ديوان "وراء الغمام" وقصيدة "العودة" لإبراهيم ناجى
إبراهيم عوض

هذه الكعبةُ كنَّا طائفيها






والمُصَلِّين صباحًا ومساءَ



كم سجدنا وعبدنا الحسنَ فيها

كيف باللّه رجعنا غرباءَ؟

* * *


دارُ أحلامى وحبِّى لَقِيَتْنا

فى جمودٍ مثلما تَلْقَى الجديدْ

أنكرتْنا، وهْى كانتْ، إنْ رأتْنا،

يضحك النورُ إلينا من بعيدْ

* * *

رفْرَفَ القلبُ بجنبى كالذبيحْ

وأنا أهتف: يا قلبُ، اتَّئدْ

فيُجِيب الدمعُ والماضى الجريحْ:

لِمَ عُدنا؟ ليت أنَّا لم نَعُدْ!

* * *

لِمَ عُدنا؟ أَوَلَمْ نَطْوِ الغرامْ

وفرغنا من حنين وألمْ

ورَضِينا بسكونٍ وسلامْ

وانتهينا لفراغٍ كالعَدَمْ؟

* * *

أيها الوَكْرُ، إذا طار الأليفْ

لا يرى الآخرُ معنًى للسماءْ

ويرى الأيام صُفرًا كالخريفْ

نائحاتٍ كرياح الصَّحراءْ

* * *

آهِ مما صَنَع الدهرُ بنا!

أَوَهذا الطللُ العابس أنتَ؟

والخيال المُطْرِق الرأس أنا؟

شَدَّ ما بِتْنا على الضَّنْك وبِتَّ!

* * *

أين ناديك؟ وأين السُّمَّرُ؟

أين أهلوك بساطًا ونَدَامَى؟

كلّما أرسلتُ عينى تنظرُ

وثبَ الدمعُ إلى عينى وغاما

*
مَوْطِنُ الحسن ثَوَى فيه السأمْ

*
وسرتْ أنفاسُه فى جَوِّهِ

وأناخ الليلُ فيه وجَثَمْ


وجرَتْ أشباحُه فى بهوهِ

* * *

والبِلَى أبصرتُه رَأْى العِيَانْ

ويداه تنسجان العنكبوتْ

صحتُ: يا وَيْحَكَ! تبدو فى مكانْ

كلُّ شيءٍ فيه حى لا يموتْ!

* * *

كلُّ شيءٍ من سرور وحَزَنْ


والليالى من بهيجٍ وشَجِي

وأنا أسمعُ أقدامَ الزمنْ

وخُطى الوحدةِ فوق الدَّرَجِ

* * *

رُكْنِىَ الحانى ومَغْنَاىَ الشفيقْ

وظلالَ الخلدِ للعانى الطَّليحْ

عَلِم اللهُ لقد طال الطريقْ

وأنا جئتكَ كيما أستريحْ

* * *

وعلى بابكَ أُلْقِى جَعْبَتى

كغريبٍ آبَ من وادى المِحَنْ

فيكَ كَفَّ الله عنِّى غربتى

ورسا رَحْلى على أرض الوطنْ

* * *

وطنى أنتَ، ولَكنِّى طريدْ

أبدى النفى فى عالَم بؤسى

فإذا عدتُ فللنجوى أعودْ

ثم أمضى بعدما أُفْرِغ كأسى

إبراهيم ناجى: ولد الشاعر إبراهيم ناجى فى 31 ديسمبر 1898م فى حى شبرا بالقاهرة،وتخرج فى مدرسة الطب عام 1922، وعين طبيبا فى وزارة المواصلات ثمفى وزارة الصحة ثم مراقبًا للقسم الطبى فى وزارة الأوقاف، ونهل من الثقافة العربية القديمة فقرأ دواوينالمتنبى وابن الرومى وأبى نواس وغيرهم من فحول الشعر العربى، كما نهل من الثقافة الغربية فقرأ قصائد شيلى وبيرون وآخرين من رومانسيى الشعرالغربى. وبدأ حياته الشعرية حوالى عام 1926 حينما ترجم بعض قصائد ألفرد دى موسيه وتوماس مور شعرًا ونشرها فى "السياسة" الأسبوعية. كذلك ترجم بعض الأشعار للشاعر الفرنسى شارل بودلير من ديوان "أزهار الشر"، وترجم عن الإنجليزية رواية "الجريمة والعقاب" لديستوفسكى الروائى الروسى الشهير، وعن الإيطالية رواية "الموت فى إجازة"، ونشر دراسة عن شكسبير وألَّف بعض الكتب الأدبية مثل "مدينة الأحلام" و"عالم الأسرة"، وقام بإصدار مجلة "حكيم البيت". وتوفى فى 24 مارس 1953. ومن أشهر قصائده قصيدة "الأطلال"، التى تغنت بها أم كلثوم. وأصدر عدة دواوين هى "وراء الغمام" عام 1934م، و"ليالى القاهرة" عام 1944م، و"الطائر الجريح" عام 1953م، وصدر عنه بعد وفاته عدد من الدراسات والرسائل العلمية الجامعية. ويعد إبراهيم ناجى شاعر الحب اليائس والآلام العاطفية المبرّحة رغم أن له شعرا فى المديح والرثاء والوطنية وبعض الهجاء، لكنه بغير قيمة ذات شأن، فضلا عن أنه لا يشكل جزءا كبيرا من شعره.
رأى طه حسين فى شعر ناجى ومناقشته: ولطه حسين فصل بالجزء الثالث من كتابه: "حديث الأربعاء" تناول فيه أول ديوان لناجى لدن صدوره، وهو ديوان "وراء الغمام"، الذى يضم فيما يضم قصيدتنا هذه، يقول فيه: "نحن نَكْذِب شاعرَنا الطبيب إنْ زعمنا له أنه نابغة، بل نحن نَكْذِبه إنْ زعمنا له أنه عظيم الحظ من الامتياز، وإنما هو شاعر مُجِيد تألفه النفس، ويصبو إليه القلب، ويأنس إليه قارئه أحيانًا، ويطرب له سامعه دائمًا، فإذا نظرنا إليه نظرة الناقد المحلل الذى يريد أنْ يقسِّم الشعر أنصافًا وأثلاثًا وأرباعًا كما يقول الفرنسيون لم يكد يثبت لنا أو يصبر على نقدنا، وإنما يدركه الإعياء قبل أنْ يدركنا، ويفر عنه الجمال الفنى قبل أنْ يفر عنا الصبر على الدرس والنقد والتحليل.
هو من هؤلاء الشعراء الذين يحسن أنْ يُقْرَأوا فى رفق لأنهم قد فُطِروا على رقةٍ لا تحتمل العنف وشدة الضغط. هو من هؤلاء الشعراء الذين يحسن أنْ نستمتع بما فى شعرهم من الجمال الفنى كما نستمتع بجمال الوردة الرقيقة النضرة دون أنْ نشطّ عليها بالتقليب والتعذيب. هو شاعر هين لين رقيق، حلو الصوت، عذب النفس، خفيف الروح، قوى الجناح ولكن إلى حد، لا يستطيع أنْ يتجاوز الرياض المألوفة ولا أنْ يرتفع فى الجو ارتفاعًا بعيد المدى، وإنما قُصَاراه أنْ يتنقل فى هذه الرياض التى تنبت فى المدينة أو من حولها والتى لا تكاد تبعد عنها كثيرًا. وهو إذا ألمَّ بحديقةٍ من الحدائق أو جنةٍ من الجَنَّات لا يحب أن يقع على أشجارها الضخمة الشامخة فى السماء، وإنما يحب أنْ يقع على أشجارها المعتدلة الهينة، ويتخير من هذه الأشجار أغصانها الرَّطْبة اللَّدْنة التى تثير فى النفس حنانًا إليها لا إكبارًا لها ولا إشفاقًا منها. هو شاعر حب رقيق، ولكنه ليس مسرفًا فى العمق ولا مسرفًا فى السعة ولا مسرفًا فى الحب الذى يحرِّق القلوب تحريقًا ويمزِّق النفوس تمزيقًا.
شعره أشبه بما يسميه الفرنجة: "موسيقى الغرفة" منه بهذه الموسيقى الكبرى التى تذهب بك كل مذهب، وتهيم بك فيما تعرف وما لا تعرف من الأجواء. شعره كهذه الموسيقى التى يفسدها الفضاء الطلق وتضيع فى الميادين الواسعة، وتَجُود كلَّ الجودة وتَحْسُن كل الحسن حين تُغْلَق الأبواب، وتُرْخَى الأستار، ويخلو النَّجِى إلى النَّجِى، ويَفْرُغ الصَّفِى للصفى، ويتمتع الحبيب بقرب الحبيب".
وأبدأ بما قاله د. طه فى الفقرة الأخيرة فأقول إن الناس ألوان ومذاهب بما فى ذلك عاشقو الموسيقى: فمن هؤلاء من يُؤْثِر فرقة الموسيقى الصغيرة التى تعزف ألحانَها فى غرفة لعدد محدود من المستمعين، ومنهم من يفضلون فِرَق الموسيقى الكبيرة ذات العدد الهائل من العازفين والتى تَعْزِف فى المسارح الكبيرة الواسعة أو فى الهواء الطلق. وليس هذا أو ذاك بمحقِّرٍ من الموسيقى أو بمعظِّمٍ لها. فالفن موجود هنا وهناك، وإن كان عدد العازفين والآلات متباينا، وذلك عامل غير حاسم فى التفضيل الفنى.
وهذا إن قصرنا كلامنا على الجانب الخاص بالفرق بين موسيقى الغرفة وموسيقى الأماكن الواسعة المنبسطة. لكن د. طه استطرد إلى الحديث عن الموسيقى التى "تجود كل الجودة وتحسن كل الحسن حين تُغْلَق الأبواب، وتُرْخَى الأستار، ويخلو النَّجِىُّ إلى النَّجِىّ، ويفرغ الصَّفِىُّ للصَّفِىّ، ويتمتع الحبيب بقرب الحبيب". وهو استطراد لم يوفق فيه لأنه بعيد عن طبيعة الحب الذى تدور حوله أشعار ناجى، فأشعاره لا تتحدث عن مثل هذا الحب الذى رسمه طه حسين بل عن حب يائس محرق لا يدع صاحبَه يهنأ بالحياة لحظة، فضلا عن أن يخلو بحبيبه فيناجيه ويستمتع بقربه فى غرفة مغلقة قد أسدلت عليها الأستار ورفرفت عليها أجنحة الرومانسية. كذلك لم يوفق حين وصف ناجى بأنه "شاعر حب رقيق، ولكنه ليس مسرفًا فى العمق ولا مسرفًا فى السعة ولا مسرفًا فى الحب الذى يحرِّق القلوب تحريقًا ويمزِّق النفوس تمزيقًا". فبالله إن كان شعر ناجى ليس من ذلك الشعر الذى يحرّق القلوب ويمزّق النفوس فى شراسة وعنف فليس هناك إذن شعر محرِّق ممزِّق البَتَّة. إن حب ناجى ليس حبا رقيقا وليس حبا قريب الغور وليس حبا ضيقا، بل هو شعر مؤلم غاية الإيلام ولا ينتهى نهاية سارة أبدا بل يطوقه الحرمان دائما.
وحتى لو كان ناجى كما يصفه طه حسين فإنه لا يغض من قيمة شعره أن يكون هينا لينا لا يرتفع فى الجو ولا يحطّ على قمم الأشجار السامقة، فالبلابل تصنع هذا فلا تقع إلا على أشجار الورد وما يشابهها، ومع ذلك يفضلها الناس على الصقور والنسور. وعلى أية حال فليس شعر ناجى هينا لينا بل هو شعر يُعْدِى قارئه بإحساسات صاحبه المؤلمة أشد الإيلام كما قلنا آنفا. والقصيدة التى نتعرض لها الآن تقول هذا بكل قوة وعنفوان. وهى من أوائل شعره، ومنشورة فى أول دواوينه: "وراء الغمام". والغريب العجيب أن طه حسين لم تلفت نظره تلك الدرة الثمينة التى تستطيع بكل جدارة أن تحتل موضعا بارزا فى ديوان الشعر الإنسانى.
وبالمثل لا نوافق د. طه فى قوله فى بداية النص الذى اخترناه له من كلامه عن ناجى وشعره: "فإذا نظرنا إليه نظرة الناقد المحلل الذى يريد أنْ يقسّم الشعر أنصافًا وأثلاثًا وأرباعًا، كما يقول الفرنسيون، لم يكد يثبت لنا أو يصبر على نقدنا، وإنما يدركه الإعياء قبل أنْ يدركنا، ويفرّ عنه الجمال الفنى قبل أنْ يفرّ عنا الصبر على الدرس والنقد والتحليل". ذلك أن شعر ناجى شعر بديع، وإن لم يسلم من بعض المآخذ، فهو بشر، ولكل جواد كبوة بل كبوات، والعبرة بأن يكون أغلب شعره سليما من المعايب.
والعجيب الغريب أن يقول د. طه قبل ذلك فى نفس الفصل المذكور عن ناجى: "فليس الدكتور إبراهيم ناجى رجلًا حسن البلاء صادق النية فى حب الشعر فحسب، وإنما هو فوق هذا كله موفقا إلى حدٍّ بعيد فيما حاول من إرضاء الشعر وأصحابه: موفق فيما قصد إليه من المعانى، موفق فيما اصطنع من الألفاظ، وموفق فيما اتخذمن الأساليب. معانيه جيدة تصل أحيانًا إلى الروعة، وإنْ كانت تنتهى إلى الابتذال، وألفاظه جيدة قد يعظم حظهامن المتانة والرصانة، وقد تُكْرِه أذنَ السامع على الالتفات والإعجاب والشعور بهذه اللذة الموسيقية التى يشعر بها الناس أحيانًا بآذانهم، وإنْ لم تصل إل عقولهم. وأساليبه جيدة أيضًا عظيمةالحظ من الصفاء، لا يفسدها العِوَج ولا يفسدها الالتواء فى كثيرٍ من الأحيان". وهذا الحكم يقترب من الحكم الذى قلته عن شعر ناجى قبيل قليل. فكيف يتسق كلام طه حسين هنا مع كلامه الذى سُقْتُه له آنفا؟
وهو يقف أمام بعض أبيات لناجى فلا يعجبه منها شيء. ومن ذلك تحليله للنص التالى، وهو من قصيدة بعنوان "قلب راقصة":
أمسيتُ أشكو الضيق والأَيْنا

مستغرقًا فى الفكر والسأمِ

فمضيتُ لا أدرى إلى أَيْنا

ومشيتُ حيث تجرنى قدمى

فرأيت فيما أبصرتْ عينى

مَلْهًى أُعِدّ ليُبْهِج الناسا

يجلون فيه قرائح الحسنِ

ويُبَاع فيه اللهوُ أجناسا

بغرائب الألوان مزدهرٌ


وتراه بالأضواء مغمورا

فقصدتُه عَجِلًا، وَلِى بصرٌ

شِبْه الفراشة يعشق النورا

يقول: "فانظر إليه وقد أمسى يشكو الضيق والأيْن وهو مستغرق فى الفكر والسأم. فأما الضيق والسأم فقد نفهمهما من الشاعر، وقد نفهم أنْ يشكو التعب، ولا سيما إذا كان طبيبًا قد أنفق ساعاتٍ طوالًا يَلْقَى المرضى ويفحصهم، ويصف لهم الدواء، ويسمع منهم ما لا يحب الشعراء أنْ يسمعوه. ولكن الذى لا يستقيم للشاعر المُجِيد هو الاستغراق فى الفكر والسأم معًا. فالمفكر لا يسأم، والسَّئِم لا يفكر لأن التفكير يشغل صاحبه حتى عن الضيق والتعب والسأم، ولأن السأم لا يمكِّن صاحبه من التفكير، ولا يُخَلِّى بينه وبينه. وعلى كل حال فقد أمسى الشاعر ضَيِّقًا متعبًا مغرقًا فى السأم والتفكير، فخرج لا يدرى إلى أين، ومضى حيث تجره قدمه. فانظر إلى هذه الصورة التى لا تلائم شعرًا ولا تلائم لغة. فالقدم لا تجر صاحبها، وإنما تحمله، وتحمله متثاقلة مكدودة إنْ لم يتح لها النشاط، وإنما يجر صاحب القدم قدمه إذا خرج فاترًا مكدودًا لا يقوى على المشى. ولكن الشاعر أراد قافية تلائم السأم، فجعل قدمه تجره على حين كان ينبغى أنْ يجرها هو. فإذا لاحظتَ أنَّ "السأم" نفسها قلقة فى موضعها إذ لا يستقيم مع التفكير، ولا سيما بعد أنْ ذكر الضيق والأين، عَرَفْتَ إلى أين ينتهى تكلُّف النظم بالشعراء المجيدين أحيانًا!
ثم انظر إلى قوله:
فرأيتُ فيما أبصرتْ عَيْنِي

مَلْهًى أُعِدَّ ليُبْهِج الناسا

فالشطر الثانى كله لا معنى له ولا امتياز فيه. و"فيما أبصرتْ عينى” غريبة لأنها تُشْعِر أنَّ هذا الملهى كان شيئًا ضئيلًا ضائعًا بين ما رأى من الأشياء. وأكبر الظن أنَّ هذه الأنوار المتألقة التى تعلن عن الملاهى خليقة ألا تجعله ضئيلًا يستخفى بين الأشياء التى تُرَى، بل عظيمًا يَصْرِف عما حوله من الأشياء، ولكنه أراد أنْ يقيم الوزن، فأُكْرِه على هذه الجملة إكراهًا، وأراد أنْ يقيم الوزن والقافية فأُكْرِه على قوله: "أُعِدَّ ليُبْهِج الناسا". فالملهى لا يُعَدّ لشيءٍ آخر، ولكن "الناس" كلمة تلائم "الأجناس"، وتعقد معها شيئًا من النظام، فاحتال الشاعر لهذه الكلمة حتى جعلها قافية!".
ومن هذا النص يبدو لنا وكأن الشاعر، فى عرف د. طه، ينظم قصيدته من تحت إلى فوق لا العكس، إذ هو يتصور أن ناجى قد اختار كلمة القافية السابقة لأنها تلائم كلمة القافية اللاحقة، وكأن الشعراء ينظمون البيت المتأخر قبل المتقدم. كيف ذلك؟ علمه عند د. طه. كذلك ليس فى حصول التفكير والسأم فى نفس إنسان فى وقت واحد شيء مستغرب. وعلى الأقل فالإنسان السئم لا ينفك عن التفكير فى شيء يخرجه من هذا السأم. كما أن الفكر لا يكون بالضرورة فكرا فلسفيا أو علميا بل كل ما يمر بعقل الإنسان هو فكر. كذلك فإن قول ناجى: "فمضيتُ حيث تجرنى قدمى" هو من التصوير البديع لنتيجة حالة السأم التى خامرت الشاعر، فليس هو بالذى يمشى حسبما يريد بل إن حالة السأم جعلته يستسلم لقدمه تقوده أو تجره حيثما تشاء. إن طه حسين يحاسب ناجى حسابا علميا، فالإنسان فى الواقع هو فعلا الذى ينقل قدمه، لكن الشعر غير العلم، ولولا ذلك لكان كبار الشعراء هم أتفه الشعراء لأن معظم صورهم لا تتسق مع ما يقوله العلم. الواقع أن نقد طه حسين لناجى هو نقد خَشَّابِىّ لا يصلح للإبداع الأدبى والشعرى.
ويأخذ طه حسين على ناجى أيضا قوله إنه رأى بين ما رأى ملهًى... مستغربا ألا يشد الملهى من أول لحظة انتباه الشاعر لتميزه عما حوله من مبانٍ، ناسيا أن الشاعر قد ذكر أنه قد أرهقه الفكر والسأم وأنه استسلم لقدمه تقوده إلى المكان الذى تريد، فهو من ثم لم يلتفت إلى الملهى إلا حين اقترب تماما منه وصار قبالته. ومما يأخذه طه حسين على ناجى أيضا رَفْعُه كلمة "مزدهر" التى ينعت بها الملهى بدلا من نصبها. يقول: "انظر إلى قوله:
بغرائب الألوان مزدهرٌ

وتراه بالأضواء مغمورا

فقصدتُه عَجِلًا، وَلِى بَصَرٌ

شِبْهُ الفراشة يعشق النورا

فسترى أنه رفع "مزدهرٌ" هذه، وكان الخير فى نصبها لأن الملهى منصوب، فكان يحسن أنْ تقع منه موقع النعت، ولكنه قطع الكلام واستأنفه لا لشيء إلا ليلائم بين "مزدهرٌ" هذه وبين قوله فى البيت الذى يليه: "وَلِى بصرٌ". والسؤال هو: هل رَفْع "مزدهر" هنا خطأ نحوى؟ لا بل هى مرفوعة، كما يقول هو نفسه، على القطع بمعنى أنها ليست نعتا لـ"ملهى" بل خبرا لضمير مقدر يعود على الملهى. وهذا مقبول تماما فى النحو العربى ويجرى على قواعد الإعراب، الذى هو ميزة عظمى من مزايا لغة الضاد. وأنا أشدّ على يدى ناجى لأنه صاغ شعره هذه الصياغة التى تدل على أنه يحسن النحو ويعرف ماذا تضم أركانه وزواياه من عجائب. وما دامت هذه إمكانة من إمكانات النحو العربى فكيف يعيب طه حسين شاعرنا عليها؟ إن براعة الشعراء تكمن، فيما تكمن، فى الوصول إلى تلك الزوايا المنفردة واستخراج ما فيها من الإمكانات اللغوية. والشاعر، كما أقول دائما، يشبه من يمشى فوق حبل منصوب فى الهواء جَرَّاءَ قيود الوزن والقافية، فلا يحق أن نحاسبه بالمليمتر، وإلا لم يكتب شاعرٌ شعرا أبدا.

ومما يأخذه طه حسين على شاعرنا قوله:
مرت الساعة، والليل دنا

والهوى الصامت يغدو ويروحْ

فقد علق على تعبير "يغدو ويروح" على النحو التالى: "فنحن فى الليل، أو نحن فى المساء غير بعيد من الليل، ولكن الهوى الصامت يغدو ويروح. والغُدُوّ لا يكون إلا فى الغَدَاة لا فى الليل ولا قريبًا من أول الليل، وإنما أراد الشاعر "يذهب ويجيء"، فظن أنَّ الغُدُوّ والرَّوَاح يؤديان معنى الذهاب والمجيء، وكان يستطيع أنْ يقول: "يمضى ويجيء"، ولكنه محتاج إلى "يروح" لمكان القافية فى البيت الذى يأتى بعد ذلك، وهو قوله:
وتلاشتْ واختفتْ أجسادُنا

واعتنقْنا فى الدُّنَا رُوحًا بروحْ"

ولا يقف انتقاد د. طه لناجى عند هذا الحد بل يبدى نفوره من استخدام كلمة "تلاشَى" فى الشعر، ويزيد فيؤكد أن كلمة "تلاشت" أقوى من "اختفت"، ومن ثم كان ينبغى أن تأتى بعدها لا قبلها. ولم يحاول الأستاذ الدكتور أن يبين لنا وجه نفوره من ورود كلمة "تلاشت" فى الشعر. وعلى كل حال فليس هناك قائمة بالألفاظ الشعرية وغير الشعرية. وأقصى ما يمكن قوله إنها مسألة أذواق. وأنا لا أرى فى استعمالها شيئا معيبا. ثم إن الشىء حين يتلاشى يختفى بكل يقين، أما إن اختفى فقد لا يتلاشى شسئا فشيئا بل يختفى مرة واحدة، وعلى هذا فلترتيب الفعلين فى البيت على الوضع الحالى وجه وجيه. وأيا ما يكن الحال فالدكتور طه يعرف النحو العربى جيدا، ويعرف منه أن الواو العاطفة لا تفيد ترتيبا بل مطلق الجمع، وعليه فلم يخطئ ناجى كيفما قلبنا الكلام.
أما تعبير "يغدو ويروح" فقد كثر استخدامه حتى بات يدل على مطلق الذهاب والمجىء ليس إلا. والتطور عنصر قوى فى اللغة، ولو تجاهلناه لكان معظم ما نكتبه اليوم فاسدا على ما هو معروف. يقول عمر بن أبى ربيعة متغزلا:
حَتّى أُتيحَ لِظَبْيِنا رَجُلٌ

من أَهْلِ مَكَّةَ زانَهُ حُلَلُهْ

يَغدو عَلَيهِ الخَزُّ يَسْحَبُهُ

وَيَروحُ فى عَصَبٍ وَيَبْتَذِلُهْ

ويقول أبو العتاهية من أهل القرن الثانى الهجرى:
سيصير المرء يومًا

جسدًا ما فيه روح

بين عَيْنَىْ كلّ حىٍّ

عَلَمُ الموت يلوح

كلّنا فى غفلةٍ، والـ

ـموتُ يغدو ويروح

ويقول تميم الفاطمى فى القرن الرابع الهجرى:
سيصير المرء يومًا

جسدًا ما فيه روح

بين عينَى كلّ حىّ

عَلَم الموت يلوح

كلّنا فى غفلةٍ، والـ


ـموتُ يغدو ويروح

ويقول ابن زريق البغدادى من أهل القرنين الرابع والخامس الهجريين:
يغدو عليه مَنْ طهاه بِعُجَّةٍ


ويروحُ بالمشوىِّ والمصْلوقِ

ويقول ابن حمديس فى القرنين الخامس والسادس:
ما تريدُ الخَوْدُ من شيخٍ غدا

فى مدى السّبْعينَ بالعُمْر وراحْ؟

ويقول الأبله البغدادى من أهل القرن السادس:
خَلِّنِى والوجد يغدو

بفؤادى ويروحُ

لبخيلٍ أنا بالرو

ح له دهرى سَمُوحُ

ويقول البوصيرى من أهل القرن السابع:
لى غَبُوقٌ مِنَ الهَوى وَصَبُوحُ

وَبِقَلبى يَغْدُو الهَوى ويَرُوحُ

ويقول النبهانى العمانى من القرنين التاسع والعاشر عن تسلط النساء على قلوب العاشقين:
كم مالكٍ مَلَكَ الرّقا

ب غدا وراحَ لهنَّ عبدا!

ويقول الأمير الصنعانى من أهل القرن الحادى عشر:
قلب بداء ذنوبه مجروحُ

يغدو بما لا أرتضِى ويروحُ

وفى "تاريخ الطبرى"، وهو من أهل القرنين الثالث والرابع الهجريين: "كان كرزم السّدوسى يغدو على سفيان بخبر إبراهيم ويروح". وفى "البصائر والذخائر" لأبى حيان التوحيدى (ق4 الهجرى): "فقال له جلساؤه: إنّ ابن أخيك با أبا العبّاس مجتهدٌ فى طلب العلم يغدو ويروح". وفى "مثالب الوزيرين" له أيضا: "فقلت له (يعنى لابن العميد): هذا الشاعر البائس قد سمعتَ منه شعرًا، وأَسْمَنْتَ أمله، وهو على ذلك يغدو ويروح، ويشكو وينوح. فلو أمرتَ له بشيء كان أقطعَ لشغبه، وأجلَب لشكره، وأدعى إلى السلامة من عتبه". ولا أظن طه حسين نفسه فى النص التالى من "دعاء الكروان" إلا مستعملا هذا التعبير للدلالة على التقلب فى أمور الحياة ذهابا وجيئة دون التقيد بأول النهار وآخره ليس إلا. والكلام عن المهندس الذى غَرَّرَ بخادمته واعتدى على عِرْضها فتسبب فى قتلها. والمتكلمة هى أختها، التى التحقت بخدمته لتنتقم منه ثم أحبته وأحبها وتزوجها: "خواطر كانت تملأ قلبى فى اليقظة، وكانت تملؤه فى النوم، وكانت تصرفه عن كل شيء إلا عن هذه الفتاة التى سُفِك دمُها فى ذلك الفضاء العريض، فذاقت الموت وذهبتْ نفسها إلى السماء وهوى جسمها إلى الأرض وهِيلَ عليه التراب، وإلا هذا الفتى الذى ما زال يغدو ويروح فرِحا مرِحا مغتبطا مستبشرا تبسم له الحياة، ويبسم هو للحياة".
وبالمثل نرى طه حسين يستعمل هذا التعبير فى النص التالى من كتابه: "فى الصيف" حيث يتحدث عمن يسافرون إلى فرنسا هربا من الحر: "ومنهم من يلتمس الراحة فى مدن العيون والينابيع... فهو يستحمُّ ويخالط المستحمين والمستحمات فى غُدوِّهم ورواحهم، وفى نشاطهم وخمودهم وراحتهم".
رأى العقاد فى شعر ناجى ومناقشته: وفى مقال للعقاد بجريدة "الجهاد" (عدد 12 يونيه سنة 1934م) هاجم ذلك الناقد الكبير شاعرنا إبراهيم ناجى ورفقاءه فى جماعة "أبولو" قائلا: "وأظهر ما يظهر من سمات هذه المجموعة الضعف المريض والتصنع، فإن صاحبها، كما يدل عليه كلامه، من أولئك الذين يفهمون أن "الرقة" ترادف البكاء، وأن الشاعر ينظم ليبكى ويشكو، فإذا هجره الحبيب بكى... وإذا تناجى مع حبيبته قال لها: "هاتى حديث السُّقْمِ والوَصَبِ"، إلى نحوذلك من أعراض الرخاوة المريضة". ولا أظن هذا الوصف ينطبق على ناجى، فقد كان الرجل يتألم فعلا ويقاسى نيران الحب اليائس ولا يتصنع هذا تصنعا. وليس ناجى بدعا فى ذلك، فلدينا مثلا فى العصر الأموى جميل بثينة وكُثَيِّر عزة وقيس بن المُلَوَّح وقيس بن ذَرِيح، وشعرهم كله يفيض بالحرقات والتأوهات والبكاء والمعاناة الباهظة. وقد خاض ناجى تجربة حب قوية فى صباه وشبابه لم يُكْتَب لها الاكتمال بالزواج رغم التعاهد الذى يقال إنه كان بينه وبين قريبة له على ذلك، إذ فضلت أن تتزوج مبكرا على أن تنتظره حتى يتخرج، فظل طول عمره يتألم. ويفهم من كلام من كانوا يعرفونه أنه لم يكن محطَّ أنظار النساء، فضاعف هذا من ألمه وأحزانه. وشعره الذى بين أيدينا خير شاهد على ذلك. وقد درس العقادُ جميلَ بثينة وشعره، وتغلغل فى أطواء هذا اللون من الحب ورأى أنه كالإدمان لا يمكن الإقلاع عنه بسهولة أبدا رغم المعاناة العنيفة منه. كذلك ترينا روايته الرائعة: "سارة" كيف تَعَذَّب بالعشق أيما عذاب، وكيف كان يغالط نفسه رغم ظهور الدلائل على أن معشوقته لا تفى له، إذ ليس من السهل على العاشق أن يخلع عاطفة الحب من قلبه، فالعشق ككلاليب الهلب الحديدى المغروزة فى القلب، فلا يمكن أن يُخْلَع منه إلا بتمزيقه تمزيقا وحشيا. فكان ينبغى أن يعرف العقاد أن ما يقوله ناجى فى شعره وما يقوله جميل وما تقوله رواية "سارة" إنما يخرج كله من مِشْكاةٍ عاطفيةٍ واحدة.
رأى د. شوقى ضيف فى شعر ناجى ومناقشته: ويقول د. شوقى ضيف فى الفصل الخاص بإبراهيم ناجى من كتابه: "الأدب العربى المعاصر فى مصر" إن ناجى فى شعره "لم يصور عواطف الناس السياسية والوطنية منحوله بل انصرف إلى نفسه يتغنى بحب شقى عاثر، وهو غناء كله ألم وشجن وارتياب وقلق وهم، غناء عاشق يُخْفِق دائمًا فى حبه ولا يجد فى نفسه ولا فى يده منه إلا الذكرى المُمِضّة المحرقة. ومن خير ما يصور ذلك قصيدتاه: "الناى المحترق" و"العودة"، وفيها يتغنى بذكرياته الحزينة لمعاهد شبابه وما كان له فيها من حب ذبل قبل أوانه على مثل ما نرى فى قوله:
رفرف القلبُ بجنبى كالذبيحْ

وأنا أهتف: يا قلبُ اتئدْ

فيجيب الدمع والماضى الجريحْ:

لِمَ عدنا؟ ليت أنا لم نعدْ

لم عدنا؟ أَوَلَمْ نَطْوِ الغرامْ

وفرغنا من حنين وألمْ

ورَضِينا بسكون وسلامْ

وانتهينا لفراغ كالعدمْ؟

موطنُ الحسْن ثوى فيه السَّأَمْ

وسرت أنفاسه فى جَوِّهِ

وأناخ الليل فيه وجَثَمْ


وجَرَتْ أشباحه فى بهوهِ

والبِلَى أبصرتُه رَأْىَ العِيَانْ

ويداه تنسجان العنكبوتْ

صحتُ: يا ويحك! تبدو فى مكانْ

كل شيءٍ فيه حىٌّ لا يموتْ

كل شيءٍ من سرورٍ وحَزَنْ


والليالى من بهيجٍ وشَجِى

وأنا أسمع أقدام الزمنْ

وخُطَى الوحدة فوق الدَّرَجِ

وهذا النغم الذى يزخر بالألم نجده فى كل صفحة من صفحات "وراء الغمام"، فليس فيه تفاؤل وليس فيه فرح بحاضر ولا مستقبل، إذ لا يبدو فى ظلام حياته خيط من الأمل، بل هو دائمًا غارق فى لجج من الشقاء والحرمان". ونحن نتفق مع مجمل ما قاله الأستاذ الدكتور عن اتجاه ناجى الشعرى، بيد أننا لا نوافقه على أنه لم ينظم شعرا وطنيا، فلقد نظم هذا اللون من الشعر، لكنه كان قليلا وليس فى روعة شعره العاطفى المفعم بالألم واليأس والمعاناة. ولا شك أن استشهاد الأستاذ الدكتور ببعض مقاطع من قصيدة "العودة" دليل على إعجابه بها. وهى بلا ريب تستحق هذا الإعجاب وأكثر منه، فهى قصيدة خالدة ما خلد الأدب العربى بل ما كان هناك أدب فى العالم.
قصيدة "العودة" وتحليلها: ونتحول الآن إلى قصيدة "العودة" هذه، ولا أدرى بالضبط متى عرفتُها، وإن كنت أحسب أنها كانت مقررة علينا ضمن مادة "اللغة العربية" الخاصة بالثانوية العامة عام 1965- 1966م. ومن أول قراءتى لتلك القصيدة تأثرت بها أشد التأثر وغزت قلبى واستقرت به وانغرست فيه ولم تغادره منذ ذلك الحين. ولكن ما الذى فى هذه القصيدة مما جعلها تستولى على قلبى كل هذا الاستيلاء ولا تزال ولن تزال؟ إنه الحزن الممض اليائس وانكسار الشاعر تحت وطأته الباهظة. كذلك فتصويره للحب على أنه عبادة، ووصفه لبيت الحبيبة على أنه كعبة يُطَاف بها ويُصَلَّى عندها هو سبب ثان. وهناك الصور الطارفة النضرة العجيبة التى تمتلئ بها القصيدة ويشخِّص الشاعر فيها المعانى المجردة تشخيصا فاتنا. ولا ننس العنصر القصصى فى هذه الدرة البارعة والمتمثل فى سرد ما حدث من الشاعر وله، وفى الحوار الذى أداره بينه وبين قلبه، وبينه وبين الماضى الجريح المحروم، وكذلك استبطانه لأحاسيسه النفسية. ولدينا أيضا الوحدة النفسية والمعنوية التى تشد مقاطع القصيدة بعضها إلى بعض.
وحدة العمل الأدبى: وبالنسبة إلى وحدة العمل الأدبى يؤكد د. مندور أن الوحدة الموضوعية لا تتحقق إلا فى فنون الأدب الموضوعى كالمسرحية والرواية والقصة القصيرة، وأما فى الشعر الغنائى الخالص فمن أكبر التعسف، كما يقول، مطالبة الشاعر بها بحيث لا تقبل القصيدة أى تقديم أو تأخير فى نسق أبياتها. ويكفى أن تتحقق للقصيدة الغنائية وحدة الغرض، وهو ما يصدق على كثير من القصائد العربية بما فى ذلك القديمة منها عدا شعر المديح، الذى تتعدد فيه الأغراض عادة. ويجد القارئ هذا الكلام خلال الفصل الذى عقده د. مندور للعقاد ناقدا فى كتابه: "النقد والنقاد المعاصرون". وأحب أن أضيف إلى وحدة الغرض الذى نص عليه د. مندور وحدة الجو النفسى. ومع هذا فهناك قصائد غنائية عربية كثيرة تقليدية وحديثة تتحقق فيها الوحدة العضوية إلى حد كبير، ومن القصائد الحديثة التى من هذا النوع مثلا قصائد العقاد: "سلع الدكاكين فى يوم البطالة" و"الشاعر الأعمى" و"عيش العصفور". ومنها أيضا قصيدة ناجى التى بين أيدينا. فهى ذات موضوع واحد، ويسودها جو نفسى واحد، ويصعب جدا أن نقدم مقطعا منها على آخر. إنها كتلة واحدة وكيان واحد. وهذا الإحكام البنائى أحد أسباب تميز وامتياز هذه القصيدة.
الوحدة العضوية فى قصيدة "العودة": فموضوع القصيدة الواحد هو موضوع العودة إلى منزل الحبيبة، الذى كان كثيرا ما يذهب إليه ويقضى أوقاتا هانئة مرحَّبا به ومكرَّما بالقرب من حبيبة الروح، ثم لأمر ما لم يذكره الشاعر توقفت هذه الزيارات ليعود بعد فترة فيقف أمام ذات المنزل لكن بعدما فارقته الحبيبة وأهلها، وصار مهجورا، وخيمت عليه الوحشة والوحدة، وانتشرت فى أنحائه خيوط العنكبوت. فهذا هو موضوع القصيدة الوحيد، ولا شيء آخر. والجو النفسى الذى يسودها، كما قلنا، هو جو الحسرة والألم الممض الباهظ والندم على الرجوع إلى ذلك المكان بعد انطواء الغرام واستيلاء اليأس على قلبه. وتتكون القصيدة من طائفة من المقاطع تتسلسل فى عرض الفكرة والشعور والحكاية تسلسلا محكما إلى حد بعيد.
ويساعد على ذلك أن القصيدة لا تجرى على قافية واحدة من أولها إلى آخرها بل على نظام المقاطع الذى يتبع كل مقطع فيه نظاما قافَوِيًّا مختلفًا. ووجه المساعدة المذكورة على تحقيق وحدة القصيدة أنه من الصعب جدا نقل مقطع كامل من موضعه قُدَّامًا أو وراءً بينما يمكن هذا فى كثير من الحالات مع الأبيات المفردة. وهنا موضع مناسب لنقل كلمة نعمات أحمد فؤاد فى هذا الشكل الفنى الذى التزمه ناجى فى قصيدته الحالية ومناقشتها. قالت المؤلفة فى كتابها: "ناجى الشاعر" (رابطة الأدب الحديث بالقاهرة/ 1954م/ 110): "أما الوحدة بمعنى اطراد القافية فى القصيدة فلم يتقيد بها ناجى، فقد زاوَجَ وأَرْبَعَ متحررا من القافية عامدا فى رأيى تمثلا بشعراء الغرب المحدثين الذين لا يلتزمون الوحدة الشعرية عن فكرة... فهى عندهم تمسُّكٌ بما لا يلزم لمجرد التقليد... ويبدو أن ناجى كان من أنصار هؤلاء". والرد على ذلك هو أن الشعر العربى القديم لم يجر دائما على توحيد القافية فى القصيدة كلها، فقد كانت هناك الموشحات والمربعات والمخمسات. وحتى لو اقتصرنا فى ذلك على شعر العصر الحديث لوجدنا هذا متحققا منذ القرن التاسع عشر فى شعر رفاعة الطهطاوى كما فى الأمثلة التالية:
ومصرُ أَبْهَى مَوْلدِ

لنا وأزهى مَحْتِدِ

ومَرْبَعٍ ومعهدِ

للروح أو للبَدَنِ

---

مصرٌ لها أيادى

عُلْيا على البلادِ

وفخرها ينادى:

ما المجد إلا دَيْدَنِى

---

دارُ نعيمٍ زاهيهْ

ومعدِن الرفاهيهْ

آمِرةٌ وناهيهْ

قِدْمًا لكلِّ المُدُنِ

---


تحنُو على القريبِ

تحلو لدى الغريبِ

تَرْنُو إلى الرقيبِ

شَزْرًا بِسَهْم الأَعْيُنِ

* * *

لنا فى الجيش فرسانُ

لهم عند اللِّقا شانُ

وفى الهيجاء عنوانُ

تَهِيم به صواهِلُنا

---

مَدَافعنا القَضَا فيها

وحُكْم الحتْفِ فى فِيها

وأهونُها وجافِيها

تجود به مَعامِلُنا

أى أن ما قالته نعمات أحمد فؤاد غير صحيح أو على الأقل: غير دقيق.
رأى د. مندور فى وحدة القصيدة العربية القديمة ومناقشته: وفى موضوع "وحدة القصيدة العربية القديمة" يقول د. محمد مندور فى الفصل المسمى: "النقد التطبيقى" من كتابه: "الشعر المصرى بعد شوقى- الحلقةالأولى" إن هذه الوحدة لم تكن تتمثل إلا فى اتحاد الوزن والقافية، وأما الغرض أو الموضوع فقلما نراه موحدا فى القصيدة العربية القديمة. والحق أن الأمر ليس بهذه البساطة، فما أكثر القصائد القديمة التى توافرت لها الوحدة الموضوعية والنفسية إلى جانب وحدة الوزن والقافية. لنأخذ مثلا قصيدة عبد يغوث الجاهلية وعددا لا بأس به من أشعار سُحَيْم عبد بنى الحَسْحَاس، وتقريبا كل أشعار عمر بن أبى ربيعة وجميل بثينة والقَيْسَيْن، وعَيْنِيَّة أبى ذؤيب الهُذَلِىّ فى رثاء أولاده، ورثاء مالك بن الريب لنفسه، وأشعار أبى العتاهية الزهدية، وأشعار العباس بن الأحنف، ورائية بشار، وفتح عمورية لأبى تمام، وإيوان كسرى للبحترى، ورثاء ابن الرومى لولده الأوسط وقصيدته فى وحيد المغنية وقصيدته فى عازفات العود، وقصيدة المتنبى فى رثاء جدته وعدد من قصائده فى مدح سيف الدولة ووصف معاركه مع الروم وقصيدته فى معاتبته وقصيدته فى الحُمَّى وقصيدته فى الهروب من كافور وقصيدته فى رثاء خَوْلة أخت سيف الدولة وقصيدته فى شِعْب بَوَّان... إلخ، إلخ، إلخ. وليس ما ضربتُه هنا من شواهد سوى غَيْضٍ من فَيْضٍ امْتَحْتُه من الذاكرة الكليلة الخئون ودون تجهيز سابق بل عفو اللحظة.
فإبراهيم ناجى حين نظم قصيدته البديعة التى فى أيدينا وجعلها كتلة واحدة محكمة التماسك لم يكن يبنى هو ومعاصروه كالعقاد والمازنى وشكرى ومطران وأبو شادى وغيرهم على غير أساس من شعرنا القديم بل كانت هناك قواعد متينة من هذا الشعر أقاموا إبداعهم عليها. ولعلنا نكون أدق إذا قلنا إن الشعر الغربى قد لفت أنظارهم إلى تراثنا الشعرى القائم على الوحدة الموضوعية والنفسية لا القائم على تعدد الأغراض والموضوعات فى القصيدة الواحدة.
وتقوم بنية قصيدة ناجى التى فى أيدينا على المقارنة بين الحاضر والماضى. فقد عاد الشاعر إلى دار حبيبته فألفاها تستقبله بوجه جامد كأنها لا تعرفه، وكانت من قبلُ إذا لمحته من بعيد ضحك نورها فَرِحًا مُرَحِّبًا، وكانت له فيها ليالٍ مترعةٌ بالبهجة والسمر الجميل المملوء غبطة وسعادة، وكانت تجيش بالحياة، أما الآن فران عليها الصمت والوحدة والوحشة بعد أن خلت من أَهْلِيها وأقفرت من كل شيء، ووجد العنكبوت فرصته لكى يتمدد وينتشر براحته. وقد برع الشاعر فى تلك المقارنة أيما براعة. فالقصيدة لوحات: لوحة للماضى ومثلها للحاضر، ثم لوحة للماضى ومثلها للحاضر... وهكذا. ثم تنتهى القصيدة حين ينتهى الشاعر من زورته المخيبة لكل توقع. ترى أين ذهب ذلك الماضى السعيد الذى آب الشاعر من وادى المحن لعله يجد فى دار الحبيبة شيئا مما كان يفيض به من سعادة، لكنه لم يجد سوى الوحشة والإنكار والتجهم والعنكبوت رمز الخراب؟
اللوحات الشعرية فى القصيدة: وقد رسم الشاعر لوحات غاية فى الروعة لكل شيء رآه أو تذكره. فدار الحبيبة كعبة كثيرا ما طاف حولها وصلى عندها وسجد وعبد حسن الحبيبة فيها. فانظر كيف ارتفع بمكانة حبيبته ودارها إلى هذا الأفق الشاهق. إنه الحب والفتنة، تلك التى وضعها الله فى قلوب الرجال تجاه من يعشقونهن. وتقابلنا هنا وهناك فى شعره الغزلى ألفاظ "الكعبة، القِبْلة، القداسة، الصلاة، العبادة":
هل أنت سامعةٌ أنينى

يا غاية القلب الحزينِ

يا قِبْلَةَ الحب الخَفِىْ

ىِ وكعبةَ الأمل الدفينِ؟

* * *

بنيتُ محرابىَ لم أتخذ

دينًا سوى حبك فى كل حال

* * *

فثقى بأنك قِبْلتى أبدا

وصلاة روحى حيثما كنتِ

* * *

لمن هاته الفتنة النادرهْ؟


وما هذه الأعين الساحرهْ؟

وما ذلك المرح القدسى؟

ما هاته الضحكة الطاهرهْ؟

* * *

عرفتكِ كالمحراب قدسًا وروعةً

وكنتِ صلاة القلبفى السر والجهرِ

* * *

أنت يا معجزة الحسن مَلَكْ

كل لفظ منك شِعْرٌ قدسىُّ

* * *

هأنا عدتُ إلى حيث التقينا

فى مكانٍ رفرفت فيه السعادهْ

وبه قد رفرف الصمت علينا

إن فى صمت الحبيبين عبادهْ

* * *

قد نأى عنى الذى يرحمُنى

والذى يفهمُ آلامى وروحى

والذى أعبدُ منه غُرَّةً

كَنَدَى الأزهار فى الوجهِ الصبيح

* * *

يا أيها الحبُّ المقدَّسُ هيكلًا

ذاق الرَّدَى مِنْ عابديك مُسَبِّحُ

كَثُرَتْ ضحاياه وطال قيامه

وصيامه، فمتى رضاءَكَ تَمْنَحُ؟

يا دوحة الأرواح يُحْمَد عندها

فَىْءٌ، ويُعْبَد زهرها المتفتحُ

وله قصيدة بعنوان "صلاة الحب"، وأخرى اسمها "أغنية فى هيكل الحب"، كما أن له ديوانا يسمى: "فى معبد الليل". وكلها تسميات ذات مغزى واضح فيما نحن بسبيله.
وثم لوحة أخرى فى قصيدتنا صور فيها الشاعر قلبه وهو يرفرف كالدجاجة المذبوحة حين وقعت عينه على دار الحبيبة، فاستيقظت الذكريات وهاجت الآلام من مكامنها متوحشة لا تُحْتَمَل، فيسارع إلى قلبه مُهِيبًا به أن يَتَّئِد، وكأن قلبه شيء آخر مستقل عنه وله إرادة وليس جزءا منه، وكأنه ليس هو الدجاجة المذبوحة لا القلب. ولوحة ثالثة نسمع فيها الدمع والماضى المفعم بالآلام يتساءلان: لم عدنا؟ يا ليتنا لم نعد. وهل الدموع تتكلم؟ بل هل وجه الشاعر إليها كلاما أصلا حتى تجيب عن سؤاله؟ لقد وجه الكلام إلى القلب، فأجابت هى. وهذا يدل على اضطراب أحوال شاعرنا وعجزه عن السيطرة على نفسه وعناصرها.
وانظر إلى عبارة "موطن الحسن" بدلا من "دار الحبيبة"، فهى الموطن الوحيد الذى يقطنه الحسن، وليس هناك حسن سواه ولا موطن لهذا الحسن إلاه. لقد تبدل حال موطن الحسن، فأقام فيه السأمُ وصار يطلق أنفاسه الكريهة فى كل أجوائه، ثم لم يقتصر الأمر على ذلك بل صار موطنُ الحسن هذا ظلاما مطبقا، فأناخ الليل فيه وجثم وكأنه وحش لا يمكن إبعاده ولا زحزحته، وانطلقت أشباحه المخيفة المرعبة تجوس أبهاءه. لقد تحول كل شيء فى موطن الحسن كئيبا منفرا بغيضا مفزعا بعد أن كان مَغْنَى الحب والسعادة والمنادمة الممتعة التى تملأ القلب نشوة.
وانظر كذلك إلى تصويره ما ساد الدار من وحشة: فهو يسمع أقدام الزمن. وهل للزمن أقدام؟ لكنه الإبداع العجيب. وحتى لو كانت له أقدام هل نستطيع سماع أقدامه، وكأنه يلبس حذاءً صُلْبًا يقرع به الأرض فتسمع دقاته؟ والوحدة هل لها خُطًى؟ وهل تصعد الوحدة الدَّرَج وتنزل كما يقول الشاعر؟ إن الوحدة معناها أن منزل الحبيبة ليس فيه أحد، ومن ثم لا يمكن أن تكون هناك خُطًى أصلا. لكن ماذا نقول فى عبقرية ناجى؟ لا أكتم القارئ أننى، منذ قرأت القصيدة للمرة الأولى، كلما بلغت هذه الأبيات تمثلتُ كلا من الزمن والوحدة وكأنه مجرم فلم "البلطة" لهتشكوك وهو يجوس خلال ممرات الدار التى اقتحمها ليقتل صاحبها وأنشأ يبحث عنه وقد انزوى فى ركن منها خفىّ، لكنّ وَقْع حذاء المجرم الذى تجسِّمه آلات التسجيل يكاد يقتله رعبا. وأجد نفسى وقد صمتُّ واستطالت أذناى ألتقط بها صوت أقدام الزمن وخطوات الوحدة. وانظر أيضا إلى تحديد المكان الذى تطؤه تلك الأقدام والخطوات. إنه الدَّرَج. وهو ما يضفى واقعية على الأمر وكأنه شىء حقيقى لا مجازٌ متخيَّلٌ يتم تشخيص المعانى المجردة فيه تشخيصا عاما مطلقا غير محدد. إن هذا كله يحوِّل الزمن والوحدة من معنيين مجردين هائمين فى سماء الذهن إلى شخصين نسمع وقع خطواتهما. فأيَّة روعة؟ وأىُّ إبداع؟

ومثل ذلك تشخيص البِلَى، فهو أيضا معنى مجرد لا يمكن أن نراه أو نسمعه فضلا عن أن تكون له يدان ينسج بهما خيوط العنكبوت وأمام أعيننا. إننا بطبيعة الحال نرى آثار البلى، لكن لا يمكن أن نرى البلى نفسه. وفوق هذا فإن تشخيصه ليس تشخيصا عاما بل تشخيصا محددا واقعيا، فها هو ذا أمامنا نراه بأم أعيننا وهو ينسج بيديه العنكبوت. ألا إنها لصورة مدهشة. ويزيدها إدهاشا وفتنة وسحرا أن البِلَى لا ينسج خيوط العنكبوت بل ينسج العنكبوت ذاته. فانظر إلى هذا المجاز الذى لم يقابلنى من قبل فيما أذكر أنى قرأت من شعر أو نثر. كذلك فانظر إلى ردة فعل الشاعر حين رأى البِلَى وهو ينسج بيديه العنكبوت. لقد صاح فزعا وألما وضراعة: يا ويحك! ما الذى جاء بك إلى هذا المكان الذى ينبض كل شىء فيه بالحياة؟ إن هذا المكان هو دار أحلامى وحبى التى كنت أطير فيها على أجنحة السعادة إلى آفاق السماوات العلا، وهو الكعبة التى كنا نطوف بها ونصلى عندها ونسجد إليها وعبدنا الحسن كله فى رحابها، فكيف جرؤت على أن تظهر هنا وترينا وجهك المفزع القبيح؟

وأحب أن أتريث بعض التريث إزاء قول الشاعر: "أبصرتُه رَأْىَ العِيَان". وفى القرآن: "يَرَوْنهم مِثْلَيْهم رَأْىَ العين"، لكن الشاعر قال: "أبصرتُ" عوضا عن "رَأَيتُ"، وقال: "العيان" بدلا من "العين". وقد عثرت فى الشعر العربى على "رأى العيان" وحدها، لكن بدون "أبصر"، وعند شعراء لا يبلغون عدد أصابع اليد الواحدة، ومن غير المشهورين هم الإمام الشوكانى وعبد الملك الجزيرى وعلى بن عطية علوان وعبد الله البيتوشى.
ومن هذه الصور العجيبة الشادهة أيضا فى القصيدة قول الشاعر إن دار حبيبته حين رأته لَقِيَتْه بوجه جامد الأسارير لا يَشِى بأى ترحيب أو فرحة، وكأن هذه أول مرة تراه فيها، بل وكأن منظره يبعث على التوجُّس، وذلك على العكس مما كانت تلقاه به من قبل، فقد كان إذا هَلَّ من بعيد ضحك له النور مرحبا متهللا جذلان بلُقْيَاه. والضحك الذى كان يستقبله به نور بيت الحبيبة من بعيد هو من الصور المدهشة النضيرة. على أن الدار لم تكن جامدة فحسب بل كانت طللا عابسا كما قال لها مستنكرا ومنكِرا. وقد كانت ثمرة هذا العبوس أنْ أطرق برأسه خزيان منكسرا انكسارا أنكره بدوره على نفسه. وهو ما يتضح فى قوله: أوهذا الخيال المطرق الرأس أنا؟ ثم يفيق إلى السبب الكامن وراء هذا التغيير، وهو أنه والدار قد قضيا ليالى كلها ضنك وعناء.
تحليل تركيب لغوى غريب فى القصيدة: وما أُحَيْلَى قولَه فى هذا السياق عن الدار وإنكارها له:
أنكرتْنا، وهى كانت إِنْ رأتْنا

يضحك النورُ إلينا من بعيدْ

فهو تركيب غريب بعض الشىء لكنى، رغم غرابته هذه أو بسبب هذه الغرابة، أجده نَدِيًّا على قلبى. إن التركيب المعتاد فى هذه الحالة هو أن نقول شيئا كهذا الذى سأقوله الآن أو يشبهه: "وهى كانت إن رأتنا يضحك نورها إلينا من بعيد". ذلك أن جملة الخبر لا بد أن تحتوى على ضمير أو ما يقوم مقامه يعود على المبتدإ، وكما نرى فالشاعر لم يفعل هذا، لكن وجود الضمير مفهوم من السياق، فضلا عن أنه موجود فى فعل الشرط: "رأتنا"، وفعل الشرط شيء غير الخبر، لكن يمكن القول إنه مرتبط بالخبر حتى لو لم يكن ارتباطه قويا مباشرا. وأحيانا ما تقابنا فى الشعر أشياء مثل هذه وأشدّ، لكن الموسيقى تغطى على ذلك النشوز فلا نلتفت إليه إلا مع التدقيق ومعاودة القراءة مرارا حتى إنى على طول تلك العقود التى تفصل بينى الآن وبين قراءتى لتلك القصيدة أول مرة لم أتنبه إلى هذه النكتة إلا منذ عدة ليال. ولقد أذكر قول الفرزدق فى قصيدته عن الذئب مخاطبا ذلك الحيوان المفترس:
وأنت امرؤ، يا ذئب، والغدرُ كنتما

أُخَيَّيْنِ كانا أُرْضِعا بلِبَانِ

فجملة "أنت امرؤ" جملة اسمية مستقلة، ومع هذا فقد عطف الفرزدق على مبتدئها كلمة "الغدر" رغم أن تلك الكلمة تنتمى إلى جملة أخرى لا يصح أن نعطف شيئا فيها على الجملة الأولى. ولقد ضحكت كثيرا وأنا أكتشف هذا التركيب الملتوى والجميل مع ذلك سنة 1982م، وقلت فى نفسى: منك لله يا فرزدق! إنه تركيب مثل وجهك الذى يشبه رغيف العيش المضطرب. لقد بلعناها لك مع الجرعة الموسيقية التى فى البيت فلم نتنبَّه لها بسهولة. ثم لقد اكتشفناها، فماذا بمستطاعنا أن نصنع؟ لا شيء سوى أن نسأل الله السلامة من لسانك. ألستَ القائل لمن سألك من النحاة: عَلَامَ رفعتَ اسما مجرورا؟ فقلتَ له مهددا متوعدا مكشرا عن أنيابك: على ما يسوؤك وينوؤك؟ اللهم الطف بنا مع الفرزدق! ثم ألستَ القائل أيضا لنفس العالم النحوى تواصل تهديده والزمجرة فى وجهه:
ولو كان عبد الله مَوْلًى هجوتُه

ولكنّ عبد الله مَوْلَى مَوَالِيَا؟

وثم صورة أخرى رائعة بارعة فى قصيدتنا هذه العجيبة هى قول شاعرنا: "أرسلتُ عينى تنظر". إن العالم طوع بنان ناجى. إنه يعيد تشكيله على نحو غير مألوف. ترى كيف يرسل الإنسان منا عينه تنظر؟ هل هى شخص يمكننا تكليفه بأن يترك مكانه ويذهب لينظر ويأتينا بالنبإ اليقين؟ اللهم إن هذا لهو السحر. ومثلها "وثب الدمع إلى عينى وغاما"، فالدمع لا يثب، ولكن هكذا شاء ناجى أن يثب الدمع، فوثب الدمع. ولا أذكر أنى قرأت هذا قبلا عند غير ناجى. ثم إن العين هى التى تغيم، ومرة أخرى أراد ناجى أن يغيم الدمع بدل العين، فغام الدمع بدلا من العين كما أراد.
ولكن فى المقطع الحالى كلمة لم أستطع أن أطمئن إلى فك معناها، وهى كلمة "بساطا" من قول الشاعر مخاطبا دار الحبيبة:
أين ناديكِ؟ وأين السُّمَّرُ؟

أين أهلوكِ بسَاطًا ونَدَامَى؟

ترى هل حسب ناجى أن "بساطا" جمع لـ"بسيط" بمعنى "منبسط" إلى من يسامره، فهو يتساءل: أين أهلوكِ حين كانوا منبسطى النفوس، متطلقى الألسن، يتنادمون ويقضون أوقاتا سعيدة ممتعة؟ لكن هذا المعنى لا تذكره المعاجم. ومع هذا فقد يصحّ ألا نخر على ما تقوله المعاجم صُمًّا وعُمْيًا وبُكْمًا فى كل الأحوال. لكن هل يصح أن تُجْمَع الصفة: "فعيل" على "فِعَال" إذا كانت بمعنى "مفعول" وليست صفة مشبهة؟ هذا هو مربط الفرس. إننا نقول: "كريم- كِرَام، عظيم- عِظَام، ثقيل- ثِقَال، خفيف- خِفَاف، بطين- بِطَان، خَمِيص- خِمَاص، بطىء- بِطَاء، سريع- سِرَاع، شديد- شِدَاد، مريض- مِرَاض، طويل- طِوَال، قصير- قِصَار، ضعيف- ضِعَاف، ظريف- ظِرَاف، رقيق- رِقَاق، غليظ- غِلَاظ، عريض- عِرَاض، سمين- سِمَان"، وهذه صفات مشبهة، لكننا لا نقول: "طعين- طِعَان، جريح- جِرَاح، قتيل- قِتَال، كسير- كِسَار، طريد- طِرَاد، سليق- سِلَاق، حميد- حِمَاد، قشيب- قِشَاب، ظنين- ظِنَان، دفين- دِفَان"، إذ "الطعين" هو المطعون، و"الجريح" هو المجروح، و"السليق" هو المسلوق... وهلم جرا.
ويسمى ناجى بيت الحبيبة بـ"الوَكْر"، والمقصود "وكر الطائر"، وليس الوكر الذى يرتبط فى أذهاننا الآن بالمجرمين الذين يختبئون بعيدا عن أنظار الشرطة وملاحقة القانون. وذلك الوكر كان يضم تحت جناحَىْ حنانه أليفين متحابين يقضيان أوقاتهما فى هناءة وابتهاج، ثم طارت الأليفة، فطارت البهجة معها، ولم يعد هناك معنى للحياة، التى يمكن القول بأن الشاعر قد رمز إليها بالسماء، واستحالت الأيام فى عين أليفها المهجور صُفْرًا كأوراق الخريف، وصارت تنوح كرياح الصحراء. وفى الخريف تصفرّ أوراق الأشجار وتسقط، والصحراء كلها تقريبا رمال صفراء قلما ينبت فيها شيء، وإن نبت فإنه لا يدوم إلا ريثما يجفّ، والصفرة لون يوحى بالمرض وبالموت، وفى الموت تنوح النائحات.

وفى نهاية القصيدة يناجى الشاعر ركنه الحانى ومغناه الشفيق، وهو بيت الحبيبة، الذى يصفه بأنه ظلال الخلد التى تقيه من هَجِير الحياة حين ابتعدت عنه أليفته فصار عانِيًا طَلِيحا، أى كسيرا مضعضعا، إذ طال الطريق عليه، طريق العناء والشقاء، فعاد إليه آملا فى أن يجد فيه الراحة، لكنه لم يجد سوى مزيد من العناء والتضعضع حيث لم ير هناك إلا الذكريات المؤلمة والوحشة القاتمة والحرمان الممض. لقد انتقلت الحبيبة منه، فهجرته السعادة والهناء. لقد جاء للنجوى، لكنها نجوى تفيض بالتعاسة، وأفرغ فى جوفه كأسا أرادها للسلو والنسيان، فكانت كأسا مرة أحرقت حلقه، فمضى وقد ازداد تعسا وشقاء.
الوقوف عند وصف الشاعر لدار حبيبته بـ"ركنى الحانى ومغناى الشفيق": وهنا أرى أن القلم قد اهتز قليلا فى يد شاعرنا حين وصف دار حبيبته بأنها ركنه الحانى ومغناه الشفيق وظلال الخلد للمتعب المحطم حيث ألقى على بابها جَعْبَته كغريبٍ عائد من وادى المِحَن ففارقته هنالك غربته، بينما الحقيقة أن كل شيء كان يُنْكِره ويَعْبس فى وجهه. حتى الذكريات الجميلة صارت عبئا ثقيلا باهظا، وبدلا من أن تخفف عنه غربته وآلامه ضاعفتها وزادته حسرة وتعاسة. أما "وادى المحن" فقد حاولت أن أعرف مصدرها فلم يتيسر لى ذلك، وإن كنت وجدت النص التالى فى كتاب ابن عذارى: "البيان المغرب فى أخبار الأندلس والمغرب": "ومن عجيب ما سمعناه عن مُنَاخ وادى شلف أن شيخا كبيرا من البربر حدَّثنا أنه يُعْرَف بـ"وادى المحن"، وأخذ يذكر لنا من هُزِم فيه ومن قُتِل فيه من ملوك زناتة... إلى أن قال: آخر من مات فيه زيرى بن عطية، وآخر من هُزِم فيه حماد، وبه قُتِل يوسف بن أبى حبوس...". ولكن هل يمكن أن يكون ناجى قد قرأ هذا الكتاب وأخذ منه هذا التعبير؟ أستبعد ذلك، إذ لا تَقَاطُع بين اهتماماته وبين مثل ذلك الكتاب وما يحتويه من موضوعات.
وأيا ما يكن الأمر فأغلب الظن أنه يقصد بـ"وادى المحن" حياته، فقد رأينا كيف لم تَدَعْ له الحياة منفذا لنسمة من الراحة، بَلْهَ السعادةَ. كما لا ينبغى أن يغيب عن بالنا أن الإنسان قد خُلِق فى كَبَد، وأن أبانا عندما أُمِرَ بالهبوط أُخْبِر أن البشر سيكون بعضهم لبعض أعداء. وبالمناسبة فقد تكررت كلمة "الوادى" فى شعر شاعرنا:
قد نأى عنى الذى يرحمُنى


والذى يفهمُ آلامى وروحى

والذى أعبدُ منه غُرَّةً

كَنَدَى الأزهار فى الوجهِ الصَّبِيحِ

والذى أشتَمُّ منه غاديًا

عَبِقَ الأنداءِ فى الوادى الصَّدُوحِ

* * *

يا من بواديه حططتُ الرحال

ورَحَّبَتْ بى وارفاتُ الظلالْ

* * *

عجبًا لقلبٍ هِيضَ منكَ جناحُهُ

وجرى به نصلُ الندامة يذبحُ

ومضى الحِمَامُ يدبُّ فيه، فإن جرت

ذكراك طار إليك وهو مجنَّحُ

لهفى على الناقوس بين جوانحي

وعلى بقية هيكلٍ لا تصلحُ

لا فرق بين أنينه ورنينه

وصداه فى وادى المنيَّة أوضحُ

عودة إلى نقد طه حسين لشعر ناجى: وعن بيت ناجى الذى يخاطب فيه منزل الحبيبة:
فيك كَفَّ الله عنى غربتى

ورسا رَحْلِى على أرض الوطنْ

يكتب د. طه حسين ما يلى: "وهو فى قصيدة أخرى يقول: "ورسا رحلى على أرض الوطن"، والرحل لا يرسو، وإنما يُحَطّ، وقد حطه الشاعر نفسه فى مكان آخر، إنما ترسو السفن. وأظن أنَّ الملاح التائه يعرف ذلك، وإنْ كانت سفينته لم تَرْسُ بعد". وليس هذا بنقد، وإلا كانت اللغة مجرد ألفاظ تُحْفَظ بمعانيها الأصلية عارية عن المجاز. وعلى هذا يمكن أن ينتقد المنتقدون استعمال الفعل: "أخذ" مثلا فى المعانى التالية، وكلها وردت فى القرآن الكريم وخرجت عن معناه الأصلى، وهو التناول باليد، فقال تعالى: "وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِى” (آل عمران/ 81)، أى قبلتم عهدى، وقال عز شأنه على لسان إخوة يوسف للعزيز: "فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ" (يوسف/ 78)، أى احبسه، وقال جل جلاله: "وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى" (هود/ 102)، أى عذبها. وهذا مجرد مثال مما أورده ووضحه ابن قتيبة فى كتابه: "تأويل مشكل القرآن". كذلك ما أكثر ما توصف الجبال والأدواح فى اللغة العربية بالرُّسُوّ فوق الأرض وفى باطن الأرض، والجبال والأدواح ليست سفنا، بل لا تغادر موضعها أصلا. و"الرُّسُوّ" هنا معناه الاستقرار والتمكن. بل إن الشرف كثيرا ما يوصف بالرسوّ، وهو ليس سفينة ولا جبلا ولا دوحة. وهذا كله مجاز، وبدون المجاز تصبح اللغة قرعاء. وفى كتاب "الحيوان" للجاحظ يقول الشاعر:
تركوا جارهم يأكله

ضبع الوادى، ويرميه الشّجرْ

مستعملا "الأكل" للضبع، والضبع إنما يفترس، وهو ما يمكن أن يثير اعتراضا على البيت بتجاهل ما هو معروف من أن "الأكل" أعمّ، فيدخل فيه "الافتراس" دون مشاكل.
صور قصيدة "العودة" فى رأى د. مندور: وفى موضوع الصور فى قصيدة ناجى يقول د. محمد مندور فى فصل "الشعر والوجدان الفردى" من كتاب "فن الشعر": "وفى الحق إن أروع تجديد نلمحه فى شعرنا المعاصر ويميزه عن شعرنا التقليدى إنما هو المنهج الرمزى فى التعبير، أى تفضيل الصورة دائمًا على التعبير المباشر والقصد إلى الإيحاء أكثر من القصد إلى الإبانة والإفصاح. وفى هذا يفترق التعبير الرمزى افتراقًا دقيقًا عن التعبير الكلاسيكى، الذى كان يكره الغموض والإبهام، ويرى أن كل ما يدرَك بوضوح يسهل التعبير عنه بوضوح. ومن المؤكد أن الرمزية السليمة لا يرجع ما فيها من إبهام إلى غموض فى الإدراك أو فى الرؤية الشعرية، وإنما يرجع إلى فلسفتها الشعرية التى ترى أن وظيفة الشعر هى الإيحاء بحالات نفسية مركَّبة لا يسهل دائمًا تحليلها إلى عناصرها الأولية. بل إننا حتى لو نجحنا فى هذا التحليل لن نستطيع بفضله نقل العدوى بتلك الحالة النفسية المركَّبة من نفسنا إلى نفوس الآخرين. وذلك لأن كل مركَّب توجد فيه خصائص ناتجة عن التركيب نفسه وليست موجودة فى العناصر المكوِّنة لهذا المركَّب. وفى مثل هذه الحالات لا يكون أمام الشاعر وسيلةٌ ناجحةٌ غير وسيلة الإيحاء عن طريق الصورة والرمز. ومن المؤكد أن الذى يطربنا ويُشجينا ويهزُّ وجداننا فى قصيدة مثل قصيدة "العودة" لشاعرنا الكبير المرحوم الدكتور إبراهيم ناجى إنما هو الإيحاء القوى عن طريق الرمز والتصوير البيانى...
وبالرغم من روعة هذا المذهب فى طرائق التعبير الشعرى فإنه لم يرُقْ بالبداهة لأنصار الشعر التقليدى فى أدبنا المعاصر على نحو ما رأيناه لا يروق لأنصار المذهب الكلاسيكى فى الغرب. فمنذ عهدٍ قريب كتب الشاعر عزيز أباظة مقدمة لديوان "أصداء الحرية" للأستاذ عبد الله شمس الدين امتدح فيها الصياغة التقليدية لتلك الأصداء، وانتقد فى عنفٍ التعبيرات الجديدة فى شعرنا المعاصر، وضرب لها الأمثال فى قولهم: "الأنين المشنوق"، و"الحزن الراقص"، و"الصمت المُقْمِر"، و"الشمس المعربدة"، و"اللانهائية الخرساء" دون أن يبيّن أساس نقده، مع العلم بأنه إذا كان هذا النقد مبنيًّا على أساس فلسفة الشعر فإنه مردود بما أوضحناه من أن الشاعر قد يجد فى نفسه حالاتٍ نفسيةً عميقة مركبة لا سبيل إلى التعبير عنها غير سبيل الرمز والإيحاء. وأما إذا كان النقد مستندًا إلى أساسٍ لغوى فإننا نراه أيضًا مردودًا لأن الرمزية فى التشبيهات والمجازات والاستعارات لا تعتبر خرقًا لأصول اللغة، بل ولا لعلم البيان العربى التقليدى ذاته. وذلك لأنها تقوم فى الرمزية على علاقة بين المشبه والمشبه به، ولكن العلاقة هنا لم تَعُدْ فى الشكل الخارجى بل فى الوقع النفسى لِطَرَفَى التشبيه حتى ولو كان هذان الطرفان ينتميان إلى مجالَيْن مختلفَيْن من مجالات الحواس كأن يكون أحدهما من مجال المرئيات، والآخر من مجال المسموعات أو من مجال المشموم ما دام كلٌّ منهما ينتمى إلى صفحة النفس ويؤثر فيها تأثيرًا متشابهًا هو أساس المجاز. فالسكون مثلًا من مجال السمع، وأشعة الشمس من مجال البصر، ولكن السكون قد يثير اطمئنانًا وبهجة فى النفس يشبهان ما يثيره فيها ضوء الشمس، وعندئذٍ يحقُّ للشاعر أن يصف هذا السكون بأنه مشمس بجامِع وحدة الوقع النفسى دون أن يكون فى عمله هذا خروج على أصول اللغة أو أصول البيان. وإذن فالرمزية من الناحية اللغوية إنما تستند إلى أصلٍ ثابت فى لغتنا وفى لغات العالم جميعها، بل إلى الأصل الذى أَثْرَتْ بفضله جميعُ اللغات واكتسبت وسائل جديدة للتعبير بدل الاكتفاء بالوسائل القديمة البالية.
وأَصْدَقُ مِنْ نقد الشاعر عزيز أباظة وأدقّ حسًّا وأكثر اعتدالًا ذلك النقد الذى وجَّهه الرائد عبد الرحمن شكرى إلى الرمزية فى إحدى مقالاته بمجلة "أبولو" عندما رأى شعراء تلك الجماعة يُسْرِفون أحيانًا فى الصور الرمزية على نحوٍ يصيب تلك الصور بالتناقض حينًا، وبالتزاحم حينًا آخر مما يضرُّ بالرؤية الشعرية على نحو ما يسيء النبات بعضه إلى بعض إذا ازدحم فى بقعة محدودة من الأرض.
وثَمَّةَ نقدٌ آخر يُوجِّهه معظم النقاد العالميين أحيانًا إلى الرمزية، وهو الغموض المسرف الذى يستحيل معه الرمز إلى لغز، وإن كان مثل هذا النقد يخضع للنسبية إلى حد بعيد. فنحن قد نحسُّ بالغموض الكثيف مثلًا فى عدد من قصائد مالارميه وتلميذه الكبير بول فاليرى، ولكننا نرى النقاد يختلفون أحيانًا كثيرة اختلافًا بَيِّنًا حول بعض القصائد لهذين الشاعرين الكبيرين. ونستطيع أن نضرب مثلًا لذلك بقصيدة شهيرة لمالارميه عنوانها "البعث" حيث يقول:

لقد طرد الربيعُ الشاحبُ فى حزنٍ
الشتاءَ الضاحى،
وفى جسمى الذى يسيطر عليه الدم القاتم
يتمطَّى العجزُ فى تثاؤب طويل.
* * *
إن شفقًا أبيضَ يبرد تحت جمجمتى،
التى تعصبها حلقة من حديد وكأنها قبرٌ قديم،
وأهيم حزينًا خلف حلمٍ غامضٍ جميل،
خلال الحقول التى يزدهر فيها عصير لا نهاية له،

ثم أخرّ منهوك العصب بعطر الأشجار،
وأحفر برأسى قبرًا لحلمى،
وأعضُّ الأرض الساخنة التى تنبت النرجس
* * *
وأغوص منتظرًا أن ينهض عنى الملل،
ومع ذلك فزرقة السماء تبتسم فوق سياج الشجر المستيقظ
حيث ترفرف العصافير كالزهر فى ضوء الشمس.
ففى هذه القصيدة يرى بعض النقاد أن الشاعر قد بلغ فى رمزيته حد الغموض الكثيف الذى استحال فيه الرمز لغزًا، وبعدت المسافة على الإيحاء القريب المدخل، وذلك بينما يرى نقادٌ آخرون أن القصيدة لا غموض فيها بالرغم مما يبدو من أنه يعكس فيها الأوضاع ويقلب المواضعات، إذ بطول التأمل فيها لا نلبث أن نحسَّ بأن الشاعر قد نجح نجاحًا رائعًا فى خلق ذلك الجو النفسى الذى يَشِيع فى روحه ويود أن ينقله إلينا أو يوحى به، وهو جو الملل المتجانس مع جو الشتاء حتى ليلوح له ذلك الشتاء ضاحيًا، بينما يتمطى العجز بجسمه ويحفر برأسه قبرًا لأحلامه، ويعضُّ الأرض الساخنة التى تنبت النرجس. وعلى الرغم من كل ذلك لا يفقد الشاعر أمله، فزرقة السماء تعود إلى الابتسام، والعصافير ترفرف فى ضوء الشمس. ولعله الربيع الناهض، ولعلها القدرة تثب مكان العجز المتمطى".
والواقع أن قصيدة ناجى تخلو من الاتجاه الذى يصفه د. مندور، وهو اتجاه تبادل الحواس، بل نلمح فيها تشخيص المعانى المجردة تشخيصا بديعا يكسوها بالحياة والحركة والحيوية فتستحيل العلاقات بين عناصر الوجود شيئا آخر غير ما نعرفها، ويبدو لنا الكون على نحوٍ غَضٍّ طريف: غض طريف من الناحية الفنية حتى وإن كانت الصور التى يرسمها لنا الشاعر على هذا النحو صورا صُفْرًا موحشة يسربلها الموت والعدم حسبما رأينا فى القصيدة. وأما أن الاستعانة فى التعبير عن الفكرة بالصورة هى شيء جديد على شعرنا مثلما يوحى به كلام د. مندور فهذا غير صحيح، إذ التعبير بالصورة منتشر فى كثير من أشعارنا القديمة منذ العصر الجاهلى.
تبادل الحواس فى نقدنا القديم: بل إن تبادل الحواس تعرفه تلك الأشعار، ونظَّر له بعض نقادنا القدامى. ومن الدراسات الحديثة التى تناولت موضوع تبادل الحواس فى شعرنا القديم بحث بالإنجليزية عنوانه "Synaesthesia in Arabic Poetry in The Pre-Islamic and Umayyad Periods" لدارسَيْن أردنيَّيْن هما د. نظمى الشلبى ود. محمود الحلحولى، وبحث آخر لباحثة أردنية أيضا هى غادة خالد أبو رمان عنوانه "تراسل الحواس فى شعر العميان فى العصر العباسى- بشار بن برد أنموذجا". وكنت قد عثرت وأنا أؤلف كتابى عن بشار على بعض أبيات له تقوم الصورة فيها على تبادل الحواس على نحو واضح. ولابن الصيرفى كتاب بعنوان "الأفضليات" يضم فصلا سماه: "تناوب الأعضاء"، وهو هو نفسه "تبادل الحواس"، استشهد فيه بأبيات تقوم الصور فيها على هذا التبادل أو التراسل أو التناوب بين الأعضاء أو الحواسّ، ومنها قول المتنبى:
وجَحْفَلٍ سَتَرَ العيونَ غبارُه

فكأنما يُبْصِرْن بالآذان

وحكى ابن الصيرفى عن نفسه أنه كان يوما مع صديق له يسيران فى الطريق، فقابلا ضريرا، فلما سمع وقع حوافر الدواب توقف وأخذ يتسمع ويتجسس بأذنه، فقال ابن الصيرفى للصديق: انظر كيف يتبصَّر هذا الضرير بسمعه. وأعرف من طلابى شابا كفيفا ذكيا كان يشرح لى كيف يعتمد على أذنيه فى إدراك ما يراه المبصرون بعيونهم. وكنت أراه، وهو جالس بجوارى فى مكتبى بالجامعة، لا يكف عن تَقَرِّى المكتب وما وُضِع فوقه من كتب وأوراق وأدوات وأكواب، ثم يفتح أدراجه ويتلمس ما فيها، كل ذلك كى يدرك ما ندركه نحن المبصرين بلمحة من أعيننا. وكنت كثيرا ما أسأله عن عالمه الإدراكى وكيف يستعيض بحواسه الأخرى عما نشاهده بعيوننا. وقد استفدت منه استفادات كثيرة عن عالم المكفوفين.
ومن "تداول الأعضاء" فى اصطلاح ابن الصيرفى أو "تبادل الحواس" فى الاصطلاح الحديث" قول ابن الفارض محولا الروائح التى تُشَمّ بالأنف إلى أحاديثَ تُسْمُع بالأذن:
أرَجُ النّسيمِ سَرَى مِنَ الزَّوراءِ

سَحَرًا فَأَحيا مَيِّتَ الأَحيَاءِ

أَهدى لَنا أَرواحَ نَجدٍ عَرْفُهُ

فَالجَوُّ مِنْهُ مُعَنْبَرُ الأَرجاءِ

وَرَوَى أحاديثَ الأَحبَّةِ مُسْنِدًا


عن إِذخِرٍ بأذاخِرٍ وَسخاءِ

وقول ابن المعتز: "ترفو الظلالَ بأغصانٍ مهدَّلةٍ"، وقول ابن زيدون فى حبيبته: "وألفاظه فى النطق كاللؤلؤ النثرِ"، وقول ابن عمران الكفيف: "سقاكَ بلَحْظ مقلته مُدَاما"، وقول ابن معصوم فى "سُلافة العصر فى محاسن الشعراء بكل مصر" واصفا كتاب الشهاب الخفاجى: "ريحانة الأَلِبَّا وزهرة الحياة الدنيا": "فلله كتابُه من ريحانةٍ تنفستْ فى ليلها البارد، وعطَّرت معاطسَ الأسماع بطيب نشرها الوارد"، إذ جعل الأسماع تشم، بل جعل لها معاطس، أى أنوفا...
وأما أن النص الذى أورده د. مندور لمالارميه يخلو من الغموض فنحن لا نرافئه على هذا الحكم، ونرى أن فى ذلك الشعر تكلفا قد يعجب بعض شُدَاة الشعر لما فيه من شذوذ فى التعبير والتصوير ظنا منهم لقلة خبرتهم أنه كلما كان الشعر غامضا مستغلقا كان دليلا على العمق والسبق الذى لا يدركه كل أحد، لكنه لا يعجبنا رغم تفتحنا لكل ما هو طريف وجديد نافع لا يراد به مجرد الفرقعة لفتا للأنظار وإشباعا لنزعة النرجسية لدى بعض الأدباء. وبالمناسبة ففى شعر عدد من شعرائنا القدامى غموض لكنه ليس بهذه الكثافة الغليظة المزعجة ولا يتخذه أصحابه أسلوبا يجرون عليه فى كل أشعارهم ولا فى معظمها ولا يستغرق جانبا كبيرا من إبداعهم، بل وربما لم يقصدوه قصدا.

وبالمناسبة أيضا فإن كثيرا مما يأتينا عن النقد الغربى موجود فى نقدنا القديم: وفى كتابى: "فى الأدب المقارن- مباحث واجتهادات" طائفة كافية من النصوص ترينا أن أسلافنا قد مارسوا الأدب المقارن، وإن لم يُسَمُّوه بهذا الاسم بل كانوا يزاولونه سليقةً دون التفات إلى أنهم يصنعون شيئًا إِدًّا، فضلا عن عدم اهتمامهم بصَكّ المصطلحات. وبالمثل يجد القراء فى كتابى: "النقد الثقافى فى كتابات نقادنا القدماء مع دراسة خاصة عن نسق الفحل عند د. الغذامى" عشرات الشواهد على أن قدماءنا كانوا يتنفسون النقد الثقافى تنفسا دون أن يُحْدِثوا ضجة كالتى يبرع فى إحداثها نقاد الغرب أو يبدئوا ويعيدوا فى الحديث عن وجوب الاهتمام بالمهمَّشين والكتابات الخارجة والمتمردة وإبداعات الأقليات وكتابات النساء والأنساق الثقافية. كما بينت فى أكثر من موضع من كتابى: "مناهج النقد العربى الحديث" أن أسلافنا كانوا يدركون أن إبداعات المبدعين لا يمكن أن تقوم بغير اطِّلاعهم على إبداعات السابقين والمعاصرين مما يسمى اليوم بـ"التناصّ"... إلخ. بل إن شعرنا القديم ليزخر بنصوص كثيرة متباينة الاتجاه والطعم مما يشبه بعضُه شعرَ الكلاسيكيين، وبعضُه شعرَ الرومانسيين، وبعضه شعرَ البرناسيين، وبعضه شعر الرمزيين، وبعضه شعر الواقعيين، وكل ذلك على نحو تلقائى دون تصايح أو حرص على صوغ المصطلحات أو الزعم بأن هذا اللون أو ذاك من الشعر هو الشعر الحقيقى، وما عداه لا يصلح، بل كانت كل الاتجاهات الإبداعية تتعايش فى سماحة وسعة أفق.
بين قصيدة "العودة" والوقوف على الأطلال فى شعرنا القديم: هذا، ومعروف أن موضوع العودة إلى ديار الحبيبة بعد مغادرتها إياها مع أهلها موضوع قديم تبتدئ به كثير من قصائدنا التراثية، ويرى النقاد أن قصيدتنا هذه امتداد لوقوف الشاعر القديم على الأطلال. بيد أنه لا بد من مراعاة بعض الفوارق الفاصلة بين الأمرين: فالوقوف على الأطلال قديما لم يكن يمثل موضوعا مستقلا بذاته، بل كانت تبتدئ به بعض القصائد ويفرغ الشاعر منه فى أبيات قلائل، وسرعان ما يركب ناقته منطلقا بها فى عُرْض الصحراء كى يخفف من وقع الأحزان التى تَؤُودُه وهو واقف أمام تلك الأطلال. وفى هذه الأبيات القلائل لا يسترجع الشاعر من الماضى عادة سوى منظر الوداع: وداع الحبيبة وهى تفارق المكان مع قبيلتها إلى مكان جديد. وقد يتتبع الظعائن فوق ظهور الإبل وهن يمضين بعيدا مع قبيلتهن إلى حيث الماء والمرعى الجديدان كما فى معلقة زهير مثلا. أما هنا فليس سوى موضوع العودة الذى لا ينتهى منه الشاعر فى عدة أبيات بل يستغرق قصيدة كاملة.

كذلك فالمنزل فى الشعر القديم هو المكان الذى كانت تقيم فيه القبيلة خيامها ثم قوضتها وانطلقت فى الصحراء تبحث لها عن مَرْعًى وماءٍ جديدين بدلا من المرعى والماء اللذين نضبا. أما المنزل فى قصيدتنا فهو منزل حجرى كانت تسكنه الحبيبة مع أسرتها، ثم لسبب لم يذكره الشاعر تركتْه وذهبتْ لا ندرى أين. وهذا المنزل لا يمكن تقويضه كالخيمة بل يبقى فى موضعه لعقودٍ طِوَال. فها هنا إذن منزل قائم، لكن بدون سكان ينشرون فيه الأنس، وقد خيم عليه العنكبوت. فليس ها هنا من ثم أطلال كما فى الشعر القديم، وإن كان الشاعر قد استخدم للمنزل مرة، مستغربا استقباله الجامد غير المرحِّب، عبارة "الطلل العابس" على سبيل المجاز طبعا مثلما استخدم لنفسه على سبيل المجاز أيضا كلمة "الخيال" لا الشخص ولا الإنسان.

وبالمناسبة فالأطلال والرسوم فى شعرنا القديم هى مجرد آثار تافهة بل مضحكة تركتها قبيلة الحبيبة وراءها فى المكان ومضت، لكنها عند الشاعر العاشق أشياء غالية تهز كيانه هزا، ومنها مثلا دائرة محفورة فى الأرض كانت تحيط بالخيمة حتى إذا نزل المطر أخذته بعيدا فلم يتسرب إليها ويفسد أمر قاطنيها. وهذه الدائرة المحفورة تسمى: "النُّؤْى". ومنها أيضا بَعْر النوق والمَعْز التى تملكها القبيلة واستاقتها معها وبقيت فضلاتها، تلك الآثار التى تبعث على الاشمئزاز، لكن الشاعر يحولها إلى عنصر فنى جذاب فى لوحته الوصفية للمكان المهجور. ومنها بعض قطع الحبال الذائبة التى لم تعد ذات نفع والتى كانت تُرْبَط بها الجمال مثلا. أما هنا فمنزل كامل لم يتغير منه شيء سوى أنه لم يعد مقطونا بل سيطرت عليه الوحشة ونسج عليه العنكبوت خيوطه. وإذا كانت الأطلال فى القديم مسرحا للغزلان والظباء مثلا يذهبن ويجئن فيها فإن الغزلان والظباء لا مكان لها فى مدننا، علاوة على أن المنزل كان لا يزال قائما. وحتى لو انهدم المنزل فلن تُرَى فيه غزلان ولا ظباء بل حجارة وأنقاض وأكوام قُمَامَة وقطط وكلاب وثعابين، وبنات عرس كذلك.

ومن الفروق أيضا أن الشاعر فى موضوع الوقوف على الأطلال كثيرا ما يستوقف صاحبه أو صاحبيه أو أصحابه الذين يرافقونه فى سفره ويمرون معه بموضع ديار الحبيبة التى خلت منها ومن قبيلتها، سائلا إياهم أن يساعدوه ويبكوا معه حتى يخففوا عنه لوعة الآلام بمشاركتهم الوجدانية له. أما هنا فليس سوى الشاعر وحده دون صاحب أو رفيق. كذلك كان مرور الشاعر القديم بأطلال حبيبته يتم مصادفة، أو هكذا تبدو الأمور، أما هنا فقد ذهب الشاعر قاصدا عامدا إلى بيت حبيبته التى كانت تسكنه مع أسرتها ظنا منه أن مشاهدته لبيتها السابق واسترجاعه لذكرياته معها من شأنه أن يُرَوِّح على قلبه، وإذا به يفاجأ بنيران لوعة الحب القديم لا تزال متأججة فى عنفوان.