هل كان زنديقا؟
هل كتب معارضة للقرآن؟
(كلمة فى عقيدة ابن المقفع)
د. إبراهيم عوض
منذ أكثر قليلا من أسبوعين وصلتنى، على غير انتظار، رسالة مشباكية (إيميل) من الأستاذ ثابت عيد الصديق المصرى المقيم بسويسرا منذ وقت طويل. وكان قد عرّفنى به وعرّفه بى على البعد قبل عدة سنوات صديقنا المشترك المرحوم الدكتور عبد العظيم المطعنى، واتصل بى وقتها الأستاذ عيد من سويسرا مرتين أو أكثر، ثم انقطعت الأمور بيننا، ولم أعد أسمع به إلا حين أقرأ له شيئا هنا أو ههنا... إلى أن وصلتنى منذ أكثر قليلا من أسبوعين، على حين بغتةٍ، الرسالة المشباكية التى ذكرتُها، فعادت الأمور بيننا أقوى من ذى أوّل وصرنا نتراسل يوميا، وكان مما بعث به إلىّ فى إحدى الرسائل مقال كان قد كتبه عن بعض المستشرقين ممن يكيدون للإسلام وينكشون بإبرة فى تاريخ المسلمين بحثا عن القمامات، بل خَلْقًا لها، تاركين الورود، وما أكثرها وأبهجها وأجملها وأعطرها، لا يقربونها ولا يحبون لغيرهم أن يقربها من فرط غرامهم بالقاذورات.

وكان فى المقال المذكور إشارة إلى عبد الله بن المقفع الكاتب الأموى والعباسى المشهور والزندقة التى يُزَنّ بها والتى يحرص بعض المستشرقين على إلصاقها به وبأمثاله متلذذين بإيهام قرائهم أن كبار مفكرى الإسلام وأدبائه كانوا كلهم ملاحدة، عازين ذلك إلى أن دين النبى العربى لا يريح العقول الكبيرة. وسيق الحديث عن ذلك الموضوع وكأن زندقة الرجل أمر مفروغ منه لا يقبل نقضا ولا إبراما. فذكرنى هذا بما قاله طلابى فى كلية التربية بالطائف ذات محاضرة فى أوائل تسعينات القرن المنصرم من أن ابن المقفع زنديق لا يمت للإسلام بصلة. أى أن تحوله إلى الإسلام لم يكن صادقا، بل ظل الرجل فى أعماقه كافرا. فهو إذن كان يتظاهر بالإسلام، على حين ظل، فيما بينه وبين نفسه، على دين قومه القديم كما كان قبلا.
وهم، فى هذا، إنما يرددون ما جاء فى بعض كتب التراث التى ترجمت للرجل. وكان جوابى عليهم أن الاتهام بالزندقة لا يعنى بالضرورة أن المتَّهَم بها زنديق فعلا، إذ ثمة فرق كبير بين توجيه التهمة وبين ثبوتها حقا على من رُمِىَ بها. وزدت فقلت لهم إن ما قرأته لابن المقفع وعنه لا يجعلنى أصدق مثل تلك التهمة. فالرجل يبدو مسلما يبعث إسلامه على الاطمئنان، ولم يُؤْثَر عنه شىء من شأنه أن يشككنا فى عقيدته. كما دار بينى وبينهم وقتها نقاش آخر حول عقيدة الشاعر العباسى بشار بن برد، الذى لم يكن رأيهم فيه أفضل من رأيهم فى ابن المقفع. وهو ما حدانى إلى أن أعكف على شعر الرجل وعلى كل ما وقعتْ يدى عليه من كتب ودراسات تتعلق به وبشعره وشخصيته واعتقاده، وكانت ثمرة ذلك أنْ وضعت كتابا من أربعمائة صفحة عنه خصصت منه فصلا طويلا يبلغ عشرات الصفحات لدراسة عقيدة الشاعر قلبت فيه الأمر على كل وجوهه ولم أترك صغيرة ولا كبيرة إلا فحصتها فحصا دقيقا مرهقا، فتبين لى أن الرجل كان مسلما، وإنْ أخذتُ عليه فى ذات الوقت أنه لم يكن يلتزم فى حديثه فى بعض أمور الدين جانب الجِدّ والوقار، وهذا كل ما هنالك. وقد أوردت أدلة وبراهين وشواهد كثيرة وقوية جدا على صحة ما أقول. وانتهيت إلى الاطمئنان إلى عقيدة الرجل.
وأنا حين أقول هذا لا يخطر لى أبدا على بال أن أُنَصِّب نفسى قَيِّمًا على دين الرجل ومصيره عند ربه، إذ مَنْ أنا أو غيرى حتى نفكر مثل هذا التفكير؟ إنما هى متطلبات البحث الأدبى لا أكثر ولا أقل، فهى مجرد اجتهادات علمية قد تصيب، وقد تخطئ. أما الحقيقة فهى عند الله سبحانه وتعالى. وإذا كنا لا نعرف مصيرنا نحن فهل يمكننا الادعاء بأنا نعرف مصير الآخرين؟ فأرجو من القراء دائما أن يكونوا على ذكر من هذا الذى نقول، منعا لسوء الفهم.
وكنت من قبل قد صنعت نفس الشىء مع المتنبى فاتضح لى أن الرجل مسلمٌ عادىٌّ مثلى ومثل ملايين المسلمين رغم ما لاحظته أحيانا على شعره من الإغراق فى بعض المبالغات التى ينبغى ألا نحمّلها ما لا تحتمل، بل علينا أن نفهمها فى إطار فنه الشعرى. ويجد القارئ هذا الكلام فى كتابى: "المتنبى- دراسة جديدة لحياته وشخصيته". كذلك كنت تناولت المسألة ذاتها فيما يخص الشهرستانى صاحب "الملل والنحل"، إذ كان قد تعرَّض لمثل تلك التهمة، فتبين لى أن إسلام الرجل لا غبار عليه وأنه ليس فى يد متهميه أى دليل على صحة ما يرمونه به فى دينه. ولمن يريد الاطلاع على هذا الموضوع يمكنه أن يقرأه فى الفصل الذى خصصته لذلك المفكر الكبير فى كتابى: "من ذخائر المكتبة العربية".
والحق أننى ما إن قرأت الفقرة التى وردت فى الرسالة المشباكية التى بعث بها إلىّ الأستاذ ثابت عيد حتى انتفضتْ من مكمنها نيتى القديمة التى كنتُ عَقَدْتُها لدراسة هذا الموضوع والتى لم يمنعنى من وضعها موضع التحقيق طوال تلك الأعوام الطويلة سوى أننى لم أستطع العثور فى أى مكان على الرد الذى ألفه القاسم بن إبراهيم من علماء القرن الرابع الهجرى ضد ما قال إنه معارضة من ابن المقفع للقرآن الكريم، والذى نشره المستشرق الإيطالى فى عشرينات القرن الفائت فى روما.
وكأننى هذه المرة كنت مع القَدَر فى تلك القضية على ميعاد، إذ سرعان ما وجدنا الرد المذكور بعد أن انتفضت نيتى لمعالجة الموضوع بعدة أيام قلائل، وعلى يد الأستاذ عيد نفسه، ومن سويسرا حيث وجده فى مكتبة خارج المدينة التى يقطنها، فقامت مكتبة الجامعة فى مدينته باستعارته له من تلك المكتبة الأخرى، فصوره وأرسله لى بالمِصْوار (السكانر)، كل ذلك فى غضون أربعة أيام. وكنت قد شرعت فى القراءة اللازمة للموضوع وكتابة النقاط التى لم تكن تعتمد مباشرة على كتيّب القاسم بن إبراهيم المعروف بـ"ابن طباطبا"، مستعينا مؤقتا بالفقرات التى استقاها د. عبد اللطيف حمزة من الرد المذكور فى كتابه عن ابن المقفع، وبالبحث الذى كتبه المستشرق السويسرى يوسف فان إس بالإنجليزية فى موضوع مشابه، وفيه فقرات أخرى منسوبة إلى ابن المقفع غير التى أوردها د. حمزة يقال إنه قد أنشأها يعارض بها القرآن الكريم. وهذا البحث منشور فى كتاب تذكارى أخرجته الجامعة الأمريكية ببيروت لدن بلوغ د. إحسان عباس الستين من عمره، ووافانى به الأستاذ ثابت مشكورا فى إحدى رسائله المشباكية إلىّ. وحين وصلنى الرد كنت أوشكت على الفروغ من البحث. ثم عكفت مرة أخرى لبضع ليال عليه أَسُدّ ثُغُراتِه فى ضوء ما يشتمل عليه رد القاسم بن إبراهيم، وبعد أن أكرمنى الله بنسخة أخرى من هذا الرد بتحقيق جديد لأحد المصريين أحضرتْها طالبة من طالباتى الناشطات الذكيات المهتمات بالعلم والبحث، وهى الآنسة فاطمة السيد طالبة الدراسات العليا بالكلية، جزاها الله خيرا على تلك اليد الكريمة. فكان هذا البحث الذى بين يدى القارئ الكريم.
والرجل الذى نحاول دراسة التهمة الموجهة إلى عقيدته هو عبد الله بن المقفع الكاتب الأموى العباسى المشهور. وهو من أهل القرن الثانى للهجرة. وُلِد بالبصرة حيث نشأ نشأة عربية وتأثر أيضا بثقافة أُسرته الفارسية. وكان يتقن لغة الفرس ولغة العرب جميعا، ثم أصبح كاتبًا لآل هبيرة فىأواخر العصر الأموى. وعند قيام الدولة العباسية اتصل بعم الخليفة المنصور، عيسى بن على، وأصبح كاتبا لديه ذا حظوة. وتحكى الروايات أن ابن المقفع قال لعيسى بن على ذات ليلة: قد دخل الإسلام في قلبى، وأريد أن أُسْلِم على يدك. فقال له عيسى: ليكن ذلك بمحضر من القواد ووجوه الناس. فإذا كان الغد فاحضر. ثم حضر طعام عيسى عشية ذلك اليوم، فجلس ابن المقفع يأكل ويزمزم على عادة المجوس. فقال له عيسى: أتزمزم وأنت على عزم الإسلام؟ فقال: أكره أن أبيت على غير دين. فلما أصبح أسلم على يده. وابن المقفَّع عَلَمٌ من أعلام الكتاب يتسم إبداعه بقوة الأسلوب وروعة القص والتحليل. ومن أشهر ما وصل إلينا من تراثه الفكرى والأدبى "كليلة ودمنة، والأدب الصغير، والأدب الكبير، ورسالة الصحابة، والدُّرَّة اليتيمة".
فإذا انتقلنا إلى قضيتنا التى عَقَدْنا لها هذا البحث فأول شىء ننظر فيه هو تلك الحكاية التى أشرنا إليها قبل قليل، والتى وردت فى "وَفَيَات الأعيان" لابن خَلِّكان، فهى مثال على الأخبار التى لا تثبت على التمحيص لما فيها من أشياء لا يقبلها المنطق، إذ ما دام الإسلام قد دخل قلب الرجل فمعنى هذا أنه أمسى مسلما، فالإسلام إنما يُعْنَى أولا وقبل كل شىء بالنية، ولا يقف عند الرسوم والأشكال كثيرا. وما دام الرجل قد انتهى إلى أن ما كان عليه من دين أسلافه لم يعد يدخل العقل أو القلب، فكيف يصر على أن يتبع رسومه وشعائره إلى الغد حينما يحضر كبار رجال الدولة وأعيانها، وهو الذى لم يعد مقتنعا به؟ أوَيمكن التصديق بأنّ من دخل الإسلام قلبه (ومن؟ إنه ابن المقفع نفسه، أحد كبار كتاب عصره) يقبل أن يظل متمسكا بديانته الوثنية القديمة ومناسكها على هذا النحو المضحك لأن مولاه آثر أن يؤجل مراسم إعلان إسلامه إلى أن يجتمع عنده كبار رجال الدولة من الغد؟ إن كل ما عرضه عليه عيسى بن على هو تأجيل الإعلان الرسمى لا أكثر، ولم يعرض عليه أن يؤجل دخوله فى الإسلام إلى الصباح، إذ كان ابن المقفع قد صار مسلما وانتهى الأمر بمجرد أن اقتنع بدين النبى العربى كما أكد ذلك لعم الخليفة.
وإذا كان كاتبنا قد عز عليه أن يبيت على غير دين فلم يا ترى لم يسمّ اسم الله على الطعام ويكون قد بات على الإسلام، وهو الدين الذى نوى أن يعلنه على الملإ من غده؟ أقول: على الملإ لا بينه وبين ربه، لأن الأمر بينه وبين ربه قد بات محسوما! إن الطبيعى أن يكون سيره فى نفس الاتجاه الذى نوى أن يمضى فيه كما يقضى المنطق والعقل لا بعكسه. أليس كذلك؟ ثم إذا كانت الزمزمة هى تراطن العلوج على أكلـهم وهم صموت لا يستعملون لسانا ولا شفة، ولكنه صوت يديرونه في خياشيمهم وحلوقهم فيفهم بعضهم عن بعض كما جاء فى "القاموس المحيط"، فلماذا يا ترى زمزم ابن المقفع على الطعام فى تلك الليلة، وليس ثَمَّ ناس على دينه القديم يتفاهم معهم بهذه الزمزمة؟ أتراه كان بعقله خلل؟ لكنْ أمثل ابن المقفع يصاب فى عقله بخلل كهذا، وفى ظرف كهذا، وأمام واحد من كبار رجال الدولة كهذا؟ من هنا فإنى أرفض هذا الجانب من الرواية كما سأرفض أشياء أخرى عن ابن المقفع وإسلامه وزندقته لا تقنع الطفل الصغير رغم ترددها فى عدد من الكتب.
على أن إثارة الريبة فى إسلام الرجل لم تقتصر على هذا الخبر الساذج، بل تجاوزته إلى ما رواه ابن شبة ونقله عنه المرتضَى فى "أماليه"، قال: "حدثني من سمع ابن المقفع، وقد مر ببيت نار للمجوس بعد أن أسلم، فلمحه وتمثل:
يا بيتَ عــاتكةَ الذي أَتَعَـــزَّلُ * حَذَر العِدا، وبكَ الفؤاد مُوَكَّلُ
إني لأمنحكَ الصدودَ، وإنني * قَسَمًا إليك مع الصدود لأَمْيَلُ"
وهو كلام لا وشيجة بينه وبين أى منطق، إذ الرجل قد أسلم من تلقاء نفسه قائلا إن الإسلام دخل قلبه، ولم يضربه أحد على يده. ولقد رأينا عم الخليفة يقترح عليه تأجيل إعلانه الإسلام إلى الغد. ولو كان هناك أدنى شك فى أنه إنما اعتنق الإسلام بناء على حريته المطلقة ولم يجبره مجبر على ذلك لسارع عيسى بن على إلى الإمساك بهذه الفرصة ولم يقترح عليه ذلك المقترَح خشية أن يتراجع فى قراره مثلا. وأمثال ابن المقفع إذا أقدموا على تغيير عقيدتهم فإنهم لا يفعلون هذا إلا بعد تروٍّ وتقليب للأمر على جميع وجوهه، وبخاصة أنه كان يمارس ديانته الأولى بحرية كاملة مثلما كان أبوه يمارسها رغم توليه وظيفة مالية هامة فى الدولة الأموية، ودون أن يفكر أحد فى إكراههما على نبذ ديانتهما.
ليس هذا فحسب، إذ تخبرنا الرواية أن أحدهم قد سمع ابن المقفع وهو يتمثل ببيتى الأحوص لدن مروره ببيت النار. فمن ذلك الرجل يا ترى؟ وكيف سمع ابن المقفع؟ وأين كان وقتها؟ ومن أدراه، لو صدقنا أن ابن المقفع قد استشهد فعلا ببيتى الشاعر الأموى وأنه قد سمعه بأذنيه هاتين اللتين سيأكلهما الدود، بأنه إنما كان يقصد التعبير عن حنينه إلى دينه القديم لا سواه؟ ولماذا لم يفاتحه ذلك المتجسس فيما سمعه منه فيوبخه أو يعاتبه أو يجادله فى الأمر: فإما أقنعه بانحراف موقفه وإما شهّر به وفضحه فى العالمين؟ إن أمرا كهذا من شخص كابن المقفع لا يمكن أن يمر مرور الكرام على ذلك النحو الذى تريد الرواية أن توهمنا به. وبالمناسبة فإن ياقوت الحموى حين ساق هذه الحكاية (فى ترجمة الحسن بن على بن أبى مسلم من كتابه: "معجم الأدباء") قد أضاف فيها أن ابن المقفع "كان من أولاد كسرى"، وهذا ما لا أستطيع أن أتذكر أنى قرأته عند سواه، وإن كان ف. جبرييلى (F. GABRIELI) كاتب مادة "عبد الله بن المقفع" فى "The Encyclopaedia of Islam: دائرة المعارف الإسلامية" (الطبعة الجديدة) قد نص على أنه ذو أصل فارسى نبيل.
والغريب أن يرتب الدكتور شوقى ضيف على خبر تمثُّل ابن المقفع ببيتَىِ الأحوص أن فيه ما قد يشير إلى أنه ظل على ديانته القديمة، وأنه قد مضى ينقلها هى وعقائد الملحدين إلى لغة العرب (انظر كتابه: "العصر العباسى الأول"/ ط16/ دار المعارف/ 509- 510). ثم يضيف الأستاذ الدكتور قائلا إنهم لهذا قد اتهموه بمعارضة كتاب الله كما جاء فى كلام الباقلانى فى كتابه: "إعجاز القرآن"، إذ وصف "الدرة اليتيمة" قائلا إنها كتابان: أحدهما يتضمن حِكَمًا منقولةً، والآخر فى شىء من الديانات، وإن كان قد انتهى إلى أن ابن المقفع لم يترك كتابا يعارض فيه القرآن، وهو ما وصلْنا إليه بعد الفحص والتمحيص كما سيرى القارئ بنفسه.
وهذا كلام الباقلانى بنصه وفصه: "وقد ادعى قوم أن ابن المقفع عارض القرآن. وإنما فزعوا إلى "الدرة اليتيمة"، وهما كتابان: أحدهما يتضمن حكما منقولة توجد عند حكماء كل أمة مذكورة بالفضل، فليس فيها شيء بديع من لفظ ولا معنى. والآخر في شيء من الديانات، وقد تهوَّس فيه بما لا يخفى على متأمل. وكتابه الذي بيناه في الحِكَم منسوخ من كتاب بزرجمهر في الحكمة، فأي صنع له في ذلك؟ وأي فضيلة حازها فيما جاء به؟ وبعد، فليس يوجد له كتاب يَدَّعِى مُدَّعٍ أنه عارض فيه القرآن، بل يزعمون أنه اشتغل بذلك مدة ثم مزق ما جمع واستحيا لنفسه من إظهاره. فإن كان كذلك فقد أصاب وأبصر القصد. ولا يمتنع أن يشتبه عليه الحال في الابتداء، ثم يَلُوح له رشده، ويَبِين له أمله، ويتكشف له عجزه. ولو كان بقي على اشتباه الحال عليه لم يَخْفَ علينا موضع غفلته، ولم يشتبه لدينا وجه شبهته. ومتى أمكن أن تَدَّعِيَ الفرس في شيء من كتبهم أنه معجز في حسن تأليفه وعجيب نظمه؟".
وكلام الأستاذ الدكتور، للأسف، يوحى بأن الرجل قد أُجْبِر إجبارا على الإسلام، وهو ما لم يحدث البتة. ثم أين هى تلك الكتب التى ترجمها ابن المقفع من عقائد الفرس الوثنية وأفكار الملحدين رغبة منه أن ينشر الزيغ والضلال بين المسلمين؟ هل يصدق عاقل أن أحدا فى ذلك الوقت كان يجرؤ على نشر الكفر والترويج لديانات فارس الوثنية فى كتب يقرؤها الناس جميعا ثم يسكتون عما فيها؟ إن الكلام ليس عليه ضريبة، والمهم الحجة والوثيقة؟ فأين هذه أو تلك؟ فإذا نظرنا فوق هذا فيما كتب الرجل وألفيناه يكتب كما يكتب المسلمون ويمجد الله كما يمجدونه، بل إذا نظرنا بعد ذلك فألفيناه يثنى على العرب، وهو الفارسى، وكان يستطيع أن يصنع صنيع غيره من الشعوبيين الذين وضعوا الكتب فى ذمّهم وتشويه تاريخهم ورجالهم وتقبيح مفاخرهم لكنه لم يفعل، كان ذلك كله دليلا آخر على أنه كان مسلما صادق العقيدة. أليس كذلك؟
وأغرب من ذلك جميعه أن الأستاذ الدكتور، مَثَلُه مَثَلُ القدماء الذين يوردون فى ترجمة ابن المقفع ما لا يتسق بعضه مع بعض، يعود فيؤكد مثلهم أن ابن المقفع، رغم زندقته، "كان نبيل الخلق وقورا يترفع عن الدنايا ولا يجعل للهوى سلطانا على عقله، وكان يأخذ نفسه بكل ما يمكن من خصال المروءة والشعور بالكرامة". ثم يمضى رحمه الله فينقل ما قيل عن أريحية نفسه وحرصه على مقتضيات اللياقة والذوق والاعتداد بالنفس. فهل يمكن اجتماع مثل تلك السجايا النبيلة مع ما قاله عن نفاقه وخبث طويته؟ الحق أن هذا وذاك لا يمكن أن يجتمعا فى قلب رجل واحد! وبالمثل يُحْكَى عن الأصمعى أنه قد "قيل لابن المقفع: من أدَّبك؟ فقال: نفسي. إذا رأيت من غيري حسنا أتيته، وإن رأيت قبيحا أبيته"، وهو ما لا نجد تعقيبا عليه أفضل مما علقنا به على كلام الدكتور شوقى ضيف.
وهناك رواية أخرى للسياق الذى تمثل فيه ابن المقفع بهذين البيتين أوردها صاحب "الأغانى" خلال ترجمته للأحوص الشاعر الأموى، قال: "وقال الخراز في خبره: حدّثني المدائني، قال: أُخِذ قوم من الزنادقة، وفيهم ابن لابن المقفع، فمُرَّ بهم على أصحاب المدائن. فلما رآهم ابن المقفع خشي أن يسلم عليهم فيُؤْخَذ، فتمثل:
يا بيت عاتكةَ الذي أتعزَّلُ * حَذَرَ العِدا، وبه الفؤاد مُوَكَّلُ
... الأبيات، ففطنوا لما أراد، فلم يسلموا عليه، ومضى". أى أنهم لم يكتفوا بزندقة ابن المقفع، بل أضافوا ابنه إليه فى هذا الانحراف، وزادوا على ذلك تصويره بقساوة القلب وتحجره، فهو لا يبالى بما وقع فيه ابنه من مصيبة، بل كل همه أن يخرج من الأمر سالما. وهو ما يخالف ما كان معروفا عنه من الشجاعة والجرأة واستعداده للتضحية بحياته فى سبيل إنقاذ عبد الحميد الكاتب على ما تحكيه الروايات.
وهذه هى القصة كما نقلها الوطواط فى "غُرَر الخصائص الواضحة وعُرَر النقائص الفاضحة" عن كتاب "الوزراء" للجهشيارى. قال: "إنه لما تفرق الأمر عن مروان بن محمد الجعدي طُلِب عبدُ الحميد بن يحيى كاتبُه، وكان صديقا لعبد الله بن المقفع. ففاجأه الطلب وهما في بيت، فقال الذين دخلوا عليهما: أيكما عبد الحميد؟ فقال كل واحد منهما: "أنا" خوفا أن ينال صاحبَه مكروه. وخَشِىَ عبد الحميد أن يسرعوا إلى ابن المقفع بما يكره، فقال لهم: تثبـَّتوا، فإن في عبد الحميد علامات يُعْرَف بها، فأرسِلوا إلى مرسلكم من يستوصفها منه. فأينا وجدتموها فيه فخذوه. ففعلوا، فوصف لهم عبد الحميد بعلامات اشتمل عليها بدنه، فأُخِذ وحُمِل إلى أبي العباس السفاح، فوَلِيَ عقوبته عبد الجبار بن عبد الرحمن، فكان يحمي له طستا ويضعه على رأسه. فلم يزل يفعل به ذلك حتى مات. وقيل غير ذلك".
وفضلا عن ذلك فإن حكاية تمثُّل ابن المقفع بالبيتين المذكورين حين رأى ابنه مع جماعة من الزنادقة المقبوض عليهم تُقَدِّمه لنا بصورة الأحمق الذى يستر الله عليه فيأبى إلا أن يهتك ذلك الستر، إذ كانت الحصافة تقتضى ألا يفتح فمه على الإطلاق ما دام خوافا إلى حد أن يتجاهل ابنه فى مثل ذلك الموقف العصيب نجاة بنفسه، ولتذهب الدنيا كلها بعد ذلك إلى الجحيم. إلا أن حماقته لا ترضى بأقل من أن تعلن عن موقفه بصوتٍ يسمعه كل من هناك. صحيح أننا نفهم من سياق الكلام أن أحدا لم يفهم عنه ما أومأ إليه إلا المتهمين وحدهم. إلا أن هذه حيلة ساذجة جدا لا تنطلى على أحد ممن يقرأونها. وعلى كل حال من يا ترى أخبر الناس أنه كان يقصد إلى ما تريد الحكاية إقناعنا به ما دام أحد غير المقبوض عليهم لم يفهم عنه ما كان يدور فى نيته؟ لا شك أن القارئ يرى معنا كثرة الثغرات فى تلك القضية برمتها.
ولا يقف التربص بالرجل وبما يقول أو يعمل عند هذا الحد، إذ نقرأ فى "أمالى المرتضى" رواية عن"أحمد بن يحيى ثعلب، قال: قال ابن المقفع يرثي يحيى بن زيــــاد، وقال الاخفش: والصحيح أنه يرثى بها ابن أبى العوجاء:
رُزِئْنـا أبــا عمرو، ولا حيَّ مثلـه * فللـــه ريب الحادثــات بمـن وقــــعْ
فـإن تك قــــد فارقتَنا وتركتَنـــا * ذوي خُلَّةٍ ما في انسدادٍ لها طمعْ
لقــــد جرَّ نفعـــًا فقدُنا لك أننا * أَمِنّا على كل الرزايــــا من الجـــزعْ
قال ثعلب: البيت الاخير يدل على مذهبهم في أن الخير ممزوج بالشر، والشر ممزوج بالخير". أرأيت أيها القارئ كيف تكال الاتهامات دون أدنى مسوغ، بل بعكس كل المسوغات؟ إننا بهذه الطريقة لأَحْرِيَاءُ أن نُورِد الخلق جميعا موارد الجحيم دون أدنى فرصة لإفلات أى إنسان من ذلك المصير المرعب الشنيع. وهل هناك فى الدنيا خير محض أو شر محض تمام التمحُّض؟ إن الرجل، إذا صح أنه هو صاحب البيتين، ليقصد أن ألم فقد ذلك الصديق هو من الشنع بحيث إنه قد أضحى مستعدا لتحمل أى ألم آخر دون أن يبالى، وأن أى ألم بعده لن يكون له تأثير عليه. هذا هو المعنى المراد دون لف أو دوران.
ولنفترض أنه قد قصد ما قالوه، فماذا يا ترى فى هذا المعنى مما يدل على أنه لم يكن مسلما؟ إن الأمور فى حياة البشر نسبية كما نعلم، فماذا فى هذا؟ ونحن نقول مثلا: "مصائب قوم عند قوم فوائد"، فهل فى هذا القول ما يناقض الإسلام؟ وفى القرآن المجيد: "يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ". أم تراهم، أستغفر الله، يشككون فى هذا أيضا؟ ومعلوم أن الإنسان إذا غُمَّ عليه الأمرُ فى حِلِّيّة شىء أو حُرْمَته فإنه يوازن بين منافعه ومضاره، ثم يتخذ قراره بناء على هذه المقايسة، وإلا لكان أكل الميتة مثلا أو شرب الخمر حراما فى كل الأحوال لا مثنوية فيه حتى لو ترتب على هذا موت الشخص جوعا أو عطشا، وهو ما لا يقول به أحد، بل يقول القرآن بعكسه، إذ يجيز ذلك فى حالة الاضطرار إنقاذا لحياة الإنسان. وبالمثل فإن الكذب، وهو من الأمور الحرام، مباح بل قل: إنه واجب فى بعض الحالات التى يترتب على الصدق فيها ضرر شديد، كما فى حالة وقوع المسلم المحارب أسيرا فى يد العدو مثلا، إذ من الواجب عليه فى هذه الحالة ألا يقول الصدق عن أسرار جيش بلاده وما إلى ذلك. وهكذا يتبين القارئ بنفسه كيف أن المتربصين يلوون كل ما يقوله أو يعمله ابن المقفع كى يثبتوا، وهيهات، أنه زنديق!
وقد أورد خليل مردم فى كتابه عن ابن المقفع بيتين شعريين يدوران حول ذات المعنى، ولم ير فيهما أحد من النقاد أو علماء الدين شيئا مما رآه أولئك المتنطسون فى بيتى ابن المقفع: والبيت الأول لأعرابية فى رثاء ابنها، أما الثانى فلأبى نواس عند موت محمد الأمين فى القتال الذى نشب بينه وبين أخيه المامون حول السلطان (خليل مردم بك/ ابن المقفع/ مكتبة عرفة/ دمشق/ 1349هـ- 1930م/ 54). وهأنذا أورد كلا من البيتين فى سياقه الشعرى: قالت أعرابية:
لقد كنت أخشى لو تملَّيْت خشيتي * عليك الليـــــالي مَرَّها وانفتـــالَها
فأمّا وقد أصبحتَ في قبضة الرَّدَى * فشأن المنايا فلْتُصِبْ ما بدا لها
وقال أبو نواس فى محمد الأمين يرثيه:
طَوَى المَوْتُ ما بَيْنى وبَيْنَ مُحَمَّدٍ * ولَيْسَ لما تَطْــــوِى المَنِيَّـــةُ ناشِــرُ
وكُنْتُ عَلَيْهِ أَحْذَرُ المَوْتَ وَحْدَهُ * فلم يَبْقَ لى شَىْءٌ عَلَيْــــه أُحَاذِرُ
لَئِنْ عَمَــرتْ دُورٌ بِمَــنْ لا تُحِبُّـــهُ * لقَدْ عَمَـــرَتْ ممَّنْ تُحِبُّ المَقابِـــــرُ
كذلك فابن المقفع حريص، فى "كليلة ودمنة"، على أن يضفى على الجو والسياق لمساتٍ وشياتٍ إسلاميةً واضحةً: فكثير من عباراتها مقتبَس من القرآن، وأبطالها يؤمنون بالآخرة، ومفهوم الألوهية هو نفسه مفهومه فى دين محمد، والربّ اسمه: "الله"، والدعاء له والقَسَم به يجرى على سنة الدعاء والقَسَم الإسلامى، فضلا عن وجود عدد من العقائد والمفاهيم والمصطلحات الإسلامية الخالصة كالقضاء والقدر والمشيئة الإلهية والآخرة والحساب والإحسان والصلاح والتقوى والصيام والقيام وما إلى ذلك... وقد قلت: "كليلة ودمنة" بالذات لأنها قصص رمزية أبطالها من الحيوان، كما أن بيئتها وثنية، فهى إذن حَرِيَّةٌ ألا يظهر فيها الروح الإسلامى، ومن ثم لا يتوقع القارئ أن يجد فيها شيئا من ذلك، وإلا فمؤلفات ابن المقفع الأخرى إسلامية تماما كما سوف نرى ونلمس ذلك بأنفسنا.
وهذه شواهد من "كليلة ودمنة" على هذا الذى نقول: "فلما سمع بيدبا ذلك من الملك أفرخ رُوعُه وسُرِّىَ عنه ما كان وقع في نفسه من خوفه وكفر له وسجد. ثم قام بين يديه وقال: أول ما أقول لك: أسأل الله تعالى بقاء الملك على الأبد، ودوام ملكه على الأمد"، "رزق الله الملك السعيد أنوشروان من العقل أفضله"، "فالله تعالى يحفظك، ويعينك على ما قدمت له"، "فسجد بروزيه للملك ودعا له، وطلب من الله وقال: أكرم الله تعالى الملك كرامة الدنيا والآخرة، وأحسن عني ثوابه وجزاءه"، "فجزاه الله عنا أفضل الجزاء"، "والله ما في منزلي شيءٌ أخاف عليه"، "وما تجتمع والله هاتان الخلتان على أحدٍ إلا أهلكتاه"، "إن الله تعالى قد جعل لكل شيءٍ حدًّا يوقَف عليه. ومن تجاوز في الأشياء حدها أوشك أن يلحقه التقصير عن بلوغها. ويقال: من كان سعيه لآخرته ودنياه فحياته له وعليه"، "يجب على العاقل أن يصدق بالقضاء والقدر، ويأخذ بالحزم، ويحب للناس ما يحب لنفسه"، "وأضمرتُ في نفسي ألا أبغي على أحدٍ، ولا أكذّب بالبعث ولا القيامة ولا الثواب ولا العقاب، وزايلت الأشرار بقلبي، وحاولت الجلوس مع الأخيار بجهدي، ورأيت الصلاح ليس كمثله صاحب ولا قرينٌ، ووجدت مكسبه إذا وفّق الله وأعان يسيرا، ووجدته لا ينقص على الإنفاق منه، بل يزداد جدةً وحسنًا"، "قال كليلة: خار الله لك فيما عَزَمْتَ عليه"، "ومن يجزي بالخير خيرا وبالإحسان إحسانا إلا الله؟"، "قالوا في شأن الصالحين: إنهم يُعْرَفون بسيماههم. وأنتم معاشرَ ذوي الاقتدار، بحسن صنع الله لكم وتمام نعمته لديكم، تعرفون الصالحين بسيماهم وصورهم"، "أحمد الله تعالى حيث لم يمت كليلة حتى أبقى لي من ذوي قرابتي أخًا مثلك. فإني قد وثقت بنعمة الله تعالى وإحسانه إليّ فيما رأيتُ من اهتمامك بي ومراعاتك لي"، "أريد من إنعامك أن تنطلق إلى مكان كذا فتنظر إلى ما جمعته أنا وأخي بحيلتنا وسعينا ومشيئة الله تعالى فتأتيني به"، "إن الله تعالى جعل الدنيا سببا ومصداقا للآخرة لأنها دار الرسل والأنبياء الدالّين على الخير الهادين إلى الجنة الداعين إلى معرفة الله تعالى"، "آمركما بتقوى الله وألا تطلبا إلا الحق"، "ولكن عندي من الرأي والحيلة غير القتال ما يكون فيه الفرج إن شاء الله تعالى"، "مَنَّ الله علينا بك مِنَّةً عظيمة"، "وسُرَّ الناسك بذلك فحمد الله تعالى"، "وإنما قِوَام نفسك بعد الله تعالى بملكك"، "ولولا أن الله تعالى تداركني برحمته لكنت قد هلكت وأهلكت"، "إن الذي قوله واحد لا يختلف هو الله الذي لا تبديل لكلماته، ولا اختلاف لقوله"، "فتركتَ رزقك وطعامك وما قَسَم الله لك، وتحولتَ إلى رزق غيرك فانتقصتَه"، "وليس مما خلقه الله في الدنيا مما يمشي على أربع أو على رجلين أو يطير بجناحين شيء هو أفضل من الإنسان"، "اسقه من ماء هذه الشجرة فيبرأ بإذن الله تعالى"، "إن الاجتهاد والجمال والعقل وما أصاب الرجل في الدنيا من خير أو شر إنما هو بقضاء وقدر من الله عزّ وجل"، "أما أصحابي فقد تيقنوا أن الذي رزقهم الله سبحانه وتعالى من الخير إنما هو بقضاء الله وقدره"، "فحمد الله عزّ وجل وأثنى عليه وقال: ..."، "فافهم ذلك أيها الملك، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم"، "فإنه قد قيل: كما تدين تدان. ولكل عمل ثمرة من الثواب والعقاب"، "قال الصِّفْرِد: إن بساحل البحر سِنَّوْرًا متعبدًا يصوم النهار، ويقوم الليل كله"، "قال له الفيلسوف: أيها الملك، عشتَ ألف سنة، ومُلِّكْتَ الأقاليم السبعة، وأُعْطِيتَ من كل شيء سببا، مع وفور سرورك وقرة عين رعيتك بك، ومساعدة القضاء والقدر لك، فإنه قد كمل فيك الحلم والعلم"، "قال الرابع: أَرْوَحُ الأمور على الإنسان التسليمُ للمقادير".
ومن المضحك ما حُكِىَ عن الجاحظ من أن ابن المقفع ومطيع بن إياس ويحيى بن زياد كانوا يُتَّهَمون في دينهم، إذ كانت النتيجة أن الجاحظ قد اتُّهِم هو أيضا فى دينه، فقد قال بعضهم تعقيبا على كلامه: فكيف نسي نفسه؟ الله أكبر! حتى الجاحظ؟ نعم حتى الجاحظ، الذى كان لسانا فصيحا فى الدفاع عن الإسلام والقرآن والرسول، قد اتُّهِم فى دينه. وهذا يبين لنا كيف أننا لا ينبغى أن نأخذ مثل تلك الأحكام والروايات على علاتها فنصدّقها دون أن نمررها على معيار عقولنا. ولقد قرأت فى كتب التراث، كما سبق القول، اتهامات فى الدين لعدد من كبار العلماء والأدباء، فدفعنى هذا إلى دراسة الموضوع فى حالات بشار والمتنبى والمعرى والشهرستانى فلم أجد فيما رُمُوا به وفى البراهين التى سيقت للتدليل عليه أى مقنع. إنما هو كلامٌ طائرٌ يناقض ما أُثِر عن كل منهم من إبداع أو سلوك أو أقوال ومواقف. إن من السهل كل السهل رمى الآخرين فى دينهم، لكن الصعب كل الصعب حقا هو إقامة الحجة على مثل تلك الاتهامات. فما بالنا إذا كان ما نعرفه عن الشخص المتَّهَم يؤكد إيمانه ويعبر على الأقل عن تمسكه بالانتماء إلى دين سيد الأنبياء؟
أما فى كتب ابن المقفع الأخرى فإن الأمر أوضح وأكثر بروزا. وهذه بعض أمثلة. ولنبدأ بــ"الأدب الصغير": "أما بعد، فإن لكل مخلوقٍ حاجةً، ولكل حاجةٍ غايةً، ولكل غاية سبيلا. والله وقّت للأمُور أقدارها، وهيّأ إلى الغايات سبلها، وسبَّب الحاجات ببلاغها. فغايةُ الناسِ وحاجاتهم صلاحُ المعاشِ والمعاد"، "وعلى العاقل أن يذكر الموتَ في كل يومٍ وليلةٍ مرارا، ذكرا يباشر به القلوبَ ويقدعُ الطماح، فإن في كثرةِ ذكر الموتِ عصمةً من الأَشَرِ، وأمانا بإذن الله من الهلعِ. وعلى العاقل أن يحصي على نفسه مساويها في الدين وفي الأخلاق وفي الآدابِ، فيجمع ذلك كله في صدرهِ أو في كتابٍ ثم يُكْثِر عَرْضَه على نفسه ويكلفها إصلاحه، ويوظف ذلك عليها توظيفا من إصلاح الخلةِ والخلتينِ والخلالِ في اليومِ أو الجمعةِ أو الشهرِ"، "وعلى العاقل، ما لم يكن مغلوبا على نفسه، ألا يشغلهُ شغلٌ عن أربعِ ساعاتٍ: ساعةٍ يرفعُ فيها حاجتهُ إلى ربهِ، وساعةٍ يحاسبُ فيها نفسهُ، وساعةٍ يُفْضِي فيها إلى إخوانهِ وثقاته الذين يصدقونه عن غيوبهِ ويصونونه في أمرهِ، وساعةٍ يُخَلِّي فيها بين نفسهِ وبين لذتها مما يحلّ ويجمل، فإن هذه الساعةَ عونٌ على الساعات الأُخَرِ، وإنّ استجمام القلوبِ وتوديعها زيادةُ قوةٍ لها وفضلُ بُلْغَةٍ. وعلى العاقلِ ألا يكونَ راغبا إلا في إحدى ثلاثٍ: تزوُّدٍ لمعادٍ، أو مرمّةٍ لمعاشٍ، أو لذةٍ في غير محرَّمٍ"، "كان يُقال: إنّ الله تعالى قد يأمرُ بالشيء ويبتلي بثقلهِ، وينهى عن الشيء ويبتلي بشهوته. فإذا كنتَ لا تعملُ من الخير إلا ما اشتهيته، ولا تتركُ من الشر إلا ما كرهته، فقد أطلعتَ الشيطان على عورتك، وأمكنتهُ من رمتك، فأوشك أن يقتحم عليك فيما تُحِبّ من الخير فيكرّهه إليك، وفيما تكره من الشر فيحبّبه إليك. ولكن ينبغي لك في حبّ ما تحب من الخير التحاملُ على ما يُسْتَثْقَل منه، وينبغي لكَ في كراهةِ ما تكرهُ من الشر التجنبُ لما يُحَبّ منهُ"، "قد بلغ فضل الله على الناس من السعة وبلغت نعمتهُ عليهم من السبوغ ما لو أن أخسَّهم حظا وأقلهم منه نصيبا وأضعفهم علما وأعجزهم عملا وأعياهم لسانا بلغ من الشكر له والثناء عليه بما خلص إليه من فضله، ووصل إليه من نعمته، ما بلغ له منه أعظمهم حظا وأوفرهم نصيبا وأفضلهم علما وأقواهم عملا وأبسطهم لسانا، لكان عما استوجب الله عليه مقصِّرا وعن بلوغِ غايةِ الشكر بعيدا. ومن أخذ بحظه من شكر الله وحمده ومعرفة نعمه والثناء عليه والتحميد له، فقد استوجب بذلك من أدائه إلى الله القربة عنده والوسيلة إليه والمزيد فيما شكره عليه من خير الدنيا، وحسن ثوابِ الآخرة"، "أفضلُ ما يُعْلَم به علم ذي العلم وصلاحُ ذي الصلاح أن يستصلح بما أوتي من ذلك ما استطاع من الناس ويرغّبهم فيما رغب فيه لنفسه من حب الله، وحب حكمته، والعمل بطاعته، والرجاء لحسنِ ثوابه في المعادِ إليه، وأن يبينَ الذي لهم من الأخذ بذلك والذي عليهم في تركه، وأن يورث ذلك أهله ومعارفه ليلحقه أجره من بعد الموتِ. الدينُ أفضل المواهبِ التي وصلت من الله إلى خلقهِ، وأعظمها منفعةً، وأحمدُها في كل حكمةٍ. فقد بلغ فضل الدين والحكمة أن مُدِحا على ألسنةِ الجهال على جهالتهم بهما وعماهُم عنهما"، "فَصْلُ ما بين الدينِ والرأي أن الدين يسلم بالإيمان، وأن الرأي يثبتُ بالخصومةِ. فمن جعل الدين خصومةً فقد جعل الدين رأيا، ومن جعل الرأي دينا فقد صار شارعا. ومن كان هو يشرعُ لنفسهِ الدينَ فلا دين لهُ"، "مما يدل على معرفةِ الله وسبب الإيمان أن يوكل بالغيبِ لكل ظاهرٍ من الدنيا: صغيرٍ أو كبيرٍ عينا، فهو يُصَرّفه ويحرّكه. فمن كان معتبرا بالجليل من ذلك فلينظر إلى السماء فسيعلم أن لها ربا يُجْرِي فَلَكها، ويُدبّرُ أمرها. ومن اعتبر بالصغير فلينظر إلى حبةِ الخردلِ فسيعرفُ أن لها مدبرا ينبتها ويزكيها ويقدِّرُ لها أقواتها من الأرض والماء، ويُوَقِّتُ لها زمانَ نباتها وزمانَ تهشمها، وأمر النبوةِ والأحلامِ وما يحدثُ في أنفسِ الناسٍ من حيثُ لا يعلمونَ، ثم يظهرُ منهم بالقولِ والفعلِ، ثم اجتماعِ العلماء والجهالِ والمهتدين والضلاّل على ذكر الله وتعظيمه، واجتماعِ من شك في اللهِ وكذّب بهِ على الإقرارِ بأنهم أُنْشِئوا حديثا، ومعرفتهم أنهم لم يُحْدِثوا أنفسهم. فكل ذلك يهدي إلى الله ويدُلّ على الذي كانت منهُ هذه الأمورُ، مع ما يزيدُ ذلك يقينا عند المؤمنين بأنّ الله حقٌّ كبيرٌ ولا يقدرُ أحدٌ على أن يوقن أنه الباطلِ"، "من أراد أن يبصر شيئا من علمِ الآخرة فبالعلم الذي يعرفُ به ذلك، ومن أرداد أن يبصر شيئا من أمر الدنيا فبالأشياء التي هي تدل عليه"، "حياةُ الشيطان تركُ العلمِ، وروحهُ وجسدهُ الجهلُ، ومعدنهُ في أهل الحقدِ والقساوةِ، ومثواهُ في أهل الغضبِ، وعيشهُ في المصارمةِ، ورجاؤهُ في الإصرار على الذنوبِ"، "لا تؤدي التوبةُ أحدا إلى النار، ولا الإصرارُ على الذنوبِ أحدا إلى الجنةِ"، "من استعظم من الدنيا شيئا فبَطِر، واستصغر من الدنيا شيئا فتهاون، واحتقر من الإثم شيئا فاجترأ عليه، واغترَّ بعدوٍّ وإن قَلَّ فلم يحْذَرْه، فذلك من ضياعِ العقلِ"، "السعيدُ يُرَغّبهُ اللهُ في الآخرةِ حتى يقُول: لا شيء غيرها. فإذا هضمَ دنياهُ وزهدَ فيها لآخرتهِ لم يحرمه الله بذلك نصيبه من الدنيا ولم ينقصه من سرورهِ فيها. والشقي يرغّبه الشيطانُ في الدنيا حتى يقول: لا شيء غيرها، فيجعل الله له التنغيص في الدنيا التي آثر مع الخزي الذي يلقى بعدها"، "فضلُ العلمِ في غير الدينِ مهلكةٌ، وكثرةُ الأدبِ في غيرِ رضوانِ الله ومنفعةِ الأخيارِ قائدٌ إلى النارِ".
هذا فى "الأدب الصغير"، والآن إلى بعض ما جاء فى "الأدب الكبير" مما يكشف عن إيمان الرجل ويبرهن أنه أبعد ما يكون عن الزندقة، اللهم إلا إذا كان للزندقة معنى لا نفهمه يدل على عكس ما نعرفه منها: "أصل الأمرِ في الدينِ أن تعتقد الإيمان على الصواب، وتجتنبَ الكبائرَ، وتُؤدي الفريضةَ. فالزم ذلك لزوم من لا غنى له عنهُ طرفهَ عينٍ، ومن يعلم أنهُ إن حُرِمَهُ هلك. ثم إن قدرتَ على أن تجاوز ذلك إلى التفقه في الدين والعبادة فهو أفضلُ وأكمل. وأصلُ الأمرِ في صلاح الجسد ألا تحمل عليه من المآكلِ والمشارب والباهِ إلا خفافا. ثم إن قدرت على أن تعلم جميعَ منافعِ الجسد ومضارّهِ والانتفاع بذلك كله فهو أفضل"، "وأصلُ الأمر في المعيشة ألا تَنِيَ عن طلب الحلالِ..."، "اعلم أن الـملك ثلاثةٌ: ملكُ دينٍ، وملكُ حزمٍ، وملكُ هوى. فأما ملكُ الدينِ فإنهُ إذا أقام للرعيةِ دينهم، وكان دينهم هو الذي يعطيهم الذي لهم ويُلْحِقُ بهم الذي عليهم، أرضاهم ذلك، وأنزل الساخط منهم منزلة الراضي في الإقرار والتسليمِ. وأما ملكُ الحزمِ فإنهُ يقومُ به الأمرُ ولا يسلمُ من الطعنِ والتسخطِ. ولن يضر طعنُ الضعيفِ مع حزمِ القوي. وأما ملكُ الهوى فلعب ساعةٍ ودمار دهرٍ"، "ليعلم الوالي أن الناس على رأيهِ إلا من لا بال لهُ. فليكن للدين والبر والمروءةِ عندهُ نَفَاقٌ فيُكْسِد بذلك الفجورَ والدناءةَ في آفاقِ الأرضِ"، "ليعلمِ الوالي أنكَ لا تستنكفُ عن شيء من خدمتهِ. ولا تَدَعْ مع ذلك أن تقدّمَ إليه القولَ، عند بعضِ حالاتِ رضاهُ وطيبِ نفسهِ، في الاستعفاء من الأعمال التي هي أهلٌ أن يكرهها ذو الدينِ وذو العقلِ وذو العرضِ وذو المروءةِ، من ولاية القتلِ والعذابِ وأشباهِ ذلكَ".
ومن هنا نرانا نختلف مع ف. جبرييلى (F. GABRIELI) كاتب مادة "عبد الله بن المقفع" فى "The Encyclopaedia of Islam: دائرة المعارف الإسلامية" فى زعمه أن كتاب "الأدب الكبير" يخلو تمام الخلوّ من الرحمة والمسحة الدينية. فهذه النصوص خير ردٍّ على ذلك الزعم. وبالمثل نختلف مع كاتب مادة "Mirrors for Princes" فى "Encyclopedia of Arabic Literature: موسوعة الأدب العربى"، الذى نسمعه يردد هذه النغمة فيما يتعلق بهذا الكتاب، قائلا إنه لا يبدو فيه أى عنصر دينى إسلامى، رغم ما رأيناه معا لتوّنا من ظهور الملامح الدينية فيه بوضوح.

كذلك نختلف مع جبرييلى فى قوله إن ابن المقفع قد عمل، من خلال ما ترجمه من الأدب الهندى والفارسى، على تسليط الضوء على كنوز قومه ورد اعتبار دينهم الذى تراجع إلى الظل بعد الفتح الإسلامى لبلاده، وإن بالمستطاع كذلك عَدّه رائدا للشعوبية رغم أنه لم يترك لنا شيئا فى هذا المجال. ذلك أن ابن المقفع نفسه، بإعلانه التحول من دين الأجداد والآباء إلى دين محمد صلى الله عليه وسلم بمحض اختياره التام، هو خير تكذيب لمثل تلك السخافات.
والآن هل من يقول فى المولى جل جلاله هذا الكلام الذى نقلناه من كتب ابن المقفع يمكن أن يكون زنديقا يريد أن يكون الأمر لدين الفرس بدلا من دين التوحيد؟ أم هل من الممكن أن يكون ابن المقفع ممن يكرهون دين محمد، وهو الذى سمى ابنه محمدا وتكنَّى به؟ لقد كانت أمامه منادح فى مئات الأسماء الأخرى، إلا أنه تركها جميعا واجتبى لابنه اسم النبى العربى. أوليس لهذا دلالته التى يصح الاستئناس بها فى سياقنا هذا على الأقل؟ ولقد أكد محمد كرد على أن "صحة الإيمان وحب الإسلام صفتان ماثلتان فى ابن المقفع مهما تقول عليه المتقولون"، وأَنْ "ليس ابن المقفع أول من رُمِىَ بالإلحاد، فتاريخ الفكر الإسلامى يذكر أخبار من وقع اتهامهم بهذه التهمة من نوابغ الأمة، على حين كانوا أعظم أنصار الدين كالجاحظ. وفى القرون التالية اتُّهِم بهذه التهمة عشرات من كبار العلماء، وإن ما كتبوه ليشهد لهم أن أعداءهم ظلموهم فى هذه التهم، وظهر بعد أن عُذِّبوا فى حياتهم أنهم كانوا من المخلصين فى خدمة الدين، وأن أولئك الثرثارين الذين طوتهم الأرض ولا أثر لهم فى دنيا ولا دين كانوا يحسدون أولئك المؤمنين فانتقموا لأنفسهم بأن ضربوهم فى أقدس الأشياء عندهم" (محمد كرد على/ أمراء البيان/ ط3/ دار الأمانة/ 1388هـ- 1969م/ 106- 107).
ومع ذلك كله نقرأ لدى كارا دى فو فى كتابه: "Les Penseurs de l'Islam: مفكرو الإسلام" (Paris, Librairie Paul Gëuthner, 1921, V.1, P. 354). أن "ابن المقفع قد تحول ظاهريا إلى الإسلام، لكنه ظل فى أعماقه مرتبطا بدين آبائه"، وأن "المنصور قد قتله بسبب من تشيعه للعلويين"، وهو سبب لا يمكنه أن يقنع قطة. لماذا؟ لأنه إذا كان وثنيا غير مسلم، فكيف يحب إذن آل بيت النبى، الذى كان كافرا بدينه؟ أليس هذا أمرا بَيِّن البطلان والتناقض؟ وهذا، على كل حال، نص كلام كارا دى فو أسوقه إلى القارئ فى أصله الفرنسى: "'Abdallah ibn el-MokalTa' était perse de naissance et s'appelait Rôzbih; converti extérieurement à l'islam, il resta en son coeur attaché à la foi de ses pères. Il vécut à Basra. En l'an 140 (757), comme il s'était montré favorable à la famille des Alides, le Khalife Mansour le fit mettre à mort".
وبالمثل يجازف طه حسين زاعما أن إسلام ابن المقفع "لم يكن، فيما يظهر، صحيحا ولا خالصا لله، فقد كتب فى الزندقة كتبا كثيرة اضْطُرَّ بعض المسلمين إلى أن يردوا عليها فى ايام المأمون" (من حديث الشعر والنثر/ ضمن المجموعة الكاملة لمؤلفات الدكتور طه حسين/ الشركة العالمية للكتاب/ بيروت/ 5/ 598). لكنْ ما تلك الكتب؟ وأين هى؟ وما الذى تضمنته من زندقة؟ هذا ما لم يُعَنِّ الدكتور طه نفسه بتجليته، فهو يرى أن من حقه إلقاء الحكم دون أن يجشم نفسه عناء إثباته! وفى قسم "الشخصيات" من موقع "Yatinoo" (النسخة الفرنسية)، وتحت عنوان "Ibn Al-Muqaffaنقرأ ما يلى: "Ibn Al Muqaffa n’échappe pas aux envies et accusations, sa conversion en islam est suspecte aux yeux des orthodoxes, une conversion, parait-il, dans le but d’échapper à la mort et se rapprocher des abbassides". ومعناه أن هناك من كان يحقد عليه ويدس له، وأن المسلمين المتشددين لم يكونوا مطمئنين إلى تحوله للإسلام، إذ كانوا يرون أنه كان يهدف من وراء ذلك التحول إلى تجنب الموت واستئناف القرب من العباسيين. ولا أدرى من أين مصدر استقى كاتب المقال هذا الكلام! ذلك أن ابن المقفع لم يكن مهدَّدًا بالقتل حتى يقال إنه أسلم كى يتفاداه. كما أنه لم يكن يعمل لدى الخليفة العباسى ثم أُبْعِد عنه حتى يقال إنه أراد العودة إليه، بل كان عمله لدى أحد أعمام ذلك الخليفة، والأمور بينهما سمنٌ على عسل.
أما فى مادة "al-MuqaffaIbn" بـ"موسوعة اليونيفرساليس: Encyclopedie Universalis " فنقرأ أنه، رغم اعتناقه الإسلام، قد ظل موضع شك. كما كان يؤخذ عليه تعاطفه مع قومه الفرس، إذ كان أبو مسلم الخراسانى والبرامكة وأمثالهما من الفرس يسببون للدولة القلق جراء ما يحوزانه من قوة وكثرة أتباع: "Il se convertit à l'islam et devient alors le précepteur des neveux de ‘Isa Ibn ‘Ali. Malgré cette conversion, l'orthodoxie d'Ibn al-Muqaffa‘ restera suspecte et il se verra toujours reprocher sa sympathie pour la Perse, ce qui n'était pas sans gravité à une époque où des Persans tels que Abu Muslim al-Hurasani, puis les Barmakides devenaient très puissants et nombreux dans un empire arabe naissant".
ولصاحب هذه السطور تجربة عجيبة فى هذا السبيل تستحق أن تُرْوَى، إذ كان يشتغل فى بلد عربى منذ سنوات طويلة، وكان معه فى القسم الذى يعمل فيه بعض الأساتذة من العرب والمصريين، ومن بينهم أستاذ يسبّ الدين ويشخر ولا يذكر أمه إلا بسوأتها ولا يتورع عن ذكر ما يدور بينه وبين زوجته فى أخص خصائص العلاقة بين الرجل والمرأة... وحدث أن كان يُعِدّ بحثا عن الألوان فاقترح عليه صاحب السطور أن يحوله إلى معجم، وساعده فى ذلك كثيرا جدا، إذ دله على عدد من المعاجم العربية المختلفة فى الزراعة والطب والجيولوجيا والكيمياء والفيزياء كان يجهلها جهلا تاما، فضلا عن بعض المعاجم الإنجليزية والفرنسية، شارحًا له كيف يبحث فى كل ذلك عن التعبيرات التى تدور حول الألوان كقولهم: "أعطاه الضوء الأخضر"، و"أضاء المدير النور الأحمر"، و"القرش الأبيض ينفع فى اليوم الأسود"، "قلبه أخضر"، "أرض السواد"... إلخ، وزاد فأعاره ما كان عنده من معاجم بلغة الإنجليز والفرنسيس، وأراه تطبيقيا ما شرحه له نظريا، إلى جانب مراجعته ما نقله من المعاجم الأجنبية لكونه جاهلا فى اللغتين جميعا.
ومع ذلك كله كانت النتيجة أنْ كتب هذا الشخّار النخّار سبّاب الدين إلى إدارة الجامعة التى كانا يعملان بها بذلك البلد العربى وشاية لم يعلم بها صاحبنا إلا بعد أن كان ذلك الواشى قد رجع إلى مصر عقب انتهاء عقده بعام، إذ لم يخبره أحد بالأمر الذى اتضح أن الجميع كانوا على علم به إلا بعد أن تأكدوا أن الجامعة لم تأبه له وأنها، على العكس من ذلك، قد أكرمت صاحب السطور بطريقة ملفوفة فهموها هم ولم يفهمها هو فى حينها لأنه، كما قلت، لم يكن يعلم بما حدث. وكانت الوشاية الغُفْل من التوقيع تقوم على اتهام صاحب البحث بالإلحاد.
والسبب؟ السبب أنه كان قد كتب كتابا عن "مصدر القرآن" فَنَّد فيه بطريقة منهجية عقلانية كل النظريات التى طرحها أعداء الإسلام يفسرون بها الوحى المحمدى: من القول بأنه كان كذابا مخادعا، إلى القول بأنه كان واهما مخدوعا، إلى القول بأنه كان مريضا بمرض عصبى، فكتب فى الفهرست يسلسل النظريات الثلاث قائلا: النظرية الأولى أنه، صلى الله عليه وسلم، كان كذابا مخادعا. النظرية الثانية أنه، صلى الله عليه وسلم، كان واهما مخدوعا... إلخ، فما كان من الشخّار النخّار سبّاب الدين (الذى لم يجد ما يوظف فيه ماله بعد رجوعه إلى بلده غير فتح مطعم كشرى!) إلا أن كتب إلى إدارة الجامعة أن صاحب البحث يكذّب الرسول ويشتمه ويقول إنه كان مخادعا ومخدوعا ومريضا بمرض عصبى، وظن أنهم سوف يأخذون الكتاب من فهرسه دون أن يقرأوه. ولا أريد أن أمضى أبعد من ذلك فى الحكاية، فما يهمنى هنا هو أن الرجل الذى لايترك شيئا يقع فى طريقه من الهجوم على الدين إلا امتشق قلمه وكتب يدافع ويفند منطلقا من حبه لدينه ونبيه يُتَّهم، وعلى يد من؟ على يد شخّار نخّار سبّاب للدين تصفه أم أولاده بالـ"عربجى"، بأنه ملحد!
وعودا إلى موضوعنا نشير إلى أن خليل مردم بك قد ذكر أيضا فى كتابه عن ابن المقفع أنه كان يُعْلِى من شأن العرب لافتا النظر إلى ما أنجزوه فى باب الحضارة والثقافة والسياسة على غير مثال سابق نظرا إلى أنهم كانوا أُمّة أُمِّيّة، إذ قد بلغوا ما بلغوه فى غضون زمن قصير جدا مما لم يقع لأيةأمة من قبل. وهذا هو النص المذكور، وإن لم يذكر مردم من أى كتاب أخذه، وقد يكون أَخَذَه من "العقد الفريد" مع شىء من التصرف البسيط على ما سوف يتضح بعد قليل: "إنّ العرَب حَكمت على غير مِثال مُثِّل لها ولا آثارٍ أُثِرَت. أصحاب إِبل وغنَم، وسكان شَعَر وأَدَم. يَجودُ أحدُهم بقُوتِه، ويتَفضَّل بمَجْهوده، ويُشَارِك في مَيْسوره ومَعْسوره، ويَصِف الشيء بعَقْله فيكون قُدْوَة، ويَفْعَله فَيَصِير حُجّة، ويُحَسِّن ما شاءَ فَيَحْسُن، ويُقَبِّح ما شاء فَيَقْبُح. أَدَّبَتْهُمْ أنْفُسُهم، ورَفعتهم هِممهم، وأعْلتهم قُلوبُهم وأَلْسِنتهم. فمن وَضَع حَقَّهم خَسِر، ومَنْ أنْكَر فضلَهم خُصِم"
وقد أورد أبو حيان التوحيدى فى الليلة السادسة من "الإمتاع والمؤانسة" كلاما لابن المقفع فى هذا الموضوع أكثر تفصيلا، قال: "ثم حضرتُه ليلةً أخرى فأول ما فاتح به (أى الوزير أبو عبد الله العارض الوزير البويهى الذى كتب له أبو حيان هذا الكتاب) المجلس أن قال: أتفضل العرب على العجم أم العجم على العرب؟ قلت: الأمم عند العلماء أربع: الروم، والعرب، وفارس، والهند. وثلاث من هؤلاء عجم، وصعبٌ أن يقال: العرب وحدها أفضل من هؤلاء الثلاثة مع جوامع مآلها، وتفاريق ما عندها. قال: إنما أريد بهذا الفرس. فقلت: قبل أن أحكم بشيء من تلقاء نفسي أروي كلاما لابن المقفع، وهو أصيلٌ في الفرس، عريقٌ في العجم، مفضَّلٌ بين أهل الفضل. وهو صاحب "اليتيمة" القائل: تركت أصحاب الرسائل بعد هذا الكتاب في ضحضاح من الكلام. قال: هات على بركة الله وعونه. قلت: قال شبيب بن شبة: إنا لوقوفٌ في عَرْصَة المربد، وهو موقف الأشراف ومجتمع الناس، وقد حضر أعيان المصر، إذ طلع ابن المقفع، فما فينا أحد إلا هش له وارتاح إلى مساءلته، وسُرِرْنا بطلعته. فقال: ما يقفكم على متون دوابكم في هذا الموضع؟ فوالله لو بعث الخليفة إلى أهل الأرض يبتغي مثلكم ما أصاب أحدا سواكم. فهل لكم في دار ابن برثن في ظلٍّ ممدودٍ، وواقيةٍ من الشمس، واستقبالٍ من الشمال، وترويحٍ للدواب والغلمان، ونتمهد الأرض فإنها خير بساط وأوطؤه، ويسمع بعضنا من بعض فهو أَمَدّ للمجلس، وأَدَرّ للحديث؟ فسارعنا إلى ذلك، ونزلنا عن دوابنا في دار ابن برثن نتنسم الشمال، إذ أقبل علينا ابن المقفع فقال: أي الأمم أعقل؟ فظننا أنه يريد الفُرْس، فقلنا: فارس أعقل الأمم. نقصد مقاربته، ونتوخى مصانعته. فقال: كلا، ليس ذلك لها ولا فيها. هم قوم عُلِّموا فتعلموا، ومُثِّل لهم فامتثلوا واقتدَوْا، وبُدِئوا بأمر فصاروا إلى اتباعه. ليس لهم استنباط ولا استخراج. فقلنا له: الروم. فقال: ليس ذلك عندها، بل لهم أبدانٌ وثيقة، وهم أصحاب بناء وهندسة لا يعرفون سواهما، ولا يحسنون غيرهما. قلنا: فالصين. قال: أصحاب أثاثٍ وصنعة، لا فكر لها ولا روية. قلنا: فالترك. قال: سباعٌ للهِرَاش. قلنا: فالهند. قال: أصحاب وَهْمٍ ومخرقة وشعبذة وحيلة. قلنا: فالزنج. قال: بهائمُ هاملةٌ. فرددنا الأمر إليه. قال: العرب. فتلاحظنا وهمس بعضنا إلى بعض، فغاظه ذلك منا، وامتُقِع لونه، ثم قال: كأنكم تظنون فيّ مقاربتكم! فوالله لوددت أن الأمر ليس لكم ولا فيكم، ولكن كرهت إن فاتني الأمر أن يفوتني الصواب. ولكن لا أدعكم حتى أبين لكم لم قلت ذلك، لأخرج من ظِنّة المداراة وتوهُّم المصانعة. إن العرب ليس لها أوّلٌ تَـؤُمُّه ولا كتابٌ يَدُلّها. أهل بلد قفر ووحشةٍ من الإنس. احتاج كل واحد منهم في وحدته إلى فكره ونظره وعقله، وعلموا أن معاشهم من نبات الأرض، فوسموا كل شيء بسِمَته، ونسبوه إلى جنسه، وعرفوا مصلحة ذلك في رطبه ويابسه، وأوقاته وأزمنته، وما يصلح منه في الشاة والبعير. ثم نظروا إلى الزمان واختلافه فجعلوه ربيعيا وصيفيا، وقيظيا وشتويا. ثم علموا أن شربهم من السماء فوضعوا لذلك الأنواء. وعرفوا تغير الزمان فجعلوا له منازله من السَّنَة. واحتاجوا إلى الانتشار في الأرض فجعلوا نجوم السماء أدلّةً على أطراف الأرض وأقطارها، فسلكوا بها البلاد. وجعلوا بينهم شيئا ينتهون به عن المنكر، ويرغّبهم في الجميل، ويتجنبون به الدناءة، ويحضهم على المكارم، حتى إن الرجل منهم، وهو في فَجٍّ من الأرض، يصف المكارم فما يُبْقِي من نعتها شيئا، ويسرف في ذم المساوىء فلا يقصِّر. ليس لهم كلام إلا وهم يَتَحَاضُّون به على اصطناع المعروف ثم حفظ الجار وبذل المال وابتناء المحامد. كل واحد منهم يصيب ذلك بعقله ويستخرجه بفطنته وفكرته فلا يتعلمون ولا يتأدبون، بل نحائزُ مؤدَّبة، وعقولٌ عارفة. فلذلك قلت لكم: إنهم أعقل الأمم، لصحة الفطرة واعتدال البنية وصواب الفكر وذكاء الفهم. هذا آخر الحديث. قال: ما أحسن ما قال ابن المقفع! وما أحسن ما قصصتَه وما أتيتَ به! هات الآن ما عندك من مسموع ومستنبَط".
وقد ورد الخبر فى "العقد الفريد" لابن عبد ربه الأندلسى بصورة مغايرة بعض الشىء، وفيها نص خليل مردم بحرفه تقريبا: "أبو العَيْناء الهاشميّ عن القَحْذَميّ عن شَبِيب بن شَيبة قال: كنّا وُقوفا بالمِرْبد، وكان المِرْبد مَأْلف الأشرَاف، إذْ أَقْبلِ ابن المًقَفَّع فَبشِشْنا به وبَدَأناه بالسلام، فرَدَّ علينا السلامَ، ثم قال: لو مِلتم إلى دار نيْرُوز وظلها الظَّليل، وسُورها المديد، ونَسِيمها العَجيب، فَعَوَّدْتم أبدانَكم تَمْهِيد الأرْض، وأَرَحتُم دَوابَّكم من جَهْد الثِّقل، فإنّ الذي تَطْلُبونه لن تُفَاتوه، ومهما قضى الله لكم من شيء تَنالوه. فَقَبِلْنا ومِلنا. فلما اسْتَقرّ بنا المكانُ قال لنا: أيّ الأمم أَعْقَل؟ فنظرَ بعضُنا إلى بَعْض، فقُلْنا: لعلَّه أَرَاد أصلَه من فارسِ. قُلنا: فارس. فقال: ليسوا بذلك. إنهم مَلكوا كثيرا من الأرض، ووجَدُوا عظيما من المُلْك، وغَلَبُوا على كَثِير من الخَلق، ولَبِثَ فيهم عَقْد الأمر، فما استَنْبَطوا شيئا بعقولهم، ولا ابتدعوا باقي حِكَم بنفُوسهم. قلنا: فالروم. قال: أصحابُ صَنعة. قلنا: فالصِّين. قال: أصحابُ طُرْفة. قلنا: الهند. قال: أصحابُ فَلسفة. قُلنا: السُّودان. قال: شرُّ خَلْق اللّه. قُلنا: التُّرْك. قال: كلاب ضالّة،. قُلنا: الخزَرُ. قال: بقر سائمة. قلنا: فقُل. قال: العرَب. قال: فَضَحِكنا. قال: أَمَا إنِّي ما أردت مُوافَقَتكم، ولكنْ إذا فاتَنى حظِّي من النِّسْبة فلا يَفُوتني حظِّي منِ المَعْرفة. إنّ العرَب حَكمت على غير مِثال مُثِّل لها، ولا آثارٍ أُثِرَت. أصحاب إِبل وغنَم، وسكان شَعَر وأَدَم. يَجودُ أحدُهم بقُوته، ويتَفضَّل بمَجْهوده، ويُشَارِك في مَيْسوره ومَعْسوره، ويَصِف الشيء بعَقْله فيكون قُدْوَة، ويَفْعَله فَيَصِير حُجّة، ويُحَسِّن ما شاءَ فَيَحْسُن، ويُقَبِّح ما شاء فَيَقْبُح. أَدَّبَتْهُمْ أنْفُسُهم، ورَفعتهم هِممهم، وأعْلتهم قُلوبُهم وأَلْسِنتهم. فلم يزل حِبَاء اللهّ فيهم وحِبَاؤهم في أنْفُسُهم حتى رَفع الله لهم الفَخرِ، وبلغ بهم أشرف الذكر. خَتم لهم بمُلكهم الدُنيا على الدَّهر، وافتتح دينَه وخلافته بهم إلى الحَشرْ، على الخَيْر فيهم ولهم. فقال تعالى: "إنَّ الأرْض لله يُورِثُهَا مَن يَشَاء مِنْ عِبَاده والعَاقبَةُ للمُتَّقِين". فمن وَضَع حَقَّهم خَسِر، ومَنْ أنْكَر فضلَهم خُصِم. ودَفْع الحقِّ باللَسَان أَكْبَتُ للجَنان".
فهل قائل هذا الكلام يمكن اتهامه فى دينه او القول بأنه شعوبى يعمل على تدمير قوة العرب ودولة الإسلام وإعادة عقارب الساعة إلى الوراء؟ ومع هذا فالدكتور محمد نبيه حجاب يشك فى نسبة هذا الكلام إلى ابن المقفع، وإن كان قد أضاف أنه حتى لو ثبتت صحته فإنه لم يقله من قلبه، بل أراد به تملق العرب ليس إلا، أو يكون مجرد أسلوب من أساليب الجدل النظرى لأنه فى الواقع إنما كان يبغض العرب، وإن لم يقدم الدكتور أى دليل على تنقص كاتبنا من شأن العرب سوى أنه ترجم بعض التراث الأدبى الفارسى، إذ يؤكد أنه إنما صنع هذا كى يبين لهم أن قومه أفضل منهم (انظر كتابه: "مظاهر الشعوبية فى الأدب العربى حتى نهاية القرن الثالث الهجرى"/ مكتبة نهضة مصر/ 1381هـ- 1961م/ 408 وما بعدها).
ولدينا أيضا "رسالة الصحابة"، تلك الرسالة التى وجهها ابن المقفع إلى الخليفة المنصور يعرض عليه خطة لإصلاح إدارة الدولة ونظامها القضائى والعسكرى. وسوف ألقى نظرة سريعة عليها لنرى هل فيها شىء يصلح أن يُتَّخَذ مستندا للقول بأنه كان زنديقا؟ لقد قرأت فى مقال على المشباك بعنوان "مراجعات العقل العربي بين الواقع والأمل- قراءة في فكر د. محمد عابدالجابري" لعبدالعزيز بن محمد الوهيبي ما يلى: "في حديث المؤلف (أى د. الجابرى) عن مرحلة التدوين في العصر العباسي أشار إلى ما كتبه ابن المقفعفي رسالته التي سماها:"رسالة الصحابة"حيث يرىفيها، كما يرى محمد أركون، أنها ذات نفس علماني واضح! وحجتهما الوحيدة على ذلك هو أنه لم يستشهد في هذه الرسالة بالقرآن ولا بالحديث ولا بأي عنصر آخر من الموروث الإسلامي! والحقيقة أن القارئ لهذه الرسالة لا يجد ذلك النفس العلماني المزعوم، وإنما غرض ابن المقفع الدعوة لتنظيم الدولة وتوحيد القضاء منعا للاختلاط والاضطراب، وذلك باستخدام سلطة الخليفة دون أي دعوة ظاهرة أو خفية إلىتنحية الشريعة أو تقديم بديل عنها. وهو مطلب لا يوجد أي غبار عليه، ولا يعتبرمطعنا في صاحبه".
هذا ما قاله الأستاذ الوهيبى، وأزيد عليه أنه لا يوجد فى القرآن ولا فى الأحاديث النبوية تلك التفصيلات الإدارية التى عالجها ابن المقفع فى رسالته، ومن ثم فليس على الرجل أى غبار من هذه الناحية. ثم إنه لم يكن فقيها، بل كاتبا من كتاب الدواوين ليس أكثر. ومع ذلك كله نجده منذ مطلع الرسالة مباشرة يستشهد بالقرآن الكريم لدن حديثه عن يوسف بن يعقوب عليه السلام وتولِّيه خزائن مصر. وهناك أيضا قوله تعالى: "ما كنا لنهتدى لولا أن هدانا الله"، علاوة على اقتباسه بعض آيات الذكر الحكيم وصهره إياها فى كلامه. وفوق هذا فما من إشارة أشار بها على المنصور فى رسالته إلا توَّجها بذكر الله وتذكير الخليفة بما أنعم به سبحانه عليه، وهو ما لا يتمشى بأى معنى من المعانى مع دعوى علمانية الرسالة. وهناك كذلك كلامه المتكرر عن تقوى الله وهُدَاه ومصلحة الإسلام والمسلمين، وعن الآخرة ووجوب وضعها فى الاعتبار، وكذلك تعليقه كل شىء على مشيئة الله جل وعلا، وهو ما لا يقول به أو يفكر فيه علمانى. كذلك نراه دائم الحمد له سبحانه فى كل سانحةٍ تسنح. ثم ما قول القارئ فى حديث الرسول التالى الذى استشهد به ابن المقفع وجعله محور نقاش طويل حول الموقف الصحيح الذى ينبغى أن تتخذه الرعية من إمامها، وهو الحديث القائل بأنه "لا طاعة لمخلوق فى معصية الخالق"؟ ليس ذلك فحسب، بل إنه ليدعو إلى التمسك بالسنة والحفاظ عليها نقية صافية. كما أنه، فى دعوته إلى إصلاح نظام القضاء فى الدولة، حريص أشد الحرص على أن يجنب المسلمين الوقوع فى الحرام بسبب اختلاف القضاء بين محلة وأخرى فى المدينة الواحدة. فكيف بالله يزعم زاعم أن الرسالة خِلْوٌ من النَّفَس الإسلامى وأنها علمانية التوجه والصياغة؟
ثم إن كلام ابن المقفع بطول الرسالة وعرضها إنما يدور على الحكم بكتاب الله وسنة رسوله والإلحاح على أن هذه هى مهمة الإمام، فكيف يجرؤ مُدَّعٍ على القول بأن ابن المقفع كان علمانيا فى رسالته؟ وقبل ذلك فالرسالة كلها من أولها إلى آخرها إنما تتقرَّى مصلحة الدولة الإسلامية وترمى إلى إصلاح أمورها فى الإدارة والقضاء وإقامتها على أساس متين يكفل لها المنعة والقوة والاستقرار، مشددا على تولية الصلحاء وأهل الدين أمور الناس. أفيمكن أن يضع علمانى مثل هذا الهدف نصب عينيه؟ وهو فى أثناء هذا يضع السُّنّة وكلام السلف طوال الوقت أمامه يستأنس بهما. ورجل يصنع هذا لا يصلح اتهامه بأنه علمانى، فضلا عن زنديق! ليس ذلك فقط، بل نراه يأسى لانزواء كثير من رجالات أهل البيت الذى ينتسب إليه أمير المؤمنين ومن رجالات قريش والعرب عامة لحساب من ليست له سابقة فى الدين ولا فى الجهاد وما إلى هذا. فكيف بالله يدعى مدّعٍ أن مثل ذلك الرجل كان علمانيا، بَلْهَ زنديقا؟
أما د. محمد نبيه حجاب فيرى فى الرسالة لونا ماكرا من الثورة على النظم القائمة. وبالمثل يفسر دعوة ابن المقفع للخليفة إلى إحسان معاملة جند خراسان بأنها تحيز منه إلى أبناء قومه من أهل فارس (انظر كتابه: "مظاهر الشعوبية فى الأدب العربى حتى نهاية القرن الثالث الهجرى"/ 412 وما بعدها). وبهذه الطريقة يقلب الدكتور حجاب كل محمدة لابن المقفع إلى مذمّة دون استناد إلى أى أساس سوى الشك من أجل الشك ليس غير، ولَىّ الأمور إلى عكس وجهها، والتعويل على الخيال فى أمور لا يصلح فيها الخيال، وافتراض الافتراضات التى لا يعجز أى شخص عن توهمها وتوظيفها لنصرة أفكاره المسبقة. ولْنُشِرْ على سبل التمثيل إلى تفسير الدكتور كلام ابن المقفع عن جند خراسان بأنه إنما يريد من الخليفة تقريب الفرس إليه، إذ يبدو وكأنه لا يعرف أن الدولة العباسية لم تقم أصلا إلا على هذا التقريب، فضلا عن تجاهله ما عبر عنه ابن المقفع من الأسى لانزواء كثير من رجالات أهل بيت أمير المؤمنين ومن رجالات قريش والعرب عامة لحساب من ليست له سابقة فى الدين ولا فى الجهاد! ولقد رأينا الدكتور حجاب يفسر الرسالة بأنها ثورة على النظم القائمة، وكان الأحرى به أن يبصر فيها شجاعة وإقداما واعتزازا بالنفس ورغبة فى إصلاح الأمور، وإلا فهل كان الثوار يلجأون فى تلك العصور إلى كتابة مثل هذه العرائض الإصلاحية، وبخاصة إذا كان هؤلاء الثوار لا يزيدون على شخص واحد لاحول له ولا طول ولا يستمد العزيمة من أحد إلا من الله ومن نفسه، وليس له جماعة سياسية يعتزى إليها ويضع يده فى يدها لتنصره فى المآزق، أو تأخذ بثاره إن عجزت عن دفع الشر عنه وقُتِل رغم أنفها؟ فليدلنا الأستاذ الدكتور إذن على سابقة أو لاحقة لهذا الذى يقول.
ولدينا أيضا إنعام الجندى، الذى لا ينكر "جرأة ابن المقفع فى مواجهة أبى جعفر بآرائه"، إلا أنه لا يستطيع رغم ذلك أن ينفى "صلته بنشاط الفرس وأهدافهم التى لم يكن أبو جعفر ليجهلها أو يغفل عنها. وهذا هو السبب الوحيد فى مقتل الكاتب" (إنعام الجندى/ دراسات فى الأدب العربى/ دار الطليعة للطباعة والنشر/ بيروت/ 42). ومن الواضح أن ما قاله الجندى لا يزيد عن أن يكون رجما بالظنون، وإلا فأين الدليل، أىّ دليل، على ما يقول؟ أما عند د. هاشم مناع ود.مأمون ياسين فقد "عرف ابنُ المقفع تدخُّلَه فى السلطة وصلتَه الوثيقة بالمسؤولين للحصول على أمور دفينة فى نفسه منذ أن كتب العهد لعيسى بن على عم المنصور. وتدخُّله هذا أدى إلى ما لا يُحْمَد عقباه لأن الجنوح مع طرف يؤدى بالضرورة إلى غرز الحزازة فى صدر الطرف الآخر" (د. هاشم مناع ود. مأمون ياسين/ النثر فى العصر العباسى/ دار الفكر العربى/ بيروت/ 1999م/ 43). ومرة أخرى لا دليل على هذا الذى يقول المؤلفان، بل مجرد أحكام مجردة يستطيع أى أحد أن يدلى بمثلها دون أية مشقة. لكن المهم هو الإتيان بالبرهان.
ونصل إلى "الدرة اليتيمة" التى قيل فى بعض الكتب إنها الكتاب الذى عارض به ابن المقفع كتاب الله الكريم. وهى فى الواقع، حسب نشرة صبيح لها بمقدمة من شكيب أرسلان، رسالة "الأدب الكبير"، ولا شىء سواه. والطريف أن ابن المقفع لا يتركنا هنيهة فى عَمَايةٍ من أمرنا بالنسبة إلى ذلك الكتاب. ذلك أنه يسارع فى مفتتحه فيقول إن السابقين يَفْضُلوننا فى كل شىء حتى فى البلاغة. فلو افترضنا مجرد افتراض أنه كان يؤمن بأن النبى هو مؤلف القرآن، على سخف ذلك الافتراض بعدما تبين لنا أن ابن المقفع كان أبعد ما يكون عن الزندقة، لقد كان يكفى أن يكون محمد صلى الله عليه وسلم أسبق منه فى الزمن كى يتفوق عليه فيما يروم أن يقلده فيه طبقا للقانون الذى استخلصه هو من فهمه وعلمه وتجاربه، وهو أن المتقدمين أفضل فى كل شىء من اللاحقين، وأن منتهى علم هؤلاء هو الاقتداء بأولئك واتخاذهم مثلا أعلى ينصبونه أمام أعينهم. ولكأنه كان يكذِّب من يتهمونه بمعارضة القرآن حين نص نصًّا على أن المتقدمين لم يتركوا للمتأخرين مقالا لم يسبقوهم إليه فى الدعوة إلى الله ووعظ العباد ووصف الأخلاق الفاضلة والتزهيد فى الدنيا، وأن ما يكتبه فى رسالته هذه لا يعدو أن يكون إسهاما ضئيلا بالقياس إلى ما وضعه السابقون من جِسَام التآليف. كذلك فأول شىء يتناوله بالكلام هو الدين ورأيه فيه: "أصل الأمرِ في الدينِ أن تعتقد الإيمان على الصواب، وتجتنبَ الكبائرَ، وتُؤَدِّيَ الفريضةَ. فالزم ذلك لزوم من لا غنى له عنهُ طرفهَ عينٍ، ومن يعلم أنهُ إن حرمهُ هلك. ثم إن قدرتَ على أن تجاوز ذلك إلى التفقه في الدين والعبادة فهو أفضلُ وأكملُ".
وفوق ذلك فهو، على مدى تلك الرسالة من أولها إلى آخرها، لا يومئ مجرد إيماء، لا من قريب أو من بعيد، إلى أنه يبغى بها معارضة القرآن، ولا ادعى النبوة ولا حتى الولاية، ولا قدم نفسه إلى الناس بوصفه شخصية دينية على الإطلاق. وهذا هو مربط الفرس، وإلا فكيف نعرف أنه يريد معارضة القرآن؟ لقد قيل شىء من هذا عن كتاب "الفصول والغايات" لأبى العلاء المعرى، لكنى وجدته فى ذلك الكتاب ينافح عن القرآن ذاته منافحة صلبة، فمن ثم أنكرت بكل قوة أن يكون المعرى قد أراد معارضة القرآن وعددت ما اتُّهِم به فى هذا السبيل كلاما فارغا لا يؤبه به. وكم فى الحبس من مظاليم كما يقول المثل العامى المصرى!
ورغم أن أحدا لم يستطع أن يأتينا بشىء من أعمال الرجل وكتاباته تدل على زندقته نجد بعض من كتبوا عنه فى عصرنا يصرون على رميه بالزندقة مثل د. محمد نبيه حجاب وإنعام الجندى وهاشم مناع ومأمون ياسين. ومن هؤلاء أيضا بطرس البستانى، الذى كتب فى ترجمة ابن المقفع فى كتابه: "الأدباء العرب فى الأعصر العباسية" يقول: "فمن هنا يتضح أن زندقة ابن المقفع لا تقوم على دليل من آثاره، وإنما تقوم على أقوال الرواة والمؤرخين. على أنه غير عجيب أن يكون ابن المقفع زنديقا وهو حديث عهد بالإسلام لم يزل يحن إلى ديانته الأولى تلك التى نشأ عليها وانتحلها معظم حياته، وهو لم يُسْلِم إلا حفاظا على كرامته وطمعا فى الشهرة والجاه وتقربا إلى مواليه العباسيين. غير أن أعداءه عجزوا عن إثبات تهمته لأنه اعتصم بالتقية فلم يجاهر بكفره. ولعله كان يتنصل من الكتب التى بث فيها آراء الزنادقة وطُمِسَتْ فلم تصل إلينا. ولو استطاعوا إثبات زندقته لما عمد المنصور إلى اغتياله سرا بل كان مَثَّلَ به على رؤوس الأشهاد". وهو ما يعنى بكل وضوح أن البستانى لم يجد فى الورد عيبا فقال له: "يا أحمر الخدين"! فكأنه يستنّ بالسُّنّة التى تقول: "عنزة ولو طارت"!
ومن بين من رددوا اتهام الرجل بالزندقة من العصر الحديث د. عبد اللطيف حمزة، الذى لم يكتف بذلك، بل زاد فردّ، فى الفصل الذى خصصه فى كتابه عن ابن المقفع لتهمة الزندقة التى قُرِف بها، على من دافع عنه بأن الذين أحصوا مؤلفاته من القدماء لم يذكروها منها الكتاب الذى قيل إنه ألفه لمعارضة القرآن، قائلا إن القدماء لم يكونوا يستوعبون دائما مؤلفات من يترجمون له. إلا أنه لا ينبغى أن نُغْفِل أن الدواعى كلها كانت متوفرة على وجوب ذكر هذا الكتاب، فكيف تفوتنا دلالة سكوت الجميع عن هذا الذكر؟ لقد أشار الجاحظ مثلا إلى أن ابن المقفع كان يُتَّهم بالزندقة، ومع هذا لم يتطرق قلمه إلى الإشارة إلى الكتاب. بل إنه قد نص فى إحدى رسائله على أنه، فى صدر حياته الإبداعية، كان ينحل بعض ما يضعه من كتب لابن المقفع ضمانا لترويجها. أفلو كان لابن المقفع كتاب يهاجم فيه القرآن بهذه الشراسة أكان الجاحظ يذكر هذا عن نفسه؟ بل أكان الجاحظ، وهو الموسوعى الذى لا تفوته فائتة، يهمل الرد على ابن المقفع فى كتاباته التى يدافع فيها عن إعجاز القرآن ويفنِّد من سولت لهم نفوسهم محاولة تقليده؟
فإذا انتقلنا إلى الدكتور شوقى ضيف وجدناه يعزو قتل ابن المقفع إلى الأمان الذى كتبه لعم الخليفة واعتمد فيه تلك الصيغة العنيفة المسيئة للمنصور. بيد أنه يمضى قائلا إنه لا ينفى عنه مع ذلك تهمة الزندقة. والسبب؟ السبب هو أن هذه التهمة قد شهد بها كثيرون من معاصريه ومن جاؤوا بعده. ولكنى أرى أنه لو اجتمعت البشر كلها على مثل تلك التهمة ولم يقدموا لنا دليلا على ما يقولون فاجتماعهم هذا غير مقبول عندى. ولقد فتشت مع القارئ الكريم تصرفات ابن المقفع وما خلَّفه من تراث فكرى فلم نجد شيئا يغمز فى دينه ونيته، بل كل ما صدر عن الرجل ووصل إلينا من سلوكه أو فكره يدل على عكس ما يرمونه به على طول الخط، اللهم إن قيل إنهم قد استطاعوا التدسس إلى ما وراء الحجب حيث تستكنّ الضمائر ورَأَوْا ما تُجِنّه نفسُه هناك من كفر وزندقة. وأَنَّى لهم أو لسواهم ذلك؟ هذا ما لا يمكن أن يكون!
إن بعضهم يؤكد أن ابن المقفع كان ينتهج أسلوب التقية. إلا أنهم للأسف لا يقدمون دليلا على ما يزعمون. كما أنه ليس من المعقول أن يكون متمتعا بحريته كاملة فى التمسك بدين آبائه وأجداده فيأبى إلا أن يتحول ظاهريا إلى الإسلام مع استمراره فيما بينه وبين نفسه على دينه القديم لا لشىء إلا لكى يضيّق على نفسه ما كان واسعا ويوقعها فى الحرج ويُلْجِئها إلى اتباع سبيل التقية المرهق. يقينا إن هذا لا يكون إلا ممن فى عقولهم، والعياذ بالله، خلل. ولم يكن ابن المقفع ممن اختلت عقولهم. وفضلا عن ذلك فإن من يكتب "رسالة الصحابة"، التى وجهها أديبنا ومفكرنا إلى أبى جعفر المنصور، وهو من هو فى شدته وبطشه، فيذكر عيوب الإدارة العباسية ونظام جيشها وقضائها غير متلجلج ولا مجمجم، بل مستخدما فوق ذلك أحيانا ضمير جماعة المتكلمين فى حديثه عن نفسه، لا يمكن أن يكون من أهل التقية!
ومع هذا فمن الدارسين المحدثين من اكتفى بالإشارة إلى ما قيل قديما عن زندقة ابن المقفع دون أن يتخذ موقفا من الموضوع فيؤكد أو ينفى تلك الزندقة. فمثلا نرى الدكتور عمر فروخ، عند ترجمته للرجل فى الجزء الثانى من كتابه: "تاريخ الأدب العربى"، يقول إنه لم يعمَّر طويلا فى الإسلام لأن المنصور قد أمر بقتله بعد ذلك بأعوام قليلة. وهنا يقدّم الأستاذ الدكتور الاحتمالات التالية: أنه قُتِل جَرَّاءَ الزندقة، أو بسبب صيغة الأمان التى كتبها ابن المقفع لعم الخليفة الذى كان قد خرج عليه وانهزم، ولم يشأ أن يسلم نفسه إليه إلا بعد أخذ ضمانٍ مؤكَّدٍ منه بألا يقتله، وهو الضمان الذى صاغه ابن المقفع صياغة رآها المنصورة مسيئة أشد الإساءة، إذ تخرجه فى حالة نقضه للعهد من الملة وتخلعه من دست الحكم وتنفيه عن بنى العباس وتستتبع طلاق زوجاته وعتق عبيده (وغير ذلك مما ذكره الجهشيارى فى "الورزاء والكتاب"، وهو أشد إساءة للخليفة بما لا يقاس، وإن لم يتطرق الدكتور فروخ إليه)، أو أنه قد قصد انتقاد الخليفة والزراية على سياسته بكتابه: "كليلة ودمنة". وبهذا يكون د. فروخ قد خرج من العهدة فأدَّى الاحتمالات المختلفة دون أن يقطع بشىء منها.
أما خليل مردم بك فذكر أنه ما من مترجم تعرض لابن المقفع إلا وروى أنه كان يُرْمَى بالزندقة، وأن الناقلين قد زعموا أنه لم يُسْلِم إلا ابتغاء عَرَض الدنيا وأنه كان يضمر المجوسية، ومن ثم التمسوا للمنصور العذر فى أمره بقتله لأنه أفسد على الناس دينهم. وبعد أن تناول مردم بك كل ما أورده متهِمو ابن المقفع من حجج ونقضها واحدة واحدة مؤكدا أنها كلها أدلة لا يقام لها وزن فى تكفير المؤمن وإخراجه من رِبْقَة الإسلام عاد فقال إنه "ليس من المعقول أن يتفق المترجمون على زندقة ابن المقفع من غير سبب معقول. ولكن ذلك السبب خَفِىَ علىّ فلم أتبيَّنه". ومع ذلك فهو يؤكد أنك مهما تدبرت كلام ابن المقفع فى كتبه المختلفة وتفهمته وقرأت ما بين السطور فإنك لن تجد فيه جملة تنزّ إلى المجوسية بعِرْقٍ أو تضرب على الزندقة بوَتَرٍ، ومهما تأملت أفعاله فلن تلقى فيها ما يقنعك بتلك الزندقة. ومن ثم نراه يبدى حيرته إزاء الكيفية التى استدل بها الناس على زندقته وكيده للإسلام، وإن لم يستبعد أن يكون الرجل زنديقا إن أرادوا أنه كان متهاونا بالفرائض وصحبة المتهمين فى دينهم وأنه كان صاحب تفكير حر.
وقد كنت أُحِبّ لو أن مردم قد مضى فى ذات الطريق التى أداه إليها عقله ومنطقه، وهى حسم تبرئة ابن المقفع ما دام لم يستطع أن يُلْفِىَ شيئا يمكن اتخاذه مُتَّكَأً لاتهامه بالزندقة. لكنه للأسف لم يفعل، وذلك لأنه استبعد أن يُجْمِع القدماء على اتهامه بالزندقة خطأً. أما أنا فلا أتردد لحظة فى تبرئته ما دمت لم أستطع أن أرى فى أعماله أو فى كتاباته أى شىء يسىء إلى إيمانه، بل ما دمت قد وجدت فى هذه وتلك ما يجعلنى أطمئن له، وإلا فيا ضيعة العلم والعقل والمنطق والمنهج إذا كنا بعد هذا كله نصر على اتهام الرجل لا لشىء إلا لأن القدماء قد اتهموه رغم فشلهم فى تقديم دليل واحد على ما اتهموه به. ومع هذا فلا شك أن مردم أفضل من غيره ممن راحوا يرددون كلام القدماء دون أن يقعوا له على شىء يشكّك فى دينه ونيته.
وفى ترجمة ابن المقفع الموجودة فى الجزء الأول من "ضحى الإسلام" يستعرض د. أحمد أمين قضية الزندقة التى رُمِىَ بها الأديب العباسى، فنراه يميل إلى عدم تصديقها لأن الدليل على تلك التهمة غير متوفر كما يؤكد. بل إنه ليرفض أيضا أن يكون الرجل قد عارض القرآن أصلا، مبديا شكه فى صحة الكتاب الذى نُسِب إليه فى هذا السبيل، وكذلك فيما نُسِب إلى أبى القاسم بن إبراهيم (الملقب بابن طباطبا) من الرد على تلك المعارضة. وحجته فى ذلك أن القدماء لم يذكروا لابن المقفع كتابا يعارض فيه القرآن، مثلما لم يذكروا لابن طباطبا شيئا فى الرد على المعارضة المدَّعاة. علاوة على أن السجع الذى صيغت فيه المعارضة المنسوبة للأول والرد المنسوب للأخير لم يكن من سمات أسلوب العصرين اللذين عاش فيهما ابن المقفع وابن طباطبا. فأما بالنسبة إلى الأسلوب الذى صيغت به المعارضة المزعومة فقد لاحظت أنه لا يتسق مع الأسلوب الذى نعرفه لابن المقفع على ما سوف يتضح للقارئ خلال هذه الدراسة التى بين يديه. وأما الشك فى نسبة الرد إلى القاسم بن إبراهيم فقد أكد إمام حنفى عبد الله، محقق الطبعة الجديدة من ذلك الرد، أنه للقاسم حقا دون أدنى ريب، وإن لم يحفل فى ذات الوقت بصحة نسبة المعارضة لابن المقفع أو بعدم صحتها رغم نصه على تأكيد صحتها من قِبَل المستشرق الإيطالى مايكل أنجلو جويدى صاحب النشرة الأولى لها عام 1927م فى روما (انظر تحقيقه لكتاب القاسم بعنوان "نقد المسلمين للثنوية والمجوس مع الرد على ابن المقفع"/ دار الآفاق العربية/ 1420هـ- 2000م/ 67- 68). وفى كل الأحوال فالدكتور أحمد أمين يَكِلُ الأمر فى صدق إسلام ابن المقفع أو كذبه إلى علام الغيوب، وبخاصة أنه قد صار يفصل بيننا وبينه القرون المتطاولة.
والرأى الذى يطمئن إليه القلب هو أن ابن المقفع ليس صاحب المعارضة المذكورة، بل واضعها شخص آخر أراد أن يتخفى وراء اسم الرجل بعد أن مات وشبع موتا، إذ لم نسمع بها إلا من قلم القاسم بن إبراهيم بعد أكثر من قرن، وقد يكون اسم ذلك الرجل أيضا هو "ابن المقفع" على ما سوف أوضح بعد قليل. وليس شىء من هذا بمستغرب، فنَحْل الكتب لغير أصحابها أمر شائع فى جميع الأمم، وبخاصة إذا تشابهت الأسماء. وإذا كان الجاحظ بجلالة قدره قد ذكر أنه هو نفسه فى صدر حياته الإبداعية كان يكتب الكتاب ثم يَنْحَله أحد المشاهير السابقين كابن المقفع كى تشيع ويتقبلها الناس قبولا حسنا، فها هى ذى الأقدار تضع ابن المقفع مرة أخرى فى ذات الموقف، فينسب إليه أحدهم كتابا فى الهجوم على القرآن خوفا على نفسه من الأذى، أو حرصا على إحداث أكبر دوى لترويج الكتاب.
قال الجاحظ: "إني ربما ألَّفْتُ الكتاب المحكم المتقن في الدِّين والفقه والرسائل والسيرة والخطب والخراج والأحكام وسائر فنون الحكمة وأنسبه إلى نفسي، فيتواطأ على الطعن فيه جماعةٌ من أهل العلم بالحسد المركَّب فيهم، وهم يعرفون براعته ونصاعته. وأكثر ما يكون هذا منهم إذا كان الكتاب مؤلفا لملكٍ معه المقدرة على التقديم والتأخير، والحطِّ والرَّفع، والترغيب والترهيب، فإنهم يهتاجون عند ذلك اهتياج الإبل المغتلِمة. فإن أمكنتْهم حيلةٌ في إسقاط ذلك الكتاب عند السيّد الذي أُلِّف له فهو الذي قصدوه وأرادوه، وإنْ كان السيد المؤلَّف فيه الكتاب نحريرا نقابا، ونقريسا بليغا، وحاذقا فطنا، وأعجزتْهم الحيلة، سرقوا معاني ذلك الكتاب وألّفوا من أعراضه وحواشيه كتابا وأَهْدَوْه إلى ملك آخر ومَتُّوا إليه به، وهم قد ذمّوه وثلبوه لـمّا رَأَوْه منسوبا إليّ، وموسوما بي. وربما ألّفتُ الكتاب الذي هو دونه في معانيه وألفاظه فأترجمه باسم غيري وأحيله على من تقدمني عصره مثل ابن المقفع والخليل وسَلْمٍ صاحب بيت الحكمة ويحيى بن خالد والعتّابيّ ومن أشبه هؤلاء من مؤلِّفي الكتب، فيأتيني أولئك القوم بأعيانهم الطاعنون على الكتاب الذي كان أحكم من هذا الكتاب لاستنساخ هذا الكتاب وقراءته عليّ، ويكتبونه بخطوطهم، ويصيِّرونه إماما يقتدون به، ويتدارسونه بينهم، ويتأدّبون به، ويستعملون ألفاظه ومعانيه في كتبهم وخطاباتهم، ويروونه عنيِّ لغيرهم من طلاب ذلك الجنس فتثبت لهم به رياسة، ويأتمُّ بهم قومٌ فيه لأنه لم يترجم باسمي، ولم يُنْسَب إلى تأليفي. ولربما خرج الكتاب من تحت يدي مُحْصَفًا كأنه متن حجرٍ أملس، بمعانٍ لطيفةٍ محكمةٍ، وألفاظ شريفة فصيحة، فأخاف عليه طعن الحاسدين إنْ أنا نسبته إلى نفسي، وأحسد عليه من أهمُّ بنسبته إليه لجودة نظامه وحسن كلامه، فأُظْهِره مُبْهَمًا غُفْلاً في أعراض أصول الكتب التي لا يُعرف وُضّاعها، فينهالون عليه انهيال الرَّمْل، ويستبقون إلى قراءته سباق الخيل يوم الحلْبة إلى غايتها".
ثم إن لدينا سؤالا منطقيا يننظر الجواب ويلح فى طلبه إلحاحا عنيفا صارخا: ترى أين كان ذلك الكتاب طوال مدة قرن؟ هل نزل من السماء بغتة فى عصر القاسم بن إبراهيم بعدما كان قد رفعه الله إثر فراغ ابن المقفع من وضعه فلم يطّلع عليه قبل ذلك أحد، إلى أن جاء القاسم فكانت مشيئة الله أن يفرج عنه وينزله عليه كى يختصه بشرف الانفراد بتخطئته قبل أن تزدحم على مورده الأقلام ولا يكون هناك فرصة له للتميز فى هذا الميدان؟ لقد كان أحرى بمن ترجموا لابن المقفع وذكروا قتله بأمر المنصور وخاضوا فى الحديث عن تهمة الزندقة التى وُجِّهَتْ إليه أن يتناولوا هذه المعارضة بالذكر أول شىء، إذ كانت كفيلة بتسويغ قتله بدلا من الكلام عن العهد الذى يُحْكَى أنه صاغه لتكتيف المنصور فلا يستطيع أن يجد حجة يقتل بها عمه، ذلك العهد الذى لا يسوِّغ اتخاذَه ذريعةً لقتل ابن المقفع مسوِّغ، وبدلا من الإحالة أيضا على ما كان يوجهه إلى والى البصرة الذى نفَّذ فيه أمر المنصور من شتائم تتناول عِرْض أمه.
فإذا نظرنا فى أسلوب المعارضة المزعومة ومحتواها فإننا نلاحظ، أول شىء، تلك التسمية التى افتتحها بها صاحبها، وهى قوله: "باسم النور الرحمن الرحيم"، إذ قد قلّبْتُ "الأدب الكبير" و"الأدب الصغير" و"كليلة ودمنة" و"رسالة الصحابة" فلم أجد ابن المقفع استخدم كلمة "النور" قَطُّ ولا حتى فى معناها اللغوى العادى. أفلو كان ممتلئا بعقيدة النور والظلام الوثنية ويؤمن بأن الله هو النور كما توضح لنا تلك المعارضة التى تمتلئ بهذا اللفظ امتلاءً، أفكان من الممكن أن تخلو مؤلفاته تماما من هذه اللفظة؟
وفوق هذا ألم يكن بمستطاعه أن ينفّس عن عقيدته فى النور والظلام، لو كان حقا يؤمن بمثل تلك العقيدة، من خلال استشهاده بالآيات التى تثنى على النور وتذم الظلام، كقوله تعالى مثلا: "اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35) فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ" (النور/ 36)، "قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ" (الفلق/ 1- 3)، "اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ" (البقرة/ 257)، "يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ" (المائدة/ 15- 16)، "قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ" (الرعد/ 16)، "الـر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ" (إبراهيم/ 1). نعم كان بمستطاعه ذلك، وما أسهله وأبعده عن إثارة اشتباه المسلمين، وأَسَرَّه لقلبه ما دام يحب عقيدته القديمة ويحرص على الدعوة إليها والإشادة بها على هذا النحو المزعوم. لكنه لم يفعل شيئا من هذا ولم يحاوله بأى سبيل، فما دلالة هذا التصرف؟
ومما قاله أيضا كاتب الرسالة عن النور: "اضطرت عظمتُه أعداءه الجاهلين له والعامين عنه إلى تعظيمه. لا يجد الأعمى بُدًّا، مع قلة نصيبه من النهار، أن يسميه: نهارا مضيئا". وهو كلام أربأ بمثل ابن المقفع أن يقوله. ترى هل هناك من يعادى النور؟ فكيف يا ترى؟ وهل يقال عن الأعمى إنه قليل النصيب من النهار؟ إنه لا نصيب له البتة منه. كذلك فإن التركيب التالى حيث يسبق الخبرُ ومعطوفُه النكرتان المبتدأَ المحلَّى بــ"أل" هو أمر غريب تماما على أسلوب ابن المقفع، علاوة على ما فى اسم المفعول: "مُسَبَّح" من غرابة رغم صحة صيغته، إذ لا أذكر أنى قرأته ولا حتى فى الشعر، فما بالنا بالنثر، فما بالنا بنثر ابن المقفع؟ وهذا هو التركيب: "ومسبَّحٌ ومقدَّسٌ النور الذى مَنْ جَهِله لم يعرف شيئا غيره، ومن شك فيه لم يستيقن بشىء بعده". وهل يمكن أن يغيب عن ابن المقفع أو أى إنسان يتمتع بشىء من الفهم أن الأكمه يجهل النور تماما، وهو مع ذلك يعرف ما لا يحصى من الأشياء لمسًا وشمًّا وسمعًا وذوقًا باللسان وشعورًا باطنيًّا وتفكيرا عقليًّا؟ لا لا، هذا لا يمكن أن يصدر عن ابن المقفع ذلك الكاتب الكبير!
ومما لحظته وأنكرته أيضا فى تلك المعارضة المنسوبة للرجل استعمال كلمة "لاشىء" لفظا واحدا، وهى من مصطلحات الفلاسفة والمتكلمين بعد عصر ابن المقفع. ولنقرأ: "وإنما هم لاشىء، ومن لاشىء". وهذا الاستعمال، على كل حال، غير موجود فى كتابات ابن المقفع التى نعرفها له بتاتا. كذلك تذكّرنا العبارات الدينية الجدلية التى تمتلئ بها المعارضة المذكورة بخطب الجمعة وما أشبه، مما لا يعرفه ابن المقفع ولا يشاكل أسلوبه وعقليته، مثل: "هل تعلم يا هذا لم خلق الله الخلق؟"، "إن سألناك يا هذا فما أنت قائل؟ أتقول: كان الله وحده لم يكن شىء غيره؟"، . ثم عندنا السجع الذى يصطنعه صاحب المعارضة أحيانا، ولا وجود له فى كتابات ابن المقفع بتة، مثل: "وتَلَعَّبَ فى بعض كلامه، وجَوَّزَ ما حَكَم به لنفسه من أحكامه"، "فأين كانت مَرَدَةُ قريشٍ عن الرسول به، ودلالتها للعرب فيه على كذبه، وهو يزعم لها أنما رمى بها عند بعثته، وأن الرمى بها عَلَمٌ من أعلام نبوته؟"، "فلو كانت عند قريشٍ على ما قال حالها، لكثرتعلى الرسول فيه أقوالها"، "ألا خَلَقَ الناسَ أبرارا، ومَنَعَهم أن يكونوا أشرارا"، "كان السور كما لم يكن، لم يبق فيه أحدٌ ممن سُجِن".
وشىء آخر اتخذه د. عبد اللطيف حمزة دليلا على أن المعارضة من إنشاء ابن المقفع، هو ما يبرز فيها من تهكم يراه الأستاذ الدكتور من خلائق الرجل، وأراه أنا دليلا على أنها ليست لابن المقفع، إذ لم يكن الرجل من الكتاب المتهكمين، وإلا فليرنا أحد أين مثل ذلك التهكم فى كتاباته. والطريف أن الدكتور حمزة، بعد كل ما قاله من أن الرجل إنما وضع تلك المعارضة كى ينصر دين مانى على دين محمد، يعود فيقول، تفسيرا لما يراه فيها من الطعن فى جميع الأديان بما فيها المانوية، إن ابن المقفع كان فى حالة اضطراب عقلى أنكر معه كل شىء وأراد ألا يؤمن معه بشىء. فالرجل لم يكن يهاجم الإسلام بعينه إذن لصالح دين آخر. فما معنى كل هذه الضجة حول بغضه للدين الجديد الذى هزم دين آبائه وأجداده؟
كذلك جاء فى تلك الرسالة قول واضعها: "فلا نعلم دينا منذ كانت الدنيا إلى هذا الزمان الذى حان فيه انقضاؤها أخبث زبدةً كلما مُخِّض، وأَسْفَهَ فى هذا التمخيض أهلا، وأبتر أصلا، وأَمَرَّ ثمرا، وأسوأ أثرا على أمته والأمم التى ظهر فيها، وأوحش سيرة، وأغفل عقلا، وأَعْبَد للدنيا وأَتْبَع للشهوات من دينكم". فهل كان ابن المقفع يؤمن بأن الدنيا فى ذلك الوقت موشكة على الانقضاء كما يقول النص؟ ليس فيما كتب الرجل ما يوحى على أى وضع من الأوضاع بشىء من هذا. ولقد كان الرجل مفكرا حكيما، ومثله لا يردد هذه الترهات. وأهم من هذا كله أن ابن المقفع كان مؤمنا بالله إيمانا وثيقا وبالدين الذى جاء به النبى العربى الكريم. يتضح ذلك مما خلفه وراءه من رسائل، ويتضح قبل ذلك من إقدامه بحريته الكاملة على اعتناق الإسلام. فكيف يطوف بعقل عاقل بعد ذلك كله أنه هو محبّر هذا الكلام الممرور السفيه؟ أويمكن أن يكون قائل هذا الغثيان هو نفسه كاتب النصين التاليين من "الأدب الصغير" مثلا بما يعكسانه من الشعور بالله فى كل شىء واليقين بأنه سبحانه مصدر كل شىء فى الوجود، وأن هناك آخرة سوف نُبْعَث فيها ونحاسَب على ما قدمت أيدينا فى هذه الدنيا؟
وهذا هو النص الأول: "أما بعد، فإن لكل مخلوقٍ حاجةً، ولكل حاجةٍ غايةً، ولكل غاية سبيلا. والله وَقَّتَ للأمُور أقدارها، وهيأ إلى الغايات سُبُلها، وسبَّبَ الحاجات ببلاغها. فغايةُ الناسِ وحاجاتهم صلاحُ المعاشِ والمعاد، والسبيل إلى دَرْكها العقل الصحيح. وأمارةُ صحةِ العقلِ اختيارُ الأمورِ بالبصرِ، وتنفيذُ البصرِ بالعزمِ. وللعقولِ سجيّاتٌ وغرائزُ بها تقبل الأدب، وبالأدبِ تنمي العقولُ وتزكو. فكما أن الحبة المدفونة في الأرضِ لا تقدر أن تخلعَ يبسها وتظهر قوتها وتطلع فوق الأرضِ بزهرتها وريعها ونضرتها ونمائها إلا بمعونةِ الماء الذي يَغُورُ إليها في مستودعها فيذهب عنها أذى اليبس والموت ويحدث لها بإذن الله القوة والحياة، فكذلك سليقةُ العقلِ مكنونةٌ في مغرزها من القلبِ، لا قوة لها ولا حياة بها ولا منفعة عندها حتى يعتملها الأدبُ الذي هو ثمارها وحياتها ولقاحها. وجل الأدب بالمنطق، وجل المنطقِ بالتعلمِ. ليس منه حرف من حروف معجمه، ولا اسم من أنواع أسمائه إلا وهو مروي متعلمٌ مأخوذٌ عن إمام سابقٍ من كلامٍ أو كتابٍ. وذلك دليلٌ على أنّ الناس لم يبتدعوا أصولها ولم يأتهم علمها إلا من قِبَلِ العليمِ الحكيمِ".
ثم هذا هو النص الثانى: "مما يدل على معرفةِ الله وسبب الإيمان أن يوكّل بالغيبِ لكل ظاهرٍ من الدنيا، صغيرٍ أو كبيرٍ، عينا، فهو يُصرفهُ ويحركهُ. فمن كان معتبرا بالجليل من ذلك فلينظر إلى السماء فسيعلمُ أن لها ربا يُجْرِي فَلَكها، ويُدبّرُ أمرها، ومن اعتبر بالصغير فلينظر إلى حبةِ الخردلِ فسيعرفُ أن لها مدبرا ينبتها ويزكيها ويُقَدِّرُ لها أقواتها من الأرض والماء، ويُوَقِّتُ لها زمانَ نباتها وزمانَ تهشمها، وأمر النبوةِ والأحلامِ وما يحدثُ في أنفسِ الناسٍ من حيثُ لا يعلمونَ، ثم يظهرُ منهم بالقولِ والفعلِ، ثم اجتماعِ العلماء والجهالِ والمهتدين والضلال على ذكر الله وتعظيمه، واجتماعِ من شك في اللهِ وكذَّب بهِ على الإقرارِ بأنهم أُنْشِئوا حديثا، ومعرفتهم أنهم لم يُحْدِثوا أنفسهم. فكل ذلك يهدي إلى الله ويدُلّ على الذي كانت منهُ هذه الأمورُ، مع ما يزيدُ ذلك يقينا عند المؤمنين بأنّ الله حقٌ كبيرٌ، ولا يقدرُ أحدٌ على أن يوقن أنه الباطلِ".
كذلك نظرت مليًّا فى نصوص المعارضة التى رد عليها القاسم بن إبراهيم فلم أجد ما فى أسلوب ابن المقفع من إحكام عجيب وسلاسة وفحولة واتساع معجم، إذ الرجل قد امتلك العربية امتلاكا وراضها على أن تؤدى كل ما يدور فى ذهنه أو فى قلبه ببراعة بارعة قلما تتاح لكاتب إلا أن يكون من طرازه هو نفسه. إن أسلوب الرجل ليشبه سلاسل الذهب نفاسة وترفا، وكؤوس البلور صفاء ونقاء.
والغريب أن يعيب د. طه حسين أسلوب ابن المقفع رغم هذا كله، إذ قال مخاطبا الجمهور فى محاضرة ألقاها فى الجمعية الجغرافية المصرية فى العشرين من ديسمبر عام 1930م: "عندما تقرأون كتابة ابن المقفع تجدون فيها شيئا من الالتواء والدوران، ونحس ونحن نقرأ أن الكاتب يجد مشقة فى التعبير عن المعانى التى يحسها، ونحس هذا الضعف الذى يكلِّفه الكاتب للعربية: نحسه لا بعقولنا فحسب، بل بآذاننا، فنجد ابن المقفع يكلِّف النحو العربى تكاليف ربما لم يكن النحو العربى مستعدا لأن يحتملها. وابن المقفع، مع أنه زعيم الكتاب وصاحب الآيات وواضع المثل الأعلى للكتابة، لم يكن عظيم الحظ من الفصاحة والنحو العربى. والمقارنة بينه وبين ما كتب أصحاب النحو وغيرهم تُظْهِركم على أنه لم يكن أكثر من مستشرق يحسن اللغة العربية والفارسية، ويبذل جهدا عظيما فيوفَّق كثيرا ويخطئ أحيانا" (من حديث الشعر والنثر/ ضمن المجموعة الكاملة لمؤلفات الدكتور طه حسين/ 5/ 584- 585).
وفى محاضرة مماثلة فى ذات الجمعية بعد ذلك بأسبوع يكرر الدكتور طه ذات الرأى فيقول إن ترجمة الفلسفة والعلوم الدقيقة قد جشّمت اللغة العربية كثيرا من المشقة، "فاضْطُرَّ المترجمون أن يتكلفوا ضروبا من التكلف والاعوجاج، وإلى أن يُفْسِدوا تركيب الجمل بإفساد الضمائر، وإلى أن يُكْثِروا من التقديم والتأخير والإيجاز والحذف، وإلى أن يُطْنِبوا فيكون إطنابهم مملا ثقيلا. كل هذا تجدونه فى أدب ابن المقفع" (المرجع السابق/ 591). وبعد قليل يضيف قائلا: "وأبقى أثر حُفِظ منه هو كتاب "كليلة ودمنة"، الذى لا أحدثكم عنه، فكلكم يعرفه. وإذا قرأتموه متفكرين متدبرين فقد تَرَوْن أن لغته العربية تحتاج إلى شىء من العناية أكثر مما فيه الآن". ثم يأخذ فى الحديث عن أدب عبد الحميد الكاتب ليعود إلى ابن المقفع فيقول: "أما ابن المقفع فأمره مختلف، وله عبارات من أجود ما تقرأ فى العربية، وبنوع خاص فى "الأدب الكبير" وفى "كليلة ودمنة"، ولكنه عندما يتناول المعانى الضيقة التى تحتاج إلى الدقة فى التعبير يضعف فيكلف نفسه مشقة ويكلف اللغة مشقة، فلاحظ الأصمعى أنه كان يلحن فيضيف "أل" إلى "كل" و"بعض". وأخذ عليه الجاحظ أنه لم يكن يحسن كل ما يحاوله من الفنون. وأنا أستأذنكم لحظات أعرض عليكم فيها أمثلة من لغة ابن المقفع المضطربة لا الجيدة. وإنما كان ابن المقفع مستشرقا كغيره من المستشرقين، يحسن اللغة العربية فهما، وربما أعياه الأداء فيها" (المرجع السابق/ 600- 601).
وبعد استعراض الدكتور طه بعض نصوص ابن المقفع من الكتابين المذكورين يعقب قائلا: "مثل هذه الجمل فى كلام ابن المقفع كثير جدا تجدونه فى"الأدب الكبير" و"الأدب الصغير" و"كليلة ودمنة" ورسائله الخاصة التى كان يرسلها إلى إخوانه. وليس هذا يطعن فى كفاية ابن المقفع ولا مقدرته الخاصة، فقد كان يكتب فى أول عهد النثر الفنى بالوجود، فليس غريبا ألا يستقيم له النثر كما كان يستقيم لرجل كعبد الحميد. وليس ابن المقفع بدعا فى هذا، فكتّاب اليونان كانوا على مثل ما كان عليه ابن المقفع من ضعف فى التعبير لأنهم لم يتعودوا أداء هذه المعانى من قبل. فليس على ابن المقفع حرج فى أن تضطرب لغته وتستعصى عليه، وإنما الحرج على الذين يريدون أن يتخذوا من ابن المقفع مثلا وآية فى البلاغة دون إمعان أو رَوِيَّة. وأنا أنصح لطلاب الأدب أن يحتاطوا عندما يريدون أن يتخذوا ابن المقفع نموذجا للتعبير والبلاغة" (المرجع السابق/ 5/ 602- 603).
وهذه الكلمات للأسف قد خرجت، كما هو واضح، من فم الدكتور طه دون أن تمر بعقله الممحّص، وإلا فإذا كان ابن المقفع مستشرقا أو يشبه المستشرقين فليس ثم من يستطيع القبض على زمام لغة القرآن إذن. ثم كيف يكون ابن المقفع كالمستشرقين، وهو العربى لغة وأدبا وثقافة أولا، ثم دينا أيضا بعد ذلك؟ لقد نشأ ابن المقفع فى محيط عربى وتعلم فى ذلك المحيط وتشرب ثقافة ذلك المحيط، أما المستشرقون فهم ناس أجانب لغة وأدبا وثقافة، ودينا كذلك، فوق أنهم يعيشون فى بلادهم بعيدا عن العرب على عكس ابن المقفع، الذى كان يعايش العرب فى كل مكان. أما اتصال المستشرقين بلغة العرب وأدب العرب وثقافة العرب فهو اتصال دراسة لا اتصال تشرب لتلك الثقافة، بل إن البغض والعداء والتشويه هو سيد الموقف عندهم إلا فى النادر الذى لا يقاس عليه. إن الاستشراق هو محض تخصص لا أكثر، أما ابن المقفع فقد كانت اللغة لغته، والثقافة ثقافته، لا يعرف شيئا غيرهما، كما كان يعيش بين ظَهْرَانَىِ العرب ويعمل كاتبا عند بعض رؤساء العرب. كذلك لا أدرى لم ميز طه حسين بينه وبين عبد الحميد فى تلك النقطة، وكلاهما غير عربى الأصل؟ فلماذا كان ابن المقفع مستشرقا، ولم يكن عبد الحميد بالمستشرق لا هو ولا سهل بن هارون ولا عبد القاهر ولا الزمخشرى ولا الآلاف غيرهم ممن لا ينتمون إلى العروبة دما وجنسا؟ وكيف لم يستقم التعبير لابن المقفع جَرّاء مجيئه فى أول عهد النثر الفنى بالوجود، واستقام لعبد الحميد رغم أنه أتى فى نفس الفترة التى كان فيها النثر الفنى فى أول عهده بالوجود أيضا، وكان صديقا لابن المقفع وعملا معا فى الدواوين الحكومية؟ ألا إن هذا لغريب!
أما التعقيد المدَّعَى فى كتابات أديبنا الكبير فلم يحاول الدكتور طه أن يضع أيدينا على شىء منه، بل كل ما صنعه هو أنه أورد بعض النصوص مما كتب الرجل وزعم أن فيها تعقيدا والتواء. وقد نظرت فيها فلم ألحظ شيئا من هذا الذى زعم. وهذا أحد تلك النصوص التى أوردها فى محاضرته. وهو، على العكس مما ذهب إليه الدكتور طه، ينساب فى سلاسة وفحولة وثقة وإحكام تركيب لا يتحقق إلا على يد فطاحل الكتاب. بل أكاد أقول إن طه حسين نفسه، على حلاوة أسلوبه المعروفة، لا يرقى أحيانا فى إحكام الجملة إلى هذا المستوى. يقول ابن المقفع المظلوم: "إذا تراكمت عليكَ الأعمالُ فلا تلتمسِ الرَّوْح في مدافعتها بالروغان منها، فإنه لا راحة لكَ إلا في إصدارها، وإن الصبر عليها هو الذي يخففها عنك، والضجر هو الذي يُراكمُها عليك. فتعهد من ذلك في نفسكَ خصلةً قد رأيتُها تعتري بعضَ أصحابِ الأعمال. وذلك أن الرجلَ يكونُ في أمرٍ من أمرهِ فيَرِدُ عليهِ شغلٌ آخرُ أو يأتيهِ شاغلٌ من الناسِ يكدّرهُ إتيانهُ فيكدّرُ ذلكَ نفسه تكديرا يفسدُ ما كان فيه وما وردَ عليهِ حتى لا يُحْكِمَ واحدا منهُما. فإذا وردَ عليكَ مثلُ ذلكَ فليكن معك رأيك وعقلك اللذان بهما تختارُ الأمور، ثم اختر أَوْلَى الأمرين بشغلك فاشتغل به حتى تفرغ منه. ولا يَعْظُمَنَّ عليك َفْوتُ ما فاتَ وتأخيرُ ما تأخر إذا أعملتَ الرأي مَعْمَلَهُ وجعلتَ شغلك في حقه. واجعل لنفسكَ في كل شغلٍ غايةً ترجو القوةَ والتمامَ عليها".
فأى قدرة هذه على بناء الكلام السلس المتين حتى إن الكلام ليأخذ الطريق يمينا مرة ويسارا مرة، أو يعترضه معترض من القول، أو يتقدم بعض عناصر الجملة ويتأخر بعضها الآخر، وابن المقفع رغم ذلك كله قابض على زمام الحديث قبضا لا تهتز يده أو يفلت منه شىء. وانظر الجمال كله فى قوله: "مَعْمَلَه" (بصيغة المصدر الميمى) بدلا من "عَمَلَه" (بصيغة المصدر العادى) بما فى ذلك من طرافة وجرأة ورغبة فى الإدهاش وإدلال بامتلاك اللغة والإحاطة بها من أقطارها. ترى أى شيطان عبقرى من شياطين الإبداع أوحى لابن المقفع بهذه الصيغة؟ ودونك روابط الجمل والعبارات من مثل "وذلك أن"، "فإن" و"الفاء ولكنّ وثُمَّ" وما أشبه، فافحصها على أقل من مهلك فلن تجد فيها شبهة من رائحة وهن. إنك هنا بإزاء جواهرى أريب يعرف أسرار جمال المعادن والأحجار الثمينة التى فى حوزته، ويعرف كيف يصوغ منها الحلىّ المترفة التى لا يقدّر قيمتها إلا الفاهمون. ولديك كذلك هندسة الجمل الأنيقة المنعشة، إذ هى هندسة مرنة مفعمة بالحيوية بعيدة عن الجمود والسير على منوال واحد. ولهذا تجده يعتمد حسن التقسيم أحيانا، ويتركه أحيانا أخرى، ويطوّل الجملة أحيانا، ويقصّرها أحيانا أخرى. كذلك نراه فى نصحه المخلص يراوح بين الأمر والنهى فلا يجرى هنا أيضا على وتيرة واحدة. ومن ثم كان هذا الإبداع الأسلوبى الشاهق بعكس ما زعم الدكتور طه على عادته فى حب مصادمة العقول بين الحين والآخر لوجه المصادمة.
ثم إن ابن المقفع لم يكن كاتبا مغمورا فيقال إن أسلوبه الذى لا يخلو من مشقة والتواء وعسر لم يكن يهتم به أحد، ومن ثم لم يُعَنِّ ناقدٌ نفسَه فى رصد تلك العيوب، بل كان كاتبا مشهورا له عدد من الرسائل التى تنهبها العيون نهبا وتأكلها أكلا، ولم يقل أحد من الأدباء والنقاد المعاصرين أو التالين له شيئا من هذا الذى يقوله طه حسين. أما ما ذكره من أن الأصمعى قد لاحظ أنه كان يلحن فيضيف "أل" إلى "كل" و"بعض"، وأن الجاحظ أخذ عليه أنه لم يكن يحسن كل ما يحاوله من الفنون فلا صلة بينه وبين الالتواء الأسلوبى، فضلا عن أن يذكِّرنا بالمستشرقين. وعلى كل حال فنحن الآن نُدْخِل "أل" على "بعض" و"كلّ" دون أن يرى أحد فيما نعمله التواء أو تعقيدا. وغاية ما يمكن أن يقوله المعترض هنا إن العرب القدامى لم تكن تصنع هذا. وذلك إن صح أنهم فعلا لم يستعملوه، فضلا عن أن عدم وجود هذا الاستعمال فى شعرهم ونثرهم لا يعنى بالضرورة أنه خطأ، فقد يكون مما سُكِت عنه، فهو عَفْوٌ بتعبير الرسول عليه السلام. بل إن مجمع اللغة العربية قد توصل إلى أن هذا استعمال صحيح لا غبار عليه.
وقد وجدت لفظة "الكل" فى قول ابن المقفع من كتاب "كليلة ودمنة": "ورأس الكلّ الحزم". كما أشار المعرى فى "عبث الوليد" إلى ما ذكره الأصمعى من أنه قرأ ابن المقفع فلم يجد لديه ما يمكن أن يؤخَذ عليه سوى إدخاله الألف واللام على "بعض" فى قوله: "العلم أكبر من أن يحاط بكُلّه، فخذوا البعض"، وهو ما يعنى أن الأصمعى على جلالة قدره لم يجد فى كتابات الرجل كلها إلا هذا "اللحن" كما سماه. أى أن كلام الأصمعى هو شهادة باقتدار الرجل لا انتقاص منه، إذ يكفى ذلك الأديب نبلا أن تنحصر معايبه فى"لحن" واحد، وهذا إن عُدّت كلمة "البعض" لحنا، وهى ليست لحنا بكل تأكيد كما سوف يرى القارئ حالا. فانظر كيف يَقْلِب طه حسين مرامى الكلام إلى عكس وجهتها!
ولقد بحثت فى التراث العربى القديم شعرا ونثرا عن كلمة "البعض" و"الكل"، فوجدت الجاحظ يستخدم هذه أو تلك أو كلتيهما معا فى أكثر من كتاب ورسالة له كــ"البرصان والعرجان" و"البيان والتبيين" و"الحيوان" و"البخلاء"، وكذلك وجدت الأمر ذاته لدى المبرّد فى "الكامل"، وابن عبد ربه فى"العقد الفريد"، وابن جنى فى "المبهج فى تفسير أسماء شعراء الحماسة"، والآمدى فى "الموازنة بين أبى تمام والبحترى"، والجرجانى فى "الوساطة"، وأبى هلال العسكرى فى"ديوان المعانى"، وقدامة فى "نقد الشعر"، والمرزوقى فى "الأزمنة والأمكنة" و"الأمالى"، وأبى حيان فى "الإمتاع والمؤانسة"، والخالديَّيْن فى "الأشباه والنواظر"، وأبى الفرج فى "الأغانى"، وياقوت الحموى فى "معجم الأدباء"، وابن رشيق فى"العمدة"، وبديع الزمان فى "المقامات"، وكذلك عشرات الشعراء من القدماء والمحدثين، وعلى رأسهم عبد الله بن الزبير وأبو الشِّيص والبحترى وابن الرومى وصالح بن عبد القدوس والـخُرَيْمِىّ والمتنبى وأبو فراس والشريف الرضى.
أما أن الرجل لم يكن يحسن كل ما يتناوله من الفنون، فمن منا يا ترى يحسن كل ما يحاول من الآداب؟ إن لكل منا، مهما تكن عبقريته، مدًى ينتهى إليه: سواء فى عدد الفنون التى يتقنها أو فى المستوى الإبداعى الذى يبلغه، وهذا أمر لا يقبل المماراة. وعل كل حال فما منا أحد إلا وله مواضع يَتْعَب فيها ذهنه أو يصيبه السهو فيركّب الجمل حينذاك تركيبا لا يرضى هو أول واحد عنه فى حالة صحوه قبل أن ينتقده الآخرون. وليس طه حسين نفسه استثناءً فى هذا.
ولكى نعرف المكانة التى يحتلها ابن المقفع وأدبه فى نفوس القدماء علينا أن نراجع بعض ما قاله كبارهم: ففى"البيان والتبيين" للجاحظ سيد الكتاب والأدباء والمفكرين نقلا عن ابن قوهى: "قال إسحاق بن حسان بن قُوهيّ: لم يفسِّر البلاغَة تفسيرَ ابنِ المقفَّع أحدٌ قَطُّ. سُئِل: ما البلاغة؟ قال: البلاغة اسمٌ جامعٌ لمعانٍ تجري في وجوهٍ كثيرة: فمنها ما يكون في السُّكوت، ومنها ما يكون في الاستماع، ومنها ما يكون في الإشارة، ومنها ما يكون في الاحتجاج، ومنها ما يكون جوابا، ومنها ما يكون ابتداءً، ومنها ما يكون شعرا، ومنها ما يكون سَجعْا وخُطبا، ومنها ما يكون رسائل. فعامّةُ ما يكون من هذه الأبواب الوحيُ فيها والإشارةُ إلى المعنى والإيجازُ هو البلاغة. فأمّا الخُطَب بين السِّماطَين، وفي إصلاح ذاتِ البَين، فالإكثارُ في غير خَطَل، والإطالةُ في غير إملال. وليكن في صدر كلامك دليلٌ على حاجتك، كما أنَّ خيرَ أبياتِ الشعر البيتُ الذي إذا سمِعْتَ صدْرَه عرَفْتَ قافيتَه. كأنّه يقول: فَرِّقْ بينَ صدر خطبة النكاح وبين صَدْر خُطْبة العيد، وخُطبة الصُّلْح وخُطبة التّواهُب، حتَّى يكونَ لكّل فنٍّ من ذلك صدرٌ يدلُّ على عَجُزِه. فإنّه لا خيرَ في كلامٍ لا يدلُّ على معناك، ولا يشير إلى مَغْزَاك، وإلى العَمود الذي إليه قصدتَ، والغرضِ الذي إليه نزَعت. قال: فقيل له: فإنْ مَلَّ السامعُ الإطالةَ التي ذكَرْتَ أنّها حقُّ ذلك الموقِف؟ قال: إذا أعطَيْتَ كلَّ مَقامٍ حَقَّه، وقمتَ بالذي يجبُ من سياسة ذلك المقام، وأرضيْتَ من يعرف حقوقَ الكلام، فلا تهتمَّ لما فاتَكَ من رضا الحاسد والعدُوّ، فإنّه لا يرضيهما شيءٌ. وأمّا الجاهلُ فلستَ منه وليس منك. ورِضَا جميعِ النَّاس شيءٌ لا تنالُه... قال: وسُئِل ابنُ المقفَّع عن قول عمر رحمه اللَّه: ما يتصَعَّدُني كلامٌ كما تتصعَّدَني خطبةُ النِّكاح. قال: ما أعرفه إلا أن يكون أراد قُربَ الوجوه من الوجوه، ونَظَر الحداق من قُربٍ في أجواف الحِداق. ولأنّه إذا كان جالسا معهم كانوا كأنَّهُم نُظَراءُ وأَكْفَاءٌ، فإذا عَلاَ المنبرَ صارُوا سُوقةً ورَعِيّةً".
وفى بعض رسائل الجاحظ الأخرى نقرأ ما يلى: "ومن المعلمين ثم من البلغاء المتأدبين عبد الله بن المقفع، ويكنى: أبا عمرو. وكان يتولى لآل الأهتم، وكان مقدَّما في بلاغة اللسان والقلم والترجمة واختراع المعاني وابتداع السير". ولعلنا لم ننس بَعْدُ إقرار الجاحظ بأنه كان فى صدر حياته الإبداعية إذا اراد أن يروّج شيئا كتبه وينفّقه بين القراء نَسَبَه إلى ابن المقفع أو من فى مكانته الأدبية! فهذا مؤشر على المكانة العظيمة التى كان يشغلها ابن المقفع من نفس ذلك الأديب والمفكر العظيم!
وفى"البصائر والذخائر" للتوحيدى، وهو من أئمة البيان الشاهقين، نقرأ: "قال أبو العيناء: كلام ابن المقفّع صريح، ولسانه فصيح، وطبعه صحيح. كأنّ كلامه لؤلؤٌ منثور، أو وشيٌ منشور، أو روضٌ ممطور". وفيها أيضا على لسان الأصمعى، الذى استشهد طه حسين به خطأً على أن فى أسلوب ابن المقفع التواء ومشقة: "قال ابن المقفّع لبعض الكتّاب: إيّاك والتّتبّع لوَحْشِيّ الكلام طمعا في نيل البلاغة، فإنّ ذلك العِيّ الأكبر". وفى "أمالى" المرتضَى: "وكان ابن المقفع، مع قلة دينه، جيد الكلام فصيح العبارة، له حكم وأمثال مستفادة". ويقول الزمخشرى فى "ربيع الأبرار" إن رسالة ابن المقفع المسماة بــ"اليتيمة" لهى مضرب المثل فى البلاغة. وشهد له الصغانى فى "العباب" بأنه كان فصيحا بليغا. وفى "خزانة الأدب ولُبّ لُبَاب لسان العرب" لعبد القادر البغدادى شهادة حاسمة بأن "ابن المقفع كاتب بليغ"، وإن شفع هذه الشهادة بأنه زنديق! سامحه الله!
ويشير بديع الزمان الهمدانى فى "المقامة الجاحظية" إلى أنه كان مثالا لبراعة الوصف وذرابة الكلام. كما وصفه ابن خلكان فى ترجمته له بــ"وَفَيات الأعيان" بأنه "الكاتب المشهور بالبلاغة، صاحب الرسائل البديعة". وفى "الفهرست" لابن النديم أن "بلغاء الناس عشرة: عبد الله بن المقفع، عمارة بن حمزة، حجر بن محمد..."، وأن "الكتب المجمع على جودتها: عهد أردشير، كليلة ودمنة، رسالة عمارة بن حمزة الماهانية، اليتيمة لابن المقفع، رسالة الحسن لأحمد بن يوسف".
وإن قَلَمًا يقع له ما كان يقع لقَلَم ابن المقفع فيتصرف رَبُّه كما كان يتصرف رَبُّ القلم المقفَّعِىّ لخليق ألا يقع فيما زعم طه حسين وقوع أديبنا الكبير فيه من التعقيد والالتواء والعجمة التى قال إنها تشبه عجمة المستشرقين. جاء مثلا فى كتاب "إعتاب الكتّاب" لابن الأبّار: "قال ابن عبد ربه: بلغني أن صديقا لكلثوم العتابي أتاه يوما فقال له: اصنع لي رسالة. فاستمد مدةً، ثم علق القلم، فقال له صاحبه: ما أرى بلاغتك إلا شاردةً عنك. فقال له العتابي: إني لما تناولت القلم تداعت عليَّ المعاني من كل جهة، فأحببت أن أترك كل معنى حتى يرجع إلى موضعه ثم أجتني لك أحسنها. وهذا كالذى رُوِيَ عن ابن المقفع من أنه كان كثيرا ما يقف قلمه، فقيل له في ذلك، فقال: إن الكلام يزدحم في صدري، فيقف قلمي لتخيُّره!". الله! الله! ما هذه الصورة المونقة؟ إن رجلا كهذا لا يمكن أن يصدق عليه ما زعمه بحقه الدكتور طه، إذ مثله يعرف أن القلم قد يكون فى بعض الظروف مركبا صعبا يحتاج إلى رياضة وصبر وحكمة، ولا يؤخذ عنفا واعتسافا. وحرىٌّ بمثله ألا يقسر قلمه ساعتئذٍ على ما لا يطاوعه فيه، بل يأخذه بالحسنى حتى يلين له وينقاد ويعمل كل ما يريده منه عن طواعية ورضا.
ومن الطريف أن يعزف حنا الفاخورى ذات النغمة الطاهاحسينية فى تسرع يفتقر إلى المراجعة والتثبت، إذ أتى إلى جملة فى "كليلة ودمنة" فعلق عليها زاعما أن "توخى السهولة فى موضوعٍ بالغِ الصعوبة جعل ابن المقفع على شىء من العنت فى الترجمة وتأدية المعانى، فوقع فى بعض الغموض أحيانا، ووقع فى جمله بعضُ التداخل إلى حد يستحيل تقسيمها إلى عبارات، كما فى قوله: "وأما الوزتان اللتان رأيتَهما طارتا من وراء ظهرك فوقعتا بين يديك فإنه يأتيك من ملك بلخ فَرَسان ليس على الأرض مثلهما فيقومان بين يديك". والحق الذى لا مِرْيَة فيه أن الفاخورى لا يعرف عم يتحدث، وأغلب الظن أنه يردد ما قاله طه حسين دون تفكير. ذلك أن المعنى واضح مشرق ليس فيه أى تعقيد أو عنت، إذ المقصود هو تفسير الحلم الذى رآه الملك. فكأن الحكيم قد قال للملك: أما الحلم الفلانى فتفسيره كذا وكذا. وعلى هذا فإن الوزتين اللتين حلم بهما العاهل الهندى معناهما فَرَسان عديما الشبيه يرسلهما ملك بلخ فيقومان بين يَدَىِ الملك. وهذا حوار الملك والحكيم فى سياقه، أُورِده أمام القارئ كى يحكم بنفسه على ما يقول الفاخورى: "رأيت في المنام ثمانية أحلام فقصصتها على البراهمة، وأنا خائف أن يصيبني من ذلك عظيمُ أمرٍ مما سمعتُ من تعبيرهم لرؤياي. وأخشى أن يُغْصَب مني مُلْكي أو أن أُغْلَب عليه. فقال له الحكيم: إن شئت فاقصص رؤياك عليَّ. فلما قص عليه الملك رؤياه قال: لا يحزنْك أيها الملك هذا الأمر، ولا تخف منه: أما السمكتان الحمراوان اللتان رأيتَهما قائمتين على أذنابهما فإنه يأتيك رسول من ملك نهاوند بعلبة فيها عِقْدان من الدُّرّ والياقوت الأحمر قيمتُهما أربعة آلاف رطل من ذهبٍ فيقوم بين يديك. وأما الوزتان اللتان رأيتهما طارتا من وراء ظهرك فوقعتا بين يديك فإنه يأتيك من ملك بلخ فَرَسان ليس على الأرض مثلهما فيقومان بين يديك. وأما الحية التي رأيتها تدبّ على رجلك اليسرى فإنه يأتيك من ملك صنجين من يقوم بين يديك بسيف خالص الحديد لا يوجد مثله". أى أن كلمة "فإنه" تشير إلى أن هذا هو تفسير الحلم. ويمكننا أن نحذفها ونضع موضعها كلمة "فمعناهما". هكذا بكل بساطة ودون تطاول على ابن المقفع أو التحذلق بتخطئته على غير أساس. وأصحّ من كلام الفاخورى قول بطرس البستانى فى كتابه: "أدباء العرب فى الأعصر العباسية" عن "كليلة ودمنة": "فى هذا الكتاب يتجلى أسلوبه البديع الذى رفع به مستوى النثر العربى إلى أعلى درجات الفن وأشرفها".
أما ما أثبته د. عبد الوهاب عزام فى المقدمة التى كتبها للطبعة الأولى من "كليلة ودمنة" من مآخذ على ترجمة ابن المقفع لذلك الكتاب من التزام بالحرفية أحيانا، فقد يكون له توجيه مقبول: فمن ذلك قوله: "غلب على صاحب البيت النعاسُ وحمله النوم"، الذى يعلّق الدكتور عزام على جملته الأخيرة بأنها ترجمة حرفية للأصل الفارسى: "خواب أورابرد"، وأرى أنا أنه لا بأس بهذا، إذ قد يكون فى نقل تلك العبارات والصور الأجنبية إغناء للعربية وإنعاش لها بدلا من أن نظل نردد ما شببنا وشبنا عليه من صور تقليدية. و"حَمَله النوم" صورة جميلة تعنى أن النوم قد نقل الشخص بعيدا عن عالم الحس واليقظة فلم يستطع المقاومة، أو أنه لم يتكلف النوم بل أتاه النوم وحمله حملا. وللدكتور طه حسين (زميل الدكتور عزام فى تحقيق ذلك الكتاب) أشياء من هذه فى كتاباته لا يفكر أحد فى أخذها عليه، كقوله عمن لا طال هذا ولا ذاك: "سقط بين كرسيين"، (Être assis entre deux chaises, To fall between two stools، مما يشبه إلى حد بعيد قولنا فى مصر: "رقص على السُّلَّم"، أو "لا طال بلح الشام ولا عنب اليمن")، وقوله، فيمن ضاعت عليه الفرصة فلم يستطع أن ينجز المطلوب إلا بعد فوات الأوان، إنه أقبل على عمله يؤديه فى الساعة الرابعة عشرة" (كما نقول الآن: "يلعب فى الوقت الضائع"، وهذا التعبير الأخير بدوره تعبير أجنبى مأخوذ من عالم الكرة). وهو أحيانا ما يردف مثل هذين التعبيرين بقوله: "كما يقول الفرنسيون". وقد يقول أحدنا عن المطر المنهمر كالسيول: "الدنيا تمطر قططا وكلابا"، مستعيرا هذا التعبير الظريف من الإنجليزية، أو يعلق على من يحكى شيئا يأبى أن يدخل العقل: "نعم، قد تطير الخنازير".
وأما قول ابن المقفع فى الكتاب ذاته: "وعرفت أنى إن أوافقْه أكن كالمصدِّق المخدوع، كالذى زعموا أن جماعة من اللصوص ذهبوا إلى بيت رجل من الأغنياء..."، الذى انتقد د. عزام تركيب الجملة فيه لعدم وجود ضمير يعود على "الذى" وتفسيره إياه بأن ابن المقفع قد ترجم الاسم الموصول الفارسى: "كه" كما هو على أساس أن هذا الاسم لا يأخذ فى لغة الفرس أىّ ضمير، فقد وجدت أن الجملة قد وردت فى النسختين الضوئيتين اللتين أنزلتهما من المشباك على النحو الآتى: "وعرفت أنى إن أوافقْه أكن كالمصدِّق المخدوع كالذى زعموا فى شأنه أن جماعة من اللصوص ذهبوا إلى بيت رجل من الأغنياء..." بما لا يتعلق عليه به متعلِّق. وحتى لو كانت ملاحظات الدكتور عزام صحيحة فهذا ينبغى أن يفسَّر بما نقع فيه كلنا من سهو حين نكتب، إذ العبرة لا بالوقوع فى مثل تلك الغلطات مرة، بل بتكرارها واطرادها، لأن هذا الاطراد هو المحك الحقيقى الذى على أساسه يصح اتهام الشخص بالخطإ.
ومن هنا فإنى أستغرب أشد الاستغراب قول القاسم بن إبراهيم عن أسلوب ابن المقفع الذى يردّ عليه فى رسالته التى بين أيدينا: "ثم خلف من بعد مانى إلى الحيرة والهلكات، خَلْفُ سوءٍ استخلفه إبليس على ما خلّف مانى من الضلالات، يسمَّى: ابن المقفع، عليه لعنة الله بكل مرأًى ومسمع... فوضع كتابا أعجمى البيان، حكم فيه لنفسه بكل زورٍ وبهتان...". وسر استغرابى أمران: الأول أنه يشير إلى ابن المقفع بقوله إنه "يسمى: ابن المقفع"، وكأن ابن المقفع رجل نكرة مجهول وليس سيدا من سادات البيان والإبداع يعرفه القاصى والدانى ولا يسع أحدا من العرب والمسلمين، وبالذات فى ذلك الوقت، أن يجهله. وعلى هذا فإنى لا أستبعد أن يكون المقصود "ابنَ مقفعٍ" آخر، وبخاصة أنه لا يسميه بالاسم الذى نعرفه به، وهو "عبد الله بن المقفع" بل يكتفى بــ"ابن المقفع" ليس إلا. والأمر الثانى أنه يتحدث عما حبَّره ذلك الشخص فى معارضة القرآن بوصفه "كتابا أعجمى البيان"، فضلا عن معايرته ابن المقفع ذاته بــ"جهله باللسان، وقلة علمه بمخارج القرآن"، وهو ما لا يخطر ببال أحد ممن يعرفون قيمة ما أبدع ابن المقفع أن يقوله، إذ رأيناهم جميعا يقرون له بالبراعة والإحسان رغم ذكر بعضهم أنه كان يُتَّهَم بالزندقة. ثم إنه يقول عن ابن المقفع إنه "بلغني عن الحمقى منه انتشار، وتتابعت بانتشاره عليَّ أخبار، ورُفعت إلينا منه مسائل عن ابن المقفع، لم آمن أن يكون بمثلها اختدع في مذهبه كل مختدع، فرأيت من الحق علينا جوابها، وقطع ما وصل به من باطله أسبابها"، وهو ما قد يفهم منه أن ابن المقفع هذا شخص كان يعيش فى عصر القاسم بن إبراهيم على غير مبعدة منه، وله أتباع تأثروا بكلامه وضلوا بضلاله. كما يذكر القاسم بن إبراهيم أن لابن المقفع هذا مسائل طرحها على المسلمين يريد الجواب عنها. وهذا أمر لم يُعْرَف عن ابن المقفع صاحب "كليلة ودمنة". ولو كان هو ابن المقفع الذى نعرفه لكان قد ذكر شيئا يشير إليه.
فإذا رجعنا مرة أخرى إلى المعارضة المنسوبة لابن المقفع راعنا أن نصوصها تخلو من سمة بارزة فى كتاباته، ألا وهى ميله القوى إلى الإجمال الذى يتبعه بالتفصيل والتقسيم كما فى النص التالى، وهو من "الأدب الكبير": "اعلم أن الملك ثلاثةٌ: ملكُ دينٍ، وملكُ حزمٍ، وملكُ هوى. فأما ملكُ الدينِ فإنهُ إذا أقام للرعيةِ دينهم، وكان دينهم هو الذي يعطيهم الذي لهم ويلحقُ بهم الذي عليهم، أرضاهم ذلك، وأنزل الساخط منهم منزلة الراضي في الإقرار والتسليمِ. وأما ملكُ الحزمِ فإنهُ يقومُ به الأمرُ ولا يسلمُ من الطعنِ والتسخطِ. ولن يضر طعنُ الضعيفِ مع حزمِ القوي. وأما ملكُ الهوى فلعب ساعةٍ ودمار دهرٍ".
كما أن السجع فيها بارز بروزا قويا على حين لم يكن السجع من السمات الأسلوبية لدى ابن المقفع. وهذه بضع أمثلة على هذا الذى نقول: "نافر الله الإنسان فقال : "فلْيَدْعُ ناديَه، سندع الزبانية"، ثم افتخر بغلبته لقرية أو لأمة أهلكها من الأمم الخالية"، "كون شيء لا من شيء لا يقوم في الوهم له مثال، وما لا يقوم في الوهم مثاله فمحال"، "فما باله إذا أراد إنزاله لم يطوه حتى لا يناله شيطان مريد، ولا مطيع رشيد، إلا رسوله من بين خلقه وحده، فيكون هو الذى ثبّت رشده؟"، "ألا خلق الله الناس أبرارا، ومنعهم من أن يكونوا أشرارا؟"، "إنه أَصَمَّ خَلْقَه أو أعماهم كما توهَّم، أو جبرهم على عصيانه، أو حال بين أحد وبين إيمانه، أو أنه أمرضهم، أو عذّب بغير ذنبٍ بَعْضَهم"، "ومن أين تدرى أن هذه نِعَمُه، وأن مُحْدِثَها إحسانُه وكرمُه". ولم يكن ابن المقفع هو الوحيد فى زمنه الذى لا يستعمل السجع، بل كان ذلك الامتناع ديدن تلك العصور المتقدمة، إذ "كان المتقدمون لا يحفلون بالسجع ولا يقصدونه بَتَّةً إلا ما أتت به الفصاحة في أثناء الكلام، واتفق عن غير قصد ولا اكتساب. وإنما كانت كلماتهم متوازنة، وألفاظهم متناسبة، ومعانيهم ناصعة، وعبارتهم رائقة، وفصولهم متقابلة، وجمل كلامهم متماثلة. وتلك طريقة الإمام علي عليه السلام ومن اقتفى أثره من فرسان الكلام كابن المقفع، وسهل بن هارون، وإبراهيم بن العباس، والحسن بن سهل، وعمرو بن مسعدة، وأبي عثمان الجاحظ، وغير هؤلاء من الفصحاء والبلغاء" كما لاحظ ابن أبى الإصبع عن حقٍّ فى كتابه: "تحرير التحبير فى صناعة الشعر والنثر".
ولكيلا ننخدع بحكاية معارضة ابن المقفع للقرآن هأنذا أسوق للمرة الثانية رواية أخرى مختلفة عما قاله ابن طباطبا، وهى الرواية التى سبق أن طالعناها للباقلانى. ومنها نرى أن الأمر لا يعدو أن يكون حكايات يراد منها الطعن فى دين الرجل دون أى دليل يمكن الاستناد إليه. جاء فى "إعجاز القرآن" للباقلانى: "وقد ادعى قوم أن ابن المقفع عارض القرآن. وإنما فزعوا إلى "الدرة اليتيمة"، وهما كتابان: أحدهما يتضمن حكما منقولة توجد عند حكماء كل أمة مذكورة بالفضل، فليس فيها شيء بديع من لفظ ولا معنى. والآخر في شيء من الديانات، وقد تَهَوَّسَ فيه بما لا يخفى على متأمل. وكتابه الذي بيناه في الحِكَم منسوخ من كتاب بزرجمهر في الحكمة. فأي صُنْعٍ له في ذلك؟ وأي فضيلة حازها فيما جاء به؟ وبعد، فليس يوجد له كتاب يدعى مُدَّعٍ أنه عارض فيه القرآن، بل يزعمون أنه اشتغل بذلك مدة ثم مزق ما جمع واستحيا لنفسه من إظهاره. فإن كان كذلك فقد أصاب وأبصر القصد. ولا يمتنع أن يشتبه عليه الحال في الابتداء، ثم يلوح له رشده، ويَبِين له أمله، ويتكشف له عجزه. ولو كان بقي على اشتباه الحال عليه لم يخف علينا موضع غفلته، ولم يشتبه لدينا وجه شبهته. ومتى أمكن أن تدعي الفرس في شيء من كتبهم أنه معجز في حسن تأليفه وعجيب نظمه؟". فها هو ذا عالم دينى متحمس للقرآن كالباقلانى صنف كتابا فى إعجاز القرآن هو أشهر الكتب فى بابه يصف ما قيل عن معارضة ابن المقفع للقرآن بأنه ادعاء لا يثبت على التمحيص لأنه لا يوجد كتاب له فى هذا الموضوع. ثم يضيف أن هناك رواية أخرى تقول إنه حاول معارضة القرآن فعلا، إلا أنه استبان له أن ذلك أمر فوق الطاقة فانصرف عنه وأقر بعجزه بعدما ثاب له رشده. وبالمثل نرى الباقلانى غير مطمئن إلى هذه الحكاية أيضا.
كذلك نسوق للمهووسين بالروايات الخارّين عليها عُمْيًا وصُمًّا وبُكْمًا الرواية التالية التى من شأنها أن تبصّرهم أن اتهام ابن المقفع لا يستند إلى أى دليل: "تناقلت كثير من الكتب قصة ابن المقفع مع ثلاثة من الدهريين في محاولتهم معارضة القرآن حيث رَوَوْا عن هشام بن الحكم قوله: اجتمع في بيت اللهالحرام أربعة من مشاهير الدهرية وأعاظم الأدباء في العصر العباسي، وهم عبد الكريمبن أبي العوجاء وأبو شاكر الديصاني وعبد الله بنالمقفع وعبد الملك البصري، فخاضوا في حديث الحج ونبي الإسلام صلى الله عليه وسلم وما يجدونه من الضغط على أنفسهم من قوة أهل الدين. ثم استقرت آراؤهم على معارضة القرآن، الذي هو أساس الدين ومحوره، ليسقط اعتباره من معارضتهم إياه ومباراتهم له. فعرض كل واحد منهم أنينقض ربعا من القرآن إلى السنة التالية. فإذا انتقض كله،وهو الأصل، انتقض كل ماينبني عليه أو يتفرع منه. فتفرقوا على أن يجتمعوا في العام القابل. ولما اجتمعوافي الحج القابل وتساءلوا عما فعلوه اعتذر ابنأبي العوجاء قائلا: أدهشتني آية "لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا" (الأنبياء/22)، فشغلتني بلاغتها وحجتها البالغة. واعتذر الثاني، وهو الديصاني، قائلا: أدهشتني آية "يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوالَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَالطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ" (سورة الحج/ 73)، فشغلتني عن عمله. وقال ابن المقفع: أدهشتني آية نوح"وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُوَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدا لِّلْقَوْمِالظَّالِمِينَ" (سورة هود/ 44)، فشغلتني عن الفكرة في غيرها. وقال رابعهم، وهو البصري: أدهشتني آية "فَلَمَّا اسْتَيْأَسُواْ مِنْهُ خَلَصُواْ نَجِيًّا" (سورةيوسف/ 80)، فشغلتني بلاغتها الموجزة عن التفكر في غيرها".
أفلم يجد التعساء موضعا يجتمعون فيه لتحدى القرآن إلا المسجد الحرام؟ أية مفارقة هذه؟ ثم متى ذهب ابن المقفع إلى الحجاز وزار مكة؟ ومن يا ترى نقل لنا وقائع تلك الجلسة ونتائجها؟ ليس من المعقول أن يقول أحد منهم عن نفسه إنه كان ينوى معارضة القرآن، ثم يقرّ فوق ذلك على نفسه بالعجز؟ وفوق هذا فإن الحكاية تسكت عن وجوه البلاغة فى الآية التى أوقفت كلا منهم وأقنعته بعبث المعارضة، مكتفية بالنص على الآية دون أى شىء آخر، مع أن هذه النكت البلاغية هى التى تدور عليها عقدة القصة من أولها إلى آخرها. على أية حال يكفى فى نسف الحكاية أن ابن المقفع لم يذهب ولا ذهب أى من هؤلاء المذكورين إلى مكة.
وهناك حكاية أخرى عن ابن المقفع أوردها ابن بابويه القمى فى كتابه: "التوحيد"، وتدور وقائعها أيضا فى البلد الحرام وعند الكعبة وأثناء الطواف، وهى كاذبة كسالفتها لأن ابن المقفع، كما قلنا، لم ير مكة ولم يذهب إلى المسجد الحرام. تقول الحكاية على لسان أحمد بن محسن الميثمي: "كنت عند أبي منصور المتطبب، فقال: أخبرني رجل من أصحابي، قال: كنت أنا وابن أبي العوجاء وعبد الله بن المقفع في المسجد الحرام، فقال ابن المقفع: تَرَوْن هذا الخلق؟ (وأومأ بيده إلى موضع الطواف). ما منهم أحد أُوجِبُ له اسم "الإنسانية" إلا ذلك الشيخ الجالس (يعني جعفر بن محمد عليهما السلام). فأما الباقون فرَعَاعٌ وبهائم. فقال له ابن أبي العوجاء: وكيف أوجبتَ هذا الاسم لهذا الشيخ دون هؤلاء؟ قال: لأني رأيت عنده ما لم أر عندهم. فقال ابن أبي العوجاء: ما بُدٌّ من اختبار ما قلت فيه منه. فقال له ابن المقفع: لا تفعل، فإني أخاف أن يفسد عليك ما في يدك. فقال: ليس ذا رأيك، ولكنك تخاف أن يضعف رأيك عندي في إحلالك إياه المحل الذي وصفت. فقال ابن المقفع: أما إذ توهمت عليَّ هذا فقم إليه، وتحفَّظْ ما استطعت من الزلل، ولا تَثْنِ عِنَانك إلى استرسال يسلمك إلى عقال، وسمه ما لك أو عليك. قال: فقام ابن أبي العوجاء، وبقيت أنا وابن المقفع، فرجع إلينا فقال: يا ابن المقفع، ما هذا ببشر. وإن كان في الدنيا روحاني يتجسد إذا شاء ظاهرا، ويتروح إذا شاء باطنا، فهو هذا. فقال له: وكيف ذاك؟ فقال: جلست إليه، فلما لم يبق عنده غيري ابتدأني فقال: إن يكن الأمر على ما يقول هؤلاء، وهو على ما يقولون (يعني أهل الطواف)، فقد سَلِموا وعطبتم. وإن يكن الأمر على ما تقولون، وليس كما تقولون، فقد استويتم أنتم وهم. فقلت له: يرحمك الله! وأي شيء نقول؟ وأي شيء يقولون؟ ما قولي وقولهم إلا واحد. قال: فكيف يكون قولك وقولهم واحدا وهم يقولون: إن لهم معادا وثوابا وعقابا ويدينون بأن للسماء إلها وأنها عُمْران، وأنتم تزعمون أن السماء خراب ليس فيها أحد. قال: فاغتنمتها منه فقلت له: ما منعه إن كان الأمر كما تقول أن يظهر لخلقه ويدعوهم إلى عبادته حتى لا يختلف منهم اثنان؟ ولم احتجب عنهم وأرسل إليهم الرسل، ولو باشرهم بنفسه كان أقرب إلى الإيمان به؟ فقال لي: ويلك! وكيف احتجب عنك من أراك قدرته في نفسك: نشوؤك ولم تكن، وكبرك بعد صغرك، وقوتك بعد ضغفك، وضعفك بعد قوتك، وسقمك بعد صحتك، وصحتك بعد سقمك، ورضاك بعد غضبك، وغضبك بعد رضاك، وحزنك بعد فرحك، وفرحك بعد حزنك، وحبك بعد بغضك، وبغضك بعد حبك، وعزمك بعد إبائك، وإباؤك بعد عزمك، وشهوتك بعد كراهتك، وكراهتك بعد شهوتك، ورغبتك بعد رهبتك، ورهبتك بعد رغبتك، ورجاؤك بعد يأسك، ويأسك بعد رجائك، وخاطرك بما لم يكن في وهمك، وعُزُوبُ ما أنت معتقده عن ذهنك؟ وما زال يعد عليّ قدرته التي هي في نفسي التي لا أدفعها حتى ظننت أنه سيظهر فيما بيني وبينه".
وواضح أن الحكاية إنما صنعت لتمجيد سعة علم جعفر بن محمد وقدرته على معرفة الغيب والإشادة بإنسانيته وتقواه. ثم كيف عرف ابن المقفع أن جعفر بن محمد يختلف عن سائر من كانوا فى المسجد الحرام أوانذاك؟ هل كان يشمّ على ظهر يده؟ وكيف عرف أنه سوف يهزم صديقه ابن أبى العوجاء فى حواره معه؟ وما دام هذا هو رأيه فى جعفر وفى علمه وعقيدته، فلماذا لم يهجر الزندقة ويدخل معه فيما هو فيه من تقوى وإنسانية عالية؟ ولو كان زنديقا كما تريد الحكاية أن تقول، فكيف أثنى على جعفر بن محمد رغم ما كان عليه جعفر هذا من تدين، والتدين ينافى الزندقة ويبغضها ويدينها ويدين صاحبها؟ أليس فى هذا التناقض وحده ما يدل على أن الحكاية مزيفة لا تثبت على التمحيص؟
ثم هذه رواية ثالثة عن ابن المقفع ومعارضته للقرآن، وهى منقولة عن كتاب: "الإسلام يتحدى" لوحيد الدين خان، الذى نقلها بدوره عن المستشرق ولاستن كما قال: "والحادث كما جاء عن لسان المستشرق هو أن جماعة منالملاحدة والزنادقة أزعجهم تأثير القرآن الكبير في عامة الناس فقرروا مواجهة تحدي القرآن، واتصلوا لإتمام خطتهم بعبد الله بن المقفع (727م)، وكان أديباكبيرا وكاتبا ذكيا يُعْتَدّ بكفاءته، فقبل الدعوة للقيام بهذه المهمة، وأخبرهم أن هذا العمل سوف يستغرق سنة كاملة، واشترط عليهم أن يتكفلوا بكل ما يحتاج إليه خلال هذهالمدة. ولما مضى على الاتفاق نصف عام عادوا إليه، وبهم تطلع إلى معرفة ما حققهأديبهم لمواجهة تحدي رسول الإسلام. وحين دخلوا غرفة الأديب الفارسي الأصل وجدوه جالسا والقلم في يده، وهو مستغرق في تفكير عميق، وأوراق الكتابة متناثرة أمامه علىالأرض، بينما امتلأت غرفته بأوراق كثيرة كتبها ثم مزقها. لقد حاول هذا الكاتب العبقري أن يبذل كل مجهود عساه أن يبلغ هدفه، وهو الرد على تحدي القرآن المجيد،ولكنه أصيب بإخفاق شديد في محاولته هذه حتى اعترف أمام أصحابه، والخجل والضيق يملكان عليه نفسه، أنه على الرغم من مضي ستة أشهر حاول خلالها أن يجيب علي التحدي فإنه لم يفلح في أن يأتي بآية واحدة من طراز القرآن! وعندئذ تخلى ابن المقفع عن مهمته مغلوبا مستخذيا". وقد سبق أن أورد المستشرق المجرى إجناتس جولدتسيهر هذه الرواية فى كتابه المشهور: "Muhammedanische Studien" (Halle, 1888, V. II, P. 401 ff).
كذلك لا ينبغى أن يفوتنى التنبيه إلى أن ثمة رواية رابعة فى أمر ابن المقفع حكاها الإمام الجوينى فى كتابه: "الشامل فى الأصول"، وأوردها وعلق عليها كل من ابن الجوزى (فى "صيد الخاطر") وابن خلكان (فى "وَفَيَات الأعيان")، مع بعض الاختلاف بين ما كتبه هذا وما كتبه ذاك. وهذه الرواية ترينا كيف أن الأمر يحتاج إلى يقظة فى التعامل معها ومع أمثالها وإلى وجوب الاستعانة بالعقلية الناقدة عند التعرض لها، وإلا وجد الإنسان نفسه حائرا بائرا لا يستطيع أن يصل إلى شىء أو يروى الشىء ونقيضه أو يقول كلاما لا يقبله التاريخ ولا العقل: فأما ابن الجوزى فكتب فى باب "الفقه يحتاج إلى جميع العلوم" يُوجِب "على الفقيه أن يطالع من كل فنٍّ طرفا من تاريخ وحديث ولغة وغير ذلك، فإن الفقيه يحتاج إلى جميع العلوم، فليأخذ من كل شيء منها مهما... وقد ذكر أبو المعالي الجويني في أواخر كتاب "الشامل في الأصول"، قال: "قد ذكرتْ طائفة من الثقات المعتنين بالبحث عن البواطن أن الحلاج والجبائي القرمطي وابن المقفع تواصَوْا على قلب الدول وإفساد المملكة واستعطاف القلوب، وارتاد كل منهم قطرا: فقطن الجبائي في الإحساء، وتوغل ابن المقفع في أطراف بلاد الترك، وقطن الحلاج ببغداد، فحكم عليه صاحباه بالهلكة والقصور عن بلوغ الأمنية لبعد أهل بغداد عن الانخداع وتوفُّر فطنتهم وصدق فراستهم". قلت: ولو أن هذا الرجل أو من حكى عنه عرف التاريخ لعلم أن الحلاج لم يدرك ابن المقفع، فإن ابن المقفع أمر بقتله المنصور فقُتِل في سنة أربع وأربعين ومائة، وأبو سعيد الجبائي القرمطي ظهر في سنة ست وثمانين ومائتين، والحلاج قُتِل سنة تسع وثلاثمائة. فزمان القرمطي والحلاج متقاربان، فأما ابن المقفع فكلا. فينبغي لكل ذي علم أن يلم بباقي العلوم، فيطالع منها طرفا، إذ لكل علم بعلم تعلق. وأَقْبِحْ بمحدِّثٍ يُسْأَل عن حادثة فلا يدري، وقد شغله منها جمع طرق الأحاديث. وقبيح بالفقيه أن يقال له: ما معنى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا؟ فلا يدري صحة الحديث ولا معناه. نسأل الله عز وجل همة عالية لا ترضى بالنقائص بمنه ولطفه".
وأما ابن خلكان فبعد أن أكد أن تاريخ قتل ابن المقفع "لم يكن بعد سنة خمس وأربعين ومائة، وإنما كان فيها أو فيما قبلها" عقب بأنه "إذا كان كذلك، فكيف يُتَصَوَّر أن يجتمع (أى ابن المقفع) بالحلاج والجنابي كما ذكره إمام الحرمين رحمه الله تعالى؟ ومن ها هنا حصل الغلط. وأيضا فإن ابن المقفع لم يفارق العراق، فكيف يقول: إنه توغل في بلاد الترك، وإنما كان مقيما بالبصرة ويتردد في بلاد العراق، ولم تكن بغداد موجودة في زمنه؟ فإن المنصور أنشأها في مدة خلافته، فاختطها في سنة أربعين ومائة، واستتم بناءها ونزلها في سنة ست وأربعين، وفي سنة تسع وأربعين تم جميع بنائها ...
ولما وقفت على كلام إمام الحرمين رحمه الله تعالى، ولم يمكن أن يكون ابن المقفع أحد الثلاثة المذكورين، قلت: لعله أراد المقنَّع الخراساني الذي ادعى الربوبية، وأظهر القمر... ويكون الناسخ قد حرَّف كلام إمام الحرمين فأراد أن يكتب "المقنَّع" فكتب "المقفع"، فإنه يقرب منه في الخط، فيكون الغلط والتحريف من الناسخ لا من الإمام. ثم أفكرت في أنه لا يستقيم أيضا لأن المقنع الخراساني قتل نفسه بالسم في سنة ثلاث وستين ومائة كما ذكرناه في ترجمته، فما أدرك الحلاج والجنابي أيضا.
وإذا أردنا تصحيح هذا القول وأن ثلاثة اجتمعوا واتفقوا على الصورة التي ذكرها إمام الحرمين فما يمكن أن يكون الثالث إلا ابن الشلمغاني، فإنه كان في عصر الحلاج والجنابي، وأموره كلها مبنية على التمويهات. وقد ذكره جماعة من أرباب التاريخ، فقال شيخنا عز الدين بن الأثير في تاريخه الكبير في سنة اثنتين وعشرين وثلثمائة فصلا طويلا اختصرته، وهو: وفي هذه السنة قُتِل أبو جعفر محمد بن علي الشلمغاني المعروف بــ"ابن أبي العزاقر". وسبب ذلك أنه أحدث مذهبا غاليا في التشيع والتناسخ وحلول الإلهية فيه إلى غير ذلك مما يحكيه، وأظهر ذلك من فعله أبو القاسم الحسين بن روح، الذي تسميه الإمامية: "الباب". فطُلِب ابن الشلمغاني فاستتر وهرب إلى الموصل وأقام سنين، ثم انحدر إلى بغداد، وظهر عنه أنه يدعي الربوبية. وقيل: إنه تبعه على ذلك الحسين بن القاسم بن عبيد الله بن سليمان بن وهب الذي وَزَرَ للمقتدر بالله وابنا بسطام وإبراهيم بن أحمد بن أبي عون وغيرهم، وطُلِبوا في أيام وزارة ابن مقلة للمقتدر فلم يوجَدوا. فلما كان في شوال سنة اثنتين وعشرين وثلثمائة ظهر ابن الشلمغاني، فقبض عليه ابن مقلة وحبسه وكبس داره، فوجد فيها رِقَاعًا وكُتُبًا ممن يَدَّعِي أنه على مذهبه يخاطبونه بما لا يخاطِب به البشر بعضهم بعضا، فعُرِضَتْ على ابن الشلمغاني فأقر أنها خطوطهم وأنكر مذهبه وأظهر الإسلام وتبرأ مما يقال فيه. وأُحْضِر ابن أبي عون وابن عبدوس معه عند الخليفة فأُمِرا بصفعه فامتنعا. فلما أُكْرِها مد ابن عبدوس يده فصفعه، وأما ابن أبي عون فإنه مد يده إلى لحيته ورأسه، وارتعدت يده وقبَّل لحية ابن الشلمغاني ورأسه وقال: إلهي وسيدي ورازقي. فقال له الخليفة الراضي بالله: قد زعمتَ أنك لا تدَّعي الإلهية، فما هذا؟ فقال: وما عليَّ من قول ابن أبي عون؟ والله يعلم أنني ما قلت له إنني إله قط. فقال ابن عبدوس: إنه لم يَدَّعِ إلهية. إنما ادعى أنه الباب إلى الإمام المنتظر. ثم أُحْضِروا مرات، ومعهم الفقهاء والقضاة. وفي آخر الأمر أفتى الفقهاء بإباحة دمه، فأُحْرِق بالنار في ذي القعدة من سنة اثنتين وعشرين وثلثمائة...". فما قول العاكفين على الروايات الذين يصدقونها دون أن يقلبوا فيها النظر أو يعرضوها على محكّات العقول كما صنع كل من ابن الجوزى وابن خَلِّكان مع ما كتبه إمام الحرمين؟
من هنا أرانى أرفض ما قيل عن معارضة ابن المقفع للقرآن الكريم رفضا باتا. وقد اتخذ ذات الموقف من قَبْلُ الكاتب السورى الكبير المرحوم محمد كرد على، الذى كتب بحثا قويا عن الرجل أبرز فيه بلاغته وعمق فكره وصدق إيمانه، واتهم من وقعوا فى عقيدته بأنهم خضعوا لما كانوا يستشعرونه نحوه من حسد وحقد، شأن الصغار مع كل كبير لا يستطيعون مساماته فلا يجدون إلا التشنيع عليه دون أن يقدموا على اتهامهم أى برهان. وهذا البحث الطويل متاح لمن يريده فى الفصل الذى عقده لابن المقفع من كتابه: "أمراء البيان". وهو، فى حدود علمى، الكاتب الوحيد الذى وقف من اتهام القدماء لابن المقفع موقف الرفض المطلق، مع الدفاع المجيد عنه والقول بأن ما تركه لنا الرجل من آثار مكتوبة خير شاهد على قوة إيمانه.
فإذا انتقلنا إلى المستشرقين ألفينا المستشرق الفرنسى كليمان هوار مثلا لا يُثْبِت ولا ينفى ما قيل عن المعارضة المنسوبة إلى ابن المقفع. إنه يذكر اتهام القدماء له، مثل اتهامهم لغيره، بأنه حاول معارضة القرآن، ثم يعقب قائلا: إن يكن الأمر كذلك فإن ابن المقفع يمثل فى هذه الحالة سابقة لما فعله الباب، الذى يصفه بأنه "مجدد الإسلام فى بلاد فارس"، إذ قلَّد فيما كتبه هو أيضا أسلوب القرآن: "He has been accused, with other enemies of Islam, of having endeavoured to imitate the style of the Koran, and would in this case have been a predecessor of the contemporary renewer of Islamism in Persia, 'Ali Muhammad the Bab, who also wrote in the Koranic style".
لكن هناك مستشرقين آخرين يرددون، كما فعل جويدى ويوسف فان إس حسبما رأينا من قبل، ما قيل عن معارضة ابن المقفع للقرآن رغم ظهور عوار هذا القول وفساده ومناقضته للمنطق. ومنهم جويدى بطبيعة الحال ناشر كتاب "الرد على الزنديق اللعين ابن المقفع"، الذى يدور حوله فى المقام الأول هذا البحث الذى يطالعه القارئ الآن. ومن ذلك أيضا ما كتبه ف. جبرييلى (F. Gabrieli) صاحب مادة "ابن المقفع" فى "The Encyclopaedia of Islam: دائرة المعارف الإسلامية"، وما جاء فى كتاب "Arabic Literature To The End Of The Ummayyad Period" لمحرِّرِيه: A F L Beeston, T M Johnstone, R B Serjeant and G R Smith (Ed.),. وهذان هما النصان المذكوران على الترتيب:
"One highly individual aspect of the spiritual interests of this [i.e., Ibn al-Mukaffa'] writer is finally revealed by the fragments (if they are authentic, as we believe) of a religious work, a Manichaean apologia, preserved in the refutation made a century later by Zaydi Imam al Qasim b. Ibrahim, in a treatise published by M Guidi. We are already familiar with the charges brought against Ibn al-Mukaffa' of having attemped to make an "imitation" of the sacred book of Islam: The work refuted by al-Qasim appears rather in our view, to be an attack on Muhammad, the Kuran and Islam in the name of another faith, namely the Manichaean faith which several of the friends of Ibn al-Mukaffa' had adopted and of which the writer himself was suspected".
"The prominent Arabic prose writer of Iranian descent who was cruelly put to death in 139/756, is said to have tried to imitate the Qur'ân at the behest of the group of heretics, but he had to abandon this endeavour because it proved too difficult. This is of course a legend. But Ibn al-Mukaffa' did compose a polemic in which he took issue with Islam, and especially with the Qur'ân from a Manichaean standpoint. Fragments of this polemic have come down to us in a refuation written by Zaydi Imam, al-Qasim b. Ibrahim (d. 246/860). The first four words of this polemic - and they alone - are obviously modelled on the first our words of the Qur'ân. They read: "In the name of Compassionate and Merciful light - a Manichaean variation of the familiar Islamic basmalah which must strike any Muslim as blasphemy".
ومع هذا فمن المستشرقين من لا يطمئن إلى نسبة هذه الرسالة إلى ابن المقفع. بل إن بعضهم يشك فى نسبة الرد عليه إلى القاسم بن إبراهيم. ويمكن القارئ أن يرجع إلى بحث المستشرق جوزيف فان إس (Josef van Ess) المسمَّى: "Some Fragments of the Mu'aradat al-Qur'an" والمنشور فى "Studia Arabica et islamica Feststchrift for Ihsan 'Abbas on his sixtieth birthday" بالمطبعة الكاثوليكية ببيروت عام 1981م، حيث يورد ذلك المستشرق اسمين من نظرائه ينكران تلك النسبة، وهما فاجدا (VajdaG.) ووانسبرا (J. Wansbrough)، فيما ينكر مستشرق ثالث هو نيبرج (H. S. Nyberg) نسبة الرد إلى القاسم بن إبراهيم. وهذا البحث قد أمدنى به مشكورا شكرا لا أستطيع تصويره الصديق الكريم الأستاذ ثابت عيد المقيم فى سويسرا.
وكان قد أرسل لى قبلها بعدة ليالٍ رسالة مشباكية أَرْفَقَ بها بحثه عن الترجمات الألمانية للقرآن الكريم، وفيه ما يلى عن يوسف فان إس: "ويشبه پاولَ كراوس في هذا السلوك الإجرامي مستشرقٌ آخرُ صهيونيّ متعصبٌ، وإن كان يتظاهر بأنه مسيحي، اسمه يوسف فان إس Josef van Ess، يعمل أستاذ كرسي في معهد الاستشراق التابع لجامعة تيبينجن في ألمانيا. وقد قابلت هذا المستشرق قبل عدة سنوات، وأردت مناقشته في مسألة الإعجاز اللغوي للقرآن الكريم، فإذا به يشن هجوما عنيفا على لغة القرآن الكريم، وإذا به يدافع عن مسيلمة الكذاب، وإذا به يشتم المؤرخين المسلمين لأنّهم أطلقوا عليه اسم "مسيلمة الكذاب". قلت له: "إن محاولة مسيلمة الكذاب تقليد القرآن كانت مضحكة، ولغته كانت في غاية الركاكة". فزأر في وجهي غاضبا: "هذه أقاويلكم أنتم المسلمين، وهي ادعاءات كاذبة!". ليس هذا فحسب، بل إن فان إس، هذا المستشرق الصّهيونيّ المتعصب، قد صار على خُطَى پاول كراوس، فما كاد يسمع عن مشروع الباحث العراقي الدكتور عبد الأمير الأعسم الخاص بتجميع كل ما كتبه ابن الريوندي أو كُتِب عنه حتى سارع بتشجيعه وتقديم كل عون له. بل إنه ساهم ببحث خاص في هذا المشروع تحت عنوان "الفارابي وابن الريوندي"...
ونظرا لسعي فان إس الحثيث إلى توجيه أعظم كَمٍّ ممكن من الطعنات إلى الإسلام فهو لا يكل ولا يهمد في بحثه عن أي نصوص إلحادية تنفعه في شن المزيد من الغارات الشرسة على حضارة الإسلام. عثر فان إسعلى بعض كتب ابن المقفع الإلحادية، فسارع بنشر مقاطع من معارضة ابن المقفع للقرآن الكريم، ونشر هذه المقاطع الإلحادية في كتاب طبعته الجامعة الأمريكية ببيروتبمناسبة بلوغ إحسان عباس، صديق فان إس الحميم، سن الستين. يقول ابن المقفع في أحد مقاطع معارضته للقرآن: "تأمل صنيع الله بأهل الشام، وقد شملتهم الآثام، وكثر فيهمالإجرام. فيومئذ حين أظلتهم الآطام، والقادمين من الشرق بالخيام. إن ربك صبّ عليهمسوء العذاب. إنه لا يعجل العقاب. وله الجزاء الأوفى يومَ الثواب". ثم إنه يواصلصبّ لعناته، فينتقل إلى العراقيين، قائلا: "يا أيها الناس، قد نُسِب أهل العراق إلى الشقاق والنفاق، وفي مائها الزُعاق، ويُظهرون طاعتهم للخلاق. إن ربك هو أعلم بمن حاد عن طريقه، وهو أعلم بالمعتدين، وأوفى للمهتدين"... يتہكم فان إس على الله، ويسخر من المسلمين في مواضع مختلفة من كتابه هذا، حيث يقول مثلا: "إن الله يتحدث اللغة العربية، ولا يخطيء في النحو". انظر:Josef van Ess und Hans Kueng, Christentum und Weltreligionen- Islam, GTB Sachbuch, Gerd Mohn, 1987, S. 37.وكان فان إس قد أورد هذه الملاحظة السخيفة فيبحث آخر له نشره سنة 1974، انظر:Josef van Ess, Islam, in: Emma Brunner-Traut, Die fuenf grossen Weltreligionen, Herderbuecherei, Freiburg 1986 (1. Auflage 1974), S. 80".
وهذا ما أريد أن ألفت نظر القارئ إلى أنه دليل إضافى على أن ابن المقفع مظلوم، فها نحن أولاء بين أيدينا الآن نصوص أخرى من كتاب آخر يرى المستشرق المذكور أن صاحبه يريد به معارضة القرآن، وهو كسابقه يُنْسَب إلى ابن المقفع، وكأن ابن المقفع لم يكن له شغلة ولا مشغلة إلا العكوف على القرآن يعارضه ويحبّر فى ذلك الكتب المختلفة. والكتابان مختلفان، فالأول مثلا يمجد النور كما رأينا ويهاجم الله سبحانه وتعالى، على حين أن الكتاب الحالى يمجد الله الذى نعرفه جل وعلا، ولا يشير من قريب أو من بعيد إلى إله النور الزرادشتى، بما لا يتسق معه القول بأنه قد قُصِد به معارضة الكتاب المجيد. كما أن الأسلوبين مختلفان، والمعانى هنا وهناك متباينة بما يجعلنا مطمئنين إلى أنهما لا يمكن أن يكونا قد صدرا عن قلم واحد. إنما هى نصوص حبَّرها بعض العابثين، ثم نسبت (متى؟ وأين؟ لا ندرى) إلى ابن المقفع. علاوة على أن ذم كاتب المعارضة لأهل العراق يتناقض مع ما يقوله ابن المقفع عنهم فى "رسالة الصحابة" من أنهم يفوقون سائر أهل القبلة فى درجة العفاف والتقوى وجودة الألباب وأن ما يتحدث به الناس عنهم من عيوب إنما هى عيوب ولاتهم السابقين الفاسدين ومَنْ تعاون معهم منهم، وهم طائفةٌ جِدُّ قليلة. كما أنه فى تلك الرسالة أيضا يوصى الخليفة بأهل الشام رغم إقراره بما يمكن أن يسببوه للدولة من إزعاج، ولكنه لا يسبهم رغم أنه كان يستطيع ذلك مطمئنا إلى أن ذلك يوافق رغبة الخليفة لأنهم كانوا فى أغلبهم رجال الأمويين. ذلك أن التراث الذى نعرفه لابن المقفع لا يعرف السباب ولا ينتهج الهيجان سبيلا إلى التعبير عما يريد أن يقوله.
ومن نصوص الكتاب الأخير الذى احتفى به المستشرق يوسف فان إس، نقرأ: "وأما الذين يزعمون أن الشك فى غير ما يفعلون، وينتهى الثقة إلى ما يقولون * أولئك عليهم غضب من ربهم، إنه خبير بما يعملون * الذين اتخذوا من دونى نصيرا أولئك لا يجدون وليًّا ولا هم يُنْظَرون * ومنهم من يتخذ أندادا من دون الله رجما بالغيب، أولئك وراءهم شرٌّ مما يظنون"، "ألا إن الذين اتخذوا إلها من دون الواحد القهار لبئس ما يصنعون * ولا يكونون كالذين آمنوا ثم لم يثمر إيمانهم لِظُلْمهم، أولئك عليهم غضب من ربهم وهم لا يهتدون"، "المعاذَ بصاحب البلد * مالك البلد * وبانى البلد * وساكن البلد * من شر العادية * وأهل الطاغية * الذى أظلَّ صاحبه * ومنع جانبه * وحمى جاره من سكان المدَر، وخُلاّن الغدْر والغَرَر".
وهنا نجد جوزيف فان إس يُفْسِد الأمرَ إفسادًا فظيعًا حين يقول إن "ساكن البلد" هو الله، ثم يتفذلك فيضيف أنْ ليس فى ذلك غرابة، إذ ورد فى سورة "القيامة" عبارة "وأنت حِلٌّ بهذا البلد". يقصد أن الله هو المقصود بقوله تعالى: "وأنتَ حِلٌّ بهذا البلد"، مع أن الطفل الصغير يعرف أن المقصود هنا هو الرسول، الذى يخاطبه الله جل وعلا فى هذه السورة الكريمة، وليس العكس كما يحاول المستشرق أن يوهمنا. كما أن الله لا يوصَف فى القرآن ولا فى الإسلام بأنه يسكن المكان الفلانى. لقد خلع المستشرق هنا ما يحتويه كتابه على القرآن الكريم، وهذا ليس من منهج العلم ولا من أخلاق العلماء، فشَتَّانَ الكتابان. ففى الكتاب المقدس نقرأ: "تَجِيءُ بِهِمْ وَتَغْرِسُهُمْ فِي جَبَلِ مِيرَاثِكَ، الْمَكَانِ الَّذِي صَنَعْتَهُ يَا رَبُّ لِسَكَنِكَ الْمَقْدِسِ الَّذِي هَيَّأَتْهُ يَدَاكَ يَا رَبُّ" (خروج/ 15/ 11)، "فَيَصْنَعُونَ لِي مَقْدِسًا لأَسْكُنَ فِي وَسَطِهِمْ" (خروج/ 25/ 8)، "فَيَعْلَمُونَ أَنِّي أَنَا الرَّبُّ إِلهُهُمُ الَّذِي أَخْرَجَهُمْ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ لأَسْكُنَ فِي وَسْطِهِمْ. أَنَا الرَّبُّ إِلهُهُمْ": (خروج/ 29/ 46)، "وَكَلَّمَ الرَّبُّ مُوسَى قَائِلا: «أَوْصِ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يَنْفُوا مِنَ الْمَحَلَّةِ كُلَّ أَبْرَصَ، وَكُلَّ ذِي سَيْل، وَكُلَّ مُتَنَجِّسٍ لِمَيْتٍ. الذَّكَرَ وَالأُنْثَى تَنْفُونَ. إِلَى خَارِجِ الْمَحَلَّةِ تَنْفُونَهُمْ لِكَيْلاَ يُنَجِّسُوا مَحَلاَّتِهِمْ حَيْثُ أَنَا سَاكِنٌ فِي وَسَطِهِمْ» (عدد/ 5/ 1- 3)، "فَتَعْرِفُونَ أَنِّي أَنَا الرَّبُّ إِلهُكُمْ، سَاكِنًا فِي صِهْيَوْنَ جَبَلِ قُدْسِي. وَتَكُونُ أُورُشَلِيمُ مُقَدَّسَةً وَلاَ يَجْتَازُ فِيهَا الأَعَاجِمُ فِي مَا بَعْدُ" (يوئيل/ 3/ 17)، "أَنْ تَحْفَظَ الْوَصِيَّةَ بِلاَ دَنَسٍ وَلاَ لَوْمٍ إِلَى ظُهُورِ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، الَّذِي سَيُبَيِّنُهُ فِي أَوْقَاتِهِ الْمُبَارَكُ الْعَزِيزُ الْوَحِيدُ: مَلِكُ الْمُلُوكِ وَرَبُّ الأَرْبَابِ، الَّذِي وَحْدَهُ لَهُ عَدَمُ الْمَوْتِ، سَاكِنًا فِي نُورٍ لاَ يُدْنَى مِنْهُ، الَّذِي لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَقْدِرُ أَنْ يَرَاهُ، الَّذِي لَهُ الْكَرَامَةُ وَالْقُدْرَةُ الأَبَدِيَّةُ. آمِينَ" (تيموثاوس الأول/ 6/ 14- 16). وعلى أية حال فمن البيّن الجلىّ الذى لا يقبل المماراة أن الكلام فى النص إنما هو عن رجل لا عن الله سبحانه، إذ لدينا إنسان يعوذ به جيرانه فيُعِيذهم من عدوان المعتدين. فما صلة هذا بالله سبحانه كما فى كلام المستشرق السخيف؟
وكنا قلنا فى الكتاب الأول إنه ينتمى إلى ما بعد ابن المقفع بأكثر من قرن مما دفعنا إلى الدهشة والتساؤل: ترى أين كان هذا الكتاب الثانى عبر ذلك التاريخ الذى يزيد عن قرن؟ وكيف غاب عن العيون كل تلك العقود الطويلة لم يلفت نظر أحد من المسلمين فلم يذكره، فضلا عن أن يرد عليه؟ وهو ما نقوله هنا أيضا. ذلك أن النصوص الأخيرة قد عُثِر عليها فى كتاب "الرسالة العسجدية فى المعانى المؤيدية" لصاحبها عباس بن على بن أبى عمرو الصنعانى كما جاء فى بحث فان إس الذى نحن بصدده، وهو متأخر عن عصر القاسم بن إبراهيم كثيرا جدا، إذ لو أخذنا بالاحتمال الأقرب فهو من أهل القرن الرابع، أما لو اعتمدنا الاحتمال الآخر فهو بعد ذلك بزمن طويل. ولا ننس كذلك أن هذه المعارضة المزعومة تقوم كلها على السجع، وأين السجع من أسلوب ابن المقفع، بل من أسلوب عصره كله؟
والآن أرجو أن يكون الأمر قد اتضح للقارئ فاقتنع بأن التفسير الذى قدمناه لا سواه هو التفسير الحق. وأيا ما يكن الأمر فابن المقفع لم يُقْتَل بسبب معارضته القرآن: أولا لأن أحدا من القدماء لم يقل بهذا. بل إننا لم نسمع أصلا بأنه قد عارض القرآن إلا من خلال رد ابن طاطبا، القاسم بن إبراهيم، الذى نسب إلى الرجل بعد انتقاله إلى العالم الآخر بأكثر من قرن أنه قد أقدم على تلك المعارضة، ومن خلال عباس بن على بن أبى عمرو الصنعانى، وهو بعد القاسم بن إبراهيم بزمن طويل. وعلى هذا فإن المدعو: مؤمن صالح (Mumin Salih)، الذى كتب مقالا بعنوان "Responding to Allah’s Challenge" فى موقع "watchislam" بوصفه مسلما سابقا تنصر، وأغلب الظن أنه مبشر نصرانى لئيم يريد إيهام المسلمين بأنه قد ترك دين الله وكفر بسيد المرسلين وآمن بالتثليث بعد أن اتضحت له الحقيقة، يقول فيه ما نصه: "All we know is that great Arab poets (like Al Mutanabbi and Abu Alala’ Al Ma’arri) and some great prose writers had enough courage (or madness) to imitate the Quran only to be forced to withdraw their works and repent. Those who didn’t were killed, like the famous poetry writer Ibn al-Muqaffa who was murdered in 756 AD."، زاعما أن ابن المقفع قد عارض القرآن فعلا، ثم لم يشأ أن يتراجع عن تلك المعارضة، ومن ثم كان موته المأساوى، أقول: إن مؤمن صالح (أو بالأحرى: الكافر الطالح) كاذب فى أصل وجهه فى كل كلمة خطها قلمه النجس، إذ لم يقل حتى أشد الكارهين لابن المقفع إنه قُتِل من أجل هذا السبب، بل بسبب صيغة الأمان الذى كتبه كى يوقع عليه أبو جعفر المنصور لعمٍّ له كان قد خرج عليه وانهزم، إذ كانت صياغة الأمان مهينة وجارحة جدا للخليفة لأنها تمس دينه وعِرْضه وتجعله ابن حرام ونساءه طوالق وتعطى الناس الحق فى الخروج من طاعته لو مسّ ذلك العم بسوء. وهذا بعض ما جاء فى الجزء الجارح من نص الأمان: "ومتى غدر أمير المؤمنين بعمه عبد الله بن علي، فنساؤه طوالق، ودوابّه حبس، وعبيده أحرار، والمسلمون في حِلٍّ من بيعته"، وهو رغم عنفه أخف كثيرا مما سجله الجهشيارى فى كتابه: "الوزراء والكتّاب" كما سبق أن أوضحنا فى هذا البحث.
وبعد، فالملاحظ أن كلا من الرَّدَّيـْن قد صدر عن بيئة شيعية: فكاتب الرد الأول، قاسم بن إبراهيم، شيعى زيدى. وكاتب الثانى، عباس بن على بن أبى عمرو الصنعانى، هو أيضا شيعى، وزاد فقدم رده إلى أحد كبار الشيعة الفاطميين. كما أننا لم نر أصل أى من الكتابين اللذين يُنْسَبان إلى ابن المقفع فى معارضة القرآن، بل اقتصر علمنا بهما على ما نقله من ذينك الكتابين كل من الكاتبين اللذين ردا على المعارضة المذكورة.



Ibrahim_awad9@yahoo.com
http://www.maktoobblog.com/ibrahim_awad9
http://ibrahimawad.com/