آخـــر الـــمـــشـــاركــــات

+ الرد على الموضوع
النتائج 1 إلى 1 من 1

الموضوع: الاتجاه الفنى التذوّقى عند د. محمد النويهى

  1. #1
    أستاذ بارز الصورة الرمزية إبراهيم عوض
    تاريخ التسجيل
    21/12/2007
    المشاركات
    828
    معدل تقييم المستوى
    17

    افتراضي الاتجاه الفنى التذوّقى عند د. محمد النويهى

    الاتجاه الفنى التذوّقى فى نقد الشعر عند د. محمد النويهى
    بقلم إبراهيم عوض
    وسوف نركز على كتاب الدكتور النويهى ((الشعر الجاهلى- منهج فى دراسته وتقويمه))، الذى أصدره فى أواسط الستينات باسطا فيه المنهج الذى ينبغى فى نظره دراسة هذا الشعر على أساسه ومحللا كذلك عددا من القصائد الجاهلية استناداً إلى هذا الأساس.
    وهذا المنهج الذى أرى أن أصلح وصف له هو ((المنهج الفنى التذوقى)) يقوم بالدرجة الأولى على دراسة الجانب الفنى فى القصيدة الجاهلية، مع التطرق، كما دعت الحاجة، إلى الحديث عن أوضاع البيئة التى كان يعيش فيها الشعراء الجاهليون، والاستعانة بعلوم اللغة والبلاغة والعَروض والقافية والتاريخ وكتب الرحلات وحتى العلوم الطبيعية.
    وقد أثار د. النويهى، قبل الدخول إلى موضوعه، عدة مسائل تتعلق بالنقد الأدبى منها قوله إنه ينبغى علينا فى دراسة الأدب العربى أن نبدأ بالموضوعات الجزئية المحددة أولا ولا ننتقل إلى القضايا العامة إلا بعد أن نقتل هذه المسائل الجزئية بحثا لأنه لا يمكن الحكم فى قضية عامة حكما صحيحا دون الإلمام بتفصيلاتها قبلا. ومن ثم نجده يصف معظم النقد العربى الحديث بأنه ((جدل نظرى محض)) و ((جعجعة بلا طِحْن))
    [1]. وبرغم وجاهة هذه الدعوة فإن فى الدعوى المصاحبة لها بأن معظم النقد العربى الحديث مجرد جدل نظرى وجعجعة بلا طِحْن قدرا غير قليل من التجنى[2]، فإن كثيرا جداً من أبحاث هذا النقد تقتصر على موضوعات جزئية كدراسة شاعر من الشعراء أو قَصّاص من القَصّاصين أو المقارنة بين أديب عربى وآخر غير عربى... إلخ، بل أحيانا ما تكون الدراسة أضيق من هذا كما يحدث عندما يقتصر أحد الدارسين على دراسة الأسطورة مثلا فى شعر شاعرٍ ما. كذلك فإن كثيرا من الباحثين قد وصلوا إلى نتائج طيبة رغم اتساع مدى الموضوعات التى يدرسونها، وذلك بسبب جِدّهم وإخلاصهم فى بحوثهم وعكوفهم عليها فى صبر ودأب وإنفاقهم الوقت الطويل فى ذلك. ثم من قال إن النتائج فى الموضوعات الجزئية ستكون بالضرورة صحيحة فاصلة لا يعترض عليها أحد؟ وعلى أية حال فمن شأن النتائج التى يتوصل إليها أصحاب الدراسات الموسعة أن تدفع الباحثين الآخرين إلى التحقق من دقتها ودقة المناهج التى اتُّبِعَتْ فى الوصول إليها، وفى هذا كسب كبير للدراسات النقدية. والدكتور النويهى نفسه فى هذا الكتاب قد أصدر عدداً من الأحكام الخاصة بالشعر الجاهلى كله رغم أنه لم يتناول منه إلا عدداً محدودا من قصائده. صحيح أنه قد عكف على هذا الشعر زمنا طويلاً كما يقول، لكن العبرة (كما هو واضح من كلامه) بالكتابة فى الموضوع. وهذا العكوف المخلص هو الذى ذكرتُ آنفاً أنه يمكن أن يساعد الباحث على الوصول إلى نتائج مثمرة بغض النظر عن موافقه الباحثين الآخرين عليها أو مخالفتهم لها.
    ومن هذه المسائل أيضاً تأكيده أن النقد العربى المعاصر لم ينجح فى إحراز نتائج طيبة إلا على أيدى باحثين أتقنوا واحداً أو أكثر من الآداب الأجنبية، أما الذين لا يحسنون أدبا أجنبيا فمجهودهم فى رأيه عقيم، بل هم لا يستطيعون أن يحسنوا فهم العربية نفسها
    [3]. ومع ذلك فإنه يحذر فى نفس الوقت من تطبيق مقاييس النقد الغربى أو إقحامها على أدبنا العربى رغم إيمانه بأنها جديرة أن توسّع نظرتنا وتُرْهِف ذوقنا. ذلك أن أدبنا (كما يقوا) يختلف عن الآداب الأجنبية، ومن ثم فالمفاهيم النقدية المستخلصة من تلك الآداب لا تصلح له[4].
    ومن الأمثلة التى يضربها لإقحام الدارسين مقاييسَ النقد الغربى على أدبنا الظنُّ الذى يقع فيه كثير من الباحثين من أن الشعراء الجاهليين قد أهملوا وصف الطبيعة، وذلك لأن هؤلاء الباحثين لا يعرفون من وصف الطبيعة إلا ما اطّلعوا عليه فى الآداب الغربية، فالشاعر الإنجليزى الحديث مثلاً يهدف من وصفه للطبيعة أن يستكشف من خلال العالم المادى عالما غير محدود يعلو على عالم الحسّ ويترقى هو إليه مع اللمحات التى تتبدّى له منه ويندمج فيه ويتزود بروحانيته. فإذا قرأوا الشعر الجاهلى فلم يجدوا مثل هذا فيه اتهموه بخلوّه من وصف الطبيعة وأَبْدَوُا احتقارهم له، مع أن الشعراء الجاهليين وصفوا كل مظاهر الطبيعة فى بلادهم رغم فقرها ورغم تكرارها وضيق مجال القول من ثم فيها: فقد وصفوا الجبال والوديان والمفاوز والنجوم والسحاب والشمس والقمر والنباتات والزهور والحيوانات والطيور الأليفة والوحشية والرعد والبرق والليل والنهار والآل وغدران الماء... إلخ، ووصفوا كل ذلك وصفا حيا نابضا، ولا عليهم بعد هذا أن يكون وصفهم للطبيعة مختلفا عن وصف الشعراء الإنجليز المعاصرين، فلكلٍّ من الفريقين ظروفه وأحواله التى تخالف أحوال الفريق الآخر وظروفه
    [5].
    ونحن مع الأستاذ الدكتور فى أن دراسة الآداب الأخرى توسع آفاقنا الفكرية والفنية والذوقية دون ريب، بَيْد أن هذا لا يسوّغ الحكم القاسى الذى أصدره على من لا يعرفون أدبا أجنبيا، إذ كيف يقال إن الإنسان لا يستطيع، مهما كان عالما فى لغته، أن يفهم هذه اللغة وأدبها إلا إذا عرف أدبا أجنبيا؟ لا شك أن معرفته بلغته وأدبها ستزداد عمقا لو عرف لغاتٍ وآداباً أخرى، لكن هذا شىء، والقول بأنه بدون ذلك لن يستطيع أن يحسن فهم لغته شىء آخر لا نملك أن نوافق عليه.
    أما بالنسبة لتفاصيل المنهج الذى يدرس به الدكتور النويهى الشعر الجاهلى ففى رأيه أنه لا بد من الاستعانة بكل ما يساعد على فهمه وفهم نفسية قائليه والبيئة الجغرافية التى عاشوا فيها والظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية التى أحاطت بهم. وهذا يتطلب من الدراس ألا يقتصر على العلوم الأدبية وحدها بل عليه ان يتسلح أيضاً بالكتب الخاصة بجغرافية بلادهم وتلك التى وضعها الرحّالون الذين تجولوا فيها وعاشروا أهلها طويلا ودرسوا أحوالهم وأوضاعهم، وكذلك أسفار العهد القديم. ومن المؤكد أن المساعدة التى يمكن أن نجنيها فى هذا المجال من النوعين الأولين من الكتب المذكورة هى مساعدة قيمة، لكنى لا أستطيع أن أبصر الفائدة التى يمكن أن نحصدها من دراسة العهد القديم، فإن ظروف اليهود، كما تتبدّى فى ذلك الكتاب، تختلف عن ظروف العرب كثيراً، كما أن بيئتهم تُغاير البيئة العربية. وحتى عندما كانوا يعيشون فى صحراء سيناء كانت أوضاعهم غير أوضاع العرب فى باديتهم وحواضرهم، فلم يكن عندهم رعى ولا زراعة ولا غارات متبادلة، إذا لم يكونوا قبائل متفرقة تتناحر على الماء والمرعى بل كانوا جماعة دينية محدودة العدد ومكفولة الطعام والشراب وتتبع نبياً وقائداً واحداً هو موسى عليه السلام. وفوق ذلك فإن الأستاذ الدكتور أثناء شرحه ونقده للأشعار الجاهلية فى كتابه قد استعان مراراً بكتب العلوم الطبيعية عند حديثه عن الأنواء والنجوم ومواسم لقاح الحيوانات وغير ذلك، ومع هذا فقد نسى أن يذكر هذا الضرب من الكتب مع ما ذكره من الكتب الأخرى
    [6].
    فإذا جئنا إلى تحليله للنصوص الشعرية التى اختارها للنقد والتذوق رأيناه يهتم بوجه خاص بالجانب الموسيقى والجانب التصويرى ويركّز عليهما تركيزاً شديداً، وإن لم يُغْفِل فى ذات الوقت دراسة البنية الشاملة أو التركيب العام للقصيدة.
    وهو يتطلب من القارىء المشاركة الإيجابية مع الناقد، وذلك باستحضار الخيال البصرى والسمعى
    [7]، كما يشترط عليه الفهم التاريخى والاجتماعى لبيئة الشاعر، لأن الشاعر لا بد أن يتأثر ببيئته، وإن لم يكن هدفه التسجيل التاريخى لما يتحدث عنه رغم أن القيمة التاريخية لأشعاره قد تتفوق على قيمتها الفنية كما يقول[8].
    ولا يكتفى الدكتور النويهى بذلك بل يستعين فى الشرح والتوضيح وتقريب المعانى إلى القارىء بأحداث الحياة اليومية المعاصرة والتعبيرات العامية أو بالمقارنة باللغة الإنجليزية وأدبها فيما هو إنسانى عام لا يخضع لظروف الزمان والمكان. كذلك فهو كثيراً ما يلجأ إلى الوصف الحارّ المفصَّل لشعوره الشخصى وانطباعاته الذوقية التى يحسُّها أمام تعبير أو صوره ما فى القصيدة التى يتناولها، بل إنه لا يتحرج من الحديث عن ذكرياته الشخصية مهما تكن خصوصيتها. وهو دائما ما يوطّىء لنقده بالشرح اللغوى لما فى القصيدة من ألفاظ وعبارات وتراكيب صعبة.
    ولنبدأ بالموسيقى أو (كما يقول) الجانب السمعى فى الشعر. وموسيقى الشعر عنده ليست هى البحور والتفاعيل فحسب بل يَشْرَكها فى ذلك، وربما يتقدم عليها، الكلماتُ ومقاطعها وحروفها وجَرْس هذه الحروف والنغم الناشىء من تواليها على نحو معين أو من تكررها فى الكلمات المتجاورة أو المتقاربة وعلاقة ذلك كله بالمعنى الذى يريد الشاعر التعبير عنه. وهو يسمى هذا بـــــــ ((الإيقاع الداخلى))، أما البحور فيسميها ((الإيقاع العام)).
    وفى اعتقاده أن البحور التى تكثر فيها المقاطع الطويلة توحى بالبطء على عكس البحور التى تكثر فيها المقاطع القصيرة. ومن ثم فبحر الطويل مثلا (ووزنه فعولن مفاعيلن فعولن مفاعيلن) يقع فى الأذن وقعا بطيئا متأنيا لأن كل شطر فيه يتكون من أربعة مقاطع قصيرة وعَشَرةٍ طويلة، على حين يبدو لنا بحر الكامل (ووزنه متفاعلن متفاعلن متفاعلن) أكثر سرعة وعجلة لأن الشطر منه يحتوى على تسعة مقاطع قصيرة وستة طويلة. وفى ضوء هذا نجده يناقش مدى ملاءمة كل بحر لعاطفة معينة وإنكار بعض النقاد لذلك على أساس ما لاحظوه من أن البحر الواحد يُسْتَعْمَل لمختلف العواطف. وهو، رغم موافقته على هذه الملاحظة، يسارع قائلاً إن البحور، وإن لم تختص بعواطف معينة، فإنها تختص مع هذا بدرجات بعينها من العواطف المختلفة: فبحر الطويل مثلا بإيقاعه البطىء الهادىء نسبيا يلائم العاطفة المعتدلة الممتزجة بقدر من التفكير والتملى سواء أكانت حزنا أم سروراً، فى حين ينسجم بحر الكامل مع العاطفة القوية النشاط والحركة سواء أكانت فرحة قوية الاهتزاز أم حزنا شديد الجلجلة
    [9]، وبالمثل يناقش مدى ملاءمة حروف الرَّوِىّ لعواطف بعينها فيذكر أنه قد لاحظ كثرة ورود العين فى الشعر القديم رَوِياً فى المراثى مما يدل على أن فى جرس هذا الحرف مرارة تناسب معانى الوجع والجزع والفزع والهلع، كما أن روىّ السين يكثر فى القصائد التى تعبر عن الأسف والأسى والحسرة. بل إنه ليذهب مثلا إلى أن الروى المضموم يوحى بغلظة الشاعر الذى يكثر من استعماله على عكس نظيره المكسور الذى يوحى بالرقة[10].
    والواقع أن هذه مسائل على جانب كبير من الأهمية. وقد تكون ملاحظات الدكتور النويهى صحيحة، لكن لا بد أن تقوم أحكامنا فى مثل تلك الأمور على استقراء كامل ودقيق لا على الملاحظات الانطباعية التى يبدو أنها هى كل عماد الأستاذ الدكتور، وألا يقتصر هذا الاستقراء على شعر عصرٍ واحد من العصور لأن البحور الشعرية ليست خاصة بالعصر الجاهلى وحده. إننا لا نقلل هنا من انطباعات مثل هذا الناقد الكبير، بل كل ما نريده هو أن نتحذ من تلك الانطباعات منطلقا للتحقق مما يقوله حتى نُرْسِى آراءنا ونتائجنا وأحكامنا على أساس علمى متين.



    وبالنسبة لتردّد الحروف والحكاية الصوتية نراه يضرب بعض الأمثلة على ذلك ويسوق مما كتبه لُغَوِيّونا القدماء الشواهدَ التى تعضد ما يقول
    [11]. ومن الأمثلة التى أوردها على تكرر الحرف فى البيت الواحد وإيحائه بمعنى معين قول المتنبى:
    ومَنْ عَرَفَ الأيّامَ معرفتى بها وبالناس روَّى رُمْحَه غير راحمِ
    حيث تردَّد حرف الراء أربع مرات موحيا بوخزات الرمح الذى يريد الشاعر أن يغرسه فى جسم أعدائه حتى ليخيل لنا ان هذا الرمح يزداد إيغالاً فى الجرح مع كل راء. ومن الأمثلة أيضاً بيت الأعشى الشهير:
    وقد غدوتُ إلى الحانوت يَتْبَعُنى شاوٍ مِشَلٌّ شَلُولٌ شُلْشُلٌ شَوِلُ
    الذى يرى الأستاذ الدكتور فى كثرة شيناته إيحاءً بالسُّكْر وحديث السكارى المتعلثم الذى تنقلب فيه كل سين شينا
    [12].

    ويبدو لى أن عماد الأمر فى ذلك التحليلِ هو الذوق الشخصى، إذا من الممكن أن يعترض ناقد آخر بأن الراء، وبخاصة فى بيت المتنبى الذى وردت فيه فى كل أحوالها متحركة، لا تناسب الوخز والطعن، فهل نستطيع عندئذ أن نقول له: أخطأت؟ وإذا قلنا له ذلك فعلى أى شىء نستند؟ وبالمثل يمكن أن نقول عن بيت الأعشى إنه إنما يتحدث عن ذهابه إلى الحانة، أى قبل أن يبدأ الشُّرْب ويَسْكَر، ومن ثم فكيف تكون هناك صلة بينه وبين أحاديث السكارى المتلعثمة؟ فضلاً عن أن تتابع الكلمات التى تبدأ بحرف الشين فى البيت لا يمثل أية صعوبة فى نطقها بل ينزلق اللسان عليها انزلاقاً، وهو ما يخالف نطف السكارى تماماً.
    وقد يكون من المفيد أن نشير إلى ما قاله الأستاذ الدكتور فى موضع آخر من نفس الكتاب عن تكرار حرف الراء الممدود بالألف فى بيتٍ لزُهَيْر حيث ذكر أنه يقوَّى بجَرْسه ما فى الأبيات التى حوله من شعور الأَرْيَحيّة
    [13]. ولا ريب أن شعور الأريحية يناقض شعور الحقد والتشفى بطعن الأعداء. كذلك تنبغى الإشارة أيضا إلى ما قاله عن حكايات حرف الشين المتكرر فى البيت التالى لعلقمة بن عبدة لما يشيع فى مجالس الشراب من ((شوشرة)) ناجمة عن اختلاف الأصوات المختلفة من حديث وضحك وصياح وموسيقى وغناء، دون أن يذكر شيئا عن التواء ألسنة السكارى بحرف الشين، مع أننا هنا فى قلب مجالس الشراب بين السكارى كما يقول البيت لا فى الطريق إلى الحانة قبل أن يبدأ الشُّرْبُ ويقع السُّكْر. وهذا نص البيت المذكور:
    قد أَشْهَدُ الشَّرْبَ فيهم مِزْهَرٌ رَنِمٌ والقومُ تصرعهم صهباءُ خُرْطومُ
    [14]

    أما عن حكاية الحركات للمعنى فمن أمثلتها عند الدكتور النويهى تكرر الضمّات فى قول الأعشى:
    هِرْكَوْلةٌ فُنُقٌ دُرْمٌ مرافقها
    الذى يصف فيه امرأة سمينة ضخمة الأوراك ممتلئة الذراعين بالشحم، إذ يقول إن هذه الضمّات ترغم القارىء على أن يمطّ شفتيه إلى الأمام ويكوّرهما تكويرات متعاقبة فى هيئةٍ تحكى الصورة الضخمة المتكورة التى فى بيت الأعشى. وهو يذكّرنا هنا بما كان يفعله إسماعيل يس، رحمه الله، عندما يمطّ شفتيه ويكوّرهما
    [15]. ولكن من قال إننا حين ننطق حرفا مضمونا نمطّ شفاهنا ونكوّرها مثل إسماعيل يس؟ والطريف أنه لم تمرّ إلا سطور قلائل حتى أورد الأستاذ الدكتور بيتا لزهير تتكرر فيه الضمات فى شطرة الثانى قائلاً إنها تصوّر حرة الناقة حين تمدّ رقبتها إلى الأمام ذعرا من السائق الذى يلاحقها من الخلف مهدّدا إياها بالضرب، وهذا هو البيت:
    وخلفها سائق يحدو إذا خَشِيَتْ منه اللحاقَ تَمُدّ الصُّلْبَ والعُنًقا
    [16]
    ولا مُشَاحَّة فى أن ضخامة جسم المرأة وامتلاء ذراعيها وأوراكها بالشحم شىء مغاير تماماً لمدّ الناقة صُلْبَها وعنقها.
    وتبقى من الوسائل الموسيقية فى القصيدةِ المقاطعُ، التى يقسمها الأستاذ الدكتور إلى مقاطع قصيرة (وهى أى حرف عليه حركة مثل: بَ، جِ، عُ) وأخرى طويلة، وهذه تنقسم بدورها إلى مقاطع مقفلة مثل ((قَدْ، فِرْ، هُسْ)) ومقاطع مفتوحة مثل ((ما، فى، ذو)). وهو يرى أن المقاطع المفتوحة تسمح بترجيع النغم وتطريبه، فى حين تسمح المقاطع المقفلة بتأكيد الجَرْس الصوتى للحرف الساكن. وهو يستشهد ببيت المتنبى الذى يقول فيه:
    ولا تحسبنّ المجد زقّا وقَينَةً فما المجد إلا السيف والفتكةُ البِكْرُ
    على انسجام المقاطع المقفلة التى تشيع فى البيت من انفعال الشاعر ودعوته إلى الفتك وتمزيق اللحم بضربات وطعنات قاسية. وهذه قد نوافقه عليها، إلَّا أننا سرعان ما نراه يعقب على كثرة المقاطع المفتوحة فى البيت الذى يلى ذلك، وهو:
    وتضريب أعناق الملوك وأن تُرَى لك الهبواتُ السُّودُ والعسكر المَــجْرُ
    بقوله إن هذه المقاطع ((أكبر تمثيلا لما يريد (المتنبى) تصويره من حركات السيف الواسعة الكاسحة التى تمتد فيها الذراع إلى أقصى اليمين وأقصى اليسار تطيح بأعناق الملوك فى كل جهة... إلخ))
    [17].
    وإننا لنتساءل: على أى أساس فَرَّق الدكتور النويهى، رحمه الله، بين الطعن بالسيف فى البيت الأول وبينه فى البيت الثانى فجعل حركات السيف فى الأول ضيقة المجال وجعلها فى الثانى واسعة كاسحة؟ ثم أيخلو البيت الأخير من رغبة الشاعر فى الفتك وتمزيق اللحم بضربات وطعنات قاسية؟ لا أظن الإجابة يمكن أن تكون إلا بــــــ ((لا)). إن المشكلة هى فى أن الأستاذ الدكتور يسرف فى استنطاق موسيقى المقاطع والحروف وحركاتها ويحمّلها فوق طاقتها، ولو كان اقتصد فى ذلك لوجد كثيرا ممن يوافقونه على ما يقول. والواقع أن له لمحات مدهشة فى هذا الباب كقوله إن كلمة ((مستشزرات)) (فى بيت امرىء القيس المشهور) التى عابها النقاد بأن بين حروفها تنافرا يجافى الفصاحة هى على العكس من ذلك دليل على براعة الشاعر، لأن ما فيها من تعقيد يوحى بتعقيد التسريحة النسائية التى يصفها. ومثلها فى ذلك كلمة ((متعثكل)) فى وصف ذلك الشاعر لشَعْر محبوبته أيضاً
    [18]. ومن هذه اللمحات أيضاً تنبهه إلى دور حرفى السين والفاء الساكنين عند نهاية تفعيلتين متجاورتين فى بيت تأبَّطَ شَرّا التالى الذى يصوّر فيه السرعة العظيمة التى كان ابن عمه يتصف بها:
    ويَسْبق وَفْدَ من حيث ينتحى بمُنْخَرِقٍ من شدَّه المتدارِكِ
    فى الإيحاء بعصف الريح واحتكاك جسم ذلك العدّاء بالهواء أثناء عدوه السريع
    [19].
    وبهذا ننتهى مع ناقدنا الكبير من الجانب السمعى فى الشعر، وننتقل إلى الجانب البصرى. وهو يقول إن من أهم الخصائص التى تميز الشعر الجاهلى أنه ((انطباع بصرى يلعب الخيال البصرى دوراً عظيما فى بنائه وتكوينه))، وإن حاسة البصر قد بلغت عند الشعراء الجاهليين من الدقة والإرهاف مدىً عجيباً
    [20]. ويمضى فيبين الفرق بين أن نفهم جملة: ((أناخ الأعرابى جَمَله ووضع عليه الرَّحْل ثم ركبه)) فهما عقليا كُلّيا لا نتوقف فيه عند تفصيلات الخبر لنحقق الصورة التى ترسمها الجملة بل نكتفى بالمعنى الإحمالى المجرد وبين أن نتخيل المنظر الموصوف تخيلا بصريا بكل تفاصيله ودقائقه فنتتبع تعاقب الأحداث ونتأمل ترتيب الأجزاء بخيالنا البصرى. ثم ينتقل من ذلك إلى القول بأنه يجب على قارىء الشعر الجاهلى أن يشغَّل مخيلته البصرية وأن يمرّنها على ذلك حتى تسهل استجابتها لما فى ذلك الشعر من صور بصرية[21]. وهذا كلام مهمّ ومفيد، وإن كنّا نرى أن الشاعر الموهوب، ببراعته فى الوصف والتصوير، هو الذى يقدح شرارة التخيل البصرى عند القارىء ولا يحوجه إلى إعنات ذهنه فى ذلك، وهو نفسه ما أشار إليه الأستاذ الدكتور بعد ذلك بصفحات[22]. على أن الشاعر الجاهلى لم يكن موهوبا فقط فى رسم الصور التى تثير الخيال البصرى بل كان بارعا أيضاً فى رسم الصور التى توقظ الخيال السمعى كما يقول الدكتور النويهى، فالشريط الذى ينتجه ليس شريطا صامتا بل هو شريط ناطق. وهو يمثل لهذا وذاك بأبيات زُهَيْر بن أبى سُلْمَى التى يصف فيها عملية استقاء من إحدى الآبار مصوّرا حركة الناقة التى ترفع الدلو من تلك البئر وحركة البكرة التى ينزلق عليها حبل الدلو وحركة إفراغ الدلو فى الجدول وحركة الضفادع فى نُقَر الماء المحيطة بأصول النخل وصوت القابل الذى يتلقى الدلو ويفرغ ما فيه من ماء فى الجدول[23]. لكن الأستاذ الدكتور يضيف إلى أبيات زهير ما ليس فيها، وذلك حين يتحدث عن صرير البكرة وصياح السائق بالناقة يحثها واندفاق الماء فى الحياض وصوت ارتطام الضفادع بالماء وفزعها وخروجها منه ثم قفزها فيه مرة أخرى[24]، إذ ليس فى الأبيات إشارة إلى شىء من هذا، بل الذهن الحاد لدى بعض القراء هو الذى يتخيله. فهذا راجع إذن إلى شدة النشاط الذهنى لدى القارىء[25] لا إلى فن الشاعر.
    أما بالنسبة لبناء القصيدة الجاهلية وتركيبها العام كما يقول الأستاذ الدكتور فإنه يبدأ حديثه فيه بالتساؤل التالى: ((ما بال هذا النسيب تُفْتَتَح به معظم القصائد الجاهلية وتُكَرَّر فيه تجربة الفراق إلى درجة تثير الملل فى كثير من القراء المحْدَثين وتحملهم على التشكك فى صدق الشعراء وفى أصالتهم؟)). وهو يجيب قائلا إنه كان يأخذ بالتفسير البسيط الذى يتبادر إلى الذهن من أن ذلك النسيب ليس إلا انعكاسا صادقاً لطبيعة ذلك المجتمع الذى كان النمط الرعوى من الحياة هو النمط الغالب عليه فى تنقله الدائم وراء الماء والكلإ وأنه كثيراً ما كان يحدث أن تتراضى قبيلتان على التشارك فى ماء واحد فتقوم صداقات ومَوَدَّات وعلاقات غرامية بين شبان من هنا وفتيات من هناك، ثم إذا ابتدأ الماء يشحّ وَجَدَتْ إحدى القبيلتين أنه لا مفر من الرحيل بحثا عن ماء كافٍ، وعندئذ يحدث الفراق بين المحبّين وما يتبعه من ألم. كما يقع أيضاً أن يمرّ العربى فى تنقلاته المستمرة بمكان كان قد أقام فيه مع قبيلته منذ أعوام فيقف عنده متفرسا فى الآثار التى تركتها القبيلة وراءها وتنثال عليه الذكريات ويستغرق فى التفكير فى محبوبته... إلخ. وهذا التفسير البسيط، كما يقول د. النويهى، هو الذى أقام عليه ابن قتيبة تعليله المشهور لبدء القصائد الجاهلية بالنسيب، لكن أحد المستشرقين الألمان فى أوائل الستينات قدم تفسيرا آخر مُفَاده أن شعراء الجاهلية لم يكن همهم وصف الأطلال أو الحنين إلى حبهم الضائع بل الحديث عن المشكلة الوجودية الكبرى التى يبحثها الفلاسفة والأدباء الوجوديون فى عصرنا هذا، وهى ((اختبار القضاء والفناء والتناهى)). وهذا هو السبب فى رأيه فى أن افتتاح القصائد بالنسيب قد قلّ بعد الإسلام، إذ إن الإيمان بذلك الدين قد حلّ لهم تلك المشكلة الوجودية. لكن الدكتور النويهى لا يقبل هذا التفسير، وذلك بناءً على القاعدة العلمية المعروفة بــــــ ((قانون أقل الفروض)) كما يقول، والتى تطالبنا بألا نتجاوز أى تفسير بسيط لمجرد بساطته إلى آخر معقد لمرجد تعقيده ما دام الأول كافيا فى تعليل جميع الظواهر الملحوظة. وقد رأى أن تفسير المستشرق فالتر براونه إنما يضيف أسماء ومصطلحات عصرية إلى شعر تختلف ظروفه وظروف منشئيه عن ظروفنا العصرية وظروف الفلاسفة والأدباء الوجوديين دون أن يقدم فى نفس الوقت أى تنوير أو يستوفى أى تعليل لتلك الظاهرة الفنية
    [26].
    وعند تناوله لعينيّة الحادرة ((بَكَرَتْ سُميّة)) يلاحظ د. النويهى أن هذا الشاعر بعد أن يصف الديار كعادة كثير من شعراء عصره يرتد إلى ذكريات الماضى مستعيداً أطرافا من حُلْوها ومُرّها ولمحات من مفاتن محبوبته. ويصف ناقدنا هذا الصنيع بأنه هو نفسه الـــــ ((فلاش باك)) المعروف فى السينما والقصة العصرية
    [27]. كما يعلق الأستاذ الدكتور على انتقال الحادرة بعد ذلك من النسيب إلى الفخر (وهما موضوعان يبدو ربط الشاعر بينهما سطحيا ساذجاً فى رأيه) بقوله إننا ينبغى أن نتخلص بعض الشىء من ذوقنا الحديث الذى يتطلب فى الشعر الوحدة الفنية وأن نقيس الشعر الجاهلى بمقاييسه، وما دام الشعراء القدماء لم يكونوا يعرفون هذا الذى نعرفه فمن الظلم أن نطالبهم به. كذلك فإذا كان الفخر لا يرضى أذواقنا الآن فلا ينبغى أن نعده عيبا فى شعرنا القديم، إذ يكفى أنه يعبر عن تجربة شعورية صادقة ويلبى حاجة جماعية فى ذلك المجتمع. على أنه يمضى فيقول إن الربط بين النسيب فى تلك القصيدة وأبيات الفخر التى تلته هو، على سطحيته وسذاجته، لا يخلو فى ذاته من لطف ورعاية للمرأة، لأن الشاعر فى فخره يتوجه إلى حبيبته التى نَسَب بها فى مقدمة قصيدته، ((فهو يدل على أنه يعتقد أن المرأة مخلوق يستحق أن يُتَّخَذ ندّاً يوجَّه إليه الحديث فى غير الشؤون الغرامية، فى الشؤون العامة التى تتعلق بمشاكل القبيلة ومطامحها))[28].
    على أن ناقدنا يعود إلى هذا الموضوع فى مكان آخر من كتابه فيقول إن الشاعر الجاهلى كان عظيم القلق سريع الانتقال من النقيض إلى النقيض فى موضوعات قصائده، وإن السرّ فى هذا القلق هو رهبة الجاهليين من حقيقة الموت الفظيعة وعدم امتلاكهم لإيمان يُعْليهم عليها ويشجعهم على مواجهتها
    [29]. ثم يعود إليه فى مكان ثالث من نفس الكتاب مخالفاً ما يقوله د. طه حسين من أن قصائد الشعر الجاهلى قد تحققت لها الوحدة المعنوية، أما إذا وُجِد فيها تفكك أو اضطراب فمرجعه إلى قصور ذاكرة الرواة. وحجته فى هذه المخالفة هى أن التتابع المنطقى قد يكون متحققا فى أبيات القسم الواحد من القصيدة الجاهلية، لكن هذا وحده غير كاف، إذ لا بد أن يكون هناك نموّ عضوى وتطور مطّرد بين أقسام القصيدة، وهذا النمو والتطور شىء آخر غير ما يعرف فى نقدنا القديم بــــــ ((التئام الأجزاء)) و ((حسن التخلص)) و ((حسن الختام)). وفى اعتقاده أن مما ساعد على تفكك القصيدة الجاهلية اهتمام الشعراء القدماء بأن يمثِّل البيتُ المفردُ وحدةً لفظية ومعنوية، وقيام الشكل العَروضىّ للقصائد على وحدة الوزن والقافية، وهى وحدة شكلية انخدع بها الشاعر الجاهلى وظن أنها كافية فى تحقيق الوحدة الداخلية المبنية على وحدة الباعث العاطفى ووحدة الهدف الفنى[30]. ومع ذلك كله يعود الدكتور النويهى ليؤكد ((أننا نسرف إسرافا كبيراً إذا تعسفنا فى مطالبة الشعر القديم بما نفهمه الآن من الوحدة))، فهذا مفهوم لم يدركه الشعراء القدماء ولم يشعروا بالحاجة إليه على عكس شعرائنا ونقادنا المحدثين، وعلينا أن نحاول ((تذوق الأدب القديم قى حدود الخاصة... منفقين أقصى مقدرتنا التعاطفية والتخيلية فى تعمقه وتذوقه والاستجابة له))[31]. أما الوحدة الحقيقية فى القصيدة الجاهلية فى نظره فهى ما يسميها ((الوحدة الحيوية))، وهى تقوم على نُبُوع أقسام تلك القصيدة كلها ((نبوعا صادقا مخلصا من نفسيه قائلها مهما يكن فى هذه النفسية من تبدل المزاج وتناقض الغايات)) وعلى وجود عاطفة مسيطرة متحدية لكل ما تلقاه من هموم تتبدى فى ((نظرة الشاعر الحيوية وتقبله لشتى تجارب الحياة على اختلافها وتناقضها أحيانا)) و ((انتهازه كل فرصة لينفجر بنشاطه ومرحه حتى من خلال أبياته الحزينة))[32].
    هذا تخطيط عام لمنهج الدكتور محمد النويهى فى دراسة الشعر الجاهلى أرجو أن أكون قد وُفَّقت فيه. وإذا كنت قد خالفته فى بعض النقاط فذلك لا ينال من أستاذيته التى تعلمنا منها الكثير والتى يشدنا إليها بوجه خاص هذه العناصر الشخصية التى تنبثّ فى نقده فتجعل له طعماً خاصاً، علاوة على أسلوبه المتدفق الرائع القريب من النفس والذى لا يتحرج أن يقرّبه رغم فخامته من لغة الحياة اليومية إذا ما اقتضت الظروف ذلك.



    [1] انظر د. محمد النويهى/ الشعر الجاهلى- منهج فى دراسته وتقويمه/ الدار القومية للطباعة والنشر/ 1/ 27-28.

    [2] الكلام هنا عن النقد العربى السابق على كتاب د. النويهى وليس النقد الحداثى المنتشر كالوباء هذه الأيام والذى هو فعلا جعجعة بلا طِحْن.

    [3] المرجع السابق/ 1/ 21-22.

    [4] السابق/ 1/ 22-24.

    [5] 1/ 386-393.

    [6] انظر 1/ 140-141، 289، 349، و 2/ 378-379، 543 على سبيل المثال حيث يتحدث عن الطريقة التى تتنفس بها الضفادع وعن سبب انتفاخ عروق البشر وبروزها تحت الجلد مع تقدم العمر وعن سقوط قرون الوعل بعد انصرام موسم الإخصاب وعن الأنواء عند العرب.

    [7] 1/ 108-110، 121، 146-147.

    [8] 1/ 209-211.

    [9] 1/ 60-61.

    [10] 1/ 63-64.

    [11] اعتمد الأستاذ الدكتور هنا على كتاب ((الخصائص)) لابن جنى اعتمادا واسعاً، وإن كان قد أشار عَرَضا إلى الثعالبى والباب الذى عقده للأصوات وحكايتها فى كتابه ((فقه اللغة)) أيضاً، كما نبَّه إلى ما تقوله كتب البلاغة فى اللغة الإنجليزية عن ((onomatopoeia)). ومما قاله ابن جنى أن العرب قد جلعت مثلا ((الخَضْم)) لأكل البطيخ والقثاء وما أشبه، على حين جعلت ((القَضْم)) للصلب اليابس كالشعير، وذلك لأن الخاء رخوة فناسبت الرَّطْب، والقاف صُلْبة فناسبت الصُّلْب، مثلما جعلوا ((النضح)) للماء الضعيف، و ((النضخ)) للماء القوى الذى تتفجرّ به العيون لما فى الخاء من غلظة وما فى الحاء من رقة 01/ 70-71). وهذا الكلام موجود فى ((الخصائص)) فى ((باب إمساس الألفاظ أشباه المعانى)) (/ 1/ 157-158/ دار الهدى للطباعة والنشر/ بيروت/ تحقيق محمد على النجار). وهذا مما تميل النفس إلى قبلوه، لكن ابن جنى يبالغ كثيراً عندما يحاول أن يجد فى حروف ((بَحَثَ)) مثلاً دلالة على معنى الفعل قائلاً إن ((الباء لغلظها تشبه بصوتها خفقة الكفّ على الأرض، والحاء لصَحَلها تشبه مخالب الأسد وبراثن الذئب ونحوها إذا غارت فى الأرض، والثاء للنفث والنبث فى التراب... إلخ)) (الخصائص/ 1/ 162-163، والشعر الجاهلى/ 1/ 74)، إذ من السهل أن يعترض معترض فيقول: إن خفقة الكف على الأرضِ تشبه عندى حرف القاف مثلاً. أو الطاء، بينما يُشْبِه غؤور براثن الذئب حرف الخاء أو الفاء أو الشين. ترى هل هناك معيار جازم لإثبات هذا أو نفيه؟ لا أظن. وبرهان ذلك هو الكلمات المترادفة، إذ تختلف حروف كل كلمة عن مرادفاتها رغم دلالتها جميعاً على المعنى ذاته أو معانٍ جدّ متقاربة. وهذا إن سلَّمنا بأن ((البحث)) لا يكون إلا فى التراب أو بأن أول بحث وقع عليه التعبير كان فى التراب وعلى النحو الذى يصفه ابن جنى، وهو ما لا نسلّم به. فالبحث كما يكون فى التراب يكون أيضاً فى آلاف الأماكن والأشياء الأخرى وبطرق تختلف عن الطريقة التى وردت فى كلام ابن جنى. وبالمثل تدلّ كلمات الأضداد على فساد رأى هذا اللغوى الكبير، حيث الحروف هى هى وترتيبها هو هو، ومع ذلك تدل على معانٍ متناقضة.

    [12] 1/ 66-68.

    [13] 2/ 499.

    [14] 1/ 88، 90-91.

    [15] 1/ 48-49.

    [16] 1/ 50.

    [17] 1/ 51.

    [18] 1/ 44-45.

    [19] 1/ 82-84.

    [20] 1/ 108.

    [21] 1/ 109 وما بعدها، 121، 161.

    [22] 1/ 127-128.

    [23] وهى الأبيات التى تبدأ بقوله:
    كأن عينىَّ فى غَرْبَىْ مُعتّلَةٍ من النواضح تسقى جنةً سُحُقا

    [24] 1/ 138.

    [25] ليس أى قارىء بل قارئاً شديدَ رهافةِ الحسّ كالدكتور النويهى نفسه.

    [26] 1/ 149-156. وغنى عن القول أن ملاحظة براونه عن قلة افتتاح القصائد بالنسيب بعد الإسلام ملاحظة غير صحيحة. وبحقٍّ يصفها د. إبراهيم عبد الرحمن محمد بأنها دليل على أن براونه لم يقرأ شعر الإسلاميين قراءة جيدة ( د. إبراهيم عبد الرحمن محمد/ الشعر الجاهلى- قضاياه الفنية والموضوعية/ مكتبة الشباب/ 188/ هــ3).

    [27] 1/ 175-176.

    [28] 1/ 212-213، 216.

    [29] 1/ 418.

    [30] 2/ 438-442.

    [31] 2/ 443-444.

    [32] 2/ 451-452، 458، 459-460.

    التعديل الأخير تم بواسطة إبراهيم عوض ; 11/05/2022 الساعة 01:37 AM

+ الرد على الموضوع

الأعضاء الذين شاهدوا هذا الموضوع : 0

You do not have permission to view the list of names.

لا يوجد أعضاء لوضعهم في القائمة في هذا الوقت.

المفضلات

المفضلات

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •