أبو العلاء المعرىحياته وشخصيته وعقيدته وشعره
بقلم إبراهيم عوض


أبو العلاء المعرى (363- 449هـ)هو أحمد بن عبد الله بن سليمان المعري التنوخي الشاعر والكاتب المعروف، ويلقب بـ"رهين المحبسين": فَقْد البصر من جهة، وملازمة البيت من جهة أخرى. وبيت أبي العلاء بيت علم ورئاسة، وأكثر قضاة المعرة وفضلائها وعلمائها وشعرائها من بني سليمان. وقد تولى أجداد أبي العلاء قضاء المعرة، كما تولاه أبوه أيضا. وكان المعري شديد التعلق بأمه يتحدث عنها بعاطفة مشبوبة. ولما رحل إلىبغداد كان حنينه إليها متصلًا، وبقي طوالعمره يذكرها. وقد أصيب في آخر العام الثالث من عمره بالجدري وعَمِيَ بعدها بعام، ولم يبق من ذكرياته المرئية إلا اللون الأحمر لأنه أُلْبِس في الجدري ثوبًا مصبوغًا بالعصفر، فكانت هذه آخر ذكرياته من زمن الإبصار. وبدأ يَقْرِض الشعر وله إحدى عشرة سنة، ثم ارتحل إلى حلب ليسمع اللغة والآداب من علمائها. وكانت حلب تضم جمعًا من العلماء استدعاهم سيف الدولة إبان دولته. وفي حلب اشتهر تفوق المعري وروايته للأدب والشعر. ومن حلب توجه إلى أنطاكية، وكانتبها مكتبة عامرة تشتمل على نفائس من الكتب، فحفظ منها ما استطاع، ثم سافرإلى طرابلس الشام وقرأ فى مكتبتها الكبيرة، ثم عاد إلى المعرة. وكان استعداده للعلم عظيمًا، وذكاؤه ملتهبًا. وخَلَّفَتْ وفاة والده جراحًا غائرة وأسى عميقًا في نفسه. وكان أبو العلاء فقيرًا، إذ لم يكن يتكسب بشعره، وفى ذات الوقت كان له مال لا يتجاوز ثلاثين دينارًا في السنة حسب الروايات جعل نصفها لخادمه.

وعزم على زيارة بغداد، إلا أن أمه اعترضت على سفره أول الأمر، وظل وراءها حتى أقنعها فأذنت له، وأعد له خاله أبوطاهر سفينة انحدر بها فى الفرات حتى بلغ القادسية. وهناك لقيه عمال السلطان، فاغتصبوا سفينته واضطروه إلى أن يسلك طريقًا مَخُوفَة إلى بغداد، وعند وصوله نظم قصيدةقدمها إلى أبي حامد الإسفراييني واصفًا سفره وجور عمال السلطان، طالبًا مساعدته في استرداد سفينته. ويذكر القفطيوالذهبي أن عامل حلب كان قد عارض أبا العلاء في وقف له، فارتحل إلى بغداد شاكيًا متظلمًا. وكانت أجزاء كبيرة من الشام قد خضعت للفاطميين، الذين كان المعري يبغضهم. فربما كان هذا الأمر سببا آخر لخروجه من المعرة. ووصل المعري إلى بغداد أوائل سنة 399هـ، وقد سبقته شهرته إليها، وفيها حضر كثيرًا من مجالس العلماء واشترك في دروسهم ومناظراتهم، ومنهم الشريف المرتضي. وكانت علاقته بالشريفين: المرتضَى والرَّضِيّ وأسرتهما أول الأمر حسنة متينة، ورثى والدهما الشريف الطاهر بقصيدة مرتجلة، وكانا يجلانه ويرفعان منزلته، ثم تغير المرتضى عليه. كما وقعت بعض الأمور الأخرى التى لم يطب له المقام معها ببغداد. من ذلك ما يروى من أنه عثر يوم إنشاد مرثيته فى الشريف الطاهر برجل لا يعرفه، فقال له الرجل: إلى أينيا كلب؟ فأجابه: الكلب من لا يعرف للكلب سبعين اسمًا. وهو رد كان يمكن أن يكون مفهوما لو أنه قيل لواحد من العلماء، وهو ما لا ينطبق على حال الرجل الشاتم حسبما هو ظاهر من الرواية. بل إنى لأستغرب أن يشتمه شاتم لمجرد أنه اصطدم به، وبخاصة أن عَمَى المعرى ظاهر أشد الظهور، علاوة على أنه لا بد أن يكون هناك من يقوده ويعينه فى تنقله وتحركه مما يزيد أمر عماه ظهورا ويكفل له تفهم الناس لمثل ذلك الاصطدام. وأشد من هذا وقعًا على نفسه موقف الشريف المرتضى منه لما جرى ذكر المتنبي في مجلسه، وكان المرتضي يكرهه ويتعصب عليه ويتتبع عيوبه، فقال المعري: "لو لم يكن له إلا قوله: "لكِ يا منازلُ في القلوب منازلٌ" لكفاه"، إذ غضب المرتضى وأمر بإخراجه فسُحِب برجله وأُخْرِج. ثم قال المرتضى لجلسائه: أتدرون لم اختار الأعمى هذه القصيدة دون غيرها من غُرَر المتنبي؟ قالوا: لا. قال: إنما عرَّض بقوله:

وإذا أتتك مذمتي من ناقصٍ

فهي الشهادة لي بأني كاملُ

وهذا أمر غريب يصعب تصديقه، إذ لا أظن المرتضى شرسا غليظ القلب ضيق العطن إلى هذا الحد بحيث يفقد أعصابه بتلك السرعة ويكون رد فعله على خلاف أدبى بهذا الشكل الحاد المنفلت من كل لياقة ورحمة، وفى قلب منزله مع رجل أعمى غريب ارتاد بيته يبغى القربى منه، فضلا عن أن الروايات تتحدث عن تقدير المرتضى له قبل ذلك، وبخاصة أن الرواية لا تتحدث عن وخز ضميره له لانفلات أعصابه على هذا النحو. بل أستغرب قبل ذلك أن يكون أبو العلاء بهذه القحة حتى ليلمز رجلا كالشريف فى منزله ومجلسه، وعلى مرأى ومسمع من الحاضرين جميعا. ومع هذا فقد قرأت فى "البداية والنهاية" لابن كثير أن الذى صنع بالمعرى ذلك هو الخليفة لا الشريف المرتضى.
وهناك رواية أخرى تقول إن المعري قد أراد حضور مجلس نحوى بغداد أبي الحسن علي بن عيسى الربعي، لكنه حين استأذن عليه قال له ذلك العالم: ليصعد "الإصطبل"، ومعناها "الأعمى" بلغة الشام، فانصرف من فوره مغضبًا، ثم قرر الانسحاب من بغداد، وما كان هينًا على البغداديين مفارقته، فكانوا لرحيله كارهين، وودعوه بالبكاء. ومما يقال فى تفسير خروجه من بغداد أن فقهاءها تعرضوا له في بيتين هما:
يدٌ بخَمْس مِئِينٍ عَسْجَدٍ وُدِيَتْ

ما بالها قُطِعَتْ في ربع دينار؟
تناقضٌ ما لنا إلا السكــوت له

وأن نعـوذ بمـولانـا من النــار

وأرادوا أخذه بهما، فخرج من بغداد طريدًا منهزمًا ورجع إلى المعرة ولزم منزله فكان لا يخرج منه. وهذه أيضا من الحكايات التى تحتاج إلى توفيق. ذلك أنه يعلن اضطراره إلى السكوت أمام هذا التناقض والاستعاذة بالله من النار، ولكنه فى ذات الوقت لا يسكت بل يصر على فضح ما فى باطنه من تكذيب القرآن شعرا وتلاوة ذلك الشعر على الناس بحيث يعطيهم الفرصة للتشنيع عليه والمطالبة بعقابه، وأى عقاب؟
وقد توفيت أمه وهو في طريق العودة من بغداد، فرثاهابقصيدتين وكثير من النثر، وظل يذكرها طوال عمره. وبعد عودته من بغداد قرر أن يعتزل الناس جميعًا، وسمى نفسه: رهين المحبسين. بل ذكر أنهيعيش فى ثلاثة سجون لا اثنين:
أراني في الثلاثة من سجوني

فلا تســـأل عن الخــبر النبيثِ:
لفقـدي ناظـري ولـزوم بيـتي

وكون النفس في الجسم الخبيثِ

وكان في طبعه ميل إلى العزلة كما وصف نفسه. وتضافرت أسبابٌ حملته على اتخاذ قرار الاعتزال منها الأحداث المؤلمة التي مرت به من فقد أبيه وأمه وما كان يلقى من أذى أحيانًا من بعض الناس. ومنها عماه، الذي جعله يجهل كثيرًا من آداب الناس في عاداتهم، وكان شديد الحياء عزيز النفس يكره أن يخطئ فيما ألف الناس فيكون موضع السخرية والاستهزاء أو الرحمة أو الشفقة. ومنها فشله في الإقامة ببغداد، ومن ثم اضطراره إلى لزوم المعرة، وهي خلو من العلماء. وكان يصوم النهار ويواصل الصيام فلا يفطر إلا فى العيدين، ويقيم الليل، ولا يأكل اللحوم والبيض والألبان، وكان يكتفي بما يخرج من الأرض من بقل وفاكهة،ولم يتزوج:
يقنعني بلْسنٌ يمارَس لي

فإن أتتني حلاوة فبَلَسْ

والبلسن من البقل: العدس أو الفول. والبلس: التين. وعبر عن تحريم ما ذكر فيقوله:
فلا تأكلنْ ما أخرج الماء ظالمًا

ولا تبغ قوتًا من غريض الذبائـحِ
ولاتفجعنَّ الطير وهي غوافلٌ

بما وضعــتْ، فالظـلم شر القبائحِ
ودع ضَرَبَ النحل الذي بكرَتْ له

كواسب من أزهار نبت صحائحِ

كما كان يجتزئ من الثياب بما يستره من غليظها، ومن الفراش بحصير خشن. وكانيكلف نفسه أمورًا شاقة زيادة في مجاهدتها مثل الاغتسال شتاءً بالماء البارد:
مضى كانونُ ما استعملتُ فيه

حميم الماء، فاقدَمْ يا شباطُ

وهنا أحب أن أقف أمام ما يقال عن كثرة صلاته وصيامه وقيامه، وهو ما يتناقض مع ما يقال عنه أيضا من أن دينه كان فيه دخل. ومن ثم كان علينا أن نحتاط ونحن نقرأ مثل تلك الاتهامات المتعجلة للمعرى وأمثاله فى دينهم وعقائدهم. وتقول الحكايات إنه قد التزم بقرار عزلته فلم يخرج من داره تسعًا وأربعين سنة إلا مرة واحدة مكرهًابعد ما ألح عليه أهل بلدته طالبين شفاعته لدى الأمير أسد الدولة صالح بن مرداس.وذلك أن امرأة دخلت جامع المعرة صارخة تستعدي المصلين على أصحاب ماخور قصدوها بسوء، فنفر إليها الناس وهدموا الماخور ونهبوا ما فيه. وكان أسد الدولة في نواحي صيدافأسرع إلى هناك وعسكر بظاهر المعرة وحاصرها وشرع في قتالها واعتقل سبعين من أعيانها، فلما ضاق الأمر بالمعريين لجأوا إلى أبي العلاء فخرج وقابل صالحًا واستشفعلديه، فقال له: قد وهبتُها لك يا أبا العلاء. وقد ذكر أبو العلاء الحادثة فيقصيدة:
أتت جامعٌ يوم العروبة جامـعًا

تقصّ على الشُّهّاد بالمصر أمرَها
فلو لم يقوموا ناصرين لصوتها

لخِلْـَت سمـاء الله تمطـر جمرَها

إلا أن القصيدة تخلو تماما من الإشارة إلى استعانة الناس به فى القصة أو أن الوالى قبل شفاعته وأطلق سراح كبار القوم المحبوسين كرامة له. بل إنه لمن الغريب أن يعاقب الوالى القوم أصلا على أنهم هدموا ماخورا فى المدينة التى كان يتولى أمرها بدلا من معاقبة أصحاب الماخور. ويقولون إن المعرى قد التزم بقرار عزلته مدة من الزمان فلم يفتح داره لأحد من الناس. قال ابن العديم: "أقام مدة طويلة في منزله مختفيًا لا يدخل عليه أحد. ثم إن الناس تسببوا إليه وألحوا في طلب الشفاعة لديه من أقاربه الأَدْنَيْن". وهنا استجاب لتوسلات المتوسلين ففتح داره لطلاب العلم من كل صقع وصوب، وصارت داره جامعة يؤمها الزائرون من شتى البقاع، وأخذ الناس يفدون إليه، وكاتَبَه العلماء والوزراء والكبار.
ومرة أخرى أجدنى مضطرا إلى الوقوف أمام تلك الأخبار المتناقضة، إذ كيف يلزم شاعرنا بيته ويهجر الناس ولا يخالطهم أو يسمعهم أو يسمح لهم بزيارته فى منزله خمسين سنة تقريبا بما يعنى أن أحدا لم يعرفه أو يعرف له أية قيمة علمية، ثم يكون أول ما يفكر فيه الناس هو الاستشفاع به عند الوالى، فضلا عن أن يقبل الوالى شفاعته ويناديه مناداة الصديق الودود، ويعرف الناس من جهة أخرى مكانته فى دنيا العلم بحيث يحرصون على الإفادة من معارفه وآدابه؟ وإذا كانوا قد درجوا على عدم مخالطته نصف قرن، فما الذى جَدَّ فجعلهم يترامَوْن عليه بغتة؟ بل من يا ترى كان يقرأ له كل تلك الحقبة الطويلة؟ ومن أين له بالكتب التى يستمد منها العلم، وهو منعزل عن الناس؟ وكيف يقال إنه لم يخرج من بيته طوال نصف قرن، وهناك شىء اسمه الصلاة تستلزم اختلاطه بالناس، وبخاصة صلاة الجمعة، التى يؤديها المسلم جماعة مع غيره فى المسجد؟ وكيف نوفق يا ترى بين هذا القرار الغريب باعتزال الناس تماما والالتزام الصارم به خمسين عاما وبين قوله:
ولو أنى حُبِيتُ الخلد فردًا لما أحببتُ بالخلد انفرادا
فلا هَطَلَتْ علىَّ ولا بأرضى سحائبُ ليس تنتظمُ البلادا؟
وعُمِّر أبو العلاء طويلا وأصابته الشيخوخة بالوهن، لكنها لم تصب عقله وحافظته، فما نسي شيئًا مما حصَّل. وتحكى بعض الروايات عن حافظته ما لا يستطيع العقل قبوله. من ذلك أنه "كان لأبي العلاء جار أعجمي، فاتفق أنه غاب عن المعرة، فحضر رجل أعجمي يطلبه قد قدم من بلده، فوجده غائبًا، فلم يمكنه المقام، فأشار إليه أبو العلاء أن يذكر حاجته إليه. فجعل ذلك الرجل يتكلم بالفارسية، وأبو العلاء يصغي إليه، إلى أن فرغ من كلامه، ولم يكن أبو العلاء يعرف الفارسية. ومضى الرجل، وقدم جاره الغائب، وحضر عند أبي العلاء، فذكر له حال الرجل، وجعل يذكر له بالفارسية ما قال، والرجل يبكي ويستغيث ويلطم، إلى أن فرغ من حديثه، وسئل عن حاله، فأخبر أنه أخبر بموت أبيه وإخوته وجماعة من أهله". إن ذهن الإنسان ليس كاتوبا ينتقش فيه النص المكتوب كما هو بالكلمة والحرف رغم عدم فهمه شيئا منه، بل لا بد أن يعرف الإنسان فى هذه الحالة معنى ما سمع، وإلا فكيف يؤديه حرفيا دون أن يخرم منه حرفا واحدا، وقد سمعه فى لغة لا يعرف منها شيئا لا لفظا ولا تركيبا ولا تعبيرا، ومن ثم لا يمكنه أن يؤدى ما سمعه، إذ يحتاج الأمر تمييزا بين الكلمات بأفعالها وأسمائها وحروفها وجملها وفِقَرها؟ ثم كيف تفاهم أبو العلاء أصلا مع هذا الفارسى الغريب دون وجود لغة مشتركة بينهما؟ بل كيف وصل الرجل إلى المعرة، وهو لا يعرف كيف يتفاهم مع البشر طوال الطريق أو فى المعرة بحيث يمكنه أن يسألهم عما يريد؟ إنها حكايات لطيفة قد صنعت صنعا للتسلية والمباهاة ليس إلا، ولا يمكن التعويل عليها. ثم كيف يتسق ذلك مع ما يقال من أن المعرى كان منعزلا تمام العزلة عن الناس؟ وهل كان فى المحتمعات الإسلامية من يجهل العربية جهلا تاما كهذا الفارسى؟ ولماذا لم يطلب منه أبو العلاء أن يكتب ما يريد إبلاغه لقريبه بدلا من هذا التصرف الأكروباتى؟ وكيف نقبل أن يعود الرجل من حيث أتى رغم ما أنفق من جهد ومال ووقت واحتراق أعصاب دون أن يجشم نفسه انتظار الجار قليلا إلى أن يعود فينبئه بما فى جعبته من أخبار عجيبة لا ترضى بأقل من أن أهله جميعا قد ماتوا؟ وكيف أفهمه أبو العلاء أصلا أنه ينبغى له ترك رسالته إلى أقاربه ما دامت اللغة المشتركة بينهما مفقودة؟
وفي اليوم العاشر من ربيع الأول سنة 449هـ اعتل أبو العلاء، وعاده الطبيب ووصف له كأسًا من شراب أتاه به ابن أخيه القاضي، فامتنع عن شربه قائلا:
تعللــني لتسقيــني، فـذرني

لعلي أستريح وتستريحُ

كما وصفوا له لحم الدجاج. فلما وضعوا فرّوجا بين يديه لمسه بيده فجزع قائلا: "استضعفوك فوصفوك! هلا وصفوا شبل الأسد؟". وبعضهم يقف أمام نباتيته شاكين فى عقيدته متهمين إياه بأنه متأثر فى ذلك بالبراهمة، مع أنه لم يخرج على الإسلام فى شىء، إذ ليس أكل اللحم من فروض ديننا، بل هو من الأمور الحلال، ومن حق أى إنسان أن يمتنع عما لا يرتاح إليه من الحلال. والمهم ألا يجترح حراما، وهو ما لم يفعله الرجل. ولكن هل من المعقول أن يفكر أهله فى طبخ فروج وتقديمه له وهم يعرفون حق المعرفة أنه لا يأكل لحوم الحيوانات منذ عقود طوال، ودون أن يستشيروه أوّلا؟ ولو افترضنا أنهم حصلوا على رضاه بذبح الديك فلماذا غير رأيه ولم يأكل منه؟ ألا إن هذا لغريب! وأغرب منه ألا يعلق هو قائلا: ألستم تعرفون أننى لا آكل لحم الحيوان؟ فما عدا مما بدا؟ ويرى د. شوقى ضيف فى كتابه: "تاريخ الأدب العربى: عصر الدول والإمارات- الشام" أن ذلك قد يكون راجعا إلى فقره، فهو يتجنب اللحوم لأنها تكلفه مالا كثيرا ليس فى طاقته، وفى نفس الوقت تعفيه من التألم جراء ذبح الحيوانات. وهو ما يتفق مع ما كتبه كل من ابن درهم فى "نزهة الأبصار بطرائف الأخبار والأشعار" وأحمد الهاشمى فى "جواهر الأدب فى أدبيات وإنشاء لغة العرب". قال الأول: "ونَسُكَ في آخر عمره، ولم يبرح منزله، وسمى نفسه: "رهين المحبسين": العمى والمنزل، وبقي مُكِبًّا على التدريس والتأليف ونَظْم الشعر، مقتنعًا بالقليل من الدنانير يستغلها من عقار له مجتنبًا أكل الحيوان وما يخرج منه، مكتفيًا بالنبات والفاكهة والدِّبْس، متعللًا بأنه فقير وأنه يرحم الحيوان". وهو نفسه ما قاله الهاشمى بمعناه. وقد توفي بعد ثلاثة أيام، وأوصى أن يُكْتَبعلى قبره:
هذا جنـــــاه أبي عـــليَّ

وما جنـيتُ عـلى أحــــدْ

ومرة أخرى كيف نزيل التعارض بين هذا البيت الذى فيه إدانة شديدة لأبيه وبين حبه وإجلاله له؟ ثم هل يمكن أن يغيب عن فطنة أبى العلاء، وهو يودع الدنيا فى تلك السن العالية الحكيمة، أن أباه ليس له ذنب فى الأمر، إذ هو قد نزل على حكم الغريزة والعاطفة التى أودعها الله فى أعماقنا، وليس من السهل تجاهل صراخها، فضلا عن أنها سر الحياة، ولولا هى ما كانت حياة؟ وفى "الغيث المسجم فى شرح لامية العجم" لصلاح الدين الصفدى: "قال علاء الدين الوداعي، ومن خطه نقلتُ: زرت قبره بالمعرة رحمه الله تعالى في ربيع الأول سنة تسع وسبعين وستمائة، ولم أرَ عليه شيئا من ذلك، وقد دثر ولصق بالأرض". ويقال إنه قد وقف على قبره أربعة وثمانون شاعرًا يرثونه. ومن أشهر ما قيل فيه رثاء تلميذهأبي الحسن علي بن همام:
إن كنتَ لم تُرِق الدماء زهادةً

فلقد أَرَقْتَ اليوم من جفني دمًا

ومما يحتاج إلى إعادة نظر قولهم إن المعري رغم عزلته المذكورة كان ذا صلة حسنة بالناس. فكيف يكون اعتزال واتصال؟ كما قيل إنه كان مع فقره كريمًا ذا مروءة يعين ذوى الحاجات وينفق على من يقصده من الطلاب رغم ما قرأناه من أن دخله السنوى لم يكن يزيد عن ثلاثين دينارا نصفها لخادمه. ويذكرون فى هذا السياق مثلا أنه، لمروءته وكرم نفسه، لم يقبل من تلميذه الخطيب التبريزي ذهبًا كان قد دفعه إليه ثمنًا لإقامته عنده. وهوتصرف نبيل من المعرى لو كانت القصة قد حدثت فعلا. لكن لا يمكن أن أقتنع بحكاية الدخل الهزيل مع تلك القصص لأن الأمرين لا يتسقان أبدا.
إلا أن ناصر خسرو، فى كتابه: "سفرنامه"، يقول عن المعرى كلاما يختلف عما نعرفه عنه من فقر وقلة حيلة، إذ يصفه بأنه رجل واسع الثراء يحكم معرة النعمان وأن الناس هناك بمثابة خدم له وأن عنده كثيرا من العبيد، وأنه ينفق أمواله الكثيرة على ذوى الخصاصة فى الوقت الذى يكتفى هو فيه بالكفاف، وإن كان باقى كلامه عن شعره ونثره وزهده والتفاف طلاب العلم حوله يتفق مع ما نعرفه عنه. قال: "وكان بهذه المدينة رجل أعمى اسمه أبو العلاء المعري، وهو حاكمها. كان واسع الثراء عنده كثير من العبيد كأن أهل البلد خدم له. أما هو فقد تزهد فلبس الكليم واعتكف في البيت. كان قُوتُه نصف مَنٍّ مِنْ خبز الشعير لا يأكل غيره. وقد سمعت أن باب سرايه مفتوح دائما، وأن نوابه وملازميه يدبرون أمر المدينة ولا يرجعون إليه إلا في الأمور الهامة، وهو لا يمنع نعمته أحدا. يصوم الدهر ويقوم الليل ولا يشغل نفسه مطلقًا بأمر دنيوي. وقد سما المعري في الشعر والأدب إلى حد أن أفاضل الشام والمغرب والعراق يقرون بأنه لم يكن من يدانيه في هذا العصر ولا يكون. وقد وضع كتابًا سماه: "الفصول والغايات" ذكر به كلمات مرموزة وأمثالا في لفظ فصيح عجيب بحيث لا يقف الناس إلا على قليل منه ولا يفهمه إلا من يقرؤه عليه. وقد اتهموه بـ"أنك وضعت هذا الكتاب معارضة للقرآن". يجلس حوله دائما أكثر من مائتي رجل يحضرون من الأطراف يقرأون عليه الأدب والشعر. وسمعت أن له أكثر من مائة ألف بيت شعر. سأله رجل لم تعطى الناس ما أفاء الله تبارك و تعالى عليك من وافر النعم ولا تَقُوت نفسك؟ فأجاب: إني لا أملك أكثر مما يقيم أودي. كان هذا الرجل حيا وأنا هناك".
وفى مقال له بصحيفة "الجماهير" الحلبية بتاريخ الاثنين 31 ديسمبر 2007م عنوانه: "مواقف فى حياة المعرى" يعلق محمد صبحى المعمار على ذلك قائلا: "إن ناصر خسرو يقول عن أبي العلاء بأنه حاكم معرة النعمان وأنه واسع الغنى كثير العبيد. وهذا الوصف يناقض ما عُرِف عن أبي العلاء من الفقر. وقد تدخل الدكتور طه حسين وأراد أن يوفق بين حديث ناصر خسرو وبين ما عرف عن أبي العلاء فقال: لهذا التوفيق وجهان يحتملهما العقل: الأول أن الرحالة وصف ما شهد في المعرة عن جاه أبي العلاء وسلطانه المعنوي فظن ذلك ثروة وملكا.‏ الثاني، وهو ما نميل إليه، أن أبا العلاء كان يملك المعرة حقا، وكان يحكمها بنواب يدبرون أمرها ويرجعون إليه في جلائل الأعمال. فإذا شئنا أن نرجح ذلك فإن الأدلة التاريخية الثابتة لاتواتينا، ولكنا نذكر قول صالح بن مرداس له حين شفع عنده في المعرة: قد وهبتُها لك. أفلا يمكن أن يكون هذا إقطاعًا وأن المعرة صار أمرها من ذلك الوقت إلى أبي العلاء على أن تعترف بسلطان حلب وتؤدي إليها الخراج?‏ ذلك ممكن، ولكن التاريخ لم يروه ولم ينص عليه .‏
وقد لاحظ الدكتور طه حسين أن قصة صالح بن مرداس مع أبي العلاء كانت بين سنة سبع عشرة وبين سنة عشرين وأربعمائة وأن زيارة ناصر خسرو كانت بعد ذلك أي سنة ثمان وثلاثين وأربعمائة.‏ ولو أنه مر بالمعرة قبل هذه القصة لكان من الحق أن نرفض خبره ولا نصغي إليه. أما وهو لم يمر بها إلا بعد صالح بن مرداس وقصته‏ فمن الظلم أن نمر بهذا الخبر من غير أن نثبت هذا الاحتمال .‏ سقتُ هذا الخبر للرحالة ناصر خسرو في القرن الخامس عشر وتلك المداخلة لعميد الأدب العربي طه حسين في القرن العشرين كشاهد فقط على أن حياة المعري لم تكن حياة روتينية عادية الأحداث والسلوك. إنما كان للمعري في حياته محطات غير عادية تدل على حياة عظيم ما واجهه كان في مراتب العظماء".‏
والكاتب هنا إنما يشير إلى ما كتبه د. طه حسين عن هذا الموضوع فى كتابه: "تجديد ذكرى أبى العلاء" لدن الحديث عن ثروته. إلا أننى أستغرب أن يفهم فاهم من عبارة "قد وهبتُها لك" أنه أقطعه إياها مع أن معناها، فيما أفهم، هو أنه عفا عن المدينة وأعفى رجالها من العقاب كرامة له، فكأنه وهبه عقابهم، أى تنازل عنه مراعاة لخاطره. وإلا لكان الرجل قد قال له: "قد أقطعتها لك" مثلا، ولكان رد المعرى هو الرفض أو فى أقل الأحوال: الاستغراب أو الاستنكار ولذكرها فى شعره، أو لذكرها أحد من مؤرخيه وكاتبى سيرته. ويؤكد كلامى الرواية التى أوردها صلاح الدين الصفدى فى ترجمة المعرى من كتابه: "الوافى بالوفيات"، وفيها "قد وهبتُهم لك"، أى الرجال الذين كان الوالى قد ألقى القبض عليهم وحبسهم فى تلك الواقعة. ولكنْ فيه أيضا أن الخليفة الفاطمى المستنصر بذل لأبى العلاء ما ببيت المال فى المعرة من حلال، لكنه اعتذر عن القبول. ومع هذا فإنى أتساءل: هل يعقل أن يكون ناصرخسرو قد فهم الأمر خطأ أو ذكر غير الحقيقة. لكن كيف؟ ولماذا؟ الواقع أنه أمر مربك!
وقد تابع د. طه حسين الحديث فى هذا الأمر واستبعد أن يكون المعرى بهذا الفقر الذى تصفه الروايات، مرجحا أن يكون له دخل ينفى عنه الفقر والضنك. قال فى كتابه السابق الذكر: "وسواءأصحَّتروايةالرَّحّالةأملمتصح فإنفيحياةأبيالعلاءشيئًايلزمناألا نصدقمايرويهالتَّاريخمنفقرهالمدقعمنغيرتحفظٍولاأناةٍ،فإنفيرسائلهمايدل علىأنهقدكانيُهْدِيإلىأصحابهالهداياويُعِينأصدقاءهبالمال.فمنأينلهتلكالهدايا وهذاالمالإذالميكنعندهفضلٌمنالثراءولوقليل؟! ولذلكروىالقفطيأنَّطلابه ذكروابحضرتهيومًابطيخحلب،قال: فتكلفأبوالعلاءوبعثمنجاءهمنهبحملٍ، فأكلتالجماعةوأفردوالهمنهشيئًالميذقهولميعرضلهحتىفسد.فلولميكن عندهوفرٌمااستطاعأنْيبعثإلىحلبمنيأتيهبهذاالبطيخ.وكذلكضَيَّفالقاضيَ عبدالوهاببنعليالمالكيكماقدمنا،فمنأينلهماضيَّفهبهإذاكانمنالفقر علىمايقولون؟ لقدكانبِرُّأخوالِهبهمتصلًا،وكانتتُهدَىإليهالهدايا،فيقبلهاشاكرًاكماتدل رسائلهعلىذلك.فهذاالبِرُّمنأخوالهوهذهالهدايامنأصحابهكانتتوسِّععليهبعض مايجدمنالضيق".
وكان المعرى رقيق القلب عطوفًا على الضعفاء بما فيهم الحيوان، فهو لا يذبحه ولا يأكله أو يأكل بيضه. وكان وفيا لأصدقائه وأهله. ومن أهم خصاله الحياء، الذي يكلفه ضروبًا من المشقة والأذى. وكثيرًا ما كتب يستشفع لأناس عند الأمراء وهو كاره، لكنه لفرط حيائه لا يستطيع الرفض. وكان سئالظن بالبشر رغم هذا، يعتقد فيهم الشرور. وانتهى أخيرًا إلى أن الإنسان شرير بطبعه، وأن الفساد غريزة فيه ولا يُرْجَى برؤه من أدوائه. والواقع أن كل إنسانٍ خَيِّرٍ عادةً ما ينتهى إلى مثل ما انتهى إليه المعرى، إذ البشر فى الغالب تحركهم مصالحهم ولا يصيخون لصوت المثل الأعلى، فيتألم من يعاملهم المعاملة الطيبة حين يجدهم يقابلون طيب معاملته بالسوء أو على الأقل: بغلظة ولامبالاة بمشاعره أو بحقوقه. وقد دفعه عماه إلى تحدي الصعاب والرغبة في التكيف واكتساب العلم والمعرفة والتفوق فيهما على البُصَراء. ويتبدى تحديه هذا في لعبه النَّرْد والشطرنج كما تخبرنا بعض الروايات، ولكن العمى رغم ذلك أورثه شعورًا عميقًا بالألم والحزن ملأ شعره بالزفرات الحارة.
وكان المعرى، إلى جانب تشاؤمه وقلة ثقته فى البشر، يرى فى المرأة مصدرا عاتيا للشهوات، ويصورها أيضا فى حالة استعداد دائم للوقوع فى الإثم. ومعنى هذا أنه، رغم إضرابه عن الزواج، كان يشعر بطغيان قدرتها على الإثارة وفتنة الرجال. وقد بلغ من خوفه على المرأة أنْ نادى بعدم تعليمها القراءة والكتابة، وتعليمها بدلا من ذلك المغزل، وألا تحفظ القرآن، اللهم إلا سورة "الفاتحة والإخلاص". ولهذا كله دلالته التى لا تخفى:
إذا بلغ الوليد لديك عشرًا فلا يدخلْ على الحُرَم الوليدُ
وإن خالفتَني وأضعتَ نصحي فأنت، وإن رُزِقْتَ حِجًى، بليدُ
ألا إن النساء حبالُ غَيٍّ بهنّ يُضَيَّع الشرفُ التَّلِيدُ
* * *
فوارِسُ فِتنةٍ، أعلامُ غَيٍّ لَقِينَكَ بالأساورِ معلماتِ
يُرِدْنَ بُعولةً ويُرِدْنَ حَلْيًا ويَلْقَيْنَ الخطوبَ ملوَّماتِ
ودَفْنٌ، والحوادثُ فاجعاتٌ لإحداهنّ، إحدى المكرُماتِ
فحملُ مغازلِ النّسوان أولى بهنّ، من اليراع مقلَّماتِ
فما عَيبٌ، على الفتيات، لحنٌ إذا قلن المراد مترجِماتِ
ولا يُدْنَيْنَ من رجلٍ ضريرٍ يُلَقِّنُهُنّ آيًا محكَماتِ
سوى من كان مرتعشًا يداهُ ولِمّته من المتثغّماتِ

* * *
علِّموهُنّ الغَزْلَ والنَّسْجَ والرّدْ نَ، وخَلّوا كِتابَةً وقِراءهْ
فصلاةُ الفتاةِ بالحمدِ والإخـ ـلاصِ، تُجْزِي عن يُونُسٍ وبَراءهْ

فهل نفهم من هذا أنه عانى من عتوّ الميل إليها ومكافحة هذا الميل فى نفسه وجسده؟ لكن أشعاره لا تقول هذا صراحة. ومن ناحية أخرى نراه يوصى بإكرام الأم مع أن الأم امرأة. هل لأن الأم هى أمه، وأمه لا ينطبق عليها ما ينطبق على سائر النساء؟ لكن هل يصح أن يقع أبو العلاء فى هذا الخطإ؟ إن المرأة هى المرأة سواء كانت أما أو غير أم، وسواء كانت أمى أو أم أحد آخر. والمفروض أن يكون الحكم عليها واحدا. قال فى الوصية بالأم:
العيش ماضٍ، فأكرمْ والديك به والأم أولى بإكرام وإحسانِ
وحسبها الحمل والإرضاع تدفعه أمران بالفضل نالا كل إحسانِ

أما المرأة، مطلق المرأة، فهى مصدر للشر والإزعاج، والخير فى الابتعاد عنها، وكأن الابتعاد عنها مما يمكن وقوعه والاستمرار عليه. فهو ينسى أن التعلق بالمرأة غريزة من الغرائز. وليس شرطا أن يقرأ الإنسان آيات القرآن حتى يعرف ذلك، بل يعرف هذا كل إنسان سوى. فهل يا ترى كان المعرى عاجزا عن معاشرة النساء؟ ومن ثم هل هذه النصيحة موجهة إليه هو فقط؟ قال:
أشْدُدْ يدَيْكَ بما أقـو لُ، فقَولُ بعضِ النّاسِ دُرُّ
لا تَدنُوَنّ مِنَ النّسـا ءِ، فإنّ غِبّ الأَرْيِ مُرُّ
والباءُ مثلُ البَاء، تَخـ ـفِضُ للدّناءَةِ أوْ تَجُرّ
سَلِّ الفؤادَ عن الـحَيا ةِ، فإنّها شَــرٌّ وشُرُّ
قدْ نلتَ منها ما كَفا كَ، فما ظفِرْتَ بما يَسُرُّ
صَدَفَ الطّبيبُ عن الطّعا مِ، وقال: مأكلُهُ يَضُرُّ

* * *
وليس عكوفهن على المصلَّى أمانًا عن غوارٍ مجرماتِ
سهامٌ إن عرفن كتاب لسنٍ رجعن بما يسوءُ مسمَّمَاتِ

ترى هل هناك فرق فى أى شىء من هذا بين الرجال والنساء؟ الواقع أن الجنسين فى هذا الأمر سواء: فالرجال قد يكثرون من العبادة، وتكون ذمتهم واسعة. والنساء لسن حبال غى لأنهن اخترن أن يكن كذلك بل لأن الله قد خلقهن على هذا النحو. ولكن الرجال يغرون النساء أيضا بطريقتهم. فكيف فات المعرى هذا، وهو الرجل الواسع العقل العميق النظر؟
ومن المعروف أن المعري قد اتهم بالزندقة والإلحاد من بعض معاصريه بناء على بضعة أبيات منسوبة إليه، ورأوْا فى تركه الزواج وامتناعه عن اللحم وما أشبه مجانبة لسَنَن الدين ولحوقا بفلسفات برهمية هندية. كما استندوا فى ذلك الاتهام إلى ما في "رسالة الغفران" من أخبار الزنادقة وأشعارهم، فضلا عما يوجد فى أشعار منسوبة له من الشك والإنكار. وعلى الناحية الأخرى وجد المعرى من يدافع عنه نافيًا هذه التهمة، ومن هؤلاء القفطي وابن العديم، الذى وضع فى تبييض صفحته كتاب "الإنصاف والتحري في دفع الظلم والتجرِّي عن أبي العلاء المعري"، وقال في مقدمته: "رَمَوْه بالإلحاد والتعطيل، والعدول عن سواء السبيل: فمنهم من وضع على لسانه أقوالا ملحدة، ومنهم من حمل كلامه على غير المعنى الذي قصده، فجعلوا محاسنه عيوبًا، وحسناته ذنوبًا، وعقله حمقًا، وزهدهفسقًا، ورشقوه بأليم السهام، وأخرجوه عن الدين والإسلام. وفي الجملة فكان من أهل الفضل الوافر، والأدب الباهر، والمعرفة بالنسب، وأيام العرب. وله، في التوحيد وإثبات النبوة وما يحض على الزهد وإحياء طرق الفتوة والمروءة، شعر كثير. أما المشكل منه فله تفسير".
ومن النصوص الشعرية التى اتهم بسببها المعرى بالإلحاد:
قلتم: لنا صانعٌ قديمٌ قلنا: صدقتم. كذا نقولُ
ثم زعمتم بلا زمانٍ ولا مكانٍ. ألا فقولوا
هذا كلامٌ له خبيءٌ معناه ليس لنا عقولُ
* * *
إذا كان لا يحظى برزقك عاقلٌ وترزقُ مجنونًا وترزق أحمقا
فلا ذنب، يا رب السماء، على امرىء رأى منك ما لا يشتهِى فتزندقا
* * *
صرْف الزمان مفرِّق الإلفين فاحكم، إلهي، بين ذاك وبيني
أنهيتَ عن قتل النفوس تعمدًا وبعثت أنت بقبضها مَلَكين؟
وزعمت أن لها معادًا ثانيًا ما كان أغناها عن الحالين
* * *
إِن هَلَّلَت أَفواهُكُم فَقُلوبُكُم وَنُفوسُكُم دونَ الحُقوقِ مُهَلَّلَهْ
آلَيْتُ ما تَوْراتُكُم بِمُنِيرَةٍ إِن أُلفِيَتْ فيها الكُمَيْتُ مُحَلَّلَهْ
لا تَأمَنوا بَرْقَ الغَمامِ، فَإِنَّما تِلكَ السُيوفُ مِنَ القَضاءِ مُسَلَّلَهْ
قالَ: افتِكارٌ في الحَوادِثِ صادِقٌ جَعَلَ الصِّعابَ مِنَ الحذارِ مُذَلَّلَهْ
هَفَتِ الحَنيفَةُ، وَالنصارى ما اهتَدَت وَيَهُودُ حارَتْ، وَالمَجُوسُ مُضَلَّلَهْ
اثنانِ أَهلُ الأَرضِ: ذو عَقلٍ بِلا دينٍ، وَآخَرُ دَيِّنٌ لا عَقْلَ لَهْ
ولكن كيف يقع المعرى فى مثل تلك التناقضات والهلهلات الفكرية؟ انظر مثلا إلى إقراره بأن الله قديم، ثم يرفض القول مع ذلك بأنه خارج الزمان والمكان. إن القدم معناه أنه خارج الزمان، ومن ثم خارج المكان. أفمثل المعرى يمكن أن يفوته هذا على وضوحه الساطع؟ أما النص الثانى فإن ناظمه يقر بوجود الله ويخاطبه بمنتهى الإجلال مبتهلا إليه أن يحكم بينه وبين صرف الزمان بما يفيد رضاه به وبحكمه، ثم إذا به ينقلب بغتة معترضا على الأقدار. فكيف يجتمع هذا وذاك؟ وفى النص الثالث يريد صاحبه أن يجعل شهوات الإنسان مقياس الخير والشر والصواب والخطإ، وهو ما تقول حياة المعرى وسلوكه وأخلاقه بالعكس منه، إذ كان الرجل صبورا يرضى بالقليل ولا يفكر فى شهوة أو مال أو جاه. ومن ثم كان من الصعب جدا الاعتقاد بأن ناظمه هو المعرى. وخذ النص الأخير أيضا تجد أنه لا يذكر اليهودية والحنيفية والنصرانية بل يذكر أتباع تلك الديانات، إذ لم يكن يعجب الرجل شىء من أحوالهم آنذاك.
والحق أن أشعار الرجل وأنثاره وأخباره مملوءة بما يدل على الإيمان بالله وبالمعاد وعلى الإخبات وممارسة العبادة، أما النصوص التى تدل على شك أو تشكيك فقليلة، ولا تتمشى مع سائر ما نظم وألف ورُوِىَ لنا عنه. وأمامنا حلول أربعة: فإما أن نقول إنها غيمة من الشك مرت بسمائه، ثم سرعان ما انجلت، وعاد إلى سمائه صحوها وسطوع شمسها، وإما أن نقول مع القائلين بأنها موضوعة على لسانه زورا وبهتانا كالبيت التالى الموجود فى "اللزوميات":
قد ترامت إلى الفساد البرايا واستوت فى الضلالة الأديانُ
لكنه فى "شرح المختار من لزوميات أبى العلاء" لابن السيد البطليوسى هكذا:
قد ترامت إلى الفساد البرايا ونَهَتْنا، لو ننتهى، الأديانُ
وإما أن نوجه ما يقبل منها التوجيه بحيث تشير لا إلى الأديان بل إلى زعماء الأديان الذين أفسدوها وحرفوها عن وجهتها الكريمة العظيمة، وحولوها حرفة ومرتزقا يأكلون بها الدنيا ويتصدرون المجالس والمنتديات ويسيطرون على الأتباع ويستعبدونهم بها ويحققون من ورائها الشهرة والجاه. ذلك أنه من غير المعقول ولا العدل تجاهل كل ما ترك الرجل وراءه من شعر ونثر يقولان بأعلى صوت إنه مؤمن أسلم وجهه لله سبحانه وتقبل قضاءه وقدره، وتصديق بضعة أبيات متناثرة هنا وهناك رُوِىَ عنه أنه أنكرها واتهم خصومه بوضعها مكايدة له. ومصداق ذلك قوله مثلا:
نادَت عَلى الدينِ في الآفاقِ طائِفَةٌ: يا قَومُ، مَن يَشتَري دينًا بِدينارِ؟
جَنَوْا كَبائِرَ آثامٍ، وَقَد زَعَموا أَنَّ الصَغائِرَ تجني الخُلْدَ في النارِ
* * *
رُوَيدَكِ يا سَحابَةُ، لا تَجودي عَلى السَبِخَاتِ مِن جَهْلٍ هَمَيْتِ
طَلَبتِ دِيانَةً بينَ البَرايا لَقَد أَشْوَتْ سِهامُكَ إِذ رَمَيْتِ
تَزَيَّوْا بِالتَّصَوّفِ عَنْ خِداعٍ فَهَل زُرْتِ الرجالَ أَو اعتَمَيْتِ؟
وَقاموا في تَواجُدِهِم فَداروا كَأَنَّهُمُو ثِمالٌ مِن كُمَيتِ
وَما رَقَصوا حِذارًا مِن إِلهٍ وَلا يَبْغُونَ إِلّا ما حَمَيْتِ
وَجَدتُ الناسَ مَيْتًا مِثلَ حَيٍّ بِحُسْنِ الذِّكرِ أَو حَيًّا كَمَيْتِ
أما عقيدته فى الله والبعث والإسلام والرسول فتصورها على سبيل المثال النصوص التالية
أُقِيم خَمْسِى، وصوم الدهر آلَفُهُ وأُدْمِن الذِّكْر أبكارا بآصالِ
* * *
ورُبّ ظُهْرٍ وَصَلْناها على عَجَلٍ بعَصْرِها في بَعيدِ الوِرْدِ لَمّاعِ
بضَرْبَتَينِ لطُهْرِ الوَجْهِ واحِدةٌ وللذّراعينِ أُخْرى ذاتُ إسراعِ
وما جَهَرْنا ولم يَصْدَحْ مُؤذّنُنا من خوْفِ كلّ طويلِ الرُّمْحِ خَدّاعِ
في مَعْشَرٍ كجِمارِ الرّمْيِ أجمعُها ليْلًا وفي الصّبْحِ أُلْقيها إلى القاعِ
وكم قَصَرْنا صَلاةً غير نافِلةٍ في مَهْمَهٍ كَصَلاة الكَسْفِ شَعشاعِ
* * *
وليس اعتقادى خلود النجومِ ولا مذهبى قدم العالمِ
* * *
قد راعنى للحساب ذِكْرٌ وغرَّنى أنه بعيدُ
وعن يمينى وعن شِمالى بصحبتى حافظٌ عَتِيدُ
* * *
خُلِقَ الناسُ للبقاء فضلَّت أمةٌ يحسبونهم للنفادِ
إنما يُنْقَلون من دار أعما لٍ إلى دار شِقْوَةٍ أو رشادِ

* * *
أَطْلُبُ الأرزاقَ، والمو لى يُفِيضُ عليَّ رزقي
إن أُعْطَ بعضَ القوتِ أعـ ـلم أنَّ ذلك فوق حقي

* * *
إِذا مَدَحوا آدَمِيًّا مَدَحْـ ـتُ مَوْلى الموالي وَرَبَّ الأُمَمْ
وَذاكَ الغَنِيُّ عَنِ المادِحينَ وَلَكِن لِنَفْسي عَقَدْتُ الذِّمَمْ
لَهُ سَجَدَ الشامِخُ المُشمَخِرُّ على ما بِعَرِينِهِ مِن شَمَمْ
وَمَغفِرَةُ اللَهِ مَرجُوَّةٌ إِذا حُبِسَت أَعْظُمي في الرِّمَمْ
مُجاوِرَ قَومٍ تَمَشّى الفَنا ءُ ما بَينَ أَقدامِهِم وَالقِمَمْ
فَيا لَيْتَني هامِدٌ لا أَقومُ إِذا نَهَضوا يَنْفُضونَ اللِّمَمْ
وَنادى المُنادي عَلى غَفلَةٍ فَلَم يَبقَ في أُذُنٍ مِن صَمَمْ
وَجاءَت صَحائِفُ قَد ضُمِّنَت كَبائِرَ آثامِهِم وَاللَّمَمْ
فَلَيتَ العُقوبَةَ تَحْريقَةٌ فَصاروا رَمَادًا بِها أَو حُمَمْ
رَأَيتُ بَنِي الدَهرِ في غَفلَةٍ وَلَيْسَت جهالَتُهُم بِالأَمَمْ
فَنُسْكُ أُناسٍ لِضَعْفِ العُقولِ وَنُسْكُ أُناسٍ لِبُعْدِ الهِمَمْ
* * *
دَعاكُم إِلى خَيرِ الأُمورِ مُحَمَّدٌ وَلَيسَ العَوالي في القَنا كَالسَوافِلِ
حَداكُم عَلى تَعظيمِ مَنْ خَلَقَ الضحى وَشُهْبَ الدُّجَى مِن طالِعاتٍ وَآفِلِ
وَأَلزَمَكُم ما لَيسَ يُعْجِزُ حَملُهُ أخا الضعفِ مِن فَرْضٍ لَهُ وَنَوافِلِ
وَحَثَّ على تطهيرِ جِسمٍ وَمَلْبَسٍ وَعاقَبَ في قَذْفِ النِساءِ الفَواضِلِ
وَحَرَّمَ خَمْرًا خِلتُ أَلبابَ شِرْبِها مِنَ الطيشِ أَلبابَ النَّعَامِ الجَوافِلِ
يَجُرّونَ ثَوبَ المُلكِ جَرَّ أَوانِسٍ لَدى البَدْوِ أَذيالَ الغواني الرَّوافِلِ
فَصَلّى عَلَيهِ اللَهُ ما ذَرَّ شارِقٌ وَما فَتَّ مِسْكًا ذِكْرُهُ في المحافِلِ
* * *
كَأَنَّكَ بَعْدَ خمسينَ استَقَلَّت لِمَولِدِكَ البِناءُ دَنا لِيَهْوِي
وَإِنَّكَ إِن تَزَوَّجْ بِنتَ عَشرٍ لَأَخْيَبُ صَفقَةً مِن شَيخٍ مَهْوِ
فَأَزْمِعْ مِن بَني الدنيا نِفارًا فَإِنَّهُمُو لَفي لَعِبٍ وَلَهْوِ
وَما أَنا يائِسٌ مِن أَمرِ رَبّي عَلى ما كانَ من عَمْدٍ وَسَهْوِ
وَكَم مِن آكِلٍ رِزقًا هَنِيئًا وَباشَرَ غَيرُهُ عَنَتًا بِطَهْوِ
أو نقول إن الرجل كان فى بعض الأحيان يغيم عقله جراء ما يراه فى الحياة حوله من اعوجاج فتضطرب نفسه ورؤيته، ويخرج عن سواء القصد، إلا أنه سرعان ما يفىء إلى قواعد الإسلام، إذ التوافق مع ما يقوله دين محمد هو الأساس فى شعره ونثره. لكن هذا التوجيه يصح لو كان المعرى كلما نظم شيئا من الشعر نسيه واشتغل بالنظم الجديد دون أن يعود إلى ما سبق له نظمه. أما، وهو يراجع دواوينه إعدادا وتهيئة للنشر بين القارئين، فمعنى ذلك أنه سوف يصطدم بذلك التناقض بين آرائه هنا وهناك. فهل تنبه إلى هذا، لكنه أبقى عليه دون أن يبالى بالتنسيق بين متناقضاته؟ هذه نقطة مربكة! ثم لماذا لم نسمع خلافا بينه وبين تلاميذه حول هذا الموضوع انطلاقا من النصوص الشعرية التى أبدعها لا من كلام الناس المرسل، فيتهموه ويدفع عن نفسه الاتهام أو يسوّغه أو يثبته ويتحدى المخالفين؟ أما ما ورد ضمن ترجمة أحمد بن يوسف السليكى المنازى فى "البداية والنهاية" لا بن كثير وفى غيره من الكتب من أنه "دخل يومًا على أبي العلاء المعري،فقال له: إني معتزل الناس وهم يؤذونني، وتركت لهم الدنيا. فقال له الوزير: والآخرة أيضًا. فقال: والآخرة يا قاضي؟ قال: نعم" فأولا لم ينطلق الاتهام هنا من نصوص شعرية للمعرى بل هو اتهام مرسل. وفوق هذا فالمعرى لم يسلِّم بأنه ترك لهم الآخرة، بل استنكر اتهامه بعدم الإيمان بها. وإضافة إلى ذلك هناك نصوص متعددة فى شعر الرجل تنادى بإيمانه بالمعاد، وهى كثيرة أوردنا بعضا منها آنفا. بل إن قوله:
ضَحِكْنا، وَكانَ الضحكُ مِنّا سَفاهَةً وَحُقَّ لِسُكّانِ البَسيطَةِ أَن يَبْكوا
يُحَطِّمُنا رَيبُ الزَمانِ كَأَنَّنا زُجاجٌ، وَلَكِن لا يُعَادُ لَهُ سَبْكُ
لا يدل بالضرورة على إنكاره الحياة بعد الموت، إذ المقصود، فيما أرجح، أن الميت لا يعود إلى الحياة كرة أخرى فى هذه الدنيا. فهذا هو الأليق باعتقاد المعرى فى ضوء نصوصه المتعددة التى تلح على وجود البعث والمعاد والحساب.
ونصل إلى ما اتُّهِم به المعرى من أنه قد أراد بكتابه: "الفصول والغايات" أن يعارض أسلوب القرآن الكريم ويثبت أن بالإمكان تأليف كتاب مثله، مع أن "الفصول والغايات" مفعم بالإقرار بربوبيته سبحانه والخضوع والتمجيد له. فانظر كيف تنقلب الأمور ويُتَّهَم الرجل بالإلحاد بناء على كتاب يدل، بالعكس من ذلك، دلالة ساطعة لا ريب فيها على إيمانه بربه وإسلامه نفسه له ورضاه بحكمه وقضائه! وهذا نص من الكتاب المذكور: "كم حىٍّ بلغ الدرك، وحَّد ربه أو أشرك، وجمع لنفسه فما اتَّرَك، وارتحل إلى الرَّمْس فأرَك. من بالشح أمرك، وعلى الدنيا أمَّرك؟ أخالقك الذي صورك؟ كلا، وعظمته لقد أنذرك، هتكتَ ستر التوبة فسترك، وجاهرت بالمعصية فأخَّرك، واستنصرت به فنصرك، وهو أحفى بك من القرباء. غاية. تفسير: الدرك: المنزلة. فأرك: أى فأقام... الموت أعظم الحدث، والجدث لا يأنس بالجدث، أما العالم فمحدث، وربنا القديم المورث، الوابل بقدرته والدث، ليس بسواه متشبَّث، ولا لملك غيره لبث، رب جسد كالنبث، ما صنع التراب بالجثث، فعل بها فعل المجتث، لا يفرق بين السبط والكث، استوى المذكر والمؤنث، ألحقت المنون جديدًا برث، فانْأَ عن القبيح والرفث، وسبح في النهار والملث. ما أنشأك ربك لعبث، بل اجتباك بالكرم أحسن اجتباء. غاية. تفسير: الدث: أضعف المطر. والنبث: ما يخرج من تراب القبر أو البئر... أستغفر من لا يعزب عليه الغفران، لو كانت الذنوب سودًا صارت بشرتى كحلك الغراب، وأصبح دمي كالحبر المستنعت للكتاب، وأعديت ما جاورني من وقتٍ ومكان، حتى يكون مقعدى في الشمس الصافية مظلمًا وأنا في رأد الضحاء. غاية... علم ربنا ما علم، أني ألفت الكلم، آمل رضاه المسلم، وأتقي سخطه المؤلم، فهَبْ لي ما أبلغ به رضاك من الكلم والمعاني الغِرَاب. غاية. ما تصنع أيها الإنسان، بالسنان؟ إنك لمغتر بالغرار، كفت المنية ثائرا ما أراد. ليت قناتك بسيف عمان، وحسامك ما ولج حديده النار، وريش سهامك في أجنحة نسور الإيار، ليستيقظ جفنك في تقوى الله ويهجع نصلك في القراب. غاية. مالك عن الصلاة وانيا؟ قم إن كنت ممانيا، فشم البارق يمانيا، سار لتهامة مدانيا، يجتذب عارضا سانيا، سبَّح لربه عانيا، وهطل بإذنه سبعا أو ثمانيا، واقترب وهو لمّاع الأقراب. غاية".
كما تبرز فى "رسالة الغفران" الأفكار التى تنطلق من الإسلام كالقول بأن أهل الفترة ناجون لأنهم لم يُرْسَلْ لهم رسول وأن رحمة الله واسعة يدخل فى ظلها كل من عمل خيرا ولو ضئيلا. بل إن المعرى يؤكد أن قصيدة الأعشى فى مدح النبى صحيحة لا انتحال فيها، ويجعلها سببا فى نجاته يوم القيامة لأنها تدل على إيمانه رغم أنه أجَّل وفوده بها على الرسول نزولا على إغراء قريش له بالمال، مع النية فى القيام بذلك فى العام التالى، وإن لم يقدَّر له امتداد الحياة عاما آخر فمات قبل تنفيذ ما انتواه. وفوق هذا كله هناك إيمان المعرى بالبعث ووضعه هذه القصة البديعة انطلاقا من ذلك الإيمان. على أن الأمر لا يقف عند هذا الحد، بل إن المعرى ليقول فى "الغفران" عن القرآن ما يلى: "وأجمع ملحد ومهتد، وناكب عن المحجة ومقتد، أن هذا الكتاب الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم بهر بالإعجاز، ولقي عدوه بالإرجاز، ما حُذِيَ على مثال، ولا أشبه غريب الأمثال، ما هو من القصيد الموزون، ولا الرَّجَز من سهل وحُزُون، ولا شاكل خطابةَ العرب ولا سجع الكهنة ذوي الأرَب، وجاء كالشمس اللائحة، نورا للمُسِرَّة والبائحة، لو فهمه الهضب الراكد لتصدع، أو الوعول المعصمة لراق الفادرة والصدع، "وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون". وإن الآية منه أو بعض الآية لتعترض في أفصح كلم يقدر عليه المخلوقون فتكون فيه كالشهاب المتلألئ في جنح غَسَق، والزهرة البادية في جدوبٍ ذات نَسَق". وهوما ينسف التهمة التى زُنَّ بها من أساسها... وهكذا.
وعن مؤلفاته تقول المادة المخصصة له فى "الموسوعة العربية العالمية": "ألف أبو العلاء مصنفات جمة ضاع أكثرها ولميصل إلينا منها إلا النزر اليسير. يقول القفطي والذهبي إن أكثر كتبه بادَ ولم يخرجمن المعرة، وحرقها الصليبيون فيما حرقوا من المعرة، وأحصيا له من الكتب خمسة وخمسين كتابًا في أربعة آلاف كراسة، تشمل الشعر والنثر. فقد ذُكِر له كتاب اسمه "استغفر واستغفري" فيه عشرة آلاف بيت ضاع مع ما ضاع. ويذكر الرحالة الفارسي ناصر خسرو أنأبا العلاء نظم مائة ألف بيت من الشعر، وذلك سنة 438هـ قبل موته بإحدى عشرة سنة. وعد ياقوت من مصنفاته اثنين وسبعين مصنفًا. وبقي من شعره ثلاثة دواوين: "سقط الزند"، و"الدرعيات"، وهو ديوان صغير طبع ملحقًا بـ"السقط"، و"اللزوميات". ومن أشهر مؤلفاته النثرية "رسالة الغفران"،التي أملاها ردا على رسالةالأديب الحلبي علي بن منصور بن القارح. وكانت أكثر كتبه يؤلفها ردا على طلب طالب. وكان بعض الأمراء يسألونه أن يصنف لهم، ومن ذلك كتاب"تضمين الرأي"، وهو عظاتٌ وعِبَرٌ وحَثٌّ على تقوى الله يُخْتَم كل فصل منها بآية، و"تاج الحرة"، وهو خاص بوعظ النساء، ومقداره أربعمائة كراسة كما يقول ابن العديم، و"سجع الحمائم" في العظة والحث على الزهد أيضًا،و"اللامعالعزيزي" في تفسير شعر المتنبي، و"جامع الأوزان في العروض والقوافي"، و"الصاهل والشاحج، ولسان الصاهل والشاحج، والقائف"، وهذه الثلاثة ألفها للأمير عزيز الدولة شجاع بن فاتك والي حلب من قبل المصريين،و"الفصول والغايات" و"شرف السيف"، و"مُعْجِزأحمد" في شرح شعر المتنبي، و"ذكرى حبيب" في شعر أبي تمام،و"عبث الوليد" فيشرح شعر البحتري،و"رسالة الملائكة"، وغيرها كثير. لكن آخر ما أملى من الكتبكتابَا"المختصر الفتحي، وعون الجُمل": ألفهما لابن كاتبه الشيخ أبي الحسن علي بن عبد الله بن أبي هاشم. وكان المعري شديد الاهتمام بكتبه وعلمه وأدبه يجمعهاويفسرها ويدافع عنها. شرح ديوانه:"سقط الزند"بكتاب"ضوء السقط"، كماشرح"اللزوميات" بكتابين، ودافع عنها بثالث. وشرح "الفصول والغايات" بكتابين، وشرح "الرسائل"بكتاب سماه:"خادم الرسائل". وهذا الجهد،فضلًا عن عنايته بها، يدل على غزارة علمه وثقته بنفسه، كما يدل على خوفه من التأويل والكذب عليه. وتدل أسماء كتبه على ذوق رفيع. وبقي من نثره "رسالة الغفران، ورسالة الملائكة"، وأجزاء من "الفصول والغايات" وطائفة من الرسائل كان يوجهها إلى أصدقائه. ويمتاز نثره بالغريب وكثرة الغموض واللجوء إلى السجع مثل أهل عصره. وقد طرق في نثره موضوعات مختلفة مثل المدح والعزاء والوصف. و كتب "رسالة الغفران" ردا على رسالة بعث بها إليه ابن القارح، وهو صديقله من حلب عنوانها في "تقبل الشرع وذم من ترك الوقوف عنده"، وهي رسالة طويلة فيها يمازح المعري صديقه ويعبث به ويشير من طرف خفي إلى أنه كان متشككًا غير قوي الإيمان. وفيها يطوف ابن القارح في الجنة وتظهر فيها مقدرة المعري اللغوية، كما تبدو فيها مقدرته على السخرية والنقد.
و"الفصول والغايات" صورة أخرى لـ"اللزوميات"، فقد أورد فيه كثيرًا من الآراء التي أوردها هناك. وألفه المعري تقربًا إلى الله وتمجيدًا وتسبيحًا له. قال: "علم ربنا ما علم، أني ألفت الكلم، آمل رضاه المسلم، وأتقي سخطه المؤلم"، وقد التزم أن يختم كلفصل بكلمة يلتزم آخرها في جملة من الفصول، ثم رتب هذه الكلمات على حروف المعجم كلها، فيلتزم الهمزة في بعض الغايات ثم الباء... إلى آخر الحروف. وتكون الغاية ساكنة قبلها ألف، وأحيانًا يلتزم حرفًا قبل الألف، ويلتزم السجع أحيانًا ويضيف إليه قيدًا آخربحيث يلتزم حرفين أو أكثر على نحو ما فعل في "اللزوميات"، وقد يضيف إلى السجع التزامًا آخر فيجري السجع على حروف المعجم. وتطول الفصول وتقصر بلا ضابط معين، وتكون مستقلة أحيانًا، ومرتبطة ببعضها أحيانًا أخرى. وكان الشائع المشهور أنه ألف هذه الفصول متأثرًا ببلاغة القرآن الذي هو المثل الأعلى للبلاغة والبيان، وما وجد أديب وشاعر إلا فُتِن بأسلوب القرآن".
وقد بقي من شعر المعري الغزير ثلاثة دواوين هى "سقط الزند" و"الدرعيات" و"اللزوميات كما سبق القول". فأما سقط الزند فيضم أكثر شعر صباه وشيئًا من شعر الكهولة. ويظهر في شعر صباه المبالغة والتكلف والمحاكاة والضرورات الشعرية كما لاحظ د. طه حسين فى "تجديد ذكرى أبى العلاء". وكلما تقدم به العمر استقل شعره عن شعر السابقين وصارت له شخصيته المستقلة. وتبدو فى هذا الشعر المبكر ظاهرة استعمال المصطلحات العلمية. أما الشعر الذي نظمه في كهولته ففيه نضج في الفكر وبعد عن الضرورات والمبالغة. ويلجأ فيه للقوافي الصعبة ويطيل فيها. وفي هذا الديوان تأثر واضح بالمتنبي، وكان به مغرمًا ولأشعاره دارسًا، رغم ما بين الرجلين من فروق حادة. فأبو العلاء معتزل للدنيا زاهد فيها لا يصارع أحدا على شىء منها ولا يمدح ملكا ولا وزيرا ولا كبيرا ولا ينتظر من أحد نوالا، بينما المتنبى منغمس فيها انغماسا يتطلع إلى أن يتبوأ منها مكانة سامقة: يمدح هذا، ويهجو ذاك، ويجمع المال جمعا، ويحتقر الناس جميعا ويرى نفسه فوقه كلهم شعراء وغير شعراء. وإذا كان المعرى مثلا يدعو إلى عدم الزواج حتى لا تستمر الحياة التى يراها مزعجة قاسية فإن فى بعض أشعار المتنبى رغبة فى القضاء على البشر ومحقهم من الوجود لما فيهم من شر وسوء.
ولم يمدح أبو العلاء أحدا طلبًا لنواله، ومن ثم لم يتزلف لأحد، وإن كان له مدائح في بعض أصحابه ومعارفه. ومنها قصيدته النونية التي بعث بها إلى الشريف أبي إبراهيم العلوي والتى نجتزئ منها الأبيات التالية:
علّلاني، فإنّ بِيضَ الأماني فَنِيَتْ، والظّلامُ ليسَ بِفاني
إن تَنَاسَيْتُما وِدادَ أُناسٍ فاجعَلاني مِن بعضِ مَنْ تَذْكُرانِ
رُبَّ ليلٍ كأنّه الصّبحُ في الحُسْـ ـنِ، وإن كانَ أسْودَ الطّيلَسانِ
قد رَكَضْنا فيه إلى اللّهْوِ لمّا وَقَفَ النّجْمُ وِقْفَةَ الحَيْرانِ
وعلى الدّهْرِ مِن دماءِ الشّهيدَيْـ ـنِ: علِيٍّ وَنَجْلِه شاهِدانِ
فهُما في أواخرِ اللّيْلِ فَجْرا نِ، وفي أُولَيَاتِهِ شَفَقَانِ
ثَبَتَا في قَميصِهِ ليَجيءَ الحَشْـ ـرَ مُسْتَعْدِيًا إلى الرّحْمنِ
وجَمالُ الأوانِ عَقْبُ جُدُودٍ كلُّ جدّ منهمْ جَمالُ أوانِ
يا ابن مُسْتَعْرِضِ الصّفوفِ ببدْرٍ ومُبِيدِ الجُمُوعِ مِن غَطَفَانِ
أحدِ الخَمْسَةِ الذينَ هُمُ الأغْـ ـراضُ في كلّ مَنْطِقٍ والمعاني
والشخوصِ التي خُلِقْنَ ضِياءً قبْلَ خَلْقِ المِرّيخِ والمِيزانِ
قبْلَ أن تُخْلَقَ السّماوَاتُ أو تُؤْ مَرَ أفْلاكُهُنّ بالدّوَرانِ
أنتَ كالشمسِ في الضّياء، وإن جا وَزْتَ كَيْوَانَ في عُلُوّ المَكانِ
وافَقَ اسْمُ ابنِ أحْمدَ اسْمَ رَسُو لِ اللهِ لمّا تَوافَقَ الغَرَضَانِ
وسَجايا محمّدٍ أعْجَزَتْ في الْـ ـوَصْفِ لُطْفَ الأفكارِ والأذهانِ
وجَرَتْ في الأنام أوْلادُهُ السّت تّةُ مجْرى الأرْواحِ في الأبْدانِ
فهُمُ السّبْعَةُ الطّوالعُ، والأصْـ ـغَرُ منهمْ في رُتْبَةِ الزِّبْرقانِ
وبِهِمْ فَضَّلَ المَلِيكُ بَني حَوّا ءَ حتى سَمَوْا على الحَيَوانِ
شَرُفوا بالشِّرافِ، والسُّمْرُ عِيدا نٌ إذا لم يُزَنّ بالخِرْصانِ
وإذا الأرضُ، وهْيَ غَبراءُ، صارتْ من دَمِ الطّعْنِ وَرْدَةً كالدّهانِ
أقْبَلوا حامِلي الجَداوِلِ في الأغْـ ـمادِ مُسْتَلْئِمينَ بالغُدْرانِ
يَضْرِبون الأقْرانَ ضَرْبًا يُعيدُ السْ سَعْدَ نحْسًا في حُكْمِ كلّ قِرانِ
وَجَلَوْا غَمْرَةَ الوَغَى بوُجوهٍ حَسُنَتْ فهْيَ مَعْدِنُ الإحسانِ
يا أبا إبراهيم، قَصّرَ عنكَ الشّعْـ ـرُ لمّا وُصِفْتَ بالقُرآنِ
أُشْرِبَ العالَمونَ حُبّكَ طَبْعًا فهْوَ فَرْضٌ في سائرِ الأدْيانِ
بَانَ للمُسْلِمِينَ منكَ اعْتقادٌ ظَفِرُوا مِنه بالهُدى والبَيانِ
وحُدودُ الإيمانِ يَقْبِسُها مِنْـ ـكَ ويَمْتاحُها أُلُو الإيمانِ
ومُحَيّاكَ للّذي يَعْبُدُ الدّهْـ ـرَ وإهْباءُ طِرْفِكَ الفَتَيَانِ
وإلهُ المَجُوسِ سَيْفُكَ إنْ لم يَرْغَبوا عنْ عبادة النّيرانِ
حَلَبًا حَجّتِ المَطِيُّ ولو أنْـ ـجَمْتَ عنها مالَتْ إلى حَرّانِ
صَلِيَتْ جَمْرَةَ الهَجِيرِ نهارًا ثُمّ باتتْ تَغَصّ بالصِّلْيَانِ
أرْزَمَتْ ناقتايَ شَوْقًا فظَنّ الرّكْـ ـبُ أنّي سَرَى بيَ المِرْزَمانِ
عِشْ. فداءٌ لوَجهكَ القَمَرانِ فهُما في سَناهُ مُسْتَصْغَرانِ
أما الفخر فهو قليل، وفيه مبالغة جامحة أحيانا على عادة كثير من الشعراء فى ذلك الحين حتى ليقول إنه يسكن السماكين ويصارع الدهر والناس والدنيا جميعا ويرحل ويخترق الظلام بلا أدنى خوف ولا يبالى بالعقبات والأخطار. بيد أن لفخره رغم ذلك علوقا بالنفس لما فيه من معان طريفة وحرارة لاهبة ولغة منسابة وصور جميلة متتابعة وأمثال سائرة. ومنه قصيدته المشهورة:
ألا في سبيلِ المَجْدِ ما أنا فاعلُ: عَفافٌ وإقْدامٌ وحَزْمٌ ونائِلُ
أعندي، وقد مارسْتُ كلَّ خَفِيّةٍ، يُصَدَّقُ واشٍ أو يُخَيَّبُ سائِلُ؟
أقَلُّ صُدودي أنّني لكَ مُبْغِضٌ وأيْسَرُ هَجْري أنني عنكَ راحلُ
إذا هَبّتِ النكْباءُ بيْني وبينَكُمْ فأهْوَنُ شيْءٍ ما تَقولُ العَواذِلُ
تُعَدّ ذُنوبي عندَ قَوْمٍ كثيرَةً ولا ذَنْبَ لي إلاّ العُلا والفواضِلُ
كأنّي إذا طُلْتُ الزمانَ وأهْلَهُ رَجَعْتُ وعِنْدي للأنامِ طَوائلُ
وقد سارَ ذكْري في البلادِ، فمَن لهمْ بإِخفاءِ شمسٍ ضَوْؤها مُتكاملُ؟
يُهِمّ الليالي بعضُ ما أنا مُضْمِرٌ ويُثْقِلُ رَضْوَى دونَ ما أنا حامِلُ
وإني، وإن كنتُ الأخيرَ زمانُهُ، لَآتٍ بما لم تَسْتَطِعْهُ الأوائلُ
وأغدو ولو أنّ الصّباحَ صوارِمٌ وأسْرِي ولو أنّ الظّلامَ جَحافلُ
وإني جَوادٌ لم يُحَلّ لِجامُهُ ونِضْوٌ يَمانٍ أغْفَلتْهُ الصّياقلُ
وإنْ كان في لُبْسِ الفتى شرَفٌ له فما السّيفُ إلاّ غِمْدُه والحمائلُ
ولي مَنطقٌ لم يرْضَ لي كُنْهَ مَنزلي على أنّني بين السّماكينِ نازِلُ
لَدَى مَوْطِنٍ يَشتاقُه كلُّ سيّدٍ ويَقْصُرُ عن إدراكه المُتناوِلُ
ولما رأيتُ الجهلَ في الناسِ فاشيًا تجاهلْتُ حتى ظُنَّ أنّيَ جاهلُ
فوا عَجَبا! كم يدّعي الفضْلَ ناقصٌ ووا أسَفا! كم يُظْهِرُ النّقصَ فاضلُ
وفى الوصف يحاول المعري وصف الأشياء المحسوسة كما فعل من قبله بشار بن برد وكما يفعل غيره من الشعراء المكفوفى البصر جريا على ما حفظوه وتردد على مسامعهم واستقر فى حافظتهم. ولا ريب أن فى هذا لونا من التفوق. ومن شعره في هذا المجال قوله:
رب ليل كأنه الصبح في الحسن

وإن كان أســود الطيلســانِ
ليلــتي هــذه عـروسٌ مــن الزنج

عليهـــا قلائــدٌ مـن جُمَــانِ
هـرب النــوم من جفــوني فيهــا

هَرَبَ الأمنِ عن فؤاد الجبانِ
وكأن الهــلال يهــــوَى الثريــــا

فهمـــا للـــوداع معتنقــــان
وسهيل كوجنة الحب في اللــون

وقلب المحــب في الخفقــان

أما فى ميدان الغزل فرغم أنه، فيما نعرف، لم يقع فى حب امرأة نجد فى بعض أشعاره المبكرة غزلا طريفا كقوله:
يا ساهر البرق، أيقظ راقد السمرِ

لعل بالجزع أعوانًا على السهرِ
وإن بخلتَ عن الأحياء كلهمو

فاسْقِ المواطر حيًا من بني مطرِ
ويا أسيرة حِجْلَيْها أرى سفهًا

حَمْلَ الحُلِيِّ لمن أعيا عن النظرِ
ما سرت إلا وطيفٌ منك يتبعني

سُرًى أمامي، وتأويبًا على أثري

وقد رثى أبو العلاء أباه وأمه وطائفة من الناس. وأجود ما قاله في الرثاء الداليةُ التي بكى فيها أبا حمزة الفقيه الحنفي، والتى يقول عنها طه حسين فى "تجديد ذكرى أبى العلاء": "نعتقد أن العرب لم ينظموا في جاهليتهم وإسلامهم ولا في بداوتهم وحضارتهم قصيدة تبلغ مبلغ هذه القصيدة في حسن الرثاء". وهى قصيدة هادئة متأملة لا متألمة. فإن كان د. طه ينحو فى كلامه إلى هذا النحو فقد يكون حكمه صادقا. أما إن كان يقصد اللوعة والألم الممض وحرقات القلب فلا شك أن رثاء كل من عبد يغوث الجاهلى ومالك بن الريب الإسلامى لنفسه، ورثاء الخنساء لأخيها صخر، ورثاء أبى ذؤيب الهذلى لأولاده الأربعة، ورثاء بشار بن برد لابنه، ورثاء ابن الرومى لابنه الأوسط، بل إن رثاء المتنبى لخولة أخت سيف الدولة، وهذه مجرد أمثلة، لأقوى من تلك القصيدة وأقدر على اقتحام النفس. وقد مرت أبيات من هذه القصيدة العلائية من قبل. والغريب أن لاميته فى رثاء أمه تخلو من قوة رثائه لأبى حمزة، علاوة على أنها بضعة أبيات قليلة رغم ما نعرفه من شدة حبه لوالدته. وليس فيها كلام عن أمه تقريبا ولا وصف لحزنه عليها، اللهم إلا بيتا واحدا يكاد يخلو من المشاعر:
خُلُوُّ فؤادي بالمَوَدّةِ إخْلالُ وإبْلاءُ جِسمي في طِلابِكِ إبْلالُ
ولي حاجةٌ عنْد المنيّةِ فَتْكُها برُوحيَ، والأهواءُ مُذْ كُنّ أهْوالُ
إذا مُتُّ لم أحْفِلْ أبالشأم حُفْرَةٌ حَوَتْنيَ أم ريمٌ برَيْمانَ مُنْهالُ
على أنّ قَلْبي آنِسٌ أنْ يُقال لي: إلى آلِ هذا القبر يَدْفِنُك الآلُ
دعا اللّهُ أُمًّا لَيْتَ أنّي أمامَها دُعِيتُ ولو أنّ الهواجِرَ آصالُ
مضَتْ، وكأنّي مُرْضَعٌ، وقد ارْتَقَتْ بيَ السنُّ حتى شَكْلُ فَوْدَيّ أشْكالُ
أراني الكَرَى أنّي أُصِبْتُ بناجِذٍ ألا إنّ أحلامَ الرّقادِ لَضُلاّلُ
أجارِحَتِي العُظْمى تُشَبِّه ساهِيًا بِسنٍّ لها في ساحةِ الفَمِ أمْثالُ؟
وبينَ الرَّدى والنوْم قُرْبَى وَنِسْبَةٌ وشَتّانَ بُرْءٌ للنّفُوس وإعْلالُ
إذا نِمْتُ لاقَيْتُ الأحِبّةَ بَعدما طَوَتْهمْ شُهورٌ في الترابِ وأحوالُ
وقد تتبع المعرى عيوب البشرية فأظهرها في لهجة قاسية، لكن مع تجنب الفحش والإقذاع، وكان غرضه الإصلاح. ونجد هذا الموضوع في "اللزوميات". ومن ذلك الحملة الشديدة على الرياء الدينى كما فى البيتين التاليين اللذين يصف فيهما نفاق بعض الوعاظ:
يحرّم فيكم الصهباء صرفًا

ويشربها على عمد مساءَ
إذا فعل الفتى ما عنه ينهى

فمن جهتين لا جهة أساءَ

ويحتوى ديوان "الدرعيات" على قصائد فى وصف الدرع، وهو ما يثير الاستغراب بحق، إذ المعرى كفيف البصر، فلم ير الدروع ولا كان أحد من أهل بيته مشغولا بها ولا ارتداها يوما، إذ بيته بيت علم وقضاء لا بيت قادة عسكريين. وقد افتنَّ في وصفها: فمرة يصفها على لسان رجل أسَنَّ فترك لبسها، أو على لسان رجل رهنها. كما جعل وصفها مرة محاورة بين درع وسيف، أو جعل وصفها على لسان رجل يبيع درعًا أو على لسان امرأة توصي ابنها بلبس الدرع والانشغال بها عن الزواج. ومع هذا فالموضوع جديد في الشعر العربي يدل على براعة وأصالة. ومن أشهر هذه الدرعيات:
عليكَ السّابِغاتُ فإنّهُنّهْ يُدافِعْنَ الصّوارِمَ والأسِنّهْ
ومَنْ شَهِدَ الوَغى وعليه دِرْعٌ تَلَقّاها بنَفْسٍ مُطْمَئِنّهْ
وحَبّاتُ القُلوبِ يَكُنّ حَبًّا إذا دارَتْ رَحاها المُرْجَحِنّهْ
على أنّ الحَوادثَ كائِناتٌ وما تُغْنِي مِن القَدَرِ الأكِنّهْ
ونِعْمَ ذخيرَةُ البَدْوِيّ زَغْفٌ أوانَ البِيضُ يُسْقِطْنَ الأجِنّهْ
ولم يَتْرُكْ أبُوك سِوى قَناةٍ وسَيْفٍ آزِرٍ فَرَسًا وَجُنّهْ
فحِنَّ إلى المَكارِمِ والمَعالي ولا تُثْقِلْ مَطَاكَ بعِبْءِ حَنّهْ
فإنّي قد كبِرْتُ، وما كَعابٌ مُلائِمَةً عَجوزًا مُقْسَئِنّهْ
أما ديوان "اللزوميات" فقد أخذ اسمه من التزامه فى قصائده حرفًا إضافيا يكرره قبل حرف الرَّوِيِّ، وإن لم يكن شاعرنا أول من ابتكر هذا الفن، إذ فعلها مثلا قبله كثير عزة فى تائيته المشهورة التى التزم فيها اللام قبلالتاء:
خليليَّ، هذا رَبْع عزةَ. فاعقلا

قلوصيكما ثم ابكيا حيث حَلّتِ

لكن الجديد في صنع المعري أنه التزم هذه الطريقة فى ديوان كامل يحتوى على جميع حروف المعجم، فضلا عن كثرة الحوشى الغريب والمصطلحات العلمية فيه، فجاء الديوان شيئا فريدا. ومع كل هذا التعقيد نراه يقصد به معانى فلسفية عميقة. والملاحظ أن اللزومية تطول وتقصُر تبعًا لما فى القافية من سهولة أو صعوبة. ومن تلك اللزوميات قوله:
إِذا حانَ يَومي فَلْأُوَسَّد بِمَوْضِعٍ مِنَ الأَرضِ لَم يَحفُر بِهِ أَحَدٌ قَبرا
هُمُ الناسُ إِن جازاهُمُ اللهُ بِالَّذي تَوَخَّوْهُ لَم يَرْحَم جَهُولًا وَلا حَبْرا
يَرى عَنَتًا في قُرْبِ حَيٍّ وَمَيِّتٍ مِنَ الإِنْسِ مَن جَلَّى سَرائِرَهُم خُبْرا
فَيا لَيتَني لا أَشهَدُ الحَشْرَ فيهِمُو إِذا بُعِثوا شُعْثًا رُؤوسُهُمُ غُبْرا
إِذا تَمَّ فيما تُؤْنَسُ العَيْنُ مَضْجَعي فَزِدْني، هَداكَ اللهُ، مِن سَعَةٍ شبرا
وَإِنْ سَأَلوا عن مَذْهَبي فَهُوَ خَشْيَةٌ مِنَ اللهِ لا طَوْقًا أَبُثُّ وَلا جَبْرا
* * *
إِن كانَ إِبليسُ ذا جُندٍ يَصولُ بِهِم فالنفسُ أَكْبَرُ مَن يَدْعوهُ إِبليسُ
لا شَبَّ رَبُّكَ نيرانَ الشبابِ لَهُم إِلى المُدامَةِ تَهْجيرٌ وَتَغليسُ
والدهرُ في الحِجِْر تُرْجَى مِنهُ عارِفَةٌ أَنَّى، وَقَد بانَ إِعْسارُ وَتَفْليسُ؟
وَمَوَّهَ الناسُ حَتّى ظَنَّ جاهِلُهُم أَنَّ النُبوَّةَ تَمويهٌ وَتَدليسٌ
جاءَت مِنَ الفَلَكِ العُلْويّ حادِثَةٌ فيها استَوَى جُبَناءُ القَومِ وَاللِّيسُ
لَو هَبَّ هُجّادُ قَومٍ في الثرى دُفِنوا لَضاقَت المُدْنُ وَالبِيدُ الأَماليسُ
مَتّى أُفارِقُ دُنيايَ الَّتي غَدَرَت وَيُدرِكُ اسْمِيَ في الأَسماءِ تَطْليسُ؟
ويكثر فى أشعاره المحسنات البديعية كما فى قوله تجنيسا:
وفوائد الأسفار في الدنيا

تفوق فوائد الأسفار

فالأسفار الأولى جمع "سَفَر" وهو الرحيل، أما الأسفار الثانية فجمع "سِفْر" وهو الكتاب. ومن قوله تورية:
وحرفٍ كنون تحت راء، ولم يكن

بدال يؤم الرسم غيَّره النَّقْطُ

ومن الطباق عنده:
غير مُجْدٍ في ملتي واعتقادي

نَوْحُ باكٍ ولا ترنُّم شادِ

كما نجد لديه استغلال الأفكار والمصطلحات العلمية للتعبير عن آرائه وملاحظاته في الحياة والأحياء:
والمرء كان، ومثل "كان" وجدته

حَالَيْه في الإلغاء والإعمالِ

وكما فى قوله:
والبــاء مثــل البـــاء

يخفــض للدنــاءة أو يجـرّ
يقصد بالباء الأولى الجماع. وكما فى قوله مستخدما بعض مصطلحات البلاغة:
تجانسَتِ البرايـا في معــانٍ

ولم يجلب مودتَها الجناسُ

وكما فى قوله مستخدما مصطلحات العروض:
وقد يخطئ الرأيَ امرؤ وهو حازمٌ

كما اختلَّ في وزن القريض عبيدُ

* * *
وأكرمني على عيبي رجال

كما رُوِيَ القريض على الزِّحافِ

وقد أكثر المعري من ذم الدنيا، التى يكنيها: أم دَفْر، ومن ثم كره الوجود وآثر العدم، وتمنى لو أنه لم يولد بل تمنى الموت لكل وليد لأنه سيقاسيالشرور:
فليت وليدًا مات ساعة وضعه

ولم يرتضع من أمه النُّفَساءِ

ومن ثم كره الزواج ولم يتزوج. وكان يبغض انقسام الناس إلى أغنياء وفقراء، ولذلك حثعلى أداء الزكاة:
وقد رفق الذي أوصى أناسًا

بعُشْرٍ في الزكاة ونصف عُشْرِ

ونادى بالمساواة:
لا يفخـــرن الهاشـــمي

على امرئ من آل بربرْ

وكان زاهدا فى الدنيا، وإن قرر أن زهدهكان زهد اضطرار لا اختيار:
وقال الفارسون: حليف زهد

وأخطأت الظنون بما فَرَسْنَهْ
ولم أُعْرِض عن اللـذات إلا

لأن خيــارها عني خَنَسْــنَهّْ

فهو زاهد لأنه عجز عن تحقيق آماله، وقد راض هذه الآمال فامتنعت عليه فطلقها وهوساخط لأنه عجز. وقد كان صريحًا في التعبير عن حبه الغريزي للذائذ، ولكن عقله كانيقف بالمرصاد للغرائز ويبين مساوئها:
نهــانيَ عقــلي عن أمـــورٍ كثــيرةٍ

وطبــعي إليهـا بالغريزة جاذبي

أو:
والعقل يسعى لنفسي في مصالحها

فما لطبعي إلى الآفات جذابُ

ويُعَدّ المعري من أكثر شعراء العربية نتاجًا شعريًا وأعمقهم فلسفة في الحياة. وقد عاش في عصر من أكثر العصور السياسية اضطرابًا فى تاريخ الإسلام، ولكنه من أكثرها ثراءً فكريًا وتنوعًا أدبيًّا، فاستطاع أن يجعل من فقد بصرهقوة دافعة ومكمنًا من مكامن الإبداع، فضلًا عن أن "رسالة الغفران" هى فتح في دنيا النثر القصصي.