( مقتطف من كتاب أنتروبولوجيا الجزائر و صراع الهوية و الوطنية تأليف علجية عيش )

نحو دولة إسلامية.. من هذه العبارة نطرح السؤال التالي: هل المسيرة هي فن و ثقافة أم هي عبارة عن تكتيك؟ لقد شهدت الجزائر مسيرات عدة منذ أيام الثورة إلى غاية الإستقلال، حيث عرفت الفترة البومديينية تجماعات و مسيرات لكن لم تكن لها صدى، كما يقول الملاحظون لم تكن بلغت مستوى النضج السياسي بعد ، و تعتبر مسيرات أكتوبر 88 بداية القطيعة و لمسيرات عهد التعددية، فلا يختلف إثنان أن بداية التسعينيات ستظل عالقة بأذهان الجزائريين و كل من عاش المأساة الوطنية و أخضعت للتحليل و الدراسة من قبل الباحثين في الحركات الإسلامية، حركة إسلامية حركها إسلاميون رفعوا شعار: "عليها نحيا و عليها نموت و في سبيلها نجاهد و عليها نلقى الله" ، اختصرت هذه الحركة في الجبهة الإسلامية للإنقاذ التي عرفت بالتيار الإسلامي المتشدد، حيث غيرت مجرى تاريخ الجزائر، حين برهنت أنها القوة السياسية التي يحسب لها ألف حساب، خلال الإنتخابات التشريعية، استجابت لها الجماهير و مكنتها من انتزاع أغلبية الأصوات، لكنها ما فتأت أن تنظم أضخم مسيرة شعبية عقب توقيف المسار الإنتخابي، هذه المسيرة أسالت الكثير من الحبر في الأوساط الإعلامية و اثارت جدلا كبيرا على كل المستويات ايضا السياسية و الثقافية، دخلت الجزائر في مسار نفق مجهول و مظلم، كان صوت الرصاص هو القانون، في هذه الفترة وجهت أصابع الإتهام إلى الحزب الحاكم، و كان لابد من تدخل الجيش ليوقف النزيف السياسي قبل أن يعلن عن ميلاد الدولة الإسلامية " دولة الله" ، هي الدولة التي رفع من ـأجلها مصطفى بويعلي و جماعته صوت الجزائر المسلمة في وجه الحزب الحاكم، كان الفيس اول حزب إسلامي يحصل على اعتماده من الداخلية و فرض تواجده في الساحة السياسية، فقد عرف الفيس بقادته محطات سياسية هامة سقطت فيها بعض الإيديولوجيات و موقفها من مسالة اللغة العربية و التعريب و الهوية الوطنية، و لا شك أن البعض يتذكر الصراع بين الفيس و الأفافاس بخصوص الفرانكفونية.

استطاع الفيس بقادته ( الشيخ عباسي مدني، علي بن حاج، عبد القادر حشاني، الشيخ كمال غمازي ، الدكتور أحمد بن محمد، الشيخ عبد القادر بوخمخم و غيرهم) أن يشكلوا كتلة إسلامية سياسية، اقتحموا بها الساحة و أثروا بخطابهم الديني قلوب الجماهير، و لا غبار أن نقول أن هبّة الشعب الجزائري كانت أكثر قوة و هو يحمل بيديه كتاب الله و يمشي في المسيرات الشعبية لإدانة النظام، من هنا بدأت القطيعة، بعدما تجاهل رئيس الجمهورية مطلب الفيس و بداية وقوع الإشتباكات بين الفيس و قوات الأمن، ثم إعلان الجهاد، و دخول الجزائر في حالة طوارئ، عشرية سوداء أو حمراء و لنسمها بكل الأسماء، كما يمكن أن نضفي عليها كل الألوان، استدعى الأمر تدخل الجيش، كون الشارع الجزائري مازال يفتقر إلى ابجديات الفكر السياسي و الثقافة السياسية، فكان القلق سائدا بسبب تصاعد العنف و اللا تسامح، لم يكن مسلسل العنف سيناريو بل كان حقيقة، و المتهم هو الفيس و نسيت السلطة أنها مصدر العنف، و لكشف النظام اسست الجبهة الإسلامية للإنقاذ جريدة سمتها "المنقذ" كشفت فيها مساعي السلطة في تشويه صورة الإسلام على أنه دين عنف، و يكشف من كان وراء عمليات التخريب، و من هي الجهات التي ساهمت في العصيان المدني الذي قاد إلى الإعلان عن الجهاد.
و إن كانت الجبهة الإسلامية للإنقاذ قد لقيت في البداية التفافا كبيرا للجزائريين، الذين آمنوا بمشروع الدولة الإسلامية بالطرق السلمية دون اللجوء إلى العنف، إلا أن سياسة الفيس لقيت انتقادات عنيفة من الإسلاميين أنفسهم، و كذلك العلماء و الدعاة و منهم عمر علمي و أخوه عبد الناصر، أبو مالك العيد، هذا الأخير قتل مع عيسى بن عمار أمير الجماعة الإسلامية المسلحة، و كانوا قد نصحوا الرجل الثاني في الفيس علي بن حاج و أرشدوه إلى أن يتبنى الخطاب المعتدل، و لكنه ادار ظهره لهم و لم يستمع إليهم، و قد ذكر اسمه في بيان الشروط في عملية الطائرة الفرنسية في نهاية 1994، و اتهموه بالزيغ و الضلال بتزكيته لقاء روما و تزكيته لجيش الإنقاذ، و في الأخير تبرأوا منه و من سائر المبتدعة ( انظر كتاب درء شبهات التكفير عند ابي محمد المقدسي و الجماعات الإسلامية المسلحة تأليف ابي عبد الرحمان الأثري يخلف قرمزلي) عن الدار العثمانية الطبعة الأولى 2013 ، كما أن الشيخ أبو محمد المقدسي وجه خطابا عنيفا لعلي بن حاج الذي كما يقول جمع بين الفكرين الحزبي و التكفيري، و تحدث المقدسي في رسالته "فصل الكلام في مواجهة ظلم الحكام" عن حوادث أكتوبر 1988، و حوادث جوان 1991، و محتشدات الصحراء اللاهبة 1992 ، التي كانت شاهدة على كفر "الطّغمة" الفاجرة أي (المجموعة الحاكمة ) و ضلالها القديم، لكن علي بن حاج بدلا من أن يشير إلى ظلمها، ألحق بها تهمة الكفر، يقول المقدسي: لو وقف بن حاج مع نفسه وقفة المتأمل للأحداث، و ما صار إليه، و التفت من حوله و تلمّس موقع رجليه فلم يجد إلا جهلة الحزبين و مبتدعة "الجزأرة" الذين ينادونه تلبيسا بابن تيمية الصغير، لعرف أنه لم يكن يوما ابن تيمية و لكن المؤكد أنه قد صار صغيرا.
الإنتقادات كانت من الداخل أيضا، ففي العاشر من أكتوبر 88 مثلا بعث الشيخ أحمد سحنون برسالة إلى رئيس الجمهورية قال فيها: "ما وددت أرى حماة الوطن يقتلون أبناء الوطن"، و في رسالة ثانية قدم نحناح جملة من المطالب، من بينها ضمان الحريات السياسية لكل أفراد الشعب، و إعطاء الكلمة للشعب من أجل أن يقرر مصيره و يختار شكل مستقبله، مع الأخذ بعين الإعتبار لثوابته العقائدية و الثقافية و التاريخية و الحضارية، فالعمل المسلح في كل مراحله باطل و مخالف للشرع، و للأسف الشديد ما زلنا نسمع من حين لآخر أن ما يسمى بالجهاد في زمن الرعيل الأول و خاصة بعد بيان الوحدة كان جهادا شرعيا، غير أن الإنحراف الذي وقع بعده على عهد جمال زيتوني المكني بابي عبد الرحمن أمين و عنتر زوابري المكنى بابي طلحة أثر على مشروعية الجهاد و استمراريته، و لا ننسى عمليات الإختطاف لرجال الأعمال التي كانت تقوم بها "الجماعة السلفية للدعوة و القتال" ، حيث جعلت المسلم مرتدا لأجل غناه و هو مخالف للدين و الشرع.
أخطأ الفيس و من تبعه خطأ فادحا في حق الجزائر شعبا و دولة، لأنه لم يفهم بيان أول نوفمبر 1954 الذي قال أن ثورة نوفمبر كانت إسلامية في روحها و رفعت شعار الله أكبر، لكن هذا الإعلان و الشعار كانا ضد الأعداء ( فرنسا) و لم يكن ضد أبناء الوطن، و من هنا يمكن القول أن الجميع كان يعتقد أنه يناضل من أجل التحرر و الديمقراطية، و الكل يقول انه يريد جزائر الأمل، الكلّ أخطأ و اليوم، الكلُّ يدفع ثمن أخطائه، و رغم مشروع الوئام المدني و المصالحة الوطنية الذي عرفت فيه الجزائر نوعا من الإستقرار، لكن تعنت النظام و محاولة السلطة فرضها عصا الدكتاتورية أعاد الجزائر إلى نقطة الصفر، جعلت الجزائر تعرف ما اصطلح عليه بـ: "حرب المسيرات"، أعلن فيها الشعب الجزائري تمرده على النظام، و لأول مرة تخرج الجماهير إلى الشارع تطالب برحيل النظام، لقد تحول شهر فبراير 2019 إلى ملحمة جمعت فيها أعظم الملاحم، عبر فيه الشعب الجزائري عن الإمتزاج بين شذى فيفري و نوفمبر المجيد، هذه المسيرات أو كما سميت بالحراك الشعبي، أو جمعات الغضب، أراد من خلالها الشعب الإستمرارية ضمن سياق التغيير، كما أعيد فيها الأمل و الإعتزاز بالوطن.
من قرّر أن تكون المسيرات في يوم الجمعة؟ لاشك أن من اختار هذا اليوم أراد التذكير بمسيرات الجمعة التي كان الحزب الحاكم قد نظمها تعبيرا عن رفضه لإستخدام المساجد لأغراض سياسية، و وضع حد للمبالغة في استخدام بيوت الله في حملات انتخابية، حيث خاض معركة شرسة ضد الفيس، الذي اختار نفس يوم الجمعة للرد على الأفلان الحزب الحاكم، هاهو التاريخ يعيد نفسه في مسيرات 2019 بعد مرور 29 سنة، فمثلما نادي الفيس يومها لا للشاذلي، قال الحراك الشعبي لا لبوتفليقة، و كانت مسيرة فبراير 2019 و ما لحقتها أوسع من مسيرة الفيس التي بلغت حسب الأرقام مليونين مشارك، ارتفعت فيها أصوات إعلامية بأن الفيس اخترق القانون، لأنه قاد مسيرة سلمية حرّض فيه الشعب على السلطة، كانت الجزائر تتخبط في أزمة روحية لا نظير لها، و تدحرجت الأوضاع نحو حرب أهلية طاحنة بعد خروج الأئمة إلى المعارضة، يؤيدون فيها مساعي الفيس في بناء دولة إسلامية، رافعين شعار "الجهاد" حتى الموت، من أجل ان يشيدوا وطنا يسوده العدل و المساواة، و تحقيق هذا المبدأ كما قال مالك بن نبي يقتضي تغييرات ثورية تتغير فيها الأوضاع بطريقة مستعجلة، و بالتالي وجب أن تحدد أهدافها، هو السؤال الذي كان يطرح وقتها و يتجدد الأن، غير أن وجه الإختلاف يكمن في أن مسيرات التسعينيات كانت مختلفة لأنه كان يقودها أناس تربوا على العمل السياسي و العمل الثوري و هم يواجهون آلة فرنسا العسكرية، و كانوا مهيئين سياسيا و فكريا لمواجهة المشكلات، و كانوا على استعداد لمواجهة ما يعترضهم من مشاكل، و لذلك، فالحراك اليوم يختلف في وسائله و آلياته عن حراك الأمس، رغم أن الحراكين يشتركان في أن الهدف هو براغماتي محظ.
نحناح و علي بن حاج وجها لوجه
لم يكن الفيس على توافق مع الأحزاب الإسلامية الأخرى في الطريقة و المنهج، و كان يكفر ببعض المفاهيم و القضايا كالديمقراطية مثلا، لاسيما قضية التحالف التي جعلت شمعته تنطفئ، خاصة عندما ظهر اسم الشيخ محفوظ نحناح، الذي حاول أن يقدم صورة بديلة عن الفيس، و يخلق جسور التواصل مع الديمقراطيين، الذي كان علي بن حاج يصفهم بالكفار و المرتدين، و ما زال من عرفوا النحناح و عملوا معه يتذكرون مقولته الشهيرة: نحن لا نرفض الديمقراطية و لا الشورى فمن قبل الديمقراطية قلنا له تعال نحن أهل ديمقراطية، و من رفض الديمقراطية و قال بالشورى قلنا له تعال نحن اصحاب شورى"، كان النحناح عكس بن حاج، يشدد على أتباعه عدم الإنغلاق على الذات، و كان يرى أن بناء الدولة الإسلامية يحتاج إلى منطلقات و عمل استراتيجي، و هذا ما جعله يتحالف مع جميع القوى السياسية و الوطنية و الإسلامية، و هذا ما لم يقم به الفيس الذي كان يرى أن "التحالف" شيئا منافيا للإسلام و منافيا لروح العقيدة، و كانت ردة فعله أنه اعتبر أسلوب النحناح في التعامل مع الواقع ضرب لوحدة الإسلاميين، و بدأت المعركة بين جماعة النحناح و جماعة الفيس، هكذا انتهت تجربة الإسلام المسلح في الجزائر التي ارتبطت بشخص مصطفى بويعلي، نشير هنا أن الظاهرة الفيسية ( نسبة إلى الفيس) تركت أثرها إلى اليوم، بحيث ما زالت موضع نقاش لمعرفة الدوافع الحقيقية التي دفعت بعباسي مدني و جماعته إلى المجاهرة و المواجهة المسلحة، و لعل ذلك يعود إلى أن الشعب كان يساس بأساليب ردعية ملتوية من قبل النظام، فدفعه ذلك للتعامل مع المبدأ و نقيضه، مع الشيئ و ضده و مع السياسة الملتوية المغشوشة، ليقف في وجه حكم قام على القهر و الإستبداد، حكم معتلٍّ مريضٍ لا يقوى على الصمود أمام الهزات الشعبية، و لا يثبت أمام الأحداث الكبرى، لكن بطريقة تختلف عن الطريقة التي اتبعها الفيس، فالحراك اليوم سلمي و حضاري بأتم معنى الكلمة.
رحل زعيم الفيس عن الحياة و هو في المنفى، و شكل رحيله جدلا قويا، حول نهاية زعيم، و لا شك أن التاريخ يحفظ أمثلة من هذا النوع و هي كثيرة، و ليس من السهل ذكرها هنا، و لكن ها هو التاريخ يعيد نفسه، في المسيرات الشعبية التي قادتها الجماهير فيما عرف بحركة 22 فبراير 2019 و المطالبة برحيل النظام، لم يعد الشعب يغض بصره عما يجري من ظلم و أخطاء و تناقضات، و لم يعد الشعب يتساهل مع تجاوزات السلطة، و السكوت عن الذين يمارسون السرقات المقننة ، تحت ظل المشاريع التنموية، و الإنزلاقات في التسيير، فكانوا سببا في انهيار الإقتصادة و كل المنظومات التربوية و الإجتماعية و حتى السياسية، و كانوا سببا في تعطيل عجلة التنمية، وضعوا أسسا و مناهج تخدم مصالحهم و من يسير في فلكهم و لا تنفع وطن و لا تبني حاضرا و لا مستقبلا، و مهما قدم النظام من عذر للشعب الجزائري، فلن يسكت الغضب الشعبي، لأن عدسة الذاكرة التاريخية لم تنغلق على نفسها كما يقول الشيخ سليمان بشنون في كتابه الأزمة في الجزائر جذورها و أبعادها، و لم تقبل هذه الذاكرة ممارسة الإغلاق عليها، و لذلك فإن كل ما جرى و يجري في البلاد و في الحياة انعكس عليه صورة طبق الأصل، هذه المواقف المشرفة التي سجلها الشعب الجزائري بكل أطيافه لا شك أنها سوف يؤرخ لها، و سيأتي جيل من بعد هذا الجيل و يضعها تحت المجهر للتشخيص و التحليل بطريقة لا شبهة فيها، لأن المسيرات كانت منظمة و محكمة و نظيفة، أي أن الأيدي لم تتلوث بالدماء، و لم يحدث أيّ تخريب أو تكسير للممتلكات العمومية، و لم يقع فيها أي انحرافات، باختصار شديد ، كان الشعب فيها أكثر وعي، حيث امتثل إلى القانون و هو يخرج إلى الشارع للتعبير عن افكاره و آرائه، و الدفاع عن مصالحه المشتركة بطريقة حضارية و سلمية، لاسيما و المادة 49 من الدستور أكد فيها المشرع على ضمان ممارسة حرية التظاهر ، و قال أن حرية التظاهر السلمي مضمونة للمواطن في إطار القانون الذي يحدد آليات ممارستها، نتساءل الآن إن كان الحراك الشعبي حقق حلمه في رحيل النظام ، من خلال التوقيفات للذين أجرموا في حق هذا الشعب طيلة 20 سنة أو أكثر؟ و وقوفهم أمام العدالة؟ أم أن كل ذلك كان تمثيلية أراد بها النظام أن يوهم الشعب أن مطالبه تحققت، و أنه سيبني جزائر العدالة و الحرية و الكرامة، الأيام وحدها تكشف ذلك.
بين المرجعية الدينية و المرجعية الوطنية
تقود هذه الأحداث إلى القول أنه مع تعاقب الأجيال، يتجدد الحديث عن المرجعيات، و هنا وجب أن نتساءل عن أي مرجعية نتحدث؟ هل نتحدث عن المرجعية الدينية؟ أم المرجعية الوطنية؟ أم الثقافية؟، الحديث طبعا عن المرجعيات شائك و معقد باختلاف الأحداث و تغير المواقف و السياسات، و لكل رأيه في هذا المجال، فالمحللون في الجزائر يؤكدون بأن الجزائر تتميز بأنها بلد "المرجعيات"، و هو مصطلح متشعب ، لاسيما بالنسبة للأحزاب السياسية الموالية للسلطة، التي تجعل من أول نوفمبر مرجعيتها، تضاف إليها الأحزاب الحديثة النشأة ، سواء الموالية للسلطة أو تلك التي تبنت لغة المعارضة، حيث ترى هي الأخرى أن مرجعيتها تكمن في بيان أول نوفمبر54، أما الأحزاب الإسلامية فهي ترى أن مرجعيتها دينية، لكن و في ظل الأحداث التي عرفتها الجزائر و التي اتسمت بالعشرية السوداء حاولت هذه الأحزاب أن تغير من خطابها الديني و تصف نفسها بالوسطية، عندما مزجت بين الخطاب الديني و الوطني، و تقول أن خطابها و برنامجها مستمد من بيان أول نوفمبر حتى يتسنى لها المشاركة في الحكم و في صنع القرار، فيما يذهب البعض أن وجود الأحزاب الإسلامية أصبح عديم الجدوى، لأنها بأفكارها المتطرفة اتسمت بـ: "الانقسامية"، و كانت سببا في ظهور العنف، و جعلها متأخرة عن معركة التنمية في فترة من الفترات الحرجة كانت فيه عاجزة عن توفير وسائل إرساء تماسكها الوطني، لولا مشروع المصالحة الوطنية التي جعل الجزائر تخوض في كنف السلم مشروع إعادة الاعتبار للهوية الوطنية و بناء دولة الحكم الراشد، هذا المشروع على ما يبدو بقي حبرا على ورق، لأنه لا أحد من المسؤولين في الحكومة أو قادة الأحزاب و إطاراتها بادر بتجسيده في الميدان، في ظل الصراعات القائمة داخل هذه الأحزاب، وما أفرزته التعددية من تغيرات، عجزت الأحزاب عن تقديم برنامجا واضحا، و عجزت أيضا عن تكييف خطابها السياسي و مواقفها مع ما تتطلبه المرحلة الراهنة.
و يبدو أن الصراع في الجزائر اليوم قائما على فكرة التأسيس لدولة مدنية أكثر منها دينية ، و ربما الوضع زاد تأزما، بعد انقطاع ملتقيات الفكر الإسلامي و ملتقيات الفكر السياسي في الجزائر، و للمراهنة على الخيار الديمقراطي في الجزائر بات من الضروري أن يلتقي رجال السياسة و رجال الدين و رجال الفكر و الثقافة أيضا على مائدة مستديرة لتدارك الوقت الضائع، و إعادة النظر في التركيبة التاريخية، السياسية و الثقافية للشعب الجزائري، وتغيير السلوكات السياسية و إرساء قواعد العمل السياسي النظيف و دعائمه و تحقيق مشروع المجتمع أسسه القيم الدينية و الوطنية و الثقافية للبلاد، و في هذا يتجلى دور “المثقف الجزائري” في إرساء هذه القيم النبيلة، ولكن السؤال الذي يمكن طرحه ، هل للجزائريين مرجعية ثقافية؟ فما هو مطروح اليوم في الساحة الثقافية لا يرقى إلى المستوى المطلوب، لأن المرجعية الثقافية تمثل انعكاسا لمجموعة مثقفة أو"نخبة"، فما نشاهده من نشاطات هي شبيهة إلى حد ما بـ: "كرنفال في دشرة"، و إن أحدهم قال" أعطني مسرحا أعطيك شعبا"، فإنه وجب اليوم القول: " أعطني فكرا أعطيك رجالا"، لأنه بالفكر وحده تبنى العقول، فنحن مدعوون إلى خلق "بيئة فكرية ثقافية" من الدرجة الأولى، تخرج الجمهور المتعطش إلى الفعل الثقافي من الضبابية الفكرية .


علجية عيش