طلب مني أحد الأخوة مناقشة أمر السيستاني بموضوعية فهو لا يفهم كثيرا من أموره


وفي البداية سأناقش هذا الأمر وقبل الشروع في تحليل وضع السيستاني أطلب سعة الصدر قليلا فكلامي سيجرح معتقدات خصوم السيستاني وأنصاره معا..


أولا جانب المزايا:


1- هذا الرجل نموذج لكيف يكون حريصا على دماء شعبه، فبرغم منزلته الاجتماعية والدينية الكبيرة لكن لم يتورط في فتوى جهاد كفائي ضد الاحتلال الأمريكي وقال بوجوب رحيل الاحتلال سلميا فقط، وظل يفتي بذلك طوال عصر المالكي وإلى اليوم، هنا فطن لفارق القوة الرهيب لصالح أمريكا، خلافا للقرضاوي مثلا الذي أفتى بالجهاد في سوريا فقتل وشرد الملايين رغم علمه بوجود فارق قوة ليس في صالحه..الوضع اختلف مع داعش فإمكانية الجهاد ضدها كانت موجودة فأفتى السيستاني بوجوب الجهاد لطرد الدواعش فورا وهو ما نجح بالفعل ..


سلوك الرجل هنا متفق مع فلسفة الجهاد والحرب أنه لا جهاد سوى بقوة كافية للحسم، وهي النقطة التي خالفها القرضاوي ، فبرغم تأليفه كتاب "فقه الجهاد" قبل حرب سوريا بعام واحد ، وأيّد فيه هذه الفتوى أنه لا جهاد سوى بقوة وظهور، لكنه رجع عن كثير من فتاويه ومنهجه في الكتاب وصار لا فارق بينه وبين مراهقي وعناصر جماعة الإخوان بحماسهم وشعاراتهم في الشارع..


2- السيستاني نموذج لكيف يكون رجل الدين الفقير المتواضع والزاهد عن رغبات الدنيا والسلطة، فهو يعيش في بيت صغير وفقير بالنجف ولا يذهب للحكام بل هم من يأتون إليه، رمزية كهذه كفيلة بصنع نموذج جيد لرجل الدين أن يعمل فقط لصالح الناس والفقراء ويعزل نفسه تماما عن حظوظ النفس التي هي سبب نكبات وبلاوي الأئمة طوال التاريخ، وأتذكر هنا الشيخ أبو حامد الغزالي فقد كان يذم السلطان ومنافقيه وضيوف بلاطه ويستعيذ من شر الرياء..لكنه مع امتحان بسيط استجاب لأمر الخليفة العباسي المستظهر بالله ليكتب ضد الباطنية الفاطمية ليكون أشهر كتاب تكفيري للغزالي ضد الفرق ما زال سببا في حشد وكراهية المغفلين ضد الشيعة بالعموم.


3- هذا الرجل من أكثر الشخصيات التي استهدفت من السلفية وجهاز الإعلام الوهابي ، فنشروا الإشاعات عنه وخيانته وعمالته للاحتلال..إلخ، برغم أنه لم يجلس مع قادة أمريكا أبدا وكان يطالب برحيلهم سلميا..والسلفيون استغلوا هذه النقطة لصالحهم..فعدم الفتوى بالجهاد ضد الأمريكان تساوي في مضمونها الموافقة على الاحتلال وبالتالي فهو خائن عميل..ولم يفطنوا أن للرجل حسابات أخرى تخص دماء شعبه المستهدف أصلا بنظام الطوائف، وفي تقديري أن السيستاني لو استجاب للوهابية ليُفتي بالجهاد ضد أمريكا في العراق لسقط من العراقيين أضعاف أضعاف من سقطوا..


لكنه في ذات الوقت لم يعارض مقاومة الاحتلال وأفتى ضدها..بل ترك التيار الصدري يعمل وكافة فصائل المقاومة العراقية الأخرى سنية وشيعية، وأتذكر جيدا أحد تصريحات مقتدى الصدر حين كان يحارب بجيش المهدي، أنه لو أفتت مرجعية النجف بكف السلاح لفعل ذلك، وعلى ما يبدو من وجهة نظري التحليلية أن السيستاني لم يرد أن يكون مسئولا عن الدماء التي تسقط..


4- فتوى السيستاني الشهيرة "أهل السنة أهلنا" التي حرّم بموجبها التعدي على ممتلكاتهم واعتبارها غنائم حرب أثناء التصدي لداعش، فالشيعي المتطرف وقتها كان يقول أن داعش مؤامرة سنية عشائرية ويجب الانتقام من تلك العشائر، خصوصا بعد مجزرة سبايكر التي راح ضحيتها 1700 شاب عراقي شيعي من الجنوب مما اعتبرها بعض متعصبي الجنوب على أنها تطهيرا عرقيا سنيا ضدهم..فتوى السيستاني وضعت حداً للقتل ومنعت الانتقام وشوهت المتعصبين الشيعة وكل من يفعل أفعالهم..ولمن لا يعلم فالعصبية القبلية والدينية في الجنوب والوسط العراقي كانت في أوجها ضد بعض عشائر السنة والعاطفة الشيعية كانت متحفزة وقتها للانتقام..ولولا فتوى السيستاني لحدثت مجازر راح فيها الآلاف من عشائر السنة بالوسط والشمال


5- لم يتورط في فتاوى قتل وإهدار دماء لمثقفين مثلما تورط الخوميني في فتواه القبيحة بقتل سلمان رشدي، مما ساهم في نشر روايته "آيات شيطانية" بمعظم لغات العالم تقريبا، ولا أعلم سر إحجام السيستاني عن تلك الفتوى التي انتشرت بين السنة والشيعة، لكني أتذكر جيدا أن المفكر السوري "صادق جلال العظم" كان يرى قصة سلمان لا تهين القرآن بل تنتقد التراث السني بالخصوص وتصوير آيات القرآن على أنها من عمل الشيطان (قصة الغرانيق نموذج) فربما بلغ لأسماع السيستاني أن الموقف الإيراني الرسمي من الرواية كان مبالغا فيه..خصوصا وأن السيستاني يفتي بقتل المرتد فلماذا لم يُفت بقتل سلمان إذن؟


ثانيا: جانب العيوب


1- السيستاني كما أفتى بالجهاد ضد داعش وعلى إثر ذلك تكونت فصائل الحشد، كان يجب الإفتاء بحل هذه الفصائل فورا بعد إنجاز مهمتها كي لا تصبح دولة داخل دولة ..وأتذكر أن حيدر العبادي لم ينتظر فتوى السيستاني هنا وأصدر قراره بحل هذه الفصائل ودمجها في الجيش العراقي..لكن ما زال هذا القرار حبر على ورق ولم ينفذ منه شئ..


2- السيستاني في الأخير مرجع ديني وحديثه في السياسة حتى لو من باب الاعتماد عليه كحل وعلاج للمشكلات يعزز مبدأ (خلط الدين بالدولة) وهو الذي صنع في قلوب بعض أتباعه رسوخ فكرة الإمامة وضرورة إحيائها حتى في زمن الغيبة الكبرى..وهذه الجزئية هي التي أوجدت مشتركات بين شيعة العراق وإيران في الإيمان بولي الفقيه مع الفارق، فالأمر بإيران واضح..لكنه في العراق مستتر..




3- هذا الرجل يساهم بشكل أو بآخر في تشدد المجتمع العراقي وتديينه، فبقاءه كرمز ديني بهذه المنزلة الرفيعة ولكونه أصبح حلا لمعظم المشاكل السياسية، يتسبب في نشر الفكر المحافظ وتقديس الأعراف والتقاليد، ويجري بناء عليه تكفير المثقفين والعلمانيين..بينما لم يحرك ساكنا ليفتي بوضوح عن موقفه بشأن العلمانية وفصل الدين عن الدولة، وصمت السيستاني هنا تم تفسيره بموافقة ضمنية على هذا التكفير للمثقفين ..وربما الاغتيالات التي تحدث أحيانا لنساء ومفكرين خرجوا عن الثقافة العامة والعُرف المحلي العراقي..


4- لا زال السيستاني صامتا عن رفض شيخ الأزهر لقاءه ورموز السلفية في الخليج لحقن الدماء بين السنة والشيعة، ووقف مضخات الكراهية الطائفية التي تصدر أحيانا من مثقفين نتيجة لغرور وتعنت رجال الدين في كلا الطائفتين، وبرأيي لو أفصح الرجل واعترض بصوتٍ عال سيصنع ضغطا شديدا على مؤسسات الدين السنية في مختلف بلاد العالم، ويُحيي جدلا بشأن الجدوى من اللقاءات وضرورة إيقاف هذه الفتنة التي تحصد أرواح ملايين المسلمين منذ أعوام..


5- السيستاني كأي شيخ أصولي مسلم..لا زال يفتي بحرمة بعض الأطعمة والأشربة، وأموال البنوك وموقفه الديني من الآخر لا زال سلبيا عنصريا كموقفه من المرأة والمرتد والكتابيين..وغيرهم، ويؤمن بالقصص الخرافية التي يعج بها التراث الشيعي دون إعمالٍ للعقل، ويبدو أن جانب المزايا الذي طرحته يخص سلوكه السياسي لا الديني، فالرجل ربما تعلم التفريق بين الأمرين من حكم آل البيت والموروث الروائي عنهم..


شخصيا أرى السيستاني كما أرى الدلاي لاما، رجل حكيم على المستوى الفردي لكنه يؤسس ويرسخ لدولة دينية على المستوى الجمعي، ويختلط دوره الديني بالقومي والوطني معا في خلّاط واحد هو الذي صنع الدلاي لاما رمزا بوذيا عالميا لبوذيين التبت ومطالب استقلالهم عن الصين، مثلما صنع السيستاني كرمز شيعي عالمي ليس فقط في العراق ، ومن شدة قبول هذا الرجل ومصداقيته جمع جيشا من 60 ألف مقاتل في زمن قصير هو الذي طرد داعش من العراق وظل يكافح 3 سنوات حتى حرر ثلثي أراضي العراق منهم، حتى مصداقيته لدى عشائر السنة يبدو أنها حاضرة، فعشائر سنية في الوسط – كالبونمر والبوفهد – استجابت لفتواه بالجهاد الكفائي وتطوعت لقتال داعش وسد الفراغ الذي أحدثه انهيار الجيش العراقي الضعيف..


أتخيل أن رمزية الشيخين القرضاوي وأحمد الطيب غير موجودة لدى (الشيعة والمسيحيين) لكن هذا الرجل له رمزية مقبولة سياسية عند بعض (سنة ومسيحيين العراق) بوصفه من تدخل لتحريرهم من داعش واستضافة ملايين منهم في محافظات الجنوب والوسط..


وأرى أن الجانب الشيعي المتعصب للسيستاني يأخذ طرفا من هذا الرأي فهو (يعتمد جودة موقفه السياسي ليخدم عقيدته الدينية) بينما الجانب السني والعلماني المتعصب ضده فهو العكس، أي يأخذ طرفا من هذا الرأي لكونه (يعتمد سوء عقيدته الدينية لإثبات سوء وتقية موقفه السياسي) وأنا منذ أن دخلت في مناقشات العراق قبل 14 عاما بين هذين الرأيين المتعصبين فنالني من سهامهما ما نلته من الوهابية والإخوان لمجرد إعلان رأيي بهذا الوضوح فلم أضعف ولم تَخُر قواي ضدهم وصممت على مقاومة هذا الفكر المنحرف وتلك الزريبة الطائفية التي نعشها منذ 20 عاما..