الشاعر محمود سامى البارودى والنحو


د. إبراهيم عوض



يقول الشيخ حسين المرصفى فى كتابه: "الوسيلة الأدبية" عن البارودى: "هذا الأمير الجليل ذو الشرف الأصيل والطبع البالغ نقاؤه والذهن المتناهى ذكاؤه محمود سامى البارودى لم يقرأ كتابًا فى فن من فنون العربية، غير أنه لما بلغ سن التعقل وجد من طبعه ميلا إلى قراءة الشعر وعمله، فكان يستمع بعض مَنْ له دراية وهو يقرأ بعض الدواوين، أو يقرأ بحضرته، حتى تصور فى برهة يسيرة هيئات التراكيب العربية ومواقع المرفوعات منها والمنصوبات والمخفوضات حسب ما تقتضيه المعانى والتعلقات المختلفة، فصار يقرأ ولا يكاد يلحن. وسمعته مرة يسكّن ياء المنقوص والفعل المعتل بها المنصوبين، فقلت له فى ذلك، فقال: هو كذا فى شعر فلان. وأنشد شعرا لبعض العرب. فقلت: تلك ضرورة، وقال علماء العرب إنها غير شاذة. ثم استقل بقراءة دواوين الشعر ومشاهير الشعراء من العرب وغيرهم حتى حفظ الكثير منها دون كلفة، واستثبت جميع معانيها ناقدًا شريفها من خسيسها، واقفًا على صوابها وخطئها، مدركًا ما كان ينبغى وفق مقام الكلام وما لا ينبغى، ثم جاء من صنعة الشعر باللائق بالأمراء ولشعر الأمراء كأبى فراس والشريف الرضى والطغرائى تميُّزٌ عن شعر الشعراء"[1].
وقد أورد د. شوقى ضيف هذا النص بعد أن مهد له بقوله: "وإذا أخذنا ننعم النظر فى شعره على ضوء هذه العناصر التى ألفت شخصيته لاحظنا قوة العنصر العربى المكتسب. وهو عنصر لم يكتسبه بطريق التعلم على أساتذة اللغة والأدب فى عصره، وإنما اكتسبه بطريق مباشرة هى قراءة النماذج القديمة للعباسيين ومن سبقوهم من الإسلاميين والجاهليين، وما زال يقرأ فيها حتى استقرت فى نفسه سليقة الشعر العربى الأصيلة، فصدر عنها فى نظمه وشعره". ثم لم يكتف د. شوقى ضيف بهذا، بل عقب على كلام المرصفى قائلا: "معنى ذلك أنه لم يستنَّ سنة معاصريه من تعلم النحو والعروض والبديع حتى نظم الشعر، وإنما استن سنة جديدة صحح بها موقف الشعر والشعراء، فردهم إلى الطريقة القديمة، أو بعبارة أدق: ارتدَّ هو إلى تلك الطريقة. ونقصد طريقة الرواية التى كان يتلقن بها الشاعر الجاهلى والأموى أصول حرفته. وكان هذا حدثًا خطيرًا فى تاريخ شعرنا، الذى تدهور إلى أساليب غثة مكسوة بخرق البديع البالية، تُكرَّرُ فى صور من الهذيان على كل لسان. فأزال البارودى من طريقــه هذه الأساليب، واتصــل مباشرة بينابيع الشعــر العربى القديمة فى العصر العبـاسى وما قبـله من عصـور، ولم يلبث أن أسـاغها وتمثـلها تمثـلًا دقيقًـا، فقـد أُشْرِبَتْها روحه، وأصبحت جزءًا لا يتجزأ من شعره وفنه"[2].
وواضح من التمهيد الذى وطَّأ به د. شوقى ضيف لكلام المرصفى ومن التعقيب الذى ألحقه به أنه يوافق المرصفى على ما قاله. لكن هل هذا مما تعقله الأذهان أو تصدّقه حوادث التاريخ؟ لشديد الأسف لا أظن! ولقد قلت ذلك اعتمادا منى على منطق الأشياء قبل أن أطلع على ما سجله د. على الحديدى عن هذا الموضوع فى كتابه عن البارودى فى سلسلة "أعلام العرب". قلته حين كنت أضع فصلا عن المنهج النقدى للشيخ المرصفى فى كتابى: "مناهج النقد العربى الحديث"، إذ وجدته يؤكد أن الشاعر محمود سامى البارودى قد بلغ ما بلغ من إتقان لتراكيب الكلام العربى دون أن يدرس الآجُرُّوميّة، فاستغربت ذلك القول منه أشد الاستغراب، وعلّقت بأن الأمر لا يمكن أن يكون على ما قاله الشيخ الجليل رغم توضيحه، رحمه الله، لذلك بقوله إن البارودى كان ينصت إلى العالمِين بالشعر واللغة وهم يقرأون ما يقرأون من قصائد، أو يقرأ هو عليهم ما يعجبه من شعر فيصححونه له، وظل الأمر على هذا النحو حتى اكتسب سليقة اللغة. ومضيت فى استغرابى ودهشتى غير مصدق ما قاله للأسباب التى بسطتها فى الفصل الأول من كتابى: "مناهج النقد العربى الحديث" رغم أخذ عدد ممن ترجموا للبارودى به... إلى أن اطلعتُ على ترجمة الدكتور على الحديدى للشاعر فى سلسلة "أعلام العرب" فإذا بربّ السيف والقلم قد درس النحو والصرف دراسة رسمية لا مرة واحدة بل مرتين: مرة فى المدرسة وهو صبى صغير قبل أن يلتحق بالمدرسة الحربية ليكون ضابطا فيعيد دراسة النحو والصرف فيها مرة أخرى، فحمدت الله أن شكوكى كانت فى مكانها ولم تَطِشْ، وأَحْرِ بها ألا تطيش لأنها من مقتضيات العقل والمنطق.
والحق أنه لا بد من معرفة القواعد النحوية والصرفية إلى جانب التمرس بالنصوص السليمة حتى ينطبع الأسلوب اللغوى الصحيح فى نفس الشاعر والناثر. أما القول بكفاية مطالعة النصوص الصحيحة فى تحصيل الأسلوب اللغوى السليم فلا أدرى كيف يكون، إذ لدينا الواقع الذى لا يكذب ولا يتجمل، والذى يقول إنه ما لم يلم الأديب بقواعد النحو والصرف لم يستطع إتقان الكتابة اللغوية الصحيحة. بل كثيرا ما يدرس الشخص تلك القواعد ثم يظل يخطئ فى لغته فيرفع المنصوب، وينصب المخفوض، ويجزم المرفوع... إلخ. وهذا مشاهَد لا سبيل إلى نكرانه. ومن هؤلاء كثير من خريجى أقسام اللغة العربية أنفسهم، وبالذات فى عصور الانهيار الثقافى واللغوى، فما بالك بمن لم يتخرج من قسم اللغة العربية ولم يدرس النحو والصرف فى المرحلة الجامعية، واكتفى بدراستهما قبل ذلك؟ وبالمثل لا نعرف أديبا اعتمد على مجرد مطالعة النصوص المختلفة فى تحصيل الصحة اللغوية نحوا وصرفا، وبخاصة أنه لا يمكنه اختيار النصوص السليمة دائما وترك النصوص التى تعج بالأخطاء بحيث لا يتشرب إلا الصواب. ثم لا ننس أن القواعد النحوية والصرفية من التعقيد والتشعب بحيث لا يمكن الكاتب أن يتنبه لها جميعا دون مرشد من الدراسة المنظمة حتى لو لم يتعمق كل التعمق فى تلك الدراسة، وبالذات إذا كان مجال نشاطه الأدبى هو الإبداع الشعرى حيث يكثر الحذف والتقديم والتأخير والجمل الاعتراضية وتشابك التراكيب وتباعد أركان الجملة وتشابه الأدوات مع اختلاف الإعراب المترتب عليها كالواو مثلا، التى تأتى حالية وعاطفة واستئنافية وناصبة على المعية. وكثير جدا ممن يقال عنهم فى عصرنا إنهم أدباء هم، فى الواقع المخزى، لا يحسنون كيف يكتبون. وكتاباتهم خير شاهد على ما نقول رغم أنها تخضع عادة للتدقيق على أيدى المصححين اللغويين فى دور النشر وفى الصحف. ولا يعقل أن يكون البارودى، رغم شدة إعجابنا بشعره وصحته وفحولته، هو الوحيد الذى يشذ عن كل ما نعرفه فى مثل تلك الحالة.
وفى كتاب "المزهر" للسيوطى نقرأ أن "أَوَّلَ ما اختلّ من كلام العرب وأحوجَ إلى التعلمِ الإعرابُ، لأن اللَّحْنَ ظهر فى كلام الموالى والمتعربين من عهد النبى صلى الله عليه وسلم، فقد روينا أن رجلًا لحن بحضرته فقال: أرْشِدُوا أخاكم فقد ضلّ. وقال أبو بكر: لأن أقرأ فأُسْقِط أحبُّ إلى من أن أقرأ فألحن. وقد كان اللَّحنُ معروفا، بل قد روينا من لفظ النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال: أنا مِنْ قريش، ونشأتُ فى بنى سعد، فأنَّى لى اللحن؟ وكتب كاتب لأبى موسى الأشعرى إلى عمر فلحن، فكتب إليه عمر: أن اضْرِبْ كاتبك سوطا واحدا. وكان على بن المدينى لا يغيِّر الحديثَ، وإن كان لحنا إلاّ أن يكون من لفظ النبى صلى الله عليه وسلم. فكأنه يُجَوِّز اللحن على مَنْ سواه. ثم كان أولَ من رسم للناس النحو أبو الأسود الدؤلى. وكان أبو الأسود أخذ ذلك عن أمير المؤمنين على بن أبى طالب رضى اللّه عنه، وكان أعلم الناس بكلام العرب". فإذا كان هذا حال العرب، وهم قريبو عهد بالجاهلية، فما بالنا بمثل البارودى، الذى كان قريب عهد بضعف العربية فى أواخر العصر العثمانى، بل لقد كانت الطبقة الحاكمة فى عصره تتتحدث التركية، وكان الزمن قد بعد بالناس بعدا سحيقا عن العصر الجاهلى، عصر السليقة اللغوية؟
ولقد عرض د. على الحديدى لهذه القضية فى كتابه عن البارودى فوجد شاعرنا قد درس النحو والصرف مرتين فى حياته دراسة منظمة فى المدارس، ودَعْنا من الدراسة الخاصة فى البيت. بل لقد حدد د. الحديدى أسماء بعض ما درسه البارودى من كتب نحوية وصرفية فى المدرسة، ومنها "متن الآجرومية وشرحها" و"جملة الصرف". ولم يكن النحو والصرف مقررين على الطلبة المصريين وحدهم، بل كان يشركهم فى ذلك الطلبة الأتراك[3]. لكن د. شوقى ضيف، فى كلامه عن دراسة البارودى فى بيته وفى المدرسة، لم يذكر أنه تلقى شيئا من النحو أو الصرف، إذ اكتفى بالقول بأن أمه الجركسية "قامت على تربيته خير قيام فأحضرت له... المعلمين كى يؤدبوه ويلقنوه القرآن الكريم وشيئا من الفقه الإسلامى ومن التاريخ والحساب والشعر". أما بالنسبة إلى التعليم المدرسى المنظم فى حياة شاعرنا فقد ذكر أنه التحق عام 1850م بالمدرسة الحربية "يريد أن يتخرج منها ضابطا على شاكلة أبيه... ولو أنه لم يبدأ شغفه بالشعر العربى وشعرائه القدماء قبل التحاقه بهذه المدرسة لما قُدِّر لشاعريته أن تتفتح فى سن مبكرة، بل ربما حالت بينه وبين الشعر أو صرفته عنه، إذ كانت تُعْنَى بتعليم تلاميذها التركية وآدابها، وكانت تسد عليهم كل طريق للعناية بالعربية، فضلا عن أشعارها، مسرفة فيما تأخذهم به من ضروب العقاب حين يتكلمون بها أو يتحدثون، إذ كان الكلام بها والحديث فى ردهات المدرسة يُعَدّ جرما لا يُغْتَفَر، جرما يُنْزِل بمن اقترفه أعنف ما يكون من صور العقاب". ثم مضى الأستاذ الدكتور فأورد من مذكرات الأدب التى كان يمليها الشيخ محمد المهدى فى مطالع القرن العشرين على طلاب مدرسة القضاء الشرعى أن اللغة العربية "كانت مضطهدة فى عهد عباس الأول إلى حد أن من تكلم بها من طلبة المدارس الحربية توضع فى فيه العُقْلَة التى توضع فى فم الحمار حينما يُقَصّ، وبقى كذلك نهارا كاملا عقوبة له على تحريك لسانه بلغة القرآن فى أثناء فسحته"[4].
بيد أن د. الحديدى قد استند إلى لائحة المقررات المدرسية التى كان الطلاب يدرسونها فى عهد تلمذة البارودى بما فيهم طلاب المدرسة الحربية. وسواء كان ما قاله الشيخ المهدى صحيحا أو مبالغا فيه فكل ما يهمنا هو أن الطلاب فى ذلك العصر كانوا يدرسون قواعد اللغة العربية نحوا وصرفا فى حصص خاصة بها، وسواء بعد ذلك أكانوا يتجنبون الحديث بغير التركية فى المدرسة أو لا، وحتى لو كانوا يفعلون ذلك لقد كانوا بطبيعة الحال يتحدثون العربية متى خرجوا إلى الشارع أو عادوا إلى بيوتهم، وأن البارودى من ثم حين شرع يقرأ الشعر لم يبدأ من فراغ ولم يتشرب النحو والصرف من مجرد مطالعة الدواوين الشعرية ليس إلا. ويؤكد ماقلناه أن د. ضيف نفسه يقول عقيب ذلك إنه "فى هذه الأيام من عهد عباس الأول دخل البارودى المدرسة الحربية فلم تستطع أن ترده عن مناهل الشعر العربى القديم. بل لقد مضى يعكف عليها ويسرف فى العكوف، وكأنما أصبحت جزءا من نفسه. وكانت العروبة تتعمق فى هذه النفس بحكم أسرته وتعلقها بها كما قدمنا وبحكم بيئته المصرية العربية"[5].
أما قول المرصفى عن شاعرنا: "وسمعته مرة يسكّن ياء المنقوص والفعل المعتل بها المنصوبين، فقلت له فى ذلك، فقال: هو كذا فى شعر فلان. وأنشد شعرا لبعض العرب، فقلت: تلك ضرورة، وقال علماء العرب إنها غير شاذة" فلا يعنى، فى رأيى، أنه كان يفعل هذا بالسليقة، ودون الرجوع إلى قواعد النحو والصرف، بل أَفْهَمُه على أساس أن البارودى يريد أن يوضح لصديقه العالم الجليل أن قواعد النحو والصرف ليست شيئا جامدا لا يمكن الخروج عليها فى الشعر، إذ من المعروف أن هذا الفن كثيرا ما يلجئ صاحبه إلى المضايق التى تضطره اضطرارا إلى الخروج على القاعدة العامة، وهو ما شرحه المرصفى نفسه بأنه ضرورة شعرية. هذا كل ما هنالك، وليس فى النص ما يدل من قريب أو بعيد على أن البارودى لم يكن يعرف قواعد اللغة مكتفيًا بالتعويل على ما اكتسبه منها بالسليقة عبر قراءة النصوص الشعرية. ولو قال الشيخ المرصفى إن البارودى، حين عكف على دواوين الشعر يقرؤها مع بعض أصدقائه من العلماء والأدباء، لم يكن يلقى بالا كبيرا إلى تفصيلات ما درسه من نحو وصرف، بل كان يهتم أولا وآخرا بتطبيقه على النصوص التى يطالعها، لكان أحرى بالقبول. ونحن الآن حين نقرأ أو نكتب لا نضع قواعد النحو والصرف نصب أعيننا، بل نعتمد على ما استقر منها فى ضمائرنا اللغوية غير متذكرين كثيرا من تلك التفصيلات. فمثلا لا يمكننى أن أنطق الأفعال المقصورة المسندة إلى واو الجماعة أبدا مثل "سَعَى" إلا هكذا: "سَعَوْا" و"يَسْعَوْن" و"اسْعَوْا"، وذلك دون أن أعنّى نفسى بما يقول النحويون والصرفيون إنه قد حدث للفعل بسبب هذا الإسناد. لقد حفظت هذا فى الصغر حين كنت أدرس الصرف، ثم تشربته تشربا من خلال التطبيقات الكثيرة التى قمت بها قراءة وكتابة وتفكرا إلى أن صار يجرى فى عروقى مثل الدم وأتنفسه تنفسا فلا يمكن أن أقول: "سَعُوا" أو "يَسْعُون" أو "اسْعُوا" حتى لو انطبقت السماء على الأرض، بخلاف من يقومون من زملائنا بتدريس النحو والصرف كل يوم، إذ يظلون على ذكر من تلك التفاصيل والدقائق لا تغيب عن بالهم طرفة عين. لكن إذا أردت أن أتذكر القاعدة التى تحكم هذه العملية كان ذلك سهلا ميسورا ولو بشىء من التفكر. فلعل المرصفى خلط بين تينك الحالتين حين تناول هذا الموضوع عند البارودى. ثم فلنفترض بعد ذلك كله أن البارودى لم يدرس فعلا قواعد اللغة فى بدايات حياته، أَوَيُعْقَل أنه ظل إلى آخر عمره لا يهتم بدراستها حتى بعدما صار شاعرا مشهورا يشار له بالبنان، وتقلَّد الوزارات المختلفة، بل رئاسة الوزارة ذاتها، وبعد أن تعلم اللغات الأجنبية، وبعد أن عاد من المنفى إلى مصر وعكف على ديوانه يعيد النظر فيه وينقحه؟ هذا ما لا يمكن أن أتصوره أبدا.
على أن بعض النقاد قد أخذ على شاعرنا عددا من المآخذ اللغوية فى شعره، وأورد عمر الدسوقى نماذج منها فى كتابه عنه. ومن المحتمل أن يرى بعض الناس فى وجود "الهنات" النحوية والصرفية[6] التى ذكرها عمر الدسوقى والتى سنأتى إليها من فورنا دليلا على أنه إنما كان يعتمد فى ثقافته على تشرب الصنعة لا على الدراسة فى الكتب الخاصة بذلك، وإلا ما أخطأ. وبذرة هذا الاحتمال موجودة فى قول المرصفى إن الشاعر، عن طريق مطالعة الدواوين وقراءتها على مسامع بعض العلماء، "صار يقرأ ولا يكاد يلحن". ومعنى هذا أنه كان يلحن، إلا أن ذلك كان قليلا، وأن سبب اللحن هو أنه لم يتعلم النحو والصرف من الكتب والدروس بل من الأشعار ذاتها. بيد أن مثل هذا القول لا ينبغى أن يُقْبَل لأكثر من سبب: فمن المعروف أنه ما من شاعر تقريبا فى القديم أو فى الحديث إلا وانتُقِدَتْ عليه أشياء سواء كان الانتقاد فى محله أو غير ذلك. وكلهم، على أية حال، قد درسوا اللغة والنحو والصرف فى الكتب، علاوة على قراءتهم وحفظهم لكثير من النصوص الشعرية. وعلى هذا فليس البارودى بدعا فى ذلك. وثانيا فإن من ينظر فى تلك الهنات التى أوردها عمر الدسوقى يمكنه، على نحو أو على آخر، أن يجد لها تخريجا مرضيا. ولعله من أجل هذا قال د. محمد حسين هيكل عن شعره إنك "قد تعثر فيه على زلات غير قليلة فى اللغة كما يريدها المتزمتون... كما تراه يُغْرِب فى اللفظ حين يعارض الأقدمين، ثم لا يمنعه ذلك من أن يُسِيغ بعض الألفاظ العامية التى تأباها المعجمات ويثور به رجالها"[7].

وأولى هذه الهنات استعمال الشاعر كلمة "هَمَامة" بمعنى "همة" فى قوله: "همامة نفس" فى البيتين التاليين:
هَمَامَةُ نَفْسٍ أَصْغَرَتْ كُلَّ مَأْرَبٍ فَكَلَّفَتِ الأَيَّامَ ما لَيْسَ يُوهَبُ * * * هَمَامَةُ نَفْسٍ لَيْسَ يَنْقِى رِكَابَها رَوَاحٌ عَلَى طُولِ الْمَدَى وَبُكُورُ
وأتصور أن هذا استعمال صحيح رغم عدم وجود اللفظ بهذا المعنى فى المعاجم. ووجه تصويبى له أن الشاعر لا يقصد الهَمّ بفعل الشىء مرة أومرتين أو ثلاثا أو أربعا أو عشرا مثلا، بل ملازمة العزم للشخص بحيث تجده مستعدا للاضطلاع بالأعباء الثقال لا يتراجع ولا يتردد. وإذا كان الفعل "هَمَّ هِمَّةً" هو على وزن "فَعَلَ يَفْعِل" فإن فِعْل "الهمامة" هو على وزن "فَعُلَ يَفْعُل" للدلالة على أن الأمر صار سَجِيَّةً فى الشخص. ومن المعروف أنه من الممكن صياغة هذا الوزن من أى فعل للدلالة على الملازمة والثبوت. ولقد أذكر أننى استعملت ذات مرة كلمة "حُرُوجَة"، فخطأنى زميل لى قائلا: لا يوجد فى اللغة إلا "حَرَجٌ"، فكان ردى أننى لا أقصد ما يشعر به الإنسان من التردد أو الخوف من فعل شىء ما، بل أقصد ما يحف بالأمر من حساسية أو خطر، وهو ما يقابل كلمة "criticality" الإنجليزية. ثم أضفت أن تحويل الصيغة فى أى فعل ثلاثى إلى "فَعُلَ يَفْعُلُ" للدلالة على أن الأمر قد صار سجية فى صاحبه أمر جائز ومنصوص عليه فى كتب الصرف. ولا يصح القول بأن هذا يختلف عما فى المعاجم من أن "الهمامة" هى الشيخوخة والضعف الصحى بسبب تقدم العمر وما إلى ذلك، إذ لو صح منع استعمال "هَمَامَة" بالمعنى البارودى لاشتباكه مع "الهَمَامَة" بالمعنى الموجود فى المعاجم القديمة لكان ينبغى، من نفس المنطلق، مَنْع استعمال الفعل "هَمَّ" فى الدلالة على التقدم فى العمر والتضعضع بسبب الشيخوخة.
وبالمناسبة فقد رأيت أمير الشعراء أحمد شوقى يستخدم هذه الكلمة بهذا المعنى فى قوله فى رثاء مصطفى كامل:
وَيا مِصرُ، مَن شَيَّعتِ أَعلى هَمامَةً وَأَثبَتُ قَلبًا مِن رَواسى المُقَطَّمِ
وكذلك الشاعر البدوى محمد عبد المطلب:
فأصبح مهزولَ المكانة خاملًا هَمامةُ حُرٍّ فى ثيابِ وضيعِ
وصاحب "الإلياذة الإسلامية" الشاعر أحمد محرم:
وَأَجَلُّ ما رُزِقَ الرِجالُ هَمَامَةٌ تَنْفِى عُرامَ المَطْلَبِ المُتَجَهِّمِ
وعبد المحسن الكاظمى:
أَنتَ العَظيمُ همامَةً أَنتَ الهُمامُ المُصْمَئِلُّ
ونسيب أرسلان:
همامٌ لدى الجُلَّى، همامةُ نفسه عتادٌ لترويض الزمان المعاندِ
ومن الواضح أن كل هؤلاء قد جاؤوا بعد البارودى مما قد يفتح الباب للقول بأنهم جميعا عيال عليه فيها. فهل الأمر كذلك؟ الواقع أن وجود هذه اللفظة فى لغة الضاد بهذا المعنى سابق على البارودى نفسه. ذلك أننى قد عثرت عليها فى نص شعرى فى "أنساب الأشراف" للبلاذرى لبيهس بن هلال بن خلف بن حمحمة بن غراب بن ظالم بن فزارة الشاعر الجاهلى لدى انتقامه من قَتَلة إخوته:
يالكِ نفسًا وفتْ بنذرٍ أنّى لها الطّعم والسلامهْ؟ قتلتُ نصًرا شفاء نفسى فليس لى بعده همامهْ
وجاء فى "نهج البلاغة" فى وصف البارى سبحانه وتعالى: "كائنٌ لا عن حدثٍ، موجودٌ لا عن عدمٍ، مع كل شىء بمقارنةٍ، وغَيْرُ كل شىء لا بمزايلةٍ، فاعلٌ لا بمعنى الحركات والآلة، بصيرٌ إذ لا منظور إليه من خلقه، متوحّدٌ إذ لا سكن يستأنس به، ولا يستوحش لفقده. أنشأ الخلق إنشاءً، وابتدأه ابتداءً، بلا رويةٍ أجالها، ولا تجربةٍ استفادها، ولا حركةٍ أحدثها، ولا همامة نفسٍ اضطرب فيها". والآن أحسب أن ما أثير حول استعمال البارودى لتلك الفظة خليق أن يهدأ وينقشع غباره، ومن ثم لا يصلح أن يقال فيه ما قاله عمر الدسوقى من أن هذا المصدر "قد يلتمس له تخريج بعيد فيه كثير من التعسف".
أما "اسْتَحَسَّ" فلا وجود له فى البيت الذى يبتدئ بعبارة "يكفيك منه إذا اسْتَحَسَّ"، وهى العبارة التى ساقها الدسوقى بوصفها من كلام البارودى، على حين لم أجد فى الديوان إلا "أَحَسَّ" لا "اسْتَحَسَّ":
يَكْفِيكَ مِنْهُ، إِذَا أَحَسَّ بِنَبْأَةٍ، شَدٌّ كَمَعْمَعَةِ الأَبَاءِ الْمُوقَدِ
وعلى ذلك فلا مشكلة.
لكن هناك الفعل: "ارتسم" فى قول شاعرنا، الذى استخدمه بمعنى "رَسَمَ"، وقال عمر الدسوقى إنه بهذا المعنى لا وجود له فى المعجمات، وإنما هو فيها بمعنى "امتثل":
شَفَّتْ زُجَاجَةُ فِكْرِى، فَارْتَسَمْتُ بِهَا عُلْيَاكَ مِنْ مَنْطِقِى فِى لَوْحِ تَصْوِيرِ
والواقع أن ثمة أفعالا ثلاثية كثيرة فى لغة الضاد تأتى مجردة ومزيدة بالألف والتاء بنفس المعنى تقريبا أو بفرق ضئيل، مثل "بَلَعَ وابتلع، وقَطَعَ واقتطع، وقَعَدَ واقتعد، وزَرَدَ وازدرد، وسَرَطَ واسترط، وجَرَعَ واجترع، وشكا واشتكى، وثَأَرَ واثَّأَرَ، وبَدَرَ وابتدر، وصَلَمَ واصطلم، وتَرَكَ واتَّرَكَ، ونَزَحَ وانتزح، وبَدَعَ وابتدع، ونشَلَ وانتشل، وجذب واجتذب، ونَزَعَ وانتزع، وصَنَعَ واصطنع، وزادَ وازداد، ونقص وانتقص، وفرض وافترض، ونقد وانتقد، وخَبَطَ واختبط، ورَجَعَ وارتجع، وزارَ وازدار، وصَبَرَ واصطبر، ورَعَدَ وارتعد، وقَدَرَ واقتدر، وحَمَلَ واحتمل، وطَبَخَ واطَّبَخ، وشَوَى واشتوى، ورأى وارتأى، ونوى وانتوى، وساف واستاف، وقرأ واقترأ، ورَضِىَ وارتضى، وخَطَّ واختطَّ، وجَنَى واجتنى، وغَنِىَ واغتنى، وسمع واستمع، وشَمَّ واشتمَّ، وشَرَى واشترى، وباع وابتاع، ورَضِىَ وارتضى، ورجا وارتجى... إلخ". فالتاء، كما هو واضح من الأمثلة، لا تدل بالضرورة على المطاوعة كما قد يظن بعض الناس، بل لها دلالات أخرى منها إبراز زيادة الجهد فى عمل الشىء أو لمجاراة المعنى الأصلى أو للمبالغة وغير ذلك من الدلالات[8]. أفليس من الممكن إذن حمل "ارتسم" فى البيت الذى نحن بصدده على هذا المعنى بناء على أن البارودى شاعر كبير، واستعمالاته من ثم إغناءٌ للغة لا استنقاصٌ منها؟ مجرد سؤال. وأيا ما يكن الأمر فالعبرة بمدى تقبل الأدباء والكتاب لمثل تلك الاستعمالات الجديدة، وإلا توقفت. قد يُعْتَرَض بأن "ارتسم" هو فعل لازم، ومن ثم كيف يستعمله البارودى متعديا؟ فهل يصح الرد على ذلك الاعتراض بأن لهذا الفعل معنى فى اللزوم غير معناه فى التعدى، وأنه إذا كانت هناك أفعال تستخدم لازمة ومتعدية فى ذات الوقت وبنفس المعنى، فلا يجوز الاعتراض على استعمال فعل ما متعديا ولازما مع اختلاف المعنى؟ إلى القارئ، على كل حال، هذه القائمة التالية لأفعال تستعمل لازمة ومتعدية فى ذات الوقت، وهى فيض من غيض: "اشتهر" و"اختص" و"استهتر" و"أصغى" و"أسلم" و"آمن" و"أصعد" و"أدان" و"مَشَّى" و"عَدَّى" و"سَلَّم" و"حَجَّرَ" و"سكب" و"عصم" و"هرع" و"دان" و"زاد" و"نقص" و"عَزَّ" و"هلك" و"غاظ" و"هاج" و"أوى" و"قضى" و"ساء" مثلا، وكلها أفعال يمكن نطقها بصيغة المبنى للمعلوم وصيغة المبنى للمجهول، أو لازمة ومتعدية معا، ولنفس المعنى فى كثير من الأحيان.
كذلك عندنا الفعل: "شَلَّ"، الذى أخذ الدسوقى على شاعرنا استعماله متعديا بمعنى "أصابه بالشلل". والواقع أنه قد غبر علىّ زمن كنت أقول فيه بما يقوله عمر الدسوقى، ثم تبين لى بعد التوغل فى المعاجم والشعر القديم أن هذا الاستخدام صحيح لا غبار عليه، إذ سُمِع بعض الأعراب يستعملونه، وأجازه كل من الصاغانى (فى "العباب الزاخر") والفيروزابادى (فى "القاموس المحيط"). وأقصى ما يمكن أن يقال فيه أنه لغة رديئة كما جاء فى "لسان العرب" لابن منظور. أما القول بأنه خطأٌ محضٌ فلا. وقد لقيتُ فى"الديارات" لأبى الفرج الأصفهانى الفعل المذكور متعديا فى النص التالى، وهو أبياتٌ أَمَرَ المأمونُ ذات يوم جاريتَه نُعْم أن تغنيها له:
وزعمتِ أنِّىَ ظالم، فهجرتِنى ورميتِ فى كبدى بسهمٍ نافذِ نُعْمٌ، ظلمتُكِ فاصفحى وتجاوزى هذا مقام المستجيرِ العائذِ هذا مقامُ فتًى أضرّ به الهوى قَرِح الجفون، بحسن وجهك لائذِ ولقد أخذتم من فؤادىَ أنسه لا شَلَّ ربى كفَّ ذاك الآخذِ
كذلك أُخِذ على البارودى استعماله صيغة "فَعِيلَة" المؤنثة الدالة على المفعولية، إذ يؤكد منتقدوه أن الصواب فى هذه الحالة هو استعمال صيغة "فَعِيل" المذكرة فى حالتى التذكير والتأنيث كلتيهما. قال: "تمد يدا نحو السماء خضيبة"، وكان حقه أن يقول طبقا لرأيهم: "كَفًّا خضيبًا" بحذف تاء التأنيث. لكنى وجدت ابن هانئ الأندلسى وابن دانيال، وهما شاعران قديمان، يستعملان الصيغة ذاتها:
ولا بنَواصى الخيلِ غيرَ خضِيبَةٍ ولا بحَديدِ الهِندِ غيرَ مُثَلَّمِ * * * وبَشَّرَتْ بالصّباح ساجِعةٌ خضيبةُ الكفِّ ذاتُ أَطواقِ
وفى باب التأنيث من كتاب "النحو الوافى" لعباس حسن مثلا أنه يجوز فى مثل تلك الحالة أن يقال: "فتاة جريح أو جريحة" بإثبات تاء التأنيث أو حذفها، وإن كان الحذف هو الغالب. وعلى هذا فلا مسوغ لتخطئة البارودى فى قوله: "يدًا خضيبةً". ودعنا الآن من قرارات المجمع اللغوى الخاصة بالتوسع فى استعمال السماع والقياس وعدم الاعتداد بالنطاق الزمنى الذى حدده القدماء لصحة الاستشهادات اللغوية، وهو القرون الثلاثة الأولى.
ومما انتُقِد فى شعر الباروى لغةً قوله:
فَمَا أَبْصَرَتْهُ الْخَيْلُ حَتَّى تَمَطَّــــــــــرَتْبِفُرْسانِهَا واستَتْلَعَتْ كَيفَ تَخْلُــــــصُ
إذ استعمل الفعل: "استتلع" فى موضع "تلعت" بمعنى "مَدَّتْ أعناقها". هكذا جاء فى كتاب عمر الدسوقى. وقد نظرت فى "تاج العروس" فوجدت "تلع وأتلع وتتلع". كما وجدته ينقل عن "العباب" و"التكملة" قولهما: "ويقال: رأيته مستتلعا للخبر، أى شاخصا له". وفى "لسان العرب" صيغة فعلية لم ترد فى "تاج العروس" هى: "تتالَعَ". وفى "المعجم الوسيط": "استتلع للخبر: شَخَصَ له". ولنفترض أن هذه الصيغة لا توجد فى أى معجم من المعاجم، أليس من حق شاعر فحل مبدع كالبارودى أن يفترعها فيكون ابن بجدتها؟ أم هل لا بد أن نلتزم كلنا بما جاء فى المعاجم القديمة لا نعدوها أبدا؟ إذن فمعظم اللغة كما نعرفها اليوم خاطئة لأنها من إضافاتنا الحديثة وإضافات مَنْ قبلنا ممن جاؤوا بعد تأليف المعاجم الأولى.
ولقد اقترح الأستاذ عمر الدسوقى حلا لطيفا يتمثل فى أنه قد يجوز القول بأن "الهمزة والسين والتاء" فى "استتلع" للطلب، بمعنى أنها كانت تحاول أن تتلع. والواقع أن هذا وحده، بغض النظر عما قلناه آنفا، يكفى جدا لأن يصرف الناقدون نقدهم عن الشاعر رحمه الله لأن اللغة إنما هى قواعد عامة لا نصوص جامدة لا تقبل التصرف فيها، وإلا استحالت اللغة إلى قيود فولاذية تعض على أيدينا وأرجلنا وتمنعنا من الحركة فى أى اتجاه بدلا من أن تكون معوانا لنا على التعبير عما يخالج نفوسنا أو يراود عقولنا أو تجيش به ضمائرنا. وقديما وجدنا من ينتقد القرآن (إى والله: القرآن ذاته!) لأنه مثلا قال: "فأكله الذئب" بدلا من "افترسه الذئب"، فضلا عن اعتراضات أخرى يمكن أن يجدها القارئ المحب للتنقيب فى المؤلفات التى وضعت لهذا الغرض كـ"تأويل مشكل القرآن" لابن قُتَيْبَة مثلا. وفات المتنطعين المخطّئين للقرآن أنه لو كان يحتوى على خطإ واحد لما سكت على ذلك المشركون واليهود والنصارى فى عصر المبعث ممن كانوا يعملون على إسقاط الرسول فى عيون العرب وإفشال رسالته ولملأوا الدنيا ضجيجا وعجيجا، وشنوا الغارة عليه وسخروا من تحديه لهم أن يأتوا ولو بسورة من مثله. فلْيحمد البارودى إذن ربه على أنه خرج بهذه الانتقادات القليلة الهينة، ولْيُقَبِّلْ يده ظَهْرًا لِبَطْن، وبَطْنًا لِظَهْر!
ويبقى من الانتقادات اللغوية التى أوردها عمر الدسوقى فى كتابه المذكور قولهم إن البارودى قد تنكب الأساليب العربية فى البيت التالى الذى يصف به قوما من البلغار يتحدثون:
إِذَا رَاطَنُوا بَعْضًا سَمِعْتَ لِصَوْتِهِمْ هَدِيدًا تَكَادُ الأَرْضُ مِنْهُ تَمِيدُ
إذ كان المفروض ان يقول "راطن بعضهم بعضا". وأنا أوافق تمام الموافقة على أن استعمال "بعضهم" فى موضع "بعضهم بعضها" هو تنكب للأسلوب الصحيح واتباع لأسلوب العامية. لكن هل قصد البارودى "راطن بعضهم بعضا"؟ أم هل قصد أنهم يراطنون "بعض الناس"، أى يتحدثون إلى غيرهم لا أنهم يتحدثون فيما بينهم؟ كنت أظن أنه من الممكن أن يكون الثانى هو المراد، وبخاصة أن البارودى شاعر فحل بيِّن الفحولة، بيد أن البيت التالى يشهد أنه يقصد فعلا "بعضهم بعضا".
وبحقٍّ يدافع د. محمد حسين هيكل عن لغة البارودى قائلا إنك "تجد له عذرا أبلغ حين تذكر أن العبقرية التى تحلق بصاحبها فى سماوات تتعلق بها القلوب والعقول فى إعجاب وتقدير هى التى تستبيح ما يؤاخذ الناسُ المجيدين به وما يحذر هؤلاء المجيدون الوقوع فيه لأنهم لا يجدون عوضا عنه فى سمو صاحب الموهبة بعبقريته إلى حيث لا يلحقه أحد. وللبارودى مع ذلك عذره عن كثير من هذه المآخذ التى يتغاضى عنها كثيرون ويَرَوْن بعضها ضعيفا، وبعضها يشوبه الخطأ. فعذره عن أخطائه اللغوية هو عذر الفحول الأولين من كبار الشعراء الذين يُسْتَشْهَد بهم فى كل خروج على قواعد اللغة. فهم لم يكونوا يتقيدون بها، وقد كانت حديثة الوضع فى عهدهم، وكانت أقوالهم حجة لذاتها". إلا أن هيكل يمضى فيقول ما لا نوافق عليه من أن الشاعر الكبير لم يتعلم النحو والصرف. ثم يعود إلى ما كان آخذا فيه من أن البارودى "قرأ الشعراء الأولين وحفظ عنهم كل ما اطمأن إليه من أقوالهم. وأنت لذلك تستطيع أن تقول إنه عاصرهم وعاش معهم. فلم يكن أبناء زمانه من المصريين يعرفون اللغة العربية، وإنما كانوا يتحدثون بلغة أخرى هى العامية. فحياة البارودى المتصلة باللغة العربية كانت بين الشعراء الجاهليين وشعراء العصرين: الأموى والعباسى، ومن ثم صارت لغتهم لغته، وصارت سليقة له كما كانت سليقة لهم. فكان يقولها ويتصرف فيها كما كانوا يقولونها ويتصرفون فيها. فإذا هو سما بسليقته فى اللغة كما سَمَوْا، ولم يتقيد بما يتقيد به غيره، فلا تثريب عليه، ولا شىء فى ذلك يؤاخَذ به، وإن وجب التنبيه إليه"[9].
والآن ألا يخطئ البارودى أبدا فى اللغة؟ جل من لا يخطئ أو يسهو، بل كلنا معرضون للخطإ، ولو نسيانا أو اجتهادا حَسَن النية، وكل بنى آدم خطّاء كما قال رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم. أى أن الخطأ وارد على ابن آدم فى كل الأحوال، ولا استثناء للغة. لكن هذا شىء، وإرجاع الملاحظات اللغوية التى تؤخذ على البارودى حقًّا أو وهمًا إلى أنه كان جاهلا بقواعد اللغة شىء آخر. لكن لا ينبغى أن يفوت عن بالنا أن كثيرا جدا مما يقال إنه خطأ فى اللغة إنما هو خطأ عند المتعجلين الذين يتوهمون أنهم قد أحاطوا بكل شىء فى اللغة علما. ذلك أن الأيام والليالى قد علمتنا أن ما نعلمه بالقياس إلى ما لا نعلمه إنما هو كقطرة البحر بالنسبة للمحيط الزَّخَّار، وأن القواعد التى درسناها ليست هى القواعد بإطلاق، وأنها إن كانت تقيدنا الآن فلم تكن تقيد كل الشعراء والأدباء فى العصور القديمة، التى كان أمامها ألوان الطيف اللغوى يختارون منها ما يشاؤون، وأن الشعراء والكتاب الكبار من حقهم أن يبدعوا ويضيفوا فنستمع لما يبدعونه ويضيفونه، مثلهم مثل نظرائهم الأولين، إذ ليست اللغة شيئا صُبَّ فى القالب ثم أُفْرِغ من قالبه وانتهى الأمر فلم يعد لأحد الحق فى إضافة أو اجتهاد أو تساؤل. خذ مثلا قول البارودى:
خَلِيلَى هَلْ طَالَ الدُّجَى أَمْ تَقَيَّدَتْ كَوَاكِبُهُ أَمْ ضَلَّ عَنْ نَهْجِهِ الْغَدُ؟ * * * وَمَا كُنْتُ أَخْشَى أَنْ أَعِيشَ بِغُرْبَةٍ يُعَلِّلُنِى فِيهَا خُوَيْدِمُ أَسْوَدُ
فأما فى البيت الأول فيستخدم "أَمْ" مع "هل"، التى لا ينبغى فى نظر المتنطِّسين أن تستخدم مع "أم" بل تختص "أم" بـ"الهمزة" ، وتختص "أو" بـ"هل". ومع هذا فقد وجدت مثلا الطُّفَيْل الغَنَوِىّ يقول:
هل حَبْلُ شَمّاءَ قبلَ البَيْنِ موصولُ أَمْ ليسَ لِلصُّرْمِ عن شَمّاءَ مَعدولُ أَم ما تُسائِلُ عن شَمّاءَ ما فَعَلَتْ وما تُحاذِرُ من شَمّاءَ مَفعولُ؟ ويقول أبو كبير الهُذَلِىّ: أَزُهَيْر، هَلْ عن شَيْبَةٍ من مَعْدِلِ أم لا سَبِيلَ إِلى الشَّبَابِ الأَوَّلِ أم لا سبيل إلى الشباب، وذِكْرُه أشهى إلىَّ من الرحيق السلسلِ؟ وابن الرومى: ألا هلْ لأيامٍ تعلَّلْتُ عيشَها بها عودةٌ أم ليس دهرٌ بعائدِ؟ * * * لَدَرَى هلْ مُذكَّرٌ فوقَها أم مؤنَّثُ * * * هل أنتَ ذاكرُ موعدٍ قدَّمْتَه أم أنت ناسٍ ذاك أم متناسِ؟ وابن خفاجة: أَلا هَلْ أَطَلَّ الأَميرُ الأَجَلّْ أَمِ الشمسُ حلَّت بِرَأْسِ الحَمَلْ؟ * * * لَم أَدْرِ هل يُزْهَى فَيَخْطُر نَخْوَةً أَم لاعَبَتْ أَعطافَهُ الجِرْيالُ؟ وابن دراج القسطلى: هل المُلكُ يَمْلِكُ ريبَ المَنونِ أَمِ العِزُّ يَصْرِفُ صَرْفَ القضاءِ؟ * * * هل تَحْتَ ذَاكَ الماءِ ماءٌ جامدٌ أَم ذابَ من فوقِ الرُّخامِ رخامُ؟ وابن زيدون: هَلِ الرِياحُ بِنَجْمِ الأَرضِ عاصِفَةٌ أَمِ الكُسوفُ لِغَيْرِ الشَّمسِ وَالقَمَرِ؟ * * * بِاللهِ هَلْ كانَ قَتْلى فى الهَوَى خَطَأً أَم جِئْتَهُ عامِدًا ظُلمًا وَعُدوانا؟ وابن هانئ الأندلسى: هل أنتَ تارِكُ نَصْل سيفِك حِقبةً فى غِمْده أم ليس بالمتروكِ؟ * * * هل زلّتِ الأقدامُ بعد ثبوتها أمْ زاغتِ الأبْصارُ وَهْىَ تَأَمَّلُ؟
وغير ذلك كثير. وأما فى البيت الثانى فظاهر الأمر أن البارودى قد منع "خويدم" من الصرف، وهو اسم جنس لا يتوفر له أى سبب يمنعه من التنوين. بيد أن من الممكن قراءة البيت بتجاهل الهمزة التى على ألف "أسود" وتنوين "خويدم" فنقول: "خُوَيْدَمٌ اسْوَدُ". أقول هذا وأنا أعرف أن من العروضيين من يقبل فى الضرورات الشعرية منع تنوين الاسم المنون[10]، إلا أن وصل همزة القطع أشيع وأحظى بالقبول فى دنيا تلك الضرورات بخلاف تنوين الممنوع.
أما قوله:
نَمْشِى بِهِ بَيْنَ أَشْجَارٍ كَأَنَّ عَلَى أَفْنَانِهَا مِنْ بُرُودِ الْيَمْنَةِ الرِّيَطُ أو قوله: أَلا إِنَّ فِى تِسْعٍ وَعِشْرِينَ حِجَّةً لِكُلِّ أَخِى لَهْوٍ عَنِ اللَّهْوِ رَادِعُ
برفع "الرِّيَط" و"رادع" مع أن حقهما النصب باعتبار الأولى اسم "كأن" متأخرا، والثانية اسم "إن" متأخرا، فهو محاولة منه للهروب من الإقواء لأن كلا من الطاء والعين فى رَوِىّ القصيدة مضمومة. ولا أظنه كان يجهل هذا الذى أقول عن إعراب "الرِّيَط" و"رادع"، وإلا فلماذا كان ينصب الكلمات التى تقع موقعهما عادة كما هو الحال فى الشواهد التالية:
أُعَاشِرُهُم رَغْمًا، وَوُدَّى لَوَ انَّ لِى بِهِمْ نَعَمًا أَدْعُو بِهِ فَيُسَارِعُ * * * إِنَّ فى بُرْدَتَىَّ هَاتَيْنِ لَيْثًا يَقِصُ الْقِرْنَ أَوْ يَفُلُّ السِّلاحَا * * * كَأَنَّ لَهَا ضِغْنًا عَلَى الْعَقَلِ كَامِنًا فَإِنْ هِىَ حَلَّتْ مَنْزِلًا رَحَلَ الْعَقْلُ * * * يَقُولُونَ: مَحْمُودٌ. وَيَا لَيْتَ أَنَّنِى كَمَا زَعَمُوا، أَوْ لَيْتَ لِى طَائِعًا كَاسْمِى
ولم يحدث أن رفع اسم "إن وأخواتها" فى درج البيت، بل فى القافية لا غير. وبطبيعة الحال لا يُعْوِز النحوى المضرَّس أن يقول توجيها لهذا الإعراب إن "إن" هنا لا تعمل، أو إن هناك ضمير شأن محذوفا بعدها هو اسمها، أما الخبر فهو جملة "على أفنانها الرِّيَط" و"فى تسع وعشرين حِجّةً رادع". وفى إعراب قوله تعالى: "لكنَّ هو اللهُ ربى"[11] ينقل القرطبى عن الكسائى أن قوله عز شأنه: "لَكِنَّ هُوَ ٱللَّهُ" معناه: "لكن الأمر هو الله ربى، فأضمر اسمها فيها"، أى قَدَّر وجود كلمة "الأمر"، وهى تقابل ضمير الشأن. وفى "الكتاب" لسبويه: "وروى الخليل رحمه الله أن ناسًا يقولون: إن بك زيدٌ مأخوذٌ، فقال: هذا على قوله: "إنه بك زيدٌ مأخوذ"، وشبّهه بما يجوز فى الشعر، نحو قوله، وهو ابن صريم اليشكري:
وَيَوْمًا تُوافينا بِوَجْهٍ مُقَسَّمٍ كَأَنْ ظَبْيَةٌ تَعْطُو إلى ناضِرِ السَّلَمْ وقال الآخر: ووجهٍ مشرقِ النحرِ كأنْ ثدياه حُقَّانِ
لأنه لا يحسن ههنا إلا الإضمار. وزعم الخليل أن هذا يشبه قول من قال، وهو الفرزدق:
فلو كنتُ ضَبِيًّا عرفتَ قرابتى ولكنَّ زنجى عظيم المشافرِ
والنصب أكثر فى كلام العرب، كأنه قال: "ولكن زنجيًّا عظيمَ المشافر لا يعرف قرابتى”. ولكنه أضمر هذا كما يُضْمر ما بنى على الابتداء نحو قوله عزّ وجلّ: "طاعةٌ وقولٌ معروفٌ"، أى طاعةٌ وقولٌ معروفٌ أمثل". ويتحدث ابن هشام فى "مُغْنِى اللبيب عن كتب الأعاريب" عن جواز "حذف المبتدأ إذا كان ضمير الشأن لأن ما بعده جملة تامة مستغنية عنه، ومن ثم جاز حذفه فى باب "إنّ" نحو "إنّ بك زيدٌ مأخوذ" لأن عدم المنصوب دليل عليه. ويضيف عبد القادر البغدادى فى "خزانة الأدب ولُبّ لُبَاب لسان العرب" أن حذف ضمير الشأن لا يختص بالشعر. ومنه الحديث: "إن من أشد الناس عذابًا يوم القيامة المصوِّرون"، وحكاية الخليل: إن بك زيدٌ مأخوذ". ثم أليس من الممكن أن يقال إن "لكنّ" فى الآية الكريمة لم تعمل، ولهذا ورد عقبها ضمير الشأن مرفوعا منفصلا، ولو جرت على الشائع من قواعد العربية لقيل: "لكنه الله ربى"؟ وما دامت قد جاءت فى القرآن فهى صحيحة، بل فصيحة من الطراز الأول، إذ القرآن هو حُجَّة الحجج، وإلا فلو كان فيه شىء لثار المشركون والمنافقون واليهود والنصارى آنذاك وخَطَّأوا النبى فى ذلك التركيب. ولكنهم لما لم يفعلوا مع توفر الدواعى على ذلك كان دليلا على أنهم لا ينكرون من ذلك التركيب شيئا. وإذن لقد كان للبارودى أسوة فى كلام القرآن. ولكيلا يستغرب القارئ ما أقول أذكر له أن من العرب القدماء من كان ينصب اسم "إن" وخبرها جميعا. وقد جرى بشار فى بيت له على هذه السُّنَّة فقال:
حَتّامَ تُجْشِمُنى الصِّبَا وَتَشُفُّنى؟ بل لَيْتَ غَيْرَكَ، يا فُؤادُ، فُؤَادا
فإذا كان البارودى قد رفع اسم "إن" وخبرها لقد نصب بشار الاثنين، وكلا الشاعرين قد سار فى طريق غير الطريق المشهور. هذا، ولا بد لى أن أكون صريحا فأقر بأننى أحب البارودى ولا أريد أن أسارع إلى تخطئته، إلا أنى لا أركب فى ذلك الصعب والذَّلُول بل الذلول وحده، ففيه بحمد الله غَنَاء. ويسوّغ لى هذا بكل قوة أن البارودى كان يتبع سبيل القدماء فى صياغته، فلهذا سَهُلَ على ضميرى أن أعامله بوصفه واحدا منهم، فلم ألزمه بالتزام القواعد التى لا نكاد نعرف غيرها اليوم. ولقد رجعت إلى "النحو الوافى" لعباس حسن، فألفيته يشير إلى تلك اللغة التى تنصب اسم "إن وأخواتها" وخبرها جميعا، قائلا: "من العرب من ينصب بهذه الحروف المعمولين كما تنطق الشواهد الواردة به. لكن لا يصح القياس عليها فى عصرنا منعًا لفوضى التعبير والإبانة. وإنما نذكر رأيهم، كعادتنا فى نظائره، ليعرفه المتخصصون فيكشفوا به، فى غير حيرة ولا اضطراب، ما يصادفهم من شواهد قديمة وردت مطابِقَةً له مع ابتعادهم عن محاكاتها"، وهو قريب مما قلته عن شاعرنا الكبير رحمه الله.













نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعينقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي







د. إبراهيم عوض