كلمة فى تفسير سورة القدر

إبراهيم عوض

(مهداة إلى الصديق أ. محمد عوض الشرعة)

================


اسم هذه السورة "القَدْر"، أى المكانة العالية العظيمة والشرف الباذخ الرفيع. وحق لها أن تكون كذلك، إذ هى تتحدث عن ليلة القدر، تلك الليلة التى نزل فيها القرآن أول ما نزل على سيد البشر صلى الله عليه وسلم، وهى ليلة لها ما بعدها، فقد كانت بداية لتغيير مسار التاريخ والحضارة فى المنطقة وفى الشرق ثم فى العالم كله. لقد كان العرب قوما وثنيين، وكانوا يأكلون الميتة ويشربون الخمر ويلعبون القمار ويأكلون الربا أضعافا مضاعفة ولا يهتمون بأمور النظافة، وكانوا يقسون على النساء واليتامى والمساكين، وكانوا أميين لا يقرأون ولا يكتبون إلا فى النادر، وكان حياتهم صراعا شرسا على لقمة العيش متمثلة فى المرعى وبئر الماء، وما كان أقل هذا وذاك، فكانت المعارك تشتعل بينهم لأتفه سبب ويسقط منهم قتلى كثيرون، وتستمر أزمانا طوالا جراء عادة الأخذ بالثأر، وكانت أوقاتهم كثيرا ما تضيع فى التفاخر السمج بالآباء والأجداد. فلما نزل القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم كان هذا إيذانا بفجر حضارى جديد، وسرعان ما نهض العرب من رقدة البلادة ونفضوا عن أعينهم وعن أنفسهم خُمَار النوم واطَّرحوا التثاؤب واستحالوا ناسا غير الناس حتى إنهم فى ظرف زمن جد ضئيل بمقياس التاريخ العالمى صاروا سادة بعد أن لم تكن لهم قيمة تذكر. وكل هذا بسبب القرآن الكريم، الذى كان نزول أول وحى منه فى تلك الليلة المباركة.

وها هو ذا تفصيل ما حدث فى تلك الليلة المباركة، ففى "صحيح البخاري": "كانَ أوَّلَ ما بُدِئَ به رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ فى النَّوْمِ، فَكانَ لا يَرَى رُؤْيَا إلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ، ثُمَّ حُبِّبَ إلَيْهِ الخَلَاءُ، فَكانَ يَلْحَقُ بغَارِ حِرَاءٍ فَيَتَحَنَّثُ فيه (قالَ: والتَّحَنُّثُ التَّعَبُّدُ) اللَّيَالِى ذَوَاتِ العَدَدِ قَبْلَ أنْ يَرْجِعَ إلى أهْلِهِ ويَتَزَوَّدُ لذلكَ، ثُمَّ يَرْجِعُ إلى خَدِيجَةَ فَيَتَزَوَّدُ بمِثْلِهَا حتَّى فَجِئَهُ الحَقُّ، وهو فى غَارِ حِرَاءٍ، فَجَاءَهُ المَلَكُ، فَقالَ: اقْرَأْ. فَقالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: ما أنَا بقَارِئٍ. قالَ: فأخَذَنِى فَغَطَّنِى حتَّى بَلَغَ مِنِّى الجُهْدَ، ثُمَّ أرْسَلَنِي. فَقالَ: اقْرَأْ. قُلتُ: ما أنَا بقَارِئٍ. فأخَذَنِى فَغَطَّنِى الثَّانِيَةَ حتَّى بَلَغَ مِنِّى الجُهْدَ، ثُمَّ أرْسَلَنِى فَقالَ: اقْرَأْ. قُلتُ: ما أنَا بقَارِئٍ. فأخَذَنِى فَغَطَّنِى الثَّالِثَةَ حتَّى بَلَغَ مِنِّى الجُهْدَ ثُمَّ أرْسَلَنِي. فَقالَ: "اقْرَأْ باسْمِ رَبِّكَ الذى خَلَقَ، خَلَقَ الإنْسَانَ مِن عَلَقٍ، اقْرَأْ ورَبُّكَ الأكْرَمُ الذى عَلَّمَ بالقَلَمِ"... الآيَاتِ إلى قَوْلِهِ: "عَلَّمَ الإنْسَانَ ما لَمْ يَعْلَمْ"، فَرَجَعَ بهَا رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ تَرْجُفُ بَوَادِرُهُ، حتَّى دَخَلَ علَى خَدِيجَةَ، فَقالَ: زَمِّلُونِى زَمِّلُونِي. فَزَمَّلُوهُ حتَّى ذَهَبَ عنْه الرَّوْعُ. قالَ لِخَدِيجَةَ: أى خَدِيجَةُ، ما لي؟ لقَدْ خَشِيتُ علَى نَفْسِي. فأخْبَرَهَا الخَبَرَ. قالَتْ خَدِيجَةُ: كَلَّا. أبْشِرْ، فَوَاللَّهِ لا يُخْزِيكَ اللَّهُ أبَدًا. فَوَاللَّهِ إنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وتَصْدُقُ الحَدِيثَ، وتَحْمِلُ الكَلَّ، وتُكْسِبُ المَعْدُومَ، وتَقْرِى الضَّيْفَ، وتُعِينُ علَى نَوَائِبِ الحَقِّ. فَانْطَلَقَتْ به خَدِيجَةُ حتَّى أتَتْ به ورَقَةَ بنَ نَوْفَلٍ، وهو ابنُ عَمِّ خَدِيجَةَ أخِى أبِيهَا، وكانَ امْرَأً تَنَصَّرَ فى الجَاهِلِيَّةِ، وكانَ يَكْتُبُ الكِتَابَ العَرَبِيَّ، ويَكْتُبُ مِنَ الإنْجِيلِ بالعَرَبِيَّةِ ما شَاءَ اللَّهُ أنْ يَكْتُبَ، وكانَ شيخًا كَبِيرًا قدْ عَمِيَ، فَقالَتْ خَدِيجَةُ: يا ابْنَ عَمِّ، اسْمَعْ مِنَ ابْنِ أخِيكَ. قالَ ورَقَةُ: يا ابْنَ أخِي، مَاذَا تَرَي؟ فأخْبَرَهُ النبى صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ خَبَرَ ما رَأَي، فَقالَ ورَقَةُ: هذا النَّامُوسُ الذى أُنْزِلَ علَى مُوسَي. لَيْتَنِى فِيهَا جَذَعًا. لَيْتَنِى أكُونُ حَيًّا. قالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: أوَمُخْرِجِى هُمْ؟ قالَ ورَقَةُ: نَعَمْ. لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ بما جِئْتَ به إلَّا أُوذِيَ. وإنْ يُدْرِكْنِى يَوْمُكَ حَيًّا أنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا. ثُمَّ لَمْ يَنْشَبْ ورَقَةُ أنْ تُوُفِّيَ، وفَتَرَ الوَحْى فَتْرَةً حتَّى حَزِنَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ".
ومن هذه القصة نرى أن الرسول عليه السلام كان فى البداية يخشى أن يكون قد مسه ضر ولم يتصور قط أن ما رآه كان ملاكا نزل من السماء للأرض بأول قرآن، وأنه قد اختير نبيا رسولا لتبليغ الدين الجديد الذى كان هذا النص هو أول نصوص كتابه المجيد. ولهذا كان صلى الله عليه وسلم فزعا، وترك الغار والعزلة التى كان فيها وانطلق عائدا إلى بيته وزوجته الحنون، وهو يشعر بالبرد ويفتقد الأمان، وسرت فى أوصاله رعدة. ترى لو كان هو مزيف القرآن أكان يشعر بالخوف، والخوف الشديد؟ هل يشعر الإنسان بالخوف من نفسه؟ وحين توقف الوحى لبعض الوقت ما باله أحس بالحزن؟ أكان صعبا عليه أن يستمر فى اختراع نصوص أخرى من القرآن الذى يصنعه بنفسه صنعا؟ بل لو كان محمد صلى الله عليه وسلم مدلسا لقد كان ينبغى أن يزعم أن الله لا الملاك قد ظهر له وأنه لاطفه وأثنى عليه وأعجب به ووعده الوعود البراقة. ولو كان محمد صلى الله عليه وسلم كاذبا لقد كان أحرى به ألا يثقل على الناس بمطالبتهم بالرقى فى سلوكهم وأخلاقهم وعقيدتهم، وما عَنَّى نفسه بالدخول فى صدام معهم كان يعرف منذ اللحظة الأولى أنه صدام عبثى لا طائل من ورائه، ومن ثم كان من شأنه أن يأخذهم بالرفق ويتقرب إليهم فيما يعرضه عليهم من دين جديد، فالمهم هو أن ينال مبتغاه من الرئاسة والمال والسمعة المدوية وحسب، إذ الكذابون لا يبتغون من الدنيا سوى هذا، وليذهب كل شيء بعد ذلك إلى حيث ألقتْ. ثم لماذا يفعل ذلك أصلا وهو المعروف بين قومه جميعا بأنه الصادق الأمين، فلم يجربوا عليه كذبا قط ولا خيانة ولا وضاعة بل رقيا فى السلوك والخلق ونبلا وإنسانية عالية، فضلا عن رجاحة العقل وحكمة التصرفات والمواقف؟
هذه هى قراءة المشهد قراءة منطقية علمية، لكن كاتبا يهوديا من كييف من مواليد أوائل القرن العشرين اسمه محمد أسد بك (Essad Bey، واسمه الحقيقى لف نوسيمباوم: Lev Nussimbaum) تظاهر باعتناق الإسلام، وهو غير محمد أسد الآخر (ليوبولد فايس)، وأصدر سنة 1932م سيرة للنبى عليه السلام مملوءة بالكذب والبهتان وألوان التشويه لشخصيته صلى الله عليه وسلم ولتاريخه المجيد النبيل. وقد اطلعتُ عليها مترجمة إلى الفرنسية فألفيته قد صور فيها الرسول عليه السلام، ضمن أشياء أخرى مسيئة كثيرة، فى فترة التحنث وقد وصل به الحال أن أخذ يذرع الوديان ويصعّد فى الجبال فى ثياب رثة وشعر أشعث وخطوات مضطربة، وعند سماعه أصوات الصخور وصراخها قرب غار حراء (الذى نقله الكذاب المدلس من مكة إلى الطائف) يسقط متشنجا وقد تجمَّع الزَّبَدُ على شفتيه، وطفت من أعماق وعيه الذكريات القديمة بما فيها من رهبان بيض وأحاديث سمعها من الصابئين. ثم يتجاوز حدود الاحترام واللياقة حين يفترى على خديجة رضى الله عنها، فينسب إليها كذبا وزورا أنها، لكى تتأكد من أن الذى رآه النبى عند الغار ملاك، قد نَضَتْ عنها ملابسها وتعرت تماما والتصقت به فى هيام.
إن ما زعمه الكاتب المدلس من أنه صلى الله عليه وسلم قد وصل به الحال فى الفترة السابقة على البعثة أن أخذ يذرع الوديان ويصعّد فى الجبال فى ثياب رثة وشعر أشعث وخطوات مضطربة بعدما كان يعيش فى جو أرستقراطى وملابس حريرية أنيقة كما يقول، وأنه حين سمع أصوات الصخور وصراخها عند غار حراء سقط متشنجا وقد تجمع الزَّبَد على شفتيه، ليس إلا من بُنَيات الأوهام والخيالات الإبليسية، إذ لم يرِدْ شيء من ذلك فى أى من المصادر التى تحدثت عن الرسول. ولا يصح أن يصاغ التاريخ أبدا من لَبِنات الأوهام والخيالات الإبليسية بل من لبنات الواقع الصُّلْبة التى نقلها إلينا من شاهدوها واستوثقنا من شهودهم إياها وصدقهم فى روايتها.
ومن الواضح أن الكاتب الكذاب يرمى إلى اتهام الرسول عليه الصلاة والسلام بأنه قد خُولِطَ فى عقله، إذ لا يفعل هذا الذى زعم أنه عليه السلام كان يفعله إلا شخص مضطرب العقل والنفس قد وقع فريسة للهلاوس والجنون، وإلا فما معنى أنه صلى الله عليه وسلم كان يسمع صراخ الصخور؟ ثم ماذا يقصد الكاتب من أنه عليه الصلاة والسلام قد سقط متشنجا وقد تجمع الزبد على شفتيه سوى القول بأنه كان مصابا بالصَّرْع، تلك التهمة القديمة التى ترجع إلى أيام الرومان والتى ما زال أوغاد المستشرقين يرددونها رغم ما هو معروف لكل من كلف نفسه استفتاء كتب الطب وعلم النفس من أن مظاهر الوحى لا وشيجةَ البَتَّةَ بينها وبين أعراض الصَّرْع من قريب أو من بعيد؟
ونسأل: كيف يا ترى من الممكن أن يصاب الرسول بالتشنج آنذاك وتُزْبِد شفتاه؟ لقد كان الرسول يعيش بمفرده فى الغار. ومعنى هذا أن أحدا لم يشاهده عندما حدث له ذلك. وهو نفسه لم يكن ليستطيع أن يعرف ماذا حدث له لأنه كان فاقد الوعي. ثم أليس عجيبا أن يقع له ذلك دون أن يصيب نفسه بضررٍ جَرَّاءَ سقوطه على الأرض شأن المصروعين واصطدامِ رأسه بالصخور مثلا أو عَضِّهِ لسانَه أو ما إلى هذا؟ ترى كيف يتناول ذلك المستشرق هذه القضية الخطيرة بكل ذلك الاستخفاف؟
وأما حديثه عن الرهبان البيض والأحاديث التى سمعها فى الماضى من الصابئة فالمقصود من ورائه أنه عليه السلام قابل هؤلاء وهؤلاء فى شبابه وسمع منهم واقتبس دينه مما علموه إياه. وهو اتهام تافه، فلو كان هذا صحيحا فلماذا لم ينبر واحد من هؤلاء الرهبان أو الصابئين ويقول، ويريحنا ويريح العالم كله معنا، إننا نحن الذين علمناه وفهّمناه؟ هل ضرب أحد على أيديهم وهددهم بأنهم إذا فتحوا فمهم فلسوف ينكل بهم ويجعل منهم عبرة لمن ومن لا يعتبر؟ فمن هو هذا الرجل يا تري؟ ثم هل القرآن الكريم لا يحتوى إلا على قصص الأنبياء حتى يقال إنه أخذها من أهل الكتاب؟ إن فيه تشريعات ومبادئ خلقية وسلوكية لا يعرفها الكتاب المقدس أو أى كتاب آخر، وفيه كلام عن العلم والعمل والسعى وراء الرزق وعدم تكليف الله أحدا فوق طاقته والنظافة والدعوة إلى تأمل مظاهر الطبيعة لا يوجد إلا فيه هو وحده، فضلا عما فيه من قيم حضارية لا نعثر عليها فى أى مصدر غيره. ليس ذلك فقط بل إن قصص الأنبياء فى القرآن تختلف كثيرا أو قليلا عنها فى الكتب الأخري، إذ لا يذكر القرآن مثلا نبيا من الأنبياء إلا بكل إجلال على عكس مؤلفى الكتاب المقدس، الذين شوهوا سيرة الأنبياء ولطخوا صورتهم ولم يتركوا أحدا منهم دون أن يمزقوا عرضه وعقيدته وسلوكه تمزيقا. كما أن القرآن يخلو من النصوص الجنسية المفحشة التى يعجّ بها العهد القديم وكأننا إزاء كتاب بورنوجرافى من الطراز الحداثى المتطرف. ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد، فقد تعددت فى العهد القديم النصوص التى تجدف فى حق الله سبحانه، وتختلف من ثم عن نظيرتها فى القرآن الكريم اختلافا شديدا. ولا ننس أيضا أن هناك أنبياء آخرين لم يرد لهم ذكر فى العهد القديم كهود وصالح وشعيب. فكيف واتت هذا "الأسدَ" الجبانَ المثرَّمَ الأنياب نفسُه أن يقول ما قال بكل تلك البساطة؟
ثم كيف كان الرهبان البيض موجودين فى ذلك الزمن، وهم لم يروا النور إلا فى الجزائر فى بداية الثلث الأخير من القرن التاسع عشر حين أنشأ الكاردينال الكاثوليكى لافيجيرى إرساليات تنصيرية فى الجزائر يلبس أفرادها نفس ملابس الجزائريين البيضاء ويضعون حول أعناقهم مسابح مثل التى كان يرتديها دراويشهم ويأكلون من ذات الأكل الذى يتناولون حتى لا يشعر أهل البلاد أن هؤلا الأوغاد المنصِّرين غرباء عنهم؟ ترى هل كان الرهبان البيض يركبون فى القرن التاسع عشر آلة الزمن التى اخترعها فى الخيال هربرت جورج ويلز بدوره بعد ذلك بعقود غير قليلة وينطلقون إلى عصر الرسول عليه السلام أيام كان لا يزال فى بداية دعوته ويظهرون له فى المنامات وفى الهلاوس التى يدعى "الأسد ابن اللبؤة" أنه عليه السلام كان يراهم خلالها؟ ألا إنه لكذاب متنطع بغير حياء! وأما الصابئون فليس لهم فى القرآن ذكرٌ يُذْكَر، إذ لا يقابلنا منهم سوى اسمهم مجردا ثلاث مرات لا أكثر. فكيف يشغلون بال النبى إلى هذا الحد الذى يزعمه هذا الأفاك؟
ومن خيالات المؤلف الملتاثة ما يحاول أن يبثه فى رُوع القارئ من أنه صلى الله عليه وسلم، بعد سماعه الأصوات والصرخات ورؤية الأشباح لدى غار حراء، ظل فوق الجبل أياما بل أسابيع بل شهورا وهو فى رعب شديد ودوخان مستمر، فضلا عن أن نزوله من فوق الجبل وعودته إلى خديجة بعد ذلك قد استغرق عند مؤلفنا الليل بطوله ونصف اليوم التالى رغم أنه قطع المسافة عَدْوًا لا مشيا، وذلك بسبب تشوُّش عقله وفقدانه الوعى والتمييز لما حوله. وهو كلام سخيف لا يستحق الوقوف إزاءه لأنه مجرد أوهام وأباطيل، إذ من أخبر المؤلفَ بهذا كله؟ إن كتب السيرة والتاريخ والحديث والتفسير متاحة لمن يريد التحقق من بطلان هذه المزاعم الشيطانية. ولولا أنى أردت أن يلمس القارئ بيده هذا السخف المتنطع ما أحدثت له منه ذكرا.
أما ادعاء هذا اليهودى المتظاهر بالإسلام زورا وخداعا على خديجة أنها نَضَتْ عنها ملابسها وتعرت تماما لتتأكد من أن الذى رآه النبى ملاك لا شيطان فليس سوى قلة أدب. لقد كانت خديجة سيدة عربية فاضلة كريمة من أسرة نبيلة وزوجة لرجل ذى مروءة وفضل واحترام، فكيف يمكن أن تفكر على هذا النحو الذى لا يمكن أن يفكر فيه سوى عاهرات السينما فى بلاد الغرب موطن ذلك الشيطان وأشباهه؟ ثم من يا ترى أخبره بذلك، وهذه كتب الحديث والسيرة والتاريخ لا تقول شيئا من هذا بتاتا؟ أهذا كل ما فى جَعْبَته لمحاربة محمد ودين محمد؟ لقد لطَّخ اليهود فى العهد القديم، الذى زوروه بأيديهم وأقلامهم، صُوَرَ أنبيائهم جميعا، فجعلوا منهم زناة وقتلة وخونة وكذابين وسِكِّيرِين ودَيايثَةً ومُضَاجِعين للمحارم. وقد مَرَدُوا على هذا حتى أضحى دِينًا لهم. وها هم أولاء يظنون أنهم يستطيعون تكراره مع رسولنا الكريم، لعنهم الله! أَوَمَنْ تقول لزوجها فى هذا الموقفِ الكلامَ النبيلَ التالي: "والله لا يخزيك الله ابدا. إنك لَتَصِلُ الرَّحِم، وتحمل الكَلَّ، وتعين على نوائب الحق" يمكن أن تتصرف على هذا النحو؟
ثم كيف يمكن أن يكون ما قاله عن محمد أو شيء منه صحيحا، وهذا دين محمد كله شهامة ونبل ورقى وحضارة، فهو دين الصدق والأمانة والذوق المصفى والعدل والأخوة وحب الآخرين والأفق الواسع وحرية العقيدة وإنصاف المرأة والحنو على الفقراء والمساكين والمسحوقين بوجه عام، إذ جعل لهم حقا معلوما مفروضا فى مال كل غنى قادر، وهو دين النظافة والنظام والعمل والإتقان واليقظة والصحو والعلم والعقل والاجتهاد والإبداع دونما خوف من الخطإ، إذ الخطأ فى دين محمد مسموح به بل مأجور عليه متى كان عن رغبة صادقة فى الوصول إلى الحقيقة، وهو دين تحريم الخمر والميتة والزنا والغدر والنفاق واتخاذ الشحاتة بابا من أبواب الكسب، وهو دين الحنو على الضعف البشرى وعدم تكلفة النفس فوق وسعها بحال من الأحوال، وهو الدين الذى هدم الحواجز التى كانت قائمة بين الله وعباده، فلا كهانة ولا وساطة من أى نوع تحول دون الاتصال المباشر به جل وعلا، والله فيه أحنّ على البشر من آبائهم وأمهاتهم، ويحب الستر عليهم فى الدنيا والآخرة. فهل يمكن أن يكون الرجل الذى وُكِلَتْ إليه الدعوة إلى تلك المبادئ بهذه الصورة الهزلية المجحفة والمنحطة التى رسمها له هذا اليهودى المخادع الذى التحف بعباءة الإسلام ليطعن رسوله وكتابه على هذا النحو الخبيث الكاذب؟
الإسلام دين حضارى جاء لتيسير حياة البشر وتقليل متاعبها وإزعاجاتها إلى أقل حد ممكن من جهة، ولدفعها إلى الأمام وتطويرها إلى أحسن وضع متاح من جهة أخري. ومكانه كل أرجاء الحياة: فهو للمسجد وللشارع وللبيت وللحقل وللمصنع وللمدرسة وللجامعة وللسوق وللحمام وللمحكمة ولوسائل المواصلات ووسائل الإعلام وللمكتبات وللوِرَش وللفرد وللجماعة وللشعب وللحكومة وللعلاقات الشخصية وللعلاقات الأسرية وللعلاقات الاجتماعية وللعلاقات الدولية وللملابس وللطعام وللجسد وللجنس وللعواطف وللحب وللصداقة وللزمالة وللجيرة وللإقامة وللسفر وللسياحة وللإجازة وللعقل وللفكر وللإبداع وللفن وللذوق واللياقة وللنظام وللإتقان وللصحة وللضمير وللأخلاق وللظاهر وللباطن وللدنيا وللآخرة وللعزة وللكرامة. إنه لكل شيء، وليس للمسجد والعبادة الرسمية فقط بل كل ما يفعله المسلم مما يعود عليه وعلى أسرته ومن حوله وأمته والإنسانية كلها بنفع هو عبادة وقربى إلى الله. أرأيت كيف ولِمَ يحتفى القرآن المجيد بليلة القدر ويعدها خيرا من ألف شهر؟ إنها منعطف من منعطفات التاريخ العظيمة بل هى أعظم هذه المنعطفات جمعاء. إن الإسلام هو الدين الحضارى الوحيد، وهو دين واسع وعميق، ويناسب الأجيال القادمة كلها، فهو يجعل طلب العلم فريضة ويدعو إلى العمل من أجل الدنيا والآخرة جميعا، ولا يطالب أتباعه بنسيان حظهم من الدنيا، ويعترف بالغرائز والشهوات ولا يكلف البشر قمعها بل كل ما يريد منهم هو إشباعها فى الحلال، إذ الشهوات ليست شرا فى شيء إلا إذا غلبت صاحبها على مروءته واعتداله وكَسَر الحدود التى رسمها الله له وطلب منه أن يلتزم بالوقوف عندها. من هنا نستطيع أن نفهم معنى وصف القرآن المجيد لتلك الليلة فى الآية الثالثة من سورة "الدخان" بأنها "ليلة مباركة".
أما السلام الذى ذكرته الآية قائلة إن ليلة القدر سلام حتى مطلع الفجر فيمكن فهمه على أن المقصود به الاحتفاء بتلك الليلة التى بدأ فيها نزول القرآن، وكُلِّف محمد فيها بتبليغ الدعوة الجديدة التى سوف تنقل الناس من حال إلى حال: من حال عبادة الأوثان والبشر واعتناق الخرافات المنحطة إلى حال التوحيد والخلق الراقى ا لكريم والصحو العقلي. وقد نبهنا الرسول صلى الله عليه وسلم بإحياء تلك الليلة بالعبادة وذكر الله سبحانه والتقرب إليه لتظل لها فى نفوسنا مكانتها حية مؤثرة ولا تشحب ذكراها مع الأيام ويُنْسَى فضلها. وفى كل الأديان والأنظمة السياسية والاجتماعية مناسبات تحتفل بها الأمم والمجتمعات للغاية نفسها. فهى دعوة للمسلمين إلى المشاركة فى ذلك الاحتفاء والتعرض لنفحات السلام والسكينة التى تسود تلك الليلة. فذكرى مثل تلك المناسبة لا يصح أن تمر هكذا مرور الكرام وينتهى الأمر بها مع الأيام والسنين إلى النسيان والإهمال، وكأنه لا قرآن نزل، ولا دعوة جديدة أخذت مكانها فى التاريخ الإنساني، ولا كان هناك رجال ضَحَّوْا وتحملوا وجاهدوا وقُتِلوا فى سبيل الله من أجل نشر الدعوة، ولا كان هناك رسول بذل جهودا مضنية لا يستطيع غيره من البشر النهوض بأعبائها... وهكذا.
ويلقى الشيخ الطاهر بن عاشور فى "التحرير والتنوير" على فضل تلك الليلة مزيدا من الضوء فيقول: "وجملة "سلام هى حتى مطلع الفجر" بيان لمضمون "من كل أمر"، وهو كالاحتراس لأنّ تنزُّل الملائكة يكون للخير، ويكون للشر لعقاب مكذبى الرسل... فأخبر هنا أن تنزل الملائكة ليلة القدر لتنفيذ أمر الخير للمسلمين الذين صاموا رمضان وقاموا ليلة القدر، فهذه بشارة. والسلام مصدر أو اسم مصدر معناه السلامة... ويطلق السلام على التحية والمِدْحة، وفُسِّر السلام بالخَيْر. والمعنيان حاصلان فى هذه الآية: فالسلامة تشمل كل خير لأن الخيْر سلامة من الشر ومن الأذي، فيشمل السلامُ الغفرانَ وإجزالَ الثواب واستجابةَ الدعاء بخير الدنيا والآخرة. والسلام بمعنى التحية والقول الحسن مراد به ثناء الملائكة على أهل ليلة القدر كدأبهم مع أهل الجنة فيما حكاه قوله تعالي: "والملائكة يدخلون عليهم من كل باب: * سلامٌ عليكم بما صبرتم. فنعم عقبى الدار".
وتنكير "سلام" للتعظيم. وأخبر عن الليلة بأنها سلام للمبالغة لأنه إخبار بالمصدر. وتقديم المسند وهو "سلام" على المسند إليه لإِفادة الاختصاص، أى ما هى إلا سلام. والقصر ادعائى لعدم الاعتداد بما يحصل فيها لغير الصائمين القائمين، ثم يجوز أن يكون "سلام هي" مراداً به الإِخبار فقط، ويجوز أن يراد بالمصدر الأمرُ، والتقدير "سلِّمُوا سلاماً"، فالمصدر بدل من الفعل وعدل عن نصبه إلى الرفع ليفيد التمكن مثل قوله تعالي: "قالوا: سلاماً. قال: سلام" (الذاريات/ 25). والمعنى اجعلوها سلاماً بينكم، أى لا نزاع ولا خصام. ويشير إليه ما فى الحديث الصحيح: "خَرَجْتُ لأخْبِرَكم بليلة القدر، فتَلاحَى رجلان، فرُفِعَتْ. وعسى أن يكون خيراً لكم. فالتَمسوها فى التاسعة والسابعة والخامسة". و"حتى مطلع الفجر" غاية لما قبله من قوله: "تنزَّلُ الملائكة" إلى "سلامٌ هِيَ". والمقصود من الغاية إفادة أن جميع أحيان تلك الليلة معمورة بنزول الملائكة والسلامة. فالغاية هنا مؤكدة لمدلول"ليلة" لأن الليلة قد تطلق على بعض أجزائها كما فى قول النبى صلى الله عليه وسلم: "من قام ليلةَ القَدْر إيماناً واحتساباً غُفِر له ما تقدَّم من ذَنْبه"، أى مَنْ قام بعضها، فقد قال سعيد بن المسيب: مَنْ شَهِد العِشاءَ من ليلة القَدْر فقد أخذ بحَظِّه منها. يريد: شهدها فى جماعة كما يقتضيه فعل "شهد"، فإن شهود الجماعة من أفضل الأعمال الصالحة.
ويتبقى البحث فى مكية السورة أو مدنيتها. وقد ذكر د. شوقى ضيف أنها مكية، وأما الطاهر بن عاشور فقد ترك الباب مفتوحا لكلا الاحتمالين كما هو واضح من قوله: "وقد ثبت أن ابتداء نزول القرآن كان فى شهر رمضان. قال تعالي: "شَهْرُ رمضانَ الذى أُنْزِل فيه القرآنُ هُدًى للناس وبَيِّناتٍ من الهُدَى والفُرْقان" (البقرة/185). ولا شك أن المسلمين كانوا يعلمون ذلك، إذ كان نزول هذه السورة قبل نزول سورة "البقرة" بسنين إن كانت السورة مكية، أو بمُدة أقل من ذلك إن كانت السورة مدنية". وأرى أن السورة مكية لأنه من المستبعد أن يسكت القرآن عن الليلة التى نزل فيها الوحى لأول مرة على النبى محمد ثلاث عشرة سنة على الأقل ثم فجأة يعرض لهذا الموضوع الشديد الأهمية فى العهد المدني.
كذلك أرى أنها مكية لاعتبار آخر، فإن خصائص أسلوبها تنتمى إلى أسلوب الوحى المكي، وهى ورود عبارة "وما أدراك ما كذا؟"، وعبارة "أنزلناه" للمطر أو للقرآن، وعبارة "كل أمر"، وعبارة "بإذن ربه/ ربها/ ربهم"، وكلمة "الروح"، وكل من كلمة "ليلة" وكلمة "سلام" بدون "أل"، وقد تكررت الأخيرة كثيرا فى الوحى المكى فى حين لم ترد فى الوحى المدنى غير مرة واحدة يتيمة. وهناك الحديث عن نزول الملائكة، الذى لم يأت له ذكر فى القرآن المدني، بينما نجده فى الوحى المكي. وهناك كذلك فاصلة الراء غير المنصوبة أو المسبوقة بحرف مد، وهى فاصلة لم يعرفها القرآن المدني، وعرفها نظيره المكي: فى سُوَر "العصر والضحى والفجر والمرسلات والقمر وص".