• فى الاستشراق والمستشرقين
    إبراهيم عوض


    الاستشراق حقل معرفى واسع نشأ فى الغرب لدراسة الحضارات الشرقية فى آسيا وأفريقيا بكل جوانبها، كالحضارة الفرعونية والحضارة البابلية والحضارة الفارسية والحضارة الهندية والحضارة الصينية والحضارة اليابانية وحضارات القارة السوداء، وكذلك الحضارة العربية بطبيعة الحال منذ أقدم عصورها لا من أول ظهور الإسلام فحسب كما قد يظن كثير منا. فالاستشراق، كما نرى، ميدان رحب المجال متعدد الاهتمامات، ولا يقتصر، كما قد يتخيل البعض، على دراسة الإسلام بتاريخه ورجاله وبلاده وشعوبه ومذاهبه وآدابه وعلومه وفنونه وسياساته وحروبه واقتصادياته وأحواله الاجتماعية، فحضارة الإسلام ليست إلا جانبا واحدا من الجوانب التى يدرسها المستشرقون. بل إن دراسة الإسلام لا يختص بها الغربيون، إذ هناك دارسون يابانيون وهنود وصينيون مثلا يدرسونه كما يدرسه الغربيون، وإن سُمُّوا بـ"المستعربين" لأنهم شرقيون كالعرب والمسلمين فلا يقال عنهم إلا على سبيل التوسع: "مستشرقون".
    وفى صدد المجالات المعرفية التى يتخذها الاستشراق موضوعا له يقول المستشرق البريطانى آرْبرِى فى مقدمة كتابه: "المستشرقون البريطانيون"، الذى ترجمه تلميذه د. محمد الدسوقى النويهى إلى العربية إن "الاستشراق... قد تخطى حدوده إلى ميادين تنتمى فى حقيقتها إلى علوم أخرى مستقلة عنه، وإن كانت مجانسة له حتى إن المستشرق... يشارك فى عمله عالم الآثار والحفريات، والمؤرخ، وعالم الصرف والاشتقاق، وعالم الأصوات، والفيلسوف، وعالم اللاهوت، والموسيقى، والفنان". وتعليقى على ذلك هو أن المستشرق لم يتخط حدوده، إذ لو حذفنا هذه العلوم وغيرها من الميادين العلمية التى يتحرك فيها المستشرق ما بقى شىء اسمه الاستشراق والمستشرقون. فالاستشراق هو دراسة الشرق من كل جوانبه: آثارا ولغات وآدابا وأديانا وسياسات وأحوالا اجتماعية وتواريخ وجغرافيا... إلخ، ولا يوجد استشراق مجرد، بل المستشرق إما يدرس هذا الجانب أو ذاك من حضارة البلد الشرقى الذى يهتم به، وإذا لم يفعل فلن يجد لنفسه موطئ قدم بين الدارسين والعلماء. أى أنه لا يوجد مستشرقٌ غُفْلٌ بل لا بد أن يكون المستشرق مهتما بتخصص أو أكثر من تلك التخصصات.
    كذلك يورد آربرى فى تلك المقدمة ما عَرَّف به "قاموس أكسفورد الجديد" لفظ "المستشرق"، إذ قال إنه هو "من تبحر فى لغات الشرق وآدابه" معلنا أن هذا هو التفسير الذى سيأخذ به فى كتيِّبه هذا. وهو تضييق لميدان الاستشراق، فالاستشراق يدرس هذه الحضارة الشرقية أو تلك من كل نواحيها لا من ناحية اللغة والأدب فحسب، وإلا فآربرى نفسه قد ترجم القرآن الكريم وكتب عن التصوف مثلا، ولا يدخل نشاطه هذا ضمن اللغات والآداب حسب ترجمة النويهى، وهى ترجمة غير دقيقة على الأقل، أما فى الأصل الإنجليزى فقد استعمل آربرى كلمة "literature" مفردة رغم عطفها على "اللغات" جَمْعًا: " one versed in oriental languages and literature"، وهى بمعنى "الكتابات" بوجه عام لا الكتابة الفنية التى يراد بها الإمتاع بالدرجة الأولى، ومن ثم تدخل فيها كل ألوان التخصصات. ذلك أن كلمة "literature" فى الإنجليزية تعنى المعنيين جميعا. وكثير من المترجمين يقولون عنها: "أدبيات": "الأدبيات السياسية، الأدبيات الجغرافية..." مثلا، وأنا أترجمها بـ"كتابات" حتى لا تذهب العقول إلى أن المقصود هو الكتابات الأدبية الضيقة من شعر ونثر فنى يقصد بهما الإمتاع كما قلنا.
    وتعد الأهداف السياسية والدينية أبرز ما يتغياه المستشرقون عموما، وإن كان بعضهم يتعاطف مع قضايا الشرق، وقد يقف منها موقفا يعاكس موقف بلاده. بل إن بعض المستشرقين الذين يدرسون الإسلام قد دافعوا عنه وعن حضارته حتى لقد اعتنق الإسلامَ عددٌ منهم. ولكن هذا قليل وخروج عن القاعدة العامة. وهناك من المستشرقين من يتظاهر بأنه متعاطف مع الإسلام لكنه يضربه تحت الحزام. فهذا آربرى مثلا، وقد ترجم القرآن إلى لغة جونبول وقال كلاما طيبا فى حقه، يقول فى كتابه السالف الذكر إن الإسلام "هو وليد الفيافى المحرقة لجزيرة العرب وجدبائها الشاسعة ومهالكها المحرقة ومشقتها وعسرها". وهذا معناه أنه ابن البيئة وصناعة محمدية وليس وحيا نازلا من السماء مع أن الإسلام إنما ظهر فى مكة والمدينة، وهما مدينتان تملؤهما البيوت الحجرية لا بيوت الشَّعْر، ولم يظهر فى فيافى بلاد العرب كما يزعم آربرى. كما أن القرآن، وهو كتاب ذلك الدين، لا يعكس بيئة الصحراء والجفاف، بل فيه كلام عن البحار والأنهار، وعن الأمطار والنباتات والأشجار والفواكه، وأمثاله وصوره قلما تكون مأخوذه من بيئة البوادى والقفار، فضلا عن أنه يرسم الطريق لإنشاء حضارة عالمية، والقيم والمبادئ التى يدعو إليها ويعمل على إرسائها هى قيم ومبادئ إنسانية رفيعة لا يمكن أن تكون من نتاج البادية بل كثيرا ما تناقض أوضاعها وأحوالها. وآربرى يعرف ذلك تمام المعرفة، لكنه كمعظم المستشرقين يعز عليهم إنصاف الإسلام كبرًا منهم وغطرسةً ولتعارض مصالح الغرب الذى ينتمى إليه مع الإسلام وانتشار نوره فى الآفاق.
    كذلك فأسلوب القرآن يختلف تماما عن أسلوب الحديث الشريف بحيث لا يمكن القول بأن محمدا هو صاحب القرآن كما يلمز آربرى كتاب الله سبحانه. وقد وضحتُ تمام التوضيح ذلك الاختلاف فى كتابى: "القرآن والحديث- مقارنة أسلوبية"، وأضفت فى بعض كتبى الأخرى عددا من الاختلافات الأسلوبية الحادة بينهما كما هو الحال فى موضوع تكرار "بين" مع اسمين ظاهرين، وهو ما لم يحدث فى أى موضع من القرآن على حين أنه موجود على نحو ظاهر ملحوظ فى أحاديث النبى عليه السلام: "بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة"، "إنَّ اللهَ خَيَّر عَبْدًا‎ ‎بينَ‎ ‎الدُّنيا‎ ‎وبين‎ ‎ما عِنْدَه، فاخْتار ما عِنْدَ اللهِ"، "أتانى آت من ربى، فخيرني‎ ‎بين‎ ‎أن يدخل نصف أمتى الجنة ‎وبين ‎الشفاعة، فاخترت الشفاعة"، "وإنْ أُمِّر عليكم عبدٌ حَبَشى مُجَدَّعٌ فاسمَعوا له وأطيعوا ما لَمْ يُخيَّرْ ‏أحدُكم‎ ‎بَيْنَ‎ ‎إسلامِه‎ ‎وبَيْنَ‎ ‎ضَرْبِ عُنُقِه. فإنْ خُيِّر‎ ‎بَيْنَ‎ ‎إسلامِه وبَيْنَ ‏ضَرْبِ عُنُقِه فلْيمدُدْ عُنُقَه ثكِلَتْه أُمُّه"، "حِيلَ‎ ‎بينَ‎ ‎العبدِ‎ ‎وبينِ‎ ‎العَمَلِ"، "وما‎ ‎بين‎ ‎القومِ‎ ‎وبين‎ ‎أن ينظروا إلى ربهم إلا رداءُ الكبرياءِ على وجهِه ‏فى جنةِ عَدْنٍ"، "كان‎ ‎بين‎ ‎إبراهيمَ‎ ‎وبين‎ ‎أهلِهِ ما كان"، "فلَمْ أزَلْ أرجِعُ‎ ‎بين‎ ‎ربِّى تبارَك وتعالى‎ ‎وبين‎ ‎موسى عليه السَّلامُ حتَّى ‏قال: يا مُحمَّدُ، إنَّهنَّ خمسُ صلواتٍ كلَّ يومٍ وليلةٍ"، "لا يُفرَّقُ‎ ‎بين‎ ‎الرجُلِ‎ ‎وبين‎ ‎والدِه"، "فأوحى اللَّهُ إليهِ أنْ خَيِّرهم‎ ‎بينَ‎ ‎أن أنتقِمَ منهم‎ ‎وبينَ‎ ‎أن أسلِّطَ عليهِم ‏عدوَّهُم". وعلى كل حال فهناك عشرات الفروق الأسلوبية الحاسمة بين القرآن والحديث رغم أن الموضوعات واحدة، والجمهور الموجه إليه الكلام هنا وهناك واحد، والسياق التاريخى واحد، فضلا عن أن طبيعة الكلام فى الحالين واحدة، إذ ليس القرآن مثلا شعرا، والحديث نثرا، وليس القرآن بالفصحى بينما الأحاديث بالعامية، وليس القرآن وليد الاحتشاد والاستعداد المسبق فى حين أن الحديث وليد التلقائية... إلخ. وهناك أيضا الروح الإلهية السارية فى القرآن والمفتقَدة فى الحديث، فضلا عن أن شخصية الرسول وحياته الشخصية وبيته وزوجاته وذريته لا ذكر لها فى القرآن على عكس الأمر فى الأحاديث حيث نجد حياته كلها فيه واضحة مفصلة... وهلم جرا.
    كذلك لو كان الإسلام وليد الصحراء وجفافها وقحولها فكيف يا ترى شق طريقه إلى البيئات الزراعية والتجارية والصناعية وما زال يشق طريقه حتى هذه اللحظة ويغزو الغرب رغم ضعف المسلمين المزرى الآن وعدم وجود أى شىء فيهم يغرى الآخرين على متابعتهم والإعجاب بهم مما من شأنه أن يجذب الناس إلى دينهم لو كان هذا الدين هو ابن البيئة صنعه واحد منهم؟ ولقد كان الإسلام حملة شعواء على العصبيات القبلية وعلى الكهانة والخرافات والسحر والأصنام والأوثان والعدوان والتناحر وظلم الضعفاء والزنا والخمر والربا ووَأْد الوليدة وعلى ادعاء معرفة الغيب مما كان سائدا فى البيئة البدوية من حوله، وأرسى مبدا الأخوة الإنسانية، ونادى بالقيم الحضارية العظيمة مثل العلم والعمل والإتقان والنظافة والطهارة والنظام والتعاون على البر والتقوى وقيام التفاضل على أساس العمل الصالح النافع للإنسانية والمساواة بين البشر رغم اختلاف الألوان والأشكال والأمم والشعوب. وهذا كله يسير ضد قيم الصحراء والجفاف. بل إن النبى حين تحدث عن قيام الساعة قد تذكر حصريا غرس الفسيلة، وغرس الفسيلة هو من عمل أهل البيئة الزراعية الخضراء لا البادية الرملية الصفراء القاحلة. كما تحدث عليه السلام عن وجوب إحياء الأرض الموات، أى زراعتها، وشجع غاية التشجيع عليه.
    متى بدأ الاستشراق؟ بدأ الاستشراق الرسمى فى أسبانيا فى القرن السابع الهجرى (الثالث عشر الميلادى) حين اشتدت حملة نصارى الأسبان على المسلمين، إذ دعا ألفونس ملكُ قشتالة رجلَ الدين الأسكتلندى مايكل سكوت إلى دراسة حضارة المسلمين علما ودينا، فجمع سكوت طائفةً من الرهبان بدَيْرٍ قرب طليطلة، وشرعوا فى ترجمة بعض الكتب الإسلامية العربية، وقام رئيس أساقفة طليطلة ريمون لول بنشاط كبير فى ترجمة تلك الكتب. ومع مرور الزمن اتسع الأوربيون فى هذا المجال، وأنشأوا مطابع عربية لطبع كتب علمائنا القدماء التى كانت تدرَّس فى المدارس والجامعات فى بلدانهم.
    وبالمثل أنشئت كليات لتدريس اللغات الشرقية فى عواصم أوروبا فى مطلع القرن الثالث عشر الهجرى (أواخر القرن الثامن عشر الميلادى). وكان الغرض الأول منها، وبالذات فيما يخصنا نحن المسلمين، تزويد السلطات الاستعمارية بخبراء فى شؤوننا، ثم أخذ الطلاب المسلمون يؤمُّون هذه الكليات الأوربية للدراسة فيها. والعبد لله واحد من هؤلاء الطلاب المسلمين الذين درسوا فى جامعة أوربية وحصلوا على درجة الدكتورية فى الأدب العربى من جامعة أكسفورد عام 1982م وعلى يد أستاذ مصرى مُتَبَرْطِن هو د. محمد مصطفى بدوى. وعلى نفس المنوال أنشأت الدول الاستعمارية مؤسسات تعليمية فى البلاد الإسلامية التى خضعت لنفوذها لخدمة أغراضها منها فى مصر على سبيل المثال المعهد الشرقى بدير الآباء الدومينيكان، والمعهد الفرنسى، والجامعة الأمريكية، وكلية فكتوريا، ومدارس الراهبات والفرنسيسكان والفرير، وفى لبنان جامعة القديس يوسف (الجامعة اليسوعية حاليًا) والجامعة الأمريكية، وفى سوريا مدارس اللاييك، والفرير، وكلية السلام...
    من نشاط المستشرقين: وقام كذلك عدد من المستشرقين بإصدار مجلات لنشر البحوث الاستشراقية، وجمعوا المخطوطات العربية الإسلامية ونقلوها إلى بلادهم بأعداد هائلة بلغت مئات الآلاف، وحققوا كثيرا مما جمعوه من تلك المخطوطات. كما ألفوا الكتب والموسوعات التى تتناول جوانب حضارتنا المختلفة. ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل عقدوا أيضا المؤتمرات لتدارس الجديد الذى توصلوا إليه عن الشرق وحضاراته المختلفة.
    وهم، فى غالبهم، متعصبون لبلادهم وحضارتهم وثقافتهم ويعملون بكل سبيل على إيهام الشرقيين، وبخاصة المسلمون، بأنهم سوف يظلون متخلفين إن لم يتخلَّوْا عن ثقافتهم ويتبنَّوْا أساليب حياة الغربيين. فالغربيون، كما يرددون دائما، هم المثال الأعلى الذى ينبغى أن يحتذى، وإلا فلا أمل. وكثير منهم، فى دراستهم للإسلام بوجه عام، يجتهدون بكل ما لديهم من طاقة وعزم فى التشكيك فيه وفى رسوله وكتابه ورجاله، ويلوون النصوص ويطبخون النتائج سلفا كى تأتى على وفاق أغراضهم من تسفيه كل ما يتصل بديننا وثقافتنا، اللهم إلا من عصم اللهُ، وقليلٌ ما هم.
    الاستشراق غير الرسمى: هذا هو الاستشراق المؤسساتى الرسمى. ولكنى كثيرا ما قلت لنفسى منذ وقت بعيد إننا إذا مددنا أبصارنا إلى ما قبل ذلك التاريخ الذى نشط فيه الغربيون قبل عدة قرون بعد أن انقلبت الآية وشرع المسلمون يتقهقرون فى الوقت الذى كانت أوربا تتقدم وتتحضر وتخرج من سباتها وتخلفها الطويل، إذا فعلنا ذلك تحققنا أن الاستشراق لم ينتظر حتى ذلك الوقت، بل كان هناك أوربيون اهتموا بدراسة الشرق قبل سطوع نور الإسلام بأزمان متطاولة، وأوربيون اهتموا بالكتابة عن الإسلام وحضارته منذ وقت مبكر من تاريخ الدين المحمدى الكريم. ومن بين تلك الأسماء التى مارست الاستشراق قبل الاستشراق الرسمى بزمن طويل المؤرخ الإغريقى هيرودوت، الذى كتب عن مصر الفرعونية فى القرن الخامس قبل الميلاد كتابة شائقة، وديودور الصقلى، الذى سجل مشاهداته فى بلاد العرب فى القرن الأول قبل الميلاد، ثم يوحنا الدمشقى الرومى، الذى كان يعمل مثلما عمل أبوه من قبله فى البلاط الأموى، وألف كتابا ضَمَّنَه فصلا حول الإسلام هاجمه فيه وشكك فى نبوة رسوله وعاب كل شىء يتعلق به وقدم أسوأ التفسيرات لكل مبدإ كريم من مبادئه واختلق ودَلَّس. وقد قمت بتحليل ما كتبه كل منهم وفصلت القول فيه تفصيلا وأدليت برأيى واضحا صريحا فى كتابى: "مستشرقون من قبل عصر الاستشراق. مستغربون من قبل عصر الاستغراب".
    مبدأ ظهور مصطلح "الاستشراق" عندنا: والآن ما دمنا نتحدث عن تخصص الاستشراق فيحق بل ينبغى لنا أن نعرف متى ظهر هذا المصطلح فى لغتنا؟ فأما فى كتاب "تخليص الإبريز فى تلخيص باريز" لرفاعة الطهطاوى، الذى قص فيه علينا أخباره هو وزملائه لدن سفرهم إلى فرنسا للتعلم فى عشرينات القرن التاسع عشر وخضوعهم لإشراف بعض المستشرقين هناك أثناء تلك البعثة، فلم أجد هاتين الكلمتين. كذلك لم أجدهما فى أى من كتب الشدياق، وقد عاشرهم وحكى لنا بعضا من أخبارهم وذكر طائفة من أسماء مشاهيرهم وسخر منهم ومن تعالمهم وتنفُّجهم بما لديهم من علم قليل فى نظره، ورغم هذا لم أره يستخدم لا كلمة "استشراق" ولا كلمة "مستشرقون" فى حدود ملاحظتى. وفى الصفحة 382 فى الجزء الأول من الطبعة الأولى من كتاب أحمد شفيق باشا: "مذكراتى فى نصف قرن" نقرأ ما يلى تحت عنوان "وفد مصر لمؤتمر المستشرقين": "وافق اليوم السابع من أغسطس سنة 1889م عيد الأضحى. ففى يوم 11 منه، أى رابع أيام العيد، دعوت لتناول طعام العشاء عندى عبد الله باشا فكرى وابنه أمين بك فكرى والشيخ حمزة فتح الله والشيخ محمود عمر، وهم أعضاء البعثة العلمية الموفدة لتمثيل مصر فى مؤتمر المستشرقين ببلاد السويد والنرويج فى هذا العام".
    ومن يرجع إلى كلمة الإهداء التى وجهها أمين فكرى إلى الخديوى عباس الثانى فى كتابه: "إرشاد الألِبَّا إلى محاسن أوربَّا"، الذى وضعه لوصف تلك الرحلة نراه يشير إلى "مؤتمر المستشرقين الثامن الذى تقرر انعقاده بأستكهلم وكرستيانا عاصمتى السويد والنرويج فى سنة 1889". وتكررت كلمة "المستشرقين" مرات فى ذلك الكتاب البديع الممتع فى الجزء الخاص بالمؤتمر، وإن كان لا يستعمل كلمة "مستشرق" لأى واحد منهم معين فلا يقول: "المستشرق فلان أو علان" بل "الكونت أو البارون أو الأستاذ فلان".
    والطريف أن الكونت دى لاندبيرج، الذى فوضه ملك السويد بافتتاح المؤتمر، قد ذكر فى خطبة الافتتاح أن "عامة الناس لا يفرقون فى المعنى بين كلمتى "الشرق" و"المستشرق". وقد انتدبت يوما للتكلم فى موضوع شرقى فتعرض لى شخص حسن الملبس وسألنى: أين يقع الشرق من الدنيا؟ وقد كان أحد السادة الأجانب يظن أن المستشرقين كناية عن عَصَبَات متجمعة لفتح الشرق. ولا شك أن كلام هذا السياسى الساذج فى جهالته لا يخلو من بعض صحة لأننا يا حضرات السادة لم نخرج عن كوننا عَصَبَة مؤلفة لحل مسألة الشرق العظمى، فإننا بما لدينا من عُدَد الحرب الهائلة نهدم قلاع الأفكار الفاسدة والغلطات الكاسدة حجرا حجرا، ولأننا نبعث بأحكام الانتقاد ودقته نورا يصل إلى أقاصى تاريخ البشر. وقد تكلم جلالة الملك عن ميدان حربنا هذه بما ينطبق على الحق. وذلك الميدان مفتوح لجميع الناس. ونحن نحارب فى صفوف الشرقيين لمصلحة الشرق مسجلين فى صفحات التاريخ الذى نحن قائمون بتحريره أصوله وتمدنه وعظمته ومسراته وأحزانه. فكيف لا يكون الشرقيون حلفاءنا فى تلك الحرب؟ وكيف لا يمدون إلينا يد المساعدة لكشف الغطاء عما لا تصل إليه أنظارنا؟ ونحن لا نعادى أحدا ولا نتكلم فى شأن الأديان بالاعتراض عليها، ولكننا نعجب بنور العلم أينما سطع ولا نتعرض لمعتقد خشية أن يتناول ذلك طرفا من تلك الحقائق التى نبحث عنها فى الشرق"... إلخ (ص623 من الكتاب/ مطبعة المقتطف/ 1892م).
    وهو كلام كله مغالطات وخداع، وإلا فمن الذين يكتبون مهاجمين ديننا ومشككين فيه ومفترين عليه الكذب ومشوهين صورة نبينا الكريم ومتهمين كتاب ربنا العظيم بالاتهامات الباطلة ومدعين أن الإسلام دين العدوان والإرهاب فى الوقت الذى تقوم فيه الدول الغربية بالعدوان علينا واحتلال بلادنا وتخريب أوطاننا والعمل على اجتيالنا عن ديننا وتدمير حاضرنا ومستقبلنا واكتساح ثرواتنا والاجتهاد بكل وسيلة شيطانية فى إفقارنا، ومعاونين حكومات بلادهم فى هذا الإجرام ومزودين إياها بما يسهل لها إتمام جرائمها الإبليسبة؟ أليسوا هم المستشرقين؟ إننا لا ننكر أن من بين المستشرقين ناسا شرفاء، لكنهم قليلون، ويمثلون الشذوذ على القاعدة. و"دائرة المعارف الإسلامية" شاهد على هذا الذى أقوله عن المستشرقين، وهى مؤشر لا يكذب أبدا.
    ولدى أحمد زكى باشا شيخ العروبة نقابل كلمة "مستشرقين" عدة مرات فى كتابه: "السفر إلى المؤتمر" الصادر سنة 1893م بعد عام من عودته من المؤتمر الثامن للمستشرقين سنة 1892م، أى بعد ثلاث سنوات من المؤتمر السابق، إذ قال: "إن القاعدة التى تقررت فى أول الأمر لأجل عقد المؤتمر كل ثلاث سنوات إنما كانت لقلة المستشرقين، وأما الآن فقد انتشروا حتى كان لهم من أمريكا مشاركون كثيرون، والواجب علينا أن نوجد لهم فرصًا كثيرة يعرضون فيها أعمالهم لئلا يزداد الشقاق بين أجزاء هذه الجمعية، فتضيع القاعدة الأولى بالكلية، وتذهب ثمرات هذا الجمع أدراج الرياح، ويصر علماء كل دولة على عقد مؤتمر فى عاصمتها كل عام أو عامين، فيتفرق العمل شَذَرَ مَذَر"، "واعلم أنه لكبر هذه المدينة واتساعها لم يظهر فيها أثر ما لانعقاد مؤتمر المستشرقين، بل ولا أقل أثر لمؤتمرات غيره كانت منعقدة فى الوقت الذى انعقد مؤتمرنا فيه"، وفى أسفل أحد خطاباته عرف بنفسه على النحو التالى: مندوب الحكومة المصرية فى مؤتمر المستشرقين التاسع بلوندرة يوم الثلاث ٧ رجب الفرد سنة ١٣١٠- ٢٤ يناير سنة ١٨٩٣"... إلخ. كما عَرَّفَت الجرائد والمجلات المصرية بهذا الكتاب عند صدوره منشورا قائلة ضمن ما قالت إن صاحبه ألفه عن سفره إلى مؤتمر المستشرقين الثالث بلندن.
    وفى مقدمة أول عدد من مجلة "المشرق" (1 يناير 1898م) يذكر صاحبها "المستشرقين" واصفا إياهم بـ"الأجانب (الذين) يعكفون على تتبع أخبار بلادنا واستبطان أحوالها وكشف مكنون أسرارها، فدُعُوا لذلك بالمستشرقين" (ص3- 4). وفى العدد الرابع من مجلة "الجامعة العثمانية" (1نوفمبر 1900م) مقال بعنوان "تاريخ الأسبوعين" ينعى فيه كاتبُه "الفيلسوفَ ماكس مولر المستشرق الإنجليزى الشهير" بهذا النص. وفى نفس المجلة (العدد 9- 10/ 1 إبريل 1904م) إعلان عن "مؤتمر المستشرقين الدولى" الذى سيعقد بالجزائر العام المقبل. وفى نفس العام والشهر واليوم ظهر فى العدد 13 من مجلة "الهلال" إعلان عن ذلك المؤتمر عينه تحت عنوان "مؤتمر المستشرقين" يبدى فيه كاتبه فرحة به لأنه أول مؤتمر مستشرقين يعقد فى بلد عربى. كما قابلتنى هذه الكلمة فى "حديث عيسى بن هشام" لمحمد المويلحى فى آخر الفصل الخاص بـ"باريس". وقد صدر سنة 1907م، ولكنه كان يُنْشَر حلقات قبل ذلك فى صحيفة "مصباح الشرق" المصرية، لصاحبها إبراهيم المويلحى والد المؤلف، من سبتمبر 1898 إلى أغسطس 1902م. كذلك وردت كلمة "المستشرقين" فى المحاضرة الأولى من محاضرات كارلو نالينو العربية بالجامعة المصرية حول الفلك عند العرب فى العصور الوسطى، وذلك فى العام الجامعى 1909- 1910م، وهى مطبوعة فى روما سنة 1911م.
    فى ضوء هذا نجد أن كلام د. حسام الخطيب التالى فى مادة "الاستشراق" بـ"الموسوعة العربية" السورية بحاجة إلى المراجعة، إذ قال: "لم ترد كلمة "الاستشراق: orientalism"، المشتقة من مادة "ش ر ق" فى أى من المعاجم العربية القديمة، وربما كان المعجم العربى الحديث الوحيد الذى يشير إلى واحد من مشتقاتها هو معجم "متن اللغة" للشيخ أحمد رضا، الذى يورد فعلها: "استشرق" ويتبعه بشرحه له، وهو "طلبَ علوم الشرق ولغاتهم" واصفًا الكلمة بأنها "مولدة عصرية" تطلق على من "يُعْنَى بذلك من علماء الفرنجة". وفعل "استشرق" العربى مشتق من كلمة "الاستشراق" المترجمة لكلمة "orientalism" الإنكليزية و"orientalisme" الفرنسية، الحديثتى العهد، واستخدمت كلمة "مستشرق" ترجمة لكلمة "orientalist" لتصف المشتغل بهذا الحقل المعرفى". وسر غرابة هذا الكلام هو أولا ما يوحيه من أن العربية لم تعرف هذه الكلمة قبل ذلك المعجم، وثانيا أن المعاجم العربية الحديثة لا تعرف هذه الكلمة ما عدا "متن اللغة" لأحمد رضا. فأما أن المعاجم الحديثة لا تعرف هذه الكلمة فلا أدرى ما الذى أَطَرَ د. الخطيب على ذلك، وهو مما لا يتخيله متخيل مهما كانت قدرته على التخيل، فكثير جدا من المعاجم الحديثة تعرف تلك الكلمة وتوردها فى مادة "شرق"، وتشرح معناها، مثل "معجم المعانى الجامع"، ومعجم "الرائد" لجبران مسعود، ومعجم "الغنى"، و"معجم اللغة العربية المعاصرة" للدكتور أحمد مختار عمر، ومعجم "النفائس الكبير"، و"المنجد فى اللغة والأدب والعلوم"، و"المعجم العربى الأساسى"، و"المعجم المفصل فى الأدب" للدكتور محمد التونجى، و"المورد" (إنجليزى- عربى) لمنير البعلبكى، و"المورد" (عربى- إنجليزى) لروحى البعلبكى، و"معجم هانز فير" (عربى- إنجليزى)، و"قاموس أكسفورد" (إنجليزى- عربى)، و"قاموس بيلو" (فرنسى- عربى)، و"قاموس إلياس العصرى" (إنجليزى- عربى)، و"قاموس إلياس العصرى" (عربى- إنجليزى)، و"قاموس المنهل" (فرنسى- عربى)، و"قاموس المنهل" (عربى- فرنسى)، و"قاموس إدوارد تركيا" (فرنسى- عربى)... إلخ. وأما أن العربية لم تكن تعرفها قبل "متن اللغة" فقد رأينا أحمد زكى باشا فى أوائل العقد الأخير من القرن التاسع عشر يستعملها بأريحية عظيمة ويكررها، بل إنه ألف الكتاب الذى وردت فيه هذه الكلمة مرارا حول مؤتمر المستشرقين التاسع (بلندن) الذى كان مشاركا فيه كما وضحنا آنفا. كما نوه جرجى زيدان فى مجلة "الهلال" الصادرة فى 15 ديسمبر 1893م بهذا الكتاب عند صدوره مشيرا إلى مؤتمر "المستشرقين" التاسع بلندره، الذى حضره المؤلف.
    وأما المعاجم الإنجليزية أو الفرنسية- العربية: معجم كاتافاجو من النوع الأول، ومعجم روفى ومعجم لويس بقطر ومعجم كازيميرسكى من النوع الثانى، وكلها من إصدارات القرن التاسع عشر، فقد حاولت أن أعثر فيها على أى شىء يتعلق بالاستشراق عبثا. ومن مراجعة معجم أكسفورد التاريخى نرى أن كلمة "orientalist" ترجع إلى عام 1683م، وإن كانت تدل فى ذلك الوقت على أحد رجال الكنيسة اليونانية الشرقية، ثم انضاف إلى معناها بعد ذلك بأقل قليلا من مائة عام "الشخص الملم باللغات والآداب الشرقية"، وهو المعنى الذى نحن بصدده هنا.
    وممن استعمل من الكتاب العرب أيضا مبكرا كلمة "مستشرق" و"مستشرقون" وأشار إلى نشاطهم فى ميدان التأليف حول لغتنا وأدبنا محمد دياب فى مقدمة كتابه: "تاريخ آداب اللغة العربية" المطبوع عام1900م فى معرض حديثه عن أنه ينسج فى كتابه ذاك على منوال من سمع عنهم من "مستشرقى الألمان" ممن وضعوا تاريخا لآدابنا. وبطبيعة الحال كان يستعمل ذلك اللفظ قبل ذلك بزمن، فإن الكتب لا تكتب وتصدر فى الحال بل تأخذ زمنا. ومنهم أيضا جرجى زيدان" فى مقدمة كتابه عن "تاريخ التمدن الإسلامى" الصادر 1902م حيث يشير إليهم بكلمة "المستشرقون" أحيانا، وأحيانا بـ"كتاب الإفرنج". كما ذكرهم مرارا فى الأجزاء الأربعة من كتابه: "تاريخ آداب اللغة العربية"، الذى صدر ما بين 1910 و1913م. وكتاب كهذا لا يمكن أن يتم بين عشية وضحاها بل لا مناص من أن يستغرق تأليفه أعواما طوالا، وهو ما يعنى أن زيدان قد عرف هذه الكلمة قبل ذلك التاريخ بوقت طويل. بل لقد أفرد لهم مبحثا مطولا فى الجزء الرابع دل فيه على أنه يعرفهم ويعرف مجالات نشاطهم جيدا ويقرأ تآليفهم ويلم بآرائهم ومواقفهم من ثقافتنا وأدبنا فى كل العصور. بل إن كتابه هذا قد وضعه على غرار كتب المستشرقين الذين أرخوا للأدب العربى، ونص هو فى مقدمة الجزء الأول على ذلك نصا. ولأن ما كتبه فى هذا الموضوع شديد الأهمية رأيت أن أنقله كاملا بعد قليل. وهو موجود فى الفصل الأول من الجزء الرابع من الكتاب المذكور، وعنوان المبحث هو "المستشرقون واللغة العربية". وهناك منصور فهمى، الذى أشار فى مقدمة رسالته عن "وضع المرأة فى الإسلام" إلى "المستشرق" سينوك هرجرونه الهولندى: هكذا باستعمال كلمة "orientaliste: المستشرق". والكتاب مؤرخ فى نصه الفرنسى بعام 1913م، ومن الطبيعى تماما أن منصور فهمى كان يعرف تلك الكلمة قبل ذلك بسنوات: على الأقل منذ التحق بالسوربون. وبعد ذلك بسنة ظهر كتاب طه حسين: "ذكرى أبى العلاء"، وفيه يتردد لفظا "مستشرق ومستشرقون" مرارا. وهذا طبيعى، فقد كان تلميذا لهم فى كلية الآداب بالجامعة المصرية. والكتاب، وهو فى الأصل رسالة جامعية نال بها صاحبها درجة العالمية فى الآداب، يعكس فخرا شديدا بهم وثناء عظيما عليهم، وقد كُتِب تحت إشرافهم.
    كلام الشدياق عن المستشرقين: وممن تكلم عن المستشرقين مبكرا، وإن لم يستعمل هذه الكلمة، أحمد فارس الشدياق. قال فى كتابه: "كشف المخبّا عن فنون أوربّا": "ومن طبع الإنكليز عمومًا التهافت على الشهرة والنباهة بين أقرانهم بأى سبب كان، ولا سيما فى أسباب المعارف والعلوم، فإن من يعرف منهم مثلًا بعض كلمات من اللغة العربية ومثلها من الفارسية أو التركية فإذا ألف كتابًا بلغته أدرج فيه كل شيء يعرفه من غيرها ليوهم الناس أنه لغوى، وما عليه أن يكتب تلك الألفاظ على حقها أو يخطئ فيها، وفى عنوان كتابه تعلق عليه جلاجل من الألقاب الطنانة، فيكتب له أنه من أعضاء جمعية كذا، وملخص كتاب كذا، ومحرر نبذه كذا، وخطيب مثابة كذا... وهلم جرًّا، ولو عصرت كتابه كله لما بللت منه صدى مسألة، وذلك لأنهم لا يأخذون اللغات عن أهلها، فمهما يخطر ببالهم فى تأويلها يقذفوا به جزافًا من دون تحرج أن ينسبوا إليها ما ليس منها.
    انظر إلى ريشردصون الذى ألف كتاب لغة يشتمل على لغته وعلى لغتى العرب والفرس، فأقسم بالله إنه لم يكن يدرى من لغتنا نصف ما أدريه أنا من لغته. لا بل سَوَّلت له نفسه أيضًا أن ترجم النحو العربى، فخلط فيه ولفق ما شاء، فمثَّل للإضافة بقوله: "قدح فضة"، و"ملك كسرى"، و"رأس أمان" و"الغالب عجم"، و"غالب عجم"، و"كتاب سليمان"، و"نَصَرَا عقبة"، وفسرها بأنها مثنًّى مضاف إلى "العقبة"، و"نَصَرُوا عقبة"، و"النَّصَرا عقبة"، و"النَّصَرُوا عقبة".
    وأورد حكاية من كتاب ألف ليلة وليلة عن ذلك الأحمق الذى قدر فى باله أن يتزوج بنت الوزير، فلما بلغ إلى قوله: "ولا أخلى روحى إلا فى موضعها" ترجمها بقوله: "لا أعطى الحرية لنفسى أى لزوجتى إلا فى حجرتها"، وقوله أيضًا: "ولا أزال كذلك حتى تتم جلوتها" صحف "جلوتها"، "بجلدتها" فقال: "ولا أكف حتى يتم ذلها"، وعند قوله: "حتى يقول جميع من حضر" كتب فى الحاشية "حظر" و"حضرة" بمنزلة السمو فى الإنكليزية، وقس على ذلك. وإذا ترجم أحدهم كتابًا رقَّعه بما عَنَّ له، وسبكه فى قالب لغته، فقد قرأت كثيرًا مما ترجم من كلامنا إلى كلامهم، فإذا هو مسبوك فى قوالب أفكارهم مما لم يخطر ببال المؤلف قط.
    وقرأت ترجمة منشور صدر من الملك فى الحض على الجهاد من جملته: "ليس لعُبَّاد النبى من خلاص فى هذه الدنيا ولا فى الآخرة إلا بجهاد الكفار". فانظر إن كان المسلمون يقولون إن النبى "معبود"، وما رأيت أحدًا تحرج من هذا التلفيق والافتراء والترقيع غير مستر صال الذى ترجم القرآن، ومستر لان الذى ترجم حكايات ألف ليلة وليلة، ومستر برسطون الذى ترجم خمسًا وعشرين مقامة من مقامات الحريرى، أما الأول، فقد ذكر فلتير أنه مكث بين العرب سنين عديدة، وأخذ عنهم علم العربية حتى تهيأ له ترجمة القرآن، ولست من ذلك على ثقة، إذ الظاهر من مقدمته للترجمة أنه لم يخالط العرب، وكيفما كان فهو من المحققين. وأما الثانى فإنه لبث فى مصر وعاشر علماءها وأدباءها. وأما الثالث، فإنه كان قد سار إلى الديار الشامية واستصحب بعض أهاليها.
    وما عدا هؤلاء الثلاثة فكما قال عقيل بن علقمة لعمر بن عبد العزيز رضى الله تعالى عنه:
    خذا بطن هَرْشَى أو قفاها، فإنه
    كلا جانِبَىْ هَرْشَى لهنَّ طريق

    فإن أحدهم لا يبالى أن يؤدى معنى الترجمة بأى أسلوب خطر له، فلو قرأ سبًّا فى كلامنا مثلًا بأن قال أحد السبابين لآخر: "يحرق دينه"، ترجمه بأن دينه ساطع ملتهب من حرارة العبادة والغيرة، بحيث إنه يحرق جميع ما عداه من الأديان، أى: يغلب هو عليها، فهو الدين الحقيقى القاهر، كما ورد أن الله نار آكلة... وهكذا. فليس لعمرى علم لغتنا عندهم سوى سبب يتوصل به إلى النتف من غيرها كالعبرانية والسريانية، فإن هاتين عندهم أهم وأنفع، وناهيك أنّ دَخْل مدرس العبرانية فى كمبريج ألف ليرة فى السنة، ودَخْل مدرس العربية سبعون ليرة فقط، ومتى عرف أحدهم شيئًا من لغتنا طابقه على غيره من تلك اللغة، واستخرج منه فائدة تختص بالمطابق عليه.
    وقد جرى مرة بحضور الدكطر لى ذكر أحد النمساويين، فقلت: إنه ذو دعوى لكونه نظم أبياتًا فى لغتنا وشهرها فى كتاب مطبوع مع أنها كلها لحن وزحاف، فلو كان ذا أدب لما تكلف النظم من دون معرفة قواعده وهو بعيد عليه، بل على جميع الإفرنج الذين لم يأخذوا عن العرب. قال: كيف، ونحن ننظم الشعر باليونانية واللاتينية ولم نخالط أهلهما؟ قلت: ها هنا فرق، وهو أن هاتين اللغتين كالأصل للغتكم فتتعلمونهما على صغر، أما العربية فهى أجنبية عنكم. قال: إن الإنسان ليمكنه أن يتعلم أى لغة شاء كما يتعلمها الطفل. قلت: ما هذا مذهبى، وإنى أعطى كتبى كلها لأى إفرنجى كان إذا نظم بالعربية بيتين صحيحين بليغين. قال: أنا أنظم لك الليلة ثلاثة أبيات. فلما قابلته فى الغد إذا به قد ناولنى رقعة كتب فيها:
    ألَمْ تَرَ يا صاحِ بهذا علامة
    بأن صار الأجنبى يُجْرِى كَرامة؟

    وإن لم يكن هذا عَرُوضًا مُصَحَّحًا
    فلا تُعْطِه أسفارك عامة

    فإن كان ذا إذن صحيحًا وسالمًا
    ستسلمه أجرًا أسفارك رامة

    فلما قرأتها قلت له: فيها زحاف وخطأ، فسكت ساعة، ثم قال: أتدرى ما الألف التى فى قول امرئ القيس: "قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل"؟ قلت: هى ألف التثنية عند بعض، فإن الشاعر خاطب صاحبين له، وذلك مستفيض فى كلامهم. وعند بعض أنها مقلوبة عن نوع التوكيد. قال: هذا كله تمحُّل وتعسُّف، وإنما هى مقلوبة عن الهاء من العبرانية، فإن اليهود يلحقون الهاء بفعلى الأمر والنهى دلالة على الطلب والتوسل.
    ثم بينت له بعد ذلك خطأ أبياته، فما كان منه إلا أن قال: إن لغة العرب ليست مطبوعة كسائر اللغات، بل هى لغة مصنَّعة متكلَّف فيها كثرة القواعد والضوابط بخلاف لغة أوروبا. وطفق يبين أنه يجوز فى اللغة اللاتينية أن تقام حركة طويلة مقام حركة قصيرة نحو أن تجرى لفظة "مادّ" مجرى "مَدّ" وغير ذلك. ثم سألنى: كيف تفعلون ﺑـ"أل" فى قولك: "الدين"، فإنه اجتمع فيها ثلاثة سواكن، وأنتم تقولون إنه لا يصح اجتماع ساكنين؟ فقلت: أين السواكن الثلاثة هنا؟ قال: الألف واللام والدال. وقال لى يومًا: أتدرى من أين اشتقاق "الزِّنَاء"؟ فقلت: لا. قال: من العبرانى، فإن "زنى" فيها بمعنى "باع"، فكأن الزانية تبيع نفسها للرجل.
    ثم سألنى مرة أخرى: أتدرى ما أصل المَدَّة فى نحو "آمن"؟ قلت: لا. فقال: هى ألف من السريانى. وقرأ يومًا "قومًا بطالين"، فقال: البطَّال عند الصوفية فى ثانى مرتبة العابد. فقلت: الأَوْلَى البطل. وقال أيضًا إن "يومنا" فى قول العرب: "إلى يومنا هذا" من السريانى وهو "يومنان".
    وقد جرى لى معه وقت الترجمة عدة مناقشات ومجادلات لا بأس بإيرادها هنا وإن طال بها الكلام، فإنها عنوان على معرفة القوم لغة الشرقيين، وخصوصًا العربية، منها أنه كان يحاول استعمال كلمة "هو ذا" فى كل موضع يجدها فى الأصل، أعنى العبرانى، فإنه لا يمتنع فيها أن يقال مثلًا: "لأن هو ذا أو وهو هو ذا وكان هو ذا رجل". وكان يظن أن "إذا" فى قولنا: "خرجت وإذا زيد بالباب" لا تغنى مغناة "هو ذا". ومن ذلك أنه كان ينكر قولنا مثلًا: "أحد الرؤساء" بدل "رئيس". ومن ذلك أنه كان يريد المحافظة على الأصل بالإتيان بـ"قائلًا" بعد "قال"، فإنه يقال فيه: "قال قائلًا" مع أن هذا التركيب فى لغة الإنكليز منكر، ولذلك كنا نجد فى توراتهم: "وتكلم قائلًا" لا "قال قائلًا". وفى مثل قولنا: "ضرب لهم مثلًا" كان يبدل "ضرب" بـ"قال" لأنه كان يترجم فى عقله لفظ "ضرب" إلى لغته فلا يجد له معنى سوى إيصال الألم.
    وكان يبدل "عَلِمَ اعتقادهم" بـ"رأَى اعتقادهم"، ويزعم أنها أبلغ فى المعنى وأن الاعتقاد ليس بمرادف للإيمان، فإنه إنما ينظر إلى أصل اشتقاقه، وهو العقد، وهو غير مفيد معنى الإيمان. وكان يبدل "ماء البحر" بـ"مياه البحر"، وهذا لا محظور منه، إلا أن تبديله هوس. وجزم بأن قولك فى السؤال: "ما يكون لنا؟"، أبلغ من "ما عسى أن يكون لنا؟"، وأن "من ثم" التى يؤتى بها للسببية غير كثيرة الاستعمال ولا تسد مسد "ولهذا"، وكان يزعم أن لفظة "المعجزات" ليست من كلام النصارى حتى وجدناها فى نسخة رومية.
    ومن أشد وساوسه تجنبه للسجع والتركيب الفصيح غاية ما أمكن، وحتى إنه زعم أن ما فى الترجمة من قوله: "خرجتم إلى بعِصِى كلِصٍّ" سجع وحاول تغييرها فلم يقدر فتركها وهو آسف، وكذا وهمه فى "نلت خيراتك فى حياتك"، وفى "وكان هناك قطيع من الخنازير كبير"، فكان يقول: هو من السجع الذى ينبغى مجانبته فى كلام الله تعالى، وكان كلما رأى جملة تنتهى بالواو والنون أو بالياء والنون يقول: "إنها مضاهئة لكلام القرآن" فيبدلها، حتى إنه رأى هذه الجملة وهى: "وأنتم على ذلك شهود"، فقال: إن هذا الوقف يشبه وقف القرآن. فمن ثم بدلها بقوله: "وأنتم شهود على هذا". ووجد عبارة أخرى وهى: "وما أولئك بعابرين من هناك إلينا"، فقال: "هذا التركيب فصيح"، فبدَّل "عابرين" بـ"يعبرون"، ولم أتعجب من تغييره، وإنما تعجبت من أنه شعر بحسن هذا التركيب. وزعم أن قولك مثلًا: "وكان رجل اسمه فلان" أخصر من قولك: "يُسَمَّى".
    وكلما رأى فى الأصل عبارة كثيرة الألفاظ مما لا داعى له قال: إن ذلك للتقوية. وإذا رأى فيه إجحافًا ولو مع إخلال المعنى قال: إن فيه حذفًا للبلاغة. وكان يحاول أن يقال: "واتفق أنه قال، واتفق أنه افتكر"، فقلت له: هذه لا يصح استعمالها مع الأفعال التى لا تقتضى الندرة فى الاستعمال، فلا يقال مثلًا: "جاءنى فلان واتفق أنه جلس"، فإنه لا ندرة فى الجلوس بعد المجيء. فقال: وأين أنت من المحافظة على الأصل؟ والذى ظهر لى من أحواله أنه، فضلًا عن كونه شديد التعصب للتوراة، فإنه كان يتقى لوم خُصَمَائه، فإنه كان ذا خصوم كثيرة، إلا أنه لا حمق أكثر من أن يترجم من لغة إلى أخرى بعين الألفاظ والتراكيب، إذ لا يتصور بالبال أن لغة تطابق أخرى فى التعبير، فكيف يمكن أن يقال بالعربية: "خرج الدخان من مناخر الله" كما يقال بالعبرانية، أو "أحشاء الله" كما يقال باليونانية، وقد ذكرت ذلك لعدة من أهل المعارف منهم، وأنه من التعبير الغير اللائق بجلاله تعالى، فكلهم قاسه على "وجه الله وعين الله ويد الله" من دون فرق بين نسبة الأعضاء الحقيرة إليه وبين غيرها.
    ومما أضحكنى من الدكطر لى مرة أنه دعانى للغداء يومًا، وكان ذلك فى نحو الساعة الخامسة قبيل المغرب، فقلت له: قد تغديت فى الساعة الحادية على ما اعتدته. فقال: هذا لا نسميه نحن: غداء، وإنما نسميه: عجالة. فقلت: هذا عندك لأنك تتغدى وقت العشاء، فأما عندى فهو الغداء بنفسه وعينه.
    والدكطر لى هذا كان يدرس العربية فى كمبريج، ولم يكن يحسن التكلم بها ولو بجملة واحدة، وكان ذا اجتهاد لا ملل معه، فكان يقعد على الكرسى للمطالعة أربع ساعات ولا يتحلحل عنه، وما أخال أحدًا غيره اشتهر بما اشتهر هو به فى علم اللغات المشرقية. وتوظُّفه فى كمبريج هو السبب الذى حدانى إلى الحضور إلى هذه البلاد لأن الجمعية لما استأذنت حاكم مالطة بواسطة وزير الأمور الخارجية فى إحضارى لأجاور المُومَأ إليه ظننت أن مكثى يكون فى تلك المدينة. وهى، وإن تكن لا تشوق أحدًا للسكنى فيها غير من يقصدها للتفقه فى الفنون، إلا أنها على كل حال أحسن من القرى. وذاك كنت أدريه من قبل، إلا أن البواعث الحالية والدواعى الكونية أوجبت على الدكطر لى أن يُعَدّى عن وظيفته فيها، ويلزم قريته...
    ولم يكن شيء يسلينى فى تلك القرية سوى ترقب الشهر الذى يسافر فيه الدكطر المذكور إلى برسطول لأسافر معه حيث قُدِّر على أن أكون معه فى كل مكان وزمان، غير أن المذكور توفى وأنا بباريس، وأعفانى الله تعالى من السفر معه إلى تلك الدار، فعفا الله عنه بمنه وكرمه.
    ثم لما حان الذهاب إلى برستول مررت بأكسفورد، وقصدت أن أرى خزانة الكتب فيها، فسألت بواب المدرسة عن شيخ العربية ليهدينى لها، فأخذ يطالع فى فهرسة المعلمين فلم يهتدِ إلى اسمه، فقلت له: كيف وأنت ملازم لهم لا تعرفهم؟ فقال: إن شيخ العربية لا يدرِّس بنفسه ولا يقرأ، ولكنْ له قارئ. فإذا قرأ القارئ شيئًا يأخذ الشيخ فى شرحه، أى فى توجيهه إلى وقائع تاريخية تتعلق بذلك الموضوع، وفى تطبيقه على بعض اللغات كما سأبين لك عن قريب، ثم بعد طول بحث ومعالجة اهتديت إلى دار الشيخ فقابلته وسألته أن يرينى المكتبة تفضلًا وتكرمًا، فأجاب إلى ذلك وسرنا معًا. وأول كتاب فتحه كان بالخط الكوفى، وإذا فى أول الصفحة لفظة "ألا" فقرأها "الا" وفسرها أنها "الله"، فتعجبت كيف أنه انخدع فهمه لسمعه لأنهم جميعًا يلفظون اسم الجلالة مرَّققًا هكذا.
    وسألنى مرة أستاذ آخر: أتعرف لم دلت "فى" على الظرفية؟ فقلت: لا. قال: لأنها مشتقة من الفم الذى أصله فوه. وهكذا يخمنون ويَخْرُصون على معانى المفردات والمركَّبات فى لغتنا. وهاك مثالًا على علم هؤلاء الأساتيذ وعلى شرحهم لكتبنا تَطَفُّلًا، فتصور مثلًا أن قارئًا يقرأ على الشيخ قول أبى تمام:
    هِمّةٌ تنطح النجوم وجَدٌّ
    آلِفٌ للحَضِيض، فهو حضيضُ

    فيقول الشيخ بلغته: "النِّطَاح" مختص بالحيوانات التى لها قرون كالثور والتيس والوعل ونحوها، وقد ذكر فى التوراة مرات كثيرة. ويمكن أيضًا أن ينسب إلى ما ليس له قرن، فقد روى ليناوس، الذى قسم جنس الحيوان إلى سبعة أقسام، أن الحيوانات الجَمَّاء تتناطح بجباهها، وقد أطلقت العرب اسم "الكبش" على آلة من آلات الحرب لما أنها تنطح الجدار. و"النجوم" معروفة، وقد كانت العرب تهتدى بها فى أسفارهم قبل أن عرفتْ خاصية إبرة المغنطيس. ولما كانوا مشتغلين بالعلوم الفلكية والطبية لم يكن فى أوروبا من يشم لها رائحة، ثم لما فتحوا إسبانيا أو جزيرة الأندلس، وذلك سنة ٧٥٠، أخذ عنهم العلم بعض من الإفرنج، ومنهم سَرَى فى سائر بلدان أوروبا، وكان انقراض الملك من قرطبة سنة ١٠٣١ بعد أن دامت العرب فيها أصحاب أمر ونهى وسيادة نحو مائتين وخمس وسبعين سنة.
    أما الألف واللام التى فى "النجوم" فهى أداة التعريف، وهى فى الطليانية والإسبانيولية "أل" للمذكر و"لا" للمؤنث، واللغة اللاتينية ليس فيها أداة تعريف، فأما اليونانية ففيها عدة أدوات، ويوجد فى لغتنا ألفاظ كثيرة مبدوءة بهذا الحرف، منها ما هو عربى وذلك نحو "ألكنا" (الحناء)، و"ألكحل"، و"ألقائد"، و"ألجِبْرَة" (الجبر)، و"ألقرآن"، و"ألقَلِى، و"ألقرثيم"، أو "ألكرزيم"، ومنها ما هو من لغة أخرى، فأما اللغة الإسبانيولية ففيها من هذا النوع ألفاظ لا تعد. فأما عدم النطق باللام من "النجوم" فلكون النون من الحروف الشمسية.
    ثم إن أول من قرر طريقة سير النجوم حول الشمس وسير القمر حول الأرض، ونسبة بعضها إلى بعض، وعلة المد والجزر والنور والجاذبية والاعتمادية، الفيلسوف إسحاق نيوطون. ولد فى سنة ١٦٢٤ ومات سنة ١٧٢٧، وكان ذا جِدٍّ ومثابرة على العلم لا تنظر. أما قوله: "جَدٌّ آلفٌ للحضيض"، فـ"الحضيض" هنا معناه "الأرض" من تسمية الكل بالجزء، ووروده فى التوراة كثير. وفحوى البيت أنه، أى الممدوح، ذو عناية بالأرض، أى بحرثها وإحيائها وإنشاء المدن فيها وتسوية الأحكام بين أهلها لأن الأرض كثيرًا ما تذكر ويراد بها سكانها، وذلك أيضًا مستفيض فى التوراة حتى إن هذا الممدوح صار أرضًا وخصبًا لقاصده.
    فأما إن كان هذا الشيخ قد تلمذ لشيخنا الأكسفوردى المشار إليه فإنه يقرأ "الحديد" بدل "الحضيض"، وحينئذ فيكون تأويله عنده: و"جَدٌّ" أى حظ أو أبٌ، فإن الجد يذكر ويراد به الأب وبالعكس كما ورد فى التوراة. آلف لاستعمال السلاح وقهر العدو، فإن الحديد يراد به السلاح كله، وهذا الاستعمال أيضًا وارد فى التوراة. وهكذا يمشى على انعكاس البيت بهذا القَصْد هو وتلامذته. وبعد انقضاء ساعة ونصف على تأويل هذا البيت يقومون وهم سامدو الرءوس عجبًا وفخرًا، ويظنون أن شيوخ الجامع الأزهر والأموى والزيتونة هم دون هذا النِّحْرير، الذى عرف مولد نيوطون ووفاته واستيلاء المسلمين على الأندلس. وقد استبد هؤلاء الأساتيذ بهذه الدعوى بحيث إنهم لا يوظفون الغريب فى هذه المدارس، وإنما يسمحون له بأن يعلم أشخاصًا على حِدَتهم، فلا هم يتعلمون حق التعلم ولا يأذنون لغيرهم فى أن يعلموا حق التعليم، وهذا الداء فاشٍ أيضًا فى مدارس فرنسا مع استتباب المصالح فيها. ولا بد لشيخ العربية عندهم أن يكون مطلعًا على اللاتينية حتى إذا جهل شيئًا من تلك عمد إلى هذه، فقوَّر منها رقعة".
    كلام مارون عبود عن المستشرقين: وقد علق مارون عبود فى الفصل المخصص لأحمد فارس الشدياق من كتابه: "الرؤوس" على ما قاله الكاتب الكبير عن المستشرقين فقال: "قلت: وكذلك هى حالنا اليوم فى النصوص مع أكثر علماء الغرب، فإنهم ينطحون جدران أدبنا متوهمين أنهم أتوها من الأبواب. لا ننكر أنهم صاروا أحسن مما كانوا فى عصر شيخنا الشدياق، ولكنه ينقصهم فت خبز كثير حتى تشتد سواعدهم ويرموا صائبًا فى هذه المواقف التى قصرت فيها فحول العرب".
    حوار علمى بينى وبين أحد المستشرقين: ولقد أذكر أنا كاتب هذه السطور أننى، وأنا أعد رسالتى للحصول على الدكتورية من جامعة أكسفورد، حضرت محاضرة لأحد المستشرقين الشبان، فألفيته يقول إن قوله تعالى مخاطبا المنافقين فى عصر النبى عليه السلام ومومئا إلى الأقوام السابقين الذين نالوا عقابهم من ربهم: "كالذين من قبلكم كانوا أشد قوة وأكثر أموالا وأولادا فاستمتعوا بخلاقهم فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم وخضتم كالذى خاضوا" معناه "وخضتم كالذين خاضوا" لأن "الذى" فى آخر النص تعنى "الذين"، فقلت له: بل المقصود "وخضتم كالخوض الذى خاضوه" فقال: "You don’t understand"، وزاد فقال إن قائل هذا هو الطبرى. يريد أن يقول لى: وهل هناك من هو أعلم من الطبرى؟ فلم أُكَذِّب خبرا ونزلت إلى المكتبة وأحضرت تفسير الطبرى، وكانت طبعة قديمة فى هامشها تفسير النيسابورى، وأخذت أقرأ ما قاله شيخ المفسرين، فوجدته يذكر ما قلت: "وخضتم فى الكذب والباطل على الله كالذى خاضوا. يقول: وخضتم أنتم أيها المنافقون كخوض تلك الأمم قبلكم"، ولم أجد شيئا مما قاله المستشرق الصغير، فقلت: أبحث فى تفسير النيسابورى المطبوع على هامش الطبرى، فوجدت ذلك المفسر يقول بقولى أيضا ثم يسوق فى آخر كلامه أنه قيل (وكما نعلم فهذه صيغة التمريض) إن "الذى" هنا معناها "الذين". وهذا نص كلامه: "ومعنى "كالذى" كالخوض الذى خاضوه أو كالفوج الذى خاضوا. وقيل: أصله "كالذين" فحذف النون". فانظر كيف تسرع الأحمق واتهمنى بعدم الفهم مع أنى ابن اللغة ولى اتصال بتفاسير القرآن، ولم يخلنى الله من الذوق السليم، بالإضافة إلى زعمه أن الطبرى هو قائل ذاك.
    ما كتبه جرجى زيدان عن المستشرقين: وقد كتب جرجى زيدان فى الجزء الرابع من كتابه: "تاريخ آداب اللغة العربية" عن دور المستشرقين فى حياتنا الأدبية والفكرية عكس ما قاله الشدياق فقال: "من العوامل الرئيسية فى إحياء آداب اللغة العربية فى هذه النهضة اشتراك الإفرنج فى درسها ونشر كتبها والتنقيب عن تلك الكتب فى مظانها. وليس اهتمام الإفرنج بالآداب العربية حديثًا، فإنه يرجع إلى الأجيال الوسطى قبل نهضتهم الأخيرة لإنشاء تمدنهم الحديث. ويُقسَّم عملهم فى هذا السبيل إلى دورين: الأول اشتغالهم بنقل العلوم الطبيعية والرياضية فى أول نهضتهم، والثانى اشتغالهم باللغات الشرقية وآدابها.
    (١) نقل الإفرنج للعلوم الطبيعية: بدأ الإفرنج يهتمون باللغة العربية من القرن العاشر للميلاد ليطَّلعوا على ما فيها من العلم الطبيعى والطب والفلسفة. وقد نقلوا أهم تلك الكتب إلى اللاتينية، وهو لسان العلم عندهم يومئذٍ. وأول مَن بلغنا خبرُه من المترجمين أو الناقلين البابا سلفستر الثانى فى أواخر القرن العاشر للميلاد، ثم هرمان المتوفى سنة ١٠٥٤م، يليه قسطنطين الأفريقى وغيرهم. وفى القرن الثانى عشر للميلاد أصبحت طليطلة وغيرها من مدائن العرب بالأندلس آهلة بالنازحين إليها من الإفرنج للاستفادة أو الترجمة أو التأليف كما كانت بغداد فى عصر الرشيد والمأمون. ومن جملة المشتغلين بالنقل ريمون أسقف طيطلة فى أواسط ذلك القرن، نقل كتبًا عديدة، يليه أفلاطون الطيبورى وأدلار الباجى ويوحنا الإشبيلى وكنديسالفى وهرمان الدلماتى ومرقس الطليطلى وغيرهم، وأكثرهم اشتغالًا فى ذلك جيرار الكرمانى، فإنه نقل نحو ثمانين كتابًا حوت علوم القدماء فى المنطق والفلسفة والرياضيات والنجوم والطبيعيات والكيمياء وغيرها لمؤلفى اليونان والعرب كالفارابى وابن قرة وأولاد موسى والخوارزمى والكندى والفرغانى وغيرهم، نقلها كلها عن اللغة العربية.
    واهتم ملوك أوربا يومئذٍ بآداب العرب أيضًا للاستفادة منها فى مدنيتهم كما يفعل كل عاقل يريد النهوض بأمته فى العلم والمدنية، فإنه يستعين بمن سبقه فيها. وأول مَن سعى فى هذا السبيل فى نهضة أوربا الحديثة فريدريك الثانى المتوفى سنة ١٢٥٠م، وألفونس صاحب قشتالة، جمع إليه المترجمين كما فعل المأمون، وأمر بترجمة كتب العرب. وكانوا ينقلونها إلى الإسبانية، ومنها إلى اللاتينية. وشاع خبر تلك النقول فى سائر أوربا، فاقتدى أمراؤها بذلك، فقضوا معظم القرون الوسطى فى النقل، وبلغ عدد ما نقلوه من العربية فى تلك المدة ٣٠٠ كتاب، نُقِل أكثرها من العربية إلى اللاتينية رأسًا، منها ٩٠ كتابًا فى الفلسفة والطبيعيات، و٧٠ فى الرياضيات والنجوم، و٩٠ فى الطب، و٤٠ فى النجامة والكيمياء.
    (٢) اشتغالهم باللغات الشرقية: فاهتمام الإفرنج فى الدور الأول إنما كان الغرض منه نقل العلوم الطبيعية وغيرها للاستفادة منها فى أول نهضتهم كما فعلنا نحن فى أوائل القرن الماضى، أما اشتغالهم بدرس آداب اللغة العربية نفسها فله أسباب دينية أو تجارية، وهو تابع لاهتمامهم بسائر اللغات الشرقية، وفى مقدمتها اللغة العبرانية، لأجل تحقيق بعض المسائل الدينية بالرجوع إلى نصوصها الأصلية فى التوراة، ثم اهتموا باللغة التركية والعربية لأسباب تجارية. ولذلك كان اليهود من أقدم المستشرقين، ونبغ منهم فى أثناء الأجيال الوسطى جماعة كبيرة من العلماء فى فنون مختلفة أخذوا فى نشرها بعد نزوحهم من الأندلس. وأصبحت اللغة العبرانية فى القرن الخامس عشر وسيلة بين مدنية العرب ولغات أوربا، ثم صارت تُعَلَّم فى الكليات الكبرى مع اللغة اليونانية لأن العلماء عكفوا على درس هذه اللغة لتفهُّم الكتب اليونانية التى حُمِلت إليهم من القسطنطينية بعد دخول العثمانيين إليها سنة ١٥٤٣م.
    أما العبرانية فاستعانوا بها فى تفهم علوم الدين، وهى مفتاح سائر اللغات السامية، فلم يكن ينبغ عالم إلا وله إلمام باللغة المذكورة. وكانت إيطاليا مرجع طلاب هذه اللغة فى القرن الخامس عشر، يبعثون منها المعلمين إلى سائر الممالك الأوربية، وكانت رومية مشتغلة فى ذلك الحين بإخراج المبشرين إلى المشرق، فاضطُروا إلى اللغة العربية، فانصرفت الهمم إلى درس هاتين اللغتين. ومن هنا يبدأ الاستشراق، والفضل فيه لرومية أو الفاتيكان، وقد أيدت رومية فضلها فى هذا السبيل بإنشاء المطابع العربية، وجمع كتب الشرق وحفظها فى مكتبة الفاتيكان وغيرها.
    واقتدى الفرنساويون بالإيطاليين، فاستقدم فرانسوا الأول الأسقف جوستنيانى من جنوا لتعليم اللغتين العبرانية والعربية فى ريمس سنة ١٥١٩، وعملوا مثل عملهم فى إنشاء المطابع العربية، وتحداهما سائر أمم أوربا، وبعد أن كان الاستشراق خاصًّا برجال الدين يراد به التبشير أصبح علمًا قائمًا بنفسه يراد به درس اللغات الشرقية وآدابها... وللمستشرقين فضل فى تعريف الآداب العربية إلى العالم المتمدن بما نقلوه منها. وقد مرت الإشارة إلى ذلك فى أثناء هذا الكتاب، ولا سيما فى هذا الباب، وإليك إجماله:
    ما نقلوه من الشعر: خلاصة ذلك أنهم نقلوا طائفة من نخبة الشعر العربى إلى اللاتينية والإنكليزية والفرنساوية والألمانية، فمما نُقِل إلى اللاتينية: ديوان الحماسة، وأشعار الهذليين، وبعض أشعار الأغانى، ومما نُقِل إلى الفرنساوية دواوين امرئ القيس والنابغة وطرفة بن العبد والخنساء، و"البردة" للبوصيرى، وشعر الفرزدق، وبعض أشعار المتنبى وأبى العلاء. ومما نُقِل إلى الإنكليزية المعلقات، و"لامية العرب"، وأشعار الجاهلية، وأشعار عنترة، وديوان البهاء زهير، وبعض أشعار أبى العلاء. ومما نُقِل إلى الألمانية المعلقات، وديوان لبيد، وتائية ابن الفارض، وشعر ابن قيس الرقيات، وبعض ديوان أبى فراس، غير ما نُقِل إلى اللغات الأخرى.
    ما نقلوه من كتب الأدب واللغة: ومما نقلوه من كتب الأدب واللغة إلى الفرنساوية "أطواق الذهب" للزمخشرى، "مُلْحَة الأعراب"، "ألف ليلة وليلة"، "مقدمة ابن خلدون"، مقامات الحريرى، "الآجُرُّومية"، "كليلة ودمنة"، كتاب "المستطرف". ونقلوا إلى الإنكليزية مقامات الحريرى، "أدب الكاتب"، "ألف ليلة وليلة"، رسالة "حى بن يقظان"، "تاج العروس"، "كليلة ودمنة". ومما نُقِل إلى الألمانية "أطواق الذهب"، "كتاب سيبويه"، "ألف ليلة وليلة"، "كليلة ودمنة"، "عجائب المخلوقات"، وغيرها.
    ما نقلوه من كتب التاريخ ونحوها: ونقلوا إلى لغاتهم أهم كتب التاريخ منها أبو الفداء، "مختصر الدول"، "الإفادة والاعتبار"، "كشف الظنون"، تاريخ الطبرى، "المكين"، نُقِلت إلى اللاتينية، وابن خلكان، "تاريخ اليمن" لعمارة، "تاريخ الخلفاء" للسيوطى، "رحلة ابن بطوطة"، ابن حوقل، "نَفْح الطِّيب"، نُقِلت إلى الإنكليزية، وأبو الفداء، "مروج الذهب"، "طبقات الأطباء"، "تاريخ المماليك" للمقريزى، "الفخرى"، "جغرافية الإدريسى"، "تاريخ البربر"، ابن خلكان وغيرها، نُقِلت إلى الفرنساوية، و"سيرة ابن هشام"، كتاب "المغازى"، كتاب "الإكليل"، وغيرها إلى الألمانية، غير ما نقلوه من كتب الشرع الإسلامى، فالقرآن نُقِل إلى أهم لغات أوربا مرارًا، وتفسير البيضاوى و"مشكاة المصابيح" نُقِلا إلى الإنكليزية، و"فتح القريب" و"الدرة الفاخرة" و"مختصر خليل" نُقِلت إلى الفرنساوية، و"مقاصد الفلاسفة" نُقِل إلى الألمانية.
    فبهذه المنقولات وأمثالها تمكَّن المستشرقون من تعريف العرب وآدابهم إلى أمم أوربا لأن هؤلاء كانوا على جهل تام فى تاريخ الشرق وآدابه، ولا سيما الإسلام، فإنهم لم يكونوا يُحسِنون لفظ اسم النبى، فليلفظه بعضهم Mophomet (مفمت)، أو Bophomet (بفمت)، وكان بعضهم يظن محمدًا صنمًا يعبده المسلمون، وكانوا ينقلون عن المسلمين والعرب مزاعم لا أصل لها، فلما اطَّلعوا على آداب العرب وثمار مدنيتهم ذهب من أذهانهم ما تأصل فيها فى أثناء الأجيال المظلمة من سوء الظن بالإسلام واحتقار العرب وسائر الشرقيين، غير ما ألَّفه المستشرقون فى لغاتهم عن العرب وتاريخهم وآداب لغتهم، منها نخبة حسنة تدل على درس وتحقيق فى تاريخ العرب والمسلمين وآداب اللغة، وقد ذكرنا طائفة من تلك الكتب فى كتبنا: "تاريخ التمدن الإسلامى، وتاريخ آداب اللغة العربية، وتاريخ العرب قبل الإسلام" فى اللغات الثلاث الفرنساوية والإنكليزية والألمانية، غير ما نشروه من ذلك فى مجلاتهم الشرقية المتقدم ذكرها فى أثناء عشرات من السنين، وغير فضلهم فى حفظ المخطوطات العربية فى المكاتب الكبرى فى عواصم بلادهم كما تقدم.
    (٣) المؤتمرات الشرقية: ومن مساعيهم فى سبيل اللغة العربية عقد المؤتمرات الشرقية يدعون إليها قهارمة الآداب الشرقية من أطراف العالم، وبلغ عدد هذه المؤتمرات إلى الآن ١٥ مؤتمرًا أقدمها مؤتمر باريس سنة ١٨٧٢، وتوالى عقد المؤتمرات العربية فى لندن وبطرسبورج وفلورنس وبرلين وليدن وفينا وستوكهلم وجنيف ورومية وهمبورج وجزائر الغرب وأثينا وغيرها، واشتركت الحكومة المصرية فى كثير منها".
    تعليقى على ما كتبه جرجى زيدان: هذا ما قاله جرجى زيدان، ولى ملاحظتان سريعتان على هذا ا لكلام: فالمستشرقون بما عملوه ويعملونه مما ذكره زيدان وغير زيدان إنما يخدمون بلادهم لا بلادنا، إذ نهضت بلادهم بما ترجموه من تراثنا العلمى والأدبى من بعد تخلف وتبلد وجهل غليظ على ما قال زيدان نفسه، كذلك فإن حكوماتهم ومؤسساتهم تنتفع بهذا كله وقت الحاجة وعلى النحو الذى تريد. وقد عرف الغرب العرب والمسلمين بعد أن كانوا يجهلونهم ويجهلون كل شىء عنهم كما يقول زيدان، فهل نفعتنا هذه المعرفة؟ بالعكس لقد استعمر الغرب بلادنا وسرقوا خيراتها واستذلونا واعتقلوا أحرارنا وأعدموهم وظلت إساءاتهم إلينا وإلى ديننا ونبينا وأبطالنا مستمرة حتى الآن. وكان المستشرقون بوجه عام يدلون حكامهم على عوراتنا ويتعاونون مع جيوش بلادهم ومؤسساتها بل ويقومون هم أنفسهم بالتجسس أحيانا علينا. فكلام زيدان فى هذا الموضوع خاطئ إلى حد بعيد.
    وقد أشارت إلى شىء من هذا المادة الخاصة بـ"إدوارد سعيد" فى النسخة العربية من "ويكيبيديا" بقولها عن صاحب الترجمة: "قامت أفكاره على تبيان وتأكيد ارتباط الدراسات الاستشراقية وثيقًا بالمجتمعات الإمبريالية معتبرًا إياها منتجًا لتلك المجتمعات ما جعل للاستشراق أبعادًا وأهدافًا سياسيةً فى صميمه، وخاضعًا للسلطة. ولذلك شكك بأدبياته ونتائجه"، وإن لم يكن سعيد ابن بجدتها، إذ كان ذلك معروفا قبله بوقت طويل. لكن فضله يتمثل فى أنه كتب هذا وهو أستاذ جامعى أمريكى وأعلنه فى دراسة كبيرة مفصلة له بالإنجليزية ومطبوعة فى دار نشر أمريكية هى كتاب "الاستشراق" بالإضافة إلى أنه لم يكن مسلما.
    ما قاله مرجليوث عن الاستشراق: وها هو ذا المستشرق البريطانى د. ص. مرجليوث يتناول الموضوع فيقول: "أول داعية دعت قومًا من علماء الإفرنج إلى اكتساب العلوم الشرقية هى الديانة. فإن التوراة أساس أُسِّس عليه الدين المسيحى، ولغتها الأصلية عبرانية تختص باليهود الذين، مع حفظهم لكتابهم المقدس وتعبدهم بفروضه، لم يهتدوا إلى تبويب وتدوين قواعدها وقوانينها إلا بعد توطئة نوابغ نحويى الإسلام للطريق. وبعد ما ألف سيبويه "كتابه"، وجمع أبو عبيدة "غريبه"، ورتب الراغب "مفرداته"، حملت بعضَ أساتذة اليهود الغيرةُ على الاقتداء بهم. وقد سهل ذلك عليهم ما بين اللغتين من التقارب والتشابه. فلما استهل عند الإفرنج قمر المعارف سار لاهوتيوهم يأخذون من علماء اليهود تفسير التوراة. وبتفقه الآثار تدرجوا إلى الموارد العربية، فأصبح كل من يرغب فى الوقوف على حقائق معانى التوراة طالبًا للعربية لا يستغنى عن طرف منها. فالسبب الأصلى فى تأسيس أستاذيات اللغة العربية عند الإفرنج هو دينى صرف أضيف إليه ما كان اشتهر من حذق أطباء العرب وحكمائهم ومنجميهم وأنه لم يزل عندهم متون أئمة اليونان القدماء وشروحها. وكان طلبة الطب عندنا قبل 250 سنة يُضْطَرُّون إلى حضور دروس مدرس العربية. ثم عندما بلغت حرية الأفكار ما بلغت وأنتجت علوم جديدة تنقّر عن الإنسان من حيث هو إنسان وتبحث عن مصادر السياسات والأديان وتاريخ الممالك والبلدان واختلاف الأنواع باختلاف الزمان والمكان لم يخفف على المتبحرين فى هذه العلوم اتساع الممالك الإسلامية وعظم ما تشتمل عليه من المواد اللازمة لأشغالهم من آثار متواترة وعوائد غير مُخَلٍّ بها ومذاهب متشعبة وطرائق متفاوتة، فازدادوا رغبةً فى الحصول على الآلات التى تمكنهم من الاكتشاف عن خفايا التاريخ. وهؤلاء لابد لهم من الاستشراق".
    مقال صلاح الشهاوى عن الاستشراق: ويجد القارئ كلمة مرجليوث هذه فى مقال بمجلة "الهلال" فى عدد أكتوبر 1911م. وقد علق عليها صلاح عبد الستار محمد الشهاوى فى مقال له بعنوان "الاستشراق- تاريخه وأسبابه ودوافعه" منشور فى مجلة "الداعى" الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند (محرم- صفر 1433 هـ= ديسمبر 2011م- يناير 2012م) قائلا: "وإذا نظرنا إلى محتوى المقالة نجد أن مرجليوث يدعى فيها أن الباعث على الاستشراق دينى أو خدمة التوراة والإنجيل والإفادة مما جاءت به الكتب العربية والإسلامية، ولكنْ هناك رأى مناهض قوامه أن الاستشراق هدفه تشويه الإسلام والطعن فيه حتى لا تعتنقه أوروبا. وثمة حجج قوية تسند هذا الرأى، ولا ننكر أن الاستشراق له أسباب كثيرة وأهداف عديدة، سنأتى على ذكرها فى هذا المقال نقضًا لمقالة مرجليوث.
    أسباب الخصومة الغربية مع الشرق: الحقيقة أن جَهْل الغرب بحقيقة الإسلام وبسيرة النبى صلى الله عليه وسلم فى مقدمة ما يدعو إلى هذه الخصومة. والجهل، لا ريب، من أعقد أسباب الجمود والتعصب وأشدها استعصاءً. ولقد تراكم هذا الجهل على مر القرون، وقامت له فى نفوس الأجيال تماثيل وأوثان يحتاج تحطيمها إلى قوة روحية كبرى كقوة الإسلام أول ظهوره. ومما زاد هذه الخصومة عدم ملاءمة المسيحية دينًا لأبنائها ممن يدَّعون أنهم مسيحيون. فالمسيحية تدعو إلى الزهد فى الحياة واعتزال العالم، وإلى الكثير من العفو والمغفرة ومن المعانى النفسية السامية مما لا يلائم طبيعة الغرب الذى عاش ألوف السنين على طريق تعدد الآلهة، والذى يدعوه مركزه الجغرافى إلى حياة الكفاح لمغالبة ظروف الطبيعة القاسية، فإذا قضت ظروفه التاريخية أن يدين بالمسيحية فلا مفر له من أن يسبغ عليها ثوب القسوة، وأن يخرجها بذلك عن طبيعتها السمحة الجميلة، وأن يفسد فيها هذا التناسق الروحى الذى يجعل منها حلقة فى سلسلة الوحدة التى أتمها الإسلام. هذا هو سبب تعصب الغرب فى موقفه من الإسلام موقفًا تجافت الحبشة المسيحية عنه حين احتمى المسلمون بها أول ما دعا النبى صلى الله عليه وسلم إلى دين الله...".
    ثم مضى يتحدث عن دوافع الاستشراق قائلا: "الدافع الدينى: الاستشراق بدأ بالرهبان، وهؤلاء كان هَمُّهم أن يطعنوا فى الإسلام، ويشوهوا محاسنه، ويحرفوا حقائقه ليثبتوا لجماهيرهم التى تخضع لزعامتهم الدينية أن الإسلام، وهو الخصم الوحيد للمسيحية فى نظرهم، دين لا يستحق الانتشار. وهناك الهدف التبشيرى الذى لم يتناسَوْه فى دراستهم العلمية، وهم قبل كل شيء رجال دين.
    الهدف الاستعمارى: لما انتهت الحروب الصليبية بهزيمة الصليبيين، وهى فى ظاهرها حروب دينية، وفى حقيقتها حروب استعمارية، لم ييأس الغربيون من العودة إلى احتلال بلاد العرب وبلاد الإسلام، فاتجهوا إلى دراسة هذه البلاد فى كل شؤونها من عقيدة وعادات وأخلاق وثروات ليتعرفوا مواطن القوة فيها فيضعفوها، وإلى مواطن الضعف فيغذوها ليزيدوها ضعفاً.
    الدافع التجارى: هذا الدافع ناتج عن رغبة الغربيين فى التعامل معنا لترويج بضائعهم، وشراء مواردنا الطبيعية الخام بأبخس الأثمان، ولقتل صناعتنا المحلية التى كانت لها مصانع قائمة مزدهرة فى مختلف بلاد العرب والمسلمين.
    الدافع السياسى: نرى الآن فى كل سفارة من سفارات الدول الغربية فى بلادنا ملحقًا ثقافيًا يحسن اللغة العربية ليتمكن من الاتصال برجال الفكر والصحافة والسياسة، فيتعرف أفكارهم، ويبث فيهم من الاتجاهات السياسية ما تريده دولته.
    الدافع العلمى: من المستشرقين نفر قليل جدًا أقبلوا على الاستشراق بدافع حب الاطلاع على حضارات الأمم وأديانها وثقافتها ولغاتها. وهؤلاء يمثلون القلة ولم يكونوا يعتمدون الدس والتحريف، فجاءت أبحاثهم أقرب إلى الحق وإلى المنهج العلمى السليم من أبحاث الجمهرة الغالبة من المستشرقين. بل إن منهم من اهتدى إلى الإسلام وآمن برسالته. على أن هؤلاء لا يوجدون إلا حين يكون لهم من الموارد المالية الخاصة مما يمكنهم من الانصراف إلى الاستشراق بأمانة وإخلاص لأن أبحاثهم المجردة عن الهوى لا تلقى رواجًا عند رجال الدين ولا عند رجال السياسة ولا عند عامة الباحثين، ومن ثم فهى لا تدر عليهم ربحًا ولا مالاً. ولهذا ندر وجود هذه الفئة فى أوساط المستشرقين".
    على النملة يلقى مزيدا من الضوء على نشاط المستشرقين: وقد أورد على بن إبراهيم النملة فى الفصل الأول من بحث له عنوانه "مصادر المعلومات عن الاستشراق والمستشرقين" أقوال طائفة من المستشرقين يُفْتَرَض أنهم معتدلون ينتقدون فيها عمل زملائهم فى تشويه الشرق والشرقيين زيفا وبهتانا، ووضع معارفهم فى خدمة دولهم الاستعمارية، والنظر بغطرسة واستعلاء إلى المسلمين، وسعيهم إلى تحويلهم عن ثقافتهم وتقاليدهم ودينهم إلى الثقافة الغربية والنصرانية، وكذبهم على رسول الإسلام ورسمه رسما شديد السوء فى مغالطة للتاريخ وللحقيقة. على أن بيننا نحن المسلمين تيارا ينقل عن هذا المستشرق أو ذاك كلاما رائعا فى حق ديننا ونبينا مثلا، متصورا أن كل ما عنده تجاه الإسلام ونبيه هو على هذه الشاكلة. لكن من يقرأ وينقّر يجد أنه يمزج كلاما طيبا بكلام غير طيب.
    ومن ذلك أن بعض المسلمين يستشهدون فرحين بما قاله هربرت جورج ويلز من كلام طيب عن نبينا صلى الله عليه وسلم، إذ وصفه فى كتابه: "The Outline of History" بأن من كانوا يعرفونه تمام المعرفة كانوا يحبونه أشد الحب كخديجة وأبى بكر وعلى مثلا، وهذا دليل على صدقه واستقامته، وأنه لا يمكن أن يكون نبيا كذابا، وأن حزنه الشديد على ابنه الصغير إبراهيم وحرصه على تسوية تراب القبر بيده يدل على عمق مشاعره وصدقها. لكن من يسوقون هذا الوصف يَعْمَوْن عن بقية كلام ويلز فى حقه صلى الله عليه وسلم، فقد عابه بشدة الشهوة، وجعل نبوته مجرد تصوُّرَ من جانبه أن ما يقوله هو وحى من الله لا من عقله، وزعم أنه كان يعتقد فى أن الله جاهز دائما لتلبية ندائه وتسويغ ما يقول وما يعمل... وطبعا فإن الرد على ويلز فى كلامه الأخير أسهل شىء، فلو كان الرسول شهوانيا لشغلته شهواته عن أداء واجباته النبوية ولكان اتخذ لنفسه أجمل نساء العرب، ولكن ظروفه كنبى وسياسى هى التى فرضت عليه هذه الزيجات. كما أنه ظل يقول إنه مجرد عبد لله سبحانه، ويتلقى أحيانا العتاب الحار فى القرآن من ربه، وينفى عن نفسه علم الغيب، ويؤكد أنه لن ينجو بعمله ما لم يتغمده الله برحمته، ولم يكن يبادر أحدا بالحرب، لكنه لم يكن يترك من يعتدى على الدولة والأمة دون رد، وإلا انتقضت أمور الدين والدولة جميعا. كذلك كان عليه السلام متواضعا أشد التواضع، وفيا أحسن الوفاء. ثم ما الذى يمكن أن يوجه إلى محمد صلى الله عليه وسلم من نقد، وقد أعلى شأن العلم والنظافة والنظام والصدق والوفاء، ودعا إلى استعمال العقل، وكان دوما يخاطب البشر بالمنطق والحكمة، ويفهمهم أن من اجتهد وأخطأ فله أجر وليس عليه عقاب، ويعلن أن العلماء ورثة الأنبياء، ويعلم أتباعه أن الإتيان بالدليل هو ما يحسم الأمور، وأن للفقراء والمساكين حقا معلوما محددا فى مال القادرين، وأن العمل يسقط عن صاحبه الذنوب، وأن امتهان الشحاتة يسوِّد وجه الشحات يوم القيامة، وأن الله يغفر الذنوب جميعا... إلخ. فماذا فى ذلك مما يعاب؟ ومن أعجب العجب أن ويلز، الذى عاب النبى بالتهاب الشهوة، ذكر فى سيرته الذاتية: "Experiment in Autobiography" أن زوجته غابت عن البيت ذات ضحى، فما كان منه إلا أن زنى بمساعِدته فى عمله بكل أريحية وانسجام ودون أى إحساس بالذنب أو الخيانة.
    مواقف الكتاب المسلمين من المستشرقين: ونعود إلى النملة وما كتبه فنراه فى الفصل الذى بعد ذلك يتحدث عن موقف الكتّاب المسلمين من الاستشراق والمستشرقين وما يقولونه عن دينهم، فذكر أنهم ثلاثة اتجاهات: اتجاه يقبل كل ما يكتبه المستشرقون باعتبارهم ينتمون إلى أمم قوية ومتحضرة وتملك مفاتيح السيادة والسلطان وبلغ العلم فيها شأوا عظيما. وأذكر أننى منذ أكثر من عشرين سنة قدر لى أن أتحاور مع مسؤول فى قطاع كبير وشديد الأهمية من قطاعات الثقافة فى مصر، فعرَّجْتُ على سيرة الكتاب المسلمين الباكستانيين والهنود وما يكتبونه عن الإسلام وجَمْعهم بين الثقافتين الإسلامية والغربية مما يجعل لكتاباتهم قوة فى البحث والتعمق والإقناع، فأبدى تأففه قائلا: إن المستشرقين هم من يفهمون الإسلام ويكتبون عنه فهما وكتابة دقيقة صحيحة. ورغم أننا قد كتبنا عقدا مبدئيا بأن أترجم لذلك القطاع كتابا من كتب المستشرقين فإنه لم يتصل بى حتى الآن، ولن يتصل، فتذكرت كلامى له فى الدفاع عن الإسلام وإهدائى إياه كتابى: "مصدر القرآن"، الذى فندتُ فيه نظريات المستشرقين والمبشرين فى تفسير الوحى المحمدى. فهذا مثال حى على الطائفة الأولى التى تقبل كل ما يأتينا عن المستشرقين ولا ترى لهم ضريعا من بيننا وتؤمن إيمانا جازما بأن ما يقولونه فى ديننا هو القول الفصل.
    ومن هؤلاء أيضا نجيب العقيقى صاحب كتاب "المستشرقون"، الذى ترجم فيه لمئات من أعلامهم وذكر لكل منهم أهم أعماله، وتغنى بإنجازات المستشرقين ورسم لهم صورة مثالية وكأنهم ملائكة أطهار خدمونا وخدموا ثقافتنا وحققوا مخطوطاتنا وكتبوا عن حضارتنا، وكل ذلك بلا مقابل، لكننا جزيناهم فى الغالب جزاء سنمار. وموقف العقيقى غريب عجيب، فهؤلاء المستشرقون كما قلنا لا يخدموننا بل يخدمون أنفسهم وبلادهم. وكتاباتهم فى معظمها تشكيك فى ديننا وتراثنا. والعقيقى لا يقول الحقيقة بل يقوم بدعاية مغرضة مفضوحة ممن يعرف حقيقة الأمور. ونحن العرب والمسلمين ندرس فى بلادنا آداب الغرب ونكتب عنها مثلما يكتبون هم عن آدابنا وحضارتنا، لكننا لا نمنّ بشىء من هذا عليهم بل نعده تخصصا من التخصصات العلمية التى من الطبيعى أن يهتم بكل منها من يجد فى نفسه الميل لدراسته. ليس هذا فحسب بل إن مستغربينا هؤلاء يكتبون كتبهم وأبحاثهم ودراساتهم بلغات الآداب التى يدرسونها على عكس المستشرقين، فإنهم يستخدمون فى تآليفهم لغاتهم القومية لا العربية. وهو وجه من وجوه تفوقهم على نظرائهم الغربيين. كذلك فكثيرا ما يترجمون أعمالا عربية وإسلامية إلى لغات الغرب التى يعرفونها، وهو ما يتفوقون به أيضا على المستشرقين لأن المستشرقين نادرا ما يتقنون العربية إلى الحد الذى يترجمون آدابهم إليها كما يفعل مستغربونا، الذين يقدمون آثارنا الأدبية وغير الأدبية إلى الغرب على طبق من ذهب أو، كما يقول التعبير العربى القديم، غنيمة باردة.
    أما الاتجاه الرافض تماما لما عند المستشرقين فيمكن أن نمثل له بمحمود شاكر، الذى لا يطمئن إلى هؤلاء القوم أبدا، ويحذر دائما منهم ومن كتاباتهم ومواقفهم. وهذا ظاهر مثلا فى كتابه الصغير: "رسالة فى الطريق إلى ثقافتنا"، وفى كتابه الكبير: "أباطيل وأسمار"، الذى رد فيه على ما سطره د. لويس عوض عن أبى العلاء المعرى فى كتابه: "على هامش الغفران". ولا ريب أن المستشرقين بوجه عام يعادوننا ويعادون ديننا ونبينا وقرآننا، ويفترون على الإسلام المفتريات، ويعملون بكل طاقتهم على التشكيك فى كل شىء جميل فيه وعلى عزوه إلى أسوإ البواعث حسبما وضحت مرارا. بيد أن هناك طائفة من المستشرقين يكتبون عنا وعن حضارتنا وتاريخنا ورموزه كلاما طيبا فيه عدل وإنصاف.
    وهنا يأتى الاتجاه الثالث، وهو الاتجاه الذى يفرز كتابات هؤلاء الناس ويميز بين الطيب والخبيث منها. فليس من العدل أن نتجاهل كتاب "الدعوة إلى الإسلام" لتوماس أرنولد، أو كتاب "Muhammad and Learning" الرائع العظيم للبروفيسور ستيفن، أو مقال "محمد رائد الحفاظ على البيئة" للباحثة الهولندية فرنشيسكا دو شاتل، أو ما نظمه كل من جوته الألمانى وهيجو الفرنسى وبوشكين من أشعار فى الإشادة بالرسول عليه السلام، ونعاملهم كما نعامل المعادين من الغربيين. على أنه لا ينبغى أن ننتظر تطابقا تاما بين رؤيتنا ورؤيتهم، فهم من بيئة وثقافة وحضارة مختلفة، ولهم ديانة مختلفة، وتلقوا تعليما مختلفا فى مدارس وجامعات مختلفة على أيدى أساتذة مختلفين، اللهم إلا إذا كانوا قد أسلموا وصاروا منا وصرنا منهم. ومع هذا فقد تكون هناك بعض الاختلافات بين فهم هؤلاء وفهمنا للإسلام. أفليس المسلمون الأصليون أنفسهم منقسمين إلى سنة وشيعة ومعتزلة وخوارج ومتصوفة؟
    مناقشة إداورد سعيد فى بعض ما قاله عن الاستشراق: وفى عام 1978م وضع د. إدوارد سعيد، وهو أستاذ جامعى عربى أمريكى، كتابا عن "الاستشراق" الذى أشرنا إليه آنفا وعالج فيه عددا مهما من قضايا هذا الموضوع. وأحب أن أقف إزاء بعض ما قاله وأُقَّفِّى عليه برأيى. فعند الكلام عن مصطلح "الاستشراق" وعمل المستشرقين نراه يقول يقول إن الشرق هو اختراع أوربى تقريبا. وأنا لا أدرى ما المقصود بهذا، فالشرق موجود منذ أن كانت هناك الأرض مثلما كان هناك الغرب. أى أن الشرق، ومثله الغرب والشمال والجنوب، هو من خلق الله سبحانه وليس من اختراع أحد. أما إذا كان المقصود هو أن صورة الشرق هى من اختراع الأوربيين فهذا أمر لا يختص لا بالشرق ولا بالأوربيين، إذ إن كل شعب يرى كل شعب آخر بعينيه هو وبعقله هو، ويرسم له صورة من اختراعه هو. وهذا يصدق على رؤيتنا نحن أيضا لأوربا والغرب.
    فالشائع بيننا الآن مثلا أن المرأة الأوربية، والغربية عموما، امرأة سهلة لا تبالى بعفة أو سمعة أو حب بل على استعداد لإقامة علاقة جنسية مع أى كان. كما أنها لا تعرف الإخلاص لزوجها حتى إنها متى غاب عنها لعبت بذيلها. وهذا مثلا ما يشغل بطل رواية "فيينا 60" ليوسف إدريس، إذ تقول الرواية إن هذا الموظف ليلة عودته إلى مصر من زيارة عمل سريعة له إلى النمسا عز عليه أن يرجع دون أن ينال امرأة نمساوية مع ما يعرفه عن الأوربيات من أنهن سهلات الوقوع فى غرام أى عابر ما دامت قد أتيحت لهن الفرصة، وبخاصة إذا كان شرقيا أسمر، وشعره خشن قصير مثله، فظل يحوم فى الشوارع تلك الليلة حتى وجد امرأة تسير وحدها، فشرع يتتبعها أحيانا ويسبقها أحيانا ويتصرف تصرفات طفولية سخيفة كى يلفت نظرها حتى انتهى به الأمر إلى أن ذهب برفقتها إلى بيتها وقضى ليلته فى السرير معها كما يقضى الأزواج لياليهم مع زوجاتهم. بل إن كثيرا من الرجال الأوربيين فى عقول كثير جدا منا هم أيضا لا يبالون بكرامتهم ولا يغارون على أعراضهم، فتراهم لا يمانعون أن تقيم زوجاتهم علاقة مع غيرهم. بل كثيرا ما نسمع أن الواحد من هؤلاء يحب أن تكون زوجته سعيدة مع هذا الغير فى السرير.
    كذلك يقول د. إدوارد سعيد فى معرض انتقاد الاستشراق إن الاستشراق أسلوب تفكير يقوم على التمييز الوجودى والمعرفى بين "الشرق" و"الغرب". وسؤالى هنا هو: هل فى هذا شىء غير طبيعى؟ إن كل شعب، كما قلنا قبل قليل، ينظر إلى كل شعب آخر على أنه مختلف عنه. ونحن العرب، بوصفنا شرقيين، نختلف بكل يقين عن الأوربيين والأمريكان اختلافا شديدا رغم جامع الإنسانية بين الطرفين، وهو الجامع الذى يجعلنا متشابهين فى خطوط تكويننا وحياتنا العامة. لكن رغم هذه الإنسانية الجامعة هناك اختلافات بيننا وبينهم لا تكاد تنتهى: فهم فى الغالب ينتمون إلى النصرانية، ونحن فى الغالب مسلمون. وهم إما يؤلهون المسيح أو ملاحدة، ولكنهم فى الحالين يكرهون الإسلام، ونحن لا نؤله المسيح بل نؤمن به عبدا رسولا، مثله فى ذلك مثل نبينا محمد عليهما الصلاة والسلام. ونساؤهم يكشفن أجزاء كبيرة من أجسادهن بينما نساؤنا يتحجبن. والرجال والنساء عندهم يرتدين القبعات، أما نحن فنكشف رؤوسنا إن كنا رجالا، وتلبس نساؤنا الطرحة أو ما يشبهها. وهم يشربون الخمر ويأكلون الخنزير، ونحن نحرمهما. وأطعمتهم تختلف عن أطعمتنا فى تفاصيل كثيرة. وهم يكتبون من الشمال لليمين، ونحن من اليمين للشمال. وحروف لغتهم تختلف تماما عن حروف لغتنا. وبلادهم حاليا أنظف من بلادنا. وهم أنشط وأشد احتراما للعمل وإتقانه منا. ومعظم شوارع مدننا ممتلئة بالحفر والمطبات، أما شوارعهم وأرصفتهم فواسعة وممهدة تماما ومُراعًى فيها كل ألوان الراحة لمن يستعملونها، وأما قرانا وأحياؤنا الشعبية فلا داعى للكلام عنها، فبينها وبين قراهم وأحيائهم المناظِرة سنون فلكية. والعقول عندهم ناشطة فى ميادين الفكر والعلم والاختراع والابتكار، ومن ثم فهم وراء كل الاختراعات والابتكارات التى يستمتع بها البشر فى كل أنحاء العالم منذ قرون بخلافنا تماما، إذ نحن مجرد مستهلكين ومقلدين ولا نعرف ابتكارا ولا اختراعا. وعندهم شورى، وحكامهم يرون أنفسهم خداما لأمتهم، أما لدينا فالاستبداد هو سيد الموقف. وليس عندهم فقر وبؤس كالذى فى كثير من بلادنا... إلخ. والقرآن يقول عن البشر: "ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة. ولا يزالون مختلفين". فإذا كان هذا هو حال الواقع، وكان هذا هو تقرير القرآن، فالمسألة بالتالى منتهية.
    إذن فأوربا لم تخترع الشرق اختراعا بل هو، عند انطلاق مرحلة الاستعمار الغربى لبلاد الشرق، والبلاد العربية والإسلامية على نحو خاص، موجود على النحو الذى صورتُه لتوى. لكن المشكلة فى أن أوربا تزعم أن الشرق هكذا كان، وهكذا هو الآن، وهكذا هو كائن وسيكون فى المستقبل إلى ما لا نهاية حتى إن بعضا من شياطين مفكرى الغرب يريدون أن يوهموا العالم أن الوضع الحضارى الحالى هو وضع دائم وخالد إلى الأبد. لقد وقف التاريخ عند هذا الحد، ولن يتحرك أو يتغير، بل سوف يظل الغرب متقدما متحضرا متفوقا، ويبقى الشرق طوال عمره متخلفا ضعيفا يغمره الخزى والهوان والضعف والهزيمة دون أى أمل فى الانعتاق من ذلك.
    ونسى الغرب أن الوضع كان معكوسا إلى حد كبير قبل العصر الحديث، فكنا نحن فى المقدمة، وهم فى المؤخرة، وأن حضارتهم الحالية أساسها حضارتنا، التى غربت وسقطت شمسها فى مياه المحيط ولم تبزغ من يومها منذ قرون. وفوق هذا فإن الغرب يعمل بكل قواه وطاقاته على إبقائنا متخلفين ويسد الأبواب جميعا فى وجوهنا، ثم يستدير من الناحية الأخرى ويعايرنا بأننا بطبيعتنا متخلفون لسنا على استعداد للترقى لأن طبيعتنا تقف هى والترقى على طرفى نقيض. وهو موقف شيطانى خبيث. على أن هذا لا يعفينا من اللوم، فنحن لا نريد النهوض إرادة صادقة وإن جعجعنا بخلاف ذلك، ومن ثم فنحن المَلُومُون بالدرجة الأولى، إذ لا يعقل أن ننتظر من الآخرين مساعدتنا على النهوض ومنافستهم من ثم، وبخاصة إذا كان هؤلاء الآخرون هم أعداءنا وسارقى ثرواتنا وقاتلى أبطالنا والذين احتلوا بلادنا بقوة السلاح ولا يزالون يحتلونها، وإن لم يكن احتلالا عسكريا كما كان الأمر فى السابق بل احتلالا سياسيا وثقافيا واقتصاديا.
    ومما يقوله إدوارد سعيد فى كتابه المذكور أيضا أن الشرق بالنسبة لأمريكا، على عكس الدول الأوربية، ليس هو الشرق العربى بل الشرق الأقصى، واليابان والصين فى المقام الأول. وهذا كلام يحتاج إلى مراجعة، فقد كان الليبيون فى القرن التاسع عشر يمنعون أساطيل الأمريكان من المرور فى البحر المتوسط بسلام، فكان أن لجأت أمريكا إلى الحصار وضربت طرابلس بقسوة، لكن ذلك لم يجدهم نفعا، فانسحبوا ودفعوا المعلوم كما كانوا يفعلون قبلا. وفوق هذا هل يمكن أن ننسى تجارة العبيد الأفارقة، وكثير منهم مسلمون، تلك التجارة التى كان يقوم بها الأمريكان وفطس فيها ملايين البشر الذين كتب الله عليهم أن يقعوا عبيدا فى أيادى الأمريكان المجرمين؟ أيمكن أن ننسى فلسطين وما فعله الأمريكان (مع غيرهم من دول أوربا) من أجل خلع الفلسطينيين من بيوتهم وأراضيهم وزيتونهم وبلادهم وتسليم ذلك كاملا جاهزا لليهود والصهاينة وعملهم على الحفاظ على قوة أولئك الواغلين شذاذ الآفاق والتنكيل بأصحاب الحق والأرض والزيتون والوطن؟ أيمكن أن ننسى هزيمة سبع وستين وما جرته علينا من خزى وعار وهوان وتنازل عن الكرامة والحقوق وما رسخته من استبداد؟ فمن وراء هذا يا ترى سوى الأمريكان؟ أيمكن أن ننسى أن الانقلابات العسكرية التى ابتليت بها بلاد المسلمين مع ما ابْتُلِىَ بها كثير من شعوب العالم الثالث هى صناعة أمريكية فى المقام الأول، وإن زعم الانقلابيون أنهم أعداء لأمريكا وعلى استعداد لتشريبها مياه البحر، وهو شىء لزوم الاستهلاك المحلى للإيهام بأن عملاء أمريكا هم أبطال وطنيون غيارى على مصالح البلاد والعباد؟ أيمكن أن ننسى الجزية التى يدفعها بعض حكام العرب للأمريكان بمئات المليارات، والتى كانوا يدفعونها سرا ثم أتى ترامب الفظ الغليظ فأعلنها مدوية بأنهم إذا لم يدفعوا أكثر وأكثر وأكثر وأكثر فلسوف يتركهم يسقطون فى خلال أيام؟ وهو طبعا يعنى أن الأمريكان سوف يخلقون لهم المشاكل ويسلطون عليهم جيرانهم ويزيحونهم عن عروشهم. أيمكن أن ننسى ما فعله الأمريكان بالعراق وتدميرهم له وقتلهم مئات الألوف من أبنائه ونسائه وأطفاله المساكين وسرقتهم بتروله وآثاره الوطنية العظيمة التى لا تقدر بثمن؟ فكيف ينسى أو يتناسى هذا كله د. إدوارد سعيد بتلك البساطة ويقول إن الشرق لدى الأمريكان هو الشرق الأقصى ليس إلا؟
    وبالنسبة إلى مصطلح "الاستشراق" يرى إدوارد سعيد أن أيسر تعريفاته أنه مبحث أكاديمى، بيد أنه يعود فيذكر بين المستشرقين شعراء وروائيين وفلاسفة وسياسيين واقتصاديين وإداريين، وهو ما نتفق معه فيه ولا نقصر الاستشراق على الأكاديميين، فالمستشرق هو كل من يهتم بالشرق، والمقصود فى حالتنا هو الشرق العربى والإسلامى، الذى يدخل فيه مصر وليبيا وتونس والجزائر والمغرب وموريتانيا رغم أن هذه البلاد الأخيرة لا تقع فى شرق أوربا بل فى جنوبها، وإن كانت تقع فى شرق أمريكا على نحو ما. والمهتمون بالشرق، كما وضحنا، لا ينحصرون فى الأكاديميين بل يشركهم فى هذا من ذكرهم سعيد نفسه وأشرت إليهم قبل قليل، ونضيف إليهم الصحفيين ورجال الدين والرحالة والمغامرين والجواسيس ومثيرى الشغب والفوضى ومدبرى الانقلابات ما داموا قد تركوا وراءهم كتبا ودراسات ومقالات تتعلق بالشرق. وعلى هذا الأساس نرى إدوارد سعيد لا يمانع من اعتبار إيسخولوس المسرحى الإغريقى ولا فكتور هوجو الشاعر والروائى والمسرحى الفرنسى ولا دانتى الإيطالى صاحب "الملهاة الإلهية" ولا كارل ماركس الفيلسوف الألمانى من المستشرقين. وقد كتب إيسخولوس مسرحية عن حرب بلاده مع الفرس، ونظم هوجو شعرا جميلا فى بعض المنعطفات الهامة فى سيرة سيد الخلق، وتعرض دانتى فى "كوميدياه" لنبينا الكريم وبعض الشخصيات الإسلامية الكبيرة، فوضعهم الملعونُ فى الجحيم، ووضع سيد الخلق فى قعر ذلك الجحيم. كذلك تحدث كارل ماركس عن الإسلام وسجل رأيه فيه ضمن بعض مؤلفاته.
    ومعنى هذا أن الاستشراق لا يقتصر على عصرنا ولا على ما قبل عصرنا بعدة قرون، بل هو قائم منذ كان هناك شرق وغرب وغربيون يهتمون بالشرق ويكتبون عنه ويرحلون إليه ويصفونه ويسجلون آراءهم حول ما وجدوه فيه سماعا ورؤية وتجارب واتصالا بالناس وما يعملون. ومن هنا وضعت كتابى: "مستشرقون من قبل عصر الاستشراق. مستغربون من قبل عصر الاستغراب" قبل سنتين، وذكرت من المستشرقين القدامى الذين ظهروا قبل بدء عصر الاستشراق الرسمى بأزمان بعيدة هيرودوت المؤرخ والرحالة الإغريقى ووقفت إزاء ما كتبه عن مصر وعن المصريين وقلبته على وجوهه وألفيت ما كتبه عن بلادنا وحضارتنا وأسلافنا كلاما طيبا إلى حد بعيد. ومنهم ديودور الصقلى، الذى تأملت فأعجبنى ما قاله عن بلاد العرب وجنوب بلاد الشام وبحيرة طبرية، ووضعت كل شىء فيه على محك المناقشة. كذلك تحدثت فى كتابى هذا عن يوحنا الدمشقى وما كتبه عن الإسلام والرسول والقرآن وفضحت أكاذيبه ومزاعمه الزائفة حول نبينا الكريم ورسالته العبقرية. ومن هنا نفهم اعتبار إدوارد سعيد لإسخولوس مستشرقا من المستشرقين.
    ويقول إدوارد سعيد أيضا إن الاستشراق دليل على سيطرة أوربا وأمريكا على الشرق، ومن ثم ليس هناك أمل فى إدحاض الخطاب الاستشراقى بمجرد الرد عليه وتبيين ما فيه من أخطاء. يريد أن يقول إن الخطاب الاستشراقى سيظل قويا مؤثرا ما دام أهله أقوياء مؤثرين، ونحن العرب والمسلمين ضعفاء مستسلمين. ولى على هذا عدة ملاحظات: أولاها أن إدوارد سعيد يحصر نفسه هنا فى الاستشراق الحديث والمعاصر، وهو الاستشراق الذى واكب الاستعمار الغربى لبلادنا. وهذا الاستشراق ليس هو كل الاستشراق بل مرحلة واحدة من مراحله سبقتها مراحل منها مرحلة كان العرب والمسلمون أقوياء، وكان الغرب يتعلم علومنا ولا يعيبها ولا ينتقدها بل يستفيد منها ما دامت هذه العلوم متصلة بالطبيعة والكيمياء والجيولوجيا والفلك والطب وما أشبه، أما ما اتصل بالإسلام فكان موقف الغرب منه مختلفا، إذ كان يختلق الأكاذيب ويروجها بين شعوبه وأممه حتى ينفرهم من دين محمد ويبغضهم فيه. وثانية ملاحظاتى أن الاستشراق لن يسقط مهما فعلنا بل كل ما يمكن أن يحدث هو أن عدد الذين يصدقون أقاويله سيقلون، وتأثيره سيضمحل، على الأقل فى نفوس العرب والمسلمين المفتونين به. وهذا من شأنه أن نستعيد الثقة بأنفسنا وتتحرر عقولنا وتنطلق وتعمل وتثور على هذه البلادة والعجز الفكرى والشلل النفسى والتيبس الحضارى الذى نرزح تحته منذ قرون. وهذا أمر يستغرق أزمانا ولا يتم دفعة واحدة فى وقت واحد. وكما تحرر الغرب من خوفهم من المسلمين قليلا قليلا وأخذ هذا الأمر منهم قرونا فلسوف يحدث الأمر على هذا النحو عندنا. ذلك قانون من قوانين الكون: ألا يتم مثل ذلك التحول بسهولة ولا بسرعة، بل يأخذ وقته. والمهم البدء، والمهم العمل، والمهم النشاط والحيوية.
    ومما قاله إدوارد سعيد أيضا أن الاستشراق لا يمكن اختزاله فى كونه هيكلا من الأكاذيب. ونحن معه فى هذا، فلا شك أن الاستشراق، بما فى ذلك الاستشراق المتعصب المعادى، ليس كله أكاذيب، إذ المستشرق ينطلق فى كثير من الأحيان من نصوص فى تراثنا ومن أحوال فى واقعنا. لكن المشكلة تكمن فى أن كثيرا من المستشرقين، إن لم يكن أكثرهم، يلوون مغزى النصوص والأوضاع القائمة ويفسرونها تفسيرا مسيئا ويقوِّلونها ما ليس فيها ويستخرجون منها أفسد النتائج وأبعدها عن المنطق. ذلك أنهم يدخلون الموضوع بفكرة مسبقة كارهة للإسلام، ومن ثم يوجهون النصوص والأوضاع كى تنسجم مع تلك الكراهية. وبوجه عام نراهم لا يستشهدون بأحد من الكتاب المسلمين المحدثين الذين يدافعون عن الإسلام أو يعرضونه عرضا حسنا مكتفين بالنصوص التى ينقلونها عن الكتب التراثية مع مراعاة أن تكون مجرد نصوص إخبارية أو تقريرية لا عرض فيها للإسلام ولا دفاع فيها عنه, ورغم هذا فنحن لا ننكر أن هناك نسبة من المستشرقين، ولكنها ضئيلة عموما، لا تنحرف هذا الانحراف بل تلتزم إلى حد معقول جانب الحياد والموضوعية. كما أن هناك مستشرقين مسلمين يقولون بطبيعة الحال فى الإسلام والعروبة قولا حسنا.
    كذلك يركز إدوارد سعيد فى كتابه على الأهداف السياسية والاقتصادية للاستشراق، وهى تمكين المستشرقين لبلادهم من استغلال البلاد الشرقية، ويهمنا منها بطبيعة الحال البلاد العربية والإسلامية، والاستيلاء على خيراتها وتعويق نهضتها وقمع كل حركة كفاحية فيها وإشاعة اليأس فى نفوس أبنائها من مناطحتهم لسادتهم الأوربيين، فضلا عن الانتصار عليهم والقدرة على إخراجهم من بلادهم. لكن منطلق الاستشراق فى أصله الرسمى والمؤسساتى هو منطلق دينى. لقد رأينا كيف بدأ الاستشراق المؤسساتى فى أسبانيا فى القرن السابع الهجرى (الثالث عشر الميلادى) حين اشتدت حملة نصارى الأسبان على المسلمين، إذ دعا ألفونس ملكُ قشتالة رجلَ الدين الأسكتلندى مايكل سكوت إلى دراسة حضارة المسلمين علما ودينا، فجمع سكوت طائفةً من الرهبان بدَيْرٍ قرب طليطلة، وشرعوا فى ترجمة بعض الكتب الإسلامية العربية. وقام رئيس أساقفة طليطلة ريمون لول بنشاط كبير فى ترجمة تلك الكتب. ومع مرور الزمن اتسع الأوربيون فى هذا المجال، وأنشأوا مطابع عربية لطبع الكتب التى كانت تدرس فى المدارس والجامعات فى بلدانهم. ومعروف أمر محاكم التفتيش فى شبه الجزيرة الأيبيرية والغاية التى كانت السلطات السياسية والدينية هناك تعمل من أجل بلوغها، وهى القضاء على الإسلام تماما فى تلك البلاد بكل سبيل إجرامى ولاإنسانى، وهو ما تحقق بعد فترة ليست بالطويلة فى تاريخ الأمم حسبما وضحنا سابقا. لقد ترك العرب والمسلمون، حين فتحوا تلك البلاد، أهلها على ما هم عليه من دين، ولم يحاولوا تحويلهم عن عقيدتهم، فضلا عن أن ينشئوا المؤسسات التى تفعل هذا على عكس ما صنع رجال الحكم والدين النصارى هناك حين واتتهم الفرصة.
    ومن هنا رأينا كثيرا جدا من المستشرقين والمبشرين يؤلفون الكتب ضد الإسلام معتمدين فيها على الأخاديع والمزاعم الباطلة من أن محمدا نبى كاذب وأن القرآن مأخوذ من الكتاب المقدس مع تحريف هذا المأخوذ، وأن الإسلام دين عدوانى انتشر بالسيف وأن النصرانية دين سلام ورحمة ورقة، وأن المسلمين بإنكارهم أن عيسى عليه السلام هو إله أو على الأقل: ابن الله قد كفروا وضلوا عن سواء السبيل. وكثيرة جدا هى الكتب والدراسات التى تهاجم الإسلام ورسوله وكتابه وتاريخه. ويتبين ذلك على أوضح صورة وأوجزها فى "دائرة المعارف الإسلامية" حيث الانحراف عن المنهج العلمى، والعداوة البارزة للإسلام ورسوله وكتابه وعقائده وشرائعه، والرغبة الحارقة فى تلطيخ كل شىء فيه، وضيق الأفق فى الكلام عن أى شىء يتعلق بالإسلام، والتعصب الذميم ضده حتى لتقدَّم أسوأ التفسيرات لأى إنجاز كريم من إنجازاته، وتُعْزَى الأعمال العظيمة فيه إلى أحط البواعث، وتُنْثَر بذور التشكيك فى مصادر تاريخه، اللهم إلا إذا كان فيها ما يمكن عن طريق لَيِّه وتقويله ما ليس فيه أن يوظَّف للإساءة إلى الإسلام وحضارته وأعلامه كما لاحظتُ حينما عكفتُ على تأليف كتابى: "دائرة المعارف الإسلامية الاستشراقية- أضاليل وأباطيل"، الذى يجد فيه القارئ الأدلة والبراهين القاطعة على تحيز الدائرة وكتابها ضد ديننا وكل ما يتعلق بهذا الدين. صحيح أن هناك مستشرقين معتدلين أو متعاطفين مع ديننا بل هناك أيضا مستشرقون أسلموا، إلا أنك عبثا تحاول العثور على شىء من آثار هذا الاعتدال أو التعاطف أو الاندماج فى تلك الموسوعة، ويبدو أن هؤلاء بوجه عام مستبعدون من المشاركة فى تأليف تلك الموسوعة.
    ويكمل هذا النشاط اهتمامُ الغرب بمن يعمل منا لصالحهم وتلميعُهم ودعوتُهم لحضور مؤتمراتهم فى أوربا وأمريكا وتضخيمُ شأنهم مهما كانت محدودية قدراتهم وسطحية معارفهم وتفاهة شخصياتهم وخلعُ الجوائز عليهم وتسهيلُ عملية النشر لهم... إلخ بينما يحارَب من الكتاب والأدباء المسلمين من يخلصون لدينهم ويعتزون بحضارتهم وتاريخهم ويدافعون عن نبيهم وقرآنهم ورموزهم. وسياسة الغرب فى هذا الصدد تقوم على تقريب من يسمونهم بـ"المعتدلين" فى الدين إليهم مستعينين بهم فى ضرب من يسمونهم بـ"المتشددين"، حتى إذا ما قضوا على المتشددين استداروا فاستعانوا بالعلمانيين ضد المعتدلين، ليستعينوا بالملاحدة وخالعى أنفسهم صراحة من ربقة الإسلام ضد العلمانيين. وهذا مكتوب على نحو أو على آخر فى بعض تقارير مؤسسة راند، التى ترجمت أنا ثلاثة منها إلى العربية وصدرت عن دار "تنوير".
    بنت الشاطئ وما كتبته عن اهتمام المستشرقين بتراثنا وحاضرنا: وتتحدث بنت الشاطئ فى الجزء الخاص بالمستشرقين من كتابها: "تراثنا بين ماض وحاضر" عن سر اهتمام الدارسين الغربيين بتراثنا وحاضرنا ذلك الاهتمام الشديد المذهل فتؤكد أنهم إنما يدرسوننا ليعرفونا جيدا ويقفوا على أسرار شخصياتنا ونواحى القوة والضعف فى أسلوب حياتنا وتفكيرنا وميولنا حتى يضعوا الخطط لاجتياحنا ثقافيا وعسكريا ويسددوا ضرباتهم إلى ديننا وكل ما تقوم عليه حياتنا وحاضرنا ومستقبلنا. وهى لا تنكر أن فى المستشرقين مخلصين للعلم وللحقيقة، لكنها ترى نسبتهم ضئيلة، أما التيار الجارف فيخطط لتدميرنا. ثم إنها رغم هذا تقول إننا مدينون لهم بما أنقذوره من مخطوطات تراثنا العظيم، تلك المخطوطات التى جندوا للحصول عليها بكل سبيل الأموال والأشخاص وأرسلوهم إلى كل مكان فى العالم الإسلامى لشرائها وجمعها ونقلها إلى مكتباتهم وتحقيقها ونشرها. وأنا لا أستطيع أن أنكر جهود المستشرقين فى هذا المجال، لكنى أحب أن أضيف أن شعورنا بأننا مدينون لهم لا ينبغى أن يحملنا على الظن أنهم قد أرادوا خدمتنا بهذا بل كان ديننا لهم عرضا، أى شيئا لم يقصدوه، وإنما تصادف أن استفدنا نحن منه دون أن يقصدوا هم هذا على الإطلاق. ومن ناحية أخرى فإننا ندرس آداب الغرب وفكره وعلومه وفلسفته ولا نشعر أننا أصحاب جميل عليه، بل ننظر إلى الأمر على أنه تخصص نمارسه ليس إلا. وشىء آخر هو أن دارسينا المتخصصين فى آداب الغرب وعلومه وفلسفاته لا ينطلقون من منطلق البحث عن عيوبه والتخطيط لإيذائه كما يفعل المستشرقون بوجه عام حين يدرسوننا.
    عَوْدٌ إلى إدوارد سعيد: كذلك يشير إدوارد سعيد إلى ما كان ولا يزال ينتهجه المستشرقون من اللجوء إلى التخطيط والتعاون وإصدار المجلات وعقد المؤتمرات وتبادل المؤلفات وتناول كل شىء تقريبا فى حضارتنا وثقافتنا بالكتابة والنقد، وغالبا بالتهوين اللهم إلا إذا كان الكاتب أو الأديب المسلم من المارقين أو الذين يمكن أن يقدَّموا على أنهم مارقون خارجون على الإسلام، فعندئذ يولونه أهمية عظمى ويستخرجون منه ما يستطيعون الزعم بأنه تمردٌ على الإسلام. ولا ينبغى أن ننسى فى هذا السياق "دائرة المعارف الإسلامية"، التى تجمع بين دفتيها خلاصة الفكر الاستشراقى المعادى لنا كما سبق أن وضحت. ومن وراء هذا كله الحكومات الغربية ومؤسسات المجتمع المدنى والتبرعات التى يقدمها أغنياؤهم خدمة للاستشراق والمستشرقين.
    أما نحن فرغم أننا ندرس الأدب والثقافة الغربية فى جامعاتنا فلن تجد بوجه عام فى كتابات مؤلفينا إلا الإكبار للغرب وكتّابه وأدبائه وفلاسفته، ولا تكاد تجد شيئا يشتم منه رائحة الانتقاد واستخراج النواحى السلبية التى لا يبرأ منها عمل إنسانى كما قلت آنفا. كذلك عبثا تبحث عن انتقاد للغرب أو الأديب أو الكاتب المترجم له فى "فرنسيس باكون" و"شكسبير" و"برنارد شو" للعقاد، و"قادة الفكر" و"نظام الأثينيين" لطه حسين، و"دافيد هيوم" و"برتراند رسل" لزكى نجيب محمود، و"الكوميديا الإلهية" لحسن عثمان، الذى يجل دانتى إجلالا بعيدا رغم وضع الشاعر الإيطالى لنبينا محمد وعدد من رموز تاريخنا وثقافتنا فى الجحيم مختصا رسولنا الكريم بوضعه فى قاع القاع، وكل ما صنعه عثمان أن حذف الأبيات المتعلقة بموضوع النبى، لا ندرى أكان ذلك بدافع من ذاته أم بتوجيه من "دار المعارف"، التى نشرت له الترجمة، ولم تمنعه كراهية دانتى السامة لمحمد عليه السلام ولدينه وبعض الشخصيات الإسلامية الكبيرة من إنفاق عشرين عاما على نقل دانتى إلى لغة القرآن رغم أن تخصصه هو فى التاريخ لا فى الأدب الإيطالى ولا فى أى أدب.
    طه حسين وكتاب نالينو عن تاريخ الأدب العربى: هذا، وهناك كتاب ظهر فى مصر عن دار المعارف للمستشرق الإيطالى كارلو نالينو ذكرت ابنته وطه حسين أنه هو نفسه نص المحاضرات التى كان يلقيها على طلاب الجامعة المصرية فى العام الدراسى 1910- 1911م فى تاريخ الأدب العربى، وعنوانه "تاريخ الآداب العربية". وإذا كان الكتاب هو نفسه نص المحاضرات فمعنى هذا أن المستشرق الإيطالى كان يقرأ من أوراق هذا الكتاب مباشرة على طلابه، إذ المحاضرات الشفوية لا يمكن أن تكون هكذا خالية من التكرار والفأفأة والبأبأة والاستطراد والخروج عن الموضوع والأخطاء والأسهاء وما إلى ذلك. وقد وقع لى كتابه عن الفلك عند العرب فى العصور الوسطى بعد ذلك، فألفيته يذكر فى التمهيد لفصوله أنه كان يملى كتابه ذاك على طلابه بإيقاع يسمح لهم بكتابة ما يسمعون حتى يستطيعوا أن يستذكروا المحاضرة فى البيت وما إلى ذلك. وأفهم من ذلك أنه لم يكن يشرح شيئا مما يمكن أن نقول فيه إنه يتحدث الفصحى من فمه وذهنه مباشرة لا من النظر فى كتاب وإنه كان بارعا فى ذلك كما يفهم من كلام طه حسين فى مقدمته لكتاب "تاريخ الآداب العربية"، إذ كان، كما يقول، يملى فقط، وببطء يمكِّن طلابه من كتابة كل شىء. ثم إن ابنته ذكرت أنها قد أضافت أشياء إلى الكتاب وترجمت الحواشى الإيطالية التى كان أبوها قد صاغها للكتاب بلغته رغم أن الكتاب مسبوك فى العربية ورغم أن مؤلفه كان يعرف العربية معرفة جيدة كتابة وكلاما حسبما قيل. ومما يلفت الانتباه أيضا تأكيد طه حسين أن الكتاب الذى نحن بصدده هو هو نفسه المحاضرات التى كان يلقيها نالينو على طه حسين وجيله من الطلاب المصريين قبل أكثر من أربعين عاما. فكيف يكون طه حسين على هذا اليقين القاطع من أمر مضى قبل كل تلك العقود؟ ثم ما دام نالينو كان يتقن العربية كل ذلك الإتقان فلماذا لم يؤلف شيئا آخر من مؤلفاته بها غير ذلك الكتاب وكتاب آخر عن الفلك ألقى محاضراته فى العام الجامعى السابق، والمحاضرات التى دُعِىَ بعد ذلك إلى الجامعة كرة أخرى لإلقائها مثلما صنع مع هاتين المجموعتين من المحاضرات؟
    ثم لقد قرأنا، فى ترجمة نالينو بـ"موسوعة المستشرقين" للدكتور عبد الرحمن بدوى، أنه قد تعلم العربية على نفسه فى البداية، ولم يعش فى بلد عربى سوى نصف عام، وكان ذلك فى مصر. وقد ذكر د. عبد الرحمن بدوى فى ترجمته له فى نهاية كتابه: "التراث اليونانى فى الحضارة الإسلامية- دراسات لكبار المستشرقين" (مكتبة النهضة المصرية/ ص322) أنه "بدأ تعلم العربية دون أستاذ ودون كتب فى نحو اللغة وصرفها بأن كان يديم النظر فى كتابٍ جمع منتخبات من الأدب العربى وقع نظره عليه فى مكتبة بلدية أودِنه". والواقع أنى لا أدرى كيف يمكن تعلم لغة أجنبية من خلال النظر فى بعض نصوصها دون أن يعرف المتعلم ألفباءها أو نحوها وصرفها. إن المتعلم حينئذ ليشبه الأطرش الذى يحاول الاستماع إلى الموسيقى فى غرفة ليس فيها موسيقيون ولا آلات موسيقية ولا نوت موسيقية بل ليس فيها أحد سوى نفسه. إن الأمر وقتئذ لا يزيد عن تحديق نالينو فى صور لحروف لا تعنى أى شىء بالنسبة إليه، بل ولا يستطيع أن ينطقها مجرد نطق. ومعروف أن الأجنبى لا يكتسب المقدرة على الكتابة بلغة غير لغته التى ولد وتربى وتعلم فيها وبها إلا إذا أنفق فى معرفة حروفها ونطقها ونحوها وصرفها ثم القراءة والكتابة بها ثم استعمالها فى التأليف سنوات طوالا يكتب ويصحح له المصححون ويكتب ويصحح له المصححون ويكتب ويصحح له المصححون إلى أن يكتسب حساسية اللغة والتفكير والتأليف بها. إن لغة نالينو العربية التى نراها فى كتابه عن "تاريخ الآداب العربية"، ويكثر فيها أحيانا بعض تراكيب الأسلوب القديم ومفرداته وتعابيره لا يمكن تحصيلها هكذا من المرة الواحدة التى ألف فيها كتابه عن الفلك عند العرب فى السنة السابقة، إذ لم يصلنا ولم يذكر نالينو نفسه أنه كان يكثر من الكتابة بالعربية كما يصنع مع لغة بلده، وإلا فأين تلك الكتابات؟ وأين أخبارها؟ وما ظروفها؟ ولماذا يتعب نفسه فى صياغتها إذا لم يكن سيؤلف بها كتبه، وهو لم يكن يشم على ظهر يده ويعرف أنه سوف تستدعيه الجامعة المصرية ليحاضر طلابها بالعربية فكان يكتب بها سنوات قبل التحاقه بأساتذتها؟ ذلك إنه لمن الغرابة بمكان أن يكون هذا هو أسلوب كارلو نالينو فعلا حصله فى وقت جد قصير ودون تدريب طويل ولم يساعده أحد فى صياغته أو فى تنقيته من الأخطاء التى لا بد أن يقع فيها بوصفه إنسانا أجنبيا عن اللغة وعن الثقافة المكتوبة بتلك اللغة. إن أسلوبه العربى الذى صيغ به كتابه عن "تاريخ الآداب العربية" هو أسلوب قوى يصعب على كثير من الكتاب العرب أنفسهم أن يصلوا إليه، وإن لم يخل من بعض الأخطاء والغرابة والركاكة وأسلوب الخواجات.
    ورغم هذا فلست مع طه حسين فى الضجة التى أحدثها فى مقدمته للكتاب بسبب امتلاك نالينو لمثل هذا الأسلوب العربى إن كان نالينو قد جرى على النهج الذى يجرى عليه كل من يتعلم لغة غير لغة قومه، وبخاصة إذا كانت مختلفة تماما عنها اختلاف العربية عن الإيطالية وعن سائر اللغات الأوربية، فطه حسين نفسه قد كتب رسالته فى السوربون بالفرنسية، وكل من ذهب إلى بلد أوربى وحصل على درجة الدكتورية من هناك قد صنع نفس الشىء. وهذا ينطبق علىَّ أنا كاتب هذه السطور أيضا حين ذهبت إلى أكسفورد وحصلت على الدكتورية من هناك بعدما كتبت بها مرارا وصحح لى المصحح ما أكتب. أما الأساتذة المتخصصون فى اللغات والآداب الأجنبية فيتكلمون ويكتبون كلٌّ باللغة التى تخصص فيها مثلما كتب نالينو دروسه بالعربية، بل وأفضل كثيرا، ودون أن يبدو لنا الأمر عجيبا كما أراد د. طه أن يصور إنجاز نالينو.
    كذلك فتصوير د. طه، فى مقدمة كتاب نالينو عن "تاريخ الآداب العربية" على سبيل المقارنة مع منهج نالينو فى ذلك الكتاب، للدرس الذى كان يلقيه عليهم الشيخ المرصفى فى الأزهر فى شرح النصوص الأدبية العربية القديمة وتحليلها وتفهيمها للطلاب على أنه شىء قديم ليس تصويرا صحيحا بل هذا أحد المناهج التى نقترب بها من النصوص الإبداعية والتى بدونها لا نستطيع أن نفهم تلك النصوص: على الأقل لا نستطيع أن نفهمها الفهم الواجب. وما زلنا حتى الآن نستعمل هذا المنهج مع طلابنا، وإلا ما فهموا ما ندرسه لهم، وبخاصة إذا كان نصا قديما لا يعرفون سوى القليل عن لغته والظروف التى أنشئ فيها والأشخاص الذين يرتبطون به. ولا أظن نالينو كان قاردا على القيام بعمل الشيخ المرصفى رغم أسلوبه العربى المتميز مع أخطاء وركاكات وغرابة فى التراكيب هنا وهناك.
    وفى مقدمة كتاب نالينو: "تاريخ الآداب العربية" يقول طه حسين مقابلا بين لغة مشايخ الأزهر فى الجامع الأزهر ولغة المستشرقين فى الجامعة المصرية، والضمير فى أول الكلام يعود عليه وعلى زملائه الذين كانوا يحضرون نهارا دروس مشايخهم الأزاهرة، وليلا دروس المستشرقين فى الجامعة المصرية الجديدة: "ووازنوا كذلك بين شيوخهم أولئك الذين كانوا لا يعربون إلا حين يقرأون فى الكتب، فإذا تكلموا غرقوا وأغرقوا طلابهم فى اللغة العامية إلى أذقانهم أو إلى آذانهم، وبين أساتذتهم أولئك الأوربيين الذين كانوا يعربون حين يقرأون وحين يفسرون وحين يخوضون معهم فيما شاء الله من ألوان الحديث. وكانوا يسألون أنفسهم: كيف أتيح لهؤلاء الأوربيين ما أتيح لهم من العلم بأسرار اللغة العربية ودقائق آدابها، وكيف لم يتح هذا النوع من العلم لشيوخهم أولئك الأجلاء" (ص10).
    هذا ما قاله طه حسين عن المستوى اللغوى العالى للمستشرقين الذين كانوا يحاضرون فى الجامعة المصرية أول ما افتتحت. لكن نالينو كان له رأى آخر فى الموضوع، إذ إنه فى مقدمة الكتاب الذى يحوى ما كان يلقيه قبل ذلك بعام من محاضرات عن "علم الفلك- تاريخه عند العرب فى القرون الوسطى" (روما/ 1911م/ 2- 3) قد اعتذر اعتذارا شديدا عن ضعفه فى الحديث باللغة العربية قائلا: "وقبل الشروع فى موضوع دروسى لا بد لى من أن أستدعى لطافتكم الجميلة استدعاء ملحا لأنال منكم الغفران لما فى كلامى من النطق الشنيع والتلعثم الفظيع والتوقف والتردد وعدم تلك الفصاحة وتلك البلاغة اللتين تعودتهما مسامعكم فى محاضرات زملائى أساتذة هذه الجامعة وخطب الأدباء البارعين فى الإنشاء ومحاورات الأزهريين الأفاضل أئمة اللغة والعلم. فاعتبروا أننا المستشرقين الباحثين فى أوربا عن لغات أهل الشرق واعتقاداتهم وعوائدهم وآدابهم وتاريخهم وجغرافيا بلادهم... وهلم جرا أكثرنا ما تعلمنا تلك اللغات إلا بمطالعة الكتب دون أن يمكننا الاستفادة من محادثة الوطنيين. فلعدم هذا التمرين صارت لساننا كأنها ذات ثقل وانعقاد لا يسعها التكلم المعتاد، وكذلك آذاننا يصعب عليها كل الصعوبة إدارك الألفاظ حتى ما نستطيع فى الأغلب فهم ما قد فهمناه بادئ نظر لو كنا رأيناه مكتوبا أو مطبوعا. فبالجملة صار مثلنا كمثل الصُّمّ والبكم، وأصبحنا فى كنوز العربية مترددين فى بحورها متحيرين مع صرف همتنا إليها ومثابرتنا عليها".
    فهذا ما قاله طه حسين عن مشايخ الأزهر والمستشرقين ونالينو، وهذا ما قاله نالينو عن نفسه وعن المستشرقين والمشايخ الأزاهرة الذين كانوا يعلمون الطلاب فى الجامعة المصرية الأولى آخر العقد الأول وأول العقد الثانى من القرن العشرين. وما قاله نالينو هو نفسه عن نفسه هو نفسه ما قلته حين قارنت بين القراءة من كتاب عند إلقاء المحاضرات الجامعية وبين الكلام مباشرة من الفم مهما أعد الإنسان محاضرته جيدا.
    كلام طه حسين عن كازانوفا: ولطه حسين شهادة أخرى فى المقابلة بين مستشرق آخر هو كازانوفا الفرنسى وبين مشايخ الأزهر، إذ كان د. طه حسين معجبا أشد الإعجاب بذلك المستشرق. ويظهر هذا فى قوله عنه: "ولقد أريدُ أن يعلم الناس أنى سمعت هذا الأستاذ (كازانوفا) يفسر القرآن الكريم تفسيرا لغويا خالصا، فتمنيت لو أتيح لمناهجه أن تتجاوز باب الرواق العباسى بالأزهر ولو خلسة ليستطيع علماء الأزهر الشريف أن يدرسوا، على طريقة جديدة، نصوص القرآن الكريم من الوجهة اللغوية الخالصة على نحو مفيد حقا"، "لولا كازانوفا ما فهمتُ القرآن" (صحيفة "السياسة"/ 1/9/1922م)، "كان كازانوفا مسيحيا شديد الإيمان بمسيحيته، يذهب فيها إلى حد التعصب، ولكنه كان إذا دخل غرفة الدرس فى الكوليج دى فرانس نَسِىَ من المسيحية واليهودية والإسلام كل شئ" (السياسة/ 27/ 3/ 1926م). وكان كازانوفا ممن تعلم طه حسين على أيديهم من المستشرقين فى الجامعة المصرية الأولى. كما أن كازانوفا شديد الحملة بحماقة عظيمة على القرآن والرسول. لقد صدر له كتاب عن "Mohammed et la fin du Monde" سنة 1911م جاء فيه أن محمدا لم يعهد بالحكم إلى أحد من بعده لأنه كان يؤمن أن القيامة سوف تقوم فى حياته وينتهى كل شىء، إذ كان يظن أنه هو الذى بشر المسيح بظهوره عند نهاية العالم. أى أن كل ما نؤمن به نحن المسلمين من نبوته صلى الله عليه وسلم وأن القرآن وحى إلهى نزل من السماء عليه أوهام فى أوهام. فانظر كيف ينحاز طه حسين إلى ذلك المستشرق الذى يكفر بالقرآن ونبى القرآن، مؤكدا أنه لولا هو ما فهم القرآن حقا وأن المشايخ المسلمين ينبغى أن يتعلموا تفسير القرآن من ذلك الأعجمى.
    وفى السنة التى أسند فيها إلى طه حسين تدريس الأدب العربى بالجامعة المصرية بدلا من د. أحمد ضيف المتخصص فى هذا الأدب والذى أزيح ليحل محله طه حسين بعد عودته من فرنسا دكتورا بعدة أعوام رغم أن الأدب العربى ليس تخصصه بل تخصصه هو التاريخ الأوربى القديم، أعلن فى كتابه أنه لا يمكنه أن يأخذ برواية القرآن عن مجىء إبراهيم وإسماعيل إلى بلاد العرب مهما أكد القرآن تلك القصة، إذ هى فى الواقع أسطورة أخذ بها العرب (وتقبلها الإسلام) للتقرب من اليهود الذين يعيشون فى بلادهم، متناسيا ومتجاهلا أن القرآن قد تكلم عن إبراهيم ومجيئه إلى الحجاز ومكة قبل الهجرة، أى قبل الالتقاء باليهود فى المدينة ومحاولة التقرب المزعومة منهم، فضلا عن أنه فى مكة أيضا قد ذكر مخازى اليهود فى عبادة العجل والعدوان فى السبت والمسارعة إلى الوثنية فى كل مفصل من مفاصل حياتهم. وليس هذا بيقينٍ تصرف من يريد التقرب إلى أحد. ولو كان ادعاء طه حسين صحيحا لرأينا القرآن يجاملهم ويثنى عليهم ويمدحهم ولا يتطرق إلى الكلام عن معايبهم وفضائحهم.
    كما أن طه حسين فى مقدمة كتابه عن المتنبى ذكر أنه شدد على كاتبه ألا يحضر معه فى رحلة الأسرة إلى فرنسا آنذاك سوى ديوان الشاعر، لنفاجأ بأن الكتاب يحتوى على عدد من المراجع العربية والفرنسية وأنه لم يرجع فى كتابه إلى الديوان فقط. وقد ألفيت مارون عبود فى الفصل الخاص بطه حسين وكتابه: "مع المتنبى" من كتابه: "الرؤوس" يسخر منه لتناقض كلامه فى هذه النقطة مع فعله. قال فى أول الفصل المسمى: "رأس ضخم": "افتتح المؤلف الكتاب الأول بفصل يقع فى ثمانى صفحات مآلها أن طه قال كارهًا لصاحبه أن يصطحب المتنبى، ثم خبرنا كيف أخذ ذاك الصاحب يعبِّئ الكتب والدفاتر والكراريس ويرزمها، وكيف نهاه أو تقدم إليه فى أن يكتفى بأيسر طبعة من طبعات المتنبى، إلى غير ذلك من أحاديث تعوَّد طه أن يسد بها الفراغ ويملأ الصفحات"، ثم يعود بعد نحو عشر صفحات فيقول: "قال طه فى أول كتابه: إنه أخذ معه أبسط نسخة من ديوان المتنبى. وأنا أزعم له أن شيخنا العكبرى زار فى "المَعِيَّة" جبال الألب، فأكثر الأشياء التى رأيتها فى "مع المتنبى" تثبت ذلك. فهل أحرج إن شككت؟ أليس طه يبيح الشك ويريدنا عليه؟ فهذا الاتفاق أكد لى أن طه هيأ الرفيق قبل الطريق. ولهذا رأيته فى كتابه هذا مُكَبِّرًا فوتوغرافيًّا أو رسامًا بالقلم الرصاصى أخذ فى نقد المتنبى بأقوال العرب، وفى تاريخه بقول بلاشير وجبريلى". أريد أن أقول إن الأخبار التى يذكرها طه حسين فى كتبه ينبغى أن تؤخذ بتحفظ، ومنها هذا التمجيد للمستشرقين وعلمهم وبراعتهم فى الكلام والكتابة بلغتنا.
    مدارس الاستشراق: وتتبقى كلمة عن مدارس الاستشراق. وبعض الباحثين يتحدث عن المدرسة الفرنسية والمدرسة الإنجليزية والمدرسة الإيطالية والمدرسة الروسية... وهلم جرا، إذ بالإضافة إلى الموضوعات الاستشراقية العامة يهتم مستشرقو كل بلد بالموضوعات التى تهم بلادهم تبعا لعلاقاتهم الخاصة مع العرب والمسلمين فى تلك البلاد بالذات. ومن ذلك أن بعض من كتبوا عن الاستشراق الروسى يقولون إن الروس لم تكن لهم يوما مطامع فى البلاد الإسلامية، وهذا ما يميز الاستشراق الروسى. وهذا كلام يحتاج إلى مراجعة، فقد بسط الروس سيطرتهم على كثير من البلاد الإسلامية وضموها إلى إمبراطوريتهم ولم يفكر الاتحاد السوفييتى فى إعطاء أى بلد منها حريتهم. كما أن السوفييت عملوا كل ما فى طاقتهم لبسط نفوذهم فى كل بلد عربى استطاعوا الوصول إليه كما فى عدن والصومال والعراق وسورية والجزائر، وكذلك مصر، التى اتخذت منحى يساريا واضحا فى عهد عبد الناصر ونقلت كثيرا من التجارب والنظم والمصطلحات السوفييتية، وجاء يوم كان هناك خبراء سوفييت كثيرون فى مصر. وكان السوفييت بهذا يتخذوننا صبيانا لهم لمناوأة المعسكر الغربى ونشر عقيدتهم ومبادئهم فى بلادنا: أحيانا دفعة واحدة، وأحيانا بالتدريج. وهم يهاجمون الإسلام ويفسرونه تفسيرا ماديا اقتصاديا ولا يرون فى محمد نبيا حقيقيا، بل إنسانا عاديا انتهز أوضاع قومه وبيئته واحتياجاتها وادعى النبوة. وكان صبيانهم ولا يزالون حتى بعد انهيار الاتحاد السوفييتى يجرون على هذا النهج ويهاجمون الإسلام من هذا المنطلق ويسيئون إلى النبى محمد عليه السلام ويرون فى الإسلام عقيدة وشريعة متخلفة ينبغى أن تختفى وتترك المجال لإلحادهم. فالقول بأن الاستشراق الروسى أو السوفييتى لا يعادى العرب والمسلمين بحاجة ماسة إلى إعادة نظر لأنه كلام خاطئ تام البطلان.
    ويمكن النظر إلى مدارس الاستشراق من زاوية أخرى: فعامة المستشرقين يعملون بكل ما فى وسعهم على الإساءة للإسلام والتشكيك فيه والتقلل من شأنه وتصوير الرسول بصورة المدعى للنبوة واتهامه بالأخذ من الديانات الأخرى وبخاصة اليهودية والنصرانية. وبعض المستشرقين يكتبون كلاما طيبا عن بعض جوانب حضارتنا ويبرزون إنجازاتها واستفادة الغرب منها فى نهضته الحديثة وبنائه على تلك الإنجازات وتطويرها والإضافة إليها إلى أن بلغ ما بلغه من القوة والعلم. وهناك فريق من المستشرقين قليل فى العدد قد اعتنق الإسلام، وإن لم يمنع أن يكون منهم من اعتنقه نفاقا كى يستطيع الاختلاط بالمسلمين والتجسس عليهم والإضرار بهم. كذلك يمكن تقسيم الاستشراق باعتبار آخر: فمن المستشرقين من يهتم مثلا بالجوانب الحربية فى تاريخنا. ومنهم من يهتم بالتشريع الإسلامى. ومنهم من يهتم بالأدب العربى. ومنهم من يهتم بالجغرافيا العربية القديمة. ومنهم من يهتم بالناحية التاريخية. ومنهم من يهتم بالسياسة. ومنهم من يهتم بالاقتصاد... إلخ.
    ولكن المستشرقين بعامة لا يعرفون التخصص الدقيق كما نعرفه اليوم، فكثيرا ما نجد مستشرقا يكتب فى الأدب العربى والفتوح الإسلامية... وهكذا. ولنأخذ أجناطيوس كراتشكوفسكى عميد الاستشراق الروسى فى عهده مثلا، فقد وضع كتابا ضخما فى تاريخ الأدب الجغرافى عند العرب، وهو كتاب رائع ممتع رغم كل ما يمكن أن نخالفه فيه كما هو الحال حين ألفيته يعيب أسلوب ياقوت الحموى بجهل شديد، فرددت عليه فى الفصل الخاص بـ"معجم البلدان" لياقوت الحموى ضمن كتابى: "من ذخائر المكتبة العربية". وإلى جانب هذا الكتاب الذى حلل تحليلا أكثر من جيد عشرات الكتب الجغرافية العربية القديمة ووضع كلا منها فى سياقه الزمنى نجد له مؤلفات حول بعض الشعراء الأمويين والعباسيين مثلا. كما نقرأ أن المستشرقين يتميزون بأن كلا منهم يعرف طائفة من اللغات، وهو ما يتفوقون به علينا. وقد قرأت أن المستشرق الفرنسى دى ساسى، الذى كان مصاحبا للحملة الفرنسية على مصر، كان يعرف أكثر من عشر لغات أوربية وشرقية. أما المستشرق الألمانى تيودور نولدكه فقرأت أنه كان يعرف أكثر من عشرين لغة. أقول هذا استنادا لما قرأت بغض النظر عن مدى دقة الكلام أو عدمها. أما نَتَاجهم فقد يكون كتبا، وقد يكون أبحاثا، وقد يكون ترجمة لكتب عربية أو دواوين شعرية أو للقرآن الكريم أو للحديث النبوى الشريف، وقد يكون تأليفا لمعجم، وقد يكون تحريرا لموسوعة... وكل ما يكتبونه يدور حولنا وحول حضارتنا وماضينا وحاضرنا ومستقبلنا ومن كل الجوانب والنواحى، إذ هذا هو ميدان الاستشراق كما وضحنا وشرحنا.
    هل عرف أسلافنا الاستشراق واحتكوا بالمستشرقين؟ هذا، ومن المعروف أن الاستشراق الرسمى كان موجودا منذ عدة قرون، فهل كان أسلافنا قبل العصر الحديث يعرفون الاستشراق والمستشرقين؟ فأما معرفتهم بمصطلحى "الاستشراق" و"المستشرقين" فلا بكل تأكيد، وأما اهتمام الغربيين بالإسلام ونبيه وكتابه وأتباعه فأمر آخر كما قلنا. وما دام هناك اهتمام من الغربيين بذلك فلا بد أن يصل بعض هذا الاهتمام على الأقل إلى المسلمين على نحو أو على آخر، فهذه طبيعة الحياة. وإلى القارئ أمثلة على ذلك سجل بعضها مؤرخونا، وأورد بعضها الآخر مؤرخوهم، وقد يكون أسلافنا على علم بهذا البعض الأخير، وربما لا يكونون، وهو الأرجح. وهذه بعض الأمثلة على ذلك": ففى "صحيح البخارى" نقرأ رواية عن أبى سفيان "أنَّ هِرَقْلَ أرْسَلَ إلَيْهِ فى رَكْبٍ مِن قُرَيْشٍ، وكَانُوا تُجَّارًا بالشَّأْمِ فى المُدَّةِ الَّتى كانَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مَادَّ فِيهَا أبَاسُفْيَانَ وكُفَّارَ قُرَيْشٍ، فأتَوْهُ وهُمْ بإيلِيَاءَ، فَدَعَاهُمْ فى مَجْلِسِهِ، وحَوْلَهُ عُظَمَاءُ الرُّومِ، ثُمَّ دَعَاهُمْ ودَعَا بتَرْجُمَانِهِ، فَقَالَ: أيُّكُمْ أقْرَبُ نَسَبًا بهذا الرَّجُلِ الذى يَزْعُمُ أنَّه نَبِى؟ فَقَالَ أبو سُفْيَانَ: فَقُلتُ أنَا أقْرَبُهُمْ نَسَبًا، فَقَالَ: أدْنُوهُ مِنِّى، وقَرِّبُوا أصْحَابَهُ فَاجْعَلُوهُمْ عِنْدَ ظَهْرِهِ، ثُمَّ قَالَ لِتَرْجُمَانِهِ: قُلْ لهمْ إنِّى سَائِلٌ هذا عن هذا الرَّجُلِ، فإنْ كَذَبَنِى فَكَذِّبُوهُ. فَوَاللَّهِ لَوْلَا الحَيَاءُ مِن أنْ يَأْثِرُوا عَلَى كَذِبًا لَكَذَبْتُ عنْه. ثُمَّ كانَ أوَّلَ ما سَأَلَنِى عنْه أنْ قَالَ: كيفَ نَسَبُهُ فِيكُمْ؟ قُلتُ: هو فِينَا ذُو نَسَبٍ، قَالَ: فَهلْ قَالَ هذا القَوْلَ مِنكُم أحَدٌ قَطُّ قَبْلَهُ؟ قُلتُ: لَا. قَالَ: فَهلْ كانَ مِن آبَائِهِ مِن مَلِكٍ؟ قُلتُ: لا قَالَ: فأشْرَافُ النَّاسِ يَتَّبِعُونَهُ أمْ ضُعَفَاؤُهُمْ؟ فَقُلتُ بَلْ ضُعَفَاؤُهُمْ. قَالَ: أيَزِيدُونَ أمْ يَنْقُصُونَ؟ قُلتُ: بَلْ يَزِيدُونَ. قَالَ: فَهلْ يَرْتَدُّ أحَدٌ منهمْ سَخْطَةً لِدِينِهِ بَعْدَ أنْ يَدْخُلَ فِيهِ؟ قُلتُ: لَا. قَالَ: فَهلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بالكَذِبِ قَبْلَ أنْ يَقُولَ ما قَالَ؟ قُلتُ: لَا. قَالَ: فَهلْ يَغْدِرُ؟ قُلتُ: لَا، ونَحْنُ منه فى مُدَّةٍ لا نَدْرِى ما هو فَاعِلٌ فِيهَا، قَالَ: ولَمْ تُمْكِنِّى كَلِمَةٌ أُدْخِلُ فِيهَا شيئًا غَيْرُ هذِه الكَلِمَةِ، قَالَ: فَهلْ قَاتَلْتُمُوهُ؟ قُلتُ: نَعَمْ. قَالَ: فَكيفَ كانَ قِتَالُكُمْ إيَّاهُ؟ قُلتُ: الحَرْبُ بيْنَنَا وبيْنَهُ سِجَالٌ، يَنَالُ مِنَّا ونَنَالُ منه. قَالَ: مَاذَا يَأْمُرُكُمْ؟ قُلتُ: يقولُ: اعْبُدُوا اللَّهَ وحْدَهُ ولَا تُشْرِكُوا به شيئًا، واتْرُكُوا ما يقولُ آبَاؤُكُمْ، ويَأْمُرُنَا بالصَّلَاةِ والزَّكَاةِ والصِّدْقِ والعَفَافِ والصِّلَةِ. فَقَالَ لِلتَّرْجُمَانِ: قُلْ له: سَأَلْتُكَ عن نَسَبِهِ فَذَكَرْتَ أنَّه فِيكُمْ ذُو نَسَبٍ، فَكَذلكَ الرُّسُلُ تُبْعَثُ فى نَسَبِ قَوْمِهَا. وسَأَلْتُكَ هلْ قَالَ أحَدٌ مِنكُم هذا القَوْلَ، فَذَكَرْتَ أنْ لَا، فَقُلتُ: لو كانَ أحَدٌ قَالَ هذا القَوْلَ قَبْلَهُ، لَقُلتُ رَجُلٌ يَأْتَسِى بقَوْلٍ قيلَ قَبْلَهُ. وسَأَلْتُكَ هلْ كانَ مِن آبَائِهِ مِن مَلِكٍ، فَذَكَرْتَ أنْ لَا، قُلتُ فلوْ كانَ مِن آبَائِهِ مِن مَلِكٍ، قُلتُ رَجُلٌ يَطْلُبُ مُلْكَ أبِيهِ، وسَأَلْتُكَ، هلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بالكَذِبِ قَبْلَ أنْ يَقُولَ ما قَالَ، فَذَكَرْتَ أنْ لَا، فقَدْ أعْرِفُ أنَّه لَمْ يَكُنْ لِيَذَرَ الكَذِبَ علَى النَّاسِ ويَكْذِبَ علَى اللَّهِ. وسَأَلْتُكَ أشْرَافُ النَّاسِ اتَّبَعُوهُ أمْ ضُعَفَاؤُهُمْ، فَذَكَرْتَ أنَّ ضُعَفَاءَهُمُ اتَّبَعُوهُ، وهُمْ أتْبَاعُ الرُّسُلِ. وسَأَلْتُكَ أيَزِيدُونَ أمْ يَنْقُصُونَ، فَذَكَرْتَ أنَّهُمْ يَزِيدُونَ، وكَذلكَ أمْرُ الإيمَانِ حتَّى يَتِمَّ. وسَأَلْتُكَ أيَرْتَدُّ أحَدٌ سَخْطَةً لِدِينِهِ بَعْدَ أنْ يَدْخُلَ فِيهِ، فَذَكَرْتَ أنْ لَا، وكَذلكَ الإيمَانُ حِينَ تُخَالِطُ بَشَاشَتُهُ القُلُوبَ. وسَأَلْتُكَ هلْ يَغْدِرُ، فَذَكَرْتَ أنْ لَا، وكَذلكَ الرُّسُلُ لا تَغْدِرُ. وسَأَلْتُكَ بما يَأْمُرُكُمْ، فَذَكَرْتَ أنَّه يَأْمُرُكُمْ أنْ تَعْبُدُوا اللَّهَ ولَا تُشْرِكُوا به شيئًا، ويَنْهَاكُمْ عن عِبَادَةِ الأوْثَانِ، ويَأْمُرُكُمْ بالصَّلَاةِ والصِّدْقِ والعَفَافِ، فإنْ كانَ ما تَقُولُ حَقًّا فَسَيَمْلِكُ مَوْضِعَ قَدَمَى هَاتَيْنِ، وقدْ كُنْتُ أعْلَمُ أنَّه خَارِجٌ، لَمْ أكُنْ أظُنُّ أنَّه مِنكُمْ، فلوْ أنِّى أعْلَمُ أنِّى أخْلُصُ إلَيْهِ لَتَجَشَّمْتُ لِقَاءَهُ، ولو كُنْتُ عِنْدَهُ لَغَسَلْتُ عن قَدَمِهِ. ثُمَّ دَعَا بكِتَابِ رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ الذى بَعَثَ به دِحْيَةُ إلى عَظِيمِ بُصْرَى، فَدَفَعَهُ إلى هِرَقْلَ، فَقَرَأَهُ فَإِذَا فيه بسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مِن مُحَمَّدٍ عبدِ اللَّهِ ورَسولِهِ إلى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ: سَلَامٌ علَى مَنِ اتَّبَعَ الهُدَى، أمَّا بَعْدُ، فإنِّى أدْعُوكَ بدِعَايَةِ الإسْلَامِ، أسْلِمْ تَسْلَمْ، يُؤْتِكَ اللَّهُ أجْرَكَ مَرَّتَيْنِ، فإنْ تَوَلَّيْتَ فإنَّ عَلَيْكَ إثْمَ الأرِيسِيِّينَ و"يَا أهْلَ الكِتَابِ تَعَالَوْا إلى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بيْنَنَا وبيْنَكُمْ أنْ لا نَعْبُدَ إلَّا اللَّهَ ولَا نُشْرِكَ به شيئًا ولَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أرْبَابًا مِن دُونِ اللَّهِ فإنْ تَوَلَّوْا فَقُولوا اشْهَدُوا بأنَّا مُسْلِمُونَ". قَالَ أبو سُفْيَان: فَلَمَّا قَالَ ما قَالَ، وفَرَغَ مِن قِرَاءَةِ الكِتَابِ، كَثُرَ عِنْدَهُ الصَّخَبُ وارْتَفَعَتِ الأصْوَاتُ وأُخْرِجْنَا، فَقُلتُ لأصْحَابِى حِينَ أُخْرِجْنَا: لقَدْ أمِرَ أمْرُ ابْنِ أبِى كَبْشَةَ، إنَّه يَخَافُهُ مَلِكُ بَنِى الأصْفَرِ. فَما زِلْتُ مُوقِنًا أنَّه سَيَظْهَرُ حتَّى أدْخَلَ اللَّهُ عَلَى الإسْلَامَ. وكانَ ابنُ النَّاظُورِ، صَاحِبُ إيلِيَاءَ وهِرَقْلَ، سُقُفًّا علَى نَصَارَى الشَّأْمِ يُحَدِّثُ أنَّ هِرَقْلَ حِينَ قَدِمَ إيلِيَاءَ، أصْبَحَ يَوْمًا خَبِيثَ النَّفْسِ، فَقَالَ بَعْضُ بَطَارِقَتِهِ: قَدِ اسْتَنْكَرْنَا هَيْئَتَكَ، قَالَ ابنُ النَّاظُورِ: وكانَ هِرَقْلُ حَزَّاءً يَنْظُرُ فى النُّجُومِ، فَقَالَ لهمْ حِينَ سَأَلُوهُ: إنِّى رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ حِينَ نَظَرْتُ فى النُّجُومِ مَلِكَ الخِتَانِ قدْ ظَهَرَ، فمَن يَخْتَتِنُ مِن هذِه الأُمَّةِ؟ قالوا: ليسَ يَخْتَتِنُ إلَّا اليَهُودُ، فلا يُهِمَّنَّكَ شَأْنُهُمْ، واكْتُبْ إلى مَدَايِنِ مُلْكِكَ، فَيَقْتُلُوا مَن فيهم مِنَ اليَهُودِ. فَبيْنَما هُمْ علَى أمْرِهِمْ، أُتِى هِرَقْلُ برَجُلٍ أرْسَلَ به مَلِكُ غَسَّانَ يُخْبِرُ عن خَبَرِ رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَلَمَّا اسْتَخْبَرَهُ هِرَقْلُ قَالَ: اذْهَبُوا فَانْظُرُوا أمُخْتَتِنٌ هو أمْ لَا، فَنَظَرُوا إلَيْهِ، فَحَدَّثُوهُ أنَّه مُخْتَتِنٌ، وسَأَلَهُ عَنِ العَرَبِ، فَقَالَ: هُمْ يَخْتَتِنُونَ، فَقَالَ هِرَقْلُ: هذا مُلْكُ هذِه الأُمَّةِ قدْ ظَهَرَ. ثُمَّ كَتَبَ هِرَقْلُ إلى صَاحِبٍ له برُومِيَةَ، وكانَ نَظِيرَهُ فى العِلْمِ، وسَارَ هِرَقْلُ إلى حِمْصَ، فَلَمْ يَرِمْ حِمْصَ حتَّى أتَاهُ كِتَابٌ مِن صَاحِبِهِ يُوَافِقُ رَأْى هِرَقْلَ علَى خُرُوجِ النبى صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وأنَّهُ نَبِى، فأذِنَ هِرَقْلُ لِعُظَمَاءِ الرُّومِ فى دَسْكَرَةٍ له بحِمْصَ، ثُمَّ أمَرَ بأَبْوَابِهَا فَغُلِّقَتْ، ثُمَّ اطَّلَعَ فَقَالَ: يا مَعْشَرَ الرُّومِ، هلْ لَكُمْ فى الفلاحِ والرُّشْدِ، وأَنْ يَثْبُتَ مُلْكُكُمْ، فَتُبَايِعُوا هذا النبى؟ فَحَاصُوا حَيْصَةَ حُمُرِ الوَحْشِ إلى الأبْوَابِ، فَوَجَدُوهَا قدْ غُلِّقَتْ، فَلَمَّا رَأَى هِرَقْلُ نَفْرَتَهُمْ، وأَيِسَ مِنَ الإيمَانِ، قَالَ: رُدُّوهُمْ عَلَى، وقَالَ: إنِّى قُلتُ مَقالتى آنِفًا أخْتَبِرُ بهَا شِدَّتَكُمْ علَى دِينِكُمْ، فقَدْ رَأَيْتُ، فَسَجَدُوا له ورَضُوا عنْه، فَكانَ ذلكَ آخِرَ شَأْنِ هِرَقْلَ".
    ولدينا يوحنا الدمشقى (676- 749م)، وهو من أصل رومى فى أغلب الظن، وكان يشتغل فى بلاط آل مروان، وكتب فى كتاب له باليونانية عنوانه "الهرطقة" عن الإسلام صفحات نال فيها منه ومن نبيه وكتابه. وبطبيعة الحال كان هذا محفوظا بعيدا عن أعين المسلمين، وإلا لما مر الأمر بسهولة البتة. أقول هذا ردا على ما يدعيه هذا اليوحنا من أنه كان يواجه المسلمين برأيه فى دينهم ونبيهم وكتاب ربهم. ويوحنا الدمشقى هو رائد الجدل النصرانى ضد ديننا، وأصبح ما خطته يداه فى هذا الشأن ركيزة من ركائز ذلك النوع من الجدل، إذ أخذ المجادلون من المنصّرين والمستشرقين الذين جاؤوا بعده يستعينون به. ويتلخص ما كتبه فى هذا السبيل فى الزعم بأن الإسلام ليس دينا سماويا بل هرطقة مسيحية، وأن النبى محمدا صلى الله عليه وسلم كان على معرفة بأسفار العهدين: القديم والجديد، وأنه تعلم على يد الراهب بحيرا، وكان يتلقى القرآن وهو نائم. ويجد القارئ هذا كله وأسوأ منه فى كتابه المشهور المسمى: "De Haeresbius: الهرطقة".
    والواقع أن فى كلامه جهلا شديدا وتدليسا كبيرا ومزاعم كاذبة ضخمة لا تصمد أمام التحليل العقلى والوقائع التى تخزق العين. فمن ذلك قوله إن العرب كانوا طَوَال عمرهم وثنيين يعبدون نجمة الصباح وأفروديت، التى يسمونها فى لغتهم: "كَبَار"، أى الكبيرة. والحقيقة أنهم كانوا قبل ذلك موحدين على دين أبيهم إبراهيم، ثم طمس الزمن كثيرا من معالم هذا التوحيد، وإن بقى منهم ناس لم يفارقوا وحدانيتهم الأصلية كانوا ينفرون من الأوثان وعبادتها رغم قلة عددهم، فضلا عمن تحول إلى اليهودية أو النصرانية. ثم أين يا ترى يمكننا أن نجد الإلهة "كَبَار"؟ الواقع أن العرب لم يكن عندهم إلهة تدعى: "كَبَار"، كما لم يكونوا يعبدون أفروديت على عكس ما يزعم ذلك المُدَّعِى، وإن علق محقق الكتاب فى الهامش بما كتبه هيرودوت من أن العرب كانوا يعبدون "أفروديت السماوية" ويسمونها: اللات. وهيرودوت، كما نعرف، أتى قبل الدمشقى بقرون طوال.
    ويزعم يوحنا أيضا أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يكتب ما ينزل عليه من وحى ثم يتلوه على قومه مكتوبا. وهذه أول مرة نقرأ فيها هذا الكلام العجيب، إذ من المعروف أن الرسول لم يكن يمسك فى يده بكتاب يتلو منه على قومه ما يريد تبليغه إليهم من وحى السماء، بل كان يفعل ذلك من حفظه مباشرة.
    ويمضى يوحنا الدمشقى فينسب للنبى عليه السلام القول بأن اليهود قد قبضوا على "ظِلّ" المسيح وصلبوه. وهذا كلام لم يقله القرآن ولا النبى عليه الصلاة والسلام كما هو معلوم للجميع. قال تعالى عن بنى إسرائيل: "فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلّا قَلِيلًا (155) وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا (156) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِى شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (158)" (النساء). فأين الكلام عن ظل عيسى هنا؟ لقد قال القرآن إنه قد شُبِّه لليهود، وهذا كل ما هنالك، فلا ظلال ولا يحزنون.
    ومما قاله أيضا يوحنا الدمشقى أن الله سبحانه وتعالى، حين صعد عيسى إلى السماء بعد نجاته من الصلب، سأله: أأنت قلت للناس: أنا الله وابن الله؟ وأن عيسى قد أجاب قائلا: ارحمنى يا إلهى. أنت تعلم أننى لم أقل هذا وأننى لم أستنكف أن أكون عبدا لك. إلا أن الخطاة من الناس قد اقترفوا الخطيئة فكذَبوا علىَّ وكتبوا أننى قلت هذا الكلام، فقال له الله: أنا أعلم بأنك لم تنطق بهذا الكلام.
    هذا ما كتبه يوحنا الدمشقى، أما ما جاء فى القرآن عن ذلك الأمر فموجود فى سورة "المائدة"، وها هو ذا نصه بالحرف: "وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِى وَأُمِّى إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِى أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِى بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِى وَلا أَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلّامُ الْغُيُوبِ (116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلّا مَا أَمَرْتَنِى بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّى وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِى كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118) قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِى مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِى اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119)".
    ومن هذه الآيات المباركات يتضح أن الحوار المذكور لم يجر بين الله وعبده المسيح عقب صعوده إلى السماء، بل سيجرى يوم القيامة بدليل ما جاء فى آخر الآيات من الإشارة ألى أن ذلك اليوم هو اليوم الذى ينفع فيه الصادقين صدقُهم. وهذا هو يوم القيامة. كما أن السؤال الإلهى لم يكن عما إذا كان عيسى قد قال للناس إنه الله وابن الله، بل عما إذا كان قد قال لهم: "اتخِذونى وأمى إلهين من دون الله". كذلك ليس فى رد المسيح عليه الصلاة والسلام على ربه سبحانه أية إشارة إلى أن الناس قد كتبوا ذلك أو لم يكتبوه، بل ليس فيه أنهم قالوا هذا أو ذاك عن المسيح، إذ كل ما نقرؤه فى الآيات أنه عليه السلام لم يقل لهم إلا ما أمره الله به من دعوتهم إلى عبادة الله رب المسيح وربهم وأنه كان شهيدا عليهم طوال وجوده بينهم، وأنه بعدما توفاه الله كان سبحانه وتعالى هو الرقيب عليهم.
    هذا عن جهل يوحنا الدمشقى، والآن جاء دور الكلام عن كذبه. فالرسول الكريم، حسبما يدلّس يوحنا الدمشقى، قد وقعت يده على العهدين: القديم والجديد، أى الكتاب المقدس، ثم حدث أن قابل راهبا آريوسيا تحدث معه، فقام فى نفسه أن يؤلف دينا جديدا. وكأن تأليف دين هو أمر من السهولة بمكان إلى هذا الحد. أما بخصوص هذا الراهب الآريوسى فقد علق محقق كتاب يوحنا الدمشقى الذى ورد فيه هذا الكلام بأنه قد يكون هو الراهب بحيرا، الذى قابل محمدا فى صباه عند بُصْرَى بالشام وقال إنه يرى فيه علامة النبوة. إذن فمحمد قد قابل الراهب فى صباه. وهل من الممكن أن يفكر صبى فى الثانية عشرة أو نحوها فى اختراع دين جديد؟ بل إن من الأوربيين أنفسهم من يشكون فى وقوع مثل ذلك اللقاء أصلا كإدمون باور (انظر Joseph Huby, Christus: Manuel d'Histoire des Religions, Beauchenese et ses Fils, Paris, 1946, P. 780). وبالله إذا كان لمثل ذلك الراهب وجود حقيقى فلماذا لم يتكلم بما وقع موضحا أن ذلك النبى الجديد ليس فى الحقيقة سوى ذلك الصبى الذى التقاه فى بصرى قبل سنين وتعلم منه ما ساعده على تأليف ديانته الجديدة؟ أو لماذا لم ينبر أحد القرشيين الذى كانوا يرافقونه فى تلك الرحلة التجارية ورَأَوْا وسمعوا ما دار بينه وبين الراهب المذكور فيفضح محمدا وينسف دينه بكل سهولة؟
    وبالنسبة إلى زعم الدمشقى أن محمدا استفاد من الكتاب المقدس فى توليف دينه أين يا ترى صادف الرسول عليه السلام الكتاب المقدس؟ هل كانت فى مكة مكتبات يستعار منها مثل تلك الكتب؟ ومن الذى شاهده وهو يطالع تلك الكتب ويحفظ ما فيها؟ إنه لم يشاهَد يوما وفى يده كتاب، فكيف يتجرأ مدلسنا ويقول هذا الكلام بلا أدنى دليل؟ ثم كيف نفسر تلك الاختلافات بين رواية القرآن ورواية الكتاب المقدس للموضوعات المشتركة بين الكتابين ويتصادف رغم ذلك أن يكون كلام القرآن هو الموافق للمنطق والتاريخ؟ وكيف تصادف أيضا أن يكون القرآن وحدانىّ الدعوة نقى الوحدانية إلى آخر المدى، والعهد القديم مجسِّدًا للإله فى بعض مواضعه، والأغلبية الساحقة من أتباع العهد الجديد مثلثين؟
    والعجيب الغريب أن يوحنا الدمشقى، الذى اتهم النبى الكريم بأنه كان يستعين بكتب اليهود والنصارى وتعلم على يد راهب نصرانى، هو هو نفسه الذى زعم أن الرسول كان يأتيه القرآن وهو نائم. فبالله لماذا يأتيه القرآن وهو نائم إذا كان هو يؤلفه تأليفا، ويزيفه تزييفا؟ إن التزييف والتأليف عملية إرادية واعية، أما ما يقع أثناء النوم فلا وعى ولا إرادة، إذ يكون الإنسان سلبيا تام السلبية... إلخ.
    أما آخر أكاذيب يوحنا الدمشقى فهى ادعاؤه بأنه كان يقول هذا الكلام كله للمسلمين فى وجههم أيام الدولة الأموية، التى كان يشتغل فيها جابيا. ترى هل يمكن أن يَجْبَه هذا الرجلُ المسلمين بقلة أدبه فى حق الرسول الكريم وبتطاوله عليه دون أن يخشى شيئا؟ لقد كان يعيش فى ظل خلفاء بنى أمية، فهل كان حكام بنى أمية ليتركوه ساعتئذ لحظة من نهار؟ ترى كيف يريدنا على أن نصدق مزاعمه العريضة هذه، وليس له أى ذكر فى كتب المسلمين آنذاك؟
    لقد كان يعيش فى عصر عمالقة بنى أمية، وآخر من عمل لهم هذا الدمشقى هو عبد الملك بن مروان. أو يُتَصَوَّر أن يسكت على وقاحته وتجديفه ابن مروان فلا يقتطف بسيفه رقبته؟ قول بعض النصارى الشوام عن كتابه: "جدل بين مسيحى ومسلم"، إنه كان يكتب لأهل دينه باليونانية مفسّرًا العقيدة، ولم يكن يتوقّع أن يقرأ العرب الفاتحون أى شىء مما يكتبه. وهذا ما يتمشى مع العقل والمنطق، أما التشدق والتنطع فما أيسرهما على كل كذاب.
    وفى "البداية والنهاية" لابن كثير نقرأ فى ترجمة القاضى أبى بكر الباقلانى أنه "كان فى غاية الذكاء والفطنة. ذكر الخطيب وغيره عنه أن عضد الدولة بعثه فى رسالة إلى ملك الروم، فلما انتهى إليه إذا هو لا يدخل عليه أحد إلا من باب قصير كهيئة الراكع، ففهم الباقلانى أن مراده أن ينحنى الداخل عليه له كهيئة الراكع لله عز وجل، فأدار إسته إلى الملك ودخل الباب بظهره يمشى إليه القهقرى، فلما وصل إليه انفتل فسلم عليه، فعرف الملك ذكاءه ومكانه من العلم والفهم، فعظمه. ويقال: إن الملك أحضر بين يديه آلة الطرب المسماة بـ"الأرغل"، ليستفز عقله بها، فلما سمعها الباقلانى خاف على نفسه أن يظهر منه حركة ناقصة بحضرة الملك، فجعل لا يألو جهدًا أن جرح رجله حتى خرج منها الدم الكثير، فاشتغل بالألم عن الطرب، ولم يظهر عليه شيء من النقص والخفة، فعجب الملك من ذلك، ثم إن الملك استكشف الأمر فإذا هو قد جرح نفسه بما شغله عن الطرب، فتحقق الملك وفور همته وعلو عزيمته، فإن هذه الآلة لا يسمعها أحد إلا طرب شاء أم أبى.
    وقد سأله بعض الأساقفة بحضرة ملكهم فقال: ما فعلت زوجة نبيكم؟ وما كان من أمرها بما رميت به من الإفك؟ فقال الباقلانى مجيبًا له على البديهة: هما امرأتان ذُكِرَتا بسوء: مريم وعائشة، فبرأهما الله عز وجل. وكانت عائشة ذات زوج ولم تأت بولد، وأتت مريم بولد ولم يكن لها زوج. يعنى أن عائشة أولى بالبراءة من مريم. وكلتاهما بريئة مما قيل فيها. فإن تطرق فى الذهن الفاسد احتمال ريبة إلى هذه فهو إلى تلك أسرع. وهما بحمد الله منزهتان مبرأتان من السماء بوحى الله عز وجل، عليهما السلام".
    وفى الأندلس كانت هناك فتنة ضخمة أثار عجاجها بعض النصارى من أهل البلاد بشتمهم للنبى محمد عليه السلام دون أى داع سوى التحكك فى السلطة الإسلامية، التى يعرفون أن قضاتها سوف يعاقبونهم عقابا شديدا من شأنه، إذا ما تكرر، أن يهيج الرعايا النصارى بالدولة ضدها. وتحت عنوان "فتنة النصارى بقرطبة" يقول محمد الأمين ولد آن فى كتابه: "أهل الذمة بالأندلس فى ظل الدولة الأموية" (دار الأوائل للنشر والتوزيع والخدمات الطباعية/ دمشق/ 2011م): "اكتسحت قرطبة فى أواخر عصر الأمير عبد الرحمن الثانى موجه من التعصب ضد الإسلام بقيادة بعض الرهبان من النصارى ممن كانوا ينقمون على الإسلام، ويحرضون عامة قومهم على سب الرسول صلا الله عليه وسلم…
    لقد أهملت المصادر التاريخية العربية الإشارة إلى أحداث تلك الفتنة التى وقعت فى قرطبة، ولا كُتُب النوازل الفقهية أشارت إلى بعض الإشكالات التى طرحتها، وما وصل إلينا منها إلا ما تناقلته كتب المؤرخين الأوروبيين مثل كاجيكاس وسيمونى وبروفنسال، الذين وضعوا هالة من القداسة على النصارى، ممن كان مصيرهم الحكم بالموت بسبب القذف والسب ضد الإسلام وشخص الرسول صلى الله عليه وسلم، واعتبروهم فى مقامات الشهداء والصالحين...
    قاد هذه الحركة كل من إيولوخيو Elogio وألباروAlvaro، اللذين كانا يحرضان على الثورة، ويدعوان النصارى إلى سب الرسول الكريم من أجل افتعال أزمة مع السلطة عبر بعض الممارسات التى لم يكن من السهل غض الطرف عنها. وبدأت هذه الأزمة عندما قام أحد القساوسة فى مدينة قرطبة، ويدعى برفكتو Perfecto بمناقشة بعض المسلمين حول العقيدة، وبلغت به الحماسة إلى درجة فقدان السيطرة على عباراته، التى جنحت إلى سب النبى صلى الله عليه وسلم والإسلام. وتم الإبلاغ عنه حيث مثل أمام القاضى، الذى حكم عليه بإقامة حد القتل، ونفذ فيه الحكم يوم فاتح شوال سنة 235هـ / 850م، وذلك بعد أن اجتمع المصلون لأداة صلاة العيد خارج المسجد بقرطبة فى مشهد من الناس.
    وقد استغل المتعصبون الذين كان يتزعمهم كل من إيولوخيو وألبارو لإدانة برفكتو لنشر دعايتهم بين صفوف النصارى فى قرطبة، وذلك يهدف حشد المزيد من الشباب المسيحى، الذين جذبتهم الأفكار المتطرفة، ودفعتهم إلى سب الإسلام، والإصرار على موقفهم حتى الموت، وهو ما يسميه بروفنسال بـ"المعاناة فى سبيل المسيحية". بعد عام من إقامة الحد على برفكتو تهجم أحد النصارى ويدعى يوحنا على النبى صلى الله عليه وسلم، فأحضر إلى القاضى الذى أمر بجلده وإلقائه بالسجن، ثم نفذ فيه حكم بالقتل...
    ولم يقتصر الأمر على الرجال من النصارى فقط، بل شاركت النساء المتحمسات للمسيحية فى تلك الأحداث. فقد أورد ابن سهل أن نصرانية اسمها ذبجة دخلت إلى مجلس قاضى الجماعة بقرطبة، واستهلت كلامها بنفى الربوبية عن الله عز وجل، وقالت إن عيسى عليه السلام هو الله. ثم قالت: إن محمدًا كذب فيما ادعاه من النبوة. وقد أفتى العلماء بوجوب قتلها. وعلى الرغم من تنامى هذه الظاهرة واتساع دائرتها فإن السلطة الأموية لم تتخد موقفا متشددًا ضد رعاياها من النصارى، بل أبقت كل الإجراءات الكفيلة بالتصدى لهذه المشكلة بيد القضاة والفقهاء الذين اتسموا بالمرونة فى تطبيقهم للحدود، واكتفوا فى بعض الأحيان بجلد من رشحوا أنفسهم للموت طلبا للشهادة كما كانوا يدعون".
    وثم نص شديد الأهمية كتبه الأسقف القرطبى ألفارو سنة 240هـ/ 854م باللغة اللاتينية يبكى فيه دخول أكثر النصارى من أهل دينه الإسلام طواعية، فضلا عن أن من لم يدخل الإسلام قد تبنى الحياة الإسلامية برغبة ذاتية واضحة، فكتب قائلا: "إخوانى النصارى يبتهجون للشعر والقصص العربى، ويدرسون علوم الإسلام لا لتفنيدها بل لاكتساب الأسلوب والصيغة العربية الصحيحة الممتازة. وفى الوقت نفسه أين يوجد اليوم الشخص العادى الذى يقرأ الشروح اللاتينية على الكتب المقدسة؟ ذاك الذى يدرس الأناجيل والأنبياء والرسل؟ واحسرتاه! إن شباب النصارى الذين هم أبرز الناس مواهب ليسوا على علم بأى أدب ولا أى لغة غير العربية. فهم يقرأون كتب العرب ويدرسونها بلهفة وشغف، وهم يجمعون منها مكتبات كاملة تكلفهم نفقات باهظة، وإنهم ليترنمون فى كل مكان بمدح تراث العرب، وإنك لتراهم من الناحية الأخرى يحتجون إذا ذكرت الكتب النصرانية بأن تلك المؤلفات غير جديرة بالتفاتهم! فوا حرّ قلباه! لقد نسى المسيحيون لغتهم، ولا يكاد يوجد منهم واحد فى الألف قادر على إنشاء رسالة إلى صديق بلاتينية مستقيمة! ولكن إذا استدعى الأمر كتابة بالعربية فكم منهم من يستطيع أن يعبر عن نفسه فى تلك اللغة بأعظم ما يكون من الرشاقة، بل قد يقرضون من الشعر ما يفوق فى صحة نظمه شعر العرب أنفسهم!".
    وهناك رجل دين نصرانى أسبانى اسمه ريمون لل قضى فى تعلم العربية وحفظ القرآن والقطلونية تسع سنوات (1266- 1275) ثم قصد باريس وانضم إلى الرهبانية الفرنسيسكانية، وأقنع ملك أراجون (1276) بإنشاء مدرسة لها فى ميرامار لتدريس العربية، وأشرف بنفسه عليها فتخرج منها بالعربية أكثر من 13 راهباً. وقد مهد بها إلى إنشاء معهد الدراسات الإسلامية فى مدريد ومراكز الثقافة الإسبانية فى الشرق. وصنف فى أثناء ذلك كتب جدل كثيرة فى الرد على المسلمين واليهود، وقام بالتدريس فى أديار مختلفة، ثم أبحر إلى تونس (1291)، وطفق يطوف فيها فقيرًا واعظًا فاعتقل وسجن ثم طرد. وبعد سنوات حول وجهه شطر بجاية فى الجزائر (1306) مبشرًا فلم يكن فيها أوفر حظًا منه فى تونس، فسجن ستة أشهر ثم طرد، وفى عودته استقر بساحل بيزا، وكتب ضد فلسفة ابن رشد فى باريس، وحضر مؤتمر فيينا (1311-1312) حيث شاهد مساعيه تكلل بالنجاح إذ أقر البابا كليمنضس الخامس إنشاء كراسى للعبرية والعربية والكلدانية فى جامعات باريس وأكسفورد وبولونيا وصلمنكه، ثم فى جامعة خامسة بالبلاط البابوى، مع تنصيب أستاذين لكل من هذه اللغات الثلاث فى كل كرسى وتكليفهم بترجمة نصوص عبرية وعربية وكلدانية للرد على منتقدى الدين. ورجع رايموندو إلى شمالى أفريقيا وقتل فيها (1314). وقد عرف ريمون لل من المتصوفين المسلمين ابن سبعين وابن هود والششترى وابن مَدْيَن وعفيف التلمسانى وابن عربى، وتأثر بهم فى ابتداع مذهب الإشراق، كما تأثر بـ"كليلة ودمنة" فى مصنفه: "الكتاب السعيد فى عجائب الدنيا". ومن آثاره كذلك "تأملات فى الله"، وهو موسوعة فى علوم الدين كتب القسم الأكبر منها بالعربية ثم نقلها وأتمها بالقطلونية، و"الحكماء الثلاثة"، وهم يهودى ومسيحى ومسلم يعرض كل منهم فضائل الدين الذى يعتنقه، و"بلانكرنا"، وهى رواية دينية تشمل الكلام عن رحلاته فى بلاد الإسلام حتى السودان، و"ردود على ابن رشد"، و"التعاون بين النصارى والمسلمين"، و"مناظرات رايموندو المسيحى وعمر العربى فى بوجى". وليس للول، على قدر علمنا، ذكر فى تراثنا الذى وصلنا.
    وفى عهد الملك الكامل الأيوبى يقول الغربيون إن الراهب فرانسيس الأسيزى ذهب مع رفيق له إلى الأراضى المقدسة لنيل إكليل الاستشهاد ونشر الإيمان بالثالوث بين المسلمين، وفشلا فى هذه المهمة المزدوجة. وكان ذلك أيام الحملة الصليبية على مصر، وقد دعا السلطانَ إلى اعتناق المسيحية ونشرها أمام حشد من كبار العلماء، فردّ الملك عليه قائلا: دينكم يقول لكم بأن لا تردّوا الشرّ بالشر، وأن تتركوا رداءكم لمن أراد أن يأخذ منكم ثوبكم، لذا يتوجب عليكم ألا تغزوا أراضينا. فأجاب فرنسيس حسب الرواية الغربية: يبدو أنك لم تطلع على الإنجيل بشكل كامل. واستشهد بالآية القائلة: "وإن أعثرتك عينك فاقلعها"، وأضاف مفسّراً: علينا أن نطيح بأى إنسان يبعدنا عن إيماننا، حتى لو كان هذا الإنسان بمثابة عيوننا، ولو آمنتم بالمسيح المخلّص سيحبكم المسيحيون كما يحبون أنفسهم.
    ويقال أيضا إن فرانسيس قد تابع متحدّيا السلطان بقوله: إذا كنت ترفض الإيمان المسيحى فإنى أقترح أن تأمر بإيقاد نارً حامية ندخلها أنا ورجال دينك لترى من الذى ستحرقه هذه النيران. وبذلك تستطيع أن تحكم أى الدينين أصح. فأجابه السلطان بأن أحدًا من رجال دينه لن يقبل هذا الاقتراح. وعاد فرنسيس ورفيقه إلى موطنهما فاشلين فيما جاءا من أجله. وتكررت قصة مواجهته للسلطان والعلماء فى روايات نصرانية متعددة استعادت هذا اللقاء مع اختلاف فى التفاصيل. بيد أننا لا نجد أى أثر لهذه القصة فى المصادر الإسلامية إلا فى إشارة عابرة وجدها المستشرق الفرنسى لوى ماسينيون فى كتاب "الكواكب السيارة"، الذى يشير فيه ابن الزيات، لدن الحديث عن المحدث الصوفى فخر الدين الفارسى، إلى "القصة المشهورة" التى يفترض وقوعها بين الملك الكامل والراهب، ولكن من دون أن يذكر اسم هذا الراهب، وهو ما فهم منه بعض الباحثين الغربيين أن فخر الدين الفارسى كان واحدًا من العلماء الذين شاركوا فى هذا اللقاء.
    ولا ريب أن فكرة إشعال نار يخوضها الأسيزى وعلماء مسلمون فكرة ماكرة، فأى عاقل سوف يرفض هذا التهوس الذى لا يوصل لشىء، إذ لو كانت هذه الطريقة هى الأسلوب الصحيح فى عرض الأديان على من لا يؤمن بها ما كانت العين بكت. إن الأديان الحقيقية تتجه إلى العقل وتعمل على إيقاظ المشاعر المتبلدة لا على إيقاد النيران وخوضها، فمن يخض النار تحرقه النار سواء كان على حق أو على باطل ما دام باب المعجزات قد أغلق، والأسيزى واع لذلك، ومن ثم كان عرضه، الذى يعرف عز المعرفة أن طلبه سوف يجابه بالرفض التام من أى شخص يتمتع بشىء من العقل، وبهذا يبدو فى عيون السطحيين أنه قد فاز فى تحديه للمسلمين. فهى، كما نرى، لعبة ماكرة.
    وقد قرأتُ فى كتاب فرنسى منذ عدة عقود أن الملاعنة التى عرضها النبى عليه السلام على وفد اليمن النصرانى فى المدينة ونكص ذلك الوفد عنها قد اقترحها فرانسيس الأسيزى على المسلمين فى مصر أيام الملك الكامل فرفضوها. يريد أن يقول إن الأسيزى قد قبل الملاعنة التى اقترحها القرآن على النصارى اليمنيين، فلماذا نكل المسلمون عنها؟ والرد هو ما قلناه من أن اقتراح الأسيزى اقتراح خبيث لعلمه أن أحدا لن يقبله. كما أن هذا الاقتراح لا يمكن أن يعد ردا على عرض النبى الملاعنة على نصارى اليمن، فالملاعنة كلام ينبغى أن يقبله من تُعْرَض عليه الملاعنة، وهى لا تكلف شيئا إلا النطق ببعض الكلمات، ولسوف تظهر نتائجها فى الحال هلاكا للمبطلين ونجاة لأصحاب الحق، وهو النبى محمد، أما خوض النار فكل عاقل لا بد أن يرفضه. ثم إن الملاعنة قد عرضها "النبى" على "نصارى اليمن"، وانتهى أمرها بنكولهم عن ترديد كلماتها التى لا تكلف شيئا، وإن كانت نتائجها وخيمة العواقب. ولا علاقة لها بالأسيزى والملك الكامل، اللذين جاءا بعد الملاعنة بقرون، ودار الحوار بينهما، إن كان صحيحا أصلا، فى مكان يبعد عن المدينة بعدا سحيقا، وفى ظروف متباينة أشد التباين. وعليه فهذه قصة، وتلك قصة أخرى مختلفة تماما، ولا شىء يربط بينهما، ولا يعد اقتراح الأسيزى جوابا عليها بأى معنى من المعانى، إذ لم يقل القرآن إن الملاعنة الذى جاء ذكرها فيه ستمرة إلى الأبد، بل انتهت بهروب نصارى اليمن من الرد عليها ورضاهم بدفع الجزية لدولة المدينة، وصارت خبرا من أخبار الماضى. فالخلط بين الأمرين خلط سخيف لا معنى له، وبخاصة حين يعرض الأسيزى ذلك العرض المجنون الذى لا يمكن أن يقبله أحد. وهذا كله لو كانت القصة صحيحة، وهو ما لا أظنه، وإلا لتناولتها المصادر الإسلامية تفصيلا. فسكوت تلك المصادر عنها يجعلنا نرجح أن الأمر فى معظمه أو فى كليته اختلاق من وحى الأوهام مما برع فيه الطرف الآخر على مدى تاريخه.
    ومما يدخل أيضا فى باب الاستشراق أيام عز المسلمين، وإن لم يعرفوا أن هذا يسمى: "استشراقا"، الكتاب الذى وضعه القسيس الأسبانى أنسلم تورميدا أوائل القرن التاسع للهجرة، وعنوانه "تحفة الأديب فى الرد على أهل الصليب". وقد ألفه بعد اعتناقه الإسلام، وكتبه بالعربية التى ذكر فيه أنه أتقنها فى خلال عام. وكان قد درس النصرانية على يد قس طاعن فى العمر من أبناء وطنه كان يخفى الإسلام فى قلبه ويتظاهر بأنه لا يزال على دينه القديم. وفى الكتاب تتبُّع للبشارات التى يشتمل عليها الإنجيل بخصوص نبوة سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، ومنها ما جاء فى الإصحاح السادس عشر من سفر "التكوين" من العهد القديم من أن هاجر لما هربت من سارة ضَرَّتها رأت فى تلك الليلة ملكا، "فقال لها: يا هاجر، ما تريدين؟ ومن أين أقبلتِ؟ قالت: هربتُ من سارة. قال: ارجعى إليها واخضعى لها، فإن الله سيكثر زرعك وذريتك، وعن قريب تحملين وتلدين ولدا اسمه إسماعيل لأن الله سمع خشوعك، ويكون ولدك أعين الناس، وتكون يده فوق الجميع، ويد الجميع مبسوطة إليه بالخضوع، ويكون أمره فى معظم الدنيا"، وهذا لم يتحقق لإسماعيل ولا تحقق لأحد من ذريته إلا لمحمد.
    واللافت للنظر أن ترجمة فانديك لهذه البشارة تجرى على النحو التالى بما يخرجها عن معناها إلى حد بعيد، إذ لا تقول تلك الترجمة إن يد إسماعيل ستكون فوق الجميع، وإن الجميع سيخضعون له، وإن أمره سوف يتسع فى معظم الدنيا، وهو ما ينطبق على الإسلام، بل تقول إنه سيكون "إنسانا وحشيا يَدُه على كل واحدٍ، ويَدُ كل واحدٍ عليه، وأمام جميع إخوته يسكن". وهذا الاختلاف ناتج من العبث بنص البشارة بحيث لا تعطى معناها الصحيح.
    ومن تلك البشارات كذلك ما نقرؤه فى الإصحاح الثامن عشر من نفس السفر من أن الله سوف يقيم فى آخر الزمان نبيا مثل موسى من بنى إخوتهم، ومن لم يؤمن به ينتقم الله منه. ومعروف أن الله لم يرسل نبيا من بنى إخوة الإسرائيليين إلا النبى محمدا، وكان ذلك فى آخر الزمان، بمعنى أنه خاتم الأنبياء. أما كل من سبقوه بعد موسى فكلهم من بنى إسرائيل. ومنها أيضا ما جاء فى الإصحاح الثالث والثلاثين من سفر "التثنية" فى العهد القديم من أنه سبحانه وتعالى تجلى برحمته ضمن ما تجلى برحماته من جبل فاران، والمقصود بفاران مكة لأن فاران اسم رجل من العمالقة مَلَكَ على الحجاز وتخومه، فسمى القطر كله باسمه. ومنها كلمة "البارقليط"، التى يقول قسيسنا إنها تعنى "أحمد" لا "المعزِّى" كما يقول النصارى. و"البارقليط" هو الشخص الذى تنبأ بمجيئه المسيح من بعده... إلى آخر ما قاله فى هذا الموضوع.
    وقد أسلم تورميدا بتونس على يد السلطان الحفصى أبى العباس أحمد، وعمره خمس وثلاثون سنة، لكنه طلب من السلطان أن يسأل عنه، قبل أن يعلن اعتناقه لدين محمد، كل من يعرفه من كبار النصارى حتى لا يذموه بعد إسلامه كما صنع اليهود مع عبد الله بن سلام حين عرفوا أنه أسلم على يد النبى مع أنهم كانوا قبيل ذلك مباشرة يمدحونه للرسول أعظم مديح، ويجلونه ويبجلونه ويثنون على خلقه وعلمه أيما ثناء. والطريف أن ما حدث مع ابن سلام قد وقع للترجمان حَذْوَكَ القُذَّةَ بالقُذَّة. وقد حاول صديق له أسبانى نصرانى أن يعيده إلى دينه الأول ملوحا له بكل المغريات المادية وغير المادية، لكنه أبى واستمسك بإسلامه بكل صلابة. وقد برهن فى كتابه أيضا على أن عيسى عليه السلام بشر من البشر وليس إلها وأن التثليث باطل بطلانا مطلقا. كما رد على المفتريات التى يختلقها النصارى على الإسلام والعيوب التى يأخذونها عليهم، وبيَّن التناقض والأخطاء فى أناجيلهم وفى عقائدهم وعباداتهم وطقوسهم وأسرار دينهم. وساق الأدلة على كل ما يقول من كتبهم وتصرفاتهم، ولم يعتمد على الحِجَاج العقلى فقط.
    وكان الغربيون فى العصور الوسطى ينظرون إلى النبى الكريم بعين البغض الرمداء فلا يستطيعون مواجهة نوره وبهائه، فشوهوا صورته انطلاقا من كراهيتهم له زاعمين ضمن ما زعموا بشأنه أنه كان قسيسًا نصرانيًا ثم ارتد عن النصرانية، إذ كان فى البداية تلميذًا للراهب بحيرا، وبعد أن تلقى منه المعلومات اللازمة تركه وأعلن نفسه نبيا. وهو كلام مضحك لأنه، حتى بافتراض أنه قابل بحيرا فعلا ولم تكن القصة مزيفة، إنما كان فى ذلك الوقت صبيا صغيرا، والصبيان الصغار لا يفكرون فى نبوة ولا يفكر أحد فى تنبئتهم، كما كان برفقة رجال القافلة القرشية فلا يمكن من ثم أن يكون بحيرا قد علمه الإسلام ثم يسكتوا هم عند إعلانه النبوة ولا يفضحوه بأنه إنما تعلم على يد بحيرا أمامهم. ثم إن الإسلام بعقائده وشرائعه وعباداته وأخلاقه وحكمه وبكل تفاصيله التى نعرفها فى القرآن والسنة لا يمكن أن يتعلمه أحد فى خلال نصف ساعة مثلا، وهى المدة التى لا أظن بحيرا قضى أطول منها فى تلك المقابلة التى لا أظنها قد وقعت أصلا.
    ومن القصص الشهيرة التى راجت عند الأوربيين فى العصور الوسطى أنه عليه السلام كان كاردينالًا إيطاليًّا للكنيسة الرومانية الكاثوليكية، وكان اسمه ماهومت، وبعد أن فشل فى الجلوس على كرسى البابوية هرب للجزيرة العربية، وأسس دينه الجديد نكاية فى البابا وكنيسة روما. وبطبيعة الحال لا يمكن أن يوصف هذا الاتهام إلا بأنه جنون رسمى، فأين محمد من إيطاليا؟ وهل كان قومه يسكتون على إيطالى يدعى بينهم النبوة دون أن يهتكوا ستره ويسخروا منه حين يقول لهم إنه عربى وأبوه عبد الله وجده عبد المطلب؟ ثم كيف تعلم العربية وأبدع هذا القرآن العجيب؟ إن هذا أوغل فى الحماقة والجنون من التهمة السابقة.
    كذلك وصفه الغربيون بأنه ساحر معادٍ للمسيح استطاع عن طريق السحر والخداع تحطيم الكنيسة. ولكن ترى كيف يصح أن يوصف النبى بأنه ساحر، ولو كان ساحرا وعنده القدرة على تحطيم الكنيسة، التى أكد المسيح، طبقا لرواية العهد الجديد، أنها مؤسسة على الصخور الصلاب وأن أبواب الجحيم لا تقدر عليها، ما استطاع قومه أن ينالوا منه منالا. ثم هل السحرة يأتون بأديان راقية كالإسلام تدعو إلى التحضر والرقى وتنور عقول الناس وتأخذ بأيديهم إلى سبيل البر والخير؟ وفوق ذلك فإن أحدا لا يبغض السحر ويحب العلم ويحض عليه بغض محمد ودينه للسحر وحبهما للعلم.
    ومما تفتقت عنه عقول الغربيين فى العصور الوسطى أيضا اتهام النبى صلى الله عليه وآله وسلم بأنه الشيطان ذاته، وأن الإسلام لون جديد من الهرطقة والوثنية والشهوانية. وهذه لوثة أخرى من الجنون أفظع مما مضى، فالإسلام والوثنية نقيضان لا يجتمعان أبدا من هنا إلى يوم القيامة. ومن القصص التى كانت رائجة فى الغرب فى تلك الأزمنة قصة الراهب الدومينيكانى فى القرن الثالث عشر الذى زار بغداد، ثم خرج على الأوروبيين بحكاية خرافية مفادها أن الشيطان، حينما عجز بقدراته الذاتية عن وقف انتشار النصرانية، اخترع كتابًا جديدًا هو القرآن، وجعل له وسيطًا هو محمد صلى الله عليه وآله وسلم، الذى يجسد المسيح الدجال. لكن هل يمكن القرآن أن يصدر عن الشيطان، وهو دائم التحذير من الشيطان ومن الإصاخة إلى وساوسه وشروره؟ وهل الشيطان يقول هذا الكلام البديع الذى ليس له مثيل فى الحلاوة والروعة والإبداع مضمونا ولغة وتعبيرا وتركيبا وتصويرا وجلالا ومجدا؟
    كما يفترى دانتى أليجييرى الإيطالى صاحب "المهزلة الإلهية"، وهو من أهل القرن الثالث عشر الميلادى، الأكاذيب على النبى صلى الله عليه وآله وسلم فيقول إن موميتو كان ينشر الفضيحة والفتنة، وإن الشيطان سوف يمزقه فى جهنم لنشره الشهوانية المقززة. وأرجو القراء الكرام أن يتأملوا تخبط الغربيين فى توصيف الإسلام: فمرة هو من إبداع الشيطان، ومرة سوف يمزق الشيطان النبى فى الجحيم. وهذه ضد تلك، فالأولى تقيم علاقة تعاون بين نبينا والشيطان، والثانية تجعل بينهما عداوة شنيعة. كذلك كان الغربيون يزعمون أن القرآن يتساهل مع اللواط. وها نحن أولاء نرى الغربيين أنفسهم يقننون اللواط، وفوقه السحاق بالمرة، بينما المسلمون يرفضون ذلك. أليس هذا كذبا مفضوحا وضيعا؟
    ومن الصور الرائجة فى أوروبا فى القرون الوسطى أيضا عن النبى صلى الله عليه وآله وسلم اتهامه بأن كان دجالًا يأتى بألاعيب خفيَّة كتدريبه حمامة تنقر حبوب القمح من أذنه زاعما أن تلك الحمامة هى جبريل، الذى كان يبلغه الوحى الإلهى. ونحن لو قلبنا السيرة النبوية كلها ما رأينا النبى ممسكا بحمامة قط. ثم هل كان لدى النبى من الفراغ ما ينفقه فى الدجل وألاعيب الحواة؟ وهذا كله، كما نرى، اختلاق صُرَاح لا يقوله إلا مجنون مغرق فى الجنون. خيبة الله على من يفترى على النبى العظيم الكريم الذى غير وجه التاريخ تغييرا هذه المفتريات الهابطة المنحطة.
    كتب عن الاستشراق والمستشرقين: وفى نهاية هذا الفصل يحسن بنا أن نوافى القراء بهذه القائمة المشتملة على طائفة صالحة من الكتب المتعلقة بالاستشراق والمستشرقين لمن يريد التوسع فى القراءة فى هذا الموضوع الشديد الأهمية: "مختارات إنجليزية استشراقية عن الإسلام" لإبراهيم عوض. "المستشرقون البريطانيون" لآربرى- تعريب محمد الدسوقى النويهى. "تاريخ حركة الاستشراق" ليوهان فوك. "الاستشراق: المفاهيم الغربية للشرق" لإدوارد سعيد- تعريب: محمد عنانى. "بعد الحادى عشر من سبتمبر 2001 ماذا يقولون عن الإسلام- نصوص وردود" إبراهيم عوض. "تعقيبات على الاستشراق" لإدوارد سعيد- تعريب صبحى حديدى. "المهزلة الأركونية فى المسألة القرآنية" إبراهيم عوض. "الإسلام فى خمس موسوعات إنجليزية: نصوص ودراسات" لإبراهيم عوض. "حول الاستشراق الجديد" لعبد الله الوهيبى. "مدخل إلى الأدب العربى لهاملتون جب: قراءة نقدية" لإبراهيم عوض. "الأدب العربى: نظرة عامة لبيير كاكيا"- عرض ومناقشة إبراهيم عوض. "هوامش على تاريخ العرب لفيليب حتى" إبراهيم عوض. "إسلام د. جيفرى لانج: التداعيات والدلالات- قراءة فى كتابه: النضال من أجل الاستسلام" لإبراهيم عوض. "الاستشراق فى الفن الرومانسى الفرنسى" لزينات بيطار. "المنهج الاستشراقى فى تاريخ الأدب والنقد" لإدريس الكريوى. "الاستشراق العربى: دراسة نقدية لأعمال أركون" لمحمد بريش. "الأثر الاستشراقى فى موقف أركون من القرآن" لحمد بن سعيد الرحانى. "الشبه الاستشراقية فى كتاب "مدخل إلى القرآن الكريم" للجابرى" لعبد السلام البكارى والصديق بو علام. "الالتفاف على الاستشراق: محاولة التنصل من المصطلح" لعلى بن ابراهيم النملة. "الاستشراق والقرون الوسطى" لجون غانم. "مراكز الاستشراق الأمريكى الجديد" لعبد الله المديفر. "سموم الاستشراق والمستشرقين فى العلوم الإسلامية" لأنور الجندى. "التبشير والاستشراق: أحقاد وحملات" لمحمد عزت الطهطاوى. "الإسلام والمسلمون بين أحقاد التبشير وضلال الاستشراق" لعبد الرحمن عميرة. "الاستشراق والدراسات الإسلامية" لعبد القهار العانى. "الاستشراق والدراسات الإسلامية" لعلى بن ابراهيم النملة. "الاستشراق والإسلام: مطارحات نقدية للطروح الاستشراقية" لإبراهيم المحجوبى. "الاستشراق فى ميزان نقد الفكر الإسلامى" لأحمد السايح. "آراء المستشرقين حول القرآن وتفسيره: دراسة ونقد" لعمر بن ابراهيم رضوان. "آراء المستشرقين الفرنسيين فى القرآن الكريم" لأحمد نصرى. "الرسول (ص) فى كتابات المستشرقين" لنذير حمدان. "الاستشراق فى السيرة النبوية" لعبد الله محمد النعيم. "السيرة النبوية وأوهام المستشرقين" لعبد المتاعل محمد الجبرى. "الاستشراق: دراسات تحليلية تقويمية" لمحمد عبد الله الشرقاوى. "الإسلام والمستشرقون" لعبد الجليل شلبى. "الاستشراق والإسلام" لمجموعة من المؤلفين- ترجمة وإعداد فالح عبد الجبار. "المستشرقون والإسلام" لزكريا هاشم زكريا. "الاستشراق والمستشرقون: ما لهم وما عليهم" لمصطفى السباعى. "الحوار دائما وحوار مع مستشرق" لشوقى أبو خليل."السجع فى القرآن لديفين ستيوارت" ترجمة ودراسة إبراهيم عوض. "المستشرقون" لنجيب العقيقى. "المستشرقون والتراث" لعبد العظيم الديب. "المستشرقون والقرآن" لابراهيم عوض. "مستشرقون من قبل الاستشراق. مستغربون من قبل الاستغراب" لإبراهيم عوض. "المستشرقون ومن تابعهم وموقفهم من ثبات الشريعة وشمولها دراسة وتطبيقا" لعابد بن محمد السفيانى. "مقالات وبحوث حول الاستشراق والمستشرقين" لأبو الحسن الندوي- إعداد سيد عبد الماجد الغورى. "لو كان البحر مدادا: للصحفية الأمريكية كارا باور- حوار مع الشيخ أكرم ندوى"- عرض وتحليل إبراهيم عوض. "الإسلاميات بين كتابات المستشرقين والباحثين المسلمين" لأبو الحسن الندوى. "الاستشراق: قراءة نقدية" لصلاح الجابرى. "دائرة المعارف الإسلامية الاستشراقية: أضاليل وأباطيل" لإبراهيم عوض. "آثار الفكر الاستشراقى فى المجتمعات الإسلامية" لمحمد خليفة أحمد. "الاستشراق والخلفية الفكرية للصراع الحضارى" لمحمود حمدى زقزوق. "الإسلام فى تصورات الغرب" لمحمود حمدى زقزوق. "المتنبى بإزاء القرن الإسماعيلى فى تاريخ الإسلام للويس ماسينيون" ترجمة وتعليق ودراسة إبراهيم عوض. "مؤسسات الاستشراق والسياسة الغربية تجاه العرب والمسلمين" لعبد الله يوسف سهر محمد. "المستشرقون والمبشرون فى العالم العربى والإسلامى" لابراهيم خليل أحمد. "المستشرقون والمناهج اللغوية" لاسماعيل أحمد عمايرة. "أصول الشعر العربى" لديفيد صمويل مرجليوث- ترجمة وتعليق ودراسة إبراهيم عوض. "المستشرقون والشعر الجاهلى بين الشك والتوثيق" ليحيى وهيب الجبورى. "دراسات دينية مترجمة من الإنجليزية" لإبراهيم عوض. "المستشرقون وتاريخ صلتهم بالعربية: بحث فى الجذور التاريخية للظاهرة الاستشراقية" لإسماعيل أحمد عمايرة. "محمد ونهاية العالم للمستشرق الفرنسى بول كازانوفا"- عرض ومناقشة إبراهيم عوض. "الاستشراق اليهودى: رؤية موضوعية" لمحمد عبد الرحيم الزينى. "تاريخ حركة الاستشراق" ليوهان فك- ترجمة عمر لطفى. "آراء المستشرقين الفرنسيين فى القرآن الكريم" لأحمد نصرى. "حفريات الاستشراق: فى نقد العقل الاستشراقى" لسلام يفوت. "محمد عند علماء الغرب" لخليل ياسين. "تاريخ اليهود فى بلاد العرب" لإسرائيل ولفنسون. "موقف الاستشراق من السيرة والسنة النبوية" لأكرم ضياء العمرى. "المستشرقون الألمان" دراسات جمعها وشارك فيها د. صلاح المنجد. "الاستشراق الأمريكى المعاصر" لمازن مطبقانى. "الاستشراق والتاريخ الإسلامى" لفاروق فوزى. "حضارة العرب" لجوستاف لوبون- ترجمة عادل زعيتر. "عادات المصريين وتقاليدهم" لإدوارد وليم لين- ترجمة سهير دسوم. "المستشرقون الناطقون بالإنجليزية" لعبد اللطيف الطيباوى- ترجمة قاسم السامرائى. "ابن رشد والرشدية" لإرنست رينان- ترجمة عادل زعيتر. "نقد الخطاب الاستشراقى" لساسى سالم الحاج. "إنتاج المستشرقين وأثره فى الفكر الإسلامى الحديث" لمالك بن نبى. "تاريخ الأدب العربى" لكارل بروكلمان- ترجمة عبد الحليم النجار وآخرين. "تاريخ الفكر الأندلسى" لآنخل جنثالث بالنثيا- ترجمة حسين مؤنس. "آثار الاستشراق الألمانى فى الدراسات القرآنية" لأمجد يوسف الجنابى. "الدعوة إلى الإسلام" لتوماس آرنولد- ترجمة حسن إبراهيم حسن. "المستشرقون الألمان: النشوء والتأثير والمصائر" لرضوان السيد. "الاستشراق الروسى: نشأته ومراحله" لسهيل فرح. "المدرسة الاستشراقية" لآمنة محمود الذيابات. فلسفة الاستشراق وأثرها فى الأدب العربى المعاصر" لأحمد سمايلوفتش. "الإسقاط فى مناهج المستشرقين والمبشرين" لشوقى أبو خليل. "الفهم الاستشراقى لتفسير القرآن الكريم" لعادل ماجد. "موسوعة المستشرقين" لعبد الرحمن بدوى. "السيرة النبوية وكيف حرفها المستشرقون" لعبد المتعال محمد الجبرى. "الاستشراق والدراسات الإسلامية" لعبد القادر العانى. المستشرقون والتاريخ الإسلامى" لعلى حسن الخربوطلى. "قضايا قرآنية فى الموسوعة البريطانية" لفضل حسن عباس. "الوحى القرآنى فى المنظورالاستشراقى ونقده" لمحمود ماضى... إلخ.