( قراءة في وثيقة بيان أول نوفمبر 1954)
بعد انقضاء ثمانية و ستون سنة ( 68) من اندلاع الثورة التحريرية في الفاتح من نوفمبر 1954 و بعد أن مرت الجزائر طيلة هذه الفترة بتجارب متعددة أفرزت افكارا مختلفة و مواقف و ذهنيات متباينة و كان كل منها يسعى لتبرير مواقفه و الدفاع عن أطروحاته بالرجوع إلى تراث الثورة و رفع شعارها محاولا تفسيرها من إيديولوجيته الخاصة لدرجة أن البعض أبعدها عن إطارها الحضاري، و حاول آخرون دفن الكثير من الحقائق و عدم كشف الأخطاء التي ارتكبت في تلك الفترة، فما حدث عشية الإستقلال إلى غاية الحراك الشعبي مرورا بالمأساة الوطنية ( 1991) بعد توقف المسار الإنتخابي الذي كان من مخلفات تلك الأخطاء التي ظلت دون إخضاعها للمعالجة و التحليل العقلاني، و إن عالجتها بعض الأقلام فهي متناقظة و لا ترسم الصورة الحقيقية للأحداث التي وقعت
في هذه الورقة نستعرض ما حملته وثيقة بيان أول نوفمبر و ما تضمنته من مبادئ عامة و إيديولوجية للثورة الجزائرية و المتمثلة في مبدأ الكفاح تجلت في "جبهة التحرير الوطني" و دعوة البيان كافة الأحزاب و الحركات الوطنية الجزائرية للإنظمام اليها، لقد عبر بيان أول نوفمبر 54 عن إيديولوجية ثورية كاملة شملت المبادئ و الأهداف و وسائل العمل، و من خلال هذا البيان أكدت جبهة التحرير الوطني أن وجودها كان ثمرة نضال طويل خاضه الشعب الجزائري، إن هذه الجهود طبعا سبقتها جهود كثيرة بدءًا من تأسيس نجم شمال افرقيا بقيادة مصالي الحاج إلى غاية الإعلان عن ثورة التحرير المجيدة بقياة جيش و جبهة التحرير الوطني، لعبت فيه الحركة الوطنية الجزائرية دورا جليا من أجل الإستقلال ، دفع فيها الشعب الجزائري ضريبة الدم لدعم الثورة و قادتها من أجل تحقيق الإستقلال و استرجاع السيادة المفقودة.
لقد حددت وثيقة بيان نوفمبر 54 الهدف الرئيسي لجبهة التحرير الوطني في الإستقلال الوطني بواسطة إعادة بناء الدولة الجزائرية ضمن إطار المبادئ الإسلامية و احترام جميع الحريات الأساسية دون تمييز عرقي أو ديني ماعدا التعدد اللغوي الذي يضرب الهوية، لاسيما و هذه الأخيرة تجمع بدورها مجموعة من المقومات كاللغة و الدين و الثقافة، و هذا ما ركزت عليه الحركة الوطنية في محاربة الفرنسة و هو مطلب وجد صداه في أدبيات الحركة الوطنية، بهدف التغيير الشامل بالقضاء على النظام الإستعماري و تجسيد سيادة الدولة الجزائرية الذي يعد الإسلام أحد مقوماتها الأساسية، كما عبرت وثيقة نوفمبر عن مبدأ العدالة و مبدأ السلم و الإنتماء الحضاري و تحقيق وحدة شمال افريقيا، فالبيان حدد الأهداف المتمثلة في تحقيق الإستقلال التام و هنا يكمن في دور الأوفياء في كشف أسرار ثورة التحرير الجزائرية و من هم المساهمين الحقيقيين فيها، و هذا حتى يتبين الخيط الأبيض من الأسود للأجيال القادمة ؟
ثورة نوفمبر 1954 كانت ثورة إفريقية
فالنجاحات التي حققتها الثورة الجزائرية في كل الميادين و صداها الإفريقي و الدولي اصبحت بحق نموذجا لحركات التحرر، بدليل أن استفتاء 1958 في المستعمرات الإفريقية الفرنسية بلور ظهور توجهين رئيسيين للحركات التحررية الأول يدعو إلى الإنخراط في الإتجاه الفرنسي ، و الثاني يدعو إلى التحرر ، فقد دعمت الثورة الجزائرية مثلا غينيا عبر الصحافة و المنتديات الإفريقية ، حتى اصبحت تشكل إحدى أقطاب التحرر، و القوى المعارضة في الدول الواقعة تحت التأثير الفرنسي، في نفس السنة ( 1958 ) انعقد مؤتمر أكرا الذي جمع البلدان الإفريقية المستقلة لأول مرة حيث كان مسرحا للمجابه، كان مؤتمر أكرا أول مؤتمر للشعوب الإفريقية المنعقد من 05 إلى 12 ديسمبر حققت فيه الثورة الجزائرية مكاسب معتبرة اتسم بإنشاء مجموعة افريقية داخل الأمم المتحدة لمناصرة القضية الجزائرية و تشكيل بعثة افريقية إلى أمريكا اللاتينية و الدول الإسكندينافية للتعريف بالقضية الجزائرية، و عن طريق البيانات التي كانت تصدرها جبهة التحرير الوطني كان ةمن الطبيعي أن تستقل 10 دول افريقية و هذا بداية من 1960 ، كانت سنة 1960 عام افريقيا، لولا نضال فرانز فانون ما كانت الحكومة الجزائرية المؤقتة أن تحقق مسعاها في توسيع نشاطها باتجاه القارة، لقد اتخذ نضال الأفارقة صورا و أشكالا عديدة في مواجهة سياسة الجنرال ديغول في افريقيا، و هذا ما يؤكد على أهمية التضامن الإفريقي.
فالثورة إذن هي عملية تغيير وتحول قد تتم بوسائل سلمية أم تكون حربا مسلحة من أجل استعادة حقٍ مغتصبٍ و في كلتا الحالتين يرسم خطوطها وعي فكري و إيديولوجي و تتولى قيادتها طلائع مؤمنة بضرورة التغيير، وسِجِلُّ التاريخ حافل بالأمثلة عن الثورات والإنتفاضات الشعبية و المقاومات و الإنقلابات العسكرية و السياسية و الحروب المسلحة، و هذا يعني ان الثورة تعبر عن حركات التحرر للشعوب المضطهدة من قبل الإستعمار و وحشيته ، أما عن الثورة الجزائرية فقد انفتحت على الإسلام لترد على الذين قالوا فرنسا هي أمنا و تجاهلوا أن للجزائر ماضيها و كان لها تاريخ، منذ العهد القديم إلى غاية ثورة أول نوفمبر مرورا من المقاومات الشعبية و اعتبروا أن الجزائر مستقبلها فرنسي، فللشخصية الجزائرية إطارها التاريخي و السياسي و العسكري و الفكري و الثقافي و الحضاري، و قد خرج من رحمها رجال أشاوس و مفكرين و أدباء و كوادر علمية، و هذا منذ الفتح الإسلامي في القرن السابع و الذي نتج عنه اكتساب الجزائر مقوماتها الحضارية المتمثلة في الدين ألإسلامي و ما يحمله من لغة و نوعية في التفكير لولا الخيانة التي أخرت استقلال الجزائر، كل هذا من أجل التموقع و التنازع على المناصب، خاصة و أن البعض منهم يريد محو الذاكرة الجماعية و عدم الإعتراف بمؤتمر الصومام الذي كان بمثابة الروح التي حركت الثورة و أعطتها النفس القويّ، هذا المؤتمر الذي كان خطوة منهجية نوعية في إطار مسيرة الثورة.
إنهم أولئك الذين يحاولون تقزيم الثورة الجزائرية و رجالاتها الذين أخلصوا و لم يخونوا و لم يغدروا بإخوانهم و رفاقهم، فلا محالة سياتي جيل يطرح أسئلة كثيرة حول ما وقع من أخطاء و اغتيالات خلال الثورة على ايدي رفاق الكفاح، و الأجيال القادمة مطالبة باسترجاع حقوق الشعب الجزائري، هؤلاء الذين اصطدموا مع الواقع بعدما كانوا يعتقدون أن الجزائر المستقلة تعكس أحلام الشهداء، و الذين سجنوا و تعرضوا للتعذيب الوحشي، طبعا كانت مرحلة قاسية جدا عاشتها الجزائر و هي تواجه الإمبراطورية الرابعة، لم يكن الأمر سهلا على شعب آمن أنه لا يمكن للإسلام أن ينتصر إلا بالتضحية بالدم، كانت التضحية شعار المقاومة باسم "الله أكبر" ، و في هذا كله لا يمكن للجزائر أن تنسى المساعدات التي تلقتها من شعوب كثيرة و في مقدمتها الشعوب العربية كانت مساعدات مادية و أخرى على شكل تظاهرات و بعضها كانت مساهماتهم بفتح سفارات ، لكنها كانت ثورة جزائرية خالصة.
و كما قال أميلكار كابرال: " المسيحيون يحجون إلى الفاتيكان و المسلمون إلى مكة و مكة الثوار هي الجزائر"، هو الفخر و الإعتزاز بالجزائر التي كانت مركز الثقل في العالم الثالث، لكن في بداية التسعينيات اختفى ذلك الإنبهار و تراجع الفخر و الإعتزاز، لتتحول الجوار إلى حزن عميق و هي تقف على جثث المواطنين ملقاة على الأرض، لولا تحرك عقلاء إلى عقد المصالح الوطنية بين النظام و الفيس و فتح صفحة جديدة ، هذا العقد الذي شاركت فيها احزاب عديدة و في مقدمتها حظب جبهة التحرير الوطني و شخصيات تاريخية و سياسية و مثقفين فيما عرف بلقاء "سانت إيجيديو" بروما، عاد الأمن و الإستقرار للبلاد التي سعت إلى ترميم ما تم تخريبه في عشر سنوات، و لملمة الجراح، لغم أن هناك جراح لم تندمل إلى يومنا هذا، ربما لتهاون أو غفلة ، إلا أن هذه الجراح حركت مشاعر الجماهير عن طريق الحراك الشعبي الذي انفدر في فيفري 2019 لإعادة النظر في مصير الدولة التي اسقطت الإمبراطورية الرابعة و كانت في وقت ما محركا لتحرر الشعوب.
قمّة الجزائر.. هل هي قمّة نوفمبر الثورة؟
و الجزائر تحضر لإحياء الذكرى الثامنة و الستون لإندلاع الثورة الجزارية في أول نوفمبر 1954 و عقد القمّة العربية ماذا يمكن القول في هذين الحدثين الهامين فهل ستطالب الجزائر في هذه القمّة بحق الشعب الفلسطيني في التحرر و تقرير مصيره ، و هل ستطالب الدول المطبعة بالتراجع عن موقفها و الإعتذار من الشعب الفلسطيني، و هي ستعيد مطلبها باعتذر فرنسا من الجزائر عما ارتكبته من جرائم بشعة في حق الجزائريين، أم أن الأمور ستكون مجرد لعب سياسي لا غير؟، فمن المغالطات الخطيرة و الأحلام السطحية أن نعتبر الثورة الجزائرية ( 1954-1962) قد حققت أهدافها و استكملت رسالتها و مسيرتها بالحصول على الإستقلال، لأن تطلعات المستقبل تفرض القول بأن ما حققته الثورة و ما تم إنجازه لا يتعدى الأهداف العاجلة لتحقيق مشروع المجتمع في جوّ يسوده الأمن و الإستقرار و السلام في ظل ما ن راه اليوم و مسلسل الإعتقالات للناشطين السياسيين ، و استمرار الفقر و البطالة و الأمراض و ضعف القدرة الشرائية للمواطن، و هشاشة المنظمات التربوية و الثقافية و هذا بسبب ضعف الإستراتيجيات التي تتحكم في مقدرات الجزائر في القرن الواحد و العشرين، هذه الإستلااتيديات التي يمكن تلخيصها فيتحقيق الحسم الحضاري و التحرر الثقافي و القضاء على التبعية السياسية و الإقتصادية و التبعية الثقافية.
فبناء دولة قوية يقتضي محاربة الأفكار التي استبدت بالدوائر المتغلغلة في جهاو الدولة الجزائرية التي تعمل على تعطيل عجلة التنمية و كل الأمور المتصلة بالهوية و الشخصيةة الجزائرية من أجل تحقيق مصالحها و تحقيق اجندات أجنبية على حساب السيادة الوطنية ، و لذا بات من الضروري ان نجيب على عدة اسئلة لمعرفة إن كانت الثورة الجزائري مجرد حدث عرضي أم أنها تطور حتمي يندرج ضمن مفهوم و نسق حضاري شامل وماهي العبر التي يمكن أن نستخلصها من ثولاة نوفمبر 1954 ؟ و من استقلال الجزائر 1962 ؟ و ماهي العبر التي يمكن أن نستخلصها من العشرية السوداء 1991؟ و ماهي العبر التي يمكن أن نستخلصها من الحراك الشعبي 2019؟ مرورا طبعا بباقي الأحداث التي عاشتها الجزائر و منها الربيع الأمازيغي أو أحداث أكتوبر 1988 و ما لحق ذلك، فنجاح أي معركة أو حرب لا تقرره الوسائل التكنولوجية أو محاولة التقليد أو التقوقع و الرفض بل الدافع الداخلي و الإرادة المشتركة للأمة، فكيف نؤسس مشروع المجتمع إذا كانت الدولة في وادٍ و الشعب في وادٍ آخر، كيف نحقق مشروع المجتمع في ظل الصراعات و الخلافات داخل مؤسسة الدولة ( البرلمان) ، فما يمكن قوله هو أنه حان الوقت للمحافظة على روح نوفمبر، لأنها الشرط الأساسي لإنجاح عملية البناء الحضاري.
إعداد علجية عيش