عثمان بن أرطغرل مؤسس الدولة العثمانية

د. نظام الدين إبراهيم أوغلو
باحث أكاديمي تركماني ـ تركيا

نشأة العثمانيين وأصولهم

ينتسب العثمانيون إلى قبائل تركمانية مختلفة من الاوغوز تعيش على مساحة جغرافية واسعة ومؤثرة من البلقان إلى القوقاز والأناضول وتركستان (دول وسط آسيا التركية)، وأفغانستان، وسوريا، والعراق.
واتصف الأتراك على أنهم قبائل بدوية امتهنت الحرب والفروسية والغزو في وقت مبكر، وقد كان هؤلاء من أشد المقاتلين صلابة وأكثرهم شدة في الحرب، ومنهم الفرسان الذين لا يشق لهم غبار. ونتيجة للغزو المغولي بقيادة جنكيز خان على العراق ومناطق شرق آسيا الصغرى، فإن سليمان جد عثمان غازي هاجر مع قبيلته من شمال العراق إلى بلاد الأناضول في عام (617ه - 1220م)، فاستقر في مدينة أخلاط في شرقي الأناضول.
بعد وفاة سليمان شاه، غرقًا في نهر الفرات أثناء عبوره، خلفه ابنه الأوسط أرطغرل (628ه - 1230م)، والذي واصل تحركه نحو الشمال الغربي من الأناضول، وكان معه حوالي مئة أسرة وأكثر من أربعمئة فارس، وحين كان أرطغرل والد عثمان فارًّا بعشيرته التي لم يتجاوز تعدادها أربعمئة عائلة، من ويلات الهجمة المغولية، فإذا به يسمع عن بُعد جلبة وضوضاء، فلما دنا منها وجد قتالًا حاميًا بين مسلمين ونصارى، وكانت كفة الغلبة للجيش البيزنطي، فما كان من أرطغرل إلا أن تقدم بكل حماس وثبات لنجدة إخوانه في الدين والعقيدة، فكان ذلك التقدم سببًا في نصر المسلمين على النصارى.
وبعد انتهاء المعركة، قدَّر السلطان السجلوقي في قونية هذا الموقف لأرطغرل ومقاتليه، فأقطعهم أرضًا (سوغوت) على الحدود الغربية للأناضول بجوار الثغور مع الروم البيزنطيين ولقبه أمير القبائل التركية في تلك النواحي. وفتح السلاجقة بذلك الطريق لأرطغرل وأبنائه للتوسع على حساب الروم، وكسب السلاجقة بذلك حليفًا قويًا ومشاركًا في الجهاد ضد الروم، وقد قامت بين هذه الدولة الناشئة وبين سلاجقة الروم علاقة حميمية نتيجة وجود عدو مشترك لهم في العقيدة والدين، وقد استمرت هذه العلاقة طيلة حياة أرطغرل، حتى إذا توفي سنة (699هـ/1299م) خلفه من بعده في الحكم ابنه عثمان؛ الذي سار على سياسة أبيه السابقة في التوسع في أراضي الروم والتعاون مع السلاجقة في حروبهم وتحالفاتهم وتنسيق العلاقات معهم انظر (كتاب الدولة العثمانية وعوامل النهوض في عصره ـ د. علي محمد الصلابي ـ دار الايمان للطبع والنشر والتوزيع ـ اسكندرية).

عثمان مؤسس الدولة العثمانية

السلطان الغازي عُثمان بن أرطغرل بن شاه سليمان بن قايا ألب من عشيرة القايوي التُركماني( قيل أن الده مدفون في أراضي سورية). ولد عام 1258م، ، وإليه تنسب الدولة العثمانية، وتزامنت ولادته مع الغزو المغولي لبغداد بقيادة هولاكو. وقد كان غزو عاصمة الخلافة العباسية من الأحداث العظيمة، والمصائب الجسيمة، لقد تولى الحكم من 1299م إلى أن توفي عام 1326. لقد فحكم 24 سنة.
ولا يستعجل أهل الحق وعد الله عز وجل لهم بالنصر والتمكين، فلابد من مراعاة السنن الشرعية، والسنن الكونية، ولابد من الصبر على دين الله عز وجل (وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لاَنْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ) محمد :4. إن الله تعالى إذا أراد شيئًا هيأ له أسبابه، وأتى به شيئاً فشيئاً، بالتدرج أو دفعة واحدة. وبدأت قصة التمكين للدولة العثمانية مع ظهور القائد عثمان الذي ولد في عام سقوط الخلافة العباسية في بغداد.
يقول ابن كثير: يصف إجرام المغول " ومالوا على البلد فقتلوا جميع من قدروا عليه من الرجال والنساء والولدان والمشايخ والكهول والشبان، ودخل كثير من الناس في الآبار وأماكن الحشوش، وقني الوسخ، وكمنوا كذلك أياماً لايظهرون وكان الجماعة من الناس يجتمعون إلى الحانات ويغلقون عليهم الأبواب فتفتحها التتار إما بالكسر وإما بالنار، ثم يدخلون عليهم فيهربون منهم إلى أعالي الأمكنة فيقتلونهم بالأسطح، حتى تجري الميازيب من الدماء في الأزقة، فإنا لله وإنا إليه راجعون. وكذلك قتلوهم في المساجد والجوامع والتكايا، ولم ينج منهم أحد سوى أهل الذمة من اليهود والنصارى ومن التجأ إليهم. لقد كان الخطب عظيم والحدث جلل، والأمة ضعفت ووهنت بسبب ذنوبها ومعاصيها ولذلك سلط عليها المغول، فهتكوا الأعراض، وسفكوا الدماء، وقتلوا الأنفس، ونهبوا الأموال، وخربوا الديار، في تلك الظروف الصعبة والوهن المستشري في مفاصل الأمة، ولد عثمان مؤسس الدولة العثمانية، وهنا معنى لطيف ألا وهو بداية الأمة في التمكين هي أقصى نقطة من الضعف والانحطاط تلك هي بداية الصعود نحو العزة والنصر والتمكين، إنها حكمة الله وإرادته ومشيئته النافذة، قال تعالى: (إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعاً يستضعف طائفة منهم يذبح أبنائهم ويستحي نساءهم إنه كان من المفسدين) سورة القصص:3. وقال سبحانه وتعالى:(ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ونمكن لهم في الأرض) القصص: 5،6. ولاشك أن الله تعالى قادر على أن يمكن لعباده المستضعفين في عشية أو ضحاها، بل في طرفة عين قال تعالى (إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون (النحل: 40.
وبعد توليه الحكم أرسل إبنه أورخان غازي بجيش كبير وحارب المغول ودحر جيشهم وانتصر عليهم. والده كان قائدًا جليلاً ومتقيًا، وأحفاده تصل إلى السلطان سليمان القانوني كانوا يلتزمون بطريق والدهم في تطبيق أوامر الله تعالى.

أهم الصفات القيادية في عثمان الأول

عندما نتأمل في سيرة عثمان الأول تبرز لنا بعض الصفات المتأصلة في شخصيته كقائد عسكري، ورجل سياسي، ومن أهم هذه الصفات:
الشجاعة: عندما تنادى أمراء النصارى في بورصة (ومادانوس وأدره نوس وكته وكستله من البيزنطيين في عام 700هـ/1301م لتشكيل حلف صليبي لمحاربة عثمان بن أرطغرل مؤسس الدولة العثمانية واستجابت النصارى لهذا النداء وتحالفوا للقضاء على الدولة الناشئة) تقدم عثمان بجنوده وخاض الحروب بنفسه وشتت الجيوش الصليبية وظهرت منه بسالة وشجاعة أصبحت مضرب المثل عند العثمانيين.
الحكمة: بعد ما تولى رئاسة قومه رأى من الحكمة أن يقف مع السلطان علاء الدين كيقباد أو كيكوبات السلجوقي ضد النصارى، وساعده في افتتاح جملة من مدن منيعة، وعدة قلاع حصينة، ولذلك نال رتبة الإمارة من السلطان السلجوقي علاء الدين صاحب دولة سلاجقة الروم. وسمح له سك العملة باسمه، مع الدعاء له في خطبة الجمعة في المناطق التي تحته.
وقيل أن بعد مقتل السلطان علاء الدين الاول وابنه غياث الدين الاول من قبل المغول لقد تقوى شأن السلطان عثمان الأول في المناطق التي كانت تحت قيادتهم بشكل بارز.
الاخلاص: عندما لمس سكان الأراضي القريبة من إمارة عثمان أخلاصه للدين تحركوا لمساندته والوقوف معه لتوطيد دعائم دولة اسلامية تقف سداً منيعاً أمام الدولة المعادية للاسلام والمسلمين.
الصبر: وظهرت هذه الصفة في شخصيته عندما شرع في فتح الحصون والبلدان، ففتح قلعة قراه حصار عام 688 وفتح حصن كته في سنة 707هـ ، وفتح حصن لفكه، وحصن آق حصار، وحصن قوج حصار وكوبرو حصار و ويار حصار ويوند حصار وبلاجيك وإناكول وازنيك ويني شهر. وفتح حصن كبوه وحصن يكيجه طرا قلوا في سنة 712هـ ، وحصن تكرر بيكارى وغيرها وقد توج السلطان عثمان الاول فتوحاته هذه بفتح مدينة بورصة في عام 717هـ/1317م، وذلك بعد حصار شديد دام عدة سنوات، ولم يكن فتح بورصة من الأمور السهلة بل كان من أصعب ما واجهه عثمان في فتوحاته، حيث حدثت بينه وبين قائد حاميتها اقرينوس صراع شديد استمر عدة سنوات حتى استسلم وسلم المدينة لعثمان. قال تعالى: (يأيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون (سورة آل عمران:200.
الجاذبية الايمانية: وتظهر هذه الصفة عندما احتك به اقرينوس قائد بورصة واعتنق الاسلام أعطاه السلطان عثمان لقب (بالامير و بك) وأصبح من قادة الدولة العثمانية البارزين فيما بعد، وقد تأثر كثير من القادة البيزنطيين بشخصية عثمان ومنهجه الذي سار عليه حتى امتلأت صفوف العثمانيين منهم، بل أن كثيراً من الجماعات الاسلامية انخرطت تحت لواء الدولة العثمانية كجماعة (غزيا روم) أي غزاة الروم، وهي جماعة اسلامية كانت ترابط على حدود الروم وتصد هجماتهم عن المسلمين منذ العصر العباسي، وقد أعطتها هذه المرابطة خبرات في جهاد الروم عمقت فيها انتماءها للاسلام والتزامها بكل ماجاء به الاسلام من نظام، وهناك جمعية أخيليك (بمعنى جمعية الاخوان) وهم جماعة من أهل الخير يعينون المسلمين ويستضيفونهم ويصاحبون جيوشهم لخدمة الغزاة وكان معظم أعضاء هذه الجماعة من كبار التجار الذي سخروا أموالهم للخدمات الاسلامية مثل: إقامة المساجد والتكايا و"الخانات" الفنادق. وكانت لهم في الدولة مكانة عالية، ومن هذه الجماعة علماء ممتازون عملوا في نشر الثقافة الاسلامية وحببوا الناس في التمسك بالدين، وجماعة (حاجيات روم) أي حجاج أرض الروم، وكانت جماعة على فقه بالاسلام، ومعرفة دقيقة لتشريعاته، وكان هدفها معاونة المسلمين عموماً والمجاهدين خصوصاً وغير ذلك من الجماعات.
وإليكم قصة إحترام السلطان عثمان أرطغرل للقرآن الكريم والحُلم التي رأه بعد صلاة الصبح:
نقل المؤرخون العثمانيون الأوائل في (مناقب أبو الوفاء، وعاشق باشا، وابن كمال، والشيخ اديبالي) أنه اعتاد عثمان غاز على زيارة زاوية الشيخ اديبالي درويش باستمرار للتشاور معه وبعد زيارته التكية أقام ضيفًا في دار الضيافة، التي تم فرشها، وحين استلقى عثمان في فراشه وقعت عيناه على القرآن الكريم الموضوع على ركن مرتفع، لم تطاوعه نفسه على مدّ قدميه وكلام الله المقدس في الغرفة ذاتها معتقدًا أنه سيكون من عدم الاحترام للقرأن الكريم. فظلّ جالساً حتى الصباح بكل وقار ويقرأ قراءة القرآن، وقبل صلاة الفجر غفا ويرى حلمًا ثم يقوم ويتوضأ ويصلي صلاة الفجر. ويَروي الحلم الذي رآه لسعادة الشيخ اديبالي، ويقول رأيت قمرًا يخرج من صدر الشيخ إدبالي ويدخل حضن عثمان غازي، وتخرج شجرة كبيرة من بطنه، وأن هذه الشجرة التي تغطي السماء تلقي بظلالها على الجبال العالية والينابيع وينتفع الناس منها كثيرا. ففسر الشيخ إدبالي هذا الحلم الشهير، وقال "ابني! ستكون عاقبة سلطنة عثمان ولأحفادك خيرًا، ستتزوج ابنتي، ستؤسس هذه الدولة وستنشر الحقيقة والعدالة. وسيحكم جيلك العالم.
6ـ العدل: تروي معظم المراجع التركية التي أرّخت للعثمانيين أن أرطغرل عهد لابنه عثمان مؤسس الدولة العثمانية بولاية القضاء في مدينة قره جه حصار بعد الاستيلاء عليها من البيزنطيين في عام 684هـ/1285م ووفي عدالته في الحكم، أن عثمان حكم لبيزنطي نصراني ضد مسلم تركي، فاستغرب البيزنطي وسأل عثمان: كيف تحكم لصالحي وانا على غير دينك، فأجابه عثمان: بل كيف لا أحكم لصالحك، والله الذي نعبده، يقول لنا : (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات الى أهلها واذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل) سورة النساء، 58، وكان هذا العدل الكريم سبباً في اهتداء الرجل وقومه الى الاسلام إن عثمان الأول استخدم العدل مع رعيته وفي البلاد التي فتحها، فلم يعامل القوم المغلوبين بالظلم أو الجور أو التعسف أو التجبر، أو الطغيان، أو البطش وإنما عاملهم بهذا الدستور الرباني: (أما من ظلم فسوف نعذبه ثم يرد الى ربه فيعذبه عذاباً نكراً وأما من آمن وعمل صالحاً فله جزاء الحسنى وسنقول له من أمرنا يسراً (سورة الكهف: 87،88. والعمل بهذا الدستور الرباني يدل على إيمان وتقوى وفطنة وذكاء وعلى عدل وبر ورحمة.
الوفاء: كان شديد الإهتمام بالوفاء بالعهود، فعندما اشترط أمير قلعة اولوباد البيزنطية حين استسلم للجيش العثماني، أن لايمر من فوق الجسر أي عثماني مسلم الى داخل القلعة التزم بذلك وكذلك من جاء بعده . قال تعالى (وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤلا (سورة الاسراء، 34.
التجرد لله في فتوحاته: فلم تكن أعماله وفتوحاته من أجل مصالح اقتصادية أو عسكرية أو غير ذلك ، بل كان فرصة تبليغ دعوة الله ونشر دينه ولذلك وصفه المؤرخ أحمد رفيق في موسوعته (التاريخ العام الكبير) بأنه (كان عثمان متديناً للغاية، وكان يعلم أن نشر الاسلام وتعميمه واجب مقدس وكان مالكاً لفكر سياسي واسع متين، ولم يؤسس عثمان دولته حباً في السلطة وإنما حباً في نشر الاسلام). وهو سياسي واسع متين، ولم يؤسس عثمان دولته حباً في السلطة وإنما حباً في نشر الاسلام.
"ويقول مصر اوغلو: لقد كان عثمان بن أرطغرل يؤمن إيماناً عميقاً بأن وظيفته الوحيدة في الحياة هي الجهاد في سبيل الله لأعلاء كلمة الله، وقد كان مندفعاً بكل حواسه وقواه نحو تحقيق هذا الهدف". هذه بعض صفات عثمان الأول والتي كانت ثمرات طبيعية لإيمانه بالله تعالى والاستعداد لليوم الآخر، وحبه لأهل الإيمان وبغضه لأهل الكفر والعصيان وحبه العميق للجهاد في سبيل الله والدعوة إليه ولذلك كان عثمان في فتوحاته يطلب من أمراء الروم البيزنطيين في منطقة آسيا الصغرى أن يختاروا أحد ثلاثة أمور هي الدخول في الاسلام، أو دفع الجزية، أو الحرب، وبذلك أسلم بعضهم، وانضم إليه البعض الاخر وقبلوا دفع الجزية. أما ماعداهم فقد شن عليهم جهاداً لاهوادة فيه فانتصر عليهم، وتمكن من ضم مناطق كبيرة لدولته. لقد كانت شخصية عثمان متزنة وخلابة بسبب إيمانه العظيم بالله تعالى واليوم الآخر ، ولذلك لم تطغ قوته على عدالته، ولا سلطانه على رحمته، ولا غناه على تواضعه، وأصبح مستحقاً لتأييد الله وعونه، ولذلك أكرمه الله تعالى بالأخذ بأسباب التمكين والغلبة وهو تفضل من الله تعالى على عبده عثمان، فجعل له مكنة وقدرة على التصرف في آسيا الصغرى من حيث التدبير والرأي وكثرة الجنود والهيبة والوقار، لقد كانت رعاية الله له عظيمة ولذلك فتح له باب التوفيق وحقق ماتطلع إليه من أهداف وغاية سامية لقد كانت أعماله عظيمة بسبب حبه للدعوة الى الله، فقد جمع بين الفتوحات العظيمة بحد السيف، وفتوحات القلوب بالإيمان والإحسان، فكان إذا ظفر بقوم دعاهم الى الحق والايمان بالله تعالى وكان حريصاً على الأعمال الأصلاحية في كافة الأقاليم والبلدان التي فتحها، فسعى في بسط سلطان الحق والعدالة ، وكان صاحب ولاء ومحبة لأهل الإيمان، مثلما كان معادياً لأهل الكفران.
توفي عام 1324 ودفن في بورصة. والده كان قائدًا جليلاً ومتقيًا، وأحفاده تصل إلى السلطان سليمان القانوني كانوا يلتزمون بطريق والدهم في تطبيق أوامر الله تعالى.

وصية عثمان الأول إلى ابنه أورخان غازي

(يا بني! إياك أن تشتغل بشيء لم يأمر به الله رب العالمين، وإذا واجهتك في الحكم معضلة فاتخذ من مشورة علماء الدين موئلاً. يا بني! أحط من أطاعك بالإعزاز، وانعم على الجنود، ولا يغرّنك الشيطان بجندك وبمالك، وإياك أن تبتعد عن أهل الشريعة. يا بني! إنك تعلم أن غايتنا هي إرضاء الله رب العالمين، وأن بالجهاد يعم نور ديننا كل الآفاق، فتحدث مرضاة الله جل جلاله. يا بني! لسنا من هؤلاء الذين يقيمون الحروب لشهوة حكم، أو سيطرة أفراد، فنحن بالإسلام نحيا وللإسلام نموت، وهذا يا ولدي ما أنت أهل له...)
بهذه الوصية الخالدة هي التي نهضت بها دولة آل عثمان وسار عليها الحكام العثمانيون في زمن قوتهم ومجدهم وعزتهم وتمكينهم. وترك عثمان الأول الدولة العثمانية، وكانت مساحتها (16000) كيلومتر مربع، واستطاع أن يجد لدولته الناشئة منفذًا على بحر مرمرة، واستطاع بجيشه أن يهدد أهم حاضرتين بيزنطيتين في ذلك الزمان وهي: أزنيك وبورصة.
اذا كانت الدولة العثمانية تشتهر بكونها دولة عسكرية منذ نشأتها إلى انهيارها، فهي كذلك دولة دينية في أسسها ودعائمها وكافة ملامحها؛ ليس فقط لأنها كانت تستوطن الأناضول ـ بعد فرارها من أواسط آسيا إثر الاجتياح المغولي ـ وهو موئل وقلعة كبار المتقين والاولياء الصالحين، وقبلة الراغبين في السلوك والطريقة المحمدية، وموطن مولانا جلال الدين الرومي. وليس أيضًا لأن حلم بناء إمبراطورية مترامية الأطراف، وشجرة عالمية الفروع والظلال بدأ في بيت الشيخ «أده بالي» أو «أدب عالي» وغيرهم.
ويقول البروفيسور خليل إينالجيك: إن عثمان أصبح غازيًا بإرشاد من الشيخ أدب عالي، وثمة احتمال كبير بأن يكون هذا «رئيس أخوية»، وقد قلده سيف الجهاد – وهذا تقليد الأخويات* – ثم بدأ ينطلق في حملاته. وكان يحضر دروس مولانا جلال الدين الرومي وحاج بيكتاش ولي.
ويذكر المؤرخ التركي شهسوار أوغلو: أنه باتفاق المصادر جميعها على أن الغازي عثمان كان قنوعًا جدًا ومعطاءً، وكانت له مائدة يمدها في منزله يوميًا وقت العصر، يأكل منها جميع الحاضرين دون تمييز بين غني وفقير، أو بين مسلم ومسيحي. كما يصفه أيضًا بأنه لم يكن يرتدي ثيابه مرتين، فإذا نظر أحدهم إلى لباسه بانتباه، خلعه عثمان فورًا ووهبه إياه، وكان يكسو العراة، ويتصدق على الأرامل بشكل خاص.
كما يذكر عاشق باشا في تاريخه قائمة (تركة) الأمير عثمان الغازي، فنجدها أصدق تعبيرًا عن بساطته وزهده، وهي: ثوب واحد، خُرج يعلق على جانب فرسه، وعاء للملح، زوج من الأحذية طويل الساق، حمالة ملعقة خشبية**، درع للحصان، سيف، كنانة، رمح، وثلاثة أغنام يعلفها من أجل إكرام الضيوف… أو كما قال حاجي خليفة: «… ولم يترك من المال شيئاً».

إفتراء الأعداء عليه حول قتل عمه بسبب استشارته

حول حادثة مقتل الأمير « دوندار» عمّ السلطان «عثمان»، وهي حادثة أرودها المؤرخ التركي المعاصر إسماعيل حامي دنشمند في كتابه «موسوعة التاريخ العثماني»، الذي ألفه عام 1945م، أي في الوقت الذي كانت فيه أنواء الردة الأتاتوركية في أصخب حالات هبوبها على تركيا، بكل ما تحمله من مشاعر العداء للعثمانيين المسلمين، وادعى فيها أن عثمان بن أرطغرل استشار عمه دوندار البالغ من العمر تسعين عاماً في أمر عزمه على محاربة البيزنطيين، فعارضه عمه في الرأي، فلم يتحمل عثمان معارضة عمه فقام بإعدامه بيده برميه بسهم انتقاماً منه بسبب هذه المعارضة.
وجاء الرد على هذا الافتراء الكبير من قبل قادر مصر أوغلو في كتابه الذي نقل الحادث عن المؤرخ التركي خير الله الهندي الذي عاصر عثمان بن أرطغرل، أن دوندار كان طرفاً في مؤامرة اتفق على تدبيرها بالتعاون مع حاكم مدينة «بيله جك» البيزنطي، تستهدف اغتيال عثمان، تمهيداً لوثوب دوندار إلى الزعامة خلفاً لعثمان، فلما انفضح أمر المؤامرة أصرّ عثمان، وهو الحريص على تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية، على تنفيذ حكم الله في عمه جزاء اقترافه لجريمة موالاة أعداء الإسلام، والتآمر معهم ضد جماعة المسلمين.

والله ولي التوفيق
نظام الدين إبراهيم أوغلو

المراجع

1ـ للمزيد من التفاصيل حول هذا الموضوع المثير، راجع مؤلفات الدكتور محمد م. الأرناؤوط.
2ـ القرماني: أخبار الدول وآثار الأول، جـ3، ص8.
3ـ محمد حرب: العثمانيون في التاريخ والحضارة، ص12.
4ـ حمد حرب: العثمانيون، ص12–13.
5ـ حاجي خليفة: فذلكة التواريخ، ص137.
6ـ انظر تراجم هؤلاء العلماء والمشايخ في: طاشكبري زاده، الشقائق النعمانية، ص6-8.
7ـ نقلا عن: مصطفى أرمغان، التاريخ السري للإمبراطورية العثمانية، ص22، ص34.
8ـ İsmail Hakkı Uzunçarşılı, Osmanlı Devleti Teşkilâtında Kapukulu Ocakları. Cilt 1. Acemi Ocağı ve Yeniçeri Ocağı, Ankara: Türk Tarih Kurumu 1988
9ـ مصطفى أرمغان: التاريخ السري، ص52.
10ـ محمد فريد بك: تاريخ الدولة العلية العثمانية، ص180.
11ـ أيوب صبري باشا: موسوعة مرآة الحرمين الشريفين، جـ3، ص364-366.
12ـ رسوخي بايقارا، طرائف غير معروفة عن خمسة سلاطين، نقلا عن: مصطفى أرمغان، ص174-175.
13ـ منجم باشي: جامع الدول، ص815.
14ـ أحمد بن محمد ابن الملا: المنتخب من تاريخ جنابي، ص203.
15ـ كتاب الدولة العثمانية وعوامل النهوض في عصره ـ د. علي محمد الصلابي ـ دار الايمان للطبع والنشر والتوزيع ـ اسكندرية