"حين تركنا الجسر" لعبد الرحمن المنيف
(المؤسسة العربية للدراسات والنشر/ بيروت/ 1987م)
د. إبراهيم عوض

ولد عبد الرحمن المنيف فى 1933م فى مدينة عَمَّان من أب سعودى وأم عراقية، وتلقى تعليمه هناك إلى أن حصل على الشهادة الثانوية، فانتقل إلى بغداد حيث التحق بكلية الحقوق عام 1952م وانخرط فى النشاط السياسى حتى طُرِد من العراق بعد التوقيع على حلف بغداد عام 1955م، فتحول إلى القاهرة وشرع يدرس بكلية الحقوق. إلا أنه لم يمكث فيها كثيرًا، إذ سافر إلى بلجراد عام 1958م حيث أكمل دراسته الجامعية ثم واصل حتى حصل على الدكتوراه فى اقتصاديات البترول لينتقل بعدها إلى دمشق عام 1962م للعمل فى الشركة السورية للنفط. ثم تحول بعد ذلك إلى بيروت عام 1973م وعمل فى مجلة "البلاغ"، وبعد عامين عاد إلى العراق ليشتغل فى مجلة "النفط والتنمية". ثم غادر إلى فرنسا، التى أقام فيها خمس سنوات تركها بعدها إلى دمشق وانصرف إلى كتابة الروايات إلى أن وافته المنية عام 2004م.
وللمنيف عدة روايات هى "قصة حب مجوسية، وشرق المتوسط، وحين تركنا الجسر، ومدن الملح، وأم النذور". وله أيضا كتب بعنوان "لوعة الغياب، وذاكرة للمستقبل، ورحلة ضوء"، فضلا عن مجموعة قصص قصيرة هى "الباب المفتوح". وفى رواية "حين تركنا الجسر" يركز المنيف على صياد يدعى: زكى النداوى يتعقب الطيور ببندقيته، مسترجعا بين الحين والحين أثناء ذكرى جسر بناه هو وبعض زملائه فى الجيش حين كان مجندا، ثم صدرت إليهم الأوامر بمغادرة المكان وترك الجسر كما هو دون أن ينسفوه. وعلى طول الرواية نراه يخاطب نفسه تارة، وكلبه وردان تارة، ساخطا لاعنا مجدِّفا ومعاملا كلبه اللطيف بقسوة لا مبرر لها، فهو يشتمه ويركله بقدمه ويهدده بمصير سيئ على الدوام، شاغلا وقته دائما بالتفكير فى صيد بطة تمثل له حلم حياته كصياد. وأثناء انشغاله بالصيد والتفكير فى إسقاط البطة يقابل صيادَيْن يجرى بينه وبين كل منهما بعض الأحاديث التى لا تؤثر على مجرى الرواية وأحداثها ثم يختفيان من حياته إلى غير رجعة. وهى رواية مليئة بالإحباط والجهامة، وتخلو تماما من أية بارقة أمل أو بهجة.
ولعل النصوص التالية تعطينا فكرة عن الجو الكئيب الذى يسود الكتاب: "إنها ذكرى خيبات كثيرة مضت، وأخرى على الطريق ستأتى"، "الخيبة تُولَد كل يوم، تنبثق مع شروق الشمس، ومع ارتفاعها تتمدد بفعل الحرارة والرخاوة وبفعل ذلك الإستسلام العاجز". "العجز يسرى فى الدم، وسيأتى يوم لا ينسل رجال هذه الأمة إلا الأقزام والمشوهين. والأقزام والمشوهون لا يعرفون إلا أن يموتوا رخيصين". "الطير الذى لا يعرف عشه يستحق أن يُضْرَب بالحذاء حتى يُفَتَّت". "لقد فقدت السماء بركتها منذ أن التقينا". "كانت الأيام الماضية قاسية حتى إنها لتشبه أيام الصيف. رغم الريح الباردة التى تهب من جميع الجهات إلا أنها تهب بعنعنة ماجنة". "كان أبى يعرف كل الأشياء: يعرف ريح المطر، ريح الجراد. وكان يعرف رائحة الموت. قال أشياء حكيمة فى أيامه الأخيرة". "إن صمت المسنين أقوى من كل الكلمات التى نسمعها الآن! إنه صمتٌ مُدَوٍّ يجعل الخوف شيئًا ماديًّا ملموسًا". "الحزن، الخيبة، البحث عن طير خرافى، أشياء من هذا النوع موجودة وغير موجودة: موجودة إذا أرادها الإنسان، وغير موجودة إذا أراد الإنسان أيضًا". "آه من هذه الليالى البائسة، ليالى الصفاء المغزولة من برد لا يُرَى!". "السكون المخيِّم والمُشْرَب بالحزن يجعل الإنسان أكثر شعورًا بالانحطاط". "شوال فارغ ومثقوب، عيناى مليئتان بالحمرة، وجهى كالنحاس المحروق، شفتاى جافتان مثل قطع الحطب الرطب، يداى مليئتان بالخدوش الصغيرة والتى أرفعها كأعلام مهترئة. كل الأشياء تقول إنى مدحور". "أنا إنسان مسكون بالظلمة". "المرض ليس حالة عضوية. إنه يربض هنا فى داخل النفس. لكن على الإنسان أن يبذل جهدًا كبيرًا من أجل أن يُشْفَى". "المطر الأبيض الناعم يتساقط. صوته الصغير يخترق ذرات الهواء ليستقر فيها. رائحة الأرض تعوى بذلك الدخان الذى لا يُرَى، ولكن تفاعله السريع، ازدحامه فى الأشياء ثم تمدده، يجعله ماديًّا لدرجة لا تُصَدَّق". "نحن بشر هذه الأرض لا نعرف غير البكاء. منذ ساعة الميلاد وحتى ساعة الرحيل لا نعرف سوى أن نبكى. ألا نستطيع أن نفعل شيئًا آخر؟". "ما أتمناه الآن قطرة من الدم لأغسل الصدأ الذى يغلف روحى!". "فى الحياة أشياء كثيرة لا يمكن تفسيرها أبدًا". "على الطريق الطويل الموحل فكرت بتعاسة الحياة، ببلادتها، بغبائها. ودون أن أدرى سقطتُ فى بركة مليئة بالطين". "البرد يتسرب إلى الدم كما تتسرب إليه الهزيمة". "لو كانت الأرض صخرية، لو كانت الصخور مسننة، لو كانت الأسنان حادة، لانغرزتْ فى قلبى ومتُّ فورًا!". "انْغَرِزْ فى الأرض كوَتِدٍ ميتٍ. اقرأ حتى تتعب، ثم اذهب للنوم فورًا. وإذا ذهبت للنوم يجب أن تنام. افعل كل شىء فى وقته لأن فعل شيئين فى وقت واحد سيؤدى إلى خسارة الشيئين معًا!". "اليد أداة، الجسد أداة أكبر. العجز ليس فى اليد ولا فى الجسد. إنه هناك، داخل النفس!". "الحزن يلف الوجوه. والرجال إذا حزنوا، إذا بكوا، فإن شيئًا خارقًا قد حفر قلوبهم".
أما لغة الرواية فتتميز بعدة سمات منها انتشار البذاءة فيها إلى حَدٍّ بعيد. ومنذ اللحظة الأولى تطالعنا هذه البذاءة بوجهها عاريا. فالراوى فى أول جملة منها يقول: "اصرخى يا بناتِ آوَى. اصرخى بفرح الأبالسة حتى تتشقق مؤخراتك النتنة". فكأن البذاءة تملأ عليه كيانه وتفيض فلا يستطيع لها تأجيلا ولا كبحا ولا إمساكا. وعبثا يسأل القارئ: ما الداعى لكل هذه البذاءة؟ وهل إذا صرخ أى كائن انشقت مؤخرته؟ ومعروف أن المؤخرات منتنة بطبيعتها، لكن لماذا حرص المؤلف على إثبات النتانة لمؤخرات بنات آوَى، وكأنها تتميز عن غيرها من مؤخرات الكائنات الأخرى بهذا؟ ثم كيف يا ترى عرف المنيف ذلك؟ وقد يظن القارئ أن بنات آوى كانت تزعج الراوى إزعاجا لا يطاق. أبدا، فقد كانت تصرخ كما تصرخ كل حيوانات الحقول أثناء الليل. وهذا أمر طبيعى ليس فيه أدنى مباغتة، فالناس متعودة على هذا لا تجد فيه شيئا من الغرابة. وفضلا عن ذلك فالسارد سرعان ما نَسِىَ بناتِ آوى، ولم يعد يأتى على سيرتهن بخير أو شر. وهو ما يعنى أن كل هذه الهيصة والزمبليطة التى عملها المنيف شىء لا معنى له ولا ضرورة، ولا مغزى له أو دور فى الرواية. ثم منذ متى يقول الصياد هذا الكلام وهو منهمك فى تعقب الطيور التى يريد اصطيادها؟ ومن هذه البذاءات قول الرواى يهدد كلبه بأنه سيضع العود فى أنفه بل فى مؤخرته، ولن تمنعه أية قوة من تنفيذ ما يريد (ص147). وهذه أول مرة أسمع فيها إنسانا يهدد كلبه بهذا. إنه تفكير شاذ غاية فى الشذوذ، ودعنا من القسوة التى ينضح بها.
ومن هذه البذاءة إكثاره من التهديد بأنه سوف يبول على هذا أو ذاك من المخلوقات، وهى تهديدات "أونطة" لا قيمة لها. فعلى سبيل المثال يقول مخاطبا بنات آوى جراء تلك الصرخات ذاتها عند سماعه إياها كرة أخرى عقب ذلك: "اضحكى. أعرف هذه الضحكات. أعرفها تماما. لكنى سأجعلها، كما قال شاعر أبله، ضحكا كالبكا. سأدفنها فى مزبلة وأبول عليها... لن تفلتى منى أيتها الزانية". ويقول عن أحد الصيادين إنّ بمكنته ابتلاع ما عنده من سر الصيد وبوله كخنزير (ص63). ويقول عن كلبه وردان: "ويقفز العكروت. يتشمم الأرض، سيقان الأشجار، الحجارة، ويبدأ: يبول هنا، يبول هناك" (ص104). ويقول أيضا لوردان رفيقه فى الصيد: "كن يا وردان ثعلبا وانتف من ذيلك شعرا، ثم ألصق الشعر فى فمك واغرق فى الماء. بهذه الطريقة لا تقتل عنقاء هذا الزمن وحدها بل تقتل الأفاعى وديوك السمن التى تتساقط كالهوامّ على أشجار العُلَّيْق فوق المستنقع, وبهذه الطريقة تستطيع ان تمسك بنات آوَى من خصيانها"، ثم مخاطبا نفسه عقب ذلك: "ضحكت من التشبيه البذىء لما تصورت أن بنات آوى لها خصيان" (ص8).
وهذا كلام أشبه بكلام المعاتيه، إذ لا يمكن أن يخطر على بال أى شخص فيه مُسْكَة من رشاد لأنه لا يمت للواقع بصلة ولأنه لا يناسب الموقف إطلاقا. وفوق هذا فهو كلام غير فنى، إذ لا يمكن قائلَ هذا الكلام أن ينفذ تهديده. بل إن ذلك التهديد غير قابل للتنفيذ أصلا لا منه ولا من سواه، كما أن القارئ لا يمكن أن يأخذ هذا التهديد مأخذ الجد. إنه يدخل أذنه هذه ليخرج من أذنه تلك دون أن يتلبث ولو لثانية بالداخل. بل إن أحدا لا يقول هذا الكلام لكلبه أو لحصانه أو لبقرته. لسبب بسيط هو أن الحيوانات لا تفهم مثل تلك التهديدات، بل أقصى ما تستطيع استيعابه هو أن يكشر لها الإنسان عن أنيابه مثلا أو يصرخ بها ويشتمها الشتم العام. أما أن يدخل معها فى كل تلك التفاصيل والشرح وكأنه يلقى محاضرة أو يدرب بعض الناس على استعمال جهاز جديد فهو مما لا يقبله عقل ولا يخطر على بالِ متصوِّرٍ. وفوق هذا كله فبنات آوى ليست لها خُصًى، فهى إناث، والذكور لا الإناث هم الذين يتمتعون بالخصى. وفوق هذا فـ"الخُصْيَة" لا تجمع على "خصيان"، على الأقل: لا تجمع هذا الجمع فى لغتنا نحن الناس العاديين الغَلَابَى المحدودى الأفق والثقافة الذين يحبون أن يمشوا جنب الحائط، إذ "الخصيان" فى لغتنا هى جمع "خَصِىّ"، أى الرجل المخصىّ. فالخِصْيان هم الرجال المخصيّون لا الخُصَى ذاتها. أما إن كان للعباقرة مثل عبد الرحمن المنيف الحق فى أن يفسدوا اللغة على هذا النحو فهذا أمر آخر. ولست أحب أن أستشهد على أن "الخُصْيَة" تجمع على "خُصًى" ببيتى المتنبى التاليين اللذين يسخر فيهما من كافور الإخشيدى حاكم مصر فى حينه:
لقد كُنْتُ أَحْسَبُ قبلَ الخَصِىْ
ىِ أَنَّ الرُّؤُوسَ مَقَرُّ النُّهَى‏

‏ فلما نظرتُ إلى عقلهِ
رأيتُ النُّهَى كلَّها فى الخُصَى‏

فقد وصف الراوى شاعرَنا الكبيرَ أبا الطيب المتنبى صاحبَ هذين البيتين بأنه "شاعر أبله"، وهو ما يعنى أنه لن يقبل الاستشهاد بشعره، علاة على أنى أخشى أن يشتمنى أنا أيضا ويتهمنى بالعته والجنون. وأنا لست ناقصا إزعاجا حتى أتعرض بنفسى لمزيد من الإزعاج تعرضا، وبخاصة أمام كاتب لا تُؤْمَن بدواته ولا يمكن تجنب سِبَابه. بل أكتفى بالقول بأن جمع التكسير القياسى لأية كلمة على وزن "فُعْلَة" هو "فُعَل"، مثل "غُرْفة- غُرَف، ولقمة- لقم، وذُرْوَة- ذُرًى، وأمة- أمم، وجملة- جمل، وسرة سرر، وسترة- ستر، وركبة ركب، وزمرة- زمر، وكربة- كرب، وغُرَّة- غُرَر، وغرزة- غرز، وقُرْصَة- قُرَص، وقُلَّة- قُلَل، وفرصة- فرص، وحفرة- حفر، وجنحة- جنح، وسُنَّة- سُنَن، ولُعْبَة- لُعَب، وعلبة- علب، وشعلة- شعل، وعقدة- عقد، وشعبة- شعب، وتحفة- تحف، وجمعة- جمع، وقُوَّة- قُوًى، ونُقْرَة- نُقَر، وبؤرة- بؤر، وشُقَّة- شُقَق، ورقعة- رقع، وعُرْوَة- عُرًى، وحُلَّة- حُلَل، وعمدة- عمد، ودُمْيَة- دُمًى، وعُهْدَة- عُهَد..."، وكان الله يحب المحسنين! وبالمناسبة فالراوى نفسه قد وصف كلامه هذا بـ"البذاءة" و"الجنون": "ضحكت من التشبيه البذىء لما تصورت أن بنات آوى لها خصىّ. قلت لنفسى بحزن: الجنون له بداية. أما نهايته فلا يعرفها أحد" (ص8). ومرة أخرى نراه يعجز عن إصابة الجمع الصحيح لكلمة "خصية" كما هو واضح، إذ يجعله: "خصىّ". وفى موضع آخر، نراه بعد أن بصق (هذه عادته أم سيشتريها من الخارج؟)، وكان البصق هذه المرة بحقد، وليس بصقا لمجرد البصق، يقول (ص17): "أنا زكى نداوى. العجز فى دمى، البلاهة فى دمى"، وإن فاته أن يضيف: "والسباب فى فمى"! والحمد لله أن شهد الراوى نفسه على نفسه بالبذاءة: "أخطئ كثيرا إذا تصورت لحظة واحدة أن زكى يحمل الطهارة. إنه يحمل البذاءة، الجبن، الشىء الردىء الذى لا يطيقه الإنسان. يحمل الخوف فى داخله ويركض، ويريد أن يقنع نفسه قبل أن يقنع وردان بالقوة والجدارة" (ص36). وقبل ذلك وصف نفسه بأنه "عود المزابل" (ص13). واضح أننى لم آت بشىء من عندى، فهذا هو الراوى يقر ويعترف! والاعتراف سيد الأدلة كما يقال فى القانون والمحاكم.
والواقع أننى لا أدرى سر غرام الراوى (أو الكاتب. سيان!) بالخُصَى. فهو يقول عن نفسه: "أنا رجل مخصىٌّ، مخصىٌّ حتى الثُّمَالة" (ص17). يقصد أنه فاشل، ولا يستطيع صيد الطائر الذى يريد. على أنه هنا أيضا لم يستطع تجنب الخطإ الناشئ عن العجز اللغوى الواضح، إذ يقول إنه "مخصى حتى الثمالة"، غير دار أن هذا التعبير يمكن أن يستخدم فى قولنا مثلا: "شربت الكأس حتى الثُّمَالة"، أى شربتها كاملة لم أترك فى قعرها شيئا من الشراب، إذ الثمالة هى بقية الماء فى حوض أو إناء أو قربة مثلا، أما "الثمالة" فى الخِصَاء فلا أعرف كيف تكون. وقد كرر هذا الخطأ فى قوله: "كنت أريده أن يتملى من منظرى حتى الثمالة" (ص60). وفى موضع آخر: "أنا رجل مخصى. والطيور، وبخاصة البط، تعرف ذلك" (ص17). كما يقول: "عقول الكلاب فى خصاها" (ص32)، "ناديت وردان:... هل تسمعنى أيها الجاموس المخصىّ؟" (ص130)، "حرك وردان لسانه بطريقة بذيئة. مسح جوانب حلقه أول الأمر، ثم بدأ يمسح بطنه حتى وصل إلى الخصيتين" (ص174).
وهذه التهديدات التى تنطلق من فم الراوى لسبب ولغير سبب تمتد لتشمل كلبه الذى يتبعه كلما خرج للصيد لايفارقه أبدا وينطلق لإحضار الفريسة المَصِيدَة حالما تسقط من السماء بعد إصابتها بطلقة الرصاص، إذ لا ينجو الكلب المسكين من تهديد الراوى بأن يدفنه فى مزبلة ويبول فوقه، وكأن التبول طقس مقدس عند عبد الرحمن المنيف لا بد من القيام به لدى الشتم والسباب حتى يؤتيا ثمرتهما. ليس ذلك فحسب بل إنه كثيرا ما يخبرنا أن كلبه قد تبوَّل، وكأن التبول واقعة استثنائية من شأنها أن تتوقف الكواكب والنجوم والأرض عن الدوران بسببها. وكان أبو الراوى من قبل قد أفتى أمام زوجته (أم الراوى) بأن الطائر الذى لا ينزل على قضيب حديد مدبب فوق عشه لا يستحق إلا التبول فوق رأسه (ص27). فالتبول إذن، كطقس من طقوس الصيد، موروث عن أبيه، الذى لا بد أنه ورثه بدوره عن آبائه عن أسلافه فأسلاف أسلافه كابِرًا عن كابِرٍ. وبالمثل يخبرنا فى سياق آخر أنه بال فوق طرف الجسر (ص115). ومن غرامه بالبول والحديث عنه وحشره فى كل سياق وموضوع نجده يقول عن زميله فى الجيش: "وفجأة تركنى. تصورت أنه سيؤذينى. لكن ما فعله أنه بال على قاعدة التمثال" (ص121). وإذا كان الشىء بالشىء يذكر فلقد كان الراوى لا يقل عن الكلب فى هذه الناحية، إذ كان حريصا دائما على أن يخبرنا بأنه قد بصق على الأرض أيا ما يكن الموقف أو الدافع. فهو فى حالة بصق دائم. لقد تحول البصق لديه إلى إدمان مثلما صار التبول عند كلبه إدمانا (ص48، 62، 130، 141 على سبيل التمثيل).
على أن الكلب لم يكن يتبول فحسب، بل كان يعطس. نعم يعطس! وماذا فى ذلك؟ لقد كان يعطس مثلما نحن البشر نعطس. نعم كان يفعل ذلك مرارا وتكرارا، أى أنه لم يأته مرة واحدة بل مرات (ص38، 95، 190 مثلا). ولم يكن ينقصه سوى أن يشمِّته الراوى عقب العطس قائلا: "يرحمكم الله يا مولانا"، ليرد الكلب بعد أن يفيق من نوبة العطاس بقوله فى تقوى خاشعة: "غفر الله لنا ولكم يا شيخنا! هَوْ هَوْ هَوْ"! ولا غرابة فى أن يُتْبِع الكلبُ ردَّه على التشميت بالنباح، فهو كلب، والكلب مهما يكن من ورعه وخشوعه وتقواه هو فى نهاية المطاف كلب، بل كلب ابن كلب، ولا بد له أن ينبح لأن طبيعة الكلاب النباح بغض النظر عن مدى توغلها فى التقوى أو بقائها منها عند الوصيد. إننى الآن أعرف أن الكلاب يمكن أن تعطس كما يعطس البشر، وكان ذلك بعدما اسْتَشَرْتُ بعض الموسوعات عقب قراءتى لكلام الرواى عن عطاس الكلب، فوجدت فى موسوعة "Wikipedia" (فى مادة "Sneeze"، وتحت عنوان جانبى هو "Animals") ما نصه: "Sneezing isn't confined to humans or even mammals. Many animals, including cats, dogs, iguanas and chickens sneeze". وهذا كل ما هنالك فى هذه المادة عن عطاس الحيوانات، وقد أتى فيها على سبيل الاستطراد، بما يعنى أن عطاس الحيوانات شىء غير معروف للناس بوجه عام.
أقول هذا، وقد وُلِدْتُ ونشأت فى الريف، وكانت الكلاب أمامنا طوال الوقت فى الشوارع وفى الحقول وفى البيوت، ولا أذكر أنى رأيت أو سمعت كلبا، أو حتى قطا أو ديكا، يعطس. ولكن ما دلالة إشارة الكاتب مرارا فى روايته إلى عطاس الكلب؟ نعم لماذا جعله يعطس؟ أهو حشو الورق بأى كلام والسلام؟ إن عطاس الكلاب حدث غير عادى بالنسبة لنا نحن البشر العاديين حتى إننا لا نلتفت إلى أنها تعطس رغم أنها تفعل ذلك كما قرأت فى الموسوعة المذكورة. فما الذى يا ترى جعل المؤلف يذكر أن كلبه قد عطس بل ويكرر النص على هذا العطس؟ ذلك أن هذه، فيما أتذكر، هى المرة الأولى التى أقرأ فى قصة أو مقال أو كتاب أو رسالة بل أول مرة أرى أو أسمع فيها أن كلبا قد عطس. فلا بد إذن أن يكون لعطس الكلب فى روايتنا هذه معنى ومغزى، إذ الروايات والقصص لا تتسع لكل ما يخطر وما لا يخطر على بال مؤلفيها لمجرد أنْ قد عَنَّ لهم ذلك. ومثله التبول. فالكلاب لا تتبول فقط بل تتبرز أيضا، وقبل ذلك تأكل، وطوال الوقت تنبح، فلماذا لم يذكر المؤلف ذلك، واهتم بذكر التبول وحده؟ ومن البذاءات والشتائم التى تعج بها الرواية وصف الراوى للبطة التى يريد أن يصطادها بـ"الزانية" و"ابنة الزانية" (ص29، 34، 35، 38، 200، 208، 210 مثلا). والغريب مع هذا أنه يستدير فى موقف آخر فيسميها أيضا: "قديسة". فكيف تكون قديسة، وزانية وبنت زانية فى نفس الوقت؟ الله أعلم! كما ينعت كلبه وردان بـ"الزانى" (ص130).
وهناك عبارات وتشبيهات غريبة يلجأ إليها فى التعبير عن بعض الأشياء، فتكون النتيجة للأسف أن يغمض المعنى بعدما كان واضحا سهلا: فهو يتحدث مثلا عن ثالوث المجوس (ص12- 13). وقد وردت عبارة "الثالوث المجوسى" هذه فى سياق اعتراض الراوى على قضاء الله وسلطانه، فهو يخاطبه سبحانه قائلا: "إنك قد حكمت طويلا فى الماضى، ولكنْ من الآن فصاعدا سأكون أنا الذى يحكم. ثم يضيف أنه لا داعى للنطق بالبسملة لدن البدء بأى عمل لأنها لا تفيد، بل الذى يفيد هو العمل، فضلا عن أنه لا معنى لإضافة إله آخر للثالوث المجوسى" (ص12- 13). وهذا كله خبص ولبص، إذ راوى الحكاية لم يكن مجوسيا يوما حتى يعد الثالوث المجوسى هو الأصل. كما أن الإنسان حين يبسمل لا يضيف إلها رابعا للثالوث المجوسى فيكون عندنا "رابوع" بدلا من "الثالوث"، بل هو ينبذ ذلك الثالوث تماما ويستبدل به إلها واحدا. أليس كذلك؟
ترى ما ثالوث المجوس هذا؟ هكذا سوف يتساءل القارئ. والمفترض أن الصيادَ قائلَ هذا هو شخصٌ عادىٌّ لا يُنْتَظَر أن يخطر له هذا الأمر على بال، فضلا عن أن يعرفه معرفة واضحة، فهو أمر لا يلم به سوى المتخصصين أو القراء المتبحرين الذين لا يبدو أبدا أن الراوى واحد منهم. فكيف لا يجد فى الدنيا كلها على سعتها سوى هذا المصطلح الذى لا يحصِّل معناه سوى من يعرفون الديانة المجوسية؟ وأين هم فى روايتنا؟ إننا نعرف أن الثالوث موجود فى عدد من الديانات القديمة لا فى النصرانية وحدها، لكن ما الداعى للإشارة إلى الثالوث المجوسى بالذات، وفى هذا السياق حيث لا يعرف الثالوث المجوسى فى منطقتنا العربية والإسلامية إلا القليلون الذين تخصصوا فى تاريخ الفرس ودياناتهم أو توسعوا توسعا شديدا فى القراءة حول تلك الموضوعات؟ أم ترى الأمر مجرد استعراض ثقافى رخيص؟ وإلا فكما قلت: كم من قرائنا من يعرف الثالوث المجوسى؟
نعم كم واحدا منا يعرف ما تقوله الأفيستا من أن هناك ثلاثة آلهة فى البانتيون الفارسى تشكل "الثالوث الأهورى"، وأنها ثلاثة أقانيم: الأقنوم الأول أهورا مزدا، والأقنوم الثانى ميثرا المخلص الفادى المتجسد، والأقنوم الثالث أبام نبت، وأن ذلك الثالوث الأهورى يصوَّر فى شكل رجل مكون من ثلاث ريشات؟ ولقد قرأت كلاما كثيرا ومعقدا حول الثالوث الفارسى منه مثلا أن زرادشت عام 620 ق. م. قد أسس عقيدة الثالوث واختصر الآلهه إلى ثلاثه فقط هى الشمس إله النور، والقمر إله الظلام، ورع Rya إله الخصب والمطر، وأنه اختار ثلاثه من الأجداد القدماء لتمثيل الثالوث، وهم الأب آهورا مزدا (الشمس) والابن أهرامان (القمر) والأم العذراء أناهيتا (الشِّعْرَى). كما قرأت أيضا أنه فى عهد الملك شابور الأول 260م ظهر مذهب المانوية على يد مانى، الذى كان يعتقد أن العالم مركب من أصلين قديمين: الخيرGood (النور) والشر Evil (الظلام)، وأن الأب (Father of Greatness) قد نصب عرشه فى مملكة النور ومعه خمسة شيوخ (Shekhinas)، لكن لأنه كان نقيا غير أهل للصراع مع الشر فقد استدعى أم الحيــاة (Mother of Life)، التى أرسلت بدورها إلإنسان القديم (Original Man) المخلِّص الذى انتصر على قوى الظلام، وأنه فى كل مره تتغير أسماء آلهه الثالوث حتى أصبح لديهم قائمة ضخمة من الآلهة.
ثم ما معنى أن الله قد حكم قديما، وأنه قد جاء الدور على الراوى، أى الإنسان، ليتولى زمام الحكم فى العالم؟ معناه أن الاعتقاد فى الله كان هو السائد قديما، أما الآن فقد تنورت العقول، ولم يعد ثم مجال لمثل تلك الخرافات، وبالتالى ينبغى أن يكون الإنسان سيد مصيره بل سيد الكون بعدما انكشفت الخرافات وأصبح العقل المستنير ينبذها. وأغلب الظن أن الراوى يومئ إلى ما يزعمه الشيوعيون من أن تاريخ الإنسان الروحى قد بدأ أولا بالاعتقاد فى الخرافات والأساطير، ثم انتقل من ذلك إلى الدين، لينتهى فى العصور الحديثة إلى الإيمان بالعلم، والعلم وحده، الذى تمثله الشيوعية دون غيرها رغم أن تلك الشيوعية ذاتها قد انهارت تحت مطارق العلم وبدت عورتها فاضحة قبيحة بعدما تبين أنها لا تناسب الطبيعة الإنسانية بتاتا بل تخنقها خنقا حين فشت فشلا ذريعا فى تلبية حاجات البشر، وأولهم البشر الذين يعيشون فى البلاد التى أعلنت اعتناقها لها والأخذ بها فلسفةَ حياةٍ وحُكْمٍ وتقدُّمٍ.
وما دمنا فى المجوس فلنأخذ قوله أيضا حين فشل فى صيد البطة التى تدور حولها الرواية وأفلتت من بندقيته: "ولكن كيف أفلتت المجوسية؟" (ص14)، وبعدها بسطور قلائل: "وانتهى الأمر كله كأنه لم يكن. نسِيتُ وصايا المجوس". ترى ما معنى هذا أو ذاك؟ العلم عند الله وحده. بل إنى لا أظن أن الراوى نفسه، ولا الكاتب ذاته فوق البيعة، يعرف هذا أو ذاك. إنما هو كلام يرصه رصا ليس إلا. بل لقد بلغ من هوسه بالمجوسية أن عنون إحدى رواياته بـ"قصة حب مجوسية". وهذه بعض نصوص من تلك الرواية، التى تدور حول حب البطل الراوى لامرأة أرمينية متزوجة وتبدأ بصدامه مع القراء وتطاوله عليهم. ولنلاحظ أن كلامه عن الاعتراف عند النصارى خاطئ، إذ يقصره على الكنيسة الكاثوليكية فى حين أنه معروف عند الأرثوذكس أيضا: "لا أطلب منكم الرحمة ولا أريد عطفكم... قولوا أى شىء. ومع ذلك يجب أن أتكلم. تقولون: مراهقة؟ أحلام؟ حرمان؟ يمكن أن تقولوا أى شىء. ما أحسه حبا حقيقيا إذا تذكرت أرتعش. أحزن. تدوى فى رأسى أفكار لا حصر لها. وبعض الأحيان تجتاحنى رغبة للبكاء... وما دام الأمر هكذا وما دام ظنى بكم سيئا لدرجة كبيرة قد تسألون: لماذا إذن أقص عليكم هذا الذى حصل؟ وما أريد منكم؟ لكى أقطع عليكم الطريق وأسد أفواهكم أقول: إن الكنيسة الكاثوليكية الرحيمة القلب جعلت للإنسان طريقا للخلاص عندما كلفت الآباء المقدسين بتلقى الاعتراف. كما أن علم النفس المعاصر، بالضوء الخافت فى غرفة الطبيب والمقعد الوثير الذى يستلقى عليه المريض، أوجد طريقة لإذابة العذاب تمهيدا للشفاء. وأنتم؟ هل أنتم آباء الكنيسة أو أطباءُ نفسيون تتلقون الاعتراف؟ مرة أخرى لا يهمنى. أريد أن أقول ما حصل. سأقول ما حصل حتى لو نزلت السماء على الأرض".
كما لم ينس صاحب الرواية سفاهته المعتادة مع ربه وطبيعته التجديفية المتطاولة عليه سبحانه: "أيها الآباء المقدسون، تعالوا واسمعوا اعترافات رجل حزين: الأرض مليئة بالرجال الحزانى، وحتى الآن لم تسمعوا سوى اعترافات المخطئين، أما الذين يموتون كل لحظة فأنتم لا تعرفونهم. وحتى الذى فى السماء يستند على يد، و يعبث باليد الأخرى لا يعرف الالام التى يعانى منها الحزانى. وإذا كان يعرف فلماذا خلق هذا المقدار كله من الحزن؟". "قولوا أى شىء (ابتسموا. من حقكم ذلك): حرمان. مراهقة. حلم. لم يعد يهمنى ما دمت سلكت طريق الجلجلة. وأنتم، أيها الأساقفة، يجب أن تتسامحوا كثيرا لأنى مسيح مجوسى يحترق آلاف المرات كل ثانية. إن موت المخلِّص كان موتا واحدا، أما أنا فقد متُّ آلاف المرات، وما أزال أموت. كُفُّوا أذاكم عنى، وإلا...". "تصورت الرب نائما، وفى لحظة أخرى تصورته ضجرا، وأردته أن يتكلم، لكنه لم يفعل". "ليليان، لن أنساك أبدا. أخطئ كثيرا وأنا أقول هذه الكلمات، لكن دعينى أقول شيئا مجوسيا: النار التى اشتعلت فى قلبى يوما لن تنطفئ". "أيها الإله القاسى، أيتها الصدفة العمياء، لماذا يحصل كل شىء بهذا الشكل؟".
وفوق ذلك فالرواية تطفح بالضجر وبالبذاءات وبالصور والخيالات الأكروباتية المفتعلة لإدهاش القارئ والاستحواذ على إعجابه، مثلها فى ذلك مثل روايتنا التى نحن بصددها مما يدل على أن هذه طبيعة المؤلف، ولا علاقة لها بالبطل. وفضلا عن ذلك فهى غارقة فى الخمر والزنا والكلام الجنسى المباشر العارى. ومع هذا كله يصر البطل على أنه لم ولا يرتكب خطيئة! ويا ليت ا لرواية جيدة أو حتى متوسطة، إذن لكان هناك شىء إيجابى رغم هذا كله. لكن الرواية ساذجة تناسب المراهقين وحدهم وتلعب على مشاعرهم الملتهبة وتحاول أن تثير تمردهم على الأديان والتقاليد بحجة الحب.
وفى تفسير هذا العنوان يقول رائد الحوارى فى مقاله: "قصة حب مجوسية" المنشور بمحور الأدب والفن على موقع "الحوار المتمدن": "نؤكد بان الكاتب اختار اسم المجوسية كرد ثورى على حالة المرأة فى المجتمع العربى، وأيضا كشكل من أشكال الثورة على المعتقد الدينى السائد فى المنطقة العربية، وكأنه يتقدم إلى المجوسية التى تحمل فكرة النار المقدسية. فهو من خلال الاسم يكون قد أشار إلى النار التى يجب أن تبقى متقدة فى المجتمع خاصة تلك التى تتعلق بالمرأة، وأيضا تحمل فكرة التخلى عن الدين، إن كان مسيحيا أم إسلاميا، لصالح الفكرة التى قدمها، فهو يسير إلى الأمام وليس إلى الخلف، يجعلها فى مكانة عالية جدا لا يستطيع المجتمع أن يصل إليها. وما الحوار الذى دار بين البطل والكاهن إلا دليل عن أن المرأة فى هذه الرواية قد تجاوزت مكانة البشر، وتقدمت إلى مصاف الربات المقدسات". وقد علق أحد القراء على هذا الكلام قائلا: "عزيزى رائد الحوارى نَقَد رواية شيقة لابد أن أجدها وأقرأها! حقا إنها النار الأزلية التى تلمس أى شئ فتطهرها. وحتى ما غدت قذرا فى سموات الديانات الفضائية: "الحب والجنس" ستغدوا طاهرة عندما تلتمس حرارة النار الزرادشتية وتلبسها ردائآ أرجوانى حريرى الملمس، وتعطيها حرارة الشمس فى دنيا المعتقدات المثلجة. هذا وشكرا". وأرجو ألا يفوتكم عجز المعلق المتمرد المسكين فى الإملاء والتعبير عن أبسط الأفكار!
ومن تلك العبارات والتشبيهات التى لا يحقق الإنسان شيئا منها فى روايتنا التى نحن بصددها: "حين تركنا الجسر" قوله عن أبيه: "كان قاسيا كجدار مسجد" (ص30)، ووصفه لنفسه بأنه "إله ملىء بالصبر" (ص31)، وقوله عن كلبه وكثرة حركاته: "وردان لا يعرف إلا أن يدور حول نفسه مثل كاهن. لا يستطيع أن يبقى فى مكانه أكثر من دقيقة" (ص43). لكن الكاهن لا يفعل ذلك بل النادل فى المقهى، إذ يدور هنا وهناك بين الشاربين يلبى لهم الطلبات ويحمل الصوانى الممتلئة والفارغة، ولا يكف عن الالتفات إلى هذا أو ذاك قائلا: أيوه. جاى" أو إلى القهوجى مُعِدّ المشاريب: "وعندك واحد شاى وصلَّحُه". بالله أليس ذلك أمرا مضحكا؟ ثم متى نقول فى ديننا: "الكاهن"؟ هذه كلمة قلما يتداولها المسلمون. فنحن نعرف "الشيخ" و"مولانا" و"سيدنا" مثلا، أما الكاهن فلا. ومثلها قوله لكلبه: "اصرخ مثل كاهن عجوز" (ص66). كما نراه يسمى نفسه: "صياد الرب" (ص48). ترى ماذا يقصد بهذه التسمية العجيبة؟ وبعدها بصفحة يقول إنه فعل ذلك بثقة نبى صغير. لكن ما دخل الصغر هنا بالثقة؟ هل النبى الصغير تكون ثقته صغيرة، والكبير كبيرة؟ فكيف يا ترى نقيس الأنبياء ونصنفهم صغارا وكبارا حتى نعرف مقدار ثقة كل منهم بنفسه أو بربه؟ وعن صياد قابله مصادفة أثناء الصيد وظن أنه يخفى عنه بعض المعلومات التى يمكن أن تساعده فى اصطياد البطة المنشودة: "هذا الرجل المكروه يعرف شيئا لا يريد أن يقوله. ليبتلع كل ما يعرف ثم يبوله كخنزير" (ص63. وكما نرى فإنه يحب ذكر البول كثيرا).
وهناك العبارات والصور والتشابيه الأكروباتية، وهى فى الرواية أكثر من الهم على القلب: "كن يا وردان ثعلبا، وانتف من ذيلك شعرا، ثم ألصق الشعر فى فمك واغرق فى الماء. بهذه الطريقة لا تقتل عنقاء هذا الزمن وحدها بل وتقتل الأفاعى وديوك السمن التى تتساقط على أشجار العليق فوق المستنقع، وتستطيع ان تمسك بنات آوى من خصيانها" (ص8). "ستنطبق عليكِ الظلمة أيتها الطيور البائسة، وستتحولين فى لحظات إلى جمرات متقلصة ثم تَسْوَدِّين، وبعد ذلك ستمطرك السماء كما لو كنتِ أشياء زائدة. أتفهمين ما أقول أيتها السمنات الهاربة؟" (ص39). "ليأت الموت. احمله على كتفيك يا وردان. آه لو أصبحتَ نسرا يحمل الموت من الأماكن البعيدة. فنحن بحاجة إلى كمية ضخمة جدا من الموت" (ص154). "شعرت بالمرارة وأنا أفكر: الخيبة تبدأ ساعة الميلاد، من الأيام الأولى، ومع الحليب تتمطى، ثم فى الأزقة تنمو، وعلى مقاعد الدرس تكبر، وتسير كالظل فى الشوارع، ولا تغادر إنسان هذه الأرض: تسكن لحمه وعظمه" (ص183). قلت لنفسى: اخرس أيها الأعور. أنت قرد بذىء وأعور. وقد آن لك أن تنتهى... شعرت بحكة فى خصيتى. قلت لنفسى بثقة: زكى جُرَذٌ ينتقل من مرحاض لآخر، وآن له أن يختنق فى أحد المراحيض" (ص207).
ومن سمات أسلوب المنيف أيضا وجود عدد غير قليل من الأخطاء اللغوية. ولكن قبل البدء فى رصد بعض تلك الأخطاء أود أن أنبه إلى ثلاثة أمور: الأول أن كثيرا من الأخطاء اللغوية لا يمكن رصدها لأنها تتعلق بإعراب الحركات. وما دام الكاتب لا يثبت الحركات الإعرابية من فتحة وضمة وكسرة وسكنة على الحروف فمن المستحيل التنبه إلى ما تحتويه من أغاليط بخلاف الإعراب بالحروف، الذى يظهر فيه على التَّوِّ ما يقع فيه الكاتب من أخطاء. والثانى أن قلة أخطاء كثير من الكتاب فى عصرنا مرجعه لا إلى أنهم يحسنون لغتهم بل إلى أن هناك مراجعين لغويين يصححون لهم أخطاءهم قبل أن تصدر مؤلفاتهم، وإلا لكانت فضيحة بجلاجل. ومنهم كتاب مشاهير لكنهم لا يحسنون الكتابة ولا القراءة السليمة. ولكننا أُمِرْنا أن نأخذَ الناس بظاهرهم، ونَكِلَ حقيقة أمرهم للمولى سبحانه. والثالث أن الأخطاء اللغوية ليست نحوية وصرفية فقط، بل هناك الأخطاء المعجمية أيضا. أى استعمال لفظ استعمالا خاطئا. ولعل القراء لم يَنْسَوْا ما سبق أن نبهنا إلى خطئه من كلام الكاتب كما هو الحال مع جمع كلمة "خصية" وكما هو الحال مع استعماله لتعبير "حتى الثمالة" خارج موضعه تماما جراء الضحالة اللغوية التى يتسم بها المنيف رغم شهرته البعيدة.
ومن تلك الأخطاء اللغوية التى قابلتنى فى الرواية كذلك قول الراوى: "لم أنتظر جوابا من الديوك. قلبْتها بتوسل، لكن رخاوتها المسبولة فوق البلاط ظلت مستمرة" (ص8). ويمكنك أن تقول: "طريق مسبولة" أى يسلكها الناس. أما هنا فالمفروض أن يقال: "مُسْبَلَة"، أى مُرْخَاة، بمعنى "مفرودة أو منشورة". فنحن نقول مثلا: "أَسْبَل محمدٌ الستارةَ" لا "سَبَلَها". وهذا، كما ترى، خطأ صرفى، إذ استعمل المنيف الفعل المجرد بدلا من الفعل المزيد بهمزة. وكان يمكن تحنب هذا الخطإ ومثله باكتساب عادة الرجوع إلى المعاجم، تلك الفضيلة التى نادرا ما يفكر فى إحرازها كاتب من كتابنا، وبخاصة من العباقرة أمثال المنيف. فالواحد منهم ينطلق كالبلدوزر مكتسحا فى طريقه الأخضر (أو الصحراوى. سِيَّان) كل قواعد اللغة ولوائحها وقوانينها.
ومن ذلك أيضا قوله: "بضعة كلمات" (ص25)، وصوابها "بضع" لا "بضعة": "بضع كلمات"، إذ حق عدد التمييز من ثلاثة إلى عشرة هو المخالفة: فإذا كان التمييز مذكرا جئنا بالعدد مؤنثا، والعكس بالعكس. ومنه "لا بد وأنها..." (ص49. وقد تكرر هذا الخطأ ص50 مثلا) بزيادة "واو" بين "بد" والكلمة التى بعدها. وهو غير مقبول لأن أصل الكلام هو: "لا بد (أى لا مفر) من أنها..."، ثم أُسْقِط حرف الجر من أمام "أنْ"، وهو أمر جائز كأن نقول مثلا: "نصحته أن..." بدلا من "نصحته بأن..."، و"أصر سعيد أن يسافر" بدلا من "أصر على أن..."... إلخ. فما وظيفة الواو هنا؟ ترى هل يصح أن نقول: "لا بد وعودتى الآن" بمعنى "لا بد من عودتى الآن"؟ فهذا مثل هذا. ومن أخطائه اللغوية كذلك قول الراوى: "خطواتى التى تزرع الفضاء" (ص58. وصوابها بالذال لا الزاى: "تذرع"). ومنها أيضا: "إذا كان غير الجلّط موجود" (ص61). والخطأ واضح وضوحا ساطعا، وصوابه: "إذا كان غير الجلط موجودا". وفى قوله: "معطوب" (ص64) كان ينبغى أن يتنبه إلى أن الفعل لازم على وزن "فَعِل يَفْعَل"، ومن ثم لا يأتى منه اسم مفعول، بل صفة مشبهة: "عَطِبٌ" كما فى قول بشار بن برد مثلا يصف ما يلاقيه من بُرَحاء الآلام جراء هجران حبيبته إياه:
أُراقِبُ النفسَ فى الحياةِ، وقد
أَيْقَنْتُ أنى بِتَرْكِها عَطِبُ ‏

ومثلها فى نفس الصفحة الصفة "مُدَاسَة"، وهى اسم مفعول من "أداس". والفعل الصحيح هو "داس"، والصفة منه "مَدُوس" كـ"قال يقول" فهو "مَقُول"، و"عاد يعود" (بمعنى "زار المريض") فهو "مَعُود"، و"زار يزور" فهو "مَزُور"، و"رام يروم" فهو "مَرُوم"، و"سام يسوم" فهو "مَسُوم"، و"عال يَعُول" فهو "مَعُول"، و"لام يلوم" فهو "مَلُوم"، و"ساق يسوق" فهو "مَسُوق"، و"ناط ينوط" فهو "مَنُوط"، و"قاد يقود" فهو "مَقُود"، و"فات يفوت" فهو "مَفُوت"، و"خان يخون" فهو "مَخُون"، و"ذاد يذود" فهو "مَذُود"، و"ساك (نظَّف بالسواك) يسوك" فهو "مَسُوك"، و"ساط يسوط" فهو "مَسُوط"، و"ساد يسود" فهو "مَسُود"، و"داف يدوف" فهو "مَدُوف"، و"شاب يشوب" فهو "مَشُوب"...
وهناك أيضا استعماله لـ"لمّا" (بمعنى "عندما") مع الفعل المضارع كما نفعل فى العامية على حين أنها فى الفصحى لا تدخل إلا على الفعل الماضى كما فى قوله تعالى: "فلما أَلْقَوْا سَحَرُوا أعينَ الناس"، "ولمّا فتحوا متاعَهم..."، "ولما وَرَد (أى موسى) ماءَ مَدْيَن..."، ومعناها "حينما"، أما إذا دخلت على المضارع فإنها تنقلب جازمة ويتحول معناها إلى "ليس بعد" كقوله تعالى: "أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ"، "بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ"، "كلا لمَّا يَقْضِ ما أَمَرَه". ويجد القارئ فى الرواية شواهد من هذا الاستعمال المنحرف فى الصفحات 70، 133، 162، 175، 178.
وقد ألفيته يثبت ياء الاسم الناقص النكرة فى غير النصب، والمفروض أن تحذف هذه الياء، فنقول: ماضٍ، قاضٍ، مُتَوَلٍّ، مُوصٍ، مُسْتَعْلٍ، مَسَاعٍ، متسامٍ... وقد تكرر هذا المأخذ عنده مرات منها "سَوَاقى" عوضا عن "سواقٍ" (ص81)، و"تَمَطِّى" بدلا من "تمطٍّ" (ص176). وهويجمع "سطْح" على "أسطِحة" (ص138)، وهو جمع غريب لا أذكر أنى قابلته من قبل، بل قابلت "أسطح" و"سطوح". أما فى قوله: "كان لسقوطها نغما لذيذا دافئا" (ص82) فقد نصب اسم "كان" بدلا من رفعه، ليصنع العكس فى "... أن كل ما أراه شفافا زجاجيا" (ص150)، إذ ينصب خبر "أنّ"، وحقه الرفع كما هو معروف. وفى الشاهد التالى نراه يرتبك بين الضمائر فيقول: "عيناه، عندما انزلقتا بعيدا عنى، كانت تمتلئان بالكراهية" (ص108). وصوابها: "كانتا تمتلئان...". وأتصور أن ارتباكه بين الضمائر فى هذه الجملة كان أفدح من ذلك، ثم أصلحها له المدقق اللغوى، لكنه لم يصلح كل شىء فيها، فبقى هذا الخطأ. كما يقول الراوى لكلبه: "إِقْعِى" (ص153)، فيرتكب خطأين: أحدهما إثبات الهمزة تحت الألف، وموضعها فوقها، وثانيهما إثبات الياء فى آخر فعل الأمر، وحقها الحذف لانجزامها، فنقول: "أَقْعِ". وفى ص153 نراه بدلا من أن يقول: "أعدانى فَرَحُه" يقول: "عدانى". وقد تكرر استعماله الفعل: "صَدَفَه" بمعنى "صادفه". وهو استخدام خاطئ، فهذه الصيغة تعنى "صَرَفَه (عن كذا)".
وهو يستعمل كلمة "الرب" كثيرا، مما لا يستعمله المسلمون عادة، إذ يقولون: "الله". وبالمثل ألفيناه يقول: "الكاهن" عوضا عن "الشيخ" أو "الإمام" مثلا كما سبق ا لتنبيه إليه. وقد لاحظت أنه قد استعمل الفعل: "يخرمش" بدلا من "يخربش"، وكلتا الصيغتين موجودة فى "المعجم"، وإن لم يكن معناهما فى العامية هو هو بالضبط فى الفصحى، التى يدل فيها هذان الفعلان على "الإفساد" بوجه عام لا على "الخدش أو الخمش" تحديدا. كذلك رأيته يستخدم الفعل: "دَفَرَ" أكثر من مرة واقعا على كلبه المسكين، وهو لفظ لا أتذكر أنى قرأته عند أحد من قبل لا فى القديم ولا فى الحديث، وفهمت منه أنه قد دفع عنه كلبه بعيدا بقدمه، واتضح فعلا أن معناه الدفع فى الصدر أو فى القفا حسبما تقول المعاجم، وإن لم تنص على العضو الذى يتم الدفع بوساطته. وهذه اللفظة هى أحد المكاسب القليلة بل الشحيحة التى خرجت بها من الرواية. وهناك أيضا "الحاكورة"، التى خمنت أن المراد بها قطعة أرض، فلم أبعد عن المعنى الصحيح، إذ قرأت فى "تاج العروس" أنها "قِطْعَةُ أَرضٍ تُحْكَر لزَرْع الأَشْجَارِ قَرِيبَة مِنَ الدُّورِ والمَنَازِل" وأنها لفظة شاميّة. وثم لفظ آخر هو "قَرْمَضَ"، التى لم أعرف معناها بالضبط، وإن كانت قد أتت فى سياق الحديث عن ديك السمن الذى "قرمض" على الحجر كأنه لا يزال حيا. فالحمد لله أن خرجت بشىء آخر من تلك الرواية المملة الضعيفة المتهافتة. وهناك لفظة أخرى قابلتنى فى نهاية الرواية هى "عاكَرَ"، وكانت عن وردان وهو يعاكر الريح بينما كان صاحبه يعاكر أعواد القصب فى المستنقع حين سقطت البطة الملِكة أخيرا بطلقة رصاص فى الماء. وهذا الفعل مشتق من "عَكَرَ"، أى كر عليه وهجم. و"تعاكرا" تشاجرا فى خصومة. وليس هذا المعنى ببعيد عما جاء فى الكتاب.
ومما تتميز به لغة الرواية أيضا قصر جملها بوجه عام، وقلة الروابط بينها، إذ الكاتب يقطع كثيرا من جمله عما قبلها وعما بعدها. فهى جمل مستأنفة فى معظم الأحيان، وبدون واو الاستئناف عادة، فكأنك أمام أسلوب أوربى. وهذا مثال على ذلك الأسلوب مأخوذ من الصفحة التاسعة، والحديث فيه عن كلب البطل: "احتكَّ بساقى. دار حولى. لكن لما رآنى أهمهم بلعنات يائسة ابتعد كما لو كان يريد العودة من حيث أتينا. استعدتُ فى مخيلتى صورة الطريق: الخندق الملىء بالماء، القنطرة الصغيرة، أشجار الجوز العارية، أشجار الحَوْر، ثم العُلَّيْقة. قلت فى نفسى: وردان لا يتنازل ولا يرعوى. أما أنا فكلب سائب يخاف من تلويحة اليد: فكرت. انتفضت فجأة. ضربت الماء بصوت أقرب إلى الدوىّ. انْخَضَّتْ وهى تترامى على طول النهر. كانت خائفة". وقد تنبهت لهذا الأسلوب منذ سبعينات القرن الماضى، وجريت عليه فى بعض أقاصيصى التى كتبتها يوم كنت أظننى قصاصا يمكن أن يأتى منه شىء، لكن الله سلم وأفاء علىَّ عقلى، فأقلعت ولزمت حدودى. ثم تنبهت، مع تعمقى فى عالم الأدب والقصة، إلى أنه لا يصح فى العمل الروائى أن يُكْتَب كله على هذا النحو عاطلا مع باطل، وفى المواقف المتسارعة والمواقف المتباطئة على حد سواء، إذ ينبغى أن يكون لكل حادث حديث، ولكل موقف وحالة نفسية أسلوب خاص. أليس كذلك؟
وهناك سمة أخرى منتشرة فى الرواية على نحو يُقْذِى ويُؤْذِى النفس، وقد سبق أن ألمحنا إليها. وهى التجديف فى حق الله سبحانه وحق أنبيائه ودينه. ولنأخذ بعض الشواهد، بعضها فقط، والرواية موجودة لمن يريد مزيدا منها، وهى كثيرة: "قلت لإله مجهول لا أعترف له بأى سلطان: فى الماضى حكمتَ كل شىء. والآن أنا الذى سأحكم. اخلق بقدر ما تشاء، وسأقتل، حتى إذا التقينا وتواجهت أعيننا فسوف تعرف أن الإنسان أقوى من كل المخلوقات. ليس أقواها فقط بل أشرسها! وفكرت بأسى: اليأس ينتشر فى روحى كما لو أنه دم آخر. ولكن كيف تسرب إلىَّ هذا الشىء الذى حاربته طوال سنين؟ سألت نفسى: ماذا أخسر لو قلت: باسم الله؟ قلت بتحدٍّ: أضعتُ كل شىء. أضعت الثالوث المجوسى الذى أتّبعه فى الصيد، والذى أردده بلا توقف فى ساعات الصفاء، ولم أظفر. الآن إذا أضفت اسما جديدا فماذا يفيدنى؟" (ص12- 13).
وواضح مقدار التناقض والاضطراب فى هذا الكلام مما يدل على أن هذا التجديف ليس نابعا من اعتقاد حقيقى لدى الراوى. فهو يقول: "إله غامض". ومعنى هذا أن هناك إلها، إلا أنه غير واضح للراوى. بل إن مخاطبته لذلك الإله يبرهن برهانا ساطعا على أن الراوى غير مقتنع بما يزعم بشأنه، وإلا فهل يخاطب الإنسان كائنا غير موجود؟ ثم إنه يسمى الكائنات (وهذه كلمة محايدة) بـ"المخلوقات"، التى تعنى أن ثم خالقا خلقها. فكيف يتسق هذا كله ودعواه بأنه لا يوجد إله؟ من الواضح الجلى أن الأمر مجرد عناد وحقد صبيانى على الدين ليس غير.
ونراه كذلك يقول لكلبه وردان وهو يلكزه: "قل شيئا لربك المخذول. لم نبق إلا أنا وأنت يا وردان" (ص18. ولاحظ الخطأ التركيبى فى الجملة، إذ ينبغى أن يقول: "لم يبق إلا أنا وأنت يا وردان"، وإلا لكان الراوى يستثنى نفسه وكلبه من نفسه وكلبه، وهو ما لايستقيم منطقا. أما على التركيب البديل فالمعنى: "لم يبق أحد إلا أنا وأنت يا وردان". وإنى لأتصور أن لو كان الكلب هو صائغ هذه الجملة لصاغها، وهو الكلب، على نحو سليم). ومع هذا التجديف السفيه نرى الراوى يشبّه نفسه فى ذات الوقت بـ"إله ملىء بالصبر"، بما يدل على أن ثم إلها، وإلها صبورا أيضا لا يسارع بمعاقبة المخلوقات بل يعطيها الفرصة تلو الفرصة، فلعلها تستفيق مما تردت فيه من أخطاء وخطايا. وعلى نفس المنوال يَشِى قوله لكلبه: "لقد فقدت السماء بركتها منذ أن التقينا" بأنه يؤمن بالسماء، أى بوجود إله، وأن فيها بركة، وإن انقطعت تلك البركة منذ التقى هو وكلبه. والمفارقة أنه بعد سطر ليس إلا يدعو لأبيه قائلا: "ولترحم السماء أبى ولتباركه". إذن فالإله موجود، والبركة متاحة لم تَزُلْ من الوجود بعد ولا حتى من وجوده هو الشخصى، على عكس ما صرح به من قبل.
وحين يشتبه عليه الأمر فى أن يكون الطائر الذى ظهر له ثم فر منه فلم يستطع اصطياده هو البطة التى يتطلع بكل إصرار إلى إسقاطها يعقب قائلا: "إنها العنقاء. سألتُ نفسى بجدية وكبرياء: هل العنقاء موجودة إلا فى مخيلة المرضى والمعتوهين؟ أضفت بثقة: والأنبياء؟" (ص39). فهو أولا ينسب إلى الأنبياء تصديقهم لخرافة العنقاء، وثانيا يضعهم فى مصاف المرضى والمعتوهين: مرضى العقل طبعا. ومع ذلك نراه فى صفحة 48 يصف نفسه بأنه "صياد الرب"، ومن ثم فهو"لا يخطئ"، وأنه "القَدَر" الذى لا يمكن أن تفلت منه البطة المنشودة. وبعد عدة صفحات أخر يعود فيقول مناقضا نفسه حين أكد انقشاع البركة عنه هو وكلبه بمجرد التقائهما: "أنت يا زكى صياد له تجربة، وقد حلت عليك بركة السماء!" (ص50).
لكنه فى الصفحة التالية مباشرة يعود فيقول: "حتى الله عندما يريد أن يسحب أرواح البشر يفعل ذلك بخبث لكيلا يحسوا!". فهو إذن يؤمن بوجود إله، إلا أن هذا الإيمان لا يمنعه، رغم ذلك، التجديفَ فى حق الله والتطاولَ على مقامه سبحانه. وحين يفقد توازنه وهو يسير فى منطقة الصيد يقول: "فكرت: شكرا لله أن الإنسان لا يمشى بهذه الطريقة دائما" (ص54). وبعدها بعدة صفحات يعلن بقوة أن وردان هو "أشرف كلب خلقه الله" (ص59). وبعدها بعدة صفحات أخرى ينقلب رأسا على عقب قائلا للتدليل على أن الأمر فى الصيد أمر إحكام التصويب، وحينئذ "لن يفلت الرب من الطلقة" (ص68). وهى هلوسات وقحة لا معنى لها، وتدل على أن عقل الراوى، والكاتب من ورائه، مضطرب غير مستقيم، وأن قلبه يعيث فيه دود الحقد والتمرد الغبى. وبنفس الوقاحة يخاطب كلبه وردان قائلا: "قل لى أيها الإله ذو الآذان المتهدلة: متى تشرئبّ آذانك؟ ومتى تنظر إلى كل ما حولك خاصة إلى الأمام؟" (ص129). وبالمناسبة كان يجب على الكاتب أن يقول:"أيها الإله ذا الآذان المتهدلة" بنصب نعت المنادى لإضافته على هذا النحو. وفى شرح ابن عقيل على "ألفية ابن مالك" نقرأ أنه "إذا كان تابع المنادى المضموم مضافا غير مصاحب للألف واللام وجب نصبه نحو: يا زيدُ صاحبَ عمرٍو". وهو ما ينطبق، كما نرى، على التركيب الذى أمامنا. وفى موضع آخر نراه يقول لكلبه وهو يتبول، وقد رأينا مدى غرامه بالحديث عن البول والتبول: "لا تعلِّمِ الطريق. عليك أن تبول مرة واحدة. صحيح أنه طريق الجلجلة، لكن المسيح مات" (ص141). وواضح مدى غرامه بالاستفزاز دونما أدنى داع. فالإنسان لا يناقش كلبه فى الدين والأنبياء، وبهذه الطريقة! إنما هى حكة عند المؤلف لا تجعله يهنأ أبدا بل تَأْطِره على الهرش أَطْرًا تخلُّصًا من الألم، لكن جلده لا يزداد على الهرش إلا ألما وعذابا مما يدفعه إلى مزيد من الهرش والحكّ... وهكذا دواليك!
وعلى نفس المنوال يقول حين تنبه إلى أنه يكثر من الكلام إلى نفسه: "وفكرت: لو رآنى أحد الآن أتكلم هكذا، أتصرف هكذا، هل يتصور أنى مجرد مجنون؟" لتعاوده الحكة التى لا ترحم فيشرع فى الهرش العنيف المدمى لجلده، ويصرخ بتحدٍّ قائلا: "زكى نداوى أعقل من الإله!" (ص151). وهو لا يكتفى بتجديفه فى حق الله، بل يزعم أن الآخرين يجدفون كذلك فى حقه سبحانه، فيقول عن الصياد العجوز الذى قابله عدة مرات أثناء الصيد إن ذلك الصياد بعدما قال خلال نقاش دار بينهما عن المطر: "الله أعلم": "ضحك. كاد يقول إنه يعلم أكثر من الله" مع أن الرجل الطيب لا يمكن أن يقول هذا بل لا يمكن أن يخطر له شىء من هذا ولا حتى فى المنام والأحلام والأوهام، إذ كان مؤمنا جيدا يتوضأ ويصلى ويتحدث عن الله فى إجلال المؤمنين، زيادة على أن ما تفوه به حينئذ لا ينبئ بشىء من هذا، فهو يقول: "الله أعلم". أما إذا كان الكاتب (أو الراوى: سيان) قد زعم أنه إنما كان يريد أو يوشك أن يقول إنه يعلم أفضل من الله فهذه ليست مشكلته ولا مسؤوليته بل مشكلة الراوى (أو الكاتب) وسفاهته وكذبه واختلاقه الأباطيل على الصياد المسكين. إنها، كما قلت، الحكة المرضية التى لا تترك الراوى، وكذلك الكاتب من ورائه، يهنأ بشىء أبدا فلا يملك نفسه من التجديف فى حق الله. بل إنه ليقول (ص163): "تصورت أنه سيجدف فى حق الله!" مع أن هذا، كما قلنا، لا يمكن أن يقع أبدا من الصياد الطيب.
وواضح أن هذا الجانب من شخصية الراوى مضطرب غير متناسق. وهو عيب فنى كبير، إذ إن إحكام رسم الشخصيات هو أحد مقومات النجاح القصصى، وبدونه يهتز العمل فى يد الكاتب ويفقد جزءا ضخما من تأثيره وإقناعه. ومن الواضح أن الكاتب يحمّله فوق طاقته ويُنْطِقه بكلامه هو ويُجْرِى فى ذهنه أفكاره وآراءه هو، إذ إن شخصيته لا تؤهله لشىء من ذلك، فهو مجرد صياد غير مثقف ولا مشغول بأمور الفكر والفلسفة والدين رغم أنه قد أشار مرتين إلى كتاب يقرؤه. بيد أنهما إشارتان عارضتان لم يتلبث عندهما ولم يذكر أى نوع من الكتب يقرأ ولا أية أفكار استقاها من تلك الكتب مثلما لم نفهم منهما أن القراءة أمر أساسى فى حياته بل مجرد وسيلة يلجأ إليها حينا بعد حين آخر النهار يتسلى بها قبل النوم مثلا.
ثم منذ متى يشغل الصياد نفسه بتلك القضايا، وبالذات أثناء الصيد وفى الهواء الطلق حين يكون معه كلبه، وكُلُّ تركيزه منصبٌّ على تتبع فريسته والإيقاع بها وتدقيق التصويب عليها وما إلى ذلك؟ ومنذ متى كان الصيادون يتخذون من كلابهم رفقاء فكر وتفلسف وكلام فى العقائد وتجديف فى حق الله وسِبَاب للدين وتطاول على الأنبياء؟ كما فات الكاتب أن يرينا الكيفية التى انتهت بالصياد العجيب إلى هذه الأفكار. إننا نفاجأ به من أول الرواية إلى آخرها هكذا دون أن نعرف البواعث التى حملته على هذا الموقف المتمرد المضطرب، ودون أن نعرف الظروف التى مر بها فجعلت منه كائنا سليط اللسان لا يوقر أحدا ولا شيئا. إن واجب الراوى هو تعليل وضع شخصياته، وبخاصة أبطاله الذين يتصدرون العمل الروائى، وإقناعنا بأن هذا الوضع وضع طبيعى مفهوم لا أن يقول لنا إن هذا هو وضعهم الذى وجدتهم عليه، ومن يعجبه أن يقبلهم على ما هم عليه فليفعل، ومن لا يعجبه هذا الوضع فليشرب من البحر.
هذه رواية فاشلة بكل تأكيد. ولو كان التأليف الروائى هكذا لصار الناس جميعا روائيين من الطراز الأول. التأليف الروائى يقتضى التعليل لكل صغيرة وكبيرة فى العمل القصصى، وإلا لتحول ذلك العمل إلى حكاية أو حدوتة تتتالى فيها الأحداث والشخصيات كيفما اتفق دون التزام بمنطق أو سببية. ومن البيِّن الجلىّ أن المؤلف قد حول بطله إلى دمية من دُمَى مسرح العرائس وأمسك بخيوطها وأخذ من بداية الرواية إلى ختامها يحركها كيفما يشاء دون اعتبار لاستقلالها، ودون أية مراعاة لقيود الفن، ودون أى احترام لعقولنا تصورا منه أننا مجرد متلقّين عوامَّ كل ما يهمهم هو الثرثرة التى يمطرنا بها وتتابُع الأحداث التى يغزلها وينسجها لنا. بل إنه حتى فى هذا الجانب قد فشل فشلا ذريعا، إذ الأحداث ساكنة لا تتطور منذ مفتتح الرواية إلى منتهاها، بل إنها تخلو تماما من أى تشويق، اللهم إلا فى المشهد الأخير حين أسقط البطل طائره وانصرف عنه كلبه لا ندرى أين، فكان عليه أن يخوض فى الماء ليلتقط بنفسه الطائر الجريح من على سطح الماء. ذلك أننى، طول الفقرات القليلة التى خصصها لذلك المشهد، قد وضعت يدى على قلبى خشية أن تفلت منه فريسته أو يغرق هو فى الماء أو يجرفه أو يجرف طائره التيار فيبعد كلا منهما عن الآخر، ويفشل فى التقاط ثمرة جهوده المتتالية الطويلة التى امتدت أسابيع وشهورا. أما على طول الرواية التى استغرقت أكثر من مائتى صفحة فلم أجد أى تشويق أو تطوير، بل الملل مجسدا ألمسه باليد لمسا. فإذا أضفنا إلى ذلك ما تعجّ به الرواية، حسبما رأينا بأنفسنا، من تطاول على الله وعلى الدين والأنبياء دونما أدنى داع فنى أو غير فنى بل تنفيسا عن أحقاد على الدين وأهله لا يستطيع كبحها ولا تهذيبها ولا تقديمها بشىء من اللياقة يراعى فيه طبيعة قارئه العربى المسلم على الأقل، تبين لنا أى فشل شنيع قد حاق بالكاتب.
بل إن موقفه من كلبه لا يقل سخفا ولا اضطرابا ولا تناقضا: فمرة يشتمه ويهدده ويتوعده بالويل والثبور وعظائم الأمور، ومرة ينقلب فيثنى عليه ويمدحه، وإن كانت الأولى أَسْيَد، ولا أدرى لِمَهْ. فوردان، فيما شعرت، مخلوق لطيف نبيل. وهو يقينا أنبل من صاحبه المهووس السفيه، فهو على الأقل يسمع كلام صاحبه ولا يتساخف تساخفَه فيجدّف فى حق الله ودينه. ذلك أن الكلاب أعقل وأفهم وأنظف وأطهر من هذا الصنف من البشر. فهى لا تأكل ثم تبصق فى الإناء الذى أكلت أو شربت فيه كما يفعل هذا الصنف التاعس البائس من الحيوانات الناطقة، أولئك الذين يتنكرون لربهم بعد أن خلقهم ورزقهم وأعطاهم عقولا يفكرون بها فنبذوها واستبدلوا بها جزما قديمة لا تصلح للبس فى القدم، بله القيام بوظيفة العقل فى التفكير والتدبير. وإنى لأتخيل وردان الظريف وهو يتقافز حول ذلك الرجل المتخلف القاسى القلب المتحجر الضمير المتحلل العقل، ويسمع كلامه وينفذ له ما يريد لعله يرضيه، فلا يظفر منه بالرضا إلا فى النادر الشاذ، وللحظات ضئيلة سرعان ما تمر فى لمح البصر. وهذه بعض أقاويله عنه:
"سأقطع ذيلك يا وردان وأجعله قلادة. ماذا تقول؟" (ص9. وجوابى أنا: سيقول إنك مجنون أحمق وثرثار أقرع)، "عد أيها الخنزير. سأقطع ذيلك وأطعمه كلبا آخر، كلبا سائبا" (ص9)، "وردان أيها الأجرب، ألا تسمعها (أى الكلاب النابحة)؟ سأقتلها. سأجعل جلودها أحذية لك" (ص10. بالله عليكم أليس خفيف العقل؟)، "وأنت يا وردان، أتعرف كيف ترقد بلا حركة؟ لا أريدك أن تتنفس. املأ خياشيمك بحفنة من التراب وارقد. أما الحركة المجنونة، الغليان الذى يتفصد منك كما لو أنك مع سرب من الكلاب السائبة تلاحق كلبة قذرة، فأوقفه. إذا تحرك ذيلك سوف أقطعه. أما إذا خفقت بجسدك كخرقة بالية فسوف أجعلك لقمة للجِرْذان. تعلم الطاعة أيها الجُرَذ المدلل" (ص29)، "اسمع ما أقول لك أيها الثور. ماذا لو ربطتُك إلى شجرة بعيدة؟ أتخشى الوحدة، الضجر؟ أتعوى حتى تفزع الحشرات والضفادع وكل شىء؟ يجب أن نتفق يا وردان" (ص31)، "وردان، أنت دودة رخوة تتحرك بلا هدف" (ص77)، "قلت لنفسى: وردان حيوان داعر" (ص82. يا للسان الطاهر العفيف!)، "تعال أيها الجاموس... هل تسمعنى أيها الجاموس المخصى؟... اترك الأشياء فى أماكنها أيها الدعى... تدققتُ وردان بذعر. قلت لنفسى: رأى الزانى شيئا" (ص130. هذا رجل لسانه متبرئ منه لا يستطيع أن يكبح جماح البذاءات التى تنطلق منه كأنها سيل جرار طافح من بالوعة مجارٍ!)، "اترك المكان أيها الكلب الضالّ" (ص180)، "دفرتُ وردان مرة ثانية، دفرته بحقد. تكوَّر. رفع ظهره قليلا، وتطلع نحوى بطرف وجهه كأنه يتساءل" (ص185)، "قلت لوردان: ارفع يديك للرب، للطبيعة، لا أعرف، وقل له أن يفرج عن القمر. أما إذا حاول السخرية منا، كأن يلقى بظله فوق الأشياء بما فيها القمر، فلن تأتى أسراب البط" (ص186. وواضح مدى التفاهة العقلية والتنطع وانعدام الذوق لدى صيادنا الغبى الوقح فى حشر الكلب المسكين فى مثل هذه الأمور فى الوقت الذى لا يستطيع معاملة ذلك الكائن الرقيق الذكى الظريف بشىء من الإنسانية، إن لم يكن استجابة للدوافع الأخلاقية فليكن استجابة للمصلحة الشخصية. أليس هذا الكائن المسكين يقوم بخدمة ذلك الفَدْم المتخلف الغليظ الفهم والمشاعر؟ وعلى هذا فمصلحته تقتضى أن يعامل كلبه بفهم وذوق ورحمة). وفى آخر الرواية نرى الصياد البذىء لا يكف عن إهانة وردان الظريف الذى أُحِسّ فى الواقع أنه أكثر من صاحبه إنسانية ولياقة وظرفا ولطفا، فيقول له مستحثا إياه على التقدم نحو الماء لالتقاط البطة: "أنت، يا وردان، حصان... تقدم أيها العربيد... لا تخف أيها الصِلُّ... أيها الصِّلُّ الأعمى... اقترب أيها المسخ المعوجّ الحنك... أيها الخنزير، لا تفسد رائحتها. ابتعد. كنتَ أولى منها بالقتل". أما البطة فقال لها: "أيتها الزانية المبادة، أحطمك الآن لو تنفستِ. ما أنتِ يا حقيرة؟... لا تعرفين إلا المذلة والاغتصاب يا عاهرة!... أدمرك إذا تحركت يا ابنة الكلب". وهكذا بدأ صيادنا الملوث الفم والعقل والقلب بسيول من البذاءة، وختمها بسيول من البذاءة أخرى، فكان بحق وحقيق بذيئا بامتياز! بل لقد هدد وردان ذات مرة بأن يضع العصا فى مؤخرته (ص147). والغريب أنه، رغم ذلك كله، يتهم كلبه اللطيف المهذب بالبذاءة (ص24- 25). لكنه سرعان ما يفضح نفسه إذ وصف أمه بأنها نابية الكلمات وبالتطاول والقسوة على أبيه (ص25). وواضح أن نتانة اللسان أتته عن طريق الوراثة.
وإنى لأستعجب من موقف ذلك الصياد ذى الفم المنتن تجاه كلبه الظريف. لقد درج الشعراء العرب على الافتخار بحيواناتهم التى تصاحبهم فى رحلاتهم وفى صيدهم حتى لقد خصص امرؤ القيس مثلا قسما من معلقته لوصف حصانه وصف المفاخر المنتشى مثلما وقف طرفة بن العبد قسما مثله من معلقته الفريدة للثناء على ناقته فى بهجة وحبور. أما عنترة فقد أوفى على النجوم فى حديثه عن حصانه وإليه، وأتى بالشادِه المبدع. وفى العصر العباسى ألفينا أبا نواس وعبد الله بن المعتز وتميم بن المعز يفردون لكلاب صيدهم قصائد غاية فى الروعة والبراعة والجمال يبرز فيها الكلب كأنه ملك متوج، فيفتخر به الشاعر ويضفر له أكاليل المديح مكافأة له على إنجازاته فى صحبته أثناء الصيد. ولدينا فى العصر الحديث رثاء العقاد لكلبه: بيجو، وهو رثاء سامق وقف عنده كثير ممن كتبوا عن شعر العقاد وما فيه من نزعات إنسانية بديعة.
وليس هذا مقصورا على أدبنا بل هو موجود فيما قرأنا من آداب الأمم الأخرى أيضا . كذلك للكلب عند الإنجليز مثلا، حسبما رأينا ونحن نقيم بينهم لسنوات، منزلة كبيرة إذ يتخذه كثير منهم رفيقا له فى الحياة داخل البيت وخارجه، وبخاصة فى الحدائق العامة، فتراهم يحدثونه ويثنون عليه إذا ما أطاع ونفذ ما يريدون، أو يتظاهرون بالعتب عليه إذا ما أهمل أو تلكأ أو نسى، لكن دون أن يدفروه أو يشتموه أويحقروه. لكنهم طبعا لا يفقدون عقولهم ولا حصافتهم يوما فيدخلوه معهم فى التمرد على الله والتهكم على الدين كما صنع صاحبنا راوى أحداث القصة التى بين أيدينا. كما يُضْرَب دائما المثل بالكلب فى الوفاء والتعلق بصاحبه فى الذاكرة الشعبية عندنا وعند غيرنا من الأمم كما هو معلوم. أما صاحبنا هذا فقد طمس الله على عقله وبصره وفؤاده فلم يقل فى كلبه ولا عنه إلا كل مؤذ مزعج يفوِّر الدم فى العروق رغم تظاهر من كتبوا عن الرواية بأنه كان ثوريا مناضلا. فأى نضال وأية ثورية هذه؟ ألا لَبِئْسَ هذا نضالًا! ولَبِئْسَتْ هذه ثوريةً! ثم إن صورة الكلب لم تتطور فى شىء طوال أحداث الرواية وعلى كثرة ما دار بينه وبين صاحبه من حوارات طالت أشياء كثيرة بما فيها التمرد على الله والسخرية من الدين مما لا مدخل للكلاب، ولا حتى للقطط والأرانب، فيه! فالكلب هو هو على مدى المائتين ونيف من الصفحات لم يتغير فيه شىء: يسمع كلام صاحبه وينفذ ما يطلبه منه، ويشتمه صاحبه ويَدُعُّه دَعًّا، أو بلغة المؤلف: يَدْفِره بقدمه دَفْرًا.
وقبل ذلك يقول الرسول عليه الصلاة والسلام إن الله غفر لأمرأة مومسة مرت بكلب على رأسِ رَكِى يلهث كاد يقتله العطش، فنزعت خفها، فأوثقته بخمارها، فنزعت له من الماء، فغُفِر لها بذلك. وقال صلى الله عليه وسلم أيضا إن امرأة دخلت النَّارَ من جرَّاءِ هِرَّةٍ لها ربطتها، فلا هى أطعمتْها ولا هى أرسلتها تُرَمْرِمُ من خَشَاشِ الأرضِ، حتَّى ماتت هُزْلًا. وقد سُمِّىَ الصحابى الجليل عبدالرحمن بن صخر الدوسى بـ"أبى هريرة" لأنه كان يرعى غنمَ أهله، وكانت له هِرَّةٌ صغيرةٌ، فكان يضعُها بالليلِ فى شجرةٍ، وإذا كان النهارُ ذهب بها معه فلعب بها، فكنَّوْه: أبا هريرةَ. فأى اعتزاز بالهرة هذا سواء من جانب أبى هريرة أو من جانب من أطلقوا عليه تلك التسمية الجميلة؟ ترى أين ذهب هذا التراث الإنسانى العظيم كله عن وعى راوى القصة ومؤلفها جميعا؟ أما إن كانت هناك أشياء فى وردان بغَّضته إلى بطل الرواية وجعلته يؤذيه دائما بالقول والعمل، أفلم تكن أرض الله واسعة يرسله صاحبه فيها فيأكل من خشاش الأرض بدل كل تلك الإهانات والإيذاءات؟ وقبل الحديث الشريف هناك كلب أصحاب الكهف، ذلك الذى خلده القرآن الكريم فى الوعى البشرى حين ذكره فى ثنايا قصتهم فى السورة المسماة بـ"سورة الكهف" قائلا تلك العبارة القصيرة التى كانت كفيلة على قصرها الشديد بانتشال هذا المخلوق الظريف من بين أنياب النسيان والإهمال وتثبيته فى الذاكرة الإنسانية أبد الآبدين: "وكلبُهم باسطٌ ذراعيه بالوَصِيد". كما ذكرته سورة "المائدة" وقَدَّرَتْ دوره فى الإمساك بفرائس الصيد. وهناك تراث شائق حول هذا المخلوق الظريف فى كتب التفاسير والقصص القرآنى. لكن ينبغى أن نكون على ذكر من أن بطل الرواية وكاتبها يكرهان الإسلام ولا يحبان أن يتمثلا بشىء من مثالياته النبيلة. وقد رأينا وسمعنا راوى الأحداث فى القصة يسخر من الله ومن الدين ولا يفلت سانحة دون أن يهتبلها فى مزاولة تلك السخرية الوقاح!
ليس هذا فحسب بل إننا لا نعرف شيئا عن ذلك الصياد (بطل الرواية) سوى أنه يسلى نفسه بالصيد وأنه كان مجندا، وأنه سليط اللسان بذىء سفيه، وأنه يعانى من رغبة حارقة فى الهرش النفسى لا يرتاح إلا بمزاولة قلة الأدب والتطاول على الله والنبيين. وكان الله بالسر عليما. ترى من أين أتى الرجل؟ وما ظروفه الاجتماعية؟ وإلى أية أسرة ينتمى؟ وهل تعلَّم؟ وأين؟ وهل هو متزوج أو لا؟ وهل، إذا كانت الأولى، لديه أولاد أو لا؟ وماذا تعمل زوجته؟ وأين يسكن؟ ومن أى بلد يا ترى؟ وماذا يصنع بعدما يعود من جولات الصيد كل يوم؟ ومن أين يأكل ويعيش؟ هل لديه عمل؟ أم هل يتعيش من الصيد؟ وما علاقته بجيرانه ومعارفه؟ وما حكاية الجسر الغامضة هذه التى صدَّع بها أدمغتنا طوال الرواية وكأنها قصة أبى زيد الهلالى سلامة، ورغم هذا لم نفهم منها شيئا له قيمة ولم تتضح صورتها فى أذهاننا؟ لا شىء، لا شىء على الإطلاق. إنه مقطوع من شجرة، ولم يبق ناقصا إلا أن يعلن الكاتب أنه قد وجده ملفوفا فى بطانية أمام الجامع ليلا فى عز البرد لدن انقطاع أرجل السابلة، فأحضره إلينا كما هو وألَّف له قصة! ولما لم يجد ما يطعمه ويكسوه به قال له: "يكفينى أن أوفر لك المسكن"، ثم أمره أن يخرج إلى الدنيا ويجرب حظه فى الصيد ليسترزق، فالرزق يحب الخِفِّيَّة! ثم لماذا هذا الحرص على أن يصطاد بطة، وبطة معينة بالذات، ولا يستطيع أن يهنأ له بال قبل تحقيق هذه الأمنية؟ لقد وعد كلبَه وردان بأنه، متى اصطادها، سوف يصنع له من ريشها مخدة ويعطيه وركا من أوراكها. فهل يكفى هذا لتفسير هذا الشبق العجيب لصيد البطة؟
يا أخى، فليأت إلىَّ وأنا أشترى له على حسابى بدل المخدة مخدتين ثلاثا محشوة بريش النعام ومصنوعة من القماش الحرير له ولكلبه ولأى ضيف يطرق بابه على غفلة يريد أن ينام، وأوفر لهما أكلة بط بلدى على كيف كيفه، ولا داعى لكل هذه الخَوْتة الكذابة التى يتساخف أمثاله من نفس اتجاهه السياسى والعقائدى بأنها فتحٌ مبينٌ وأن صاحبها كاتب مدهش، وهو لا مدهش ولا يحزنون، بل تجلب روايته النعاس والتثاؤب. ولولا أننى أردت أن أكتب عنها لما استطعت أن أمضى فيها ولا لصفحة واحدة. لقد كنت قرأتها وقرأت بعض أعمال صاحبها الأخرى معها قبل عشرين عاما ونَيِّف، ولم أستلطفها بل ألفيتها هزيلة الفن ثقيلة الوطأة على النفس والذوق، فقلت: أقرؤها مرة أخرى لأكتب عنها لما يتمتع به مؤلفها فى بعض الدوائر النقدية من سمعة ومجد، فلعلنى كنت فى المرة الأولى غير مهيإ نفسيا بسبب أو غيره لقراءتها والتفاعل معها، فإذا بى أجدها هذه المرة أضرط من الأولى. لكن كان سهم الله قد نفذ، ولم يعد إلى التراجع من سبيل، وكان لا بد من الكتابة عنها وتبيين سوآتها (ولا أقول كالكاتب: "مؤخراتها") المنتنة للقارئ!
والجو فى الرواية جو كئيب، فهو بارد وثقيل ولزج ومترب طبقا لما يصفه السارد. وحينما أخطأ الكاتب وسمح للشمس فى منتصف الرواية أن تظهر وينتشر شىء من الدفء سرعان ما صيرها بردا وثلوجا وعواصف. وكان يمكن أن يبدع الكاتب فى وصف الطبيعة فى مثل تلك الظروف، لكن ما قاله عنها موجز ويخلو من الإبداع ولا يشد القارئ إلى ما يقول، إذ يبدو وكأنه آلة تقدم تقريرا عن الجو فى الخارج باردا لا نبض فيه ولا حيوية. والكلب يتمرغ فى التراب والماء. والطبيعة من حول البطل وكلبه جهمة تصد النفس عن الانطلاق فيها والتفاعل معها، ولايظهر فى الإطار الذى يتحركان فيه أحد من البشر، اللهم إلا صيادين: أحدهما ظهر ظهورا قصيرا غامضا، ولم تكن بينه وبين صيادنا مودة أو ثقة، بل جو عدائى أو شبه عدائى، والآخر كانت هناك حوارات بينه وبين بطل الرواية، وكان رجلا طيبا، بيد أن كلا منهما كان حريصا بوجه عام على ألا يكشف ما لديه من أسرار الصيد للطرف الآخر. فإذا أضفنا إلى ذلك مزاج السارد العكر المظلم المزعج وانتهاء الرواية بالفشل فى الإيقاع بالبطة المنشودة والغموض الذى يسربل قصة الجسر تبين لنا كيف أن الرواية ثقيلة ثقيلة ثقيلة على النفس. ولوقارنا مثلا بين وصف المؤلف للطبيعة فى روايته وبين ما قاله امرؤ القيس عن الغيوم والمطر والسيول التى انصبت انصبابا وتعرض لها فى معلقته وكيف كان كل شىء رغم ذلك ممتلئا بالحيوية والعُرَام لرأينا الفرق بين أدب وأدب. ذلك، وامرؤ القيس شاعر جاهلى لم يدرس الأدب ونظرياته ولا النقد ومدارسه كعبد الرحمن المنيف، ولم يكن يعرف الحداثة والتقدمية وغيرها من المفاهيم والمصطلحات المجعلصة التى يبرع أمثال المنيف فى التشدق بها ولَوْكها والتفاخر بأنهم يجرون عليها فى نتاجهم.
وهذه بعض النصوص التى يصف فيها المؤلف، على لسان السارد، منظر الطبيعة: "كانت الريح تشتد، أما السماء فكانت تختنق تدريجيا بالحمرة القاتمة وتتداخل بالأفق الآخر ثم تصبح جزءا منه. وفوق كل الأشياء انتشرت رائحة المساء الرطبة المزدحمة المليئة بتوقع ما" (ص12). "المدى الفسيح بين المستنقعات المنخفضة، كما أحب أن أسمى هذا المكان، والمستنقعات الأخرى التى أشار إليها الرجل مليئة بذلك الجمال الأخرس، الجمال الشتائى الحزين: أشجار الجوز تقف عارية كأنها حدود بين عالمين. أشجار الجوز العملاقة بأغصانها المتداخلة الكثيرة تشبه حالة من الفوضى الدائمة. أما لون الأرض فأقرب إلى الصفرة الرمادية. السماء الباهتة الزرقة والبعيدة توحى بالوحشة، أما البرودة فقد اكتنزت حتى أصبحت مثل شىء ثقيل يهبط على الصدر" (ص69). "المطر الأبيض الناعم يتساقط. صوته الصغير يخرق ذرات الهواء ليستقر فيها. رائحة الأرض تعوى بذلك الدخان الذى لا يرى. ولكن تفاعله السريع، ازدحامه فى الأشياء ثم تمدده، يجعله رماديا لدرجة لا تصدق. رفعت وجهى نحو السماء. أغمضت عينى وفتحت فمى ورئتى" (ص81). "ما كادت الأيام الأخيرة من كانون الثانى تنقضى ببرودتها القاسية الثقيلة حتى هبت موجة دفء تزخر برائحة الانتقال. تفتحت الحياة وزفرت الأرض بروائح الخصوبة، وبدت الطيور فى حالة أقرب إلى الفرح الشيطانى بحركاتها الذكية الصاخبة. لكن ما كاد يطل الأسبوع الثانى من شباط حتى تغير الجو من جديد. انفجرت الرياح الباردة فجأة، وهبت ريح عاصفة ثلجية غطت الأرض فى فترة قصيرة، وأخذ الثلج يزداد كثافة يوما بعد آخر، وكأن الطبيعة نصبت فخا، وبدأت. كانت الطيور فى الأيام الأولى للعاصفة كالأفاعى المحاصرة بالنيران. كانت ضعيفة مقرورة بأجنحتها الرخوة ونظراتها المتوسلة المليئة بالرجاء، وكأنها فقدت عادة الطيران" (ص123). "وفكرتُ: ذلك الشهر الأعمى الملىء باللزوجة، بالريح المغبرة، تجمد ذلك الشهر فوق رؤوسنا كالطير عندما يضاجع الهواء. كان ثقيلا مليئا بتلك الونّة الصماء" (ص124).
ثم لدينا أيضا الجسر، وما أدراك ما الجسر؟ فموضوعه غامض كأن الكاتب يتحدث إلى ناس بأعيانهم بالشفرة فلا يفهمه إلا هم. ما هذا الجسر؟ وما قصته؟ نعرف معرفة غامضة أن بعض الجنود، فيما أتصور، وهذا أمر قد أخذ منى وقتا طويلا وصفحات أطول من ليل الشتاء بالنسبة للعازب، قد أُمِروا أن يبنوا جسرا فبَنَوْه، ثم أُمِروا أن يتركوه ويرحلوا. لماذا؟ إلى أين؟ ولم كان السارد يريد نسفه قبل الرحيل؟ قيل فى بعض ما كُتِب من نقد أو عَرْض لهذه الرواية إن الإشارة هنا إلى جسرٍ خافَ بانوه من الجنود أن يستخدمه العدو فى حرب حزيران عام 1967م بعد تركهم المكان. لكن هذا غير واضح بتاتا من النص، وأرجح ترجيحا شديدا أن يكون ذلك كلاما أخبرهم به المؤلف. ومعنى هذا أنهم لم يفهموا هذا الذى قالوه من تلقاء أنفسهم بل من شرح الكاتب. أى أن الكاتب يتحدث عن نيته. وليس الأمر فى عالم الأدب بالنيات بل بما استطاع الأديب أن يوصله للقارئ من خلال إبداعاته الأدبية. وهنا نجد أن الأديب لم يستطع توصيل شىء لنا نحن القراء، بل بقيت نيته حبيسة ضميره لا نعرف عنها شيئا إلا منه هو. وما هكذا يكون الإبداع الأدبى.
ولنفترض أن الأمر كما قالوا فعلا فهل كان بمكنة مثل هذا الجسر منع العدو من العبور؟ ولكن عبور إلى أين؟ ومن أين؟ لا ذكر لشىء من هذا، وليس أمامنا سوى الغموض والإبهام والظلام. ثم إن هذا الجسر، فيما تحدث عنه السارد، جسر صغير حتى لقد ذكر أنه كان بمستطاع الجنود سحبه على الأرض. فهل مثل هذا الجسر يمكن أن تكون له كل تلك الأهمية الإستراتيجية التى يومئ إليها سارد الرواية؟ معنى ذلك أنه جسر مقام على نُهَيْر، وهو ما لا يمكن أن يشكل تدميره عائقا للقوات العدوة الغازية. ولقد كانت هزيمة حزيران من الشُّنْع والبشاعة بحيث لا يمكن أن يشكل وجود مثل ذلك الجسر أو غيابه أية أهمية حربية. لقد دُمِّر الطيران المصرى كله فى وقت ضئيل واحتُلَّت سيناء لعدة سنين، وقيل كلام كثير عن تسليم السلطات السورية مرتفعات الجولان لإسرائيل تسليم مفتاح. فما قيمة جسر مثل هذا فى هذه الظروف العربية البائسة؟ ولماذا لم ينسفه الجنود ما دامت ضمائرهم الثورية تلذِّعهم كل هذا التلذيع؟ لقد ذكرت الرواية أن الأوامر قد جاءتهم أن ينجو كل منهم بجلده ويتصرف بعقله وعلى مسؤوليته. عظيم! فلماذا لم يتصرفوا بأنفسهم ويدمروا الجسر تدميرا، ولا من شاف ولا من درى! إذن لكنا ارتحنا من وجع الدماغ هذا الذى لا فائدة فيه. واضح أن المؤلف يخلق مشكلة من لامشكلة! والمهم، بعد هذا كله، أن النصف الآخر من الرواية يمثل حارة مسدودة هو أيضا.
وقد قفز إلى مخى، وأنا أنتهى من قراءة "حين تركنا الجسر"، رواية أرنست همنجواى: "العجوز والبحر" (The Old Man and the Sea)، التى كنت قرأتها منذ بضعة عقود فى ثوب عربى. فكلتا الروايتين تعالجان موضوع الصيد: رواية همنجواى تتعرض لصيد البحر متمثلا فى سمكة مارلن، ورواية المنيف تتناول صيد الهواء متمثلا فى بطة. كما تنتهى كلتاهما بالإخفاق فى الحصول على الصيد المراد: فصياد همنجواى الكوبى تأكل أسماك القرش الأخرى سمكته الضخمة التى اصطادها بعد عذاب، وصياد المنيف العربى الذى لا نعرف من أى بلد هو صياد خائب لا يدرى كيف يفرق بين البطة والبومة، فيصطاد الأخيرة حاسبا أنها البطة المَرُومَة. إلا أننا، لدى التدقيق، نجد فروقا واضحة وجوهرية بين العملين: فعجوز همنجواى خرج فى رحلته لاصطياد سمكة المارلن جائعا، ولم يرتزق شيئا طوال ثلاثة أشهر تقريبا كان أحد الشبان الذى علمه الصيد فى صغره يرعاه ويخفف عنه ويزوده بالطعام خلالها. وهو ينطلق إلى البحر وحده دون أى رفيق من البشر أو غير البشر، بل إنه لا يقابل أثناء رحلته فى مطاردة المارلن أى إنسان. أما صياد المنيف، وهو ليس عجوزا بالمناسبة بل رجلا ملء هدومه ونشاطه وصحته وحيويته، وبذاءته وحماقته وتطاوله على الله أيضا، فكان يصطحب معه كلبه وردان، زيادة على أنه قابل مرتين صيادين مثله يدور بينه وبين كل منهما الحديث حول الصيد. ثم إنه فى الوقت الذى كان صياد الروائى الأمريكى يواجه أخطار البحر من أمواج وقروش غير مستعين بشىء غير قاربه ومجدافيه وحربة صيده وعلى مدى أيام ثلاثة، نجد صياد الكاتب العربى لا يواجه أى خطر كان، إذ هو يصطاد على اليابسة. وأقصى ما واجهه من صعوبة هو خوضه لعدة دقائق فى المستنقع للإمساك بالطائر الذى اصطاده أخيرا ظانا أنه هو البطة التى تسكن خياله وتجسِّد أمنيته فى الحياة، وعلى مقربة منه كلبه وردان. ولا ينبغى كذلك أن يفوتنا الفرق الهائل بين بطته وبين مارلن همنجواى. ومن هذه الفروق أيضا أن الصياد الأمريكى قد نجح فى الإيقاع بسمكة المارلن التى كان يتغيا الإمساك بها بل نجح أيضا فى ضربها بحربة صيده حتى ماتت وشرع يجرها مربوطة إلى قاربه عائدا إلى البر شاعرا بالظفر، وإن كان قد ظل طوال رحلة العودة يصارع، برماحه وسكينه، أسماك القرش التى تكأكأت على سمكته تأكل منها حتى تركتها فى نهاية المطاف مجرد هيكل شوكى ورأس وذيل فقط، أما الصياد العربى فقد أخفق فى التعرف على الطائر الذى أطلق عليه رصاصه وأسقطه فى المستنقع وخاض المياه حتى استطاع أن يضع يده عليه وحمله إلى الشاطئ حيث فوجئ بأنه إنما اصطاد بومة لا بطة. وهو ما يدل على أنه صياد فاشل لا يصلح لمزاولة ذلك العمل. وهذا بالمناسبة كل ما قابله من صعوبة. وهناك أيضا أن رواية المنيف تستغرق شهورا، بينما لا تأخذ رواية الكاتب الأمريكى أكثر من أيام قلائل. وفوق هذا رأينا صياد الطيور العربى يصطاد أثناء ذلك طيورا أخرى، فى حين لم يصطد عجوز همنجواى فى رحلته هذه سوى السمكة. وزيادة على ما مر لا يتمتع العجوز فى "العجوز والبحر" بسلاطة اللسان وجهامة الروح وعدوانية الطباع والتجديف فى حق الله والقسوة على مخلوق رقيق ظريف كالكلب وردان مثلما يتمتع صياد "حين تركنا الجسر" بكل تلك العيوب، إن كان من الممكن التمتع بالعيوب. بل إن من النقاد من وجد فى رواية الأديب الأمريكى رموزا نصرانية كالصلب ودق المسامير فى اليد مثلما وصفت الأناجيل حادثة الصلب طبقا لاعتقاد النصارى المؤمنين بأن المسيح عليه السلام قد صُلِب. وهذا يعاكس ما فى رواية المنيف من تجديف وتمرد وسخرية بالله والدين. ومن حيث بناء الروايتين لا بد من الإشارة إلى أن عمل همنجواى رواية قصيرة، ولا يزيد كثيرا عن نصف رواية المنيف التى تقع فى مائتى صفحة ونيف، والتى تحتوى أيضا على موضوعين هما موضوع الجسر وموضوع الصيد، على حين لا تضم رواية همنجواى بين طياتها إلا موضوعا واحدا هو رحلة العجوز لصيد سمكة المارلن الضخمة. وقد أعطى هذا ميزة وتفوقا لرواية الأديب الأمريكى، إذ لم تتشتت جهود كاتبها ولا جهود القراء بين موضوعين لا صلة بينهما كما حدث فى رواية المنيف، التى لم يكن هناك أى داع لتضمينها حكاية الجسر مع حكاية الصيد، وبخاصة أن حكاية الجسر غامضة لم يستطع المنيف أن يضع أيدينا على أى سبب لإيراده إياها أو على أى معنى لها. وبالإضافة إلى هذا فإن الانفجار الذى حدث فى نهاية "حين تركنا الجسر" قد زاد الرواية غموضا فوق غموضها الأصلى، علاوة على أننا لا ندرى لماذا أراد المؤلف أن يوحى لنا أن ثم صلة بين الكلب وردان، الذى ابتعد عن صاحبه وهو يخوض مياه المستنقع ليستنقذ الطائر حين سقط هناك، وبين ذلك الانفجار. وهذا عيب فنى فادح فوق العيوب الفنية الفادحة الأخرى التى تعانى منها الرواية. كما أن عجوز همنجواى لم يكن عكر الطبع سيئ المزاج كبطل "حين تركنا الجسر"، بل كان رضىّ النفس هادئ البال. ثم إن فشل "العجوز والبحر" ليس راجعا إليه، ومن ثم فهو غير مسؤول عنه، بخلاف الفشل لدى بطل المنيف، إذ هو فشلٌ يعود إلى جهل صاحبه وغبائه حين ظن البومة بطة. وهو أمر غريب جدا ومستهجَن الوقوع من صياد، وخصوصا من صياد كزكى نداوى ظل يمطرنا بثرثراته المزعجة التى لا تنتهى طوال الرواية عن أمور الصيد. وإذا كانت رواية المنيف قد انتهت بفشل زكى نداوى فى صيد بطته التى ظل يحلم بها دهرا فإن رواية "العجوز والبحر" تستمر بعد ذلك حتى يفد الشاب الذى علمه سانتياجو العجوزُ الصيدَ فى طفولته، ويراه فى حالته البائسة التعيسة، فيحمل إليه القهوة ويعزيه عما لاقاه من شدائد وآلام وإخفاق واعدا إياه بأنهما سوف يبحران عما قريب معا فى قارب واحد ليعاودا الكرة آمِلَيْن أن يكون رزقهما أوفر حظا. وقد وضع همنجواى روايته فى جزر الباهاما عام 1951م، وإن لم تصدر إلا فى العام الذى يليه، وحاز بفضلها على كل من جائزة نوبل وجائزة بوليتزر الأمريكية لأستاذيته فى فن القص وأسلوبه القوى. ومع هذا فثم نقاد رَأَوْا أن الرواية عمل ضعيف وأنها تخالف أعماله السابقة التى تتسم بالواقعية. وقد حُوِّلَتْ روايةُ همنجواى إلى فلم سينمائى أكثر من مرة، بينما لم تحظ رواية المنيف بهذا المصير.
والآن، وبعد أن انتهيت من نقدى للرواية أحب أن أثبت هنا رأى كاتب آخر فيها ونرى رأينا فيه. كتب إبراهيم العريس عن عمل منيف مقالا بعنوان"حين تركنا الجسر" لمنيف: هزيمة فرد وهزيمة جيل" فى صحيفة "الحياة" (الأربعاء/ ١٩ نوفمبر ٢٠١٤م) هذا نصه: "مع صدور روايته الاولى "الاشجار واغتيال مرزوق" جعل الكاتب السعودى عبد الرحمن منيف لنفسه مكانا لا بأس به فى الرواية العربية المعاصرة. فروايته الأولى تلك كانت مفاجأة حقيقية عرفت كيف تثير الإجماع من حولها بفضل تميّزها وبنيانها الذى أدخل جديدا إلى حد ما على الرواية العربية. غير أن ذلك المكان الذى تحقق لمنيف بفضل "الأشجار" لم تعززه روايتاه التاليتان: "قصة حب مجوسية" و شرقى المتوسط"، اللتان صدرتا خلال الأعوام التالية لصدور روايته الأولى، فاعتبرت أولاهما أقل شأنًا من "الأشجار" فيما نُظر الى الثانية باعتبارها عملًا تغلب عليه السياسة والأيديولوجيا بل تلتهمانها رغم تفوقها المدهش فى هذين البعدين.
من هنا كان من الضرورى فى ذلك الحين، أى أواخر سنوات السبعين، أن تصدر رواية منيف الرابعة: "حين تركنا الجسر" لتطرح من جديد مشكلة التعامل مع هذا الكاتب، ومشكلة تقييمه انطلاقا من مجمل أعماله وتطرح فى الوقت نفسه سؤالًا مشروعًا يقول: هل يمكن أن يكون الشخص الذى كتب "الاشجار" هو نفسه مؤلف الروايات الثلاث التالية، رغم أن الرواية التى نحن فى صددها نالت إعجابا ونجاحا فاقا ما نالته سابقتاها؟ فالحال أن "حين تركنا الجسر" أتت متميّزة عن تينك السابقتين محاولة فى شكل أو آخر، فى بنيانها الفنى على الأقل، الاقتراب من عالم "الأشجار واغتيال مرزوق".
"حين تركنا الجسر" أتت رواية عن الخيبة والفشل تماما مثلما هو الأمر مع الرواية الأولى، غير أن التعامل مع هذين البعدين يتخذ هذه المرة لدى "بطل" الرواية طابعا عدوانيا ممتزجا بالحزن والمرارة وشىء من الانتظار. "البطل" هنا اسمه زكى النداوى، انسان سيتبين لنا شيئًا فشيئًا أنه ينتمى إلى الفئات الكادحة، وأن صيد الطيور الذى يمارسه فى صحبة كلبه "وردان" ليس هواية تأتى عن ترف، وإنما هو محاولة لإنجاز الذات، لسحق الهزيمة التى كانت قد سحقته، من طريق السيطرة على "ملكة البط".
فعن طريق قتل هذه الملكة وإذلالها بمشاركة وردان كان زكى النداوى يأمل فى تخطى هزيمته. والحدث الأول للرواية يدور حول انتظار الملكة فى بقعة الصيد الريفية لقتلها. وهذا الحدث يجرى على المستوى الأول حيث يروى لنا زكى النداوى انتظاره الطويل الذى يحمل شيئًا من الأمل فى الوقت الذى يستعيد فيه على المستوى الثانى للرواية ذكريات "الجسر" الذى بناه والرفاق المقاتلين، ثم تخلَّوْا عنه من دون أن يعبروه (لاستعادة الأرض المغتصبة؟) او ينسفوه (منعًا للعدو من استعماله).
على هذين المستويين: مستوى الحاضر وانتظار الملكة لقتلها، ومستوى الماضى واستعادته، تتمحور شخصية زكى النداوى، الذى يبدو لنا محبطًا ويائسًا منذ السطور الاولى للرواية. وشيئًا فشيئًا سنكتشف سبب الإحباط واليأس، كما سنشهد كيفية تعامل زكى النداوى معهما من طريق إسقاطهما على كلبه وردان. والكلب، رغم قسوة زكى، مطيع متفهم متعاون يشارك معلمه انتظاره وقلقه وأمله ويأسه من دون أن ينبس ببنت شفة او يتمرد. وهو حتى حين يتمرد فى الفصل الاخير من الرواية يكون تمرده سلبيا لا عدوانية فيه تجاه معلمه. زكى النداوى هو الذى يربط مستويى الفعل والتذكر فى الرواية. وهو يطمع، كما قلنا، إلى تخليص نفسه من شوائب الماضى عبر قتل الملكة. الملكة مقتولة تساوى عنده الجسر متروكًا. والمعادلة ترافقه طوال الفصول حين يكتشف، من طريق شيخ حكيم، أن أسلوبه فى انتظار الملكة أسلوب خاطئ. وهنا، إذ يصحح أسلوبه ويأتى فى ليلة قمرية، يتمكن أخيرًا من قتل ملكة البط، ويصل إلى حدود تحقيقه لذاته فى مشهد أخاذ. ولكن فى لحظة الانتصار هذه يتخلى عنه وردان. بيد أن هذا التخلى نفسه لا يهمه فى لحظة انتظاره المتوهجة، فيلتقط القتيلة "الزانية" بنفسه ليكتشف أن انتصاره هذا لا يساوى شيئًا، وأن عملية الاستبدال محكومة بالفشل، وأن البطة الملكة ليست بعد أن ماتت سوى بومة قبيحة. ويعيدنا هذا إلى الحلقة الدائرية التى سبق لنا أن تعاملنا معها فى "الأشجار واغتيال مرزوق": الهزيمة، الانتظار، الأمل، الخيبة. لكن التطور الذى يطرأ بين الانتظار الأول والانتظار الثانى أنه فى المرة الاولى يكون فرديا ينغلق فيه زكى النداوى على ذاته، لكنه فى المرة الثانية يتحول الى انتظار جماعى: "وقبل أن تغيب شمس اليوم الأول كنت قد ضعت فى زحام البشر، وبدأت أكتشف الحزن فى الوجوه، وتأكدت أن جميع الرجال يعرفون شيئًا كثيرًا عن الجسر، وأنهم ينتظرون... ينتظرون ليفعلوا شيئا
إن هذه الكلمات الاخيرة التى تنتهى اليها رواية "حين تركنا الجسر" تمثل فى الواقع التطور الأكبر الذى أصاب عمل عبد الرحمن منيف منذ روايته الأولى حتى صدورها. ولكنّ ما يُفْقِد نقطة الضوء هذه قيمتها هو أنها تأتى أيضًا من طريق اكتشاف فردى لشخص محبط لا يرى إلا الحزن فى كل الوجوه. ومن هنا السؤال: هل تكفى هذه النهاية لإقناعنا بأن "حين تركنا الجسر" ليست رواية عن الخيبة والإحباط؟ وهل تكفى بضع كلمات ختامية إلى ضرب كل لحظات التأزم والانهزام التى رافقت مسيرة زكى النداوى منذ ترك الجسر لقمة سائغة للعدو حتى تخلى عن انتصاره على الملكة خائبًا؟ أسئلة لا يمكن التنبؤ بالكيفية التى كان من شأن الكاتب أن يجيب عليها فى أعمال تالية له. لكن بناءه لشخصية زكى النداوى، هذا البناء المتماسك فنيا الى حد كبير، كان يدفعنا الى الاعتقاد بأن النداوى هذا لن يكون هو الحل، كما أن الحل لن يأتى من الانتظار. فالحل يقترحه الحوار التالى:
"- والجسر ألا يعنى شيئًا؟
- يمكن دائمًا بناء الجسور. الصعب هو بناء الإنسان.
- بناء الإنسان؟
- نعم بناء الإنسان من نوع جديد!
- تقصد إنسانًا لا يترك الجسر؟
- أقصد إنسانًا لا يترك الجسر، ويعرف كيف يتصرف".
إن هذا الحوار، إذ يأتى فى الصفحات الأخيرة، يكشف لنا عن ملامح إيجابية فى الرؤية. غير أن إيجابيتها تفترض واحدًا من اثنين: إما سقوط زكى النداوى (مع كل الجيل الخائب المحبط الذى يمثله) وإما إقدامه على عمل شىء يختلف عن مجرد محاولة التخطى الداخلى للهزيمة. ومن هنا نجد أن "حين تركنا الجسر" بتقنيتها الحديثة التى تجعلها أشبه "بمونولوج" طويل (أكثر من اللازم على أى حال) تنتمى إلى تلك الإبداعات التى تعكس أزمة جيل أكثر مما تعكس أزمة طبقة. وهنا ليس مصادفة أن تحفل الرواية بتجريد زمانى ومكانى لا تناقضه سوى إشارات قليلة جدا حول انتماء زكى النداوى.
من الناحية الفنية لا تخفى الرواية، على رغم شىء من الوهن فى تسلسل الاحداث، تماسكًا فذًّا فى رسم شخصية زكى النداوى، وعلاقته مع كلبه. فالنداوى المحبط على الدوام واليائس من وحدته لا يكف عن إسقاط كل إحباطه على الكلب فى حوار متميز على رغم امتلائه، أحيانًا، بثرثرة ما. وفى مقابل الرسم التصاعدى لشخصية زكى النداوى وكشفه أمامنا تدريجيًّا نلاحظ ضعفا، والكثير من المبالغة الغرائبية، فى رسم شخصية "الشيخ" الذى يدل النداوى على أفضل الأساليب لصيد الملكة.
"حين تركنا الجسر"، على رغم بعض السلبيات التى كان يمكن المرء أن يجدها فيها، رواية جيدة، رواية تتحدث فى لغة متماسكة، وصور قوية، وبناء فنى متصاعد يسير على مستويين تاريخيين متوازيين: الماضى والحاضر كما يراهما زكى النداوى. والقارئ، إذا كان قد أخذ عليها عدم قدرتها على تخطى هزيمة "الجيل" الذى تتحدث عنه، فإنه أدرك أن عبد الرحمن منيف، حين يتحدث عن جيل "زكى النداوى" وهزيمته، فإنه يعرف جيدًا ما يقوله. ولكنه إذا كان لا يقول ما لا يعرفه فما هذا إلا لأنه واحد من أبناء الجيل الذى ينتمى اليه زكى النداوى. وهو إذا كان يتلو فى هذه الرواية شيئًا من فعل الندامة فإن فضيلته الكبرى أنه بات متأكدًا الآن كما يقول على لسان "بطله": لا تفيد الجسور شيئًا إذا لم يعبر عليها الناس. والقارئ العربى كان، فى ذلك الحين ومن زمان، فى انتظار من يتفوه أخيرًا بهذه البديهية".
ولعل القارئ قد لاحظ أننى والعريس نشترك فى استغراب معاملة الراوى لكلبه بهذه الطريقة القاسية رغم لطف الكلب وطاعته والمساعدات الكثيرة التى يؤديها لصاحبه. أما فيما خلا هذا فلا أوافقه على شىء مما يقول: فهو مثلا يؤكد، ولا أدرى على أى أساس، أن زكى النداوى من الطبقة الكادحة. وليس فى الرواية ما يرشح لهذا الفهم والاستنتاج. ولو كان الرجل يتخذ من الصيد حرفة له فلماذا شغل نفسه كل هذا الشغلان فى اللهاث خلف تلك البطة؟ إن الكادح إنما يسعى وراء لقمة عيشه ويهتم بكثرة ما يصطاد من الطيور لا ببطة بعينها مضيعا وقته ومفسدا أعصابه بسببها على هذا النحو وكأنه لا يوجد فى الكون شىء آخر يستحق الاهتمام والانشغال، وإلا فمن أين كان يأكل ويعيش طوال الوقت؟ وهو لم يذكر قط فى الرواية أنه يتاجر فى الطيور التى يصطادها أو أن من يتعاملون معه يطلبون هذا الصنف من الطيور أو ذاك ولا اشتكى من ضيق باب الرزق بسبب صعوبة الصيد مثلا أو عن حاجته إلى الصيد من أجل إطعام نفسه وأسرته. بل إن كلامه الساذج عن الصيد وتصرفاته السطحية الخرقاء أثناءه لتدل على أنه لم يكن صيادا محترفا بل هاويا. وهو نفسه فى حديثه مع الصياد الثانى الذى قابله فى العراء يؤكد أن الصيد بالنسبة له مجرد هواية ورياضة ليس أكثر (ص75). وفى موضع آخر يقول لنفسه إنه لا بد أن يلازم هذا الصياد ويتعلم منه حتى يصير هو نفسه أيضا صيادا (ص88).
كما أن كلام إبراهيم العريس عن أزمة الفرد وأزمة الجيل هو رَوْسَم يبرع فى ترديده والتشدق والطنطنة به اليساريون وأشباههم، أولئك الذين يعشقون تضخيم ذواتهم وإسباغ بطولة موهومة على أعمالهم السخيفة. بالله أين فى الرواية ما يدل على أزمة الجيل؟ لا شىء. أما أزمة الفرد فتتمثل فى قلة أدب زكى النداوى وتجديفاته دون أدنى داع. فلَمْ نعهد لدى الصيادين طول اللسان وزفارته والتمرد على الله والتطاول عليه. إن الصيادين دائما ما يرددون الأدعية وهم خارجون لعملهم كى يرزقهم الله فى يومهم رزقا حسنا. هذا ما نعرفه عن الصيادين، أما الشيوعيون فهم قليلو الأدب عديمو الذوق، يعملون على تشويه صورة الصياد وإظهاره بمظهر المتمرد على ربه تحت دعوى التقدمية والتنوير.
كذلك فالناقد، فى ربطه بين الجسر والصيد، لم ينجح فى إقناعنا. وهو نفسه لم يكن مطمئنا إلى ما قاله عن الجسر، الذى ظلت حكايته غامضة بل مظلمة طوال الرواية، فلم نفهم من أمره شيئا ذا بال. ومن ثم فمحاولة العريس لجعله رمزا على إحباط الجيل محاولة مقضى عليها بالفشل. وعلى كل حال فمن المضحك أن يرى العريس فى قول النداوى من أن "الجسور لا تفيد فى شىء إذا لم يعبر عليها الناس" اكتشافا مذهلا، وكأنه قد أتى بالذئب من ذيله. وهل هناك فى الدنيا كلها من يرى فى الجسور شيئا آخر غير هذا؟ أم ترى هناك من يبنى الجسور لمجرد التفرج عليها مثلا؟ ثم كيف يكون النداوى ثوريا تقدميا وهو يائس ومحبط بهذا الشكل البائس التعيس؟ أين أبواب الأمل الذى يدعى اليساريون أنها لا تغلق فى وجوههم أبدا لأنهم مع حركة التاريخ، وانتصارهم على خصومهم حتمى لأن المستقبل لهم ولمذهبهم؟ ثم إن النداوى على طول الرواية لم يتطرق ولا مرة عابرة عارضة إلى الحديث عن ثورة أو تمرد أو عن أية جماعة ثورية. فمن أين إذن أتى ناقدنا المفضال بكلامه عن الثورة والثوار؟
كذلك ليس هناك حوار بين الصياد وكلبه بل قلة أدب طوال الوقت تقريبا من الصياد نحو كلبه المسكين الظريف المتعاون على عكس ما ذهب إليه إبراهيم العريس. وعلى ذكر الحوار هل يعقل أن ينفق المؤلف الفقرات وراء الفقرات فى مناجاة الراوى لكلبه؟ إنه لا يكاد يكف عن الحديث إليه فى كل صغيرة وكبيرة، وفى كل فارغة وملآنة، فى ثرثرة بغيضة مملة خانقة. لقد كان يكلمه عن الطيور والجو وعن مشاعر الإحباط لديه وعن والده ووالدته وما كان يدور بينهما من خصام وجدال. كما كان كثير الكلام عن عطاس الكلب نفسه وبوله، وكأنه لم يكن يعمل شيئا غيرهما، وكان يشتمه ويهدده ويناقشه فى الإلهيات والتجديفات. وهذا أمر شاذ تمام الشذوذ. لقد كنت أرى البريطان فى الحدائق العامة ومعهم كلابهم، فلم يكن يزيد كلامهم معهم عن "Good boy" أو "Bad boy" حسب موقف الكلب من الطاعة لما يأمره به صاحبه أو عدم مسارعته إلى إتيان ما يريده منه. وكان الله يحب المحسنين. وإنى لأتصور أنْ لو كان وردان يستطيع التعبير عن مشاعره تجاه هذا الثرثار لسَبَّه أو لصَفَعَه على وجهه ضِيقًا بثرثرته وقلة عقله وانحطاط لغته وشتائمه التى يوجهها إلى ربه. أما أنا فلا أظن إنسانا طبيعيا يمكن أن يتحدث إلى كلبه طوال الوقت على هذا النحو البغيض. ولو كنت أنا المؤلف لقطعت الرواية وأخذته على مستشفى الخانكة لمعالجته من هذا الهوس بالكلام مع الكلاب أو لحبسته معهم فى وِجَارٍ وارتحتُ وأرحتُ وتركته ينبح معهم على راحته. ومرة أخرى فالكلب لم يكن يردّ على صاحبه بل لم يكن يفهم من قلة أدبه وتمرده على ربه شيئا. فكيف يسمَّى هذا: حوارا؟ ثم ما دخل الكلب فى إحباطات النداوى؟ وهل هذه هى مقتضيات الثورية التى ينبغى أن يعامل بها اليسارى كلبه؟ ترى ما ذنب الكلب المسكين؟
وبالمثل هناك فشل من جانب المنيف فى الربط بين محاولة الصياد المستميتة غير المفهومة ولا المبررة لصيد البطة وبين حكاية الجسر. وفى كل مرة ينتقل المنيف بين الموضوعين يكون الانتقال مصطنعا وواهيا وغير مقنع. فهو ينتقل فجأة من كلامه مع كلبه فى الموضوعات المختلفة إلى الحديث عن الجسر دون أن يكون هناك ما يسوغ هذا الانتقال، ثم يقطع الكلام فى الجسر دون مبرر أيضا ويعود إلى صيده وثرثرته السخيفة إلى كلبه، تلك الثرثرة التى أتصور أن الكلب كان متأذيا منها أشد التأذِّى، لكن المسكين لا يستطيع عمل شىء لهذا الثرثار السفيه طويل اللسان الذى يركله لغير ما سبب سوى قسوته ووقاحته وساديّته. ومن ثم فكلام العريس فى هذه النقطة كلام ضعيف متهافت كتهافت عمل المنيف، الذى يحاول هو عبثا إسباغ القوة والبراعة عليه.
أما ما كتبه فيصل دراج، فى مقاله: "عبد الرحمن المنيف ومساءلة التاريخ"، عن الرواية التى بين أيدينا، وهو منشور فى مجلة "نزوى" العمانية، وفى عدة مواقع مشباكية أيضا، فلا يزيد عن أن يكون طنطنات فارغة مخلوطة بهلاوس لفظية لا ترابط بين أجزائها ولا علاقة لها بالنقد الأدبى ولا بأعمال المنيف ذاتها. وإنى لأستغرب من أين يأتى بعض من يسمون: نقادا بهذه السيول من الهلاوس الكلامية، وأنى لهم الوقت اللازم لذلك. وأشد ما يحيرنى هو كلام الكاتب عن عَقْد الخصاء. ترى ما طبيعة ذلك العقد؟ بالله عليكم هل هناك من يوقع على عقدٍ بخصاء نفسه؟ وهل الخصاء يقوم أصلا على عقد؟ نحن نعرف الشهر العقارى والعقود التى توثَّق فيه، وكذلك العقود المبدئية التى لا يوثقها أصحابها تهربا من دفع الرسوم الباهظة، ولم نسمع بشىء اسمه "عقد الخصاء". فمن أين لناقدنا اللوذعى بتلك النوعية من العقود الشاذة التى ليس هناك مكان لمن يتحدث عنها سوى المصحة العقلية والنفسية؟
قال: "حين تركنا الجسر: نص نموذجى عن المهزوم الذى خذل قضيته, وكتابة متوترة عن وعى شقى يتاخم الجنون. والقضية هى الجسر المهجور. والقضية- الجسر هى الوطن الذى لم يجد فى "حرب حزيران" من يصون كرامته. لذا تقول الرواية: "العجز يسرى فى الدم, وسيأتى يوم لا ينسل رجال هذه الأمة إلا الأقزام والمشوهين, والأقزام والمشوهون لا يعرفون إلا أن يموتوا رخيصين" يأتى القول غاضبا مباشرا منذرا بهزائم قادمة تحايثه فى إيقاع متصاعد, طبقات إشارية توطد تشاؤمه, تتحدث عن "العيون المهترئة, الرجل المخصى, القرد الأسود وأضواء تنصب على الشارع البارد برخاوة عاجزة". يبوح الراوى, وهو جندى عادى مهزوم, بكوابيسه الثقيلة دون أن يتهم, إلا بشكلٍ وَمْضِىٍّ, صناع الهزيمة كأن الخوف الموسع يمنعه عن الكلام الصريح فى "الثكنة" وفى الغابة الموحلة التى يطارد فيها طائرا أسطوريا لا وجود له. بهذا المعنى فإن "الخصاء"، الذى تقاربه الرواية بإشارات مختلفة, يتوزع على المؤسسة المهزومة وعلى الجندى البائس الذى ينتسب إليها. إنه السجين الذى يقاد مقيدا إلى معركة قرر مصيرها.
إذا كان عبد الرحمن, الوطنى المنغمس فى قضايا الأمة انغماسا مرهقا, قد أنتج فى "شرق المتوسط" فضاء كابوسيا خانقا يحاصر القارئ ويثيره فى آن فإن ما جاء به فى "حين تركنا الجسر"، وبفنية مدهشة, يستثير القارئ ويحضه على التأمل والمساءلة. لم تترك الرواية الأولى للتساؤل الطليق إلا حيزا محدودا تاركة الكابوس اللاعقلانى يكتسح غيره, بينما جمعت الرواية الثانية بين الكابوس وفسحة التساؤل, منتظرة بشرا يردون على الهزيمة ولا يقبلون بتأييدها. ذلك أن الرد على الهزيمة متاح إن تحرر الإنسان من قيده والوعى المهزوم من أوهامه. ولهذا يعيد "الطائر الأسطورى"، بعد مطاردة طويلة شاقة, صياغة الصياد ووعيه, يحرره من "عقد الخصاء"، ويدلل على أن "خصاء السلطة" لا يقع لزوما على جميع الذين يأتمرون بأوامرها.
صاغ عبد الرحمن رواية "حين تركنا الجسر" باقتصاد إشارى محسوب يستهل بـ"بنات آوى" ويختتم ببشر ينتظرون أفقا مغايرا. تبدأ الرواية بصراخ حيوانى وصياد معطوب وأرض موحلة ومناخ شتائى بارد وكلب ذليل, واضعة على لسان الصياد المخذول لغة فاحشة وبائسة فى فحشها تستدعى القرود والأفاعى والعناكب والجرذان والفأر القطبى. تصدر الكلمات عن مركز مأزوم متوسلة "مونولوجا عصابيا" يخلط الحاضر بالماضى، والمخلوقات بالأشباح كما لو كان زمن الذاكرة المثلومة هو الزمن الـوحيد الذى يقرر معنى العالم. من هذه العناصر المختلفة التى تستولد فيها اللغة المتـدفقة الرموز والإشارات والحكايات بَنَى منيف معنـى الهزيمة, ووضع فى الهزيمة معنى السلطة, وقرأ الطرفين فى معنى "الخصاء الموسع".
سردتْ "حين تركنا الجسر" سيرةَ جندى مهزوم. وسردت, بشكل مضمر, سيرة سلطة تقمع الجندى وتنهار أمام العدو الخارجى. وإذا كان فى سيرة الجندى ما يفصح عن هموم الإنسان العادى فإن فى السيرة المضمرة ما يحكى عن سلطة متداعية. يظهر سؤال الهزيمة من اختصاص الإنسان العادى, ويتجلى اختصاص السلطة فى الدفاع عن الشروط التى تنتج الهزيمة". وليس لى من تعليق على هذا الكلام البزرميط إلا أن أقول: ربنا يشفى!