آخـــر الـــمـــشـــاركــــات

+ الرد على الموضوع
النتائج 1 إلى 1 من 1

الموضوع: مع رواية صنع الله إبراهيم: "67" - بقلم إبراهيم عوض

  1. #1
    أستاذ بارز الصورة الرمزية إبراهيم عوض
    تاريخ التسجيل
    21/12/2007
    المشاركات
    828
    معدل تقييم المستوى
    17

    افتراضي مع رواية صنع الله إبراهيم: "67" - بقلم إبراهيم عوض

    مع رواية صنع الله إبراهيم: "67"
    بقلم إبراهيم عوض

    استضافنى أحد المنابر الإعلامية لمناقشة رواية الأستاذ صنع الله إبراهيم: "67"، التى صدرت بآخرة والتى يفترض فيها أن تكون عن نكسة 1967 حين دمرت إسرائيل الطيران المصرى كله تقريبا فى ساعات معدودات واحتلت سيناء جمعاء، واحتلت هضبة الجولان أيضا فى سوريا. وكانت هناك بعض الأسئلة التى سُئِلْتُها وطُلِب منى توضيح موقفى بشأنها، ومنها الاستفسار عما كتبتُه قبل سنوات عن صنع الله إبراهيم والسبب فى وصفى كتاباته الروائية بـ"تيار الكتابة الاستمنائية". وكان جوابى أن كتابات الرجل فعلا كتابات استمنائية يبدو فيها البطل مهووسا هوسا شاذا بالجنس، والمنىّ بالذات. لقد قرأت له "تلك الرائحة"، فوجدتها رواية استمنائية، وقرأت "اللجنة" فألفيتها استمنائية، وقرأت "شرف"، فكانت استمنائية، وقرأت "العمامة والقبعة"، فاتضح أنها استمنائية، وقرأت أخيرا "67"، فكانت استمنائية "بامتياز" إن كان هناك "امتياز" فى الكتابات التى تبعث على القىء والاشمئزاز. وحين أقول إن كتابات صنع الله إبراهيم كتابات استمنائية فإنى لست وحدى فى ذلك. فها هو ذا يحيى حقى نفسه، وهو من هو فى التسامح وفى تشجيع الشباب من أمثال صنع الله إبراهيم أيام ألَّف صنع الله إبراهيم أولى رواياته: "تلك الرائحة"، يرى فيها رأيا غاية فى السوء. لقد كان يعتقد أنها رواية جميلة، وأن الرائحة المذكورة فى العنوان رائحة زكية، لكنه ارتعب مما تغص به الرواية من جنس كله قبح وفجاجة وغلظ ذوق وشذوذ.

    قال حقى فى مقال له نشر آنذاك عن الرواية المذكورة: "لا زلت أتحسر على هذه الرواية القصيرة التى ذاع صيتها أخيرا فى الأوساط الأدبية، وكانت جديرة بأن تعد من خيرة إنتاجنا لولا أن مؤلفها زَلَّ بحماقة وانحطاط فى الذوق فلم يكتف بأن يقدم إلينا البطل وهو منشغل بـ"جَلْد عُمَيْرَة" (لو اقتصر الأمر على ذلك لهان)، لكنه مضى فوصف لنا أيضا عودته لمكانه بعد يوم ورؤيته لأثر المنىّ الملقى على الأرض. تقززت نفسى من هذا الوصف الفيزيولوجى تقززا شديدا لم يُبْقِ لى ذرةً من القدرة على تذوق القصة رغم براعتها. إننى لا أهاجم أخلاقياتها بل غلظة إحساسها وفجاجته وعاميته. هذا هو القبح الذى ينبغى محاشاته وتجنيب القارئ تجرع قبحه". وبالمناسبة فالمقصود بـ"جَلْد عُمَيْرَة" فى النص السابق هو الاستمناء. أتيت أنا بشىء من عندى؟
    وفوق ذلك ففى تلك الرواية "يتحدث الراوية عن أخ وأخت وعم وأقارب ساردا تفاصيل حميمة عنهم من شأن بعضها أن يصدم القارئ" بنص تعبير المؤلف ذاته فى مقدمة الطبعة الثالثة من الرواية المذكورة. وكان الكلام، كما يقول، ينطبق على بعض أقاربه، مما أغضبهم وجعلهم يقاطعون كتاباته، ومعهم كل الحق. بل إن أول شىء تقريبا فى الرواية هو مشهد لواط فى غرفة الحجز بالقسم ينتهك فيه أحد المحجوزين صبيا ممتلئا ذا شفتين ريانتين أمام جميع المحجوزين وتحت سمعهم، وإن كان، حماه الله، قد جعل العملية اللواطية تتم تحت بطانية. والله فيه الخير، فقد قام بالواجب وزيادة!
    كما يقول مؤلفنا، فى فصل تمهيدى آخر للرواية بعنوان "على سبيل التقديم"، إن عبد القادر حاتم المسؤول الأول عن الثقافة فى ذلك الوقت قد حمل الرواية إلى جمال عبد الناصر "ليشهده على ما توصل إليه الشيوعيون من تبذل وانحلال" بنص كلام صنع الله إبراهيم. وبطبيعة الحال لم يعجب صنع الله إبراهيم هذا الموقف من روايته المغثية بل المقيئة، وكانت إحدى حججه وأقواها: كيف يمكن أن ينصرف الكاتب إلى الحديث عن الزهور وجمالها وروعة عبقها بينما الخراء يملأ الأرض، ومياه الصرف الملوثة تغطى الشوارع، والجميع يشمون المياه النتنة ويشتكون منها؟ وهى حجة وجيهة جدا كما يلاحظ القراء، إذ ليس أمام الكاتب حينئذ إلا أن يتكلم عن الممارسات الجنسية بتفاصيلها العارية المقززة، فذلك كفيل بتنظيف الشوارع من مياه المجارى وخرائها ونتانتها، أما أن نصور فى أدبنا شوارعنا القذرة المنتنة ومعاناة الناس منها حتى يشعر المواطنون والمسؤولون بقبح الحياة فى بلادنا فذلك أمر سخيف لا معنى له. واضح أن ذلك الفصيل من الكتاب قد وضع لنفسه شعارا ثوريا كفاحيا من شأنه القضاء على الاستغلال الطبقى والرأسمالية المتوحشة والاستعمار العالمى وتمكين الاشتراكية فى كل بلاد العالم، وهو "أيها الكتاب تستطيعون أن تقضوا على كل مشاكل بلادكم وكل متاعب العالم عن طريق الكتابات الاستمنائية. فهذا هو السبيل الوحيد إلى تحقيق الجنة الأرضية بدلا من جنة السماء التى ليس لها وجود". العجيب أن الشيوعيين ككل خصوم الإسلام من مستشرقين ومبشرين يعيبون جنة الإسلام بأنها جنة الجنس. وهذا موقف عظيم ومشرف يحسب لهؤلاء الاستمنائيين المتبتلين المتنزهين المتحرجين المتنطسين الأعفّاء الشرفاء!
    ولم يقتصر الأمر على تلك المقززات والمقيئات بل امتد إلى الأخطاء والركاكات اللغوية، التى يقول عنها صنع الله إبراهيم إن يوسف إدريس قد هون منها آنذاك قائلا له فى لامبالاة: "إنها مسألة تافهة علاجها بواحد أزهرى مقابل شلن". على وزن "واحد شاى وصلّحه"! إى والله هكذا كان العبقريان ينظران إلى الأسلوب الذى يكتب به الأديب، وبدلا من الشعور بالخجل والعار لعجزهما عن استعمال لغة سليمة كما ينبغى أن يفعل الأديب كان إدريس يفاخر بأن المسألة يمكن تسويتها بشلن. وبالمناسبة كان إدريس فى بداياته الكتابية يكتب بلغة تشبه الحجارة المدببة كلها أخطاء وعبارات اعتراضية ولفلفات وجمل طويلة قبيحة وخلط بين العامى والفصيح عجزا وضعفا، وهو يظن أنه قد أتى بالذئب من ذيله، وإن كان حين كبر قد صار يعهد بما يكتب، فيما أرجح، إلى من يصحح له أخطاءه ويسوى قبح تراكيبه ويجعل جمله أسلس على قدر الاستطاعة. وأحسب أنه أنفق فى هذا العلاج العسير الشلنات والبرايز والريالات والجنيهات التى فى الدنيا كلها. ولكن ظل أسلوبه رغم ذلك يحمل بصمات الضعف بطريقة لا تخطئها العين. كذلك ففى روايتيه: "قاع المدينة" و"فيينا 60" على سبيل المثال نلحظ الهوس بالجنس على نحو مزعج لا يتحمله الناس النظاف.
    وفى "تلك الرائحة" أيضا لصنع الله إبراهيم كانت هناك أخطاء وركاكات أسلوبية، لكن صاحبها لا يكتفى بتلك الخيبة التى يفاخر بها بل يضمنها أشياء مثل الوصف العبقرى المفصل للريح الذى يخرجه بطل القصة وساردها فى صالون صديقه سامى وبحضرة ابنته الصغيرة التى ما إن شمت رائحة الفساء حتى قالت إنها تشم رائحة "كاكا"، أَىْ خراء. أما البطل فقد تظرف وأخذ ينظر هنا وهناك متشمما وهو يتساءل: أين؟ أين؟ إلى أن اختفت الرائحة. وقد قرأت لأحدهم أن البطل قد فعل هذا لأن الصالون كان صالون رجل برجوازى، ومن ثم ينبغى تعفيره وتعكيره بتلك الروائح الزكية العطرة. فإن صح هذا التفسير كان من اللازم التفكير فى إطلاق مصطلح مناسب على ما فعله البطل، وليكن هذا المصطلح هو "الكفاح الطبقى الفُسَائِىّ". وأظنه مصطلحا رائعا مناسبا غاية المناسبة. وهأنذا أهديه إياه بلا مقابل، وليس خسارة فيه أبدا!
    وفى "تلك الرائحة" كذلك نشهد مع البطل الراوى الملتاث المهووس بالجنس فتاة تضىء نور غرفتها المقابلة للشرفة التى يقف فيها ثم تخلع ملابسها كلها وتنام عارية على السرير، وهو ما جعله فى مرة أخرى لم تظهر فيها بحجرتها لاعارية ولا غير عارية يتخيل نفسه وقد مرر خده ويده التى تحتاج إلى القطع على كل أعضائها واحدا واحدا على راحته. ومن الوضوح بمكان أن هذه فشرة من فشرات أبى لمعة الأصلى، فلا تجرؤ بنت فى مصر أن تفعل هذا حتى لو كانت بنتًا مُلْعَبًا، وإلا لصارت مضغة فى الأفواه واغتيلت هى وأسرتها معنويا، وهو ما لا ترضاه أى بنت لنفسها، على الأقل: حتى لا يبور سوقها وتعنّس. ولكن ماذا نقول فى الشيوعيين وقذاراتهم التى يريدون أن يوسخوا بها كل الناس من عن أيمانهم وشمائلهم وأمامهم وورائهم حتى يكون الجميع قذرا مثلهم؟
    وفى الرواية أيضا مومس يحكى لنا البطل الراوى تجربته هو وأصدقائه معها بتفاصيلها المقززة بما فى ذلك الواقى الذكرى. وبالمناسبة فهى رواية تافهة شديدة التفاهة مثل رواية "67"، التى كانت السبب فى أن أكتب هذه الدراسة، إذ لا تزيد عن سرد بعض الحكايات غير المترابطة التى لا تعنى شيئا سوى أنها حدثت للبطل، فلا انتقاء ولا بناء فنى ولا تطور للأحداث ولا للشخصيات، ولا مغزى وراء أى شىء من ذلك. الحق أنها كتاب تافه، ولا أستطيع أبدا أن أقول إنها رواية. والمؤلف يذكرنا بأم على الرغاية التى كان يقوم بدورها أحمد الحداد أيام زمان حين كنت طفلا والتى لم تكن تكف عن الثرثرة الفارغة المزعجة، وتحرص فى كل مرة على أن تؤكد أنها ليست رغاية كما يتهمونها ظلما وعدوانا، فنقهقه نحن وتكاد جنوبنا من الضحك أن تنفجر. أما هنا فالثرثرة سخيفة وتافهة وتخلو من الفن، ويتخذها المؤلف فرصة لقتل وقته الفاضى وقتل سعادتنا أيضا.
    أما فى "اللجنة" فنفاجأ بأعضائها يطلبون من الشخص المتقدم بأوراقه إليهم أن يرقص كالنساء المحترفات، فيتحزم برباط رقبته ويهز أردافه كأية راقصة محترفة. ثم لا يكتفون بهذا بل يأمرونه أن يخلع ملابسه كلها حتى يستطيعوا أن يروا أعضاءه التناسلية واسته فوق البيعة وهو يستعرض نفسه أمامهم من قدام ومن وراء، ثم مرة أخرى لا يكتفون بهذا بل يضع أحدهم إصبعه فى سرمه قائلا فى زهو وانتصار للرئيس بعد أن أخرجه: ألم أقل لك؟ ومرة أخرى لا ينتهى الأمر عند هذا الحد، إذ لم يجد الشخص المتقدم للجنة شيئا فى القرن الحاضر يمكن أن تذكره به الأجيال القادمة سوى زجاجة الكاكولا. ولكن لماذا؟ لأنه لا يوجد شىء تتجسد فيه حضارة هذا القرن ومنجزاته بل آفاقه مثل هذه الزجاجة الصغيرة الرشيقة التى يتسع است كل إنسان لرأسها الرفيعة: هكذا نصا. كل ذلك وهو لا يزال عاريا بلبوصا أمام أعضاء اللجنة كما ولدته أمه حسبما أكد لنا. لا فائدة، فهذه عادته. أم تراه سيشتريها؟
    وعندما يسأله أحد أعضاء اللجنة فى بيته بعد شهور طوال عما إذا كانت عنده صور جنسية عارية أخرى غير صورة محمود سعيد يرد عليه بقوله: "فهمت ما تقصده. للأسف أنى لست من المغرمين بالصور العارية، وإنما أفضل الكتب الإباحية، ولدىَّ محموعة من هذه الكتب إذا أحببت أن تلقى عليها نظرة". أما عندما حان ميعاد النوم، وكان لا بد أن يناما فى سرير واحد، فلم يكن فى خاطر البطل وباله شىء سوى أن عضو اللجنة يمكن أن يغتصبه فى السرير. ولست أنكر أنى ضحكت كثيرا وأنا أقرأ وصفه لهذا الموقف العصيب. بيد أن هذا لم يشغلنى عن التنبه إلى السمة المميزة لكتابات صنع الله إبراهيم، ألا وهى الهوس بكل ما يتعلق بالجنس بدءا من الاستمناء، وانتهاء باللواط. وحين أراد البطل دخول الحمام فى الصباح وإغلاق الباب خلفه اعترض عليه عضو اللجنة، الذى لم يتركه ينفرد بنفسه بعيدا عنه قط طوال وجوده معه فى مسكنه، قائلا إنه رآه عاريا فى وضع أسوأ كثيرا من وضعه لدن قضاء الحاجة.
    على أن الكارثة ليست هنا بل فى قوله بعد ذلك إن الملك خوفو صاحب الهرم الأكبر إما أن يكون إسرائيليا أو فرعونا مصريا مستبدا استعان بالعبقرية اليهودية فى بناء هرمه. أى أن اليهود هم بناة الأهرام فى الحالتين. وهو ما كرره بعد ذلك فى موضع آخر من الرواية. وهل تريد إسرائيل شيئا أقوى من هذا تحاججنا به وتقنع الدنيا كلها أنهم هم بناة الأهرام الحقيقيون وأن ما يقال عن أنها إنجاز مصرى صميم كلام فى الهجايص؟ إن هذا يتسق تمام الاتساق مع موقف شيوعيينا الأوباش الأنذال من حرب 1948 بين العرب وإسرائيل. لقد وقف أولئك الأنجاس فى صف الصهاينة، وكان رأيهم أن دولة اليهود تمثل التقدمية فى منطقتنا على حين أن الدول العربية دول رجعية لا يحق لها الانتصار على عصابات الصهاينة. والغريب أن الشيوعيين نجحوا فيما بعد فى تصوير أنفسهم بالكذب والبهتان وبالحنجل والمنجل على أنهم أعداءٌ ألداءُ للمشروع الصهيونى وأنهم هم شرفاء الأوطان. وأحسن م الشرف ما فيش!
    ثم إن المؤلف، الذى يتحدث من خلال الراوى، لا يفوِّت الفرصة دون أن يعطى الفرصة للبطل للتطاول على السيدات اللاتى لا يعطينه فرصة للاحتكاك بهن، فيقول واصفا سيدتين منتقبتين: "وتوقفت عيناى عند راكبتين متجاورتين تسربلتا، بغية الانسحاب التام من عالمنا التعس، بثياب فضفاضة غطت جسديهما من الرأس إلى القدم فيما عدا ثقبين فى موضع العينين، فبدتا أقرب إلى بومتين أو اثنتين من الكائنات الفضائية المرعبة". وبطبيعة الحال هما مخطئتان فى حق البطل لأنهما لم توفرا له فرصة للعبث بأجسادهن والالتصاق بهن فى زحمة الحافلة. معلهش. الجائيات أكثر من الرائحات أيها الوغد النجس!
    ولكن انتظر أيها القارئ الكريم، فقد وقعت الواقعة وتوفرت الوجبة المطلوبة التى ينتظرها هذا المتقمم، فها هو ذا بطلنا الذى شبه المنتقبتين بالبومة يقول بعظمة لسانه الذى أدعو الله أن ينشك فيه حتى يريحنا من هذه القمامات السلوكية والفكرية: "كنت إلى جوار سيدة ممتلئة فى أواسط العمر أَوْشَكَ أن يلتصق بها من الخلف عملاق فى قميص مفتوح الصدر أرسل بصره عبر النافذة متظاهرا بالشرود، وكانت السيدة دائبة الحركة فى محاولة واضحة للابتعاد عنه مما جعلها تصطدم بى. أفسحت لها قليلا بمقدار ما سمح الزحام. وتطلعتُ، كما فعل أغلب الواقفين من حولنا، إلى الفراغ الضئيل بين ساقيه ومؤخرتها، فألفيته قد ثنى ركبته قليلا إلى الأمام على أهبة التحرش بها. ولم أملك إلا أن رفعت إليه عينى فى استياء صريح". وأرجو ألا يظن القارئ الطيب النية أن استياء البطل سببه الغيرة على عرض السيدة بل لأن الرجل قد فاز دونه بالوجبة الدنسة. وهذا كل ما هنالك.
    ثم يمضى البطل الناقص الرجولة الفاقد النخوة قائلا: "إنى شخصيا من المغرمين بذلك الجزء البارز من جسد المرأة بل ومن عشاق هذه اللحظات المختلَسة فى الزحام. ووجهة نظرى أن هذا السلوك الذى قد يستهجنه البعض ليس إلا بديلا عربيا نابعا من واقعنا وشخصيتنا المستقلة للرقص الغربى حيث يمارس الناس الأمر ذاته متواجهين"... إلخ ذلك التفلسف المنحط. وهذا كلام سطحى، فقد قرأت، وهو مجرد مثال، أن بوش الكبير كان جالسا مع بعض كبار القوم فى الولايات المتحدة فى مكان عام وامرأة إعلامية واقفة بجواره، فمد يده من خلفها ومن خلف الحاضرين لا ليلمسها بل ليقرصها فى مؤخرتها، وكتمت هى دهشتها وسكتت، وأمرها إلى مولاها، وهى تحسبن عليه وتقول: شوفوا الرجل الناقص ماذا يفعل؟ وما أمر كلنتون والفتاة المتدربة بالبيت الأبيض مونيكا لوينسكى وتحرشه بها ببعيد.
    والليلة قرأت هذا التقرير عن تحرش جنسى بامرأة فى بلد غربى تحت عنوان "فنانة شهيرة تتهم مخرجا معروفا بالتحرش بها فى منزله" بقلم محمد فضل بجريدة "المصريون" بتاريخ 9 نوفمبر 2019، ومثله كثير جدا فى تلك البلاد التى كنا نظن أنها بعيدة عن هذا الداء الأخلاقى لما نعرفه من انتشار الحرية الجنسية فيها، فليست بهم حاجة للتحرش، فضلا عن الاغتصاب، لكن الواقع يقول شيئا آخر تماما كما تقول التقارير المشابهة التى كثيرا ما نقرؤها فى الصحف والكتب وعلى الفيس بوك. يقول التقرير: "كشفت فنانة شهيرة عن تعرضها للتحرش الجنسى والتقبيل ولمس أماكن حساسة من جسدها من جانب أحد المخرجين الذى عملت معه فى منزله. وأحدث تصريح الممثلة أديل هانل حول تعرضها للتحرش عندما كانت فى المراهقة من قِبَل مخرج أول فيلم شاركت فيه صدمة فى عالم السينما الفرنسى.وقررت هانل التحدث عن تعرضها المزعوم للتحرش بعد مشاهدة الوثائقى:"مغادرة نفرلاند"، الذى يروى علاقة نجم البوب الشهير مايكل جاكسون بطفلين، وتأثير ذلك على حياتهما. وقالت هانل: "غَيَّر الفيلم منظورى"، وذلك فى مقابلة مع موقع "ميديابارت" الإخبارى.وأضافت "تعلقت برواية المخرج كريستوف روجيا للأحداث بشدة. جعلنى الوثائقى أفهم آليات السيطرة والإعجاب". وكانت هانل، وهى الآن فى الثلاثين، فى الثانية عشرة عندما حصلت على دور فى فيلم "الشياطين"، الذى أخرجه روجيا. ولعبت فى الفيلم دور فتاة يتيمة تغادر مع شقيقها للبحث عن والديهما. ووفقا للتحقيق الذى أجرته "ميديابارت"، الذى ضم 30 شاهدا آخر، فإنه يعتقد أن روجيا كان مهووسا بنجمته الصغيرة. وتحدث ممثلون وتقنيون شاركوا فى الفيلم عن الأجواء المريضة أثناء التصوير. وسافر الاثنان معا للترويج للفيلم. ويعتقد أنه دعاها إلى منزله. وتقول هانل إن روجيا لمسها لأول مرة وحاول تقبيلها فى منزله أثناء الترويج للفيلم، وحدثها عن حبه لها. وعندما كانت فى الخامسة عشرة دخلت فى أزمة عاطفية عميقة، وحاولت أن تقطع صلتها بروجيا، وحاولت الحصول على المساعدة من المحيطين به، ولكن القليلين أَبْدَوْا تعاطفهم معها. وفى هذا الأسبوع فصلت رابطة المخرجين الفرنسيين، التى كان روجيا أحد رؤسائها، المخرج من عضويتها، وهى أول مرة تتخذ فيها مثل هذه الخطوة".
    المهم أن واقعة الحافلة انتهت بأن هجم المتحرش على البطل الناقص الرجولة الفاقد النخوة، ولكمه لكمة رجت دماغه رجا عنيفا، ودفعه بقوة فارتطم بعمود الحافلة وانطرح أرضا والتوى ساعده وبُهْدِل بهدلة لم تحدث له من قبل، وعرَّض الناس فى تعليقاتهم على ما وقع بأنه مأبون. وقد سرنى هذا لا لانحيازى للمتحرش المجرم بل لأنى أعرف أن صاحبنا منافق كبير وأن تدخله واعتراضه على ما يصنع المتحرش ليس إلا تعبيرا عن حقده عليه لفوزه دونه بذلك التحرش القمىء.
    وفى روايته الأخرى: "شرف" الضئيلة الشأن التافهة القيمة التى قرأتها له فى منتصف تسعينات القرن الماضى أصبت بخيبة أمل لا توصف، إذ ألفيت مستواها الفنى متدنيا غاية التدنى، وموضوعها يدور حولالسجن وما فيه من حرمان جنسى يؤدى بالمسجونين إلى الاستمناء، وإلى اللواط بمن يسوقهم حظهم التاعس من الصبيان المساكين إلى مرافقتهم فى الحبس. ولهذا أطلقت على تلك الرواية: "الرواية الاستمنائية". ذلك أننى لم أجد فيها تقريبا شيئا آخر، واستغربت أشد الاستغراب أن يعكف روائى تطنطن له الصحافة وأقلام الكتاب اليساريين كل تلك الطنطنة على مثل هذه الموضوعات وكأنهمراهقٌ لا يفهم للحياة معنى إلا أنها مجال لتفريغ الشحنات الجنسية المهووسة عن هذا الطريق الشاذ.
    وفى "العمامة والقبعة" تركيز حاد على جماع البطل التافه، فى الرواية التافهة لغة وبناء وتصويرا للشخصيات وغير ذلك، لجارية خرساء مسكينة من جوارى الجبرتى ليس لها أية حقيقة تاريخية، إذ هى من بنيات أفكار الراوى الاستمنائية التى لا يمكن أن تختفى أو تتغير أو تحاول أن تتجمل لأنها مركوزة ركزا فى طبيعته وعقله ومشاعره وأحاسيسه، فيهجم عليها فى الظلام ويرفع ساقيها ويصنع ما يصنعه أمثاله من الأقذار الأدناس بمثل تلك الفتاة المسكينة التى لا يمكنها الدفاع عن نفسها، مباهيا أنه استطاع رغم الظلام الذى كان يسود المكان أن يعرف أن "لباسها" (وهذا تعبيره هو نفسه) مصنوع من القطن. يعنى أنه لم يكن فقط بارعا كالكلاب فى تشمم الجيف المنتنة على بعد سبعين سنة ضوئية بل كان يمكنه أن يتعرف فى الظلام على طبيعة قماش "الألبسة" أيضا. يا له من عبقرى لا مثيل له.
    ليس ذلك فقط، بل إن هذا المهووس بالجنس والمنىّ، وهو أمر يحتاج إلى تحليل نفسى يصل إلى أعماق الطوايا ويعرف لنا أية عُقَدٍ تكمن فى تلك الأركان المظلمة التى تخيم عليها العناكب والأتربة والعفونات والنتانات، يسرح مع خيالاته العامية المريضة عند الكلام عن بولين عشيقة نابليون، وهى الخيالات التى أرى أنها تدل على عُنَّة أو على الأقل: على ضعف جنسى يحاول الراوى مداراته بادعاء الفحولة وانفتاح السبيل أمامه إلى مضاجعة عشيقة نابليون كلما أراد دون عائق من باب أو حارس أو عصبية أوربية ضد شاب صعيدى أجرد الرأس فقير قبيح الوجه والشكل لا يتميز ولا يمتاز بأية فضيلة ولا يعرف الفرنسية التى يمكن أن يتفاهم بها مع من يضاجعها.
    وإلى القارئ أول شىء وقع بينهما فى ميدان الجنس: "بمجرد دخولنا مسكنها التفتت إلىّ واحتضنتنى ثم وضعت شفتيها على شفتى. وفجأة حدث شئ غريب. فقد أدخلت لسانها فى فمى.لم أدر ما جرى بعد ذلك. فقد وجدنا أنفسنا فوق أريكة مجاورة وأنا فوقها، وعضوى داخلها. احتضنتنى فى قوة، وفجأة جاء ظهرى فتشبثت بى وهى تردد لاهثة: انتظر. ثم انفصلت عنى وجففت مائى بطرف ثوبها. وأحسست أنها مستاءة. أزاحت عمامتى وعلقت على رأسى الحليقة قائلة: شعرك ناعموجميل. لماذا تحلقه؟ لو أرسلته يكون شكلك أجمل. قلت: أعوذ بالله. تريدين أن أصبح مثل المخنثين؟ فكت جدائل شعرها الطويل فتحسست خصلاته التى تدلت فوق كتفيها حتى خصرهاوشممت رائحة الصابون تنبعث منه. قالت إنها تجد صعوبة فى تنظيمه فى خصلات متموجة، وتستخدم لذلك عاكصا من الورق. وإنها تفكر فى قَصِّه حسب الموضةالجديدة إلى خصلات قصيرة تنسدل فوق الجبهة. نهضت واقفة وأخذتنى من يدى إلىالغرفة الداخلية. كان فراشها وسط الحجرة عبارة عن سجادة مبسوطة على ألواحخشبية تحيط بها أربع مخدات فخمة، وأعلى ذلك غطاء من الحرير أو الموسلين. وحولت عينى بسرعة عن الفراش. تناولت حقا صغيرا فوق منضدة بجوار الفراش. رفعت غطاءه فرأيت مسحوقا أحمر. قالت: إنه روج لتحمير الخدين لكنى لاأستخدمه. هل تعرف أن سيدات البلاط الملكى فى فرنسا كن يستعملن لزينة وجوههن 13 ظلا مختلفا واحدا فوق الآخر؟ أنا أكتفى بكريم إسمه: "ندى السوسن" أدهن به وجهى قبل النوم. وعند الخروج أبلل إصبعى الصغير وأمر به على حاجبى ورموشى حتى تلمع. كانت تتحدث كالأطفال. أحطتها بذراعى فدفنتْ رأسها فى عنقى.كانت أقصر منى قليلا. قبلتها فى عنقها فرفعتْ رأسها ووضعتْ لسانها فى فمى.غنيت لها: "قاللى غزالى:أدينى جيت، وافعل كما تختار فيَّه، أركِّب لك صدر برمّان، وتحل دكة ألفية". شرحت لها معانى الكلمات وكيف أن "الدكة الألفية" هى حزام مطرزبألف لون. جذبتها إلى الفراش. وفى هذه المرة خلعت ملابسى حتى صرت عاريا وساعدتها على خلع تنورتها وقميصها الداخلى.وبدت نحيلة للغاية. تأملت مبهورا جسدها العاجى ثم تحسست نهديها فقالت إنهما صغيران، وإنها عندما كانت فى الثانية عشرة كانت تضع عند الخروج أربعة مناديل تحت العباءة يمينا ويسارا مكان الثديين. نصحتها أن تفعل مثل بناتنا. فهن يضعن لبابة الخبز الساخن بين النهدين للتعجيل بنموهما. قالت: لكنى لم أعد صغيرة. قلت: عندى علاج آخر. التقطت ثديها بفمى وأخذت أمتصه وأجذبه إلى الخارج. ثم فعلت المثل بالثدى الآخر. انتفخت حلمتاها وبدأت تتنهد. أردت أن أثنى ساقيها إلى الخلف لكنهارفضت وباعدت بينهما. ثم ولجتها برفق. قالت: تعرف ماذا تفعل كى لا أحمل؟أومأت برأسى فهمست: لا تتعجل. جززت على أسنانى محاولا السيطرة على نفسى.وعندما فقدت السيطرة غادرتهاوأفرغت مائى فوق بطنها. سمعتها تصرخ ثم بدا لى أنها غابت عن الوعى.تطلعت إليها مصعوقا ثم تلفتُّ حولى بحثا عن قلة ماء. وإذا بها تمسك بيدى باسمة ثمترفعها إلى فمها وتقبلها. اعتدلت على ظهرها وتنهدت فى رضا. ثم وضعت يدهاعلى بطنها وبللت أصابعها من مائى ثم دعكت ثدييها. وقالت فى خبث: هذا أفضل لنمو الثديين. استلقيت إلى جوارها واحتضنتها. أفلتت من أحضانى وقالت: لا بد أن ننزل الآن قبل أن يأتى أحد". يا حَلُولِّى!
    وأرجو من القارئ الكريم أن يلتفت إلى أن الراوى لم يكن يعرف من الفرنسية، وبالذات فى أول معرفته ببولين، إلا شظايا وشذرات قليلة نيئة لا تغنى فى مثل هذه المحاورة بشىء، إلا أن صنع الله علىكل ما يناقض المنطق والواقعية جِدُّ قدير، وبه جِدُّ خبير. وقد تكرر هذا الدنس مرات، وكانا يأخذان راحتهما دون أى احتراس وكأنهمايعيشان وحدهما فى هذا العالم حتى إنه كان يذهب إلى مسكنها والحراس واقفون على الباب حماية لها لأنها عشيقة نابليون، فيمر بالحراس دون أن يسأله أحدإلى أين هو ذاهب، فضلا عن أن يمنعه من الدخول، بل دون أن يفكر أحد فى تبليغبونابرت خبر تردده عليها وبقائهما وحدهما فى الطابق الثانى لمدد طويلة. وواضح تماما لمن يقرأ الكتاب أن الكاتب لا يقبض على زمام فنه، بل كل همه هوالإثارة الجنسية مع أنها لا تليق به وبسنه المتقدمة. ولو أن هذا صدر عنشاب أرعن لما كان مقبولا، فكيف من شيخ فى سن صنع الله إبراهيم؟ وكيف،والعمل الذى ورد فيه لا يتطلب شيئا من ذلك ولا له فيه دور يمكن أن يؤديه؟إنما هو إثارة رخيصة ليس إلا. ثم إن راوى الكتاب شخصية غير تاريخية، فكيفيقيم الكاتب بينه وبين شخصية تاريخية معروفة جيدا، وكانت بينها وبيننابليون مخادنة، علاقة عشق وزنا؟
    ومما يوضح هذه النزعة بل هذا التخصص فى كتابات صنع الله إبراهيم ما قرأته فى كتابه: "يوميات الواحات" من أنه، بعد وصلة تعذيب له ولزملائه فى بداية وصولهم إلى سجن أبى زعبل فى منتصف خمسينات القرن الفائت، وفى ذات الليلةالتى مات فيها شهدى عطية، وكان نزيلا معهم فى ذلك السجن، لم يستطع كاتبنا الهمام النومليلتها إلا بعد أن "استمنى خفيةً" بنص تعبيره، ربما قياما بطقوس تشييع جثمان الفقيد لدى اليساريين! ولم لا، ولكل قوم طقوس خاصة يحرصون علىتأديتها فى المناسبات الهامة المختلفة؟ ترى هل ما زال هناك من يمكن أن يتهمنى بأنى ظلمت الأستاذ صنع الله إبراهيم حين وصفت ما يكتب بـ"تيار الكتابة الاستمنائية"؟
    هذا بالنسبة إلى الروايات السابقة فى الظهور على رواية "67"، التى نحن بصددها الآن. فهل هذه الرواية الأخيرة تختلف عن زميلاتها السابقات؟ لا، فالذى فيه داء لا يكف عنه أبدا. وهذه الرواية مفعمة بالنتانات والرجاسات الجنسية المنحطة. فالبطل إما يلهث خلف الحافلات المزدحمة التى يكثر فيها النساء حتى تتاح له الفرصة لممارسة شذوذه العفن فى الوقوف خلفهن والالتصاق بأردافهن غير مُعْفٍ سيدة كبيرة أو شابة صغيرة وغير مُرْعَوٍ عن سلوكه المنحرف الشاذ مهما كان رد فعل الضحايا المسكينات، إذ قُدَّ جلد وجهه من جلود النعال القديمة، فلم يعد يحس إحساسا إنسانيا واحدا، وإما يضاجع زوجة أخيه، الذى أكرمه بإسكانه معه وائتمانه على زوجته وابنته، فكان أن خان أخاه واعتدى على عرضه وصارت زوجة أخيه تنام معه أكثر مما تنام مع أخيه وفى أى وقت تريد أو يريد، وفى أى مكان يتاح بما فى ذلك شقة أخيه، بل وأمام حجرة الأخ النائم بالداخل حيث يمكن أن يستيقظ أخوه فى أى وقت فيخرج ليشرب أو ليدخل الحمام أو ليتبين سر التأوهات والهمسات التى تصدر عن المجرمَيْن أمام غرفته ويرى المصيبة المهببة بأم عينيه.
    وهو ما يذكّرنى بسياسة "حافة الهاوية" التى كان ينتهجها جون فوستر دالاس وزير الخارجية الأمريكى من 1953 إلى 1959 تحت رئاسة دوايت أيزنهاور. وتتمثل سياسة "حافة الهاوية" فى تصعيد أية أزمة دولية ودفعها إلى حافة هاوية سحيقة، مع إيهام الخصم بأنك تأبى التنازل أو الاستسلام ولو أدّى الأمر إلى اجتياز هذه الحافة المرعبة. وكان جون فوستر دالاس أول من من ابتدع تلك السياسة واستخدم لها هذا المصطلح. إن الولد الخلبوص لم ير مكانا يخون فيه أخاه ويعتدى على عرضه متمثلا فى زوجته إلا أمام غرفته بحيث يضعنا طوال الوقت الذى يمارسان فيه الزنا ويستمتعان بالخيانة على صفيح ساخن يشبه حافة هاوية دالاس. لعنه الله هو وهى ودالاس فى وقت واحد!
    والواقع أننا هنا أمام حيوان ينتمى على سبيل الخطإ إلى بنى الإنسان. بل إنه لينتهز فرصة الظلام فى مخبإ العمارة التى يسكنونها فيقبل زوجة أخيه ويعبث بجسدها، والمجرمة الشاذة تطرب لهذا أيما طرب، غير مبالية بوجود زوجها وطفلتها وأناس آخرين معهما فى المخبإ. وفى مرة من المرات كان الثلاثة واقفين فى ظلام الليل منحنين على جدار الشرفة ينظرون إلى ما يجرى فى الشارع، فأخذ يتحسس ساق زوجة أخيه التى كانت تقف بين الاثنين، وظل يصعد بيده التى تستأهل القطع إلى أن وصل إلى مكان خشن (مشعر)، فعرف بذكائه الخارق أنها لم تكن تلبس ملابس داخلية. يا للعبقرية! ومرة أخرى كان يضاجع تلك العاهرة فى حجرته بعد أن أحكم إغلاقها من الداخل، ولما انتهيا من رجسهما فتح الباب فوجد بنت أخيه الصغيرة تنظر فى استغراب برىء إليهما، فأراد الحيوان أن يداعبها، فمد يده إلى خدها لتبعدها عنها بضيق وغضب، لكن حيوانيته لم تتأثر بشىء من ذلك، ولم يَخِزْه ضميره أو ينقح عليه عرق الأخوة أو يفكر فى التراجع. ألم أقل إنه حيوان ينتمى على سبيل الخطإ إلى بنى الإنسان؟
    وتبلغ عهارة الزوجة مداها البعيد حين تصرح أمامه بأنها راضية عن حياتها، إذ توافر لها الزوج والعشيق والطفلة، وبقيت السيارة فقط. ترى هل يمكن أن تكون هناك امرأة مصرية فى ذلك الوقت تنتمى إلى أسفل الطبقة الوسطى وموظفة بسيطة وغير مثقفة ولا تفهم فى الحذلقات المنتنة المنحطة التى يلوكها الشيوعيون وأمثالهم عن الجسد والجنس وحرية العهر يمكن أن تباهى بهذا أصلا ولو بينها وبين نفسها، بَلْهَ أمام الآخرين، وبخاصة أمام عشيقها الذى هو أخو زوجها؟ إن هذه أخلاق الشيوعيين السفلة يريدون أن تشيع فى المجتمع كله حتى يكون المجتمع كله نجسا وعفنا وقذرا مثلهم.
    وليس فى الرواية تقريبا شىء آخر غير هذا العهر، ومن ثم لا أدرى لماذا سماها المؤلف: "67"؟ إن النكسة لم تظهر فى الرواية إلا على خجل شديد وعلى نحو عارض لم تتمثل تقريبا إلا فى الإشارة إلى الخطبة التى ألقاها عبد الناصر قبيل الحرب بأيام، والخطبة التى أعلن فيها رغبته الكاذبة فى التنحى. ولو قرأ الرواية من لا يعرف تلك الفترة وتلك الهزيمة البشعة التى نالها عبد الناصر ما فهم شيئا من تلك الإشارات العارضة الغائمة. كما أن البطل لا يفعل شيئا طوال الوقت إلا تلك العهارات. صحيح أنه قد يشير بين الحين والحين إلى أنه ذاهب إلى الجريدة، لكننا ننظر وندقق النظر ونطيله ونكرره فلا نجده يصنع شيئا فى الجريدة ولا يكتب شيئا للجريدة ولا يعرض شيئا من الأفكار التى تطرأ على عقول من يشتغلون فى جريدة. ومعظم ما يفعله فى الجريدة يتلخص فى اتصاله بزوجة أخيه أو اتصالها هى به كى تأتيه فى شقة صديقه ليضاجها أو لتصحبه معها إلى البيت كما يصطحب الرجل كلبه الذليل المطيع، ليضاجعها أيضا.
    والبطل حيوان لا يشعر بالانتماء إلى أى شىء: لا ينتمى إلى الوطن. فالنكسة تقع، ولكنه لا يحس بأى ألم أو إحباط بل لا يهتم بما وقع أصلا، وكأنه ليس مصريا. إنه يمارس حياته الدنيئة كما كان يمارسها من قبل وكأن كارثة لم تنقض على أم يافوخ مصر. إنه يهتم فقط بالأكل والشرب والتدخين ومضاجعة زوجة أخيه. وهو لا يحس بالانتماء إلى الأسرة، وإلا فلو كان عنده ذرة من الإنسانية أو الرجولة لتوقف عن خيانة أخيه فى زوجته. لكنه، كما قلت، حيوان يعد على سبيل الخطإ واحدا من بنى الإنسان. كذلك لا ينتمى إلى أية قيم أخلاقية أو اجتماعية من شأنها أن تساعده بنورها على إبصار طريقه، بل يؤثر طريق الطين النتن والنجاسة العفنة على النظافة والطهارة.
    ومن هنا أرانى أستغرب مزاعم بعض النقاد الهلاسين الذين يدَّعون أن ما يصنعه هذا البطل السافل طوال الرواية إنما هو تعبير رمزى عن أوضاع مصر قبل النكسة. الحق أن هذا كلام سخيف بل وضيع، وإلا لقد كان ينبغى أن يكون جميع المصريين فى تلك الفترة على هذه الشاكلة المعوجة اعوجاج ذيل الكلب. كذلك لو كان هذا الكذب صحيحا لكان ينبغى أن يكف بطل الرواية عن عهره ودنسه ونجاسته بعد النكسة. لكنه ظل يصنع بعد الهزيمة المروعة التى ما زلنا نعيشها ونحترق بها صباحَ مساءَ، ومساءَ صباحَ حتى الآن وإلى ما شاء الله كما كان يصنع قبلها لم يتغير قِيدَ شعرة. وقد سبق أن وضحت أنه لم يكن يبالى بأى بشىء بعد الهزيمة، ولم يهتم إلا بأن يأكل ويشرب ويتحرش بأرداف النساء فى الحافلات ويضاجع زوجة أخيه ويضاجع أيضا فوق البيعة ما تيسر من أشباه المومسات من السائحات الغربيات اللاتى يأتين إلى بلادنا وأمثالها ليجامعهن أشباه البشر فى السرير واحدا إثر واحد دون أى فاصل زمنى كتلك السويدية الأربعينية ذات الشعر الرمادى. إنه فى الواقع لا يزيد عن كلب يبحث عن الجيف ويشمها على بعد سبعين سنة ضوئية. إن أولئك النقاد البكاشين إنما يريدون أن يخلعوا على الرواية شيئا يرتفع بها عن الحضيض القذر الذى تتمرغ فيه ولا يمكنها مفارقته بَلْهَ العلوّ عليه، ولكن هيهات ثم هيهات ثم هيهات.
    وهؤلاء النقاد المدَّعون يقولون أيضا إن الجنس فى الرواية جنس مأزوم. يحاولون بهذا الكلام الماسخ أن يخففوا من كَمّ الرجس الذى يلطخ الرواية تلطيخا. فالبطل يمارس الجنس بكل أريحية ورضا وانسجام ومائة فُلّ وعشرة إن صح أن ننسب الأريحية والرضا والانسجام إلى حيوان، ولا يشعر بأى حرج أو لذع ضمير أو اضطراب مشاعر أو حياء. ذلك أن الحيوانات لا تحس بشىء من ذلك مطلقا. وبطلنا، كما كررت مرارا، هو حيوان ينتسب خطأ إلى بنى الإنسان.
    كذلك يقول هذا الضرب من نقاد آخر زمن إن البطل قد ترك مصر سخطا على ما وقع من هزيمة. ولكن الرواية لا تقول شيئا من هذا على أى نحو من الأنحاء، بل إنه ترك مصر، والسلام. وهذا كل ما تقوله الرواية. لو كان الأمر كما يقول أولئك المحسوبون على النقد الأدبى لكنا رأيناه يقاسى ويتألم، لكنه كان طول الوقت وطوال الأيام يأكل ويشرب ويمارس الجنس الحرام الدنس دون أن يحس بأية خالجة من ندم أو خجل، ودون أن تؤثر النكسة فيه أى تأثير، بل دون أن يتغير بعدها عما كانه قبلها أى تغير مهما كانت ضآلته.
    ومن المضحك أن نراه يزعم بأنه لم يرض نشر الرواية فى عهد السادات حتى لا يتخذها اليمين الرجعى تكأة للإساءة إلى عبد الناصر. ولكن أين الإساءة إلى عبد الناصر فى الكتاب؟ إن النكسة لتمر مرورا مكتوما فى الرواية، التى ليس فيها أى انتقاد لعبد الناصر من أى نوع. فكيف يا ترى يمكن أن يستغلها أعداؤه فى التشنيع عليه؟ إن هذا الذى يقوله صنع الله إبراهيم كلام مضحك لا يدخل عقل نملة، فالنكسة معروفة للعالم كله، ولم تكن سرا خفيا بين صنع الله إبراهيم وعبد الناصر حتى يقال إن الرواية يمكن اتخاذها سببا للنيل منه، وكأن عبد الناصر لم يصر هدفا لكل منتقد ومسىء ومتطاول ومتهكم وفَقَد هيبته السابقة وصار وضعه يبعث على الرثاء منذ وقعت واقعة النكسة الصاعقة المدمرة وظهر للقاصى والدانى أنه كان مجرد خطيب جعجاع يبرع فى الكلام الزاعق ويردد الشعارات الطنانة ويَعِدُ بكل مستحيل، لكنه عند العمل يبلّط فى الخط ولا يريم ولا ينجز شيئا، وعند الجِدّ ينال علقة لا تنسى طوال التاريخ بل طوال الآزال والآباد من دويلة شذاذ الآفاق التى كان يردد مرارا أنه سوف يلقيها فى البحر، فكان أن ألقتنا جميعا بربطة المعلم فى أعماق المجارى.
    والغريب العجيب أن نسمع المؤلف يزعم فى ذات الوقت أنه لم ينشرها فى مصر أيام عبد الناصر خوفا من عبد الناصر. أى كلام وطحينة! ترى ما الذى فى الرواية مما يسىء إلى عبد الناصر حتى ليخشى صاحبها نشرها فى مصر إبان حياته؟ الواقع أنها تخلو تماما مما يمكن أن يسىء من بعيد أو من قريب إلى عبد الناصر. فما معنى ذلك الكلام إذن؟ معناه أن المؤلف يريد أن يظهر بمظهر الرجل الخطير الشأن الذى يمكن أن يضر الكبار وينفعهم مع أنه لا ضرر ولا نفع فى الرواية ولو لجُرَذٍ صغير حقير. وهل عند بطل الرواية الحيوان الذى لا يصنع شيئا سوى أن يأكل ويشرب وبسافد ثم لا شىءآخر ضرر أو نفع؟
    وقد سئلت هنا من معدة الاستضافة المذكورة سؤالا يتردد كثيرا على ألسنة النقاد وغيرهم، وهو: هل يصح أن نحكم على العمل الأدبى بمقياس أخلاقى أو دينى؟ ورأيى هو أن العمل الأدبى شكل ومضمون. فأما الشكل فسوف نأتى إليه فيما بعد. وأما المضمون فيشمل أشياء كثيرة منها تحليل نفسيات الأشخاص داخل الرواية، بل وتحليل شخصية الأديب نفسه. صحيح أن أحدا لا يضمن أن تكون هذه التحليلات فى محلها، لكنها على كل حال جزء من النقد الأدبى. وهذا هو "المنهج النفسى". وهناك أيضا المنهج الاجتماعى، وهو يركز على الأوضاع الاجتماعية التى تنعكس فى العمل الأدبى من عادات وتقاليد وعلاقات اجتماعية ومعتقدات شعبية وما إلى ذلك، بل ويدخل فيه كيفية تأثير تلك الأمور فى شخصية المبدع. وقد تطور هذا المنهج فتفرع منه ما يسمى بـ"المنهج الثقافى"، الذى يجعل أتباعه وكدهم التغلغل فى أطواء النص واستخلاص ما يسمونه: "النسق الثقافى"، وهو كل ما يتصل بأمور الثقافة من عادات وتقاليد وأخلاق ودين وأدب شعبى وأدب مهمل لا يحظى لسبب أو لآخر باهتمام النقاد المعروفين... إلخ.
    وهناك النقد الماركسى، الذى كان يهتم بالصراع الطبقى وينحاز إلى العمال والفلاحين ويعادى الرأسماليين والرجعيين ويدعو الأديب إلى أن يكون متفائلا مؤمنا بحتمية انتصار المستضعفين فى المجتمع. وكانوا يطلقون على الأدب الذى يراعى هذا: "الأدب الهادف"، وهو ما أثار سخرية المخالفين لهم بل وبعض اليساريين المعتدلين فحرَّفوا المصطلح إلى "الأدب الهاتف". ولم يكن النقاد الماركسيون بوجه عام يرون فى ذلك ما يمكن أن يعاب. فهذه معتقداتهم وأخلاقهم، ولا بد أن يعكس الأدب تلك المعتقدات والأخلاق، وإلا كان أدبا رجعيا ينهالون بسياط نقدهم على ظهور مبدعيه. وهناك من يدرس الروايات من زاوية سياسية. وما أكثر الكتب والرسائل والبحوث التى تتناول كتابات نجيب محفوظ وأمثاله من الناحية السياسية... وهكذا.
    ولا يمكن أن ننسى الرسالة التى كتبها طه حسين لدن تخرجه من جامعة القاهرة، وكانت عن أبى العلاء المعرى، وفيها كلام عن عقيدة الشاعر العباسى الكبير، ولم نسمع أحدا اعترض على طه حسين أو قال له: "لم خلطت أبا قرش على أبى قرشين؟ ألم تعلم أن الدين لا ينبغى أن يدخل الأدب يا فتى؟". ولاتزال تلك الرسالة التى كتبت فى أواسط العشرية الثانية من القرن الفائت محل ثناء من كثير من النقاد، وبخاصة النقاد الذين يشهرون فى وجوه غيرهم لافتة "لا دين فى الأدب، ولا أدب فى الدين". ثم إن طه حسين نفسه قد تناول، فى كتابه عن الشعر الجاهلى، ذلك الشعر من الناحية الدينية والسياسية، فقال مثلا إن المسلمين قد استعانوا بأسطورة زيارة إبراهيم وإسماعيل إلى مكة وبنائهما الكعبة فى التقرب إلى اليهود وعقد صلة نسب معهم. وبالمثل نجده، فى الجزء الثانى من "حديث الأربعاء"، يكر على بشار بالهجوم ويتهمه فى دينه ويرميه بالنفاق. وقد تناول د. محمد النويهى هو أيضا هذه القضية فى كتابه عن بشار، وإن كان قد دافع عنه. لكنه لم يقل لمن كتب عن دين الرجل: "لم أدخلت الدين فى الأدب؟".
    وأنا، وأعوذ بالله من قولة "أنا"، قد عالجت فى كتابى عن شخصية المتنبى التهمة التى رُمِىَ بها فى دينه وأثبتُّ أنه لم يفارق الإسلام بل كل ما فى الأمر أنه يتهور أحيانا فى عباراته لا يبالى أين تقع ما دامت تعبر عما يريد أن يقول من أنه شاعر متفوق لا يمكن غيره من الشعراء أن يلحق به فى أفقه السامق. بل لقد توصلت إلى أنه لا يمكن أن يكون قد قاد ثورة فى صباه ادعى فيها النبوة. وهذا كله موجود بالتفصيل فى كتابى: "المتنبى- دراسة جديدة لحياته وشخصيته". ثم إنى لم أتوقف هنا بل ترجمت بحث ماسينيون، الذى ادعى فيه على شاعرنا الكبير أنه كان قرمطيا، وشفعت الترجمة بدراسة شديدة التفصيل لكل ما ورد فيها، وانتهيت إلى أن المتنبى لا علاقة له بالقرمطية بأى معنى من المعانى ولا من أى جانب من الجوانب، بل كان يكرههم واشترك فى محاربتهم بالكوفة حتى صدهم مع من صدوهم عنها. كذلك أثبتُّ فى كتابى عن بشار أنه لم يخرج عن الإسلام، مدللا على ذلك من وقائع حياته ومن شعره ومن مواقفه، وإن لم أقل إنه كان مثال المسلم التقى الورع. وفى كتابى الآخر عن أبى نواس تناولت إراقته موهبته الشعرية الكبيرة التى لا يشك فيها على موضوعات الخمر والشذوذ الجنسى، لكنى لم أحاول قط التهوين من موهبته وشاعريته. بل إنى كثيرا ما أقول لطلابى على سبيل الضحك، ولكنه الضحك الجاد، إننا نتعلم الأدب من قليل الأدب، وأقصد أننا تعلمنا اللغة والأسلوب والذوق الأدبى الرائع من أمثال امرئ القيس وبشار وأبى نواس رغم أنهم لم يكونوا ولا يمكن أن يكونوا أمثلة عليا فى الخلق والسلوك.
    كما أن الدكتور محمد مندور، فى الجزء الأول من كتابه: "الشعر المصرى بعد شوقى"، قد هاجم كثيرا مما قاله العقاد فى ملحمته الرائعة: "ترجمة شيطان" مكررا القول بأن ما قاله العقاد على لسان الشيطان هو أفكاره وعقائده هو، وأن التمرد والتجديف الذى تمرده وجدفه أبو الأباليس على ربه إنما هو تمرد العقاد وتجديفه فى الحقيقة. قاله مندور على سبيل الاتهام والزراية على العقاد ودفاعا، فيما يبدو لنا، عن الدين. وهذا أمر غريب من د. مندور. ومع ذلك كله لم نسمع أن أحدا أخذ على مندور هذا الذى قاله.
    ثم إن كثيرا ممن ينادون بتنحية الدين والأخلاق عن النقد الأدبى سرعان ما يهاجمون أى مبدع يدعو إلى عكس ما يعتقدون هم. لقد كان النقاد الماركسيون فى كتاباتهم يحملون حملة شعواء على كل من يشمون فيه رائحة الخروج على دعوتهم وشعاراتهم ويتهمونه بالرجعية والتخلف ومعاداة المستقبل. وما كتاب العالم وأنيس: "فى الثقافة المصرية" بالذى يجهله أحد من النقاد، وهو مملوء بهذا الذى أقول دون مواربة أو جمجمة على الإطلاق. فالمسألة إذن ليست تنحية العقيدة والخلق عن الأدب، بل تنحية العقيدة والخلق الإسلامى، وإلا فما من ناقد أو أديب إلا وهو يصدر فيما يكتب عن بنائه العقيدى والخلقى، ولا يمكن أن يهرب من ظله. كل ما هنالك أنه يكره عقيدة وخلقا معينين، ويريد أن يفرض عقيدته وخلقه هو، وإن لم يصرح بما فى قلبه، بل يلجأ إلى اللف والدوران. والأستاذ صنع الله إبراهيم خير مثال على ذلك، فهو يهاجم من يحرمون الخمر، ويصف المنتقبات بأنهن يشبهن البومة، ويعلى من شأن الزنا والعلاقات غير الشرعية فى كتاباته. وكلامه فى رواية "اللجنة" على لسان بطلها عن التحرش بالنساء والفتيات فى الحافلات وفلسفته الدنسة فى ذلك واضح تمام الوضوح لا يمكن أحدا الشك فيه أو التردد بشأنه.
    ومن قبله، وهو مجرد مثال آخر، هناك حيدر حيدر القصاص السورى الماركسى، الذى وضع رواية "وليمة لأعشاب البحر"، وهجم فيها هجوما شنيعا مجرما على الإسلام وكل ما له صلة بالإسلام وشتم الله والرسول ودعا إلى الثورة من أجل تمكين الطبقة العمالية من مقدرات البلاد وحط من شأن العفة وأكد أن حرية النساء والفتيات العربيات تتمثل فى حرية الزنا، وجعل كل هم بطله المنحط هو أن ينال من البنت الجزائرية الحمقاء ما يريد من جسدها دون أن يفكر فى العواقب التى يمكن أن تتعرض لها حين يكتشف أهلوها "الرجعيون أولاد ستة وستين" حقيقة الأمر، وبخاصة إذا حملت. أليس قد نال ذلك المجرم غايته وأطفأ شهوته؟ فلتذهب الحمقاء بعد ذلك إلى الجحيم، ولا عزاء لها ولا لأمثالها ممن ينخدعن فى مثل ذلك المجرم وكلامه البراق عن الحرية والتنويرية والتقدمية.
    وقد هب النقاد إياهم على بكرة أبيهم يدافعون عنه بحجة أن الأدب إبداع حر لا يصح تقييده. وتجاهلوا أنه هو نفسه فى روايته قد هاجم الإسلام والأخلاق الكريمة الفاضلة والمجتمعات العربية كلها والتاريخ الإسلامى من أوله إلى آخره. أى أنهم يعطونه هو وأشباهه من الملتاثين عقيديا وخلقيا الحرية الكاملة لقول ما يقولون رغم ما يسببه من أذى لنا، لكنهم يحرمون علينا أن نرد ونوضح ونقول رأينا. فانظر إلى هذا الخبث الجلف! ثم إنى أسأل من يهاجمون العقيدة والخلق الكريم سؤالا واضحا وصريحا ما داموا يرفعون لافتة أننا فى نقد الأدب ينبغى ألا نفكر فى شىء غير الناحية الفنية، وهو: هل هناك من يستطيع منكم مهاجمة أى حاكم تعيشون فى سلطانه كما تهاجمون الدين والأخلاق بحجة حرية الأدب وحق الأديب فى أن يقول كل ما يخطر بباله؟
    كذلك فإنهم حين يقولون ذلك يظنون، أو بالأحرى يوهمون القراء أن النقاد كلهم يقولون هذا الذى يقولون، ويقفون من هذه القضية نفس الموقف. وهم يأتون إلى بعض ما قاله نقادنا القدماء ويقتطعونه من سياقه ثم يتخذونه أداة لإثبات صحة موقفهم. إنهم دائما ما يستشهدون بكلام أبى الحسن الجرجانى التالى فى كتابه: "الوساطة بين المتنبى وخصومه": "فلو كانت الديانة عارا على الشعر، وكان سوء الاعتقاد سببا لتأخر الشاعر، لوجب أن يُمحى اسمُ أبى نواس من الدواوين، ويحذف ذكره إذا عُدّت الطبقات، ولَكان أولاهم بذلك أهل الجاهلية، ومن تشهد الأمة عليه بالكفر، ولوجب أن يكون كعب بن زهير وابن الزِّبَعرى وأضرابُهما من تناول رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وعاب من أصحابه بُكْما خرسا، وبِكاء مفحمين، ولكنّ الأمرين متباينان، والدين بمعزل عن الشعر"، متجاهلين أن الجرجانى إنما يتحدث هنا عن الناحية الفنية من الإبداع. وهذا مما لا نشاح فيه. وقد سبق أن قلت إننى أُكْبِر أسلوبَ النواسى فى شعره لغة وتصويرا وتركيبا وعبارات، لكننى فى ذات الوقت أرى أنه ضيع تلك الموهبة الكبيرة التى لا يشاح فيها أحد على موضوعات الخمر والغلمان والمديح السخيف وما أشبه. ويدل على أن الأمر على نحو ما قلتُ أن الجرجانى نفسه وفى الكتاب المذكور نفسه يقول عن الهجاء مثلا: "فأما الهجو فأبلغه ما خرج مخرج التهزل والتهافت، وما اعترض بين التصريح والتعريض، وما قربت معانيه، وسهل حفظه، وأسرع علوقه بالقلب ولصوقه بالنفس، فأما القذف والإفحاش فسباب محض، وليس للشاعر فيه إلا إقامة الوزن".
    وقد علق ابن رشيق فى كتابه: "العمدة فى محاسن الشعر وآدابه" على ذلك قائلا: "ومما يدل على صحة ما قاله صاحب "الوساطة" وحسن ما ذهب إليه إعجاب الحذاق من العلماء وفرسان الكلام بقول زهير فى تشككه وتهزله وتجاهله فيما يعلم:
    وما أدرى وسوف إخال أدرى: = أقَوْمٌ آل حصن أم نساءُ؟
    فإن تكن النساء مخبآتٍ = فحق لكل محصِنة هداءُ
    وإن هذا عندهم من أشد الهجاء وأمضه. ولما قدم النابغة بعد وقعة حسى سأل بنى ذبيان: ما قلتم لعامر بن الطفيل وما قال لكم؟ فأنشدوه، فقال: أفحشتم على الرجل، وهو شريف لا يقال له مثل ذلك، ولكنى سأقول. ثم قال:
    فإن يك عامر قد قال جهلا = فإن مطية الجهل السباب
    فكن كأبيك أو كأبى براء = تصادفك الحكومة والصواب
    فلا يذهب بلبك طائشات = من الخيلاء ليس لهن باب
    فإنك سوف تحلم أو تناهى = إذا ما شبت أو شاب الغراب
    فإن تكن الفوارس يوم حسى = أصابوا من لقائك ما أصابوا
    فما إن كان من سبب بعيد = ولكن أدركوك وهم غضاب
    فلما بلغ عامرا ما قال النابغة شق عليه، وقال: ما هجانى أحد حتى هجانى النابغة. جعلنى القوم رئيسا، وجعلنى النابغة سفيها جاهلا وتهكم بي!".
    وهل يظن ظانٌّ مهما جمحت به الظنون أن الجرجانى أو أى ناقد مسلم يمكن أن يترخص فيقبل أن يهان دينه أو نبيه فى شعر ويسكت فلا يفتح فمه لأن الشعر بمعزل عن الديانة؟ نعم إذا أردنا أن نحكم على الناحية الفنية فقد نرى أن العمل الأدبى عمل جيد، لكننا لن نسكت فى ذات الوقت على البذاءة فى حق نبينا أو التطاول على ديننا وكتاب ربنا مثلا، بل سوف ننتقده انتقادا مرا كما مَدَحْنا فنه ولغته وخيالاته وبناء قصيدته وتجديداته إن كان صاحب تجديدات. وأنا مثلا لم يمنعنى مثلا من الإشادة بكثير من أشعار بشار من الناحية الفنية ما فيها من فحش، مثلما لم يمنعنى ما فى شعره من جودة فنية من انتقاده الشديد على تلك المفاحش والبذاءات.
    ومن هنا فقد استغربت ما كتبه د. محمد حسين هيكل فى كتابه: "ولدى" عن أنه رأى أحد المسلمين فى الكوميدى فرانسيز، حين كان يشاهد مسرحية تتناول الصراع بين الإسلام والنصرانية فى بعض فترات التاريخ وتتهجم على ديننا، قد قام من مكانه وأخذ يصفق إعجابا بالتمثيل البارع الذى كان يشاهده، وتساءلت: إذا كان هذا حق التمثيل المتقن عليه فأين حق دينه ونبيه وقرآنه وتاريخ أمته؟ أيمكن أن يكون الدم الذى يجرى فى عروق هذا المسلم قد استحال ماء مثلجا ففقد نخوته نحو دينه ولم يعد يبالى بما ينصب عليه فى المسرحية من حقد وافتراءات لا لشىء سوى أن التمثيل كان متقنا؟ ألا إن هذا عَمًى، والعياذ بالله!
    وفى "جمع الجواهر فى الملح والنوادر" للحصرى أن "أبا بكر محمد بن القاسم الأنبارى كتب إلى عبد الل بن المعتز: "جرى فى مجلس الأمير ذكر الحسن بن هانىء والشعر الذى قاله فى المجون وأنشده وهو يؤم قوما فى صلاة، وهو أن لكل ساقطة لاقطة، وأن لكلام القوم رواة، وكل مقول محمول. فكان حق شعر هذا الخليع ألا يتلقاه الناس بألسنتهم ولا يدونوه فى كتبهم، ولا يحمله متقدمهم إلى متأخرهم لأن ذوى الأقدار والأسنان يجلّون عن روايته، والأحداث يغشون بحفظه، ولا يُنْشَد فى المساجد، ولا يُتَجَمَّل بذكره فى المشاهد. فإن صُنِع فيه غناء كان أعظم لبَلِيَّته لأنه إنما يظهر فى غلبة سلطان الهوى، فيهيج الدواعى الدنيئة، ويقوى الخواطر الرديئة. والإنسان ضعيف يتنازعه على ضعفه سلطان القوى، ونفسه الأمارة بالسوء. والنفس فى انصبابها إلى لذاتها بمنزلة كرة منحدرة من رأس رابية إلى قرار فيه نار، إن لم تحبس بزواجر الدين والحياء أداها انحدارها إلى ما فيه هلكتها.
    والحسن بن هانىء ومن سلك سبيله من الشعر الذى ذكرناه شطار كشفوا للناس عُوَارهم، وهتكوا عندهم أسرارهم، وأَبْدَوْا لهم مساويهم ومخازيهم، وحسَّنوا ركوب القبائح. فعلى كل متدين أن يذم أخبارهم وأفعالهم، وعلى كل متصور أن يستقبح ما استحسنوه، ويتنزه من فعله وحكايته. وقول هذا الخليع: تَرْكُ ركوب المعاصى إزراء بعفو الله تعالى حَضٌّ على المعاصى أن يتقرب إلى الله عز وجل بها تعظيما للعفو. وكفى بهذا مجونا وخلعا داعيا إلى التهمة لقائله فى عظم الدين. وأحسن من هذا وأوضح قول أبى العتاهية:
    يخاف معاصيه من يتوب = فكيف ترى حال من لا يتوب؟"
    فهذا رأى عالم من علمائنا القدماء فى هذا الموضوع. وهناك أبو منصور الثعالبى، الذى كان يرى رأى أبى الحسن الجرجانى فى أن الديانة ليست عارا على الشعراء، ولكنه يعقب عليه بما يتفق مع رأيى الذى ذكرته آنفا، إذ قال فى "أبو الطيب المتنبى وما له وما عليه": "على أن الديانة ليست عيارا على الشعراء ولا سوء الاعتقاد سببا لتأخر الشاعر، ولكن للإسلام حقه من الإجلال الذى لا يَسُوغ الإخلال به قولا وفعلا ونظما ونثرا. ومن استهان بأمره، ولم يضع ذكره وذكر ما يتعلق به فى موضع استحقاقه، فقد باء بغضب من الله تعالى، وتعرض لمَقْتِه فى وقته. وكثيرا ما قَرَع المتنبى هذا الباب بمثل قوله:
    يترشَّفْنَ من فمى رشفاتٍ = هُنَّ فيه أحلى من التوحيد
    وقوله:

    ونُصْفِى الذى يكنى:أبا الحسن الهوى

    ونُرْضِى الذى يُسْمَى: الإله ولا يُكْنَى

    وقوله من قصيدة مدح بها العلوي:
    وأبهر آيات التهامى أنه = أبوكم وإحدى ما لكم من مناقبِ
    تتقاصر الأفهام عن إدراكه = مثل الذى الأفلاك فيه والدُّنَا
    وقد أفرط جدا، لأن الذى الأفلاك فيه والدُّنَا هو علم الله عز وجل. وقوله:
    الناس كالعابدين آلهةً = وعبدُه كالموحِّدِ اللهَ
    وقوله:
    لو كان علمك بالإله مقسما = فى الناس ما بعث الإله رسولا
    أو كان لفظك فيهم ما أنزل = التوارة والفرقان والإنجيلا
    وقوله:
    لو كان ذو القرنين أعمل رأيه = لما أتى الظلمات صرن شموسا
    أو كان صادف رأس عازرَ سيفه = فى يوم معركة لأعيا عيسى
    (عازر: اسم الرجل الذى أحياه المسيح عليه الصلاة والسلام بإذن الله عز وجل)
    أو كان لج البحر مثل يمينه = ما انشق حتى جاز فيه موسى
    وكأن المعانى أعيته حتى التجأ إلى استصغار أمور الأنبياء. وفى هذه القصيدة:
    يا من نلوذ من الزمان بظله = أبدا، ونطرد باسمه إبليسا
    وقوله، وقد جاوز حد الإساءة:
    أى محلٍّ أرتقي؟= أى عظيم أتقي؟
    وكل ما قد خلق اللــــــــــــــــــــــــــــ=ــــــــــــــــــ ـــــــــــه وما لم يخلقِ
    محتقَرٌ فى همتى = كشعرةٍ فى مفرقي
    وقبيح بمن أوله نطفة مذرة، وآخر جيفة قذرة، وهو فيما بينهما حامل بول وعذرة، أن يقول مثل هذا الكلام الذى لا تسعه معذرة".
    ولدينا كبير نقادنا القدماء عبد القاهر الجرجانى، الذى يكثر فى العقود الأخيرة الثناء عليه والتأكيد بأن ما كتبه فى حقل النقد الأدبى والبلاغة هو أساس كثير مما جاءنا عن النقاد الغربيين فى العقود الأخيرة. فماذا يقول ذلك الناقد الكبير؟ قال فى "أسرار البلاغة" تعقيبا على بيت للمتنبى استشهدنا به توا: "ومما كأنه يدخل فى هذا الجنس قولُ المتنبي:
    يترشَّفْنَ من فَمِى رَشَفاتٍ = هُنَّ فيهِ أَحْلَى من التَّوحيدِ
    والنفس تنبو عن زيادة القولِ عليه. وقد اقتدى به بعض المتأخرين فى هذه الإساءة فقال:
    سواد صُدْغَين من كفرٍ يقابله = بياض خدَّين من عَدْلٍ وتوحيدِ
    وأبعدُ ما يكون الشاعر من التوفيق إذا دعته شهوة الإغراب إلى أن يستعير للهزل والعَبث من الجِدِّ، ويتغزل بهذا الجنس".
    كذلك عندنا ابن شرف القيروانى: "هذا أمرؤ القيس أقدم الشعراء عصرا، ومقدمهم شعرا وذكرا، وقد اتسعت الأقوال فى فضله اتساعا لم يفز به غيره حتى إن العامة تظن بل توقن أن جواد شعره لا يكبو، وحسام نظمه لا ينبو، وهيهات من البشر الكمال، ومن الآدميين الاستواء والاستدلال، يقول فى قصيدته المقدمة، ومعلقته المفخمة:
    ويومَ دخلتُ الخِدْرَ خِدْر عُنيزةٍ= فقالت: لك الويلاتُ! إنك مُرْجِلِي
    فما كان أغناه عن الإقرار بهذا، وما أشد غفلته عما أدركه من الوصمة به! وذلك أن فيه أعدادا كثيرة من النقص والبخس: منها دخوله متطفلا على من كره دخوله عليه، ومنها قول عنيزة له: "لك الويلات"، وهى قولة لا تقال إلا لخسيس، ولا يقابَل بها رئيس. فإن احتج محتج بأنها كانت أرأس منه قيل له: لم يكن ذلك لأن الرئيسة لا تركب بعيرا يدرج أو يموت إذا ازداد عليه ركوب راكب، بل هو بعير فقير حقير. فإن احتج له بأنه صبر على القول من أجل أنها معشوقة قيل له: وكيف يكون عاشقا لها من يقول لها:
    فمثلك حُبْلَى قد طَرَقْتُ ومُرْضِعا = فألهيتُها عن ذى تمائم مُحْوِلِ؟
    وإنما المعروف للعاشق الانفراد بمعشوقته واطراح سواها، كالقيسين فى ليلى ولبنى، وغَيْلان بمَيَّة، وجميل ببثينة، وسواهم كثير. فلم يكن لها عاشقا، بل كان فاسقا. ثم أهجنُ هجنة عليه، وأسخنُ سخنةٍ لعينيه، إقراره بإتيان الحبلى والمرضع. فأما الحبلى فقد جبل الله النفوس على الزهد فى إتيانها، والإعراض عن شأنها: منها أن الحبل علّة، وأشبه العلل بالاستسقاء، ومع الحبل كمود اللون، وسوء الغذاء، وفساد النكهة، وسوء الخلق، وغير ذلك. ولا يميل إلى هذا من له نفس سوقى، دع نفس ملوكى.وأعجب من هذا أن البهائم كلها لا تنظر إلى ذوات الحمل من أجناسها، ولا تقرب منها حتى تضع أحمالها، أو تفارق فُصْلانها. ثم لم يكفه أن يذكر الحبلى حتى افتخر بالمرضع، وفيها من التلويث بأوضار رضيعها، ومن اهتزالها واشتغالها عن أحكام اغتسالها. وقد أخبر أن ذا التمائم المحول متعلقٌ بها بقوله: "فألهيتها عن ذى تمائمَ مُحْوِل"، وأخبر أنها ظِئْر ولدها، لا ظئر له ولا مرضع سواها، فدل بذلك على أنها حقيرة وقيرة. ومثل هذه لا يصبو إليها من له همة. وهذه الصفات كلها تستقذرها نفس الصعلوك والمملوك.
    وقد قال أيضا فى موضع آخر من هذا الباب من قصيدة أخرى:
    سموتُ إليها بعد ما نام أهلُها = سُمُوّ حَبَاب الماءِ حالا على حالِ
    فقالتْ: لَحَاك اللهُ! إنّك فاضِحي= ألستَ تَرَى السُّمَّارَ والناسَ أحوالي؟
    حَلَفْتُ لها بالله حِلْفةَ فاجرِ: = لَنامُوا، فما إن من حديثٍ ولا صالي
    فأخبر هاهنا أنه هين القدر عند النساء وعند نفسه برضاه قولها: "لحاك الله". فحصل على "لحاك الله" من هذه، و"لك الويلات" من تلك. فشهد على نفسه أنه مكروه ومطرود، غير مرغوب فى مواصلته، ولا محروص على معاشرته، ولا مرضى بمشاكلته. ثم أخبر عن نفسه أنه رضى بالحنث والفجور، وهذه أخلاق لا خلاق لها. ثم أقر فى مكان آخر من شعره بما يكتمه الأحرار، ولا ينم بفتحه إلا الأوضاع الأشرار، فقال:
    ولما دنوتُ تَسَدَّيْتُها = فثَوْبا نَسِيتُ، وثوبا أَجُرّ
    وأى فخر فى الإقرار بالفضيحة على نفسه وعلى حبه؟ وأين هذا من قول أبى يعقوب الخزيمي:
    ولا أسألُ الولدانَ عن وَجْهِ جارتى =بعيدا ولا أَرْعَاه وهو قريبُ؟
    وإنما سهَّل عليه كل هذا حرصُه على ما كان ممنوعا منه، وذلك أنه كان مبغَّضا إلى النساء جدا، مفروكا ممن ملك عصبتها لأسباب كثيرة ذكرت. وكل من حرص على نيل شىء فمُنِع منه فعلا ادعاه قولا. وله أشباه فيما أتاه، يدعون ما ادعاه، إفكا وزورا، وكذبا وفجورا. منهم الفرزدق، وهو القائل:
    هما دلَّتانى من ثمانين قامةً = كما انقضَّ بازٍ أقتمُ الريش كاسِرُهْ
    فهذا أول كذبة، ولو قال: "من ثلاثين قامة" لكان كاذبا لتقاصر الأَرْشِيَة عن ذلك. وقد قرعه جرير هذا فى قوله:
    تَدَلَّيْتَ تَزْنِى من ثمانين قامةً = وقَصّرْتَ عن باعِ العُلَى والمكارمِ
    وكان مغرما بالزنا مدعيا فيه، وقد بُلِى بموانعَ تَصْدِفُه عنه، منها ما شُهِر به من النميمة بمن ساعده، والادعاء على من باعده، ومنها دمامته، ومنها اشتهاره، والمشهور يصل إلى شهوة يتبعها ريبة، فكان يكثر فى شعره من ادعاء الزنا، واستدعاء النسا. وهن أغلظ عليه من كبد بعير، وأبغض فيه وأهجى له من جرير. وخذ أطرف هؤلاء الأجناس، وهو سحيم عبد بنى الحسحاس، أُسَيْوِد فى شملة، دنسة قملة، لا يواكله الغرثان، ولا يصاليه الصُّرَد العريان، وهو مع ذلك يقول:
    وأقبلن مِنْ أقصى البُيوت يَعِدْنني= نواهدَ لا يَعْرِفن خلقا سوائيا
    يَعِدْن مريضا هنَّ هَيَّجن ما به = ألا إنما بعضُ العوائد دائيا
    تُوَسِّدنى كفّا وتحنو بمِعْصَمٍ = على وتَرْمى رجلَها مِن ورائيا
    فأنت تسمع هذا الأسود الشن وادعاءه، وتعلم أن الله لو أخلى الأرض، فلم يُبْقِ رجلا فى الطول ولا فى العرض، لم يكن هذا الزنمة الزلمة عند أدراك السودان إلا كبعرة بعير، فى مغر عير. والممنوع من الشىء حريص عليه، مُدَّعٍ فيه. والمعتدّ بما يهواه، كاتم له مستغنٍ ببلوغ مناه. والدليل على ذلك أن المرقش الأكبر كان من أجمل الرجال، وكانت للنساء فيه رغبة، وشدة محبة، وكان كثير الاجتماع بهن، والوصول إليهن، وله فى ذلك أخبارٌ مروية، ولم يكن فى أشعاره صفة شىء من ذلك. فحسبك بذلك صحة على ما قلناه.
    فإن قال قائل: إنما وصفت عن امرئ القيس عيوبا من خلقه لا فى شعره، قلنا: هل أراد بما وصف فى شعره إلا الفخر؟ فإن قال: لم يرد ذلك وإنما أراد إظهار عيبه. قلنا: فأحمق الناس إذا هو، ولم يكن كذلك. وإن قال: نعم، الفخر. قلنا: فقد نطق شعره بقدر ما أراد، وترجم عنه قريضه بأقبح الأوصاف. فأى خلل من خلال الشعر أشد من الانعكاس والتناقض. وكل ما يخزى من الشعر فهو أشد عيوبه".
    ويقول ابن بسام الشنترينى فى "الذخيرة" عن الهجاء وما ينبغى فيه وما لا ينبغى، مما يدل على أنه يحكم هنا حسه الأخلاقى: "ولما صنت كتابى هذا عن شَيْن الهجاء، وأكبرته أن يكون ميدانا للسفهاء، أجريت هاهنا طرفامن مليح التعريض فى إيجاز القريض، مما لا أدب على قائليه، ولا وصمة أعظم على من قيل فيه. والهجاء ينقسم قسمين: قسم يسمونه هجو الأشراف، وهو ما لم يبلغ أن يكون سباباص مقذعا ولا هجرا مستبشعا، وهو طأطأ قديما من الأوائل، وثَلَّ عرش القبائل، إنما هو توبيخ وتعيير، وتقديم وتأخير، كقول النجاشى فى بنى العجلان، وشهرة شعره تغنى عن ذكره، واسْتَعْدَوْا عليه عمر بن الخطاب، وأنشدوه قول النجاشى فيهم فدرأ الحد بالشبهات. وفعل مثل ذلك بالزبرقان حين شكا الحطيئة، وسأله أن ينشد ما قال فيه، فأنشد قوله:
    دع المكارم لا ترحل لبغيتها=واقعد، فإنك أنت الطاعم الكاسى
    فسأل عن ذلك كعب بن زهير فقال: والله ما أود بما قال له حمر النعم. وقال حسن بن ثابت: لم يهجه وإنما سَلَحَ عليه بعد أن أكل الشبرم، فهم عمر بعقابه، ثم استعطفه بشعره المشهور.
    وقد قال عبد الملك بن مروان يوما: احفظوا أحسابكم يا بنى أمية، فما أود أن يكون لى ما طلعت عليه الشمس وأن الأعشى قال فيَّ:
    تبيتون فى المشتى ملاءً بطونكم =وجاراتكم غَرْثَى يَبِتْنَ خمائصا
    ولما سمع علقمة بن علاثة هذا البيت بكى وقال: أنحن نفعل هذا بجاراتنا؟ ودعا عليه. فما ظنك بشىء يُبْكِى علقمة بن علاثة، وقد كان عندهم لو ضُرِب بالسيف ما قال: حس؟ وقد كان الراعى يقول: هجوت جماعةً من الشعراء وما قلت فيهم ما تستحى العذراء من إنشاده فى خدرها.
    ولما قال جرير:
    فغُضَّ الطَّرْفَ إنك من نُمَيْرٍ = فلا كَعْبا بَلَغْتَ ولا كلابا
    أطفأ مصباحه ونام، وقد كان بات ليلته تململ، لأنه رأى أن قد بلغ حاجته وشفى غيظه. قال الراعى:فخرجنا من البصرة فما وردنا ماءً من مياه العرب إلا وسمعنا البيت قد سبقَنا إليه، حتى أتينا حاضر بنى نمير، فخرج إلينا النساء والصبيان يقولون: قَبَّحكم الله، وقَبَّح ما جئتمونا به!
    والقسم الثانى هو السباب الذى أحدثه جرير وطبقته، وكان يقول: إذا هجوتم فأَضْحِكوا. وهذا النوع منه لم يهدم قط بيتا، ولا عُيِّرَتْ به قبيلة، وهو الذى صُنَّا هذا المجموعَ عنه، وأعفيناه أن يكون فيه شىء منه، فإن أبا منصور الثعالبى كتب منه فى "يتيمته" ما شانَه وَسْمُه، وبَقِى عليه إثمُه".
    نخرج من تلك النصوص بأن من زعموا أن نقادنا القدماء لم يكونوا يبالون بالدين ولا بالخلق الكريم فى نقدهم لم يقولوا الصدق أو لم يكونوا دقيقين أو لم يمحصوا كلامهم ويتأكدوا من صحته. وليس نقادنا القدامى ببِدْعٍ فى ذلك، فإن أرستوفان الكاتب المسرحى الإغريقى هاجم فى ملهاته المسماة بـ"الضفادع" زميله يوريبيدس لاجترائه على مبادئ الدين والخلق التقيدية، وفى ذات الوقت أثنى على أسخيلوس لدعوته إلى الفضائل والأخلاق. كذلك هاجم أفلاطون الشعر الملحمى لكثرة ما يقاسى الأشخاص الخيِّرون فيه من ألوان الشقاء، بينما كان يفضل الشعر الغنائى لإشادته المباشرة بأمجاد الأبطال. كما دعا أرسطو إلى أن يكون أبطال المأساة على خلق كريم، إذ غاية المأساة عنده خلقية فى جوهرها، وكان يرى أن أشخاص المسرحية الأخيرة إذا انتقلوا من السعادة إلى الشقاوة فإن ذلك يؤدى إلى الاشمئزاز. وعند د. صمويل جونسون أن الفن لا يمكن أن يكون ممتعا إلا إذا كان أخلاقيا. ومن هنا رأيناه يدعو إلى أن يكون الموضوع فى الفن مهذبا من الناحية الأخلاقية خاليا من الشوائب. وقد كان انتقاده لشكسبير قائما على أساس خلقى. وكان السير فيليب سدنى يرى أن وظيفة الشعر التعليمية هى وظيفة أخلاقية دينية. كما كان توماس كارلايل وماثيو أرنولد وهربرت جروج ويلز، وهم من كبار الكتاب البريطانيين، يرفضون نظرية الفن للفن ويرون أن الأدب ينبغى أن تكون له وظيفة إنسانية واجتماعية.
    كذلك حمل تولستوى على الأدب المثير للشهوة الجنسية والمغرِى بالزنا، مؤكدا أن انتشار هذا اللون من الكتابة فى العصر الحديث إنما يرجع إلى انحسار تأثير الدين وشيوع الملل فى نفوس الأغنياء وارتداد الناس إلى القيم الوثنية الداعية إلى انتهاب لذات الحياة الدنيا. ويؤكد الناقد الفرنسى آلان Alain Robbe-Grillet أن الشىء الجميل ذو قيمة أخلاقية بالضرورة، وأن الفن مرتبط منذ القديم بالدين، ولم ينفصل عنه إلا بعدما صار انعكاسا للشهوات الإنسانية وأصبحت اللذة هدفه. ومعروف أن سارتر كان يدعو إلى الالتزام فى الكتابة، أى أن يكون هناك قضية إنسانية أو اجتماعية يضعها الكاتب نصب عينيه ويدافع عنها. وبالمثل كان النقاد الشيوعيون والاشتراكيون يدعون الكتّاب إلى الالتزام بقضايا العمال والفلاحين وتصويرهم بصورة وردية. بل إن كثيرا منهم يشتط فى ذلك أيما اشتطاط حتى سخر من دعوتهم طائفة من النقاد سموا "الأدب الهادف" بـ"الأدب الهاتف" كما قلت فيما سبق من فصلنا الحالى. ويمكن القارئ الكريم أن يرجع فيما قلته هنا ومراجعه إلى الفصل الخاص بـ"القول فى حرية الإبداع" من كتابى: "وليمة لأعشاب البحر- بين قيم الإسلام وحرية الإبداع".
    لكنى فى ذات الوقت أرجو وألحف فى الرجاء ألا يفهم السادة القراء أنى أريد للأدب أن يجعل هِجِّيراه الدعوة إلى الفضائل لا يخرج عن ذلك. كلا، فمن حق الأديب أن يتناول أى موضوع من موضوعات الحياة التى لا تكاد تنتهى حتى لو كان غرضه من تناوله هو مجرد تسلية نفسه أو تسلية القارئ، على أن يبتعد عن البذاءات والعرى وتزيين الفواحش والإغراء بها. بل من حقه أن يناقش فى عمله قضية الكفر والإيمان مثلا بمنتهى الحرية. بيد أن هذا شىء، والتطاول السفيه الوقح على الذات الإلهية والرسول مثلا شىء آخر.
    هذا عن المضمون، أما من ناحية الشكل فإليكم ما لاحظته فى رواية "67" للأستاذ صنع الله إبراهيم: فالرواية تقع فى مائة صفحة. أقصد الصفحات المكتوبة فقط، وصلب الرواية دون المقدمات والصفحات التى كتبها فى نهايتها للدكتور محمد بدوى. وهى مكونة من اثنى عشر فصلا تحذلق أحدهم فقال إنها توازى شهور سنة النكسة. وليس هناك من وجه للموازاة هنا، فالنكسة لم تستغرق عاما بل وقعت وانتهت فى أيام معدودات، إن لم يكن فى ساعات محدودات كما هو معروف. وفوق هذا فالمعروف، عندى على الأقل، أن سنة النكسة لا تختلف عن سنوات غير النكسة، إذ كلها اثنا عشر شهرا. أم للناقد العبقرى رأى آخر؟ ثم إن المصريين لم يعرفوا أن هناك حربا إلا قبل الحرب بأيام. وانبرى فيلسوف الغبرة العالمى مؤكدا أننا لن نقوم بالضربة الأولى، فكانت ضربة إسرائيل هى الأولى والأخيرة، ومن يومها ونحن نعانى عقابيل تلك الهزيمة المجرمة التى ليس لها مثيل فى تاريخنا. وكان عبد الناصر قد خطب قبيل المعركة بأيام مهددا متوعدا بقطع رقبة إسرائيل إن فكرت فى المرور بخليج العقبة، فكان أن قطعت إسرائيل رقابنا جميعا ومرت سفنها فى خليج العقبة ولا تزال، وذهب عبد الناصر بخطبه المجلجلة المخدرة لوعينا وعقولنا، وانكشفت سوآتنا كلها قبيحة فظيعة. ومن ناحية الرواية فإن وقائع الحرب لم تشغل منها إلا سطورا معدودة، وجاء الحديث فيها عن الحرب غائما مهوما كأن السارد يخاطب نفسه حتى إنه لمن الصعوبة بمكان أن يفهم القارئ أن الكلام فى الرواية عن نكسة 1967 إن لم يكن من معاصرى تلك الفترة. أما سائر الرواية فخَمْرٌ وتحرشٌ بالنساء والفتيات بالحافلة والتصاق بأردافهن. واتضح أن للكاتب فلسفة فى ذلك غاية فى الأهمية شرحها على لسان الراوى فى "اللجنة" على ما شرحت سابقا، ومن الناحية الأخرى مضاجعة بطل الرواية لزوجة أخيه، الذى أكرمه بإسكانه معه وائتمانه على عرضه، فكان شخصا سافلا لا يصون الأمانة ولا يحفظ الجميل ولا يخجل ولا يستحى ولا يتحرك له ضمير أبدا. إنه، كما قلت من قبل، حيوان ينتمى على سبيل الخطإ إلى بنى الإنسان. وعلى هذا كله فإنه لا يوجد أى تواز بين عام 67 وبين عدد فصول الرواية. ثم لا ننس من جهة أخرى أن البطل قد ترك مصر قبل أن ينتهى العام. وهذا سبب آخر يجعلنا نرفض الربط بين عام النكسة وبين فصول الرواية.
    والملاحظ أن كل فصل من الفصول هو بمثابة فقرة كاملة، فهو كتلة واحدة لا تتجرأ إلى فقرات بل هو فقرة واحدة لا تزيد. وهذا أسلوب فى الكتابة لم أخبره من قبل، ولا أدرى سببه. كذلك لا يستخدم الكاتب من علامات الترقيم سوى النقطة، وأحيانا قليلة جدا النقطتين، وعلامة الاستفهام. ولا أدرى لماذا أيضا. وجمله بوجه عام صغيرة ومباشرة وتخلو من المجاز. والحوار عادة قصير، ودائما فصحوى، ويتم التمهيد له فى كل مرة بكلمة "قال". وأحيانا ما يحكى الراوى كلاما طويلا لأحد الأشخاص، فيقول: "قال:..."، ثم بعد قليل يعود فيقول: "وقال:..."، وبعد قليل يكرر عبارة "وقال:..." وهكذا حتى ينتهى كلامه. وليس فى الرواية حوار ذاتى، بل ليس فيها أى محاولة من جانب السارد لاختراق نفسيات الأشخاص الآخرين والإتيان بما يضطرب فيها من مشاعر أو نيات أو أفكار.
    والأشخاص كثيرون نسبيا، ولا يذكر الراوى لأى منهم، إن ذكر، سوى اسمه الأول، وبعضهم لا نعرف له اسما كالأخ وزوجته. وكذلك لا يعرِّفنا بوظائفهم، اللهم إلا من كان صحفيا مثله، وفوق ذلك لا يصفهم، بحيث كان من الصعب علىَّ أن أتابعهم متابعة من يعرفهم. ولا تنمو شخصية أى منهم، بل يبقى كل واحد فيهم كما هو من أول الرواية إلى منتهاها لا يتطور أبدا. بل إننا نجهل الأسباب التى أدت إلى أن يكون كل منهم على ما هو عليه من صفات عقلية ونفسية وخلقية. إننا نفاجأ بهم كما هم فى البداية، ونجدهم هم هم فى نهاية الرواية لم يحدث لأى منهم أى تغير أو تغيير. إنها رواية السكون والجمود. والحق أنها ليست رواية بأى حال، بل هى فى الواقع مجرد يوميات يوردها السارد كما وقعت دون أن يكون لدى المؤلف نية فى جعلها رواية، أو بالأحرى كان أعجز من أن يجعل منها رواية.
    ورسم الشخصيات غير مقنع، فكلهم يشربون الخمر، وكلهم يمارسون الزنا أو على استعداد لممارسته إن تاح له ذلك. ومن غير المقنع لى إطلاقا أن تكون زوجة الأخ بهذا الانحلال والبلادة الأخلاقية واللامبالاة بعواقب ما تصنع مع أخى زوجها. كما أنه من الشاذ تماما أن تقول امرأة مصرية من أسفل الطبقة الوسطى موظفة عادية غير مثقفة وغير شيوعية إنها محظوظة لأن لديها زوجا وعشيقا وبنتا، ولا ينقصها سوى السيارة. هذا كلام غريب على مثلها تمام الغرابة. يمكنها أن تزلّ مع أخى زوجها مرة واثنتين وثلاثا، لكن لن يدعها ضميرها تستمتع بما تصنع: إن لم يكن ضميرها الدينى فضميرها الاجتماعى. لكنها فى الرواية إنسان آلى يمارس الزنا لأنه مبرمج على ممارسة الزنا، فلا هو يكف عنه ولا ضميره يخزه لأنه آلة، والآلات ليس لها ضمير ولا إحساس ولا تخجل أو تستحى.
    وقد ورد فى كلمة د. محمد بدوى فى نهاية الرواية أن البطل فى روايتنا هذه مريض بشكل ما، وأنه يشعر بوقوعه تحت سلطة المراقبة، وأن بالجو هواء ملوثا بحيث إن الرئات تجاهد لكى تلقف أوكسجينا تتنفسه. وهو كلام غير صحيح ولا تعضده أحداث الرواية أو سرد الراوى لما يقع له أو للآخرين. إنه يعيش حياته كما يهوى، وما يهواه هو الانحشار فى الأوتوبيسات وراء أرداف النساء والتحرش بهن، أو الزنا بامرأة أخيه. كما أن لى تفسيرا لما يلاحظه الدكتور من حيادية الراوى، ألا وهو أنه أقرب إلى الإنسان الآلى منه إلى الإنسان الحقيقى، إذ هو بلا قلب أو حس أخلاقى بالمرة. إنه يأكل ويشرب ويتحرش ويضاجع ثم لا شىء آخر. فإن أردنا الارتقاء به فى سلم المخلوقات فهو حيوان ينتمى على سبيل الخطإ إلى بنى الإنسان. وهذا فى الواقع كثير عليه. أما القول بأنه "حيوان سياسى" كما وصفه محمد بدوى فهو مجاوزة للواقع، إذ هو لا يهتم بالسياسة ولا بشىء آخر غير الالتصاق بأرداف الستات والزنا بزوجة أخيه، التى ظل يزنى بها حتى يوم مغادرته مصر، إذ أتت إليه فى شقة زميله رمزى وضاجعها على الأريكة، وطلبت منه أن يترفق وهو يجامعها بعدما خلعت حذاءها، ثم جوربها، الذى طوته بعناية ووضعته على المائدة بعيدا حسبما جاء فى الكتاب المسمى خطأ من جانب المؤلف، وتساهلا من جانبى: "رواية".
    وعلى نفس الشاكلة تقع الأحداث، فهى أحداث متجاورة لا يؤثر أى حدث منها فى الآخر تقريبا، ومن ثم تخلو الرواية من التطور على مدار صفحاتها المائة. إن الرواية تبدأ وتنتهى دون أن تقدم جديدا. إنها مجرد ثرثرة جنسية من أولها لآخرها تقريبا. ومن ثم فقول د. محمد بدوى إنها فضح للواقع السياسى لعهد عبد الناصر هو حكم لا معنى له لأن الرواية تكذّبه. إن الرواية ليست سوى يوميات عن نشاط السارد الجنسى فى الأوتوبيسات وفى مجامعة زوجة أخيه. فهو أتفه من أن يكون له دور سياسى، بله أن تكون الرواية (إن صح تسميتها بـ"الرواية") فضحا سياسيا. ومع هذا فإن د. بدوى لا يتوقف هنا بل يمضى قائلا إن الرواية جاوزت مهمة الفضح السياسى إلى إنتاج صورة لعالم معقد، فالممارسات الجنسية فى الرواية لا تنتمى إلى عالم "السياسى"، وهذا أمر طبيعى لأن "الجنس" ينتمى إلى "الثقافى"...". ترى هل فهم أحد شيئا؟ أو عرف إلام يهدف الكاتب؟ هؤلاء ناس يكتبون ما لا يمكن فهمه ولا حتى من جانبهم. كذلك فالبيئة فى الرواية غير واضحة، إذ ليس هناك كلام إلا عن الأوتوبيسات، والمترو ذى السنجة الذى كان يجرى فى كثير من شوارع القاهرة آنذاك. ولم يحدث أن سها الراوى مرة فذكر مثلا المسجد أو قال، ولو على سبيل الذهول، إنه سمع الأذان أو رأى المصلين خارجين من الصلاة. بل لولا أسماء أبطال الرواية الذين لهم أسماء لما عرفنا أنهم عرب أو مسلمون.



    التعديل الأخير تم بواسطة إبراهيم عوض ; 24/04/2020 الساعة 06:22 PM

+ الرد على الموضوع

الأعضاء الذين شاهدوا هذا الموضوع : 0

You do not have permission to view the list of names.

لا يوجد أعضاء لوضعهم في القائمة في هذا الوقت.

المفضلات

المفضلات

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •