن هذا منحى جديد فى الرومانسية على الأقل عندنا فى الوطن العربي ونستطيع أن نطلق عليه رومانسية الرفض أو إن تجاوزنا قليلا يمكن تسميته بالرومانسية الثورية التى ترى أن اللون الواحد هو تقبيح وليس تجميل حتى لو كان أبيض وهو معنى يقترب من تعبير أمل دنقل فى أوراق الغرفة 8 حين يقول " كل هذا البياض يشيع فى قلبى الوهن/ كل هذا البياض يذكرنى بالكفن / وهو تناص بعيد المنال far fetched ولذا فإن اكتشافه يصبح ممتعا للقارىء الحصيف، ولا يتسع المجال هنا للتعليق على مجمل القصيدة فمعظم القصائد تؤكد على ملامح ودلائل فرادة الصورة الشعرية وتوظيفها عند السلامونى، ويكفى فقط أن نقول أن صورته تكتسب فرادتها ليس فقط من علاقتها المكانية فى النص ولكن أيضا من قدرتها على إثارة الجدل خارجه فى الحياة أولا، ثم جدلها مع النصوص الأخرى للشاعر نفسه وكذلك لمجايليه ولسابقيه، ولعل هشام من شعراء معدودين على رأسهم فؤاد حداد ، تشعر وأنت تقرأ رسائلهم الشعرية للوطن أنهم مسلحون بكل تاريخه ورموزه وهذا سر عنوان قصيدته " الوقت.. وقت النديم " فالعنوان الذى يتكون من ثلاث كلمات فقط يقول الكثير، ألا يعنى أننا بعد مرور أكثر من مائة عام لازلنا بحاجة إلى " النديم"؟ ألا يوحى أيضا بعظمة النديم كأديب وسياسي وشاعر ثورى؟ ألا يُلمح العنوان من طرف خفى إلى حاجتنا ل " النديم " أو غياب من هم على شاكلته ؟ ألا يشي بحسرتنا أيضا على إهمالنا لما كافح النديم من أجله؟ ومع كل ما عُرف عن الدكتور هشام السلامونى من ارتباطه بالحركة الوطنية المصرية وبنضال جيل السبعينيات الذى عبر عنه فى كتابه الشهير " الجيل الذى واجه عبد الناصر والسادات" الذى صدر فى عام 1998، وهو عبارة عن دراسة وثائقية للحركة الطلابية 1968-1977" التى بدأت بمظاهرات الغضب من أحكام الطيران وانتهت بانتفاضة الخبز فى يناير، مع كل ما عُرف عنه، نجده يصرح فى قصيدته وهو يخاطب النديم قائلا / يا عمنا يا نديم يا عظيم/ مصوراتى أنا بمليم/ بيجري ف سيرتك ويهيم / نفسى آخدلك بوظ جبار/، أى أنه يرى نفسه كشاعر وطنى عاجزا عن الإحاطة بجوانب شخصية النديم الفذة باعتباره أيضا يرى نفسه شخصا ضعيفا ( بمليم) مقارنة بالنديم، فأى صور النديم يلتقط الشاعر ليصور عظمة النديم؟ صورة النديم الأدباتى ؟ أم صورة النديم الأستاذ؟ أم النديم الثورى الهارب؟
إن عناوين القصائد عند هشام السلامونى لا تأتى اعتباطا أو مجرد تلخيص لمضامينها بل أحيانا تطغى قوة العنوان على القصيدة نفسها وهو ما يمكن أن يدل على أن العنوان هو الذى أتى بالقصيدة كلها ولنتأمل مثلا عنوان مثل " واحد ميدان المراقبة " بما يحتويه من نقد ومن سخرية و من ملاحة وخفة دم "أولاد البلد "، يقول هشام "/ سبعين سنه للآن... / أمجاد.وحلم. .. ومغالبه/ شيخ حاره.. والعنوان/ واحد ميدان المراقبة /،
وعليك هنا كقارئ أن تراجع التاريخ لتصل للمعنى الذى قصد إليه الشاعر وربما تغير فى عدد السنين بحسب قناعاتك وانتماءاتك وعليك أيضا أن تفسر" المغالبة " كما يحلو لك قهرا أو "غُلبا" وبؤسا ولكنك حتما ستعود إلى جوهر القصيدة الذى أوحى به كلمة " المراقبة"، أننا هنا نعثر على مبرر ندائه على " النديم " فى القصيدة السابقة وندائه على " نجيب محفوظ" فى هذه القصيدة وندائه على مصر كلها ولا سيما حين يقول " اسمك يا حلوة ؟" فترد عليه "/مصر" فيكمل هو قائلا " الشمس طالعة والغروب ع البال/ البنت وقفت والقلوب زلزال/ ونجيب يزغرط فى فؤاده حنين:- شفتوا البنيّه.../ فوق جبينها هلال/ .. الخلق ليه بتبص ف الفناجين؟!!/ هلالها مش تنوه فى فنجالى/ موش حلم أقوالى/ هلالها عالى فى اتساع الجبين.. هلالها للحفارين/ السنبلة فى الجدر مستقبل/ ياللى بتعشق فى الغيطان السنابل"،
ليس غريبا أبدا أن نجد بعد تلك القصائد الشاهقة زجليات بسيطة اعتراضا على اشتراك إسرائيل فى معرض الكتاب ذات عام، أو لإعلان موقف الشاعر من القضايا اليومية فهشام السلامونى كما أسلفت لم يكن مشغولا بنصه هو على فرادته وتميزه وعمقه ولكن كان جل اهتمامه منصبا على نصنا نحن كعرب ومصريين وعل نص نهضتنا ونص مقاومتنا لعدونا ولذلك ليس غريبا أيضا أن من يكتب عن " سعدية النص" ساخرا من نجمات الإغراء والإغواء ببساطة وقفشات أولاد البلد، و ليس غريبا أن يكتب نصا عبقريا بعنوان من " يوميات مخبول" والحقيقة أنها ليست يوميات " مخبول " كما يقول العنوان ولكنها بالأحري " يوميات فيلسوف"، يقول هشام السلامونى فى ورقته الأولى من هذا النص " النيل كأنه النيل.. مفيش اختلاف!!/ حققت فيه وعيونى قلقانه/ عكس لى صورتى... بس ده مش أنا/ عكس صورتكم.. بس مش إنتم !!/ عكس النخيل متقطع الأوصال/ عكس مبانى ومدن شاحبه ومهزوله!! /ومهزوزه وكأنها مبنية ع الزلزال !!
أظن أن الورقة الأولى من قصيدته تلخص المأساة العامة خارج القصيدة فالجغرافيا لم تتغير ولكن نحن الذين تغيرنا، لا أدرى كيف تردنى هذه القصيدة لقصيدته عن " بياض الحائط" هذا البياض الذى طمس ملامحه، إن العلاقات بين كل قصائد الشاعر قوية جدا وهى خصيصة تجعلنا نوقن بصدق مشاعره قبل أن نشرع حتى فى قياس منجزه الابداعى على المستوي الفنى وهو طبعا قد بلغ فيه مبلغا كبيرا، فهشام السلامونى أيضا ناقد مبدع ومثقف شغل نفسه بالبحث الجاد عن نصوص الآخرين بغض النظر عن شهرتهم أو عن الفوائد الناجمة عن الكتابة عنهم لأنه كان يبحث فيهم عن نصه العام الذى أشرنا إليه، ومن ثم لا مجال هنا للحكم على بعض القصائد باعتبارها أقل عمقا من غيرها إذ طابق الكلام دائما مقتضى الحال العام لمن يخاطبهم كما طابق مقتضى حالته حين أراد أن يغوص فى الأعماق ويتأمل الحياة بنظرة الفيلسوف وفى الحالتين كان طبيعيا جدا ومعبرا عن نفسه وعن بلاده بانفعال لا بافتعال، فهشام السلامونى وإن كان ابنا لأستاذ الأدب اليونانى القديم إلا أنه أيضا ابن الحوارى التى عرف فيها أصدقاءه من البسطاء ومن الحالمين بوطن تسوده الحرية والمساواة والتقدم وهو فى كل ذلك شديد الحرص على وطنه وشديد الريبة فى أهداف الغرب ومشاريعه المناهضة لتقدمنا وتنمية بلادنا، يقول هشام ف قصيدة بعنوان " معقوله ! " " الحلم لما غمرنى برعشته وضياه/ فتحت باب أودتى وخرجت معاه/ خرجت زي الوليد بوأوأه وصريخ/ ما تصدقوش اللى انكتب ف التاريخ/ الغرب لما حكاه حكهولنا بالمقلوب !،
إن هشام يختار أن يكتشف تاريخ الوطن عبر تتبع آثار وتراث أبنائه العظام من أمثال نجيب محفوظ وفؤاد حداد ومختار، وكذلك محمود شكوكو ولم لا ألم نقل أن هشام ابن الحارات الشعبية تماما كما أنه ابن أستاذ الجامعة، وكما أفرد لنجيب قصيدة كاملة رغم انه موجود كمفردة فى قصائد كثيرة من قصائد الديوان العامى لهشام السلامونى فإنه بالمثل يخص الفنان " مختار" بقصيدة يقول فيها " مين اللى قال إن الحجر أخرس عويل/ مين اللى قال عنه أصم كمان/ لما الحجر يسمع غنا الأزميل/ بيردد المعنى بألف لسان/ يصبح يزقزق فى الندا نشوان/ ويبات يليل للقمر مواويل.
ومن الجدير بالملاحظة أيضا أنه رغم ما يشاع عن الإبداع العامى المصري من أنه مغرق فى التعبير عن موضوعات محلية فإننا نجد فى أشعار السلامونى اهتماما بالغا بالقضية الفلسطينية وبالبعد القومى وهو فى ذلك ينضم لقبيلة الشعراء المدافعين عن مصريتهم وعروبتهم وفى مقدمتهم فؤاد حداد بالقطع، الذى حوت قصائده إشارات وتناصات وحوارات مع التراث العربى ورموزه على المستوى الفكرى والشعبى، بل وعلى المستوى السياسي فقصائده عن سوريا وفلسطين لا يمكن إغفالها ولذلك ليس غريبا على هشام السلامونى وهو أحد مريدى فؤاد حداد أن يقول عن "وفاء إدريس " و " آيات الأخرس"" كل الشجر طالع وفاء إدريس/ كل الشجر طالع آيات الأخرس/ كل الشجر شهداء.. عروسه وعريس/ طارح لنا يابرتقان متاريس/" وكذلك قصيدة " السنه دى العيد فلسطينى" وقصيدة " قلبى بينزف فى الحصار" التى كتبها عن حصار بيروت من قبل الصهاينة، لقد جسدت قصائد هشام السلامونى كل أحلامنا ومخاوفنا من العالم الجديد الذى يرى العرب من الأمم القديمة كالهنود الحمر وقد عبر بسخرية مرة عن رؤيته للعولمة فى قصيدته البديعة التى يقول فيها " العولمه وشوف يابو همه/ كلمه مجعلصه ومهمه / أولها " عو" وآخرها " لمّه"/ و"العو سام" بقى "عو" لّما / ضرب العراق وأراق دمّه"

لا أريد أن أطيل كثيرا فى التدليل على أن مجمل الإبداع الشعري عند هشام السلامونى يعبر عن قضايا أمته فهذا كلام أصبح مكرورا وربما فقد معناه، وأيضا حتى لا أفرض عليكم رؤيتى التى ربما شكلتها علاقتى به كصديق و صنعها انتماؤنا المشترك لقضية العدالة والتقدم فى مصر والعالم.