فى صالون سالمينا:

مع رواية "الجلاد" للدكتور عادل مرسى
بقلم إبراهيم عوض
الرواية التى نتناولها فى هذه الدراسة هى رواية "الجلاد" للدكتور عادل مرسى، وهو طبيب بيطرى من دمنهور بدأ الكتابة عام ٢٠١٥، وعنده أربع روايات منشورة هى "متر الوطن بكام؟" و"اللعنة" و"الأفاعى"، ثم روايتنا الحالية: "الجلاد". ويذكر كاتبنا باعتزاز، وله كل الحق فى ذلك، أن بيتهم كان له دور واضح فى حبه للقراءة وأن والدته كانت دوما توجهه إلى تلك الناحية. وبالمثل نراه يؤكد أنه قد وضع لنفسه قاعدة يسير عليها فى تأليفه هى أن كل ما يخجل أن يقرأه أطفاله لا يفكر فى كتابته أبدا. كما أنه يحب نجيب محفوظ حبا جما ولا يرى له نظيرا، ويسخر ممن يهاجمونه ويسميهم: "أشباه مثقفين". والآن نبدأ تناول الرواية على اسم الله وبركته، ونرجو أن تكون أخطاؤنا فيما نكتبه قليلة غير فادحة ولا فاضحة كما أقول دائما كلما كتبت شيئا.

ونبدأ باللغة، وأنا أوليها اهتماما شديدا على عكس طائفة من النقاد الآن لا تلتفت إلى هذه النقطة. وسر اهتمامى بهذا الجانب فى الإبداعات الأدبية هو أن كثيرا من كتاب الحقبة الحالية، وبخاصة الروائيون منهم، لا يحسنون لغتهم، فتقع منهم أخطاء كثيرة دون داع، وكان يمكن أن يتجنبوا هذه الأخطاء لو أنهم اهتموا بعض الاهتمام بتصويب أساليبهم كما يهتمون بملابسهم مثلا وطعامهم وحديثهم ومسكنهم، وما كانوا ليجدوا عنتا لو اهتموا هذا الاهتمام، فقواعد اللغة ليست غولا يأكل من يقترب منها بل هى كأية قواعد فى أى ميدان آخر من ميادين الحياة متى عرفها الإنسان وراعاها نجا بأسلوبه من العيوب التى ما كان ينبغى أن تكون فيه. وليس شرطا أن يقرأ الواحد منا كتبا قديمة فى النحو ولا كتبا معقدة ولا كتبا مفصلة، بل يكفى أن يدرس ما يدرسه طلاب المدارس، ولكن باهتمام وحب ورغبة فى التعلم والترقى، ولسوف يجد بعدها أن لغته قد صَحَّتْ صحةً عظيمةً وأنه قلما يقع فى خطإ.
أما إن أصر على أن يبقى كما هو، وكأن ما هو عليه مفخرة ينبغى الحرص عليها والتمسك بها، فعليه أن يَعْهَد بما يكتب لمن ينظر فيه ويعدّل ما يحويه من أغلاط. أليس كل منا يحرص على مظهره وأناقته بقدر المستطاع ويتكلف فى ذلك الكثير من المال والوقت والجهد، وربما أيضا قدرا كبيرا من التوتر؟ فليحرص على لغته وأسلوبه بنفس الطريقة التى يحرص بها على مظهره. ولغة الكاتب جزء من شخصيته مثلما أن مظهره جزء من تلك الشخصية. والشخص المتحضر لا يهمل أسلوبه، فما بالنا لو كان كاتبا، وكانت صحة اللغة عنصرا جوهريا من متطلبات الكتابة؟ ولن أتطرق إلى الكلام عن أن اللغة هى إحدى مقومات شخصيتنا الوطنية والقومية والدينية، بل يكفى أن أقول إن الاهتمام بها مظهر من مظاهر التحضر على اعتبار أن من عناصر التحضر الصحة والجمال. وهل يمكن أن تكون اللغة مقبولة دون صحة أو جمال؟ نعم إن العوام وأشباههم لا يلتفتون إلى ذلك، ولكن متى كان العوام هم مقياس التحضر فى يوم من الأيام؟
وكاتبنا ليس ضعيف الموهبة، بل يمتلك من أدوات الفن القصصى الكثير، ويمكن مع الأيام أن يبلغ درجة متقدمة بين القصاصين، وبخاصة إذا امتلك ناصية اللغة السليمة ولم يعد يقع فى تلك الأخطاء الساذجة التى أستغرب أن يقع فيها قصاص مثله. لقد كان ينبغى أن يحل مشكلة الأخطاء اللغوية مبكرا ما دام قد نوى أن يكون أديبا. ولا أستطيع أن أخمن ماذا كان يمكن أن يقول له طه حسين مثلا لو رأى كل تلك الأخطاء التى تبرقش روايته وتفسدها فسادا غير قليل، ولكن من المؤكد أنه كان سيكون قاسيا فى ملاحظاته وتوجيهه إلى إحسان لغته. وقد شجعنى على مصارحة أديبنا بهذه الملاحظة وغيرها مما سيأتى ذكره فى هذه الدراسة تأكيده فى حوار له بـ"العربى اليوم" (بتاريخ 2/ 2/ 2020) أنه يستفيد من ملاحظات الأصدقاء والنقاد على ما يكتب. ولست أبغى مما أقوله هنا سوى الإصلاح وأن يتفوق أديبنا على نفسه ويتطور ويرتفع أعلى وأعلى، وهو فيما أرى من القادرين على ذلك. وأرجو أن يكون كلامى فى محله وأن تصدق الأيام ما أقول.
وقد لاحظت عند مؤلفنا ألوانا متعددة من الأخطاء بحيث يصح أن نقول له: عليك بمراجعة القواعد النحوية والصرفية كلها على نحو منهجى بحيث تقرؤها جميعا وعلى دفعة واحدة فلا ينسيك قراءة فصل من فصول النحو ما كنت قد قرأته من فصول قبل ذلك، ثم معاودة قراءتها مرة أخرى وأخرى حتى تشعر أنك قد تملأت منها وأنك قد صرت شيئا آخر. كذلك لا بد له من قراءة فحول الأدب المعاصر على الأقل حتى يكتسب الأسلوب الجزل الجميل اكتسابا كما يتشرب أى صبى أصول الصنعة من عمله مع الأسطى ومراقبته وتقليده والاستماع إلى توجيهاته والاجتهاد المستمر والمخلص فى تطوير نفسه، حتى لا يقول مثلا: "إحدى المنازل" بدلا من "أحد المنازل"، وحتى لا يقول: "تسير كأنها مُسَاقَة" بدلا من "مَسُوقَة" لأن فعلها "سَاقَ" وليس "أَسَاقَ"، وحتى لا يحذف نون الرفع من آخر الأفعال الخمسة دون ناصب أو جازم أو يفعل العكس فيثبت نون هذه الأفعال رغم جزمها أو نصبها كما فى الأمثلة التالية: "إنتشر المخبرين والعساكر يقلبوا أثاث الشقة" (بالإضافة إلى نصب "المخبرين" أو جرها، وصوابها "المخبرون" لأنها فاعل)، "بدأوا يدفعوا سيد للخارج"، "حِفنة محاميين فاشلين وحاقدين ينتظروا بلهفة وشوق خسارته القضية" (بالإضافة إلى كسر حاء "حفنة" وهى بالفتح أو الضم، وكتابة "محاميين" بياءين كما فى العامية، وهى بياء واحدة)، "كل مرة تحاولى إبهارى بأشياء"، "لَمْ يستمعون". وهذا كثير جدا، وصواب ذلك: "يقلبون" و"يدفعون" و"ينتظرون" بإثبات النون فى آخر الفعل المضارع، و"لم يستمعوا" بحذف النون، وحتى لا يضطرب أمام صيغ التأنيث والتثنية والجمع وضمائرها فيقول على سبيل المثال: "خرج منه ليجد تجمّع مِن الممرضات يتهامسن فيما بينهم وهم ينظرون إليه وعلى وجوههم علامات الذعر، سألهم بلهجة آمرة: فين دكتور يونس؟ ردت إحداهن: جوّة فى أوضة بيرى" (باستخدامه نون النسوة للممرضات أولا فى "يتهامسن" ثم تذكيرهن فى "وهم ينظرون. وعلى وجوههم. سألهم" ليعود إلى نون النسوة كرة أخرى فى "إحداهن"، فضلا عن وجوب نصب "تجمُّعًا")، وحتى لا يخطئ فى إعراب كلمات سهلة كما فى قوله: "كل مرة تحاولى إبهارى بأشياء أرى أن بإمكان أى شخص ذو مهارة خاصة أن يفعل ذلك بسهولة" (والصحيح "أى شخص ذى مهارة"، إذ إن "ذى" مجرورة لأنها صفة لـ"شخص"، و"شخص" مجرور لأنه مضاف إليه، و"ذو" تجر بالياء لأنها من الأسماء الخمسة) وقوله: "إتجهت العيون كلها فى هذا الإتجاه. ليجدوا كلب أسود اللون" (والمفروض أن تكون "كلبا" لأنه مفعول به، فضلا عن وضع همزة تحت الألف فى "إتجهت" و"الإتجاه"، وهذا خطأ كما عرفنا، وفضلا عن وضع نقطة بعد كلمة "الإتجاه" رغم أن الجملة لم تتم) وقوله: "ويعامله مثل أى محامى آخر" (وصحتها "محامٍ" لأنه اسم منقوص نكرة مجرور)، وحتى لا يكتب كل همزات الوصل خطأ: بهمزة تحت الألف، ومنها المثال التالى: "وبإنتشار سريع أحاطوا بإحدى المنازل، إندفعت نصف القوة للطابق الثانى وبضربة كتف قوية من أحد المخبرين إنتزع باب الشقة الهش ونجح الإقتحام" حيث كان ينبغى أن يكتب "انتشار، اندفع، انتزع، الاقتحام" بدون همزات أسفل الألفات. ولو راجع قواعد الصرف لعرف أن الألف الأولى فى الأفعال الماضية التى على وزن "اِنْفعَلَ، افْتَعَلَ، اسْتَفْعَلَ" وأفعال الأمر التى على وزن "اِفْعَلْ، اِفْعِلْ، اُفْعُلْ، اِنْفَعِلْ، اِفْتَعِلْ، اِسْتَفْعِلْ" والمصادر التى على وزن "انفعال، افتعال، استفعال" والألف واللام التى تعرف الاسم مثل "الرجل، الصفحة" تكتب بدون همزة لأن همزاتها همزات وصل، وهمزة الوصل لا تكتب أبدا، وكذلك لا تنطق إلا إذا كانت فى أول الكلام. وهناك أسماء أخرى همزاتها همزات وصل، وهى عشرة، لكن الذى يهمنا منها فى عصرنا وبالنسبة لكاتبنا هى "اسم، امرؤ، امرأة، اثنان، اثنتان، ابن، ابنة". أما "اسْت، ايْمُن الله، ابْنُمْ" فلا داعى لها لأنه لا حاجة له بها، إذ هى تنفع الذين يحتكون بالأدب العربى القديم ويدرسونه، لتساعدهم على فهم نصوص ذلك الأدب، والمؤلف ليس محتاجا إلى ذلك. كذلك هناك الحوار، وقد أنطق المؤلف شخصياته أحيانا بالفصحى، وأحيانا أخرى بالعامية. ويا حبذا لو كان جعله كله بالفصحى وأراح واستراح، وبخاصة أنه حين يكتبه بالفصحى يظل محتفظا بالحيوية والواقعية ولا يشعر القارئ أبدا أن فى الأمر أى تكلف.
وبالمناسبة فليس كل ما يكتبه المؤلف خطأ بل فيه صواب كثير، إلا أن نسبة الأغلاط العالية تشوه روايته. كذلك فتركيب الجملة عنده هو فى الغالب تركيب سلس رغم الأخطاء النحوية والصرفية. وهذه نقطة تحتاج إلى تجلية: فهناك كثير من الناس يدك والقبر منهم من ناحية النحو والصرف، لكنهم يضعون الكلمة بجوار الكلمة وضعا صحيحا بلا تقديم أو تأخير أو فصل بينهما بجملة أو عبارة اعتراضية لا داعى لها أو إسقاط ألفاظ أو عبارات يفسد حذفها المعنى ويخل ببناء الكلام. وهناك كتاب لا يخطئون فى النحو والصرف، لكن تركيبهم لكلامهم يتسم بالمعاظلة والتشابك ويفتقر إلى السلاسة. والمؤلف من الطراز الأول. وأذكر بهذه المناسبة ما قاله صنع الله إبراهيم عما نصحه به يوسف إدريس بخصوص ما فى كتاباته من أخطاء لغوية كثيرة، إذ هون منها قائلا له فى لامبالاة: "إنها مسألة تافهة علاجها واحد أزهرى مقابل شلن. على وزن "واحد شاى وصلّحه"! إى والله هكذا كان العبقريان ينظران إلى الأسلوب الذى يكتب به الأديب، وبدلا من الشعور بالخجل والعار لعجزهما عن استعمال لغة سليمة كما ينبغى أن يفعل الأديب كان إدريس يفاخر بأن المسألة يمكن تسويتها بشلن تعطيه لأزهرى يعرف النحو والصرف، فيصوب لك أخطاءك. وبالمناسبة كان إدريس فى بداياته الكتابية يكتب بلغة تشبه الحجارة المدببة، وكلها أخطاء وعبارات اعتراضية ولفلفات وجمل طويلة قبيحة وخلط بين العامى والفصيح عجزا وضعفا، وهو يظن أنه قد أتى بالذئب من ذيله، وإن كان حين كبر قد صار يعهد بما يكتب، فيما أرجح، إلى من يصحح له أخطاءه ويسوى قبح تراكيبه ويجعل جمله مقبولة على قدر الاستطاعة. وأحسب أنه أنفق فى هذا العلاج العسير الشلنات والبرايز والريالات والجنيهات التى فى الدنيا كلها، ولكن ظل أسلوبه رغم ذلك يحمل بصمات الأيدى التى قامت بالتصحيح.
وبالنسبة لموضوع الرواية فالكاتب، فيما يبدو لى، على معرفة جيدة بشؤون المحاكم والمحاماة والترافع أمام القضاء وما إلى ذلك، إذ لم أشعر بأى تصنع أو سطحية فى تناول مثل تلك الشؤون. وتصويره لمرافعة سليم الجلاد أمام القضاة تصوير مقنع. ولا أدرى لماذا يتخذ هذا المحامى فى مخيلتى صورة حسين الشربينى فى خطوطها العامة مضافا إليها براعة عادل إمام فى المحاماة فى فِلْمِه المشهور الذى كان يقدم فيه لنظيم شعراوى المحامى الشهير وريقة صغيرة تحوى نقاطا مركزة تدمر تماما الدعوى المقامة ضد موكله كلها ويخرج المتهم من القضية كالشعرة من العجين، وإن لم يكن سليم الجلاد محاميا من محامى الظل كعادل إمام فى الفلم المذكور بل هو محام ملء هدومه، وله مساعدوه ولا يساعد هو أحدا. لكنى هنا أنتهز الفرصة وأتساءل: هل يجوز، على الأقل: عرفيا، أن يحضر قاضٍ جلسةَ محاكمة لقاض زميله ويترافع فيها أخوه كما حدث فى الرواية حين حضر القاضى أحمد مرافعة أخيه سليم فى إحدى القضايا التى ينظرها أحد معارفه من القضاة؟ مجرد تساؤل يعبر عن استغرابى ليس إلا، وقد يكون استغرابى فى غير موضعه.
وبالمثل فتصوير الرواى للعلاقة بين سليم الجلاد ومساعديه فى المكتب تصوير حى وحيوى ومقنع، وتسوده روح الدعابة حين يكون هناك مكان للدعابة، أو الجد بل الجهامة حين لا يسمح الظرف بشىء من المرح. وهو ممتع فى الحالين، وتشعر وأنت تقرأ أنك فعلا فى مكتب محام، وأن تصرفات سليم وكلامه لا يمكن أن يكونا فى هذا الموقف أو ذاك شيئا آخر سوى هذا. كذلك فرغم أنى أميل بوجه عام إلى التقليل من قيمتى، ربما كما يقول بعض الناس: تأثرا بالإنجليز لمعاشرتى إياهم ست سنوات فى بلادهم، وإن كنت أرجح أن هذا الميل هو فى الأساس ميل إسلامى، فإنى قد أحببت جدا شدة ثقة سليم بنفسه، تلك الثقة التى يراها الآخرون، أو ربما كانت هى فعلا، غرورا. ذلك أن هذا الغرور، لو كان غرورا حقا، ليس غرورا أجوف ولا غرورا أحمق بل غرورا ينهض على الدراسة العميقة المفصلة للقضايا الموكلة إليه وخدمتها خدمة جيدة، وعلم واسع بالقانون وتشعباته وخباياه، أو هكذا يخيل لى، فأنا لست محاميا ولا قاضيا ولا حتى كاتب عرضحالات من الذين كانوا يجلسون أمام المحاكم ويصطادون الريفيين والأميين ليكتبوا لهم طلباتهم القانونية لقاء دريهمات معدودات أيام زمان، أيام كانت ثروة الإنسان تقدر بالقروش والملاليم.
أما ما يأخذه البعض على محامينا من أنه لا يبالى أن يترافع عن المتهمين الفاسدين فجوابه على ذلك أن المتهم برىء حتى تثبت إدانته، وهو إنما يحاول إثبات براءته التى يتصف بها فى نظر القانون قبل أن يثبت العكس، وإلا فلنلغ مهنة المحاماة إذن ما دمنا نصدر الحكم على الشخص بالاتهام قبل ثبوت التهمة. كما أن الرواية لم تقدم لنا سوى قضية واحدة كان المتهم فيها فاسدا حقيقة، وكان سليم نفسه يعرف ذلك، ومع هذا قدم للقاضى وجهة نظره ولم يُخْفِ البتة أن موكله منحرف، لكن ركز على أن وضعه فى السجن لن يحل المشكلة بل سيفاقمها. وقد حصل له فعلا على حكم مخفف كان قد قضاه حتى ذلك الوقت فى الحبس، ومن ثم وجب خروجه. وكان متهما بالشذوذ الجنسى السالب، وأقر سليم فى المرافعة، كما قلنا، بأن موكله فعلا شاذ، لكنه ينوى أن يتوب، لكن الخشية كل الخشية فى أنه إن وضع فى السجن فسنكون قد وضعنا النار بجانب الكبريت، إذ سيصير معرضا فى كل لحظة إلى انتهاك عرضه من قِبَل زملاء الزنزانة، وهو ما يزيد الأمر تعقيدا وفسادا لا إصلاحا.
كذلك من الواضح أن الكاتب ملم جيدا بإجراءات اقتحام الشرطة لبيوت المتهمين والطريقة التى يتعاملون بها معهم والعبارات التى يردون بها على استغرابهم للقبض عليهم والصفعات أو اللكمات التى يَكِيلونها (بفتح ياء المضارعة لا بضمها كما كتبها المؤلف للأسف) لهم إذا ما بدا لهم أن يعترضوا على شىء مما يحدث لهم عندئذ. وهو ما نراه فى أول فصل من فصول الرواية حيث برع الكاتب منذ البداية فى تصوير المواقف وإيراد العبارات الملائمة لكل شخصية على لسانها، فنحس أننا لا نقرأ رواية بل نشاهد الأحداث مشاهدة، ونسمع أقوال المتحدثين سماعا. قال المؤلف: "شقت ثلاث سيارات شرطة سكون ليل منطقة عشوائية بالقاهرة، مرّت بمهارة بين حواريها ثم تمركزت بطريقة مدروسة. تحت المطر نزل الضباط والعساكر، وبإنتشار سريع أحاطوا بإحدى المنازل، إندفعت نصف القوة للطابق الثانى وبضربة كتف قوية من أحد المخبرين إنتزع باب الشقة الهش ونجح الإقتحام.
إنقض أحد الضباط على غرفة النوم حيث يرقد سيد بجوار منال زوجته، التى أطلقت صرخة رعب عالية على أثرها إرتفع صراخ أطفالهما الثلاثة من غرفة النوم المجاورة بعد إقتحامها أيضًا. الوحيد الذى إحتفظ برباطة جأشه هو سيد نفسه، الذى نظر بدهشة وإرتياع للضابط وهو ينتزعه من فراشه قائلا: هو فى إيه يا باشا؟ أنا عملت إيه؟
إنتشر المخبرين والعساكر يقلبوا أثاث الشقة وسط صراخ الأطفال، فصاح سيد، الذى يحاول أن يبدو متماسكًا: إللى بيحصل ده غلط يا بشوات.
أشهر أحد الضباط ورقة فى وجهه قائلا بصرامة بها لمحة تهكم: ده إذن ضبط وإحضار وتفتيش مِن النيابة يا ابنى، يعنى شغلنا قانونى وزى الفل.
أخرج أحد العساكر علبة شكلها غريب مِن أسفل الفراش وأعطاها للضابط الذى فتحها، ليجد بداخلها حبيبات فضية داكنة ذات رائحة غريبة. نظر سيد إلى زوجته مُستفسرًا: إيه العلبة دى يا منال؟
نظرت بدهشة قبل أن ترد بإرتياع: معرفش وربنا يا سيد.
أشار أحد الضباط للمخبرين إشارة خاصة على أثرها بدأوا يدفعوا سيد للخارج، فصاح فيهم بيأس: طيب حد يقوللى: أنا عملت إيه؟
رد الضابط بحدة وهو يدفعه أمامه: مِش عارف عملت إيه يا روح أمك. إنجر قدّامى.
وسط الهمهمات والعويل وإستيقاظ الجيران دفعوا سيد إلى باب المنزل، إقتادوه تحت المطر وهو لا يدرى إن كان مستيقظًا أم أن هذا كابوس مخيف. بالقرب من سيارة الشرطة وقبل أن يركب دبت الدماء فى عروقه وبدأ يقاوم سائلا: طيب فهّمونى أنا عملت إيه يا جدعان؟
إنهارت مقاومته سريعًا مع سيل من الضربات وهو يسمع الرد بصرامة من أحد الضباط:
_ معملتش حاجة. قتلت واحدة بَس يا حيلتها.
وهذا آخر ما قيل، إذ بعدها رفعه المخبرون وألقوه فى السيارة وإندفعوا بعد تنفيذ العملية بنجاح.
على آخر الطريق وبينما كانت مسّاحات السيارات تجاهد لإزالة المياة المتراكمة على زجاجها وسط إضاءة شبه معدومة، إذ فجأة تمر عجوز شمطاء متكئة على عصا أمام أول سيارة.
تمكن العسكرى مِن تفاديها بصعوبة بالغة ثم أخذ يُكيل لها السُباب.
لكنها للعجب لم تغضب، وإنما إبتسمت وهى تقول بغموض:
_ كده برضه تشتم واحدة قد جدتك؟ معلش. الله يسامحك.
بالرغم من خفوت صوتها إلا أن سيد إنتفض فى جلسته صارخًا بأعلى صوته:
_ إلحقينى يا شيخة درة. إلحقينى.
لكنه هدأ سريعًا بعد تلقيه ضربة على رأسه من المخبر الجالس بجواره قبل أن يكملوا طريقهم".
فانظر إلى اليمين الذى أقسمته زوجة سيد عاشور: "وربنا"، وهو من صيغ الأيمان الشعبية، بينما نحن المتعلمين نقول: "والله"، أما "وربنا" هذه فتلائم تمام الملاءمة امرأة مثلها من طبقتها. ومثلها فى ذلك كلمة "يا جدعان"، التى يخاطب بها سيد العساكر والمخبرين الذين حملوه فى البوكس. ومثلها كذلك عبارات "شغلنا قانونى وزى الفل"، "يا روح امك"، "يا حيلتها"، "انجر قدامى"، التى خاطبه بها الضابط المكلف بضبطه وإحضاره. وهناك أيضا الشيخة درة، التى تعمد الكاتب إظهارها فى المشهد منذ اللحظات الأولى من الرواية والتى قدمها على نحو يثير الفضول، إذ من هى تلك العجوز التى ترد على رجال الشرطة بهذه الأريحية ويستنجد بها سيد ولا يستنجد بأى رجل من الجيران؟ لنعرف فيما بعد أنها جنية لا إنسية، وإن كانت تتصرف فى مواقف كثيرة مثلنا وتتحدث طوال الوقت لغتنا. وأنا أقر وأعترف بأن الشيخة درة قد أثارت استغرابى وشوقى منذ أول لحظة بدت فيها داخل إطار الأحداث.
وكان سيد عاشور قد اتهم بأنه هو قاتل إيناس بنت د. حاتم سعيد، إذ كان يعمل طباخا فى بيتهم، وحين اكتُشِف أن الآنسة قد ماتت بسم الزرنيخ وأن اسمه هو آخر اسم جرى على لسانها، وقيل إنه كان يحبها وعندما علم أن شخصا تقدم لخطبتها شعر بغيرة نارية حملته على قتلها انتقاما منها على إهمالها له وقرب ضياعها من يده، ثم تأكد أنه هو القاتل بوجود علبة السم تحت حشية السرير فى غرفة نومه. والحقيقة أن شاهيناز زوجة أبيها هى التى دبرت مقتلها بعدما استعانت بالساحر غيلا لإيذائها حتى مرضت نفسيا وأصيبت بالصرع وصارت تأتى تصرفات غريبة، فتخرج اللحم نيئا من الثلاجة وتأكله كما هو دون غسل أو طبخ، وتشعل النيران فى الأثاث، وصار مَنْ حولها فى البيت وفى الجامعة يقولون إنها "ملبوسة" من أحد الجان، وقد عملت زوجة الأب على أن تُلْبِس سيد عاشور التهمة، إذ اكتشفت الفتاة أن زوجة أبيها تتصل بزوجها السابق ويتباثان الغرام وتواعدا على اللقاء فى منزله لتعويض ما ضاع من عمريهما والتكفير عن الخطإ الذى ارتكباه بالطلاق، وإن لم تذهب مع هذا إليه، فصارت تقرعها وتتطاول عليها وتحقرها أمام صديقاتها وتهددها بأن تخبر أباها بالأمر وتسمعه تسجيل المحادثات الغرامية مع زوجها الأول، ولكن دون أن تفعل ذلك كى تظل تحت رحمتها، فارتعبت المرأة وخشيت أن تفعلها البنت وتبلغ أباها بما اكتشفته ويكون دمار حياتها على يديها، فسارعت بالتخلص منها. ثم نجح سليم الجلاد فى إظهار الحقيقة، وإن كان أيضا قد أنقذ زوجة الأب بحيلة قانونية لأسباب وجيهة عنده، فحُكِم عليها بخمسة عشر عاما تقضيها فى مصح للأمراض العقلية بدلا من المشنقة بوصفها تعانى مرضا عصبيا سببته لها إيناس.
وقد تولى سليم قضية سيد بباعث من درة، التى كانت تعطف على سيد عاشور دون الناس جميعا، إذ تراه الإنسان الطيب الوحيد فى العالم، وكأن العفاريت يمكن أن تعطف على أحد، فضلا عن أن تحب الطيبين، فوعدت سليم أنها متى أخرج سيد من هذه القضية الملفقة الظالمة، وعاونها فى هزيمة الساحر بل الجنى غيلا، الذى كان يقف مع زوجة الأب ضد سيد، فلسوف تساعد هى ابنته فى الإفاقة من غيبوتها التى كانت فيها منذ عام تقريبا. وهو ما وقع فعلا، وإن كانت الرواية قد ساقت الأمر بحيث يحتمل التفسيرين معا: التفسير الذى يرى أن الفتاة شفيت بفضل درة، والتفسير القائل بأن الفضل فى شفائها هو الدواء الجديد الذى أحضرته المستشفى من الخارج خصيصا لها.
هذا، وقد وصف مؤلف الرواية روايته بأنها "رواية رعب". والحق أنها لم ترعبنى البتة، فليس فيها ما يخيف، وإن كان لا مناص من الإقرار، كما قلت آنفا، بأن المؤلف قادر على التشويق، وإن كان فى بعض الأحيان تشويقا رخيصا كالتشويق الذى تثيره الحواديت فى نفوس السامعين. ومع ذلك فإن هذه القدرة كانت تعلن طوال الرواية عن نفسها حتى فى الحكايات البشرية التى لا دخل للجن فيها، فقد استطاع المؤلف أن يشد قراءه إليه ببراعته فى السرد وفى لحم الحكايات المختلفة بعضها ببعض: حكاية بنت الدكتور، التى اتهم سيد بأنه هو قاتلها، وحكاية ناهد أخت زوجة القاضى أحمد أخى سليم بطل الرواية، وحكاية سليم نفسه ومكتبه وموكليه وقضاياه ومرافعاته وزوجته التى ماتت فى ظروف غامضة، وبنته التى بقيت فى المستشفى فى العناية المركزة لا تتحرك أبدا طوال عام، فكأنها ميتة إكلينيكيا، ومع هذا عادت فى النهاية إلى الحياة، وصارت مائة فل وعشرة، وحكاية القاضى وزوجته وابنه وابنته، وحكاية الشيخة درة والساحر غيلا، وكل منهما بلوى مسيحة، وإن كانت درة أقرب إلى قلوبنا وتحظى بتعاطفنا لظرفها ومخالطتها لنا نحن البشر وتصرفاتها التى تشبه تماما تصرفاتنا حتى لتدخن السجائر وتشرب القهوة وتنكت وتناكف مثلنا. وبالمثل كان سليم بارعا فى إجراء الحوارات بين شخصياتها وجعلها ملائمة إلى حد بعيد للمتحدثين كما سبق أن رأينا.
كذلك فإن المؤلف قد جعل شخصيات روايته شديدة التميز، وتتمتع كل منها بالمرونة، وتخضع لعوامل التطور الطبيعية، فنراها فى آخر الرواية غيرها فى أولها: فعلى سبيل المثال فإن سليم الجلاد المحامى، الذى سميت الرواية بلقبه، ويظن القراء من مطالعة اللقب أنه صفة له لا لقب لأسرته، إذ يتصرف فى حياته المهنية على أنه جلاد يضرب خصمه بعنف وينتصر فى قضاياه انتصارا حاسما لا يعرف الرحمة رغم أنه يأخذ القضايا التى يتظاهر كثير من المحامين بتعففهم عن قبولها، سليم الجلاد هذا كانت بينه وبين أخيه القاضى أحمد قطيعة منذ أعوام بسبب تمرده على رغبة أبيه فى أن يكون قاضيا مثله ومثل أخيه الأكبر وتمسكه بأن يكون محاميا، وتحمله لذلك حرمانه من الميراث وأيلولة حقه فى تركة أبيه إلى ذلك الأخ، لكن قبل أن تنتهى الرواية يتم التصالح بين الأخوين بفضل الأخ الأوسط معتز الإعلامى الشهير الذى يتميز بخفة الظل، إذ كان على علاقة طيبة بالاثنين واستطاع التقريب بينهما رويدا رويدا حتى عادت المياه بين الاثنين إلى مجاريها وانتهى الأمر بإعادة القاضى للمحامى حقه فى الميراث عن طيب خاطر. كما أن سليم فى نهاية الرواية تبدو عليه علائم الإرهاق جراء تقدمه فى السن وصار يهمل مظهره قليلا على عكس ما كان عليه اهتمامه قبل هذا. والقاضى ينفصل عن زوجته، التى اكتشف أنها تتردد على السحرة تستعين بسحرهم على الإضرار بابنة أخيه سليم انتقاما لما تقول إن سليم قد فعله مع أختها إذ عشَّمها بالزواج لكنه تخلى عن وعده لها مما جعلها تكتئب وتتردد على السحرة لعلها تستعيده لكن عبثا، وانتهى الأمر بها إلى الانتحار، فلم تنس أختها زوجة القاضى له ذلك مع أن الخطأ هو خطؤها هى وأختها فى الأصل، إذ لم يبد سليم رغبة حقيقية فى الزواج من ناهد أختها، بل هى التى كانت تأمل فى ذلك وتلجأ إلى حيل النساء لجذب انتباهه وإيقاعه فى غرامها. وهناك سيد، الذى تبدأ الرواية بمشهد القبض عليه والعثور تحت حشية سريره على علبة سم الزرنيخ واعتبار النيابة أنه الأداة التى قتل بها بنت الدكتور حاتم سعيد، الذى كان يعمل عنده طباخا، فسيد هذا تنتهى الرواية بحصول سليم الجلاد له على البراءة بعد ماراثون قانونى فى دنيا العفاريت والبشر مرهق أشد الإرهاق. ولدينا أيضا الشيخة درة، التى ظننا فى البداية أنها شيخة من قارئات الودع وما أشبه ثم عرفنا تدريجيا أنها من "اللى ما يتسمُّوش"، لكن دمها خفيف وتدخن السجائر وبنت نكتة ومدمنة قهوة وتحب سيد لأنه الوحيد الشخص الطيب الوحيد بين البشر فى نظرها وتدخل فى صراع حياة أو موت مع غيلا، إن كان العفاريت والجن يموتون مع أن الرواية تقول أو يفهم منها أنهم لا يموتون بدليل أنهما احترقا وحطما الأستوديو على الهواء وتبخرا فى الجو حين استضافهما معتز فى برنامجه على أنهما من المعالجين الروحانيين البشر، ثم يتضح بعد ذلك أنهما لا يزالان حيين يرزقان ويرزآن، إن كان الجن يرزأ مثلنا نحن البشر خيبة الأمل التى تركب الجمل. ثم عندنا بنت سليم، التى ظلت ميتة إكلينيكيا أو شيئا شبيها بهذا لمدة سنة، ثم شفيت وقامت من سرير المرض أو من سرير الموت بعافية وصحة وشرعت تزاول الحياة من جديد... إلخ.
ومعروف أن المجتمع المصرى يؤمن إيمانا شديدا راسخا بالعفاريت وتأثير الجن على البشر وظهورهم لهم وتلبسهم بهم، ويقيم كثير منا حياته على هذا الأساس. وما أكثر ما أسمع عن الأعمال السفلية التى أفسدت حياة هذا الشخص أو ذلك على نحو جازم حاسم يقينى لا يقبل شكا ولا نقضا ولا إبراما. وغالبا ما يحكى الشخص صاحب الشأن الأمر بنفسه، ولا يمكن زحزحته عما يؤمن به. وعبثا تحاول أن تفهمه أن ما يحكيه لا يمكن أن يكون صحيحا. كذلك معروف ما كانت بعض قيادات الدولة فى مصر تمارسه قبل هزيمة يونيه 1967 من تحضير للأرواح. ولا شك أننا جميعا قد سمعنا على الأقل بحفلات الزار، التى تقام لمن يعتقد أو يعتقد أهله، وهو فى الغالب امرأة، أنه ملبوس، أى يركبه جنى، ويريد أهله أن يخلصوه من ذلك الجنى. والعجيب أننى قرأت فى السيرة الذاتية لمقدمة برامج غنائية ألمانية كانت مشهورة على مستوى القارة الأوربية كلها أسلمت وتزوجت مغربيا ثم طلقت منه أنها كانت تحب غشيان حفلات الزار فى مصر، وإن كانت تنظر إليها على أنها ممارسة للتطهير الروحى أو ما إلى ذلك. وكانت هذه الفتاة الجميلة على علاقة تلمذة روحية ببعض المستشرقين المسلمين كأبى بكر سراج الدين (مارتن لنجز) البريطانى، الذى كان يدرِّس الأدب الإنجليزى فى أربعينات القرن الماضى بآداب القاهرة وكتب سيرة النبى صلى الله عليه وسلم بالإنجليزية، والذى شكك بعض المصريين فى دينه وأشاروا إلى أنه لم يختتن. صحيح أن الغربيين ينتجون أفلاما غرائبية مثل روايتنا هذه، لكنهم إنما يفعلون ذلك كنوع من التغيير لإذهاب الملل جراء محاصرة العلم الصارم لهم من كل اتجاه، فهم يريدون التفلفص قليلا بعيدا عن العقل. كما أنهم، عند بحثهم مثل تلك الموضوعات، يعملون على إخضاعها للتجارب العلمية حتى يكون كلامهم منضبطا بقدر الإمكان. أما نحن فلا نريد تشغيل المخ ولا مراجعة الخرافات العفنة التى سكنت عقولنا لقرون بل نحرص عليها ونستزيد منها ونبغض كل من أراد تطهير جماجمنا منها، وشغلنا كله بزرميط.
وقد خطر لى أن من الممكن تصنيف الرواية على أنها من روايات الواقعية السحرية. بيد أن الرد فى البداية سرعان ما جاء بأن المؤلف لم يضمن روايته حكايات الجان لتلطيف الواقع الجامد، بل أراد أن يناقش قضية وجودهم من عدمه بين اتجاهين فى الرواية: اتجاه موافق واتجاه مخالف. فأما الاتجاه الأول فمنه معتز أخو بطل الرواية المحامى سليم الجلاد وزوجة أخيه القاضى أحمد الجلاد، وأما الاتجاه المخالف فيمثله بكل قوةٍ المحامى سليم الجلاد ذو العقل الصارم الذى لا يؤمن إلا بالوقائع الصلبة ويفسر كل ما خرج عن الواقع تفسير عقلانيا لا يقبل فى ذلك مراجعة، وإن كان قد نزل على رأى الخالة درة فى نهاية الرواية على الاستعانة بالجن فى شفاء ابنته التى كانت فى غيبوبة بالعناية المركزة بأحد المستشفيات منذ عام كما وضحنا، وكان منطقه أنه قد لجأ إلى الأطباء، ففشلوا فى علاجها، فما المانع من الاستعانة بالجن ما دمنا لن نخسر شيئا، وقد (وقد) نكسب؟
لكن مناقشة القضية على النحو الذى طرحتها به الرواية تدعو إلى الاستغراب، فالجن، حسبما تصورهم المخيلة الشعبية، إنما يظهرون ليلا وفى الأماكن الخربة أو البعيدة عن العمران أو حين يروح الناس من الحقول وتجد العفاريت والجن بالليل الفرصة للانطلاق على راحتهم، وحينئذ يا ويل من يسوقه قضاؤه إلى مقابلة أحد منهم. تكون أمه قد دعت عليه! كما أن الجن يعادى البشر ولا يحاول مساعدته أبدا على عكس ما صنعت درة، التى اتضح فى أواخر الرواية أنها جنية، إذ كانت تساعد الطباخ سيد عاشور على النجاة من حبل المشنقة، ولم نسمع أن جنيا قد فكر فى مصلحة أحد من عباد الله أولاد آدم وحواء بتاتا، بل كل الجن يعمل ما فى وسعه لإيذائنا وإيقاع الضرر البالغ بنا. ثم ماذا يظن القارئ الكريم فى الدافع الذى جعلها تفكر فى إنقاذ سيد؟ الدافع هو أنه رجل طيب، بل هو الرجل الطيب الوحيد فى العالم كله. وهذه أول وآخر مرة نرى جنية تفكر فى إنقاذ رجل طيب، والمفروض أن كره الجن لابن آدم وحقدهم عليه بتناسب طرديا مع طيبته وطهارته. ودعنا من دعوى أن سيد الطباخ هو الإنسان الطيب الوحيد فى الدنيا. وهذا أمر مضحك. وأشد إضحاكا منه أن يكون هذا حكم جنية. كذلك إذا ما كانت، وهى الجنية، تريد إنقاذ سيد فلماذا لجأت إلى سليم المحامى؟ ترى متى كان الجن يحتاجون إلى المحامين، وهى كجنية، بمقدروها أن تدخل السجن وتخرج سيد منه دون أى عناء؟ بل كان بمقدورها أن تخلصه من رجال الشرطة حين ألقوا القبض عليه وحملوه فى البوكس إلى القسم ومروا بها عند خروجهم من الحارة التى يسكنها المتهم وشتموها ظنا منهم أنها تعرض نفسها للخطر بعبورها الشارع أمام السيارة، واكتفت هى بالابتسام والقول بأنه لا يصح أن يشتم السائق امرأة فى سن أمه؟ ودعنا من طيبة قلبها وجنوحها إلى المسالمة رغم الإهانة التى تلقتها على عكس طبيعة الجن.
بل لقد كان بمقدورها كجنية أن تخبر سيد مقدما بأن الشرطة سوف تداهمه فى بيته كى يتخلص من أداة الاتهام التى وجدوها تحت حشية السرير. بل لقد كان بمقدورها أن تمنع المتسلل من اقتحام شقة سيد ووضعه علبة الزرنيخ السام تحت الحشية أو تتركه يضعها ثم تأخذها وتتخلص منها بطريقتها. وأغرب منه أن يستعين الجن بالبشر، وطول عمرنا ونحن نسمع أن البشر هم الذين يستعينون بالجن. فالرواية، كما ترى، قد قلبت الأمر رأسا على عقب. ولقد رأينا درة تدخل المنازل والمكاتب المغلقة دون أن تعوقها أبواب أو أقفال، فكيف كانت عاجزة عن فعل ذلك فى حالة سيد سواء قبل السجن أو بعده؟ وأيضا من المضحك أن درة الجنية مدمنة على القهوة وتدخن السجائر. والحمد لله أنها لم تكن من مغرمى الحشيش والأفيون والكوكايين والهيروين، وإلا ما خلصنا فى يومنا. ثم هناك مظهرها البائس: ملابسَ وملامحَ وشيخوخةً. ترى لماذا تركت نفسها بهذا المنظر ولم تظهر فى صورة أفضل ولم تسكن أيضا فى قصر كمنافسها غيلا، وإن لم أفهم سبب العداوة والتنافس بين جنيين مثلهما؟ وأدهى من ذلك كله أن درة قد وقعت فى قبضة الشرطة وقبض عليها وقدمت للمحاكمة، وترافع عنها سليم الجلاد وحصل لها على البراءة! ألطم وأشق هدومى؟
وأغرب من ذلك أن تقول إن الجنى غيلا هو الذى يعوقها عن مساعدة المحامى سليم الجلاد فى شفاء ابنته، وإنها تستطيع التخلص من زميلها الجنى لو قدر سليم على أن يخرجه من قصره الذى يتحصن فيه بحرسه. وهل الجن يحتاج إلى حرس يحميه من زملائه الجن؟ ثم ألا يستطيع الحرس أن يرافقه خارج القصر ويحميه من أية مؤامرة تدبرها له درة؟ ألا تمكن حمايته إلا وهو متحصن بالقصر؟ ولكن هل يسكن الجن القصور مثل البشر وبين البشر ويعرف الناس جميعا أن فلانا الجنى يعيش فى هذا القصر ويقصدونه للاستعانة به فى إنزال الضر والشر بمن يريدون الإضرار به؟ إن المستعينين بالجن، حسب المخيلة الشعبية، إنما يستدعونهم ولا يذهبون إليهم، كما أن الجن لا يسكن فى مبان يتخذها لنفسه وحرسه بل يعيش فى الخرائب والأماكن المظلمة البعيدة عن العمران كالحقول والغابات والجبانات مثلا، ومتى استدعاهم الساحر استجاب له.
وقبل ذلك كله فإن الجن لا يظهر للبشر، إذ قال القرآن الكريم عن إبليس وقومه، والجن هم قومه: "إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم". فالمسلم إذن لا يمكنه أن ينكر الجن، ولكنه يعرف فى نفس الوقت أن الجن لا يظهر للعيان. وهذا أقصى ما يمكن عقيدة المسلم أن تصل إليه. والرسول نفسه عليه السلام لم ير الجن، بل الذى أخبره بوجودهم وبسماعهم له وهو يقرأ القرآن وبإيمانهم بالإسلام وتوليهم إلى قومه يدعونهم للدخول فى الدين الجديد هو الله سبحانه وتعالى: "قل: أُوحِىَ إلىَّ أنه استمع نفرٌ من الجن فقالوا: إنا سمعنا قرآنا عجبا * يَهْدِى إلى الرُّشْد فآمنّا به، ولن نشرك بربنا أحدا"، "وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن، فلما حضروه قالوا: أنصِتوا. فلما قُضِىَ ولَّوْا إلى قومهم منذرين * قالوا: يا قومنا، أجبيوا داعِىَ الله وآمِنوا به.". فإذا كان القرآن يقول إن إبليس وقبيله لا يظهرون للبشر، وكان الرسول ذاته لم يرهم بل أتاه خبرهم من القرآن، فماذا ينبغى أن يعتقد المسلم فيهم؟ إذن فالرواية، فى هذه النقطة، قد صنعت قضية من لاقضية. وأظن المؤلف قد تأثر بالفيلم المصرى: "الإنس والجن"، الذى ناقش هذا الموضوع وتغيَّا إثبات وجود الجن من خلال بعض الحوادث الغريبة التى لا يمكن تعليلها بأنها من صنع البشر. وعلى سبيل الاستطراد فقد قرأت أن هناك نية لتحويل روايتنا هذه إلى فلم هى أيضا.
ومع هذا فإنى أعلن استلطافى للجنية درية ونفورى من زميلها فى الكار غيلا، وذلك لأكثر من سبب: فجَرْس اسمه على اللسان ووقعه على السمع غير مريح، والاسم كله غريب عنا، وأغرب من ذلك أن يسكن غيلا بين الناس ولا يجد الناسُ فى اسمه شذوذا. وثانيا لأن درة امرأة ديمقراطية شعبية، فهى تسكن الحارة لا القصر، وتختلط بالناس ولا تلوذ بنفسها بعيدا عنهم كما يفعل غيلا، وتعطف على سيد المسكين، وظلها خفيف، وتدخن السجائر فتذكرنى بالعجوز التى كنت أراها قبل كورونا فى طريقى على قدمى إلى الجامعة ومنها آخر النهار إلى البيت، والتى كنت أشترى لها بعض الشطائر من المخبر الملاصق قبالة مترو منشية الصدر، لكنها كانت تفضل اللفائف، ولا تكف طول الوقت عن شتم الأولاد والكبار من جيرانها بصوتها المتحشرج الظريف كصوت عبد المنعم مدبولى فى أغنيته السخيفة: "طيب يا صبر طيب"، وهم يضحكون ولا يبالون. كما أن درة مدمنة قهوة وتشربها بمزاج، وقد صرت فى السنوات الأخيرة أحرص على شرب القهوة فى كوب مزخرف كبير (مَجْ) خاص بى يأتينى به حمزاوى فى القسم بالكلية، وأشربها مسكَّرة لا إدمانا بل متلذذا كما أحتسى أى مشروب عطرى، وغايتى تنشيط مخى حين آتى إلى العمل ولم أنم بما فيه الكفاية.
فأنا أحب درة لهذا كله، وإن كانت هى مدمنة للقهوة خلافا لى، وتدخن، وأنا لا أدخن ولا أحب التدخين. لكن لا مانع من حبها، فهى جنية، ويجوز للجن ما لا يجوز للبشر، وبخاصة أن الجن مخلوقون من نار، فالسجائر المشتعلة لن تؤذيهم فى شىء ولن تضر رئاتهم بل تزيدهم صحة وجبروتا على صحة وجبروت. ثم لاخوف على الجن على أية حال، فلم نسمع أن جنيا مرض، اللهم إلا الجنى الذى قيل لى فى القرية على سبيل النكتة إنه كان يجلس فى ليالى الشتاء الباردة المظلمة كالكحل قبل دخول الكهربا على مصطبة هناك فى مكان مقطوع تصطك ركب من تسوقه أقداره للمرور بالمكان، فما بالك حين يسمع الصبى المسكين صوت عفريت عجوز جالس فى الظلام فى البرد والوحل لا يستطيع الحركة ولا النهوض لكبر سنه وضعف بنيانه يطلب منه أن يرفق به فيمد يده ويعاونه على القيام حتى يستطيع أن يخيفه ويقول له: "بِخْ!"؟ كذلك كانت درة حين تجلس تضع، وهى العجوز الفقيرة، ساقا على ساق محققة المثل الشعبى: عريان الـ...، ويحب التقميز! وأنا أحب هذا الصنف المتعنطز من الفقراء.
والفضل فى ذلك كله يرجع إلى المؤلف، فهو الذى خلقها وشكَّلها على هذا النحو وأجرى على لسانها الأحاديث الشائقة وجعلها بنت نكتة حتى إنها لتلعب بسليم المحامى لعبا وتسخر منه وتتهكم عليه فيسكت مع أن لسانه كالسوط لا يصمد أحد له. فتصوير شخصية درة، رغم كل ما قلته عن عدم توفيق المؤلف فى إقحامه موضوع الجن فى الرواية، هو من الجوانب الإيجابية فيها. وقد أمتعتنى كثيرا، ولكن بعيدا عن أنها جنية كما قلت. ولو قابلتُها عند مترو منشية الصدر لأعطيتها من المال ما تستطيع أن تشترى به بعض الملابس الجديدة اللائقة وطرحة معتبرة تغطى بها شعرها الأشيب. والمهم ألا تأخذ الفلوس وتشترى بدلا من ذلك بعض خراطيش السجائر الأجنبية الغالية لزوم الفشخرة، أليست جنية؟ فأكون قد حرمت نفسى وزوجتى وأولادى من هذه الفلوس، وأخذتها هى وأحرقتها فى التدخين. منك لله يا درة أنت والمؤلف فى يوم واحد. لقد أربكتمانى أيما إرباك. اللهم تب علىَّ من مهنة الناقد هذه التى لا يأتى من ورائها إلا وجع الدماغ سواء من الجن أو من البشر، وهم لا يقلون إن لم يزيدوا سوءا وشرا عن الجن والشياطين.
وهذا شىء من حواراتها مع سليم المحامى يرينا شخصيتها وظرفها وحسها الفكاهى وثقتها فى قدراتها العفاريتية. وسوف أتبع كل خطإ إملائى أو لغوى بتصويبه بين قوسين ما عدا همزات الصلة التى يثبتها المؤلف خطأً: "إرتفع رنين هاتفه فجأة، فإنتفض بعنف، مد يده المرتعشة وإلتقطه، نظر فيه ليجد الشاشة بيضاء بالكامل، بلا أى أسماء أو أرقام، تردد لحظات ثم رد بحذر: ألو.
أتاه صوت الشيخة درة وهى تقول بمرح: إزيّك يا واد يا سليم؟
صاح بلهفة: إنتى فين يا درة، وسايبانى فى المصيبة دى لوحدى؟
أطلقت ضحكة متقطعة: عيب يا واد تنادينى بإسمى حاف كده. ده أنا قد جدتك.
كظم غيظه بصعوبة وهو يكرر سؤاله: ماشى. إنتى فين يا شيخة درة. حلو كده؟
ردت ببساطة: أنا عندك فى المكتب، وبقالى ساعة فى البوفية مِشْ لاقية غير البن بتاع الموظفين. فين البن بتاعك يا واد يا سليم؟
نظر فى ساعته فوجدها الواحدة بعد منتصف الليل، والمكتب يُغْلَق فى العاشرة مساءًا (مساءً)، كيف تكون هناك إذن؟ أيقظه مِنْ تساؤلاته صوتها وهى تصيح بخشونة: فين البن؟
رد سؤالها بسؤال: مين إللى عندك فى المكتب؟
أجابته ببساطة: مفيش حد خالص، وبلاش أسئلة غبية.
ثم إستدركت صائحة بلهجة آمرة: يالله بقى تعالى بسرعة. بس الأول: فين البن يا واد؟
أجابها ببطئ (ببطء): البن بتاعى فى درج مكتبى. بَسّ الدرج مقفول بالمفتاح.
أطلقت ضحكة عالية أرهبته كثيرًا وهى تقول: طب بسرعة قبل ما القهوة تبرد.
حاول أن يبدو شجاعًا وهو يجيبها: بشربها مظبوط.
إستمرت فى الضحك حتى أنهت المكالمة.
* * *
وضع سليم سيارته بجوار المكتب، إقترب بخطوات صارمة مِن المدخل، وجد فرد الأمن فى موقعه بجوار البوابة، سأله بحسم: فى حد طلع مكتبى؟
إرتبك الرجل قليلا قبل أن يجيب: مِشْ فاهم قصد حضرتك إيه يا أستاذ سليم. بس مِن ساعة ما الأستاذ شوقى نزل، ومفيش حد دخل العمارة أصلا.
هز سليم رأسه ثم إتجه للمصعد متمتمًا: الألغاز تزداد، وحان وقت حسمها. طالما الشيخة درة موجودة فى المكتب فلن تغادره قبل فك شفرة كل شىء. الليلة أضع يدى على الحقائق كاملة. الليلة وليس غدًا.
فتح باب المكتب وإتجه لغرفته، دخل وسط إضاءة خافتة فوجدها جالسة على مقعده، وأمامها قدحين (قدحان) مِن القهوة يتصاعد منهما البخار. بهدوء جلس أمامها، وعلى شفتيه إبتسامة متحفزة قبل أن يقول بتهكم: دايمًا بتبهرينى والله يا درة. إيه جو الإثارة ده؟
تجاهلت تهكمه قائلة: إشرب قهوتك يا سليم قبل ما تبرد.
أشعل سيجارة وهو يقول بإستخفاف: بصراحة قلقان من القهوة دى.
إستعارت تهكمه قائلة: يا راجل، إشرب.أكيد هتبقى أحسن من إللى شربتها عند دكتور حاتم.
همّ بسؤالها: كيف عرفت بأمر القهوة فى عيادة الدكتور حاتم؟ لكنه إستبعد السؤال قائلا: آه والله يا درة. دى كانت قهوة زبالة مكملتهاش.
ردت بلامبالاة: ما إللى عمل لك القهوة عارف إنك مِشْ هتكملها. أصل كفاية شفطة واحدة.
سرح لحظات قبل أن يغمغم: يبقى أكيد كان عليها حاجة للهلوسة. عشان كده شفت تهيؤات و...
قاطعته بصرامة: مكنش عليها حاجة للهلوسة، وإللى شفته عند حاتم كان حقيقى، وكويّس إنك مشيت بسرعة.
مد يده وتناول القهوة آخذًا منها رشفة بسيطة، ثم قال متهكمًا: حلوة. تسلم إيدِك.
ردت تهكمه ساخرة: تسلم إيد إللى عملها.
لم يرد عليها، أخذ يدخن سيجارته صامتًا، ثم نظر فى عينيها، تأمّل لمعتها الغريبة وهيأتها الأغرب قبل أن يسألها بصرامة: إنتِ دخلتِ مكتبى إزّاى؟
ردت بهدوء: عندك كاميرات مراقبة فى المدخل وعند باب مكتبك. روح شوفها.
ضحك قائلا: أكيد هلاقيها عطلانة. مِشْ كده؟
هزت رأسها إيجابًا ببطئ (ببطء)، فإستمر بضحكه وهو يقول: قديمة! عندى مُوَكّل عملها وقتل مراته. يعنى مفيش سحر فى الموضوع ولا حاجة.
إنتظرت حتى هدأ مِنْ نوبة الضحك ثم قالت بهدوء: عارف يا سليم مشكلتك إيه؟ إنك مِش مصدّق إن فى سحر وناس واصلة، بإيديها تعمل كتير، مع إنك شفت بعينك كذا مرة، وبالدليل.
رد بسخرية: دليل إيه؟ أنا مِش لاقى أى أدلة. كله كلام، وكلام فارغ كمان.
ثم إعتدل مستطردَا: ممكن تثبتيلى بطريقة عملية إن فى سحر وناس واصلة والهرى ده.
أجابته متهكمة: ده أكبر دليل قاعد قدّامك بنفسه.
تصنّع الخوف وهو يرد ساخرًا: تصدقى إترعبت، خُفْت خُفْت يعنى.
ثم اطفأ سيجارته بعصبية وهو يستطرد صائحًا: إثبتى لى بالدليل يا درة. ده لو تعرفى.
هبّت واقفة بطريقة لا تتناسب أبدًا مع سنها ثم دارت حول المكتب وجلست أمامه، نظرت فى عينيه فشعر ببعض الخوف ثم قالت: تريد دليل يا سليم؟ إذن عليك الإستماع إلى حديثى للنهاية قبل الرد عليه.
هز رأسه موافقًا بتحدى (بتحدٍّ) وهو يقول: ماشى.
مدت يدها وإلتقطت فنجان القهوة برشاقة قبل أن تعتدل واضعةً ساقًا فوق أخرى. أن تُصدّق بالسحر مِن عدمه فهذه مشكلتك مع أنه مذكور فى القرآن، وهذا لا يثير العجب. الكثير مِن الناس رأوا الأنبياء بأعينهم وسمعوهم بآذانهم، ومع ذلك كانوا مِن الكافرين.
قاطعها بضجر: سيبك مِن الكلام ده يا درة. ده سِكَّة، وإللى إحنا بنتكلم فيه سِكَّة تانية خالص.
ردت بصوت كالفحيح: إوعى تقاطعنى تانى لأحسن أزعل منك.
شعر بالمزيد مِنَ التوتر فأشار لها أن تُكْمِل. أخذت رشفة أخيرة مِن قهوتها ثم نظرت إليه بعيون بها بريق عجيب: أى أدلة دامغة تريد؟ أمامك عجوز تفيد الأدلة الدامغة أنها مذبوحة منذ عامين، وها هى جالسة أمامك تضع ساقًا فوق ساق.
ثم إبتسمت بسخرية مستطردة: هل بعد ما عانت منه إيناس بنت دكتور حاتم وإنقاذى لها دليل؟ ألم أحذرهم مِنْ خطر وشيك، ولكن بجهلهم لم يسمعون (لم يسمعوا)؟
ونظرت فى عينيه بصرامة وهى تكمل. ألم ترى (ألم ترَ) بنفسك دكتور حاتم أو رأيت مَنْ عليه؟ وللعلم أنا التى أنقذتك منه بعد أن كبحتُ جماحه، ولو تركتُه لآذاك. وإن رفضت الإعتراف بما هو واضح وصريح بماذا تفسر حالة إبنتك الوحيدة الراقدة منذ عام بين الحياة والموت؟ ألم يفشل العلم والبرهان والأدلة الدامغة فى شفائها أو حتى مجرد تفسير لحالتها؟ ولتكن على عِلم: سيظلوا (سيظلون) فاشلين.
وإعتدلت فى جلستها وهى تنظر فى عينيه نظرة شعر معها كأنها تسبُر أغواره وتغوص فيها قائلة: أتتذكر والدة بيرى؟ أتتذكر كيف ماتت؟ ألم تنتبه بعد إلى شىء؟ ماذا تريد أكثر مِن ذلك لتعترف بأن معتقداتك ومفاهيمك خطأ، وما آمنتَ به طوال عمرك يحتاج إلى تعديل؟
أنهت حديثها ثم إبتسمت بثقة وهى تنحنى برشاقة لا تتناسب أبدًا مع هيئتها أو الخشونة المفترضة فى مفاصلها وإلتقطت سيجارة وعلقتها فى شفتيها الزرقاوين. عقد سليم حاجباه (حاجبيه) لحظات ثم سألها بهدوء: خلصت كلامك؟
هزت رأسها إيجابًا قائلة: مع إن عندى أدلة تانية كتير. بس كفاية إللى معاك.
نظر فى عينيها بقوة وهو يشعل سيجارته قائلا: طبعًا حق الرد مكفول. مِشْ كده؟
هزت رأسها إيجابًا بثقة وهى تلوك سيجارتها. كعادته أخذ ينفث دخانه للحظات وهو يجمع أفكاره، ثم إبتسم بسخرية قائلا: فى البداية يجب توضيح أن كل حديثك ما هو إلا هرّاء (هُرَاء) ليس أكثر.
إرتسم الغضب على ملامحها، لكنه لم يأبه به مُستطردًا: أنتى تقارنى (تقارنين) بين كفرى بالسحر والجن وكأنه كفر بالأنبياء، وكأنك أحدهم، وكأنى مِن مشركى الجاهلية.
قاطعته بحسم: لأ. أنا مقولتش كده يا سليم.
رد بنديّة: ماتسيبينى أكمّل كلامى بقى يا درة.
نظرت له بتحفز وهى تشير له أن يُكْمِل. أطفأ سيجارته بقوة وإسترسل: تدّعين أن وجودك أمامى الآن هو خير دليل على أنك مِن الواصلين الذين يموتون ثم يعودوا (يعودون) للحياة مرة أخرى. ولو كان هذا صحيح (صحيحا) أو هناك مَنْ يهبه الله هذه الميزة لكان مَنْ هم أفضل مِنْكِ يعيشون بيننا الآن.
وإبتسم بثقة مُكْمِلا: إنما فى الواقع الشيخة درة لم تمت أصلا. مَنْ قُتِلَتْ هى سيدة أخرى كانت نائمة فى فراشها. نادية التى كان سيد يزورها على الأرجح. فى الغالب كانت مكانك. أتى القاتل، لا أدرى سبب مجيئه، على الأرجح هو أحد أعدائك، دخل عشتك وذبح نادية على إنها (أنها) أنتِ ثم إنصرف، بعدها أتيتِ فوجدتِها مقتولة، سكبتِ عليها ماء النار لتشويه الجثة وإيهام الجميع أن الشيخة درة قد ماتت للتخلص مِن مطاردة أشخاص غير معلومين.
رفعت درة يدها تطلب المقاطعة، فإبتسم سليم قائلا: مع إن المُقاطعة ممنوع بَسْ إتفضلى.
ضحكت بسخرية قبل أن تقول: أطالب بإثبات فى محضر الجلسة أنك إستخدمت كثيرًا كلمات مثل "على الارجح"، "فى الغالب"، "قاتل لا تدرى سبب مجيئه"، ثم عدت لإستخدام كلمة "على الأرجح" مرة أخرى، فى النهاية قُلْتَ: "أشخاص غير معلومين"، وكل هذا إن دل على شىء فهو يدل أن القصة كلها مِنْ وحى خيالك ولا يوجد عليها أى أدلة دامغة.
ثم منحته إبتسامة ساخرة وهى تشير له أن يُكْمِل. شعر سليم ببعض الضيق، فقد تخيّل عندما يفاجئها بإستنتاجه طريقة موتها المزعومة أن تنهار وتعترف لا أن تتعامل معه بإحترافية كهذه. والإحترافية تقتضى ألا يناقش ما يعجز عن إثباته بالضرورة، لذا تخطى هذه الجزئية. عقد حاجبيه بتركيز قبل أن يستطرد: تفترضين أن إيناس أصابها مَسّ شيطانى وأنكِ قمتِ بعلاجها. ما الدليل على هذا اللغو الذى لم يترك أثر (أثرًا) سِوَى بعض النيران الخفيفة قبل أن تختفى، وقد يكون سيد هو مَنْ أطفاها وقام بتهريبك مُستغلا إنشغال حاتم بإبنته؟
لم تلتزم درة بعدم المقاطعة إذ قالت بحدة: وإيناس خفّت إزّاى مِن مرضها يا عبقرى؟
رد بصرامة: أعتقد لأنها كانت تعانى مرض نفسى (مرضا نفسيا)، وإنتِ (وأنتِ) لكِ القدرة على علاج هذه النوعية مِنَ الأمراض لأنك على درجة ما مِن العلم بدليل نجاحك هذا.
إبتسمت بتهكم وهى تقول: "أعتقد"، "بدليل". مِشْ ملاحظ إنك بتستخدم المصطلحات دى كتير؟
أطل الضيق واضحًا مِن عينيه وهو يكمل: أما بخصوص ما رأيته فى عيادة الدكتور حاتم والتحولات التى حدثت لوجهه فأنا واثق مِن أن القهوة التى شربتها هناك هى السبب، وكل ما شاهدته كان مجرد تهيؤات.
إستمرت فى عدم إلتزامها للمقاطعة وهى تصيح: طيب. وأنا عرفت إزاى إنك شربت قهوة هناك؟ وإزاى عرفت إنك شُفْت إللى راكب حاتم؟
رد بإرتباك: أكيد لِكِ حد فى العيادة بينقل لك أخباره.
أطلقت ضحكة مرعبة ثم قالت: لا يا شيخ. والنبى إنت مصدّق إللى بتقوله ده؟
ثم إبتسمت بسخرية مستطردة: كمّل يا سليم.
حاول أن يُكْمِل، لكنه شعر بالعجز، والعجز شعور نادرًا ما راوده. ظل صامتًا فترة قبل أن يقول بقلة حيلة: يا درة، إزاى أصدّق بالسحر والجن والكلام الفاضى ده؟ لو الحاجات دى حقيقة كان زمان حالنا غير كده خالص، كان زماننا أسياد العالم طالما عندنا سحرة شاطرين زيّك كده.
ردت بثقة: كنا أسياد العالم لما كنا شاطرين فى السحر. هو إنتَ فاكر الاهرامات دى إتبنت إزاى؟ ولا حضارة الفراعنة دى أساسها إيه؟
رد بإستنكار: إيه؟ كل ده بالسحر؟
أطلقت ضحكة عالية قائلة: طبعًا بالسحر. لو كان العلم يقدر كانوا عرفوا فن التحنيط ولا بنينا هرمين تلاتة زى إللى عندنا.
ثم إستطردت بحسرة: الله يرحم أيام ما كنا بنسخر الجن يعمل لنا مسلات.
ثم إعتدلت فى جلستها وأشعلت سيجارتها أخيرًا وهى تقول: إسمع يا سليم، وإنتبه لمضمون الكلام جيدًا.
ونفثت دخانها فى وجهه مُستطردة: كما بدأت كلامى سأنهيه. تؤمن بالسحر أو لا تؤمن فهذا شأنك الذى لن يغيّر مِن الأمر شىء (شيئًا)، والأمر هو أن إبنتك ملبوسة، ومَنْ عليها جنى عتيد، وأنا أحاول تحجيمه. لو تركته لحاله فستلحق إبنتك بأمها، وبنفس الطريقة.
عقد سليم حاجبيه وهو يقول بصوت به مزيج مِنَ الغضب والأسى: إنتِ ليه بتفكرينى كل شوية بأمها؟ هى مروة الله يرحمها إيه علاقتها بالموضوع؟
هبّت واقفة وهى تقول بثقة: لأن الأصل واحد، والعمل دسّاس.
ثم أولته ظهرها وهى تسير ببطئ (ببطء). لقد حذرتُهم مِن قبل أن مَنْ يقوى على إيذاء إيناس بهذه الطريقة لن يعجز فى أن يحاول مرة بعد مرة.
وصلت لباب الغرفة وهى تقول بصوت كالفحيح: والآن أتى دورك لأحذرك. إبنتك ستنال مصير أمها لو رفعتُ يدى عنها، ومصير إبنتك مِن مصير سيد. ولتعلم: أنا مَن أحميك.
ثم إلتفتت نصف إلتفاته، فبالكاد رأى وجهها تحت الإضاءة الخافتة فشهق بقوة، فقد كان وجهها مُغَطًّى بشعر كثيف، فمها مسحوب تظهر منه سنون لأنياب بارزة وعيون حمراء قانية. كانت بوجه شديد الشبه بوجه الكلب الذى كان رابضًا فوق سيارته منذ أيام. ثم سمع صوتها الساخر دون أن يتحرّك فَكُّها وهى تقول: هو إحنا أتقابلنا قبل كده؟".
على أنى لا أحب، من هذه الزاوية التى قلنا إنها إحدى وجهتى النظر فى موضوع الرواية، مغادرة هذا الموضوع قبل أن أعلق على ما قالته الجنية درة، وأتصور أنها أفكار المؤلف قد وضعها على لسانها. ذلك أن تفسير بناء الأهرام والمسلات على أنها عمل من أعمال السحر لا يشرفنا فى شىء ويهبط بقيمتها تماما لأن السحر لا يبنى حضارة ولا يصنع دولة قوية ولا يحل مشاكلها ولا يرفع مستوى معيشة المواطنين ولا يحميهم فى الحروب ولا يرقى عقولهم فى شىء. وحتى لو كانت الأهرام والمسلات والمعابد ثمرة أعمال السحر فقد تفوق العلم على كل هذا تفوقا عظيما بإبداعاته فى العصر الحديث فى جميع المجالات مما لا تبلغه الأهرام والمسلات فى قليل أو كثير. ثم ها نحن أولاء أحفاد السحرة الذين بنوا بسحرهم الأهرام والمعابد، ومع هذا فنحن متخلفون فى جميع الميادين، وليست لنا أية مشاركة فى مسيرة الحضارة سوى الاستهلاك الغبى ليس إلا. وشىء آخر، وهو: ما دامت درة تتمتع بكل هذه القدرات العفاريتية الجنية العظيمة وتستطيع أن تصنع ما صنعته وما تقول إنها يمكن أن تصنعه فلماذا لم تسارع بإنقاذ سيد من السجن وشفاء ابنة سليم النائمة بالعناية المركزة فى أحد المستشفيات والتى يدفع لها شيئا وشويات دون كل هذا اللف والدوران المسبب للصداع ووجع الدماغ؟
لكن تعجبنى مع ذلك ثقافة درة، فهى تناقش بالمنطق وتستخدم المصطلحات التى لا تعرفها شبيهاتها فى دنيا البشر، وتدخل مع المحامى فى سجال عقلى يدل على أنها جنية مخربشة بحق وحقيق ومتلطمة وبنت إبليس أبا عن جد. حابس حابس! اللهم اجعل كلامنا خفيفا على الأسياد. والكلام الذى يقوله كل منهما مفصل على قدر الحاجة بلا زيادة أو نقصان. كما جعل المؤلف الشيخة درة بنت نكتة مؤصلة على نحو مذهل، وهو ما زادنى حبا لها. لكنى لم أكن أحب للمؤلف أن يهريق موهبته على موضوع الجن والعمل على إثبات وجوده وتأثيره على حياة البشر ومصائرهم وخطورة السحر. ذلك أن عقلية شعوبنا، بحمد الله، عقلية هليهلى، وليس ينقصها مزيد من الإيمان بهذه الخرافات، فلدينا خرافات تكفى الدنيا وتتبقى منها بقية للمستقبل أيضا، وتستطيع أن تجعلها دنيا متخلفة فى ظرف ثوان، وهو الوقت الذى تشرب فيه الدنيا الكوز المعتبر الذى جهزناه لها لتتجرعه وتكون متخلفة مثلنا، لكن المشكلة أن الناس الآخرين لا يشاطروننا الاعتقاد المتخلف فى تأثير السحر والأعمال الجنية على عالم البشر.
على أَنْ ليست درة هى الشخصية الوحيدة التى برع فى رسمها المؤلف بل ظهرت براعته فى رسم معظم الشخصيات: فعندنا سليم المحامى المعتز بنفسه وبعقله والمتمرد على ما كان أبوه يريده له من مهنة، إذ فضل المحاماة على القضاء وتحمل كل توابع اختياره، ومنها حرمانه من الميراث، والناجح فى ميدان عمله نجاحا منقطع النظير جعل زملاءه يكرهونه ويتمنون له الفشل، وهو ما لم يحدث قط. وقد صوره المؤلف قويا متماسكا واثقا بنفسه موفقا أشد التوفيق فى إدارة مكتبه والتعامل مع مساعديه، ومنهم محمود ابن أخيه أحمد، الذى تمرد على مهنة القاضى هو أيضا وفضل أن يكون محاميا مع عمه. وكان المؤلف موفقا فى رسم علاقته بعمه داخل المكتب وفى المحكمة أو خارجهما: فهو بالخارج ابن أخيه، ومن حقه أن يأخذ راحته فى الحديث معه ويداعبه ويضحك دون حرج، أما فى شؤون العمل فيا ويله لو نسى نفسه واستباح شيئا من الدعابة مع عمه ولو بكلمة عارضة. على أن المؤلف رغم ذلك لم ينس أن يصور لنا سليم مرهقا فى بعض مواضع الرواية مهملا مظهره لكثرة أعبائه فى العمل وفى حياته الخاصة، وجعله يقر أن حكم الزمن عليه لا يمكن تجاهله. وكانت هذه لفتة جيدة من المؤلف حتى لا يتحول محامينا إلى سوبر مان لا يضعف ولا يغلط ولا يحزن ولا ينسى نفسه، مما يتنافى ومتطلبات الواقعية. وبالمناسبة فسليم هو محور الرواية، إذ هو موجود فى كل الحكايات التى يشتمل عليها العمل، ويمثل أهم شخصية فيه بوصفه محامى المتهم فى كل حكاية منها. ولو حذف سليم من الرواية لانهارت فى الحال على رؤوس شخصياتها، إذ لن يعود ثم رابط يربط بعضها إلى بعض.
وأود، قبل أن أتحول إلى نقطة أخرى، أن أستشهد ببعض ما جاء فى الرواية عن تفوقه فى المحاماة وقدرته على نسف أى ادعاء موجه إلى موكله. لقد كان يترافع عن أستاذ جامعى اسمه عز قتل امرأته حين تحقق أنها تخونه وشاهدها فعلا فى الفراش مع صديقه وشريكه فى المؤسسة التى يمتلكانها مع صديق ثالث، ورتب أموره بحيث يشهد له بعض من يعرفهم أنه كان بعيدا عن موقع القتل. لكن تصادف أن رأى الواقعة رجل جار لذلك الصديق كان يجلس فى شرفة شقته. وفى يوم المرافعة جرى الحوار التالى بين سليم والمتهم، واسمه حازم، والقاضى:
"قام حازم وإتجه بخطوات واثقة ناحية المنصة، تفحصه سليم بنظرة عابرة، وبعد أن ألقى القسَمْ، سدد سليم أول أسئلته: أستاذ حازم، حضرتك مدير فى شركة أمن. مظبوط؟
أجابه بصرامة: مظبوط.
مسك سليم دفتر أوراق وقلم (وقلمًا) وهو يسأله بإحترام: ممكن حضرتك تقول لنا إيه إللى حصل؟
رد بثقة: ليلة الحادثة كنت فى البلكونة بشرب سيجارة، الشقة إللى قصادى ساكن فيها الأستاذ على الله يرحمه، وكانت معاه واحدة سِت.
ثم أشار على الدكتور عز وهو يستطرد: شوية كده ودخل الأستاذ ده.
وأشار على عماد مكملا: ومعاه الأستاذ التانى.
ثم نظر إلى سليم وهو يقول: الاستاذ الأولانى طلّع مسدس وضرب الأستاذ على بالنار هو والسِتّ إللى كانت معاه.
أشار وكيل النيابة للقاضى فأذِنَ له: مرفق مع سيادتك فى أوراق القضية صورة مِن معاينة النيابة التى تبيّن أن الشاهد يستطيع رؤية مسرح الأحداث مِن موقعه بوضوح، كما مُرفق لسيادتكم تقرير طبى يفيد أن الشاهد يتمتع بحاسة نظر جيدة.
شعر سليم بإنقباضة فى قلبه وطاف بخياله الشيخة درة وهى تحذره مما يحدث الآن لدرجة أنه تلفت فى القاعة باحثًا عنها، لكنه لم يجدها وإنما وجد شقيقه أحمد جالسًا فى آخر القاعة يتابع القضية بترقب. منحه إبتسامة فاترة ثم إلتفت للقاضى قائلا: أشكر للنيابة مقاطعتها، ولكن ليس هذا محور أسئلتى، وإنما أنا بصدد الإستفسار عن شىء آخر.
أذِن له القاضى بأن يكمل إستجوابه. إلتفت سليم نحو حازم سائلا بإحترام: أستاذ حازم، إنت عايش لوحدك؟
هز رأسه إيجابًا وهو يقول: أيوة. أنا ومراتى منفصلين والولاد عايشين معاها.
إبتسم له بود قبل أن يسأل: طب ممكن حضرتك تقوللى: هو الأستاذ على كان يعرف سِتات كتير، ولا المجنى عليها كانت السِت الوحيدة فى حياته؟
ضحك حازم وهو يجيب: لا بصراحة الأستاذ على، الله يرحمه، كان خاربها.
تعالى صوت الضحكات فى القاعة، مما جعل القاضى يُعِيد الهدوء. إستأنف سليم بإبتسامة:
_ طيّب هو الأستاذ على كان بيقابل السِتَّات فى مواعيد معيّنة ولا فى أى وقت؟
رد حازم بتلقائيّة: هو غالبًا كان بيجيبهم بالليل. مِن بعد الساعة تسعة كده.
هب وكيل النيابة قائلا بقليل مِنَ الحدة: سيدى القاضى، مِنَ الواضح أن أسئلة الدفاع بعيدة كل البعد عن صلب القضية.
رفع سليم يده مُعترضًا: سيدى الرئيس، النيابة لا تدع لى فرصة سؤال شاهد الإثبات الوحيد، رغم أن إجاباته سيتوقف عليها حُكم عدالتكم.
هز القاضى رأسه موافقًا وهو يقول: إعتراض مقبول.
إمتعض وكيل النيابة وهو يجلس محتقن الوجه، نظر سليم إلى حازم، وقبل أن يتحدث وجد حازم يتحدث بثقة: يا أستاذ، حضرتك بتسأل فى إيه؟ أنا شفت الراجل إللى فى القفص بعينى وهو بيقتل الأستاذ على والسِتّ إللى معاه. وأنا يعنى هشهد زور ليه؟
رد سليم بصوت به نبرة إعتذار وإحترام واضحة: حاشا لله أن أقول على سيادتك: شاهد زور. أنا بس عايز أعرف إيه إللى حصل قبل ما المتهم يوصل ويقتلهم.
نظر له حازم مستفسرًا: يعنى إيه؟ مِش فاهم؟
أجابه سليم بود: يعنى المجنى عليها كانت لابسة إيه؟ رقصت له مثلا ولا دخلوا فى الموضوع على طول؟ شربوا كاسين؟ ولّعوا سيجارتين؟ إيه إللى حصل يا أستاذ حازم؟
عقد حازم حاجبيه متذكرًا ثم قال: الاستاذ على دخل أوضة النوم الأول. بعد كده هى حصّلته، تقريبًا كانت فى الحمّام. أصل هى لما دخلت كانت لابسة قميص نوم.
دوّن سليم كلمات فى أوراقه وهو يسأله: قميص نوم لونه إيه؟
ضحك حازم وهو يجيب: أحمر وقصير. وفيه ريش.
ضجت القاعة بالضحك، أعاد القاضى الهدوء وهو ينظر لسليم بضيق سائلا:
_ إيه لازمة الكلام ده يا أستاذ سليم؟
إبتسم بغموض وهو يجيبه: إتحملنى معاليك. خلاص. قرّبت أخلّص.
ثم نظر لحازم سائلا بإهتمام: المجنى عليها رقصت له يا أستاذ حازم؟
أجاب بثقة: لأ. بس هى قبل كده رقصت له.
ضحك سليم وهو يسأله بود: يعنى هى أول ما وصلت دخلوا فى الموضوع على طول؟
أجاب ضاحكًا: أيوة. أصل الأستاذ على، الله يرحمه، كان سُخْن قوى ليلتها؟
إبتسم سليم بثقة قائلا: الله يرحمه. طب معلش آخر سؤال: حضرتك ممكن تقوللى: هم المتهمين وصلوا على طول ولا المجنى عليهم قضوا وقت فى السرير الأول؟
رد حازم على الفور: على طول. يادوب السِتّ وصلت بعدها بثوانى دخل المتهمين وصفّوهم.
تجاوب معه سليم قائلا بأسى: يا عينى! السِت ملحقتش تقلع قميص النوم أبو ريش.
رد حازم بأسف: أيوة.
لمعت عينا سليم، وهو يشير للقاضى: لقد إنتهيت مِن إستجواب الشاهد، معاليك، وجاهز للمرافعة.
نظر له القاضى نظرة طويلة ثم قال: ترفع الجلسة وتعود للإنعقاد بعد ساعة لسماع مرافعة الدفاع.
مال سليم على حازم مصافحًا وهو يهمس فى أذنه: متزعلش منى.
أجابه حازم بود: على إيه؟ إنت معملتش حاجة.
إبتسم سليم وهو يقول: لأ. متزعلش من إللى هعمله.
ثم تركه وإنصرف. بهدوء مرّ بجوار أحمد، وبإبتسامة قال: ما تيجى نشرب قهوة.
قام أحمد معه دون أن يرد، وفى ركن منزوى (منزوٍ) ببوفيه المحكمة جلس سليم بجوار أحمد، الذى بدأ الحديث بإقتضاب غاضب: بتدافع عن واحد إنت متأكد إنه قاتل؟ هو ده إللى إتفقنا عليه؟
أشعل سليم سيجارته وهو يقول: إنت بتتكلم مِن زاوية القاضى مع إن فى زاوية تانية خالص.
نظر أحمد فى عينيه وهو يقول بجدية: طبعًا. زاوية الجلاد.
إبتسم سليم وهو ينفث دخان سيجارته: طب ممكن تسمع وجهة نظر الجلاد لو سمحت.
وعلى غير عادته سحب أحمد سيجارة من علبة سليم وأشعلها قائلا: إتفضل.
سرح سليم لحظات ثم أطفأ سيجارته وهو يقول: أنت تحكم دائمًا بعقلية القاضى بغض النظر عن العدل ذاته كقيمة. نعم هذا الرجل قَتَل، لكن مَنْ قتل؟ ولماذا؟ قتل زوجته، التى تخونه مع صديق عمره. بالله عليك أليس هذان الإثنان يستحقان القتل؟ هل الزوج المغدور يستحق العقاب؟ هل يجب أصلا أن نطلق عليه لقب "قاتل"؟ لكن بالقانون فهو قتل عن سبق إصرار وترصد، فقد شكّ فى زوجته وأرسل مَنْ يراقبها. تتبع خطواتها، ثم إنتظر حتى دخلت منزل عشيقها وإنقض عليهم وقتلهم. مِن وجهة نظرك كقاضى (كقاضٍ) فهو مذنب، وكان ينبغى أن يطلّقها أو يرفع عليها دعوى زنا، أما مِن وجهة نظرى كجلاد فيجب إعطاء هذا الرجل الذكى جائزة الدولة التشجيعية على تصرّفه النبيل. الإختلاف بيننا سيدى القاضى ليس فى المبدأ، فكلانا يبحث عن العدل: أنت تريده مُثْبَت (مثبتًا) بالأدلة والبراهين على الورق كقاضى (كقاضٍ)، فى حين أنى أريد العدل بأى وسيلة كجلاد.
* * *
عادت المحكمة للإنعقاد، أذِنَ القاضى لسليم أن يُلْقى مرافعته، بهدوء تقدم سليم مِن المنصة، ثم ألقى نظرة بإتجاه أحمد الجالس فى آخر القاعة، وبثقة تحدث: سيدى القاضى، نحن أمام قضية غريبة، أمام رجل قُتِلَ فى فراشه وبجواره زوجة خائنة. إذن مِن الطبيعى أن زوجها المغدور هو القاتل حتى وإن تواجد مع أشخاص آخرين فى نفس توقيت الجريمة، حتى وإن لم يره أحد مِن الجيران أو البواب أو إلتقطته كاميرات المراقبة.
صمت لحظة ثم إستأنف بهدوء: لكن موكلى صار موضع إتهام بُناء (بِناءً) على رؤية شاهد إثبات له وهو يُنَفِّذ جريمته. هذا يجعلنا نُلْقِى الضوء على الشاهد الوحيد فى القضية والتى أثبتت النيابة أن مِن شرفته يستطيع رؤية الجريمة بوضوح كما أثبتت أنه قوى البصر. لكن ماذا عن البصيرة؟
عقد القاضى حاجبيه وهو يسأله بإهتمام: وإيه دخل البصيرة فى القضية يا أستاذ سليم؟
إبتسم سليم وهو يجيبه: سيدى القاضى، ببساطة نحن لدينا شاهد إثبات وحيد فى القضية، رجل يعيش بمفرده فى منزله، وكل هوايته فى الحياة أن يتابع النشاط الجنسى لرجل آخر، يعرف مواعيده الغرامية مع عشيقاته، يعرف عددهم، يتلذذ برؤيته لهن فى الفراش. بالله عليك هل شخص كهذا يمكننا الإعتداد بشهادته؟
إحتقن وجه حازم بشدة، وسليم يسترسل بلا مبالاة: رجل لازال فى كامل قوته البدنية كما نرى. ألا يمكنه أن ينصحه أو ينتقده أو يحاول تقليده بدل الفُرْجة عليه؟
رفع درجة صوته قليلا وهو يُكمل: أى شخص سَوِىّ فى مكانه كان ليفعل أى شىء إلا متابعته. لماذا لم يطلب منه إغلاق نافذته؟ أو لماذا لم يتزوّج طالما إستبدت به الأمور هكذا؟
ثم أشار على حازم دون أن ينظر إليه: نحن أمام رجل مريض نفسى يتحتم علاجه. ومع ذلك أعلم أن مرضه هذا لا يُعتبر دليل (دليلا) على براءة موكلى. إنما البراءة سأنتزعها مِنْ شهادته نفسها.
وإقترب خطوة مِن القاضى وهو يكمل بثقة: سيدى الرئيس، لقد صرّح شاهد الإثبات أن المجنى عليها كانت ترتدى قميص نوم أحمر.
ثم إبتسم بسخرية مستطردًا: وفيه ريش أيضًا. هكذا قال.
هز القاضى رأسه موافقًا وهو يسأل: وإيه المشكلة فى ده يا أستاذ سليم؟
نظر سليم للقاضى ثم رفع درجة صوته وهو يقول: المشكلة، يا سيدى، أن الشاهد قال أن (إن) المجنى عليها دخلت الغرفة بقميص النوم ثم إستلقت بجوار المجنى عليه ولم تخلع قميصها. كما قال: لحظات، ودخل موكلى ومعه صديقه وأطلق عليهما النار. ألم يقل هذا؟
رد القاضى بحذر: أيوة قال كده.
إبتسم سليم بمكر وهو يستطرد: مرفق مع سيادتك فى أوراق القضية تقرير الطب الشرعى الذى يوضح أن المجنى عليه تلقى ثلاث رصاصات فى منطقة الصدر والبطن وهو عارى (عارٍ) تمامًا، كما ان (أن) المجنى عليها تلقت خمس رصاصات فى منطقة الرقبة والصدر وأسفل البطن وهى عارية تمامًا بدون أى ملابس. وهذا لا يتطابق مع شهادة الأستاذ حازم بأن المجنى عليها كانت فى الفراش مُرتدية قميص نوم لم تخلعه، وأوضح الشاهد أن القميص كان لونه أحمر قصير وبه ريش. إذن شاهد الإثبات لم يرَ شيئًا، وشهادته كلها مِن وحى خيال رجل مريض مهووس بمتابعة الأفلام الجنسية والمقاطع الساخنة.
وتوقف سليم لحظة يلتقط أنفاسه ثم أكمل بقوة: سيدى القاضى، أنا أشكك بوضوح فى شهادة شاهد الإثبات بدليل تضاربها مع تقرير الطب الشرعى المُرفق مع أوراق القضية.
وبثقة إستطرد بطريقة مَنْ ينهى المرافعة: سيدى القاضى، نحن أمام قضية المتهم فيها أثبت بالدليل تواجده بعيدًا عن مسرح الأحداث، ولم يره أحد بالقرب مِن موقع الجريمة، ولا دليل عليه سِوى شهادة رجل يجب وضعه تحت الإشراف الطبى.
إرتفعت الهمهمات فى القاعة، فطرق القاضى بمطرقته عدة طرقات ليعود الهدوء. بعد لحظات صاح القاضى بصوت وقور: تؤجل القضية لجلسة عشرين فبراير للنطق بالحكم. رُفِعَت الجلسة".
وبالمثل كذلك كانت علاقة سليم بأخيه الأكبر القاضى لا تجرى على وتيرة واحدة. لقد ظلت العلاقة بينهما متوترة ولا يطيق أى منهما الآخر، إلى أن فكر معتز أخوهما الأوسط، الإعلامى الشهير والفكه الطبع، أن يحاول التقريب بينهما وإزالة الجفوة التى استحكمت مع السنين وحرص كل منهما على الابتعاد عن الآخر، ونجح فى إذابة كتل الجليد التى كانت تنتصب عالية وسميكة بينهما. وقد حدث هذا لا دفعة واحدة مما يتنافى والواقع بل على درجات، ومع تصلب كل من الطرفين فى موقفه فى البداية ثم ليونته قليلا قليلا حتى عادت المياه إلى مجاريها لدرجة أن القاضى قد رد للمحامى نصيبه فى التركة كاملا. وكانت هناك أيضا زوجة القاضى، التى كانت تكره سليم كراهية من نار لأنه لم يتزوج أختها رغم ما بذلته هى والأخت من محاولات لجر رجله نحوها وبدا فى البداية أنهما نجحتا فى ذلك، لكن انتهى كل شىء بالفشل وانتحرت الأخت، فحمَّلت زوجة القاضى أخاه سليم التبعة فى ذلك.
وهنا ظهرت براعة الكاتب، فقد صور العلاقة الحساسة بين زوجة الأخ الأكبر وبين أخيه والنفور الذى يفصل فى كثير من الأحيان بين الزوجة وأهل زوجها تصويرا فوق الجيد. كما وفق فى تصوير تلك الزوجة من ناحية ما يسمى بـ"اللون المحلى" حين جعلها تؤمن بالأعمال وترش الماء هنا وهناك فى أرجاء الشقة، وكلما سألها زوجها عما تفعل قالت إنه ماء للبركة. ومعنى "اللون المحلى" هو ما يميز بيئة عن بيئة، وبيئتنا والحمد لله تؤمن بالسحر والأعمال السفلية إيمانا راسخا جازما قاطعا لا يتزعزع ولا يتلجلج ولا يهتز قيد شعرة حتى لو انطبقت السماء على الأرض بل حتى لو نزلت الملائكة من الأعالى تعلن بصوت جهورى تسمعه الخلائق كلها بما فيهم الإنس والجن أن ذلك كله خرافات متخلفة لا تصح ولا تليق، بل سوف يردون بكل قواهم كما يرد علىَّ طلابى بكل يقين: "لكن السحر مذكور فى القرآن"، وهو ما جاء أيضا على لسان بعض الشخصيات فى الرواية، وكأن القرآن تحول، من كتاب هداية وحضارة وتعديل لمسار التاريخ المنحرف إلى كتاب من كتب السحر والأعمال السفلية والتواصل مع الجن للاستعانة بهم فى هذه الأعمال، مع أن القرآن لم يذكر السحر فى آياته إلا ليؤكد أنه باطل وفاسد ولا يمكن أن يكون له أى تأثير حقيقى، وأن الله لا يصلح عمل السحرة، وأن أعمالهم ليست سوى تخاييل وخفة يد لا أكثر ولا أقل، وأن الجن لا يعلمون الغيب ولا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا، فما بالنا بالنسبة لغيرهم؟ بل إن الرسول ذاته صلى الله عليه وسلم لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا ولا يعلم الغيب حسبما جاء فى القرآن. ليس هذا فحسب بل حذر الرسول تحذيرا شديدا مخيفا من إتيان السحرة: "مَن أتى عَرّافًا فَسَأَلَهُ عن شىء لَمْ تُقْبَلْ له صَلاةٌ أرْبَعِينَ لَيْلَةً"، "مَن أتى عرّافًا أو ساحِرًا أو كاهِنًا يؤمِنُ بما يقولُ فقد كفَر بما أُنزِل على محمدٍ ﷺ".
فهذه سيدة راقية وزوجة قاض كبير من أسرة قضاة ومحامين، لكنها تؤمن بما تؤمن به أية امرأة عامية لم تذهب إلى المدرسة ولم تنشأ فى أسرة راقية. ذلك أن هذا هو أحد ألواننا المحلية مثلما أننا جميعا، الأغنياء والفقراء، والمتعلمين والجهلاء، نأكل الفول والطعمية ونحشو بهما بطوننا قبل الذهاب إلى العمل كى يساعدانا على النوم جيدا فوق المكتب فلا نؤدى شيئا فى المصلحة التى نشتغل فيها ونعود آخر النهار مثلما ذهبنا أول النهار بدون أى إنجاز وممتلئين رضا عن أنفسنا وفرحة بها أننا لم ننجز شيئا فى يومنا المهبب. فشكرا للكاتب أن أتاح لى أن أضحك مع القراء على هذا النحو جراء براعته فى رسم الشخصيات وإبراز ألوانها المحلية.
إلا أننى أستغرب كيف تم دفن أخت زوجة القاضى المنتحرة على أنها ماتت ميتة طبيعية رغم أنها ألقت بنفسها من النافذة أمام الناس جميعا، ومع هذا لم يفكر أحد فى تبليغ الشرطة. ولسوف أنقل الآن جانبا من الحوار الذى دار بين القاضى وزوجته حول هذا الموضوع وبعض الموضوعات الأخرى التى كانت بمثابة القشة قاصمة ظهر البعير، وأضع تصويب الأخطاء بين قوسين ما عدا همزات الوصل المكتوبة، وإلا لم أنته: "جلست سلمى تشاهد أحد (إحدى) حلقات مسلسل تركى وهى تحاول أن تبدو هادئة فى حين بداخلها عواصف عاتية. علاقتها بأحمد فى أدنى مستوياتها منذ زواجهما. صامت دائمًا رغم تخطيها ما حدث يوم الحفل وقبولها مُرغمة أن يعمل محمود (ابنهما) فى مكتب سليم، فقد إستعانت بأحمد لإقناع إبنه بالعدول عن هذا القرار، لكنه أبعد نفسه عن الموضوع وتركها تواجه محمود بمفردها، وهو يعلم أن صدامها به لن يكون فى صالحها، وهى أيضًا تعلم ذلك، لذا قررت إعلان حالة الإكتئاب فى المنزل ربما يتراجعوا (يتراجعون). وحتى هذا لم يجد صدى. ظل محمود يعاملها كأفضل ما يكون متمسكًا بحقه فى إتخاذ ما يراه مناسبًا لمستقبله، وظل أحمد على الحياد إلى أن قررت التراجع وإنهاء حالة الحزن التى بدأتها بنفسها. هذه المرة فوجئت بأن أحمد لم يستجب. داخله سر يرفض البوح به. قامت متجهة لغرفة محمود لتجده نائمًا فى فراشه، فقد أصبح أكثر إلتزامًا منذ إلتحق بالعمل. سليم لا يرحم، ويعامله مثل أى محامى (محامٍ) آخر فى مكتبه بلا أى إمتيازات، وهذا يجبره أن ينام مبكرًا لأن عنده محكمة فى الصباح، أما ندى (ابنتهما) فهى تذاكر فى غرفتها.
إقتربت بهدوء مِن غرفة المكتب، وأخذت تراقب أحمد المنكب على أوراق أمامه بإهتمام: مشغول؟ ألقت سؤالها بهدوء به لمحة ود. نظر إليها ونحى الأوراق من يده قائلا: إتفضلى.
جلست أمامه وهى تفكر فى بداية للحديث ثم قالت بإبتسامة: الطبيعى إن الراجل هو إللى يروح للسِت ويسألها: مالِك؟ وهى ترد بقرف وتقوله: مفيش.
وصمتت لحظة ثم أكملت بضحكة: ويقعد يتحايل عليها، وهى تتقل عليه.
فجأة بترت ضحكتها مستطردة: بس أنا عارفة إن عمرك ما هتعمل كده.
أخيرًا تحدث بهدوء: زى ما أنا عارف إنك مِشْ هتتكلمى غير لما تبقى عايزة.
نظرت فى عينيه وهى تحاول إستنتاج ما يدور فى رأسه. حتمًا هو يُخْفِى شيئًا، لذا قررت إنهاء لعبة القط والفأر فقالت بإبتسامة متوجسة: طيب يا سيدى، تعالى نعكس الأدوار. مالَك؟
ثبت لحظات ثم بهدوء أخرج ورقة مِن درج مكتبه وأعطاها لها دون أن ينطق بحرف واحد. نظرت فى الورقة فوجدتها مِن البنك وتفيد بسحب مبلغ مائة ألف جنيه مِنْ رصيده. نظرت له بإرتباك وهى تقول: إيه ده يا أحمد؟ إنت بتفتش ورايا؟
رد بصرامته المعتادة: إنتى فاهمة كويّس إنى لا بحاسبك ولا الفلوس دى تفرق معايا. أنا إللى يفرق إنك تسحبيها بالتوكيل إللى معاكى مِن غير ما تقوليلى.
حاولت التهرّب قائلة: يعنى رُحْت البنك وعملت.
قاطعها بنفس الصرامة: لأ. البنك إللى بيبعت لى بيان مسحوبات بصورة دورية.
ثم نظر فى عينيها بغضب مستطردًا: ومِشْ ده موضوعنا.
بالرغم مِنْ ثقتها بمقصده لكنها (تحذف "لكنها") حاولت كسب وقت للتفكير بأن سألت: طب إيه موضوعنا؟
لم يمنحها الوقت الكافى، فقد سألها بحدة: عملتى إيه بالفلوس دى؟
كانت تعلم أن هذا سؤال مباشر، ولا يمكنها أبدًا التهرّب منه، لذا أجابت ببرود: ماما كانت عاوزة فلوس، ومقدرتش أقول لها: لأ.
أخذ يعبث بقلم فى يده ثم سأل ببرود: ولا أنا أقدر أقول لحماتى: لأ. طب مقولتليش ليه؟
شعرت أنها فى مأزق حقيقى، ولا مفر مِن الهجوم، فصاحت فى وجهه: فى إيه يا أحمد؟ هو تحقيق ولا إيه؟ إيه يعنى لما ماما طلبت فلوس وأنا عطتها؟ ولا هى يعنى عشان فلوسك؟
صمتت لحظات ثم إسترسلت بصورة أكثر حدة: كنت بحسب إننا واحد مِش إتنين، وبالذات بعد كل السِّنين دى. بس يا خسارة.
إمتص حدتها ببرود وهو يقول بلهجة ذات مغزى: إنتى فاهمة كويّس إن الموضوع مِشْ فلوس، إنما المشكلة إن أنا إللى مِشْ فاهم حاجات كتير يا سلمى.
هبت واقفة وهى تقول كمّن (كَمَنْ) ينهى الحديث: بكرة الصبح هروح ألغى التوكيل، وأنا آسفة عشان قرّبت مِن فلوسك.
هز رأسه موافقًا وهو يقول بهدوء: كويس، يبقى نروح سوا الشهر العقارى. ما أنا كمان رايح بكرة أرجّع لسليم حقه فى ميراث أبوه.
ثم أردف بلهجة غامضة: ما هو مِشْ معقول معملش حاجة فى مرض بنته، وكمان آخد حقه فى الميراث.
ردت بغضب: براحتك.
ثم تركته وإنصرفت. جلس وحيدًا يفكر: حاجز الجليد بيننا يزداد سُمْكًا مع الأيام. فى السابق أوهمت نفسى بعدم رؤيته، الآن صار واضحًا حتى بالنسبة لمحمود وندى. صبرتُ كثيرًا على أشياء غير مفهومة حتى مللت الصبر: غموضها، نفورها مِنْ كل ما يخص عائلتى كلها. ليس سليم فقط. لماذا أشتمّ أحيانًا روائح غريبة، وعندما أسألها تقول: بخور مغربى؟ لماذا ترش بإستمرار ماء فى زوايا المنزل وتدّعى أنه ماء مبارك؟ أى بركة فى هذا؟ كل هذه الأفعال لا تصدر إلا من سيدة لها باع فى الميتافيزيقا. وطالما هى كذلك لماذا إذن أحجمتْ عن مساعدة سليم حتى وإن كرهتْه لماضيه القديم؟ كان يجب عليها مساعدته مِن أجلى على الأقل. وإن لم تستطع فكان يتحتم إرشادى لأول الطريق لا أن تضع أمامى سد النهاية. وهى تؤكد أن حالة بيرى ميئوس منها، وموتها مسألة شهور على الأكثر. مِن أين لها بتلك الثقة؟ وما هذه السلبية؟ من الوارد أن هذه السلبية كانت القشة التى قصمت ظهر البعير، أو ربما نَفرُ البعير.
* * *
فتح أحمد باب شقته وهو يجر قدميه، أتته ندى بخطوات سريعة وعانقته: بابى. حبيبى.
عانقها بحنان وهو يقول: حبيبة بابى. عاملة إيه فى المذاكرة يا دكتورة؟
داعبته قائلة: والله مِن كتر ما بتقولوا: "يا دكتورة" بدأت أصدق نفسى وأكشف على الناس.
منحها قبلة على جبينها وهو يسألها: ماما رجعت ولا لسه؟
أجابته وهى تحمل حقيبته: أيوة رجعت مِن ساعة، وبتتكلم مع تيتة فى التليفون.
هز رأسه وتركها تضع حقيبته على المكتب، فى حين إتجه هو إلى غرفته وأغلق الباب، أخذ يتجوّل بعينيه فى جوانبها حتى لمح ما توقع وجوده. إتجه بهدوء إلى زاوية الغرفة وأزاح طرف الستائر، إنحنى مُلامسًا بإصبعه جزء مُبلل (جزءًا مبللًا) مِن الأرضية، ثم إبتسم بغموض وهو يعود ليجلس على طرف فراشه: إذن الماء المبارك التى كانت تحكى عنه ما هو إلا ماء مسحور. وإن فتشتُ جيدًا تحت الفراش أو فى خزانة الملابس لا أستبعد وجود حجاب أو عَمَلْ (عملٍ) أو ما شابه مِن أفعال الجهلة.
ألقى بظهره على الفراش مُتأملا سقف الغرفة مُحدِّثًا نفسه بحسرة: الآن عليك دفع ضريبة صمتك. كثرة الصمت على نفس الخطأ ما هو إلا نوع مِن أنواع التواطؤ، والتواطؤ يعنى أنك شريك فى الجريمة، الجريمة التى أرجح بدايتها منذ سنوات.
شرع يفك رابطة عنقه عندما شعر بالهواء يدخل صدره بصعوبة، ثم إستأنف مناجاته لنفسه: قبل سنوات أتت لى سلمى، وأنا مُضطجع فى هذا الفراش، وهى تطلب منى مباركة زيجة على وشك الحدوث بين هدير أختها وسليم أخى، وعندما رأت الدهشة بازغة على وجهى بدأت سرد الحكاية من وجهة نظر الراوى بالطبع. قالت وعلى شفتيها إبتسامة ثقة لا أدرى مِن أين أتتها إن سليم منذ شهور يلهث خلف هدير أختها. بالرغم مِن عدم واقعية هذه العبارة إلا أنى تغاضيت عنها على مضض. مَن يتحدثون عنه هو أخى وأنا أعلم جيدًا أنه لم يلهث طوال حياته خلف أحد. إن كان لم يلهث خلف أبيه لما شعر ظلمه أيلهث خلف أختها؟ علاوة على أنى أستبعد إستحواذ هدير على إهتمام سليم، ليس لأنها غير جميلة، ففى الواقع هى كانت فاتنة، لكن بها العديد مِن النقاط التى لن تمر أبدًا على عقلية سليم المرتَّبة. هى أكبر منه بعدة سنوات، نمطيّة جدًا، وهو يكره هذا النوع مِن النساء. كذلك غريبة الأطوار على عكسه تمامًا. فوق كل هذا فهى أرملة فى حين أنه لم يسبق له الزواج. كل هذا كنت أعلمه من الوهلة الأولى، لكنى آثرت الصمت مُبديًا إعتراض صريح (اعتراضًا صريحًا) لهذه الزيجة، فقد كانت هناك قطيعة بينى وبين سليم فى هذه الفترة. لم تيأس سلمى مِن إعتراضى هذا وأخذت تحاول إقناعى بكل السُبل أن ربما تكون هذه الزيجة خير (خيرًا)، وقد تصبح سبب (سببًا) لأَصِل رحمى مع أخى وأنهى فترة الجفاء وما إلى هذا الحديث.
إبتسم أحمد بسخرية مُتسائلا: أين ذهب إلحاحها لصلة الرحم المزعومة الآن؟
إعتدل وأخذ يتأمّل وجهه فى المرآة مُواصلا إجترار ذكرياته: فضلتُ الحياد ومتابعة الموقف مِن بعيد. كنت على يقين مِن وجود خطأ ما وأن سليم لن يستمر فى هذه العلاقة. هذا إن إفترضنا أنه بدأها مِن الأساس. بالفعل بعد مرور شهور بدأت تظهر على سلمى علامات العصبية. عندما سألتها رفضت البوح فى البداية ثم إنهارت وصرّحت بأن سليم شخص قذر وغير سَوِىّ، ولى كل الحق فى مقاطعتى له، فقد تلاعب بمشاعر أختها ووعدها بالزواج ثم تنكّر لها كما يفعل أى رجل دنئ (دنىء). إحتملتُ بصعوبة التطاول الساخر والمستمر مِن سليم. نعم هناك خصومة بينى وبينه، لكن كثرة التطاول عليه آذى أذنى بشدة مما إضطرنى للحديث مع معتز لأنه قريب مِن سليم، وبالتأكيد على دراية بهذا الشأن. هنا أتت الحكاية مِن الزاوية الأخرى: هدير هى مَنْ ذهبت إلى سليم فى مكتبه وطلبت مِنه رفع دعوى قضائية على أهل زوجها السابق بحجة أنهم سرقوا جزء (جزءًا) مِن ميراثها الشرعى.
هنا تساءل معتز، ومِنْ قبله سليم: لماذا تركت هدير كل محاميى (محامِى) مصر وذهبت إليه، وهى تعلم تمامًا أن هناك خصومة بينه وبين زوج أختها؟ وإحقاقًا للحق وجدت تساؤلهم منطقى (منطقيًّا). أضاف معتز أن سليم رفض قبول القضية فى البداية، فهذه النوعية مِن القضايا لا تستهويه، ثم قبلها بعد ذلك لسبب غير معلوم، وإنما يمكن إستنتاجه. بعدها حدث نوع مِنَ التقارب بينهما، ثم إكتشف سليم غرابة أطوارها: هدير كانت عاشقة لكل ما له علاقة بالفلك والنجوم والأبراج والسحر، أما سليم يرفض (فيرفض) كل هذا بل ودائم السخرية منه. كيف يتفقان إذن؟ ومِن السهل تخمين باقى الحكاية: طرفان تقاربا، عرفا بعضهما أكثر، حدث نفورٌ مِن أحد الطرفين وتمسُّكٌ مِن الطرف الآخر، قرر الطرف الأول إنهاء العلاقة، فحدثت صدمة عنيفة للطرف الثانى. وقد كان.
دخلت هدير فى موجة إكتئاب حادة إستدعت علاجها فى إحدى المصحات لشهور ثم خرجت منها شبح إنسانة، إزدات هزالا على هزال، أصبح تسليتها الاولى أو ربما الوحيدة هى الذهاب للدجالين والأفاقين حتى عرفتُ أنهم ذهبوا إلى معالج روحانى مغربى إسمه غيلا. تحسّنت حالتها كثيرًا على يديه حتى أصبحت شِبْه طبيعية، فقط نظرة عينيها كانت تبدو احيانًا (أحيانا) غريبة أو للحق نظرة ملعونة. حتى إستيقظتُ ذات صباح على محادثة بين سلمى ووالدتها إنتهت بصراخ وعويل، ثم صدمتنى بخبر كالصاعقة: هدير ماتت. ببساطة سقطت مِن الشرفة. ولا أدرى حتى الآن كيف تموت سيدة تخطت الثلاثين ببضعة أعوام حال سقوطها مِن شرفة بالطابق الثانى!
ودون أن يمنحوا أحد (أحدًا) فرصة التساؤل وجدتُ إسراع (إسراعًا) غير مُبَرَّر لدفن الجثة والصلاة عليها. يومها تلقت عينى نظرة مِن سلمى كالرصاص، نظرة تقول: أخوك قتل أختى. هدير ماتت بسبب غدر وهجر سليم لها. ومِنْ يومها والحال يزداد سوءًا فوق سوء.
فتحت سلمى باب الغرفة لتنتشله مِن سرب ذكرياته قائلة: إنت صاحى؟ ده أنا بحسبك دخلت تنام شوية.
هز رأسه نفيًا وهو يسألها مباشرة: إنتِ رحتِ فين النهاردة؟
أجابت وهى تجلس بجواره: إشتريت شوية حاجات.
إبتسم بغموض: مِنين؟
بدأت تنظر له بترقب وهى تجيب: إيه هو إللى منين؟ إنت عمرك ما سألت سؤال زى ده.
ظل صامتًا وهو ينظر لها بصبر منتظر الإجابة. بعد لحظات أجابت بحذر: مِن المول إللى على أول التجمّع.
أشاح بوجهه عنها ثم عاد ينظر لها بغضب قائلا: يبقى إيه إللى ودّاكى نزلة السمان؟
هبط سؤاله عليها كالصاعقة، إرتبكت لحظات ثم قررت تغيير طريقة الحوار، فصاحت فى وجهه: هو فى إيه يا أحمد؟ إيه؟ هو تحقيق ولا إيه؟
إمتص هجومها على صرامة ملامحه وهو يجيب ببرود: بالظبط. ممكن تعتبريه كده.
وعلى عكس طبعه إرتفع صوته وهو يعيد صياغة سؤاله بحدة:
_ أنا دلوقت عايز أعرف: إنتِ كنتِ عند الساحر إللى إسمه غيلا ده بتعملى إيه؟
شعرت أنها كالفأر فى المصيدة، وموقفها هذا لا يفيد معه الدفاع أو الهجوم، لذا ردت فى محاولة يائسة للنجاة: ده شىء ميخصّكش.
واصل هجومه صارخًا فى وجهها: لا، يخصّنى. لما يبقى فى أذى بيحصل لبنت أخويا، والأذى ده بيحصل بفلوسى، وإنتِ ممكن تبقى السبب، يبقى يخصّنى.
حاولت المراوغة بتغيير دفة الحديث قائلة بسخرية: بنت أخوك؟ مِن إمتى يعنى حاسس إن سليم أخوك أو يهمك أمره.
كأنها لم تقل شيئًا، أو كأنه لم يسمعها، ظل على ثبات ملامحه ثم سألها بصرامة أكثر: كنتى عند الساحر الفاشل إللى إسمه غيلا ده بتعملى إيه؟
إنتفضت قائلة: غيلا مِشْ فاشل. إوعى تقول عليه كده.
رمقها بنظر نارية قبل أن يرد متهكمًا: إزّاى مِش فاشل؟ مِش هو سبب موت هدير، الله يرحمها؟
صرخت فى وجهه بحدة: لأ. مِش هو سبب موتها. السبب إنت عارفه كويس.
أجابها بهدوء: تقصدى سليم! مِش كده؟
ردت بغضب: أيوة.
إستطرد بنفس الهدوء: وده إللى خلاكى تعملى له سحر عشان تهدمى حياته؟
ردت بغضب أكثر: أيوة.
إستكمل بغموض: دلوقت لما بدأ يعالجها قررتى تخلصى مِن البنت عشان تحرقى قلبه عليها؟
ردت بثورة: أيوة. هو كده بالظبط.
إلتزم أحمد الصمت، وأخذت سلمى تلهث بشدة وهى تحاول تهدئة نفسها، ثم نظرت إليه لتفاجئها تلك النظرة، نظرة بها مزيج مِن الدهشة والعتاب والإحتقار. شعرت وقتها أنها لم تكن فى مصيدة مِن الأساس، وإنما وقعت فى الفخ المنصوب لها للتو، فقد نجح القاضى فى إستفزازها حتى حصل على إعتراف صريح.
مسحت جبينها بإرتباك ثم قالت: أحمد. إنت عارف إن سليم يستحق أى مصيبة تحصل له. إنت عارف إنه مِشْ ملاك.
إتجه لآخر الغرفة وهو يرد بصرامة: ولا شيطان.
حاولت أن تقول أى شىء فخرج صوتها متحشرجًا: طيب خليك مكانى. المفروض أعمل إيه وأنا شايفة الراجل إللى إتسبب فى موت أختى عايش ومتهنّى ولا فى دماغه؟
حَمَل أحمد حقيبة كبيرة ووضعها فوق الفراش ثم شرع يجمع ملابسه قائلا ببرود: سليم مِش سبب موت أختك، السبب هو الجهل والمشى ورا الدجالين.
نظرت له بدهشة وهى تسأله: إنت بتعمل إيه؟
لم يرد وإنما أخذ يجمع ملابسه، فكررت سؤالها بنبرة رجاء: إنت بتعمل إيه يا أحمد؟
أطلق زفرة ضيق عالية ثم أجابها كأنه ينطق منطوق حكم بعد جلسة محاكمة. أخذتِ قرارك وحدك، ونفذتِ خطتك وحدك، فلتتحملى العاقبة وحدك. مِن البداية لم تشركينى فى الأمر. لو سألتينى لأجبتك، ولو تحرّيتِ بصدق لجاءتك الحقيقة. أو ربما تعلمين الحقيقة ولا رغبة لديكِ فى تصديقها. والحقيقة أن سليم مُخطئ، وهدير أيضًا. الحقيقة أنه لم يؤذها للدرجة التى تدفعها للإنتحار. لو كل عاشق إنتحر بسبب هجر حبيبه لمات نصف أهل الأرض. الحقيقة أن فى قلبك حقد وكراهية وسواد (حقدًا وكراهيةً وسوادًا) لا أعلم لهم (لها) سببا.
ثم أغلق حقيبته مستطردًا بصرامة: عاملتك بما يُرْضِى الله لسنوات رغم شكى أن هناك ما لا أعلمه، والآن بعد أن تيقنت مِن سواد قلبك كيف أستمر؟
بدأت عيناها تترقرق بالدموع وهى تقف فى مواجهته: أحمد، ممكن نتكلم ونوصل لحل و...؟
قاطعها بعصبية: حل؟ حل إيه يا سلمى؟
ثم إستطرد بغضب: على فكرة. سليم عرف إنك كنتِ عند غيلا النهاردة. ولو حصل لبنته أى مشكلة جديدة يبقى إنتِ السبب مفيش كلام. منك لسليم بقى، أنا مِش طرف فى الموضوع.
وضعت يدها على كتفه وهى تقول برقة: أنا ميفرقش معايا سليم ولا خايفة منه. إللى فارق معايا إنت يا أحمد.
أزاحها مِن أمامه بهدوء ومضى. عند باب الغرفة وقف مُلتفتًا إليها وهو يلقيها (يلقى عليها) بنظرة، نظرة تعنى أن كذبك علىَّ وغدرك كان القشة التى قصمت ظهر البعير، أو ربما نَفُر البعير".
وأنا، وإن كنت لا أعرف معنى عبارة "نفُر البعير" هذه، أود الإشارة إلى أن زوجة القاضى وأختها هدير ليستا هما الوحيدتين فى المجتمع المصرى اللتين تؤمنان بالسحر وتنشغلان بالأبراج، بل كل المجتمع تقريبا مشغول بالسحر والأعمال السفلية ومنشغل بالأبراج حتى لقد طارت أبراج عقول كل أفراده، ولم يعودوا يفكرون تفكيرا منطقيا ولا غير منطقى، بل يرددون بمناسبة وبغير مناسبة: لكن السحر مذكور فى القرآن. وهذا هو الشىء الوحيد الذى يعرفونه عن القرآن: أن السحر مذكور فيه. ثم من يدرى؟ ربما لو سئلوا لقالوا: وغيلا أيضا والشيخة درة مذكوران فى القرآن. وبالمناسبة فلعلى أنا الوحيد، ومعى سليم الجلاد، اللذان لا نؤمن بالسحر فى هذا المجتمع العجيب ذى العقل الفسافيسى. تصور يا مؤمن أنت وهو أن الشبان المتعلمين الآن فى كل قرية يجمعون أنفسهم ليلا ويهجمون على المقابر فى حملة ولا حملة نابليون على عكا للبحث عن أعمال السحر فى الجبَّان وجمعها والتخلص منها. تصوروا شبانا متعلمين فى الجامعة يظنون أنهم سيفتحون عكا بقيامهم بهذه الحملة المتخلفة التى لا تقل بل تزيد عن تخلف المعتقدين فى السحر وتأثيره. لقد كان الأحجى بهم أن يقرأ كل منهم كتابا ينور عقله المظلم بدلا من هذا العمل المضحك. العالم وصل إلى القمر ويفكر فى الوصول إلى المريخ وشباننا المتعلمون يقومون بحملات لجمع أعمال السحر من المقابر، فيذكروننا بأوربا فى عصر ظلمات القرون الوسطى. ولله يا زمرى الذى أزمِّره فى محاضراتى فى الجامعة وفى الندوات وأكتبه فى الكتب والفيس بوك ومواقع التواصل الاجتماعى الأخرى. الآن آمنت أننى لا بد أن أجمع كل ما كتبت وأبله وأشرب ماءه وأموت بما فيه من فيروسات (غير فيروسات كورونا يا رب) وأستريح وأريح الدنيا من أفكارى الشاذة!
أما الحوار بين القاضى وزوجته فهو حوار دقيق وطبيعى. فالرجل حتى فى غضبه ومرارته وخيبة أمله فى زوجته لا ينسى نفسه ومنصبه ومكانته الاجتماعية وأخلاقه ولا يتلفظ بكلمة جارحة، لكنه فى ذات الوقت يضعها "تحت إبهامه" طول الوقت كما يقولون فى الإنجليزية، يقصدون أنه مسيطر عليها، فيسألها أسئلة تستفزها وتستخرج ما كان مكنونا وكامنا فى أعماق نفسها، وتقع فى الفخ دون أن تتحسب لما تقول أو تفعل. فهو قاض، ولا ينسى حتى فى مساءلته لزوجته أنه قاض. كما أنه فى حديثه عن أخيه لا يفوته أن يحمله جزءا من المسؤولية، وإن أعلن أن المسؤولية الكبرى تقع على كاهل هدير أخت زوجته. وزوجته من جهتها تحاول أن تلف وتدور ظنا منها أنه لم يكن يعرف بذهابها إلى الساحر ذلك اليوم، وحين يدقق فى السؤال ترد عليه بعتاب شديد وكأنه قد أصابها فى شرفها بشكه بدون مبرر فى كلامها، وهو ما لا يصح بعد كل تلك العشرة، ثم لما وجدت أن هذه الطريقة غير مجدية انقلبت فأفرغت كل ما فى جعبتها واقعة فى الفخ على وجهها دون تبصر. وهذا هو التصرف المتوقع من مثلها فى مثل ذلك الموقف. لكنى لا أستطيع ابتلاع كلمة "ميتافيزيقا"، التى وردت على لسان القاضى. يقصد أن زوجته متعلقة بالخرافات المتعلقة بالجن والسحر. فهذا اصطلاح فلسفى لا يصلح لهذا السياق العامى. إنها كالجلباب الواسع يرتديه رجل شديد النحول.
هذا، وقد سبق فيما مضى من الدراسة التى بين أيدينا أن حملت على إقحام الجن فى الرواية. ولكن، كما قلت، هناك زاوية أخرى للنظر إلى الرواية وما فيها من أحداث وشخصيات، إذ يمكن القول إن الكاتب ربما قصد إذابة الفواصل بين عالمى الجن والإنس بغية صنع عالم جديد طريف على طريقة الواقعية السحرية، فأدخل درة وغيلاس دنيا البشر وأظهرهما بوجهين: وجه بشرى لمن لا يريد الاعتراف بظهور الجن، ووجه عفاريتى لمن يعترف بذلك. والقارئ طوال الوقت ينتقل من تلك النظرة إلى تلك النظرة، فيراهما مرة إنسيين، ومرة جنيين، وهما أيضا يتصرفان باعتبارين: بشرى وجنى معا. وواحد مثلى حائر بائر لا يستطيع الرسوّ على بَرٍّ. ويتحول العالم الذى نعرفه إلى عالم آخر: فسيد يتعامل مع الجنية درة بكل بساطة متصورا أنها شيخة مباركة من شيخات بنى آدم الطيبات، وهى تعطف عليه وتبذل كل جهودها لتخليصه من السجن وعقوبة الإعدام التى تنتظره على عكس طباع الجن، الذين لا يمكن أن يفكروا فى مصلحة آدمى أبدا. ودرة تُقْتَل، لكنها تعود إلى الحياة من جديد. ترى هل رأى أحد منا ميتا، فضلا عن أن يكون هذا الميت قتيلا، يرجع إلى دنيانا بعدما غادرها؟ لكن درة فعلتها. ونحن البشر حين نتصارع ونتعارك فإن أحدنا يصفع خصمه على وجهه أو يسدد له لكمة فى فمه أو يهبده روسية فى جبهته أو يعضه فى أذنه أو يوقعه أرضا وتسيل الدماء من الطرفين أو لا تسيل، أما غيلا ودرة فحين يتعاركان فى برنامج الأستاذ معتز على الهواء فإنهما يحترقان، ونظن نحن الغلابى الطيبين أنهما قد ماتا وراحا فى ستين داهية وتخلصنا منهما ومن أذاهما وشرورهما، ثم يتضح لنا أننا واهمون، فها هما ذان لا يزالان يتحركان بيننا حَيَّيْن صاغ سليم. ونحن البشر حين نريد أن ندخل بيتا أو شركة ثم نجد الأبواب مغلقة بالأقفال الضخام نعود أدراجنا أو، إن كنا لصوصا مثلا، نقفز من فوق السور أو نحطم الباب إذا لم يكن أحد يرانا أو يسمعنا، أما درة وغيلا فإنهما يخترقان الجدران والأسوار دون أدنى عناء أو جهد. كيف؟ لا تسأل، فهما جنيان. ومتى كانت العفاريت أو الجن يُسْأَلون عما يفعلون؟ ونحن البشر محفوظةٌ معالمُ وجهِ كل منا لا تتغير إلا مع الزمن وبعد وقت طويل، وتظل خطوطها العامة باقية رغم ذلك ويعرف بعضنا بعضا بمنتهى السهولة. أما غيلا ودرة فتتغير ملامحهما فى لمح البصر كيفما ومتى وأين أحبا دون أية مشكلة، فتجد درة مثلا فى غمضة عين قد صارت تشبه الكلب ولها أنياب بارزة وشعر غزير فى وجهها وتشع عيناها ضوءا أحمر. بل إنها قد تكون جالسة معك فى السيارة ثم فجأة تختفى من أمام ناظريك وتنظر حواليك فلا تجد إلا ظلا يتحرك على الأسفلت دون أن تكون هناك صاحبة الظل. كما أنها رغم جنيتها تدخن السجائر مثلنا وتجلس على كرسى فى مكتب سليم وتشرب القهوة وتضع ساقا على ساق وتجادله وتتهكم عليه كما نصنع نحن البشر بل وأفضل مما نصنعه نحن البشر، وهو ما لا يفعله العفاريت، وإلا فهل رأى أحدنا عفريتا أصلا، فضلا عن أن يكون قد رآه وهو يجادل ويتهكم ويدخن السجائر ويشرب القهوة، وهو واضع ساقا على ساق؟ الواقع أننا لم نسمع شيئا مثل ذلك إلا من المهاويس المرضى فى عقولهم وخيالاتهم أو الكذابين أصحاب الدعاوى العريضة.
والعالم بهذه الطريقة يعجب كثيرا من الناس فى بلادنا. فالأمور فيه تتم دون تعب أو تفكير أو تخطيط، ونحن شعوب لا تريد تشغيل عقل أو تحمُّل تعب أو بذل جهد، ولهذا تعجبنا تلك الألاعيب العفاريتية. نعشقها بل نموت فيها. ومثلها الحواديت التى كانت تقول إن هناك بلادا يحصل فيها الإنسان على كل ما يريد "بالصلاة على النبى"، فيدخل دكان الحاتى مثلا ويقول له ببساطة متناهية: أعطنى كيلو كباب بالصلاة على النبى، ولا تنس الرز وتجمير الخبز والسلطات والجرجير والبقدونس بالصلاة على النبى وبعض أعواد الخلة وبعض المناديل المبللة المعطرة والفوطة، فإذا بالحاتى يحضر له كل ذلك دون أى مقابل سوى عبارة "بالصلاة على النبى". أمم جوعى ومسكينة حتى النخاع، وتريد أن تكون الحياة سبهللا لا تبذل فيها جهدا ولا تتعب فيها مخا. ولهذا نراها باقية فى موضعها لم تَرِمْه منذ قرون.
وأمس واليوم كتبت ما كتبت منتقدا ما صنعه المؤلف من إقحام بعض الجن فى عالمنا نحن أبناء آدم وحواء، لكنى خرجت بعد المغرب بقليل إلى الشرفة فى الهواء المنعش وصليت المغرب هناك، ثم دعوت، ثم وضعت السماعات فى أذنى على إذاعة الأغانى وانجعصت على أحد كراسىّ الشرفة، وإذا بغفوة من النوم تأخذنى على جناحها الرفراف، لأقوم فأجد محمد فوزى، وهو بالمناسبة من قرية قريبة من قريتنا، فى سهرة الليلة يغنى أغانى منعشة مطربة على عكس أغانى أمس، التى كانت فاترة قاتلة، وعندئذ شرعت أنظر إلى الرواية بعين أخرى، والبركة فى النوعية الجميلة لأغانى محمد فوزى الليلة رحمه الله، وهذا هو التفسير الذى يمكن تفسير الرواية به من هذه الزاوية الأخرى. وهو أن المؤلف جرى فى كتابة روايته على مذهب الواقعية السحرية، ذلك الأسلوب الذى اتبعه كثير من كتاب الروايات والقصص فى الأدب الألماني منذ مطلع الخمسينيات، ثمأدب أمريكا اللاتينيةبعد ذلك، ليجد طريقه إلى بعض الأعمال فى آداب اللغات الأخرى. وتقوم هذه الواقعية على أساس مزج عناصر متقابلة فى سياق العمل الأدبى، فتختلط الأوهام والتصورات الغريبة بسياق السرد، الذى يظل محتفظا بنبرة حيادية موضوعية كتلك التى تميز التقرير الواقعى. وتوظف هذه التقنية عناصر فنتازية كقدرة الشخصية البشرية على السباحة فى الفضاء كما حدث مع بطلى رواية سلمان رشدى التى أزعجت العالم الإسلامى أيما إزعاج فى نهايات ثمانينات القرن الماضى فى بريطانيا، وتحريك الأجسام الساكنة بمجرد التفكير فيها، أو بقوى خفية بغرض احتواء الأحداث السياسية الواقعية المتلاحقة، وتصويرها بشكل يذهل القارئ ويربك حواسه فلا يستطيع التمييز بين ما هو حقيقى وما هو خيالى. وتُسْتَمَدّ هذه العناصر من الخرافات والحكايات الشعبية والأساطير وعالم الأحلام والكوابيس.
ويشير مؤرخو الأدب والنقاد العرب إلى وجود أصول الواقعية السحرية فى حكايات "ألف ليلة وليلةإذ تحتوى على كثير من عناصر ذلك الاتجاه كما هو الحال فى قصص الجان والغيلان والبساط السحري ومصباحعلاء الدين وتحول البشر إلى أحصنة مثلا وبراغيث وعيشهم تحت الماء. ويمكن أن نضيف إلى ذلك قصص الحيوان حيث تتكلم الحيوانات وتفكر وتتصرف مثلنا تماما، وهذا موجود فى الأدب الجاهلى نفسه حيث يحصل تفاهم ثم عداء بين الإنسان والحية وحيث يدخل الإنسان مع الغول فى معركة بالصحراء ذات ليلة فاحمة الظلام، وكذلك بعض الرسائل القصصية كـ"رسالة الغفران"، التى تصور يوم القيامة وما يحدث فيها من الوقائع التى لا تجرى على قوانين دنيانا كتكلم الأسود وحُمُر الوحش والحيات وتحول الإوز إلى نساء فاتنات وانفلاق ثمار الجنة من تفاح وسفرجل ورمان عن حور عين، وكـ"رسالة التوابع والزوابع" حيث يتعايش ويتناقش فى الأدب والنقد البشر والجن والإوز، وكالسير الشعبية كما نرى فى "سيرة عنترة بن شداد" مثلا إذ يمسك، وهو صبى، شدقى الأسد ويفسخهما فسخا، وحيث يدور بسرعة البرق فى المعركة من فوق ظهر الفرس إلى تحت بطنه ليظهر من الناحية الأخرى معتليا ظهره كرة أخرى تفاديا من ضربة سيف مباغتة سددها له خصمه... وهكذا. فالرواية، فى ضوء ما قلناه، تتبع أسلوب الواقعية السحرية فى كثير من المواضع إذ تمزج الواقعى بالغرائبى اللامعقول، فنرى الجن والعفاريت تتعايش مع البشر فى كل مكان وتمارس أفعالا مستحيلة لا تتسق مع نظام الكون وقوانينه المعمول بها فى الدنيا، وإن كانت المخيلة الشعبية ترى هذه الأفعال أشياء طبيعية جدا.
لكن من الناحية الفكرية يبقى موقفى من ظهور الجن وتأثيره على حياة البشر كما هو، فالجن لا يعلم الغيب ولا يملك لنفسه، فضلا عن أن يملك لغيره، نفعا ولا ضرا. وأنا لا أستطيع أن أكون سعيدا بعمل أدبى يزرع فى نفوس شعوبنا شيئا من تلك الخرافات. أدمغتنا الخربة ليس ينقصها مزيد من ذلك، ففيها كما قلت الكفاية وفوق الكفاية بحيث نستطيع أن نصدّر جبالا بل هضابا من هذه الخرافات إلى كل بلاد العالم ويتبقى منها ما تحتاج إليه أجيالنا القادمة إلى يوم الدين. ومن هذا ا لمنطلق فإنى، رغم استمتاعى مثلا بمونولوج "الحسود"، الذى يغنيه غناء رائعا إسماعيل يس من كلمات أبو الليل، أضيق أشد الضيق بما فيه من تأكيد على أن العين تصيب الأشياء والأشخاص بمجرد النظر، وأقول لنفسى: يا ربى، وهل المصريون بحاجة إلى مثل هذا المونولوج؟ إنهم يموتون فى الاعتقاد بالعين موتا، ويعللون كل شىء بالعين أو بالسحر: فالمريض إنما مرض لأن جاره أو جارته الفلانية قد عانته. والعانس إنما عنست جراء عمل سفلى من أعمال السحر. وهدير، بدلا من أن ترضى بنصيبها بعدما بذلت كل ما لديها من حيل لغزو قلب سليم كى يتزوجها وفشلت، نراها هى وأختها زوجة القاضى الموقر تلجآن إلى السحرة وأعمال السحر، وعندما تفشلان تستعينان بما يسمى بـ"الأعمال السفلية" فى إنزال الضرر ببنت سليم... وهكذا. وكثير من المصريين يضعون فى ردهة البيت لافتة بسورة "الفلق" من أجل الآية الأخيرة فيها: "ومن شر حاسد إذا حسد" حتى إذا ما فكر أحد من الضيوف أن يَعِين البيت (أى يرسل إليه من عينه التى تندب فيها رصاصة نظرة هكذا أو هكذا) أوقفته الآية الكريمة عند حده. وصاحب السيارة يعلق خرزة زرقاء فى مرآتها درءا للعين. وأصحاب المحلات ذات الأبواب الزجاجية يضعون مصحفا خلف الباب ليصد العين فى غيابهم عن الدكان وما فيه من بضائع.
وما أكثر الأغانى التى تتكلم عن الحسد والحساد وتقرِّعهم كأنهم فعلا يملكون القدرة على التحكم فى حياة المحسودين والنعم التى يتقلبون فيها، وباستطاعتهم أن يؤذوهم أذى شديدا بعينهم وكلامهم ونبرهم وقرهم. وعندما أستمع إلى أغنية عبد المطلب: "يا حاسدين الناس" أضحك فى غيظ قائلا رغم إعجابى بصوت طِلِب وباللحن وبالأبيات: منك لله جميعا يا من ذكرت الحسد ويا من لحنت الحسد ويا من غنيت للحسد. ومثلها أغنية "لما رمتنا العين" لسعاد مكاوى. إنها رسالة ملغمة تدخل آذان المستمعين وتستقر فى خلايا أمخاخهم وطوايا قلوبهم فلا تبرحها أبدا، ويزداد الناس إيمانا فوق إيمانهم بالعين والنبر. إن أحدا لا يشاحّ فى وجود الحسد حتى لو لم يذكره القرآن، لكن الاعتراض على تصور الناس أن العين تصيب بمجرد النظر أو أن الفم يصيب بمجرد النبر والقر. والحق أنه لو ظل الفقير طول عمره ينظر إلى الغنى بعينيه أو يقر عليه بلسانه لما كان لعينه أو كلامه أى أثر، ولكن لو كان الفقير لصا فاتكا مثلا وخطط لسرقة الغنى أو قتله أو النصب عليه والاستيلاء على ماله فقد يفلح. أريد أن أقول إن الحسد قد يضر المحسود بهذه الطريقة لا بالعين ولا بالقر والنبر.
لكن الناس فى بلادنا لا تفكر بهذه الطريقة، وليس فى ذهنها أن الكون قائم على نظام وقوانين، وأن من يرد بلوغ غايته أو حل مشكلته فعليه بالعلم، الذى خلقه الله سبحانه ووهب للعقل البشرى القدرة على تحصيله وتطبيقه والانتفاع به فى تجميل حياة البشر وتخليصها من المشاكل، أما الاعتقادات الخرافية فهى من سمات المجتمعات المتخلفة التى تظل قرونا تطارد عبثا خيوط دخان الأوهام والخيالات العاجزة المريضة كى تمسكها ولا تفلح أبدا فى الإمساك بها، ومن ثم لا تنجح بتاتا فى حل مشاكلها ولا فى الترقى وتحصيل أسباب الكرامة فى مجالات الرزق والقوة والجمال والانشغال بكبرى قضايا الحياة بينما غيرها ماض قدما فى سبيل الحضارة والقدرة والسيادة وفرض كلمته على غيره بما فيهم نحن، وخنوع هذا الغير له بكل ما تحمله كلمة "الخنوع" من معان وارتباطات وإيحاءات، ومنها دفع الإتاوة: مادية كانت أو سياسية واقتصادية وعسكرية.