الاتجاه الإستاطيقى فى نقد الأدب عند د. مصطفى ناصف
إبراهيم عوض
رأينا الساحة تمتلئ بالدراسات النقدية التطبيقية التى لا تعكس إحساسا حيا ولا تذوقا سليما بل مجرد إجراءات شكلية تخفى تحتها جمودا فى المشاعر وعجزا فى الذوق. ومن بين هذه الاتجاهات النقدية الجافة ما كان يزاوله د. مصطفى ناصف ويسميه، ويا للمفارقة، بالنقد الإستاطيقى، أى الجمالى رغم أن هذا الاتجاه النقدى لا يهتم بأى جمال فى النص الذى يتناوله بل يركز على البحث المحموم عن الأساطير مع لَىّ النص كى ينطق بتلك الأساطير التى لا وجود لها فيه، ومتناقضا من فقرة لأخرى فى ذلك التحليل وهذا الاستنطاق الأساطيرى الغريب، فضلا عما فى كلامه من غموض وفتور ونفور من إبداء أى انفعال أو تأثر بما فى النص من وجوه الجمال والإبداع تنكرا لما أودع الله فى أعماقنا من فطرة تهفو إلى الجمال وتتعلق به.

ليس ذلك فقط بل دخل النقد الأدبى عندنا ميدان القصة وصارت الصحف والمجلات تهتم بنقد الأعمال القصصية بعد أن كان العرب فى العصور السابقة يكتبون القصص لكنهم لم يتركوا فى نقده شيئا يذكر بل كان تركيزهم على الشعر أولا والخطب ثانيا. ورغم أن الغربيين قد استفادوا من الإبداع القصصى العربى فإنهم لم يكتفوا بكتابة القصص بل أضافوا إلى ذلك النقد القصصى منطلقين مما كتبه أرسطو عن المسرحية والملحمة ثم مطورين لهذا النقد المسرحى والملحمى ليكون لدينا أيضا نقد قصصى بنوعيه: النظرى والتطبيقى. ومن يرجع إلى مجلات أواخر القرن التاسع عشر سوف يجد أنها تخصص جانبا منها لذلك النقد، الذى بدأ أولا على استحياء ثم اتسع مع الأيام وصار تراثا واسعا نافعا ثم احتل النقد القصصى الآن مكانة عالية ربما فاقت مكانة نقد الشعر. وعرف الأدب العربى الحديث الاتجاه التقليدى فى كتابة القصص والاتجاه الوجدانى الخيالى (الرومانسى) ثم الاتجاه الواقعى ثم الاتجاه الرمزى، وهو ما اهتم به أيضا النقد الشعرى. وقس على ذلك النقد الخاص بالإبداع المسرحى، الذى لم يكن العرب فى أيام حضارتهم ومجدهم يعرفونه على عكس الآداب الأوربية القديمة.
ونبدأ بالاتجاه الإستاطيقى، الذى مهد الطريق للاتجاه الأسطورى على نحو ما. ويمثل هذا الاتجاه َ كتابُ د. مصطفى ناصف: "دراسة الأدب العربى"، الذى ظهر فى سبعينات القرن العشرين، والذى يختلف مع اتجاه د. النويهى الحريص على تذوق النص وتصوير ما يتركه فى نفس الناقد من انطباعات وتأثرات مع الإعراب عن تلك الانطباعات والحرص على تقويم النصوص الأدبية والحكم عليها على عكس ما يسمى بـ"الاتجاه الإستاطيقى"، الذى يرفض ذلك ويستنكره استنكارًا شديدًا ويراه مسؤولًا عن إشاعة الفوضى فى حقل النقد الأدبى. فالأول يبحث فى النص عن شخصية صاحبه ويربطه بظروف البيئة والمجتمع التى ظهر فيها، على حين يَعُدّ الكتابُ الثانى كلَّ هذا مفسدة للعمل الأدبى. كما أنه فى الوقت الذى يأخذ فيه د. النويهى بقانون "أقل الفروض" فلا يسمح لنفسه بالبحث عن معنًى خلف المعنى الظاهر إلا إذا دعت إلى ذلك ضرورة ملجئة فإن د. ناصف يهاجم من يحاولون قراءة العمل الأدبى على هذا النحو، إذ يراه عالمًا من الرموز.
بيد أن د. ناصف، قبل أن يحدّد ملامح اتجاهه النقدى، قد تلبّث عند أشهر الاتجاهات النقدية التى كانت موجودة على الساحة آنئذ وكرَّ عليها مهاجما مسخِّفا مخطئا. وهذه الاتجاهات هى الاتجاه التأثرى، والاتجاه الاجتماعى، والاتجاه النفسى.
والتأثرية، طبقا لما يقوله الأستاذ الدكتور، تقوم على التداعى، فإذا قرأ الناقد قصيدة ما انتقل منها إلى أشياء ترتبط بها واصفًا إياها بصفات إنسانية كالسماحة والكرم والعذوبة والرصانة والرونق... إلخ، كما يتحدث عن مشاعره وانطباعاته نحوها مستخدمًا ألفاظًا مثل "الصبوة والارتياح والطرب". وهذه التأثرية قديمة، فى رأيه، قِدَمَ الجاحظ والآمدى والقاضى الجرجانى وأبى هلال العسكرى. ومن أهم ممثليها عنده فى العصر الحديث الدكتور طه حسين والأستاذ عباس محمود العقاد[1].
والأستاذ الدكتور يرفض هذا كله رفضا شديدا، إذ يرى ضرورة عزل القصيدة عن الحوادث الشخصية ومشاعر التأثر لدى الناقد حتى يمكنه أن يرى النص فى وضوح أتمّ[2]. كذلك من الخطإ، فى رأيه، الظن بأن أهم عنصر فى الشعر هو العاطفة، فـ"الشعر خَلْقٌ خيالى، وهذا الخلق الخيالى قد يعبّر عن عاطفة أو شىء أو فكرة"[3] كما يقول. كذلك فقوة الشعور فى ذاتها ليست مقياسًا صحيحًا للأدب الجيد، فـ"كثير من الناس أقوياء الشعور وليسوا فنانين، وكثير جدا من الناس يَحْيَوْن حياة شقية لأنهم يُفْرِطون فى الشعور بالأشياء... ولكن نعلم فى الوقت نفسه أنهم ليسوا شعراء... وليس الشعر كله محتاجًا إلى العواطف القوية، ولكنه محتاج إلى أن يكون خلقا خياليًا"[4]. ووظيفة الناقد ليست معرفة عواطف الشاعر ومدى صدقها أو كذبها. وعلى أية حال فهذا أمر غير ممكن، "فنحن ببساطة لا نعرف ما فى نفوس الناس"، والمهم أن نعرف النص الأدبى الذى بين أيدينا ونتشبث بدقائقه ومسير بعض جزئياته وما تقوم عليه من إدراك أسطورى للأشياء[5].
وعند مناقشة المنهج الاجتماعى يؤكد د. ناصف أن الظروف الاجتماعية، وهى الظروف التى يهتم هذا المنهج بالربط بينها وبين الإبداع الأدبى، لا يتعدى دَوْرُها حَفْزَ الأديب على الإنتاج، ومن ثم لا تظهر هى نفسها فيه ولا توضّح معناه بل تظل هناك مسافة بينها وبينه[6]. ذلك أن العمل الفنى ليس انعكاسًا للبيئة الاجتماعية بل هو إضافة حقيقية لها، كما أن الوسط الاجتماعى هو وسط غير مباشر بالنسبة للشاعر، أما الوسط المباشر فهو التقاليد الشعرية[7]. وإذا كان الشعراء القدماء قد جَرَوْا فى رِكاب الولاة والوزراء مثلا فإن هذا، وإن ألَّف جزءا من حياتهم كبشر، لا يؤلف بالضرورة جزءا هاما من حياتهم كشعراء. وبناءً على هذا يرى الأستاذ الدكتور أن فكرة الأغراض فكرة مضللة، وقد بلغ من تضليلها لنا أننا لم نعد نقرأ فى القصيدة سواها[8] رغم أن الشاعر فى الحقيقة لا يكتب شعره ليمدح أو يهجو بل ليخرج من هذه الدائرة الضيقة التى لا يَنْظُر إليها إلا على أنها مجرد عامل يساعد عقله على إحداث تفاعلات فى عالمه الجديد[9]. وقد ذكر الأستاذ الدكتور أن النقاد المحْدَثين، وعلى رأسهم د. طه حسين، قد جعلوا وُكْدَهم البحثَ عن صورة المجتمع فى هذا الشعر مستخدمين المنهج العلمى، الذى لم يجدوه وافيًا فاستعانوا إلى جانبه بالتأثرية. وهم فى بحثهم عن صورة المجتمع فى إبداع الشعراء إنما كانوا يتابعون نقادنا القدماء الذين قالوا إن الشعر هو ديوان العرب[10]. وهذا الاتجاه عند نقادنا المحدثين هو الذى جعلهم يتهمون الشعراء الرومانسيين بالانفصال عن المجتمع وبأن شعرهم لا يعدو أن يكون زخرفة لغوية[11].
وهنا يؤكد الدكتور ناصف أن للفنّ رغم هذا قيمة أخلاقية واجتماعية لكنْ على أساس غير مباشر، وذلك من خلال توسيع العقل وإفساح المجال أمام حساسية الإنسان كما يقول. وهو يؤدى هذه القيمة عن طريق خصائصه الإستاطيقية نفسها[12]، ومن ثم فليس أمامنا من طريق لفهم مضمون الأعمال الشعرية إلا التحليل الإستاطيقى للخبرة الجمالية اللغوية التى تحتوى عليها والتى تتمثل فى الرموز والاستعارات، ومواضع الألفاظ وتفاعلاتها، وتَمَيُّز الكل من مجموع أجزائه، والمعانى فوق المنطقية... إلخ[13].
وكما أنكر الأستاذ الدكتور أن تكون هناك صلة بين الظروف الاجتماعية والأعمال الإبداعية نراه كذلك، عند تحليله للاتجاه النفسى فى نقد الأدب، ينكر أية علاقة بين شخصية الأديب وإنتاجه الأدبى، فقد يدعو العمل الفنى مثلا إلى بعض القيم النبيلة رغم تجرد صاحبه من صفات النبل. ذلك أن الأديب قد يكره أن تظهر عيوبه فى عمله مُؤْثِرًا أن يعبِّر عما يطمح إليه لا عما يتصف به من خلالٍ سيئة[14]، ومن ثم فليست هناك من صلة بين صحة تفسير العمل الأدبى وبين قصد المؤلف[15]. والتفسير المقبول للعمل الفنى، فى نظره، ليس هو التفسير الذى يهتم بالبحث عما فى ذهن المؤلف مغفلا بذلك منابع اللاوعى الخفية، بل هو التفسير الذى يغنى تجربتنا المباشرة[16]. وهذا هو التفسير الإستاطيقى. ثم يعود الأستاذ الدكتور إلى الإلحاح على أنه ليس للدلالة الإستاطيقية فى العمل الفنى أى معادل سيكولوجى، أى أن العمل الفنى لا يدل على نفسية صاحبه، وإن لم يستبعد تمامًا أننا قد نحتاج فى فهم العمل الأدبى إلى العلم ببعض تجارب مؤلفه، لكن هذه التجارب (كما يقول) لا تشير إلى تكوين العمل من الناحية الشكلية[17]. وهو يضيف أنه من المشروع أحيانًا النظر إلى العمل الفنى على أنه محاولة من قِبَل الفنان للتعبير عن نفسه، لكن هذا لا يُخْرِج العمل الفنى عن طبيعته التى تتمثل فى أنه نظام لاشخصى مُغْلَق على نفسه فحسب، فضلا عن أن هناك شعراء يعملون عمدًا على طمس شخصياتهم فى أشعارهم[18]، وإن عاد فقال فى موضع آخر إننا إذا أردنا دراسة شاعرٍ ما بوصفه إنسانا فعندئذ لا بد أن نلتمس فى شعره الأدلة على صفاته الشخصية[19]. بل إن كتب التراجم الذاتية لا تعبّر، حسبما يؤكد، عن حياة صاحبها وشخصيته، ومن الممكن أن يأتى أحد الباحثين فيثبت لنا أنه لا صلة لكتاب "الأيام" مثلا بشخصية الدكتور طه حسين، ثم يعقب قائلا إنه لا يعنيه على أية حال أن تكون أحداث هذا الكتاب حقيقة أو لا[20]. وهو يضرب لذلك مثلا بالسياج الذى يصفه طه حسين فى أول كتابه والذى كانت تنفذ منه الأرانب فى غاية السهولة، على حين كان يمثل للصبى بطل "الأيام" سدّا لا يمكنه تجاوزه إلى ما وراءه، فيقول إن هذا السياج ما هو إلا رمز للطموح والرقى الروحى[21]. وبالنسبة للشعر الجاهلى فإن الطَّلل مثلا يرمز للبحث عن الأم[22]، أما وصف بشَّار لجِسْم محبوبته بأنه ذهب وعطر فتفسيره أن جسمها جوهر مصفى[23]... وهكذا.
كذلك يربط الأستاذ الدكتور، بناءً على الدراسات النفسية الحديثة، بين الحُلْم والفن قائلًا إن كلا منهما يقوم على الرمز، أى التعبير غير المباشر الذى لا يسمّى الشىء باسمه، وإن الرمز بطبيعته لا يشير إلى معنى بعينه بل يتضمن معانى كثيرة[24]، كما يتميز بعدم ثبات هذه المعانى حتى إنها لتتغير تغيرا مستمرا ومن قارئ لآخر، وإن لم تكن بالضرورة معانى جنسية[25].
ويمضى الأستاذ الدكتور فيسلط الضوء على الدور الذى أداه فرويد فى هذا المجال قائلا إنه قد أمدّنا بأفضل أساس لتحليل العمل الفنى، وذلك بإبراز ما يتضمنه هذا العمل من رموز وتمثيل مباشر واستبدال وتكثيف، وهو ما يوجب علينا، حين نتناوله بالنقد، أن نميز بين معانيه الظاهرة ومعانيه الكامنة[26].
وللصورة أهمية كبيرة فى الشعر. ومثلما هو الحال فى الحُلْم فإن لها فى الشعر دلالتين: دلالة ظاهرة، ودلالة خفية قد تؤثر فى عقل القارئ دون أن يتبين مرجعها[27]. وهذا التعدد فى معانى الصور هو ما يسمَّى بـ"الالتباس"، وهى ظاهرة تَشِيع فى الشعر الحديث شيوعًا يلفت النظر بكثرته[28].
وواضح إذن أن الأستاذ الدكتور لا يرفض كل ما أتى به التحليل النفسى إلى ميدان النقد الأدبى بل ينصبّ رفضه على محاولة الربط بين العمل الأدبى وشخصية صاحبه فقط. وسوف نرى عما قليل كيف يستفيد سيادته بنتائج الدراسات النفسية فى الاتجاه النقدى الذى يحبذه ويدعو إليه، وهو الاتجاه الجمالى (أو "الإستاطيقى" حسب تعبيره).
والفن، فى نظر النقد الإستاطيقى، شىء متميز بنفسه عن سائر الأنظمة الفكرية والاجتماعية، وبالتالى ينبغى ألا يقاس إلا بمقاييسه الخاصة. ويقول د. ناصف إن الشعر كالنّبات لا علاقة لطبيعته وتركيبه بالتربة التى ينبت فيها. وعلى هذا فمن الخطإ البيّن الربط بين الخصائص الشكلية والفنية للشعر الجاهلى وبين البيئة العربية[29].
كذلك فمن غير اللازم، كما يقول، أن تصدر القصيدة عن تجربة، بل إن الشاعر ليغيّر من تجاربه ومشاعره أثناء عملية الإبداع. وهذا يتطلب من الناقد، فى بعض الأحيان على الأقل، أن يٌبْعِد عن ذهنه المعلومات الخاصة بالشاعر وحياته وبيئته. ذلك بأن القصيدة ليست بحال من الأحوال تعبيرا عن الظروف الاجتماعية أو الحالة النفسية لمبدعها بل هى بناء لغوى، أَىْ رمز[30]. والعمل الأدبى ليس إلا مغامرة فى داخل تنظيم الألفاظ وتفاعلها لجعل الموضوع وطريقة التعبير عنه شيئا واحدا، والقصيدة الجيدة هى القصيدة الثرية فى دلالتها بحيث تبدو فى القراءة الخامسة أو السادسة أَوْفَى منها فى القراءة الأولى أو الثانية[31]. وينقى د. ناصف أن يكون للعمل الأدبى خطة أو تدبير منظم[32]، كما أن اللغة عنده ليست أداة للتعبير عن ذات الأديب أو أى شىء خارجى. ومن شأن الفهم الحَرْفىّ للعمل الأدبى أن يفترسه، بل إن الدلالة الحرفية فى نظره هى خرافة من الخرافات[33].
ويقول الأستاذ الدكتور إننا بحاجة ماسة إلى إعادة قراءة الشعر القديم ولكن بفهم جديد، وعنده أن القصيدة القديمة رغم تفككها الظاهرى لها معنًى كُلِّىّ أوسع. لأن الشعر، كما يؤكد ناقدنا، قد نشأ فى أحضان الأساطير فنحن بحاجة إلى معاجم أسطورية عربية لأن العلم بالأساطير من شأنه أن يُغْنِى الشعر. وهو لا يقرن الشعر بالأساطير وحسب بل بالاعتقادات الدينية والتمثل الأخلاقى أيضًا[34]. كذلك فهو ضد تقويم الشعر لأنه، حسب قوله، مجرد ذوق شخصى تَسبَّب فى إشاعة كثير من الفوضى فى ميدان النقد، كما أن المقاييس النقدية نسبية متغيرة وليست نهائية مطلقة[35]. وإن أضاف رغم ذلك أن التحليل لا ينفصل عن التقويم، لأن الاختيار يتضمن نوعا من التقويم، وكذلك الأمر فى التحليل[36].
ويعكس النقد التطبيقى عند د. ناصف فى بعض جوانبه ما ينادى به: فهو يفسّر الشعر تفسيرًا يباعد بينه وبين الدلالة الظاهرة للكلام، كما أنه كثيرا ما يستعين فى هذا التفسير بالأساطير. وهو يرفض تقويم العمل الأدبى بالاستحسان أو الاستهجان كمبدإ، ومع ذلك لا يعدم القارئ هنا أو ههنا حكما تقويميا[37].
ومن الأمثلة على قراءته الرمزية الأسطورية للشعر قوله إن الفرس فى معلقة امرئ القيس صورة للإنسان المتمرد الثائر[38]، والمطر صورة للحياة المستقرة، أما الرحلة فبحث عن حقيقة الحياة[39]. وعند إشارته لمعلقة طرفة نجده يقول إن "الناقة رمز لعدة مفهومات: لفناء القوى الشاب، والانتصار على الصعوبات، والحياة الفاضلة، والمثل الذى تهون فى سبيله التضحية والفداء. ولكن أقصى ما يقنع بع العقل المشغوف بملاحظة الأسباب أن الناقة صديق رفيق وليست مجرد أداة للرحلة والاتصال". ثم يضيف بعد سطرين قائلا إن "طرفة يرى فى الناقة الموتَ الذى يقترن ببلوغ الحياة أقصى نضوجها"[40]. وفى الحديث عن ناقة طرفة أيضًا يقول إن "الناقة فى الشعر الجاهلى هى الرمز الثانى للحياة التى يعبث بها الموت"[41]. ثم بعد قليل يقول إن "الناقة تبدو حيوانا مقدسا كل ما فيها يحمل طابع القداسة. من أجل ذلك يقف (الشاعر) عند كل عضو فيها. ولو كانت الناقة لا تحمل معنى روحيا هاما لما كان فى وسعنا أن نفهم هذا الوقوف المتأنى عند كل عضو فيها.. كل عضو فى الناقة ينبض بأهمية الحياة، والحياة لا تعنى شيئا إلا رحلة الناقة التامة الخلقة"[42]. وعن ناقة طرفة أيضًا يقول إنها "تحمل صاحبها كما يستوعب التابوتُ الميتَ. الناقة إذن من هذه الوجهة ليست هى مجرد الإنسان الذى يبتغى لنفسه القوة والسلامة، ولكنها أيضًا حياة أخرى مُعَدّة للعبث بحياة الإنسان نفسه"[43]. وعن الناقة فى إحدى قصائد النعمان بن الحارث الأصغر الغسانى نسمعه يقول إنها "رمز الإنسان الفانى ورمز الدهر الباقى معا"[44]. وعند حديثه عن أبيات زهير بن أبى سُلْمَى فى التنفير من الحرب يقول عن تصوير الحرب بصورة الناقة الولود المُتْئِمة التى يجىء أولادها كلهم مَشَائيم: "أصبحت الناقة حيوانا أسطوريا يلجأ إليه الشعراء فى التعبير عن قوى الشر الغامضة المسلطة على الإنسان أو قوى الموت"[45]. ومن الواضح أن بين بعض هذه التأويلات وبعضها الآخر تناقضا شديدا.
ومن الأمثلة أيضًا على التفسير الرمزى الأسطورى فى نقد الأستاذ الدكتور قوله عن بيت الشعر التالى:
وقد لاح فى الصبح الثريَّا لمن رأى

كعنقود مُلَّاحِيَّةٍ حين نَوَّرا

إن "الأساطير الجاهلية تحدثنا أن العنب رمز لحلاوة الدنيا، فاختيار الملاحية أو العنب يؤدى أكثر من معنى. فحلاوة الدنيا إذن غير مقصورة على الأرض بل تتعداها إلى الثريا فى السماء... أضف إلى ذلك أن العنقود يرمز إلى الخصب والنمو والتوالد. والثريا إذن فى هيئتها وتقاربها وضوئها قريبة فى النفس من منظر الطفولة والأطفال". ثم يعقب مخاطبًا من يتصور اعتراضه من القراء على هذا التفسير قائلًا: "وفى وسعك أن تقول إن الشاعر لم يقصد إلى التكلف، وفى وسعى أن أقول إن المقصد يشبه العنقاء. كلاهما خرافة"[46].
فإذا انتقلنا إلى تفسيره للخمر فى الشعر القديم فإننا نراه يقول مثلا، فى أبيات الأعشى التى يذكر فيها أنه باع عَشْرا من النوق ليشترى بثمنها خمرا، إن الشاعر قد "أراد أن يستبدل بفكرة الحياة التى أهمّتْه وأَقلقته فكرة أخرى. وبعبارة أخرى رَمَزَ بيعُ الناقة إلى رغبة الشاعر فى نسيان أزمة الحياة"[47]. أما بيت الأعشى الآخر الذى يقول فيه واصفا الخمر:
كأن شعاع قرن الشمس فيها

إذا ما فتّ عن فيها الختاما

فقد علق عليه بقوله إن الشعراء قد أُعْجِبوا بهذه الصورة إعجابا متواترا، "ولكنْ ما قرن الشمس؟ يقال إنه أول ما يبدو منها فى الصباح. وهذا غير كاف، إذا لا بد لنا أن نلاحظ أن الشمس ذات شأن كبير فى الأساطير القديمة. وقد اعتُبِر إله الشمس منقذا يحرز النصر على الموت لا من أجل نفسه وحدها، وإنما يفعل ذلك من أجل العالم أجمع، ولذلك يمكّن حياة العالم من النهوض والإشراق. إله الشمس فى الأساطير البابلية يؤسس الاستقرار، ويقضى على العزلة والانتهاء والاعتساف، ويوجِد مفهوم النظام أو القانون"[48]. ثم يضيف بعد عدة أسطر أن "شارب الخمر يريد أن يحقق أحلاما أو أفكارًا أو رُؤًى لا يستطيع أن يتناولها بغير هذا الطريق. أى أن الخمر، فى نظر شاربها، تُعْتَبَر وسيلة إلى ضرب من المعرفة التلقائية الغامضة لحقائق صعبة، حقائق الحياة والوجود"[49]. ومن الواضح هنا أيضًا أن ثمة شيئا غير قليل من التناقض بين هذه التأويلات.
هذه هى الملامح العامة للمنهج الإستاطيقى فى النقد الأدبى كما يدعو إليه د. مصطفى ناصف. وأول ما يلفت النظر فيها ذلك الموقف الصارم الذى يفقه الأستاذ الدكتور ضدّ تقويم العمل الأدبى، مع أن ذلك التقويم هو، بلا ريب تعبير عن نزعة فطرية لها جذورها القوية فى النفس الإنسانية، إذ النفس تَهْوىَ وتستحسن، وتكره وتستهجن، وتحب أن تعبّر عما تشعر به من حب ونفور. وقد رأينا كيف لم يستطع قلم الأستاذ الدكتور أن يغالب هذه النزعة فأطلق صيحات الإعجاب أمام بعض النصوص الشعرية. كما أن تسمية هذا المنهج ذاتها تعنى الاهتمام بجماليات النصّ الأدبى، لكننا ننظر فنجد الأستاذ الدكتور يركّز كل اهتمامه على المضمون دون التفات إلى الناحية الجمالية البتة. وهو مضمون لا يوجد إلا فى ذهنه هو وتخيلاته هو. ليس ذلك فحسب بل رأيناه ينفى نفيا قاطعًا أن تكون هناك تخطيط أو تدبير منظم للعمل الأدبى.
كذلك يبدو لى أن التسوية بين الفن والحُلْم قد تكون بحاجة إلى إعادة نظر، فالحلم يتمّ عند توقف عمل الحواسّ والعقل وفى غياب تام لإرادة صاحبه على عكس ما يحدث عادة فى الإبداع الفنى والأدبى، الذى يتم فى اليقظة تحت إشراف العقل لا فى المنام والذى تتدخل فيه إرادة الإنسان إلى حد كبير مخضعةً إياه لعملية نقد ذاتى أثناء تشكله أيضًا. على أنى لا أنكر رغم هذا دور اللاوعى فى سلوك الإنسان وإبداعه، بَيْد أن هناك مبالغة شديدة جدا فى أن نجعل له السيادة المطلقة فى حياة الإنسان على ذلك النحو الذى وجدناه عند الأستاذ الدكتور. ثم إن الأحلام، رغم كل ما قلناه عن ظروف تكونها، كثيرًا ما تأتى واضحة مستقيمة لا تحتاج إلى تأويل رمزى، فما بالنا بالأعمال الفنية والأدبية، وهى كما قلنا إنما تتم فى اليقظة لا فى المنام وتحت وإشراف العقل والإرادة إلى حدّ كبير فى معتاد الأمر؟ وفضلًا عن هذا فإن فى القول بأن الأعمال الأدبية والفنية هى أعمال رمزية فى كل الأحوال تعميمًا يخالف حقائق الحياة، فالوضع الطبيعى هو تعبير الإنسان والفنان عن نفسه تعبيرا مباشرا إلا إذا قام دليل على عكس ذلك. وقد أشرنا من قبل إلى ما قاله الدكتور محمد النويهى عن "قانون أقل الفروض"، وعلى أساسٍ من هذا القانون ينبغى للناقد ألا يتجه تلقائيا إلى التأويل الرمزى للأعمال الأدبية إلا إذا وجد مانعًا يحول بينه وبين التفسير المباشر أو كان العمل الأدبى يقبل التفسير الرمزى فى نفس الوقت دون اعتساف. ثم لو قلنا بالرمز فى الأعمال الأدبية التى لم يقصد أصحابها إلى ذلك، فما القول فى تلك الأعمال التى بناها أصحابها قصدًا بناءً رمزيا؟ كما أن التأويلات الرمزية التى قرأناها قبل قليل لا تستند، فيما هو بيّن، إلى أساس ثابت وواضح على الإطلاق، وقد تتضارب مثلما مرّ بنا فى التأويلات المختلفة لرمز الناقة مثلا.
كذلك ففى كلام الأستاذ الدكتور إرهاصات بما سيقوله التفكيكيون فيما بعد، وذلك فى إشارته المتكررة إلى أن النص الأدبى يقبل تفسيرات متعددة بعدد قرائه بل بعدد قراءات الشخص الواحد، وأن البحث فيه عن مقصد المؤلف هو كالبحث عن العنقاء، اى أنه خرافة لا وجود لها. ومن ذلك أيضًا قوله إن العمل الأدبى نظام لاشخصى، أى نظام مغلق لا ينطوى إلا على نفسه. وهذا يشبه ما يقوله التفكيكيون عن الإشارة الحرة وعدم وجود المرجعية التى يمكن الإحالة إليها فى فهم النصوص الأدبية وتفسيرها.


[1] انظر كتابه دراسة الأدب العربى/ الدار القومية للطباعة والنشر/ 22-27، 44-49. وقد وصف د. إبراهيم عبد الرحمن محمد حُكْم د. ناصف على اتجاه طه حسين بالانطباعية بأنه تعميم انطباعى. والصواب فى رأيه هو أن طه حسين كان رائد النقد العلمى، الذى مثل له بكتابَىْ عميد الأدب العربى: فى الشعر الجاهلى ومع المتنبى والذى يرجع فى الواقع إلى مرحلة أبكر فى حياة طه حسين عندما قدم أطروحته عن ذكرى أبى العلاء إلى الجامعة المصرية الناشئة سنة 1914م (انظر كتابى: محمد حسين هيكل أدبيا وناقدا ومفكرًا إسلاميا/ مكتبة زهراء الشرق/ 1418هــ ـــ 1998م/ 219-220). أما العناصر التأثرية التى جمع د. طه بينها وبين هذا الاتجاه العلمى فهى، كما يقول د. إبراهيم بحق، وليدة ذوق راق مرهف ومعرفة واسعة بنظريات الشعر (اتجاهات النقد فى الأدب العربى الحديث- دراسات تطبيقية/ مكتبة الشباب/ 1994م/ 106/ هــ1). والشىء ذاته يقال عن الأستاذ العقاد، فله دراسات عميقة تجمع بين الاتجاه النفسى والعلمى والأسلوبى منذ وقت مبكر، ولا تخلو كذلك من لمحات تأثرية وجدانية قوامها الذوق المرهف والفهم العميق والحساسية الأدبية الراقية، نذكر منها على سبيل المثال دراساته عن المتنبى وبشار وابن الرومى وأبى نواس وابن أبى ربيعة وجميل بثينة. وقد عاد د. ناصف بعد ذلك فوصف منهج طه حسين فى النقد بـــ المنهج العلمى مع الاستعانة بالتأثرية (ص 112)، ثم عاد مرة أخرى فوصفه بالموضوعية وأبدى إعجابه بالتزامه الشديد بالنص وأنه ليس من أولئك النقاد الذين يخلعون عليه ما ليس فيه أو يقحمون عليه تداعيات لا تلائمه (اللغة والبلاغة والميلاد الجديد/ دار سعاد الصباح/ 1992م/ 201، 203، 208، 212).

[2] دراسة الأدب العربى/ 24.

[3] المرجع السابق/ 49.

[4] السابق/ 50-51.

[5] ص 47-49.

[6] ص 96.

[7] ص 99، 108.

[8] ص 106.

[9] ص 110-111.

[10] ص 111-112.

[11] ص 118-119.

[12] ص 122-123.

[13] ص 100-101.

[14] ص 144- 145.

[15] ص 135.

[16] ص 135، 137.

[17] ص 146-147.

[18] ص 148، 150.

[19] ص 153.

[20] ص 174، 177.

[21] ص 178.

[22] ص 158.

[23] ص 170-171.

[24] ص 131.

[25] ص 132- 134.

[26] ص 138.

[27] ص 138-140.

[28] ص 139-141.

[29] ص 185-188.

[30] ص 185-190.

[31] ص 191-194.

[32] ص 194، 196.

[33] ص 334.

[34] ص 207.

[35] ص 215-219، 222-224.

[36] ص 223.

[37] مثال ذلك وصفه لشعر بشار بأنه رائع (ص 168)، وقوله فى المقارنة بين الشعر العمودى والشعر الجديد إن كلا منهما يحقق وظائف لا يحققها الآخر (ص 220)، وقوله فى موضع آخر: وأجمل وصف فى اللغة العربية للفَرَس هو ما جاء على لسان امرئ القيس فى معلقته المشهورة (ص 53)، وهذا حكم تأثرى واضح. وبالمثل فإنه، فى حديثه عن وصف زهير للحمار فى لاميته الشهيرة، يقول إنه قد وفق توفيقا بارعا حين جعل الحمار يُقْبِل على النبات حتى اخضَرّت مشافره (ص 278)، كما يقول عن شعراء الجاهلية بوجه عام إنهم برعوا فى تصوير الأشياء براعة هائلة فى بعض الأحيان (قراءة ثانية لشعرنا القديم/ ط2/ دار الأندلس/ 1981م/ 44)، وعن المطر فى معلقة امرئ القيس إنه من أكثر الأشياء جاذبية فى الشعر العربى (المرجع السابق/ 129).

[38] وإن عاد فقال بعد قليل إن الفرس صورة من حياة الإنسان (دراسة الأدب العربى/ 202).

[39] المرجع السابق/ 200-201.

[40] السابق/ 202.

[41] أما الرمز الأول فهو الطلل.

[42] ص 243-244.

[43] ص 248.

[44] ص 249.

[45] ص 251.

[46] ص 208-209.

[47] ص 289.

[48] ص 290-291.

[49] ص 291.