القرآنيون:
خبث وخبل وشذوذ
د. إبراهيم عوض
ثمة فريق يوهمون المسلمين بأنهم ينتسبون إلى الإسلام ويسمّون أنفسهم بــ"القرآنيين"، وما هم فى الحقيقة من القرآن فى قليل أو كثير، قد تكاثروا كالعفن فى الآونة الأخيرة وطلعوا علينا بشاذٍّ من الأمر مؤداه أن الاهتمام بالأحاديث النبوية وبالأخذ بما فيها إثم شنيع يُخْرِج صاحبه عن الملة، إذ يزعمون أن فى هذا إشراكا بالله، لأن من شأنه تنزيل الرسول منزلة الله سبحانه. والرسول، فى زعمهم، إنما هو مجرد وسيط أتى ليبلغ القرآن وكفى، ثم لا دور له بعد ذلك. ويتناسى هؤلاء أن القرآن كثيرا ما ينزل بالحكم عاما دون تفصيلات أو تخصيصات أو استثناءات أو توضيحات، فتأتى الأحاديث وتكمل الباقى. خذ مثلا الصلاة: ترى كيف نؤديها؟ وماذا نقول فيها؟ وما عدد ركعات كل واحدة منها؟ وما مواقيتها؟ وهل هناك صلوات أخرى غير الصلوات المفروضة؟... وغير ذلك من الأسئلة والاستفسارات التى لا يجد المسلم عنها جوابا فى كتاب الله، أما فى الحديث فالجواب متاح لمن يريده. وخذ كذلك آيات الزكاة: فكيف يخرج المسلم زكاته؟ وما نصاب هذه الزكاة؟ وما نسبتها إلى ماله؟ وهل الزَّكَوَات كلها شىء واحد؟ أم هل تختلف حسب نوع المال المزكَّى عنه؟ وهل لا بد من إخراجها عَيْنًا؟ أم هل من الجائز أن نخرجها نَقْدًا؟ وخذ أيضا قوله تعالى: "والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما..."، وقل لى: ماذا نصنع معه؟ أنقطع يد كل سارق؟ أم لا بد من توفر شروط بعينها قبل أن يجوز إيقاع تلك العقوبة عليه؟ ثم كيف يتم قطعها؟ ونفس الشىء يقال فى الزنا والزناة. بل عندنا الحدود بوجه عام، فيا ترى ماذا ينبغى أن نعمل فيها؟ هل نطبقها فى كل الأحوال حتى لو كان هناك شك، أو علينا أن ندرأها بالشبهات؟ الجواب فى الحديث وليس فى القرآن. ثم إن ثمة تشريعات لم يتعرض لها القرآن الكريم، وتعرضت لها السنة النبوية كالنهى عن قطع الأشجار أو تعذيب الحيوان أو قضاء الحاجة فى الماء الراكد أو فى طريق الناس، والأمر بطلب العلم وجعله فريضة وأخذ رأى الفتاة فى من يتقدم طالبا الزواج منها، ونصيحته صلى الله عليه وسلم لمن يريد الزواج بامرأة ما أن ينظر إليها قبل أن يقدم على الارتباط بها حتى يُؤْدَم بينهما. فكيف يصح بعد هذا أن نهمل مثل تلك الأحاديث استنادا إلى هذه الشبهات الضالة المضلة؟ وفوق هذا ففى أقاويل النبى كثير من الحكمة والعبقرية التى نحن أحوج ما نكون إلى التعرف إليها والعمل بما فيها والإفادة منها. وقبل ذلك كله فإن الرسول قد فسر ما سأله الصحابة عنه من آيات القرآن، فهل يَسُوغ أن نلقى هذا التراث النبوى خلف ظهورنا كى نُرْضِىَ أولئك المفسدين؟ ثم إن كثيرا من آيات القرآن لا يمكن فهمها، أو على الأقل لا يمكن فهمها فهما سليما أو دقيقا، إلا إذا عُرِفَ سبب نزولها كما ذكرته الأحاديث. فهل نصر على العناد ونرفض الاستعانة بحديث الرسول هنا أيضا؟ كذلك فالأحاديث تمدنا بأشياء كثيرة عن الرسول وحياته وشخصيته وأخلاقه وتصرفاته وطريقة تعامله مع الناس وكيفية مواجهته للمواقف والمآزق المختلفة مما لا وجود له فى القرآن، الذى يميل بشكل واضح نحو الإيجاز فى مثل تلك الأمور كما هو معروف. فهل حياة الرسول وما يتعلق بها وبشخصيته وأخلاقه وتفكيره وغير ذلك هو أمر لا قيمة له لدى المسلم؟ إن الأحاديث مصدر على أعلى درجة من الأهمية لدراسة شخصيته صلى الله عليه وسلم وصدقه وعبقريته واستحقاقه للنبوة لا يمكن أن يعوض عنه أى مصدر آخر. فكيف نحرم أنفسنا بأنفسنا من مثل هذا الكنز الثمين بكل تلك البساطة؟ والنبى، عند المسلم، هو المثال الأعلى فى الخلق والسلوك والعقل والفصاحة والدعوة والتخطيط والقيادة العسكرية والزعامة السياسية، فكيف تواتى المسلمَ الحقَّ نفسُه على إهمال ذلك التراث النبوى العظيم والبدء كل مرة من جديد دون محاولة الاستفادة منه، وإلا كنا مشركين كافرين؟ ألم يأمرنا القرآن الكريم بأن نتخذ من رسول الله أسوة حسنة، فكيف يكون صلى الله عليه وسلم أسوة لنا ثم ننبذ ما كان يقوله ويفعله؟ ففى أى شىء إذن هو لنا أسوة؟ وإضافة إلى ذلك فإن الأحاديث تعرض علينا أسلوب رسول الله فى كلامه ومواعظه وخطبه ورسائله، وترينا الفرق بينه وبين أسلوب القرآن المجيد. فهى من هذه الناحية أيضا ذات نفع هائل لا يقدر بثمن لمن كان له عقل أو ألقى السمع وهو شهيد
والحق أنه لو صح هذا السخف الذى يردده أولئك المخرّبون فعلينا من باب الأَوْلَى أن نهمل كل كتب التفسير والفقه والسيرة والتاريخ، لأننا إذا كنا قد أهملنا ما ورد لنا من هذا الباب عن الرسول عليه الصلاة والسلام فالأحرى أن نهمل ما يرد لنا منه عن طريق مَنْ هم أقل منه فقها للدين وقربا من الله؟ فكيف يا ترى يقول عاقل بهذا؟
يقول من يطلقون على أنفسهم كذبا ومَيْنًا: "القرآنيون"، وهم ليسوا بقرآنيين بتاتا، بل يبغضون القرآن بغضهم للعمى، إن ما وصلنا من أحاديث رسول الله فيه الصواب، وفيه الخطأ. وتعليقنا على ذلك أن علماء الحديث، كما هو معروف، لم يقبلوا كل ما وصلهم من كلام أو فعل منسوب للرسول صلى الله عليه وسلم، وهو دليل على أنهم قد بذلوا جهودا جبارة فى تمحيص سنته الكريمة، وإن كنا لا نستطيع الزعم بأن هذه الجهود العبقرية لا يخرّ منها الماء: فهناك أحاديث صحيحة عند قوم لم يقبلها محدثون آخرون، وهناك أحاديث لا يطمئن إليها القلب لأنها تخالف ما جاء به القرآن، لكن ذلك قليل جد قليل، ولا خوف منه ما دمنا نستطيع إرجاعه إلى اتجاه الإسلام وروحه العام المستقَى من القرآن الكريم ومجموع الأحاديث النبوية.
على أن ثمة مشكلة أخرى ستنشأ من جَرّاء هذه الدعوة المريبة، ألا وهى أن المسلمين لن يتفقوا على شىء فى فهم القرآن وتطبيق مبادئه وأوامره ونواهيه بعدما رفضوا الالتزام بما جاءهم عن الرسول عليه الصلاة والسلام، إذ من الطبيعى تماما أن يرفضوا الالتزام بكلام مَنْ سواه من البشر مهما تكن منزلتهم العلمية أو السياسية، لأنهم لن يكونوا أحق منه صلى الله عليه وسلم بسمعنا وطاعتنا. ودعك من أنهم أقل منه فى كل شىء بما لا يقاس. على أن تلك الدعوة فى حقيقتها هى الخطوة الأولى فى رفض الإسلام جملة وتفصيلا، إذ بعد رفض السُّنّة سوف نسمع، بل ها نحن أولاء نسمع منذ الآن، من يدعو إلى نبذ القرآن ذاته بشبهة أنه لا يخاطب عصرنا ولا يتمشى مع معايير الدول الغربية، التى ينظر إليها كثير من أفراد شعوب العالم الثالث المنبطحين الذين فقدوا ثقتهم بأنفسهم وبأممهم وبهويتهم الدينية والقومية والحضارية على أنها هى القول الفصل، والكلمة الأولى والأخيرة. وأخيرا وليس آخرا ترى ما السبب فى هذا الإصرار الغريب على نبذ هذا التراث النبوى العظيم؟ هل يمكن أن يكون الرسول، أستغفر الله، قد قال أو فعل شيئا يناقض القرآن ويخرج على منهجه؟ الواقع أنه لا يقول بهذا إلا من كان فى قلبه دَخَل، وفى عقله خَلَل. أَوَعلينا أن نرمى قوله تعالى: "من يطع الرسول فقد أطاع الله"، وقوله جل جلاله: "ونزّلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نُزِّل إليهم"، وقوله سبحانه: "فلا وربِّك لا يؤمنون حتى يحكّموك فيما شَجَرَ بنيهم ثم لا يجدوا فى أنفسهم حَرَجًا مما قضيتَ ويسلّموا تسليما" دُبُرَ آذاننا؟ لكن هل نكون ساعتها ممن يؤمنون بالقرآن؟
وشانئو القرآن والحديث والإسلام كله جملة وتفصيلا يحاجّوننا بقوله تعالى شأنه: "ما فرَّطنا في الكتاب من شىء" (الأنعام/ 38)، "ونزَّلنا عليك الكتاب تبيانًا لكل شىء" (النحل/ 89)، متصورين أنهم يمكنهم الاستدلال به على وجوب استغناء المسلم بالقرآن عن أحاديث الرسول. وهو ما يذكرنا بالسؤال الذى كنا نسمعه فى صبانا من بعض العوام المتحذلقين، وهو: إذا كان القرآن فيه تبيان كل شىء، فكيف لم يذكر عدد الأرغفة التى تنتجها أفران مصر على سبيل المثال؟ إننا لا نشاحّ فى أن القرآن قد بيّن كل شىء ولم يفرِّط فى ذكر أى شىء، ولكن بمعنى غير ذلك المعنى العامى. إنه قد فصّل لنا القول فى ميدان العقائد حسب حاجتنا إلى ذلك، ولكنه كثيرا ما يكتفى برسم الخطوط العامة فى ميدان السياسة والاجتماع والاقتصاد مثلا ثم يتركنا نستخلص منها ما نعالج به مشاكلنا التى تتجدد مع الأيام. فهو إذن لم يتركنا فى عماية من أمرنا. وقد كان الرسول هو أول من قام بتطبيق مبادئ القرآن واستخراج الأحكام التفصيلية من مبادئه وتشريعاته العامة وتطبيقها على الوقائع التى تستجد كل يوم، فكيف يُطْلَب منا أن نهمل ما تركه لنا عليه السلام على اعتبار أنه يتناقض مع إيماننا بالقرآن، وفى ذات الوقت نأخذ بكلام كل من هبّ ودبّ ممن يكرهون القرآن والرسول والإسلام والمسلمين؟
أما زعم كارهى القرآن والحديث والإسلام جميعا بأن النبى يوم القيامة سيعلن براءته من أولئك الذين تركوا كتاب الله وهجروه جريًا وراء الأحاديث مصداقا لقوله جل جلاله: "وقال: الرسول: يا رب، إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا* وكذلك جعلنا لكل نبي عدوًّا من المجرمين، وكَفَى بربك هاديًا ونصيرًا" (الفرقان/ 30- 31) فهو تكرير للاتهامات الظالمة التى لا يَكِلّون ولا يَمَلّون من توجيهها لعلماء الحديث خاصة، والمسلمين عامة، إذ لا يوجد مسلم يستعيض بكتب الحديث عن كتاب الله، بل كل ما هناك أنها تساعدنا على فهم القرآن وتطبيق مبادئه وتشريعاته على أحسن وجه ممكن، بدلا من الانفلات فى أجواز الفضاء دون ضابط ولا رابط.
وأرجو من القراء أن يقرأوا بتمعنٍ السطورَ التالية التى نقلتها من مقال منشور فى جريدة "شباب مصر" الضوئية بتاريخ 24/ 12/ 2007م بعنوان "في الرد على الأستاذ سامر الإسلامبولى" لفرعون مسلم عز الدين التملى، والكلام فيها عن أحمد صبحى منصور زعيم أولئك المناجيس. ومنها يتضح تماما كيف أن هؤلاء المخابيل المتاعيس المناحيس قد خرجوا على كل شىء فى ديننا بدعوى تَوَقِّيهم تأليه الرسول حتى لا يقعوا فى الكفر والشرك، وكأنهم لم يقعوا فيه منذ زمن طويل، والعياذ بالله: "وترى الزعيم الأول والمفكر الفذ لجماعتهم يقرر و يقول:
1- المسلم ليس من شهد بالشهادتين، وإنما المسلم هو أي شخص مسالم حتى ولو كان بوذيا يعبد الأصنام!
2- لا يوجد كافر، ولكن يوجد "آخر" أو غير مسلم!
3- هو بشخصه أعلم من نبي الله سليمان في فهم "الزبور". انظر مقاله في تفسير سورة "النمل"، وانظر إلى الجدل الذي دار بينه وبين أ. سامر في هذا الصدد. وبالقياس فهو أعلم من رسول الله في فهم القرآن لأنه يدعو الناس لإلقاء سنة رسول الله في القمامة واتباع هراءه السائل!
4- يبيح لغير المسلم أن يتزوج المسلمة العفيفة! انظر مقاله: "الزواج من الكتابي".
5- يشجع أقباط المهجر المأجورين ويلجأ إلى الصهاينة أمثال دانييل بايبس في مخططاتهم للثورة على الدولة المصرية وتقويض الأمن والنظام في البلد تمهيدا لتدخل أمريكي واسع النطاق!".
وبعد، فأى خطإ يا ترى فى أحاديث الرسول حتى نطرحها خلف ظهورنا وكأنها جَرَب؟ نعم أى خطإ فى أحاديثه عليه السلام حتى نترك كنوزها العبقرية وننصت إلى الوساوس الشيطانية التى ينفخ أصحابها فى أنوفنا بأن الأخذ بأحاديث رسول الله أمر يخالف القرآن، بل أمر يُرْدِى صاحبَه فى الشرك، والعياذ بالله؟