والشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة: هل هذا قرآن؟


د. إبراهيم عوض


أول ما يواجهنا حين نرجع إلى تفسير ابن كثير لسورة "الأحزاب" قوله قبل الدخول فى تفسيرها: "قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْإِمَامِ أحمد: حَدَّثَنَا خَلَفُ بْنُ هِشَامٍ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ عَاصِمِ بْنِ بَهْدَلَة عَنْ زِرِّ قَالَ: قَالَ لِي أُبي بْنُ كَعْبٍ: كَأين تَقْرَأُ سُورَةَ الْأَحْزَابِ؟ أَوْ كَأين تَعُدُّهَا؟ قَالَ: قُلْتُ: ثَلَاثًا وَسَبْعِينَ آيَةً. فَقَالَ: قَط؟ لَقَدْ رَأَيْتُهَا وَإِنَّهَا لَتُعَادِلُ سُورَةَ "الْبَقَرَةِ". وَلَقَدْ قَرَأْنَا فِيهَا: "الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إِذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا الْبَتَّةَ نَكَالًا مِنَ اللَّهِ، وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ". وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عَاصِمٍ، وَهُوَ ابْنُ أَبِي النَّجُودِ، وَهُوَ ابْنُ بَهْدَلَة، به. وَهَذَا إِسْنَادٌ حَسَنٌ، وَهُوَ يَقْتَضِي أَنَّهُ كَانَ فِيهَا قُرْآنٌ ثُمَّ نُسِخَ لَفْظُهُ وَحُكْمُهُ أَيْضًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ".
هذا ما نقرؤه فى تفسير ابن كثير. وقد تكفل الله بحفظ القرآن فى قوله تعالى بسورة "الحِجْر": "إنا نحن نزَّلنا الذِّكْرَ، وإنا له لحافظون". ولكن بكل أسف هناك روايات متهافتة تقول ما يمكن أن يناقض هذا التعهد الإلهى. ومن هذه الروايات الرواية التالية المنسوبة إلى أم المؤمنين عائشة رضى الله عنها: "لقد نزلت آيةُ الرَّجمِ ورضاعةُ الكبيرِ عَشْرًا، ولقد كان فى صحيفةٍ تحتَ سريرى. فلمَّا ماتَ رسولُ اللهِ صلَّى الله عليْهِ وسلَّمَ وتشاغلنا بموتِهِ دخلَ داجنٌ فأَكَلَها". ولن أدخل فى مسألة الإسناد والجرح والتعديل بل سوف أتناولها بالمنطق المجرد وبالنظر إلى الأوضاع التاريخية والاجتماعية التى أحاطت بتلك الحادثة إن كانت قد وقعت فعلا ولم تكن من صنع خيال بعض الناس.
وأول شىء أن الرواية تقول إن الداجن قد أكلت الورقة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومعنى ذلك أن القرآن لم يحفظ كما ينبغى على النقيض مما تعهد به الله سبحانه كما رأينا آنفا. فكيف لم يهج المسلمون للواقعة وتركوها تمر وكأن أمرا جللا لم يقع ينسف هذا التعهد من الأساس؟ لقد كان الأحرى بهم أن تتزلزل الأرض تحت أقدامهم. لكننا ننظر فلا نرى انفعالا ولا ضجة ولا غضبا وكأن نصا قرآنيا لم يضع فى بطن الداجن إلى الأبد. وأين عمر مثلا من تلك المصيبة وقت حدوثها أو وقت علمه بها؟ أتراه كان سيلوذ بالصمت، وهو الغيور العنيف الذى لا تأخذه فى الله لومة لائم، ولا يبالى بأحد متى كان هناك خطأ أو تقصير؟ فهل هذا مما يعقله العاقلون؟
الغريب أن يسكت عمر حتى يموت أبو بكر ويتولى هو الخلافة بعده ثم يوشك أن يموت، وهنا، وهنا فقط، يتذكر عمر قصة اختفاء نص الرجم حسبما تقول الحكاية التالية: "لما صدر عن عمر بن الخطاب من مِنًى أناخ بالأبطح، ثم كوَّم كومة بطحاء ثم طرح عليها رداءه واستلقى، ثم مد يديه إلى السماء فقال: اللهم كبرتْ سنى، وضعفتْ قوتى، وانتشرتْ رعيتى، فاقبضنى إليك غير مضيِّع ولا مفرِّط. ثم قَدِم المدينةَ فخطب الناس فقال: أيها الناس، قد سُنَّتْ لكم السنن، وفُرِضَت الفرائض، وتُرِكْتُمْ على الواضحة إلا أن تضلّوا بالناس يمينا وشمالا. وضرب بإحدى يديه على الأخرى ثم قال: إياكم أن تهلكوا عن آية الرجم أن يقول قائل: لا نجد حَدَّيْن فى كتاب الله. فقد رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد رجمنا. والذى نفسى بيده لولا أن يقول الناس: "زاد عمر بن الخطاب فى كتاب الله" لكتبتُها: "الشيخ والشيخة فارجموهما ألبتة". فإنا قد قرأناها. قال مالك: قال يحيى بن سعيد: قال سعيد بن المسيب: فما انسلخ ذو الحجة حتى قُتِل عمر رحمه الله".
فهل نصدق أن عمر كان يعلم أن هذه آية من القرآن ثم يخشى أن يعيدها إلى كتاب الله؟ ترى ما الذى منعه من ذلك؟ تقول الحكاية: لقد خاف أن يقول المسلمون عنه: زاد فى القرآن. فهل صحيح أنه لو كتبها فى المصحف سيكون قد زاد شيئا على القرآن؟ بطبيعة الحال لا. ثم لقد صرح أمام المسلمين بأنها من القرآن، فهل أنكر عليه أحد ذلك؟ لا. فلم الخوف إذن من الانتقال إلى الخطوة التالية وكتابتها، ونحن نعرف أن الكتابة ليست شيئا آخر غير القول مُثْبَتًا فى ورق؟ فهل هناك فرق بين هذا وذاك؟ وهل كان عمر وحده هو الذى يعرف أن هناك نصا قرآنيا برجم الشيخ والشيخة الزانيين؟ طبعا لا. فلماذا لم يستشهد بمن يشاطرونه هذه المعرفة ليحسم الأمر ويعيد كتابة الآية فى موضعها؟
ترى هل يمكن أن يهمل عمر اختفاء نص قرآنى طوال هاتيك السنين دون أن يَحْرَج ضميرُه فيعيش خالى البال وكأن شيئا لم يكن؟ فما الذى جد يا ترى فجعله يتذكر الأمر بغتة ويخشى توابعه؟ إن معنى هذا أن عمر قد مات وهو يعرف أن هناك نصا قرآنيا ضاع، ولا سبيل لإعادته إلى مقره، ولم ير فى هذا ما ينبغى تصحيحه. فهل هذا مما يعقله العاقلون؟ لقد كان عمر أشجع من هذا وأحزم وأعزم، ولم يكن ممن يعملون للمعترضين حسابا متى اقتنع بشىء. لقد أوقف مثلا سهم المؤلفة قلوبهم بعد قوة الإسلام دون أن يتردد لحظة. ومن قبلُ حين أراد الهجرة من مكة رأيناه يذهب إلى الكعبة حيث كانت قريش تعقد مجالسها فيصارحهم بنيته متحديا إياهم بقوله: من أراد أن تثكله أمه أو تترمل زوجته أو ييتم ولده فليلقنى وراء هذا الوادى. كما اعترض فى البداية على نصوص معاهدة الحديبية رغم موافقة الرسول عليها.
ترى هل يمكن عمر، الذى يثور لمثل ما ثار له فى الرواية التالية على قلة شأن المسألة بالقياس إلى موضوعنا الحالىّ، أن يكون موقفه من هذا الموضوع الخطير بهذا الهدوء بل بهذا البرود؟ تقول الرواية على لسانه: "سمعتُ هشامَ بنَ حكيمٍ يقرأ سورةَ "الفرقانِ" فى حياة رسول الله صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، فاستمعتُ لقراءته، فإذا هو يقرؤها على حروفٍ كثيرةٍ لم يُقْرِئْنيها رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ كذلك، فكدتُ أساورُه فى الصلاة، فانتظرتُه حتى سلَّم، ثم لَبَّبْتُه بردائِه أو بردائى، فقلتُ: من أقرأك هذه السورةَ؟ قال: أقرأنيها رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ. قلتُ له: كذبتَ. فواللهِ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرأنى هذه السورةَ التى سمعتُك تقرؤها. فانطلقتُ أقوده إلى رسول اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ فقلتُ: يا رسولَ اللهِ، إنى سمعتُ هذا يقرأ بسورة "الفرقانِ" على حروفٍ لم تُقْرِئْنيها، وأنت أقرأتنى سورةَ "الفرقانِ". فقال رسول الله صلى الله عليهِ وسلَّمَ: أرسِلْه يا عمرُ. اقرأْ يا هشامُ. فقرأ عليه القراءةَ التى سمعتُه يقرؤها، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: هكذا أُنْزِلَتْ. ثم قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: اقرأْ يا عمرُ. فقرأتُ، فقال: هكذا أُنْزِلَتْ. ثم قال: إنَّ هذا القرآنَ أُنْزِل على سبعةِ أحرفٍ، فاقرؤوا ما تيسَّر منه".
ثم لماذا لم يفصح عمر عما فى نفسه بخصوص رجم الشيخين حين تجرد زيد بن ثابت لجمع القرآن فى عهد الصديق بناء على اقتراحه هو نفسه خوفا من ضياع شىء من الكتاب المجيد بسبب استحرار القتل فى صفوف قُرّاء القرآن فى حروب الردة؟ لماذا لم يقل، بعدما انتهى زيد من مهمته، إن هناك نصا فات زيدا أن يضعه فى المصحف؟ لقد كان عمر، كما قلت آنفا، رجل حزم وعزم، فلم يكن ليضيع تلك الفرصة ويضيع معها تلك الآية. أَوَبعدما انتهى زيد واللجنة التى كانت معه من عملها، ومرت على ذلك أعوام وأعوام، يأتى عمر فى الوقت الضائع ويتذكر أن هناك آية قرآنية سقطت من كتاب الله، ثم لايكتفى بهذا بل يعلن عن خشيته من إعادتها إلى موضعها؟ لقد كان إيمانه وحصافته جديرين بأن يجعلاه يسلك سبيلا أقوم من هذا رشدا، أو ما دام يخشى العوام إلى هذا الحد لقد كان ينبغى أن يكتم الأمر حتى لا يثير فتنة بين المسلمين بتذكيرهم أن الله لم يحفظ قرآنه خلافا لما وعد به. الواقع أن تصرف عمر معناه أنه أراد تجنب الفتنة بإشعالها. فهل يمكن أن تكون هذه هى شخصية عمر؟
وهذه هى رواية جمع زيد للقرآن فى عهد أبى بكر، وموقف عمر من ذلك الجمع، وهو موقف يتناقض مع موقفه الذى نحن بصدده تمام التناقض، إذ كيف يكون حريصا على ألا يضيع شىء من النص القرآنى هناك، ولا يبالى بذلك هنا؟ لقد أقر زيد ولجنته آخر سورة التوبة رغم أنهم لم يجدوه إلا عند أبى خزيمة. فلماذا يا ترى لم ينبر عمر ويقول: وأنا أيضا عندى آية ينبغى ضمها إلى كتاب الله؟ ولا أظن شهادة عمر أقل من شهادة أبى خزيمة. وهذا لو لم تكن هذه الآية لدى أحد سواه، وهو أمر مستبعد. يقول زيد بن ثابت فى الرواية المذكورة: "أرسَل إلى أبو بكرٍ مَقْتَلَ أهلِ اليمامةِ، فإذا عمرُ بنُ الخطابِ عِندَه. قال أبو بكرٍ رضى اللهُ عنه: إنَّ عُمَرَ أتانى فقال: إنَّ القتلَ قدِ اسْتَحَرَّ يومَ اليمامةِ بقُرَّاءِ القرآنِ، وإنى أخشى أن يَستَحِرَّ القتلُ بالقُرَّاءِ بالمواطنِ، فيذهَب كثيرٌ منَ القرآنِ. وإنى أرى أن تَأمُرَ بجمعِ القرآنِ. قلتُ لعُمَرَ: كيف تفعَلُ شيئًا لم يفعلْه رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؟ قال عُمَرُ: هذا واللهِ خيرٌ. فلم يزَلْ عُمَرُ يُراجِعُنى حتى شرَح اللهُ صدرى لذلك، ورأيتُ فى ذلك الذى رأى عُمَرَ. قال زيدٌ: قال أبو بكرٍ: إنك رجلٌ شابٌّ عاقلٌ لا نَتَّهِمُك، وقد كنتَ تَكتُبُ الوحى لرسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فتتبَّعِ القرآنَ فاجمَعْه. فواللهِ لو كلَّفونى نقلَ جبلٍ من الجبالِ ما كان أثقلَ على مما أمَرنى به من جمعِ القرآنِ. قلتُ: كيف تفعلونَ شيئًا لم يفعَلْه رسول ُاللهِ؟ قال: هو واللهِ خيرٌ. فلم يزَلْ أبو بكرٍ يُراجِعُنى حتى شرَح اللهُ صدرى للذى شرَح له صدرَ أبى بكرٍ وعُمَرَ رضى اللهُ عنهما، فتتبَّعتُ القرآنَ أَجْمَعُه منَ العُسُبِ واللِّخافِ وصدورِ الرجالِ حتى وجَدتُ آخِرَ سورةِ "التوبةِ" معَ أبى خُزَيمَةَ الأنصارى، لم أجِدْها معَ أحدٍ غيرِه: "لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ"... حتى خاتِمةِ بَراءَة. فكانَتِ الصحُفِ عِندَ أبى بكرِ حتى توفَّاه اللهُ، ثم عندَ عُمَرَ حياتَه، ثم عِندَ حفصةَ بنتِ عُمَرَ رضى اللهُ عنه".
لقد كان المسلمون يهيجون لما هو أقل من هذا بمراحل كاختلافهم حول طريقة نطق بعض الألفاظ طبقا لاختلاف القراءات وخوف عمر من افتتان المسلمين بذلك وتفكيره فى جمعهم على مصحف واحد. كما ثار المسلمون على عثمان لجمعه القرآن مرة أخرى فى عدد من المصاحف والتخلص مما عداها رغبة منه فى ألا يختلف المسلمون اختلافا يهدد وحدتهم. فكيف تَلَقَّوْا تلك الواقعة بأعصاب باردة إلى هذا الحد؟ ثم كيف عرفت عائشة أن الداجن قد أكل الورقة؟ إذا كانت قد رأت ما حدث فكيف لم تتدخل وتمنع الداجن من العيث فى القرآن فسادا؟ وإذا لم تكن قد شاهدت شيئا فكيف عرفت بما حدث؟ ثم إن النبى قد غُسِّل وكُفِّن فى حجرة عائشة، التى كانت الورقة المذكورة مدسوسة تحت الفراش فيها. فكيف دخلت الداجن تلك الغرفة الصغيرة وأكلت الورقة المقدسة، وزوجات النبى وبنته وقريباته على الأقل هناك، والنبى ممدد على الفراش، دون أن تنهر إحداهن الداجن عن فراش النبى والعبث تحته؟ يستحيل أن يحدث هذا، فهن أكبر من أن تصيبهن هذه البلادة.
ونحن نعرف أن النبى لم يكن له سرير كسُرُرِنا الآن مرتفع عن الأرض بل مجرد حشية أو حصير يوضع عليها، فكيف يمد الداجن فمه تحت الحصير؟ بل كيف يمكن أن يضع النبى أو عائشة الورقة القرآنية فى ذلك الموضع الغريب؟ وهل كان من عادة العرب أن يضعوا أوراقهم، إن كان عند أحدهم شىء منها، على الأرض تحت الفراش؟ الحق أنى لم أسمع بمثل تلك الواقعة فى تلك العصور. لقد كان الورق فى عصر الجاهلية والنبوة من الندرة بحيث أتصور أنه كان يعامل معاملة الذهب والجواهر النفيسة. فكيف تُعَامَل ورقةٌ فيها نص قرآنى بهذه اللامبالاة؟ ثم من أدرى عائشة بأن ما ضاع من القرآن هو هذان النصان فقط؟ سيقال إن المسلمين كانوا يحفظون القرآن، وإنهم قد تنبهوا إلى ضياع هذين النصين. فكيف لم يعيدوا النصين الضائعين إلى القرآن إذن ما داموا يحفظونهما؟ هل غَلَّ أحدُهم يدهم عن ذلك؟ وهذا إن كانت هناك نسخة واحدة فقط من ذَيْنِكَ النَّصَّيْن.
ثم هل تظنون أن اليهود والنصارى كانوا ليسكتوا على ما حدث فلا يقيموا الدنيا ويقعدوها شماتة فى الدين الجديد الذى يهدد دينيهم ويزيد فيتهمهم بالعبث فى نصوصهما؟ وهناك أيضا المنافقون الكارهون فى أعماقهم للإسلام، وكذلك المرتدون، الذين انتهزوا وفاة النبى ونكصوا على أعقابهم وخرجوا من دينه خروجا كاملا أو جزئيا، واتبع بعضهم أنبياء من قبائلهم. أتراهم كانوا يهملون تلك الواقعة فلا يستغلوها فى محاربة الدين الجديد وتسويغ خروجهم منه باعتبار أن الله لم يحفظ قرآنه كما وعد، ومن ثم فإن الأمر يبعث على الريبة والتشكك؟
ثم إن الروايات الأخرى تقول إن الرجم فى النص السابق المفقود خاص بالشيخ والشيخة، إذ يقول: "الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة". ومعنى ذلك أن الرجم لا يسرى على الشبان والرجال والكهول بل على الشيوخ فقط. لكن ما ضابط الشيخوخة هنا؟ ثم هل الشيوخ من عنف الشهوة بما يجعل القرآن يخصهم دون سائر الزناة بهذا الحكم الشديد كى يردعهم؟ وقبل ذلك ما الذى منع المسلمين يا ترى من رد ذلك النص إلى المصحف ما داموا يحفظونه على هذا النحو؟ وفوق هذا فتلك أول رواية وآخرها تتحدث عن حفظ رسول الله قرآنا مكتوبا تحت فراشه. ألا إن هذا كله لغريب!
ثم لماذا يقضى الله بضياع نص من كتابه رغم تعهده بحفظه، ثم الإبقاء مع هذا على الحكم الذى يتضمنه ذلك النص؟ يا له من أمر مربك! يبدو أن من اخترع هذا الحديث ونسبه للرسول إنما أراد أن يسوغ حكم رجم الزانى، الذى لم يرد رغم خطورته فى القرآن. لكن اختراعه لم يكن محبوكا البتة. وعلى ذكر "البتة" ليس فى القرآن كلمة "البتة" أبدا، تلك الكلمة التى انفرد النص المذكور بورودها فيه. بل ليس فى القرآن أية كلمة مشتقة من الجذر: "ب ت ت". وهو ما يعضد إنكارى أن يكون ذلك النص آية محذوفة من كتاب الله. وبالمثل ليس فى القرآن كلمة "الشيخة" أبدا. وهذا مُعَضِّدٌ آخر. ثم إن فى القرآن نصا خاصا بالزناة يقول: "الزانيةُ والزانى فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة". فكيف يكون هناك نص آخر فى القرآن بحكم آخر؟ إن هذا إما أن يربك المسلمين فيتساءلوا: أى الحكمين هو الحكم الصحيح؟ وإما أن يقولوا: إن حكم الرجم خاص بالشيوخ والشيخات، وحكم الجلد لمن دونهما. فكما يرى القارئ فإن هذه الروايات تربك كل شىء أيما إرباك. أما على الرواية التى أوردها ابن كثير فى مفتتح تفسيره لسورة "الأحزاب" فإن ما ضاع من هذه السورة مقدار كبير جدا، ما دامت السورة كانت تعادل فى طولها سورة "البقرة"، وسورة "البقرة" تضعف "الأحزاب" الحالية نحو عشر مرات، كما رأينا ابن كثير يقول بأن الجزء الذى اختفى من السورة منسوخ لفظا وحكما، بما فيه نص الرجم بطبيعة الحال. فهل يقول ابن كثير بالجلد لكل زانٍ بغض النظر عن مرحلته العمرية وعن إحصانه أو عدمه؟
تعالوا نقرأ ما كتبه عند تعرضه للآية الثانية من سورة "النور": "قَالَ تَعَالَى: "الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ": هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ فِيهَا حُكْمُ الزَّانِي فِي الْحَدِّ، وَلِلْعُلَمَاءِ فِيهِ تَفْصِيلٌ وَنِزَاعٌ: فَإِنَّ الزَّانِيَ لَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِكْرًا، وَهُوَ الَّذِي لَمْ يَتَزَوَّجْ، أَوْ مُحْصَنًا، وَهُوَ الَّذِي قَدْ وَطِئَ فِي نِكَاحٍ صَحِيحٍ، وَهُوَ حُرٌّ بَالِغٌ عَاقِلٌ. فَأَمَّا إِذَا كَانَ بِكْرًا لَمْ يَتَزَوَّج فَإِنَّ حدَّه مِائَةُ جَلْدَةٍ كَمَا فِي الْآيَةِ، وَيُزَادُ عَلَى ذَلِكَ أَنْ يُغرّب عَامًا عَنْ بَلَدِهِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ، فَإِنَّ عِنْدَهُ أَنَّ التغريبَ إِلَى رَأْيِ الْإِمَامِ: إِنْ شَاءَ غَرَّب وَإِنْ شَاءَ لَمْ يغرِّب. وَحُجَّةُ الْجُمْهُورِ فِي ذَلِكَ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ، مِنْ رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُبَيْد اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتبة بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الجُهَنيّ، فِي الْأَعْرَابِيَّيْنِ اللَّذَيْنِ أَتَيَا رسولَ اللَّهِ ﷺ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ ابْنِي كَانَ عَسِيفا يَعْنِي أَجِيرًا عَلَى هَذَا، فَزَنَى بِامْرَأَتِهِ، فَافْتَدَيْتُ ابْنِي مِنْهُ بِمِائَةِ شَاةٍ وَوَليدَة، فَسَأَلْتُ أَهْلَ الْعِلْمِ، فَأَخْبَرُونِي أَنَّ عَلَى ابْنِي جَلْدَ مِائَةٍ وتغريبَ عَامٍ، وَأَنَّ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا الرَّجْمَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ: الْوَلِيدَةُ وَالْغَنَمُ رَدٌّ عَلَيْكَ، وَعَلَى ابْنِكَ جَلْدُ مِائَةٍ وتغريبُ عَامٍ. وَاغْدُ يَا أُنَيْسُ (لِرَجُلٍ مِنْ أَسْلَمَ) إِلَى امْرَأَةِ هَذَا، فَإِنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا". فَغَدَا عَلَيْهَا فَاعْتَرَفَتْ، فَرَجَمَهَا.
فَفِي هَذَا دَلَالَةٌ عَلَى تَغْرِيبِ الزَّانِي مَعَ جِلْدِ مِائَةٍ إِذَا كَانَ بِكْرًا لَمْ يَتَزَوَّجْ، فَأَمَّا إِنْ كَانَ مُحْصَنًا فَإِنَّهُ يُرْجَمُ كَمَا قال الإمام مالك: حَدَّثَنِي ابْنُ شِهَابٍ، أَخْبَرَنَا عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ عُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَامَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، أَيُّهَا النَّاسُ، فَإِنَّ اللَّهَ بَعَثَ مُحَمَّدًا بِالْحَقِّ وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ، فَكَانَ فِيمَا أَنْزَلَ عَلَيْهِ آيَةُ الرَّجْمِ، فَقَرَأْنَاهَا وَوَعَيْناها، وَرَجمَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَرَجمْنا بَعْدَهُ، فَأَخْشَى أَنْ يُطَولَ بِالنَّاسِ زَمَانٌ أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ: "لَا نَجِدُ آيَةَ الرَّجْمِ فِي كِتَابِ اللَّهِ"، فَيَضِلُّوا بِتَرْكِ فَرِيضَةٍ قَدْ أَنْزَلَهَا اللَّهُ. فَالرَّجْمُ فِي كِتَابِ اللَّهِ حَقٌّ عَلَى مَنْ زَنَى، إِذَا أُحْصِنَ، مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ إِذَا قَامَتِ الْبَيِّنَةُ، أَوِ الْحَبَلُ أَوْ الِاعْتِرَافُ. أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ مَالِكٍ مُطَوَّلًا. وَهَذَا قِطْعَةٌ مِنْهُ، فِيهَا مَقْصُودُنَا هَاهُنَا. وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ هُشَيْم عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُبَيد اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ خَطَبَ النَّاسَ، فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: أَلَا وَإنّ أُنَاسًا يَقُولُونَ: مَا بالُ الرَّجْمِ؟ فِي كِتَابِ اللَّهِ الجلدُ. وَقَدْ رَجَم رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ورَجمَنا بَعْدَهُ. وَلَوْلَا أَنْ يَقُولَ قَائِلُونَ أَوْ يَتَكَلَّمَ مُتَكَلِّمُونَ أَنَّ عُمَرَ زَادَ فِي كِتَابِ اللَّهِ مَا لَيْسَ مِنْهُ لَأَثْبَتُّهَا كَمَا نَزَلَتْ. وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ عُبَيْد اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بِهِ.
وَقَدْ رَوَى أَحْمَدُ أَيْضًا عَنْ هُشَيْم عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ عَنْ يُوسُفَ بْنِ مِهْران عَنِ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ: خَطَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَذَكَرَ الرَّجْمَ فَقَالَ: لَا تُخْدَعُن عَنْهُ، فَإِنَّهُ حَدٌّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ. أَلَا إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَدْ رَجَمَ ورَجمَنا بَعْدَهُ. وَلَوْلَا أَنْ يَقُولَ قَائِلُونَ: "زَادَ عُمْرُ فِي كِتَابِ اللَّهِ مَا لَيْسَ فِيهِ" لَكَتَبْتُ فِي نَاحِيَةٍ مِنَ الْمُصْحَفِ: وَشَهِدَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ وَفُلَانٌ وَفُلَانٌ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَدْ رَجَمَ وَرَجَمْنَا بَعْدَهُ. أَلَا وَإِنَّهُ سَيَكُونُ مِنْ بَعْدِكُمْ قَوْمٌ يُكَذِّبُونَ بِالرَّجْمِ وَبِالدَّجَّالِ وَبِالشَّفَاعَةِ وَبِعَذَابِ الْقَبْرِ، وَبِقَوْمٍ يَخْرُجُونَ مِنَ النَّارِ بَعْدَمَا امتُحِشُوا. وَرَوَى أَحْمَدُ أَيْضًا عَنْ يَحْيَى القَطَّان عَنْ يَحْيَى الْأَنْصَارِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ المسيَّب، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: إِيَّاكُمْ أَنْ تهلكوا عَنْ آيَةِ الرَّجْمِ. الْحَدِيث. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ سَعِيدٍ عَنْ عُمَر، وَقَالَ: صَحِيحٌ.
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ: حَدَّثَنَا عُبَيْد اللَّهِ بْنُ عُمَرَ الْقَوَارِيرِيُّ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْع: حَدَّثَنَا ابْنُ عَوْن،عَنْ مُحَمَّدٍ هُوَ ابْنُ سِيرِين قَالَ: نُبِّئتُ عَنْ كَثِير بْنِ الصَّلْتِ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ مَرْوَانَ وَفِينَا زَيْدٌ، فَقَالَ زَيْدٌ: كُنَّا نَقْرَأُ: "وَالشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ فَارْجُمُوهُمَا الْبَتَّةَ". قَالَ مَرْوَانُ: أَلَا كتبتَها فِي الْمُصْحَفِ؟ قَالَ: ذَكَرْنَا ذَلِكَ وَفِينَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، فَقَالَ: أَنَا أَشْفِيكُمْ مِنْ ذَلِكَ. قَالَ: قُلْنَا: فَكَيْفَ؟ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ، قَالَ: فَذَكَرَ كَذَا وَكَذَا وَذَكَرَ الرَّجْمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَكْتِبْني آيَةَ الرَّجْمِ: قَالَ: "لَا أَسْتَطِيعُ الْآنَ". هَذَا أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ. وَقَدْ رَوَاهُ النَّسَائِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى عَنْ غُنْدَر عَنْ شُعْبَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ يُونُسَ بْنِ جُبَيْر عَنْ كَثِير بْنِ الصَّلْت، عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، بِهِ. وَهَذِهِ طُرُقٌ كُلُّهَا مُتَعَدِّدَةٌ وَدَالَّةٌ عَلَى أَنَّ آيَةَ الرَّجْمِ كَانَتْ مَكْتُوبَةً، فَنُسِخَ تِلَاوَتُهَا، وَبَقِيَ حُكْمُهَا مَعْمُولًا بِهِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَقَدْ أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بِرَجْمِ هَذِهِ الْمَرْأَةِ، وَهِيَ زَوْجَةُ الرَّجُلِ الَّذِي اسْتَأْجَرَ الْأَجِيرَ لَمَّا زَنَت مَعَ الْأَجِيرِ. وَرَجَمَ النَّبِيُّ ﷺ مَاعِزًا والغامِدِيَّة. وَكُلُّ هَؤُلَاءِ لَمْ يُنقَل عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَنَّهُ جَلدهم قَبْلَ الرَّجْمِ. وَإِنَّمَا وَرَدَتِ الْأَحَادِيثُ الصِّحَاح الْمُتَعَدِّدَةُ الطُّرُقِ وَالْأَلْفَاظِ بِالِاقْتِصَارِ عَلَى رَجْمِهِمْ، وَلَيْسَ فِيهَا ذِكْرُ الْجَلْدِ. وَلِهَذَا كَانَ هَذَا مَذْهَبَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمُ اللَّهُ. وَذَهَبَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، رَحِمَهُ اللَّهُ، إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يُجْمَعَ عَلَى الزَّانِي المحصَن بَيْنَ الْجَلْدِ لِلْآيَةِ وَالرَّجْمِ لِلسُّنَّةِ كَمَا رُوِيَ، عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّهُ لَمَّا أُتِيَ بشُرَاحة، وَكَانَتْ قَدْ زَنَتْ وَهِيَ مُحْصَنَةٌ، فَجَلْدَهَا يَوْمَ الْخَمِيسِ، وَرَجَمَهَا يَوْمَ الْجُمْعَةِ، ثُمَّ قَالَ: جلدتهُا بِكِتَابِ اللَّهِ، وَرَجَمْتُهَا بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ. وقد رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَهْلُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ، مِنْ حَدِيثِ قَتَادَةَ عَنِ الْحَسَنِ عَنْ حِطَّان بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الرَّقَاشِيّ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: خُذُوا عَنِّي، خُذُوا عَنِّي. قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا: البِكْر بالبِكْر جَلْد مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ سَنَةٍ، وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَالرَّجْمُ".
والذى يهمنى هنا أن ابن كثير، بعدما قال إن آية الرجم قد نُسِخَتْ تلاوة وحكما، عاد فقال بالرجم بناء على الحديث. فهل يعقل أن ينسخ الله حكما قرآنيا ويظل هذا الحكم فى السنة؟ فلم حذفه إذن من القرآن ما دام حكمه باقيا؟ تعالى الله سبحانه عن إرادة إرباك عباده وتدويخهم وإشاعة الاضطراب فى عقولهم. ثم إن ابن كثير يقول بأن عليًّا جلد شراحة ثم رجمها قائلا إن جَلْده لها كان بالقرآن، ورَجْمه إياها كان بالسنة. وهذا معناه أن السنة ليس فيها للمحصن سوى الرجم، ليعود فيقول إن الرسول نص على أن عقوبة المحصن الجلد والرجم معا. بل إنه رغم قوله فى تفسير سورة "الأحزاب" إن آية الرجم قد نسخت لفظا وحكما عاد هنا فى تفسير الآية الثانية من سورة "النور" فقال: "وَهَذِهِ طُرُقٌ كُلُّهَا مُتَعَدِّدَةٌ وَدَالَّةٌ عَلَى أَنَّ آيَةَ الرَّجْمِ كَانَتْ مَكْتُوبَةً، فَنُسِخَ تِلَاوَتُهَا، وَبَقِيَ حُكْمُهَا مَعْمُولًا بِهِ، وَلِلَّهِ الْحَمْد". ثم هل يدخل العقل أن يقول الله فى كتابه إن حد الزنا بإطلاق هو الجلد، فيقول النبى: بل هو الجلد والرجم معا؟ فأى اضطراب هذا يا ربى؟ ثم لا ننس التغريب، وهو فى عصرنا هذا يساوى خراب بيت المغرب، ودعنا من المغربة، فأمرها أسوأ واضل سبيلا، إذ أين يسكن؟ وكيف يكسب رزقه، وهو قد ترك زراعته إن كان فلاحا، أو مرأبه إن كان حرفيا، أو مؤسسته إن كان موظفا أو مدرسا؟ ومن يعنى بأطفاله وزوجته وهو بعيد عنهم لا يجد مرتزقا أو على الأقل: لا يجد مرتزقا كافيا وملائما؟ وهل التغريب سوف يكفكف شهوته وفساده؟ كيف؟
وفى "التفسير الحديث" لمحمد عزة دروزة نطالع عن الموضوع ذاته ما يلى: "ولقد روي عن عائشة أم المؤمنين أن هذه السورة كانت تقرأ مائتي آية، فلما كتب عثمان المصاحف لم نقدر إلّا ما هو الآن. وقد روى المفسر النسفي "أن أبيّ بن كعب سأل أبا ذرّ: كم تعدون سورة الأحزاب؟ قال: ثلاثا وسبعين. فقال: والذي يحلف أبيٌّ به إن كانت لتعدل سورة البقرة أو أطول. ولقد قرأنا منها آية الرجم: "الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم". وقد حمل النسفي راوِي الحديث كلام أبيٍّ على أن المقصد منه هو الإشارة إلى ما نسخ من القرآن في عهد النبي. غير أن حديث عائشة صريح بأنها تقصد أن إسقاط معظم السورة كان في زمن عثمان.
والحديثان غير موثقين ولم يردا في كتب الأحاديث الصحيحة، والتوقف فيهما أولى. ومن الجدير بالذكر أن مصحف عثمان إنما نقل عن المصحف الذي حُرِّر في زمن أبي بكر رضي الله عنهما، فلم يكن أي احتمال لإسقاط معظم السورة من مصحف عثمان. ولقد كانت عائشة ذات شخصية قوية ومن مراجع القرآن والسنّة، ولا يعقل أن تسكت عن هذا الإسقاط لو كان واقعا ولا يعقل أن يهمل اعتراضها. ومع ما في تعليل النسفي لحديث أبيِّ بن كعب من وجاهة فإننا نشك في أن يكون قد وقع نسخ آيات أو فصول كثيرة من السورة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم. فإن مثل هذا الحادث الخطير لا يعقل ألا يرد فيه روايات وثيقة تحتوي بيانات وافية".