( كيف بتعايش المثقف مع الغير مثقف؟ و كيف يرتبط علم الإجتماع بالثقافة - الجزائر نموذجا-)

كلما نقرأ عن الثقافة إلا و ياتي الحديث عن المثقف و علاقته بالمجتمع و كيف يمكنه تغيير الواقع من السيئ إلى الأحسن؟ كيف يحول الظلمة إلى نور؟ و كيف يغلب البناء على الهدم؟ تلك اسئلة لطالما شغلت بال المثقفين و في ظل لا مبالاة الناس قد يتخذ الوضع صورة أخرى، إذ يجابه المثقف واقعه و هو يحاول التاثير في الآخر و يحقق البناء و الغايات في ظل وجود تعددية ثقافية و إيديولوجيات، فالوصول إلى مجتمع مدني سليم خارج الإيديولوجيا، يتطلب حضور المثقف لغرس في المجتمع "الثقافة المدينية" the civic culture، هاته الثقافة في نظر علماء الإجتماع تعتبر من أههم الأسئلة التي تطرح في الوقت الحالي في ظل الأصوات التي ترتفع هنا و هناك بضرورة تاسيس دولة مدنية لا دولة عسكرية، مثلما يحدث في الجزائر مثلا التي و كما يبدو تتبنى الفكر الديمقراطي في الظاهر فقط، أي فكرا لا ممارسة ، أي ان الفعل الديمقراطي مغيب تماما، هذا الفكر الذي يتطلب ثقافة سياسية متوازنة ( الثقافة المدينية ) على حد قول "ألموند وفيبرا" في كتابهما الثقافة المدينية و كيفية الإنخراط في الجماعة، و القابلية للتأقلم مع الآخر.
و قد سمى بعض الفلاسفة هذا الصنف من المثقف بالمثقف التاريخاني، هذا المثقف التاريخاني لا يخاطب الأحزاب السياسية، لأن أفكار الحزب تكاد أن تتحوّل إلى دين ، فالمثقف يناضل من أجل غرس "الذهنية المدينية" في المجتمع المدني، و هذه الذهنية كذلك لا تخاطب أرباب المال و الأعمال لأنهم مرتبطون بالسلطة لخدمة مصالحهم، فهم بمثابة الرعية الموالية، و يرتبط علم الإجتماع بالثقافة ارتباطا وثيقا باعتبارها الطريق المميز لحياة الجماعة، فهي إلى جانب علم الإجتماع تهتم الثقافة بدراسة حياة المجتمع و الجمهور، و من هنا تحتل الثقافة مكانا بارزا في دراسات علم الإجتماع و الأنتروبولوجيا الثقافية، فالمثقف التاريخاني كما يرى المختصون تكمن جديّته في قضايا المجتمع و الأمّة ،حيث يطرح إشكالية الذهنية المدينية في ظل انتشار المدن الكبرى المكتظة بالسكان، يرى البعض و منهم الدكتور سعيد بن سعيد العلوي أن المدينة لا تقوم و تنهض و لا تكون إلا بوجود الروح المديني أو الذهنية المدينية و وجود عصبة المجتمع المدني
و يمكن أتن نقدم مثلا عن الوضعية في الجزائر في إطار إنشاء المدن الجديدة و القضاء على الأحياء الشعبية التي انتشرت فيها الفوضى و الجريمة، نهض بعض سكانها الذين لم ينالوا قسطا من العلم و الثقافة على الفوضى و اللانظام، و حين انتقلوا إلى السكنات الجديدة في المدن الجديدة حملوا معهم الفكر الفوضوي و عجز بعضهم عن التاقلم مع الحياة الحضرية الجديدة كما لم يستطيعوا التعايش مع الطبقة المتحضرة التي يحمل افرادها الفكر الحضري أو الفكر المديني إن صح القول، و هذا ما نلحظه في الشجارات الجماعية التي تنشب بين شباب الحي بين الحين و الآخر تستعمل فيها الأسلحة البيضاء ( عصي، حجارة، سكاكين و غيرها) تكاد تنتهي أحيانا بارتكاب جريمة (القتل) تضطر الشرطة إلى التدخل مثلما يحدث في مدينة علي منجلي بولاية قسنطينة شرق الجزائر) .
الذين يطلق عليهم اسم المتحضرون وجدوا الطريق مسدودا في كيفية التعامل مع هذه الشريحة من الفوضويين و هم حاملي الفكر الفوضوي، لأن بعض أفرادها سكنوا الأكواخ القصديرية لظروف اجتماعية طبعا و هم بفكرهم الفوضوي يحاولون أن يوقعوا غيرهم في مستنقع الفوضى، هذه عينة عن الحياة في العمارات و الصراع القائم بين ساكني الطابق الأرضي و ساكني الطوابق العليا، نشير هنا أن الجزائر مرت بظروف جد صعبة و قاسية طيلة العشرية السوداء خاصة في القرى و الجبال، اضطرت بعض العائلات هجر مساكنها و الإنتقال إلى المدن الكبرى و بناء بيوت قصديرية ( des gourbies) و مع بداية الحرب الأهلية كانت هذه الأحياء الشعبية مشتلة للجماعات الإرهابية، بالنسبة للحياة في العمارات يلاحظ أنه في بعض المجتمعات العربية كمصر مثلا تخصص الدولة شقق الطابق الأرضي Rez de chausse لحراس العمارة عكس الجزائر الطابق الأرضي مثله مثل الطوابق العليا و السكان متساوون، إلا أن بعض العائلات الجزائرية تبنت هذه الفكرة حيث تظن أن ساكن الطابق الأرضي أجّرته الدولة لخدمتهم أي انه باللهجة المصرية "بوّاب"، و هنا تحدث الخلافات، و بشيئ من التفصيل قد نجد المثقف يسكن في الطابق الأرضي و الغير مثقف في الطوابق العليا، و هنا تحدث الخلافات، نفتح هنا قوسا و نقول: إن هذا التفصيل من أجل تشريح الوضعية و لا توجد اي خلفية من وراء هذه الورقة).


لا يمكن طبعا أن نشكك في سياسية الدولة الجزائرية في مجال الإسكان، ربما كانت محاولة منها إخراج هذه الشريحة من حياة الفوضى إلى الحياة العصرية، غير ان هذا الإنتقال لم يكن مدروسا من الناحية السيكولوجيةو السوسيوثقافية ، و لم تضع الشروط المطلوبة للجمع بين الفئتين، أو على الأقل بعث الإنسجام من خلال خلق مناخ ثقافي من شانه أن يزيح الإختلالات في الأفكار و المستويات، لأن الأمر يتعلق بتغيير "الذهنيات"، و كان على المجتمع المدني ان يعالج هذا التقصير و أن يضع شبكة من المفاهيم مثل التمدن، التقدم، النظام، و غيرها من المفاهيم تضاف إليها فكرة الإصلاح، ما يمكن ملاحظته هو أن الإصلاح في نظر الحكام و المسؤولين هو تحديث الدولة في كل المجالات لاسيما مجال السكن، أي بناء مدن جديدة من أجل القضاء على السكنات الهشة و الأكواخ القصديرية دون وضع استراتيجية للمشاريع السكنية التي تتطلب دراسة انتروبولوحية لمعرفة ذهنية الأفراد التي تسكن الأكواخ القصديرية، و أمام هذا الوضع وجدت بعض الفئات المثقفة نفسها ضحية هذه السياسة و هذا يعود طبعا إلى غياب النمط المساواتي.
كانت هذه عينة لغياب الذهنية المدينية في الجزائر ، و هي ظاهرة لم يتطرق إليها كثير من الباحثين و المثقفين للتعرف على الفرد و علاقته بالآخر، فقد نجد من يتفق مع بعض الناس في كل النواحي كما يتفق مع بعض الناس في نواحي أخرى، و يوجد من لا يتفق مع الناس، و بناء على ذلك كما يقول المختصون في علم الإجتماع النفسي تصبح الثقافة عنصرا أساسيا في حياة المجتمع، لأن الأسلوب الذي يسير عليه الناس في حياتهم إنما يعتمد على طبيعة الثقافة السائدة في المجتمع، مع بعض الآثار التي تتركها العوامل الجغرافية و البيولوجية، لأن الترحيل لا يعني تغيير المكان الجغرافي، و يتضح من نظريات علماء الإجتماع أن الثقافة ظاهرة مركبة تتكون من عناصر بعضها فكري و بعضها سلوكي و بعضها الآخر مادّي ، و تغيير المحيط الإجتماعي أو تغيير نمط الحياة قد يؤثر سلبا على هذه العناصر و يحولها إلى حالة مرضية، طالما نمط الحياة هو الذي يوجه الفكر و السلوك لدى الأفراد، و من هنا تحدث المفارقة، فقد ينزل المثقف إلى مستوى غير مستواه و بذلك يكون الجهل هو المنتصر و هنا تقع الكارثة عندما يفقد المثقف كل ما اكتسبه في سنوات بناء فكره، كما يظل الغير مثقف على جهله و فوضويته و بالتالي يعجز الوصول إلى مستوى البناء الإجتماعي لأنه لا يملك ابجديات البناء و فلسفته.
هذه رؤيتنا المتواضعة للمثقف و غير المثقف في جزائر التناقضات، اللوم و العتاب يقع طبعا على المثقف صاحب الفكر السامي الذي قبل على نفسه أن ينزل إلى مستوى اقل من مستواه، لا يعني هذا الكلام أن يعيش المثقف معزولا عن المجتمع لأن له دور كبير في عملية التغيير، و هذا التغيير لا يتحقق بين ليلة و ضحاها، بل بعد نضال طويل، و صبر و تحدي، و ثماره لا تنضج في اللحظة الآنية ، بل بعدما ياتي جيل آخر بعده و هذا يعني ان الأدوار تتقاسم بين المثقف ( الحاضر) و بين المثقف الذي ياتي بعده ( المستقبل) ليحمل الرسالة على عاتقه و يحقق النظام الذي هو المعيار الذي تقاس به الأمم، و الأخذ باسباب التمدن، فقد بنت الحضارات اسسها مع تطور الأجيال و طورتها من جيل لأخر، و لعلنا نقف مع أطروحة الباحث الجزائري محمد شوقي الزين الذي قدم هو الآخر الجزائر أنموذجا في حديثه عن نهاية المثقف و كيف يمكن أن تُنزع عنه هذه النهاية حينما استبدلها بمفهوم "المتناهي" من أجل التخفيف من حدّة نهاية المثقف إذ يقول في دراسة أجراها: " إن ما ينقصنا في الجزائر ليس وجود "مثقفين " و إنما " إنتلجنسيا"، بمعنى نخب متحركة ( حرة و متحرّرة) لا تعمل ضمن أطر حزبية أو تابعة للسلطة أو جماعات الضغط ( لوبي) أو العصب السياسوية و غيرها، و إنما متمكنة من معرفتها و متمسكة باستقلال خطابها، يقول الدكتورعلي الكنز في دراسته معطيات لتحليل ألإنتلجنسيا في الجزائر أن المثقفون الذين يعيشون في وسط مغلق لا يكوّنون "إنتلجنسيا" و ذلك مهما كانثراء إنتاجهم، في حين يوضح شوقي الزين رؤية علي الكنز أن العزلة الإختيارية أو الإعتزال الإجباري للمثقف يحول دون التعايش الأفكار و المفاهيم في الحقول العملية للمجتمع، و لا تجد هذه الأفكار سبيلها نحو الإنتعاش لأن الوسط المغلق ل لا يفقهمن بعض المفاهيم شيئا كالتحضر و التمدن و الرقيّ و الإنفتاح و الحداثة و العصرنة و غيرها في مجتمع مغلوب على أمره ومسيطر عليه.
الأمر يتعلق بتبادل الأفكار و غربلتها و تكييفها مع الواقع الإجتماعي مع مراعاة خصوصة كل مجتمع، هذا ما يتعلق بالحياة الفكرية، لكن ماذا عن الحياة اليومية، أي علاقة المثقف بغير المثقف و كيف يكون التواصل بينهما، خاصة عندما يعيش المثقف في بيئة لا تليق به، أي اصحابها تغلب عليهم الفوضى و الهمجية مثلما اشرنا إليه في بداية الورقة، بيئة تنتشر فيها عصابات الأحياء، و الجريمة و المخدرات، بمعنى أنه يعيش في محيط غير متمدن و غير متحضر، محيط ملوّث، و لو أنه ثمة فرق بين التمدن و بين التحضر، و لذا ربط مالك بن نبي الإنسان بالزمن و التراب كعنصر أساسي في بناء الحضارة، و السؤال الذي يمكن أن نطرحه في هده الورقة: هل الغير مثقف ليس له فكر؟ و هل الغير مثقف هو الشخص الذي لا يطرح أفكارا؟ ايمعدون التفكير؟ نقول أن الغير مثقف يطرح أفكارا ، لكنها أفكار ساذج أو متخلف حضاريا لا يعي الواقع و التغيرات التي تحدث في بلده و مجتمعه، كما أنه لكل جيل تفكيره الخاص، إذن، لا يختلف إثنان في أن ثمة فرق بين المثقف و الغير مثقف، و هذا الفرق يكمن في درجة العلم و المعرفة و التجربة ، هذه الأخيرة لها أثارها الإيجابية، فالمثقف كما قال محمد شوقي الزين منخرط قلبا و قالبا في حاضره و لحظته الآنية، و ردا على شوقي الزين نطرح السؤال التالي:هل المثقف قادر على أن ينخرط في حاضر الآخر في الآن نفسه؟.
و يمكن أن نقدم مثالا و نقول: إن القضايا عديدة و معقدة عند المجتمعات التي تفتقر إلى تكنولوجيا متطورة ، فكيف ينخرط المثقف في حاضر الآخر الذي يفوقه علما و معرفة و له من الإمكانيات المادية ما تتيح له أن يتطور و يرتقي و حاضره هو متأخر بعقود، ليس الحديث هنا عن المجتمعين الغربي و العربي، و إنما عن المجتمعين العربي عربي، لاسيما المجتمعات التي تعيش الحروب الأهلية و هي طبعا تختلف عن المجتمعات التي هي أكثر استقرارا، إذ تعمل على تطوير نفسها، و بالتالي يصعب على هذا المثقف ان يتعاطى مع الواقع الذي فرض عليه، كما من الصعب جدا أن يتقبل المواطن المثقف المتحضر تصرفات الذين تتغلب عليهم "الهمجية" لأنهم تربوا و نشأوا على الفوضى و العنف، و خلاصة القول ، بالرغم من الثورة الإعلامية التي يشهدها العالم من صحف، قنوات فضائية ، فضاء أزرق و هواتف ذكية ، فقد ساهمت هذه الوسائل في تنوير المجتمعات و الشعوب و تَحَضُّرِهَا و صناعة وعيها، إلا أنه لا تزال بعض الطبقات الشعبية تعيش التخلف في كل المجالات و المستويات و تسيطر عليها الذهنية البدائية، لأنها غير متصلة بحركية المجتمع المدني، ربما أن هذا الأخير فشل هو الآخر في ان يرسم آفاق التحول، فكانت هذه الطبقات أقل حظا في الإرتقاء إلى مستوى التمدن و التحضر و الرقيّ، و لذا وجب على المثقف أن يوجه المجتمع المدني بفكره و غرس فيه الثقافة المدينية و تغيير نمط الحياة way of life، و ذلك من أجل القضاء على الفروقات الإجتماعية باعتبار أن أنماط الحياة هي التي توجه الفكر و السلوك لدى الأفراد، و المثقف له دور كبير في تغيير نمط حياة هؤلاء.
علجية عيش