رحلة فى كتاب "مذكرات الشباب" لمحمد حسين هيكل د. إبراهيم عوضكنت أعرف أن للدكتور هيكل، رحمه الله، كتابا عن الفترة التى قضاها فى فرنسا طالبا يدرس للحصول على درجة الدكتوراه فى القانون (أو درجة "الدكتوريّة" كما كان المرحوم محمد خليفة التونسى يقول) بعنوان "يوميات باريس"، وذلك من ثَبَت مؤلفاته الموجود فى أحد كتبه التى نشرتها له مكتبة النهضة المصرية فى الستينات، إذ جاء فيه أن تلك المذكرات "تحت الطبع"، مما دفعنى إلى الاتصال بأصحاب المكتبة المذكورة للحصول على نسخة من تلك المذكرات لحاجتى إليها فى البحث الذى كنت أُعِدّه آنذاك لاحتفالية المجلس الأعلى للثقافة الخاصة بالدكتور هيكل بمناسبة مرور أربعين عاما على وفاته، لكنهم أكدوا لى أن الكتاب لم يُطْبَع لأن ورثة المؤلف لم يوافوهم به كما كان متفقا عليه، وهو ما أسفت له أشد الأسف، إذ كنت مَشُوقا إلى أن أعرف ما الذى قاله الدكتور هيكل عن الحضارة الغربية فى أول احتكاك له بها وفى تلك الفترة المبكرة من حياته. ومـن هنـا كـان فرحى عارماً عندما رأيت كتاب "مذكرات الشباب" بين الكتب المعروضة فى مكتبة القاهرة الكبرى أمام القاعة المخصصة للاحتفالية المذكورة بمناسبة هذه الاحتفالية ذاتها، وقدّرت أن تكون "مذكرات الشباب" هذه هى "يوميات باريس" التى كنت أبحث عنها. وقد صدق ظنى، إذ كانت "المذكرات" هى فعلاً "اليوميات" ولكن مضافا إليها بعض المقالات والكتابات الأخرى التى يرجع معظمها إلى نفس الفترة التى كتب فيها هيكل يومياته تلك.وهذه المذكرات هى من منشورات "المجلس الأعلى للثقافة"، الذى أتاح بإصدارها فرصة ذهبية للباحثين لكى ينقّبوا ويبحثوا فى تلك المرحلة الخِصْبة من حياة الدكتور هيكل لمعرفة تطوره الفكرى والروحى آنذاك والمؤثرات الثقافية والحضارية التى كانت وراء ذلك التطور، وكذلك الأحداث الهامة التى وقعت له والكيفية التى تصرف بها إزاءها. ولقد كان اهتمامى بالاطلاع على هذه المذكرات شديدا لسبب إضافى شخصى، فقد مررت بالتجربة الأوروبية التى مرّ بها هيكل، وإن كانت المسافة الزمنية التى تفصل بين التجربتين تتجاوز الستين عاماً، إذا سافرت للحصول على درجة الدكتورية فى النقد الأدبى من جامعة أكسفورد سنة ١٩٧٦م، فأحببت أن أعرف كيف واجه د. هيكل المشكلات التى يواجها كل من مرّ بهذه التجربة من غربة وتعلّم لغة جديدة واحتكاك بمجتمع يختلف تماماً عن المجتمع الذى وفدنا منه فى كل شىء: فى الدين والعادات والتـقـاليـد والذوق واللّغة والمناخ والعمارة... إلخ. وهو فوق ذلك مجتمع كان بيننا وبين أهله صدام عسكرى وحضارى فى يوم من الأيام غير بعيد.ومن هنا فما إن انتهت الاحتفالية الهيكلية وأفقتُ من غمراتها حتى عكفت على مذكرات الدكتور هيكل، التى لم تخلف ظنى وأمدتنى بقدر هائل من المتعة العقلية والفنية رغم ركاكة الأسلوب فى بعض الأحيان، وهو أمر طبيعى لأن الدكتور هيكل كان لا يزال ساعتئذ كاتبا مبتدئا لم تثبت يده بَعْدُ فى عالم التأليف، مما جعل العبارة تضطرب فى غير قليل من المواضع وساقه إلى الوقوع فى كثير من الغلطات اللغوية التى تنزّهت مؤلفاته عنها إلى حد كبير فيما بعد.وفى الأيام الأولى من إقـامـتـه بـاريس نجـد هيكل يشكو من لواعج الحنين إلى مصر، فقد كتب فى السابع عشر من يوليو سنة ۱۹۰۹ م، وكان قد ترك مصر منذ عشرة أيام فقط ووصل باريس منذ ثلاثة أيام: "ثلاثة أيام فى عالم الوحدة والوحشة والأحزان طوال. أرى كل يوم مصريين فأتعزى بهم بعض الشىء عن ألمى وأجد فيهم ذكر بلادى البعيدة النائية. ولكن هيهات القلب الذى يحس معى أو يألم لما أنا فيه"[1]، "كم بينى وبين أهلى فى هذه الساعة! هم هناك بعيدون، وقد يكونون مـهـمـومين لأمرى، وأنا جالس منفرد يقطعنى الهم ويتمشى اليأس إلى نفسى، وما عرف إليها من قبل سبيلا"، "قمنا من القهوة ورجعت إلى الدار وأخذت طعامى وأنا صامت لا أدرى ماذا أقول لأكون مع هذا الجمع الطويل العريض الذى يحكى عما رأى وعن المخازن[2] وما فيها والأقمشة والأثواب وكل ما لا أفهم من شأنه لا قليلا ولا كثيرا. ثم انتقلت إلى غرفتى وإلى الوحدة المطلقة حيث لا يعلم أحد بالزفرات التى أصعّد ولا يهتم إنسان بآلامى، حيث أنا الآن مـنفـرد ليس لى على الأرض التى أسكن أهل ولا صديق".وفى الثانى عشر من نوفمبر من العام ذاته نقرأ أنه ذهب مع زميل مصرى لسماع بعض الأسطوانات الغنائية المصرية على الفونوغراف فى أحد الدكاكين الباريسية تلطيفا للواعج هذا الحنين: "وكم كان لهذه النغمات المصرية أثر على قلوبنا المصرية فى هذا الوسط الباريسى... فى هذه اللحظات ينسى الإنسان نفسه والمحيطات به ويعيش فى مصر بمقدار ما تسمح له آذانه". وقد كان حاجز اللغة سبباً فى ازدياد هذا الإحساس بالوحشة فى أيامه الأولى بباريس، إذ لم يكن قد تعلم الفرنسية بعد. ومع أنه وبعض زملائه قد اتفقوا مع أستاذ من أساتذة اللغة الفرنسية على تعليمهم إياها فإن الطريقة العقيمة التى كان يعلمهم بها ذلك الرجل وإحساس هيكل أنه قد رجع القهقرى وأخذ يتعلم كالأطفال مبادئ اللغة بعد أن كان فى مصر يقرأ الكتب العميقة بالعربية والإنجليزية بكل سهولة قد جعلاه يشعر بالإحباط والضيق إلى حدّ التفكير فى ترك فرنسا والذهاب إلى إنجلترا لإتمام دراسته هناك بجامعة أكسفورد.وبمناسبة الحديث عن الإنجليزية فلعلّ من المفيد والطريف معاً أن نعرف رأيه فى تلك اللغـة، إذ قال إنه كـان يـعـتـقـد مـثـل الكثيرين أنها "مثال التنافر"، إلا أنه عندما سمعها من فم سيدة إنجليزية صديقة لأحد معارفه المصريين وجدها "ترنّ كأنها نغمات الموسيقى" برغم شـعـر المرأة الأبيض ووجهها الذى بدأت تغزوه التجاعيد. كما أنه قد لاحظ ما لاحظته أنا أيضا فى بداية إقامتى فى بريطانيا من أن الإنجليز لا يكادون يفتحون أفواههم عندما يتكلمون، مما جعله لا يفهم شيئا مما يقولون[3].كذلك لفت نظرى فى الصفحات التى يصف فيها رحلة سفره البحرية من مصر إلى فرنسا كثرةُ الشحاذين فى نابولی، حيث توقفت الباخرة لبعض الوقت قبل أن تستأنف طريقها ثانية، مما يذكّرنا بشحاذينا الذين يشكو منهم السائحون مرَّ الشكوى ويجعلنا نتساءل: هل من المعقول أن إيطاليا، التى كانت بلدا استعماريا فى ذلك الوقت، كانت تعجّ بالشحاذين على هذا النحو آنئذ؟ وكذلك هل من المعقول أن تكون عربات الحـوذية المصطفـة خارج الميناء بالقذارة والهلهلة اللتين وصفهما هيكل حيث قال: "ألقت الباخرة رواسيها ونزلنا المدينة مع دليل يعرف العربية ساقتـه الصدفة. فبعد أن طردنا شرذمة من الأولاد الذين أحـاطـوا بنا يطلبـون إحسانا باسم المكرونة اخترنا عربتين من بين كثير مصطفة على جانبى الطريق. عربات متسعة لا تضيق الواحدة منهـا بخمسة أشخـاص أو ستة لكنها قديمة بالية مقطوع جوفها قذرة داخلها وخارجها. فلما كنا عندها اتجهت إلينا أنظـار الحـوذيـة وهم جميعا وقوف إلى جانب خيولهم المشتغل بعضها بطعامه والآخر يدفع الطير[4] عن جسده"؟ والجواب: نعم، معقول ونصف وإلا ما ذكره الدكتور هيكل، الذى وصف أشياء أخرى مثل هذه شاهدها فى بعض بلاد أوروبا الشرقية حين زارها فى العشرينات برفقة زوجته. ويستطيع القارئ أن يطلع على ذلك فى كتاب "ولدى"، الذى سجل فيه كاتبنا مشاهداتـه وتجاربه فى الرحلة التى قام بها مع رفيقة عمره غبّ وفاة ولدهما الوحيد آنذاك "ممدوح". وعندما مرّ بتورين بعد ذلك بنحو سنتين كان أشد ما لفت نظره فيها كثرة المقاهى وبائعى الشربات فى الشارع والتراب والذباب، بالضبط كما فى القاهرة الآن.وعند وصوله بعد ذلك إلى باريس نجده يعبّر عن شعوره بما يشبه خيبة الأمل، إذ كان قد سمع فى مصر عن العاصمة الفرنسية الأعاجيب، فلما رآها لم يجدها كما حكى له عنها الحاكون. قال: "باريس. كم حكى لنا عنها الحاكون حتى تصورتُ بيوتها بلورا أو ذهبا، وأهلها لا يسير واحد منهم على قدميه، وشوارعهـا مع السكوت الأخرس مزدحمة لا يستطاع السير فيها، وتتخطر النسوة فى كل مكان وينظرن لكل إنسان يردن أن يبتلعنه بأعينهن. وهأنا لا أرى من ذلك شيئا: ها بيوت مبنية بالحجر كبيوتنا، وناس كالذين نراهم عندنا، وشوارع تجرى بمن فيها، ونسوة يسرن ظاهرات الجِدّ. عن أى باريس إذن كانوا يحكون؟". لكن كيف لم يتنبه كاتبنا للنظام والنظافة والجمال وارتفاع مستوى المعيشة مما لا تزال تتميز به أوروبا عن مصر حتى وقتنا هذا؟ إن ذلك جدّ غريب! لقد وصف هيكل باريس حين زارها مع زوجته بعد ذلك بأكثر من عشر سنيـن وكان مبهوراً بها انبهاراً أعدانى أنا نفسى الذى زرتها فى أواخر السبعينات فلم أنبهر بها كل هذا الانبهار رغم انتباهى وتقديرى لما تتمتع به من جمالٍ وفتنة، وكان المفروض أن يكون وقع مشاهدته الأولى أشدّ لأن العين بعد أن تألف مواطن الجمال والجلال لا تعود تلتفت إليها أو تقدّرها حق قدرها. على أية حال سوف نرى هيكل بعد ذلك يندمج فى باريس وحياة باريس ويعبّ من سحرها وفنونها ومراقصها ومشاربها وحدائقها ومعاهدها الشىء الكثير مما وصفه فى الكتاب الذى بين أيدينا وصفا شائقا ممتعا.وبعد نحو عام يقطع كاتبنا البحر إلى بريطانيا وينزل لندن، التى استغرب خلوّ شوارعها من الشجر والمقاهى وانخفاض أبنيتها وكثرة الفقراء بين سابلتها القلائل: "أخذت عربة إلى الأوتيل الذى يقيم فيه صديقى م. ص. قطعت بى طرقاً وشوارع تختلف كل الاختلاف عن شوارع باريس فلا شجر فيها ولا قهـوات بها على سعتها وعظمها. بل لكأن العربة ترمح بى بين مدينة قديمة من مدن العصور السالفة. أهذه لندرة التى يحكون عنها؟ أأنا الآن فى عاصمة بلاد الإنكليز؟ وهؤلاء القلائل، وأكثرهم من الفقراء الذين يسيرون فى الشوارع، هم أبناء هاته الأمة المتكبرة المتجبرة؟ وتلك الأبنية المنخفضة فى ارتفاعها إلى جانب العاصمة الفرنساوية هل تكنّ فى جوفها إنكليزا؟ كل ذلك صحيح، وكله غريب!".ولكن كما هو الحال مع باريس وبعد أن خبر لندن عن قرب خلال الأربعين يوماً التى قضاها هناك وسهر فى البيكاديلى ورأى الحركة والزحام وأسراب الغيد الحسان اللائى لم تعجبه أسنانهن كثيرا، وشاهد مظاهرات النساء من أجل الحصول على حقّ الانتخاب أسوة بالرجال تسير فى نظام واحترام وتتقدمها الموسيقى الرقيقة، وزار هايد بارك واستمع إلى خطبائهـا وجـدالهم بل ومشاحناتهم مع الجمهور، وتنزه على صفحة نهر التيمز، نجده يعلن إعجابه بلندن وحبّه لها: "أقمت بلندرة أربعين يوما لأحبها وآسف على تركها. وما من بلد كبير إلا له من الجمال والهيبة ما يجذب النفس ويأخذ بالفؤاد. ما بالك بذلك البلد لا تعرف له أول ولا آخر؟ هو العالم تتـوه فـيـه ولا تحلم بالخروج منه. أنت فى الضواحى، وفى لحظة إذ بك تشعر برهبة المدينة الهائلة حولك وتنظر إلى ما يحيط بك فتراك أبعد ما يكون عن أن تتصور آخرها. هى بحر لا شاطئ له يتوه فيه الإنسان المسكين"، ثم يهتف بعد عدة سطور متسائلا فى حسرة: "متى يكون لنا فى الشرق كلندرة أو كباريس؟". وشتان قوله هذا وقوله قبل ذلك عندما وطئت قدماه باريس أول مرة: "ها بيوت مبنية بالحجر كبيوتنا، وناس كالذين نرى عندنا، وشوارع تجرى بمن فيها، ونسوة يسرن ظاهرات الجدّ. عن أى باريس إذن كـانـوا يحكون؟". لقد كانوا يحكون، يا كاتبنا العزيز، عن باريس الجميلة المنظمة النظيفة التى تفيض بآيات الفنّ والفكر والثقافة والعمل الدءوب والاختراعات العلمية والصناعية والحرية السياسية والتقدم الحضارى وموهبة الاستمتاع بالحياة مما ينقصنا منه الكثير ولا يبدو أننا نريد استكماله وكأننا قد رضينا بالتخلف واستعذبناه، وبالذل واستمرأناه، وبالهوان وعضضنا عليه بأسناننا وأظافرنا كأنه أمل الآمل ومنية المتمنى![5]كذلك يعـثـر قـارئ المذكرات برأی هيكل فى الأوروبيين وتصرفاتهم ووجهتهم فى الحياة... إلخ. من ذلك حملته على الفرنسيين وما يصنعونه فى عيد الحرية فى الخامس عشر من يوليو، إذ "يخلعون عذار الوقار إلى هذه الدرجة فيـرقـصـون فى الأماكن العامة ويضحكون ويشربون ويعملون ما لا يُعْمَل". لكنه سرعان ما يعقّب قائلاً إنك "لا تستطيع مهما كان رأيك فيهم أن تمنع نفسك عن مشاركتهم بقلبك فى هذا السرور". كذلك يأخذ عليهـم وعلى الغربيين عامةً شدةَ تعلقهم بالمادة وانكبابهم عليها، فـــ "هم يَنْسَوْن أمامها كل خلق وكل فضيلة فيتزلفون أو يشتدون، يحاسنون أو يسيئون على حسب الظرف الذى هم فيه والوسيلة التى تسهّل عليهم الكسب المادى. لم أجد واحدا ممن عرفت إلى اليوم، وإن كانوا قليلين، شذ عن هذا المبدإ. فى البنسيون جاءنى صاحبه يحادثنى بالفرنسية. حادثنى طويلا فى مواضع مختلفة، ولكن ليصل منها كلها إلى معرفة المدة التى سأقيم عنده والحساب الذى يجب أن أدفع اليوم. فى غير البنسيون كل شىء يسير على هذا النسـق أيضا". وهو يعلل ذلك بكثرة النفقات التى تتطلبها بيوتهم وتنوع حاجات الإنسان المتمدن إلى أقصى حدّ، وذلك على عكسنا، إذ "نحن قوم زهد نحتقر عَرَض الدنيا الفانى، ولا يهمنا الأيام القليلة التى نبقاها على الأرض ولا بأى شكل قضيناها"، أما هم فلا يؤمنون إلا بالحياة الدنيا، ومن ثَمَّ يريدون أن ينالوا منها أقصى ما يمكن أن تعطيه إياهم. ولهذا السبب تجدهم مستسلمين (كما قال) للسرور.كذلك يبدى ضيقه بكثرة خطباء هايد بارك المتحدثين فى الدين، إذ يبلغ "من تعصبهم، حتى فيما بين مختلف طوائفهم، أن يتشاتم المتكلم مع أحد السامعين على مسمع من البوليس"، كما يتهكم عليهم قائلاً إنهم لو علموا أنه مسلم وأن اسمه محمد لقـضـمـوه بأسنانهم قضـمـا ثم ادّعَوْا بعـد ذلك أنه متعصب، بينما "التعصب يلمع بين عيونهم وينادون به بأعلى أصواتهم ".ومما لم يعجبه أيضا فى الإنجليز تحصيلهم منه بِنْساً فى المرتين اللتين عبر فيهما على دراجةِ إحدى القناطر بالقرب من بريتون ذهاناً وإياباً، قائلاً: "فى إنجلترا يجعلون الناس يدفعون بِنْساً أجر جـواز القنطرة فى حين يمنّ علينا الإنجليز فى مصر بأنهم رفعوا ضرائب جواز القناطر، ويعدون ذلك مفخرة من عظيم أعمالهم عندنا". كما يأخذ عليهم أنهـم، رغـم لطفـهـم وحسن مجاملتهم، "محبون لأنفسهم إلى حد فظيع، إذ يطلبون منك إزاء هذه المجاملة مثلها أو أكثر منها. ومهما سامحتهم أنت فى هفواتهم فأى هفوة تبدر منك نحوهم تقيمهم وتقعدهم وتُظْهِر من شراستهم ما يمحو كل حسنة سابقة لهم". وهو يرى أن الطريقة المثلى فى معاشرتهم هى أن تعاملهم كما يعاملونك فتقابل شدتهم بشدة مثلها.وقد أثار استغرابَه إعـجـابُ الفرنسيين بأخلاق الإنجليـز وملابسهم وسياساتهم وكل شىء فيهم وإطـنابهـم فى مدحهـم فى الوقت الذى يستخف فيه الإنجليـز بـهـم وبعقولهـم بـل وبأدبهـم، "وهو التاج الذى تفخر به الأمة الفرنساوية" كما يقـول. وانطلاقا من هذا الإعجاب كان الفرنسيون يتـخـذون لأبنائهـم مربيات من الإنجليز وينشّئونهم على إتقان اللغة الإنجليزية. والنتيجة أن هؤلاء الأولاد متى ما شبّوا كانوا "أشد من آبائهم إعجابا بهذا الجنس السكسونى بعد أن رَبّتْهم بَنَاتُ أمّته".لكن مهما يكن من انتقاده للإنجليز والفرنسيين فإنه لا يُعَدّ شيئا البتة بالقياس إلى ما قاله فى حق الطليان، الذين وصفهم أكثر من مرة فى سطور معدودات بأنهم "خنازير". لنقرأ معا ما دونه فى مذكراته عنهـم وهو فى طريق عودته إلى مصر فى يوليو ١٩١٤م: "ما أقذر هؤلاء الخنازير! لا أنسى أنى فى الأربع المرات التى ركبت فيها سكة الحديد كانت مَرْتَبات الدواوين مقلوبة على وجهها، وأقل احتكاك بها يثير ترابا عجاجا. وتلك هى عربات الدرجة الأولى. والطليان أنفسهم! يا حفيظ! أول أيامى فى إيطاليا حدثنى أحدهم، وجاء فى الحديث أنْ وَصَفَ بلاده وعظيم ما فيها من جمال، وكانت كلمته الختامية: "إيطاليا جميلة، ولكن يجب تغيير الطليان!". إنه لحقٌّ وايم الله. إنهم حقيقة لخنازير. يجىء ركاب الدرجة الثانية إلى الأولى، فإذا أراد الكمسارى أن يأخذ منهم الفرق سبّوه وصاحوا فى وجهه، ثم يرضونه أخيرا بجرعة "كيانتی" فيقبلها مسرورا وينصرف. ومكتوب فى العربات: "البصق على الأرض ممنوع"، وذلك أن الشركة تعرف مواطنيها ومبلغ نظافتهم. والمحطات الصغيرة يظهر فيها من حين لحين جماعة من الفلاحين الفقراء والبؤس على وجوههم وفى ملابسهم، وتكاد تلمسه فى هواء البلاد الجنوبية".هذا من جهة المآخذ التى لم تعجبه فيمن تعامل معهم فى ذلك الوقت من الأوروبيين. فإذا قلبنا الورقة على وجهها الآخر فماذا نجد؟ إننا نراه فى فرنسا يؤكد أن "اللطف فى المعاملة هو الأمر السائد هنا، فصديقك والتاجر الذى يبيعك سلعته وخادم غرفتك وكل من تقابل دائم الابتسام حتى لكأن هذا الخُلُق أصبح طبيعيا فيهم: يحيونك فى ابتسام، ويعوضون حاجاتك بابتسام، ويشكرونك بابتـسـام. وهـم بذلك يـسرّون القلـب ويعـوضـون الإنسان عن قتوم السماء وعبوس مناظر المنازل الترابية اللون الحزينة المنظر". ومما يستحسنه أيضاً من الفرنسيين خروجهم إلى الحدائق العامة كلما كان الطقس جميلاً للنزهة والتريّض وتمضية الوقت فى بهجة وحبور. وبالمثل يبدى إعجابه بالأسلوب الذى يقضى به أصحاب البيت الذى كان يسكن معهم سهراتهم حين يكون عندهم زوّار، إذ يستمعون إلى من يستطيع منهم العزف ويتناجَوْن أثناء تناولهم الشاى فى مسائل خفيفة لا تحتاج عناءً ولا تفكيراً مما من شأنه أن يريح الذهن ويبهج النفس فيقوم الإنسان من نومه فى اليوم التالى مستريح البال مستكملا حظه من سكون النفس والجسم، ومن ثَمَّ يكون على أتم استعداد لأعمال النهار. وهو يرى أن ذلك "أفضل بكثير من طريقتنا الشرقية حين نقتل سهراتنا إما على القهـوة وإما فى مناقشات متعبة لا طائل تحتها".وهو يَذْكُر بالخير من صفات الفرنسيين و أنهم مهما اختلفوا معك فى الرأى فإنهم دائما يتمسكون بالحجة العلمية أو الاستنتاج المنطقى أو اسـتـقـراء الحوادث. وإذا لم يَكُ بعد ذلك سبيل إلى الاتفاق تَرَكَ كل واحد صاحبه ولكلٍّ عقيدته من غير أن يثور بينهما العجاج ومن غير أن يصل إلى أن يسفّه كلٌّ رأى صاحبه"، ثم يعقب بقوله إنه "ليس على البسيطة رأى خالٍ من الخطإ أو خالٍ من الصواب، بل كلٌّ يحوى قسما من الحقيقة يظنه صاحبه أشد غلبة عليه حتى تظهر الأيام فساد ظنه"[ص 150].وقد تصادف، حين زار هیکل بريطانيا للمرة الأولى، أن كان إدوارد السابع قد تُوُفِّىَ منذ أيام، فظن أنه سيجد "سحابة من الحزن تثقل سماء هاته البلاد الثاكلة ملكها، وأن شيئا من الأسى يحوم فى كل النواحى ويظهر أثره على جميع الوجوه وتضيع كل بهجة أو رواء تحت مهابة السواد وجلاله. غير أن هاته الأحلام لم يَصْدُق منها شىء مطلقا حتى ولا خيالها، اللهم إلا فيما يضعه الإنجليز الآن من مناديلهم السوداء إذا ما نَزَلْت العاصمة".كذلك شاهد بعد فترة قصيرة مظاهرة نسائية من أجل المطالبة بحق الانتخاب مثل الرجال سواء بسواء ووَصَفَها بأنها "من أكبر وأبهى المظاهرات" التى شهدها فى حياته. وقد أَسَرَه ما حاطها من "صمت مهيب" وما قرأه فى بعض اللافتات التى كان يحملها بعض المتظاهرات من أن الحظ إنما ينصر الشجاع، مما جعله يعلّق بقوله: "نعم، إنما ينصر الحظ الشجاع، والموت أنفى ما يكون للموت، والناس من خوف الذل فى الذل، واليوم الذى يريد الإنسان فيه أن يعيش شريفاً أو أن يموت هو اليوم الذى يحيا فيه شريفـا عظيما". كما أعجبه استقبال الناس لهذه المظاهرة "بالإحلال والإعظام الذى تستحق" ومشاركة كثير من الرجال ذوى الدرجات الرفيعة فيها، وكذلك الفرقة الموسيقية النسوية التى كانت تتقدمها عازفةً نغما شجيا بديعاً "غاية فى الرقة".وهو يقابل بين نشاط الفرنسى والأوروبى عموماً وإقباله على الحياة ومُتَعها حتى بعد أن يتجاوز الستين وبين الوقار الذى يأخذ الناس به أنفسهم عندنا منذ شبابهم ومن ثم يشيخون بسرعة، ومع ذلك فهم فى شيخوختهم يندفعون وراء شهواتهم على نحو فظيع وكأنما يريدون تعويض ما فاتهم فى مرحلة الشباب.وبنفس الروح يثنى على اسـتـقـلالـيـة المرأة الغـربـيـة وثـقـتـهـا الشديدة بنفسها لدرجة سفرها وحدها المسافات الشاسعة دون أن تشعر بخوف أو تقع فى زلل، ويأسى بالمقابل على قلة ثقة المصرية بنفسها وكذلك المصرى، متسائلاً فى سخط: "ألا نأسف على حالنا بعد ذلك؟"[ص 208].ومما أعجبه أيضا فى فرنسا الطريقة التى تربى بها الأم الفرنسية أبناءها، "فهى دائما شديدة فى الأمر لينة فى التنفيذ، وتصحبه دائما قُبْلة لطيفة". وعلى رغم تأكيده بأنه ليس فى مجال الحكم على هذا الأسلوب يسارع قائلاً: "ربما كانت هذه التربية أضمن لتخريج جمهوريين".وقد لاحظ أن من عادة الأوروبيين على اختلاف جنسياتهم مبالغتهم فى وصف بلادهم بالجمال والروعة، وكان من رأيه أن هذا شكل نافع من أشكال الوطنيـة، بل ربما كـان أحـسن تلك الأشكال.وكما كان هيكل حريصاً على تسجيل رأيه فى الأوروبيين وبلادهم وتصرفاتهم وتقاليدهم كذلك كان حريصاً بنفس الدرجة على تسجيل رأى الأوروبيين فينا، ومن ذلك أن السيدة الإنجليزية صديقة ل. بك قد ذكرت له ضمن ما ذكرت أن الذين رأتهم من الشرقيين "تظهر فى عيونهم آثار الحزن أكثر مما يوحى به سنهم"، ثم علَّلَتْ ذلك "بأنه نتيجة طبيعية للطقس، حيث إنك كلما ذهبت شمالا وجدت الوجوه فَرِحـةً والناس أميل للطرب"، وإن كانت لم تبين وجه الصلة بين حرارة الجوّ والحزن، وبين البرودة والسرور. ولا أدرى ماذا كانت ستقول لو أنها عاشت حتى رأت المصريين مثلاً فى هذه الأيام حيث لا يكاد يمر يوم فى أية قرية مثلاً دون حفلة زفاف أو مولد، وحيث يخيل للإنسان أن برامج الإذاعة والتلفاز قد أضحت كلها أغانى وموسيقى ومسرحيات ضاحكة وحفلات زائطة الكلّ يتمايل فيها ويتراقص ويصيح على صوت المغنى أو المغنية. على أية حال فإن لهيكل رأيا آخر فى ظاهرة الحزن التى لاحظتها السيدة المذكورة، إذ قال إن السبب فى ذلك "يرجع إلى تاريخ الشرق وحال الشرقيين الاجتماعية الحاضرة أكثر مما يتعلق بالطقس والموقع الجغرافى. ذلك أنهم محكومون بالاستبداد القرونَ الطوال فدخلت فى نفوسهم آثار الحزن وغادرها معنى الفرح الصحيح الخالص، فصار يُطربها النغم الشجى المحزن أكثر مما تأخذ بها الرقة الضاحكة المفرحة، ويسرّها الصوت الممتد الهادئ أكثر من الأصوات المرتفعة التى ترج الأعصاب والفؤاد والقلب. أَدْخَلَهم ذلك التاريخُ الأليم الذى مدّ جناحه فوقهم إلى الاستسلام من غير رضا، وأرغمهم القسرُ الذى عاشوا ويعيشون فيه على وجود صاغر مستكين. دخل إلى نفوسهم حب الخفاء فى كل شىء، وظهر فى عيونهم، والعين مرآة النفس، أَثَرُ ذلك الحزن العميق والتحرز الشديد"[6]. وهو تعليل صحيح، وإن كان يحتاج إلى أن نضيف إليه توالى الانكسارات والهزائم فى تاريخ الشرق فى القرون الأخيرة بعد أن كان أهله يسودون الدنيا، وكذلك القسوة والغدر اللذان عاملهم بهما الغربيون عندما أصبحت الدولة لهم عليهم، فضلاً عن الفقر المدقع والعيشة المنحطة التى أصبحوا يعيشونها منذ أن أصبحوا فى ذيل الحضارة.وفى موضع آخر من المذكرات يصف كاتبنا ما شاهده فى إحدى المسرحيات فى باريس[7] حيث "رُفعت الستار عن أحد قصور الجنان. قصر فخيم تحيط به النعمة من كل جانب. كانوا يمثلون حياة سلطانة شرقية فى ديوانها وقد قام من حولها الجوارى لابسات أقمصة من الحرير الأبيض، وهنّ جميعا يحكين فى حركاتهن المتباطئة تلك الحياة المكسال التى يتصور الغربى عن الشرقى. وما أسرع ما انقلبت دقات الموسيقى من جديد فأخذت هى الأخرى تترنم فى نغمات ساكنة متشابهة تلائم حركات الجوارى الجميلات وتكاسلهن! واجتمع حول السلطانة من دواعى الترف الخامل ما لا يحرّض على أقل حركة. ومن حين لحين تبدو عليها علامات التناوم".ومما آلمه أيضا ما قرأه فى رواية "النبىّ الأبيض" لهول كين (وهى رواية تتحدث عن مصر أيام الخديوى عباس الأول) من اتهام المصريين بالسذاجة العقلية والتعصب الدينى الفظيع، إذ تصـوٍّرهم وكأنهم جميعاً مجاذيب ما إن يلمس الواحد منهم صاحبه حتى يصيح قائلاً: "الله! الله!" أو ما إن ينعـق بينهم ناعق باسم الدين حتى يتبعوه إلى الصحراء المحرقة المهلكة غير مبالين بشىء. كذلك وَصَمَ المؤلف كثيرا من علماء الدين بالضعف والنفاق، وعزا إلى الخديوى الطُّموحَ لإقامة خلافة عـربـيـة إسلامية بمعاونة العلماء مقرها القاهرة، ثم لـم يـقـف عنـد هذا الحدّ بل عرّض بالنبى نفسه عليه الصلاة والسلام، وذلك كله فى الوقت الذى لم يذكر فيه أىَّ إنجليزى من الذين يعيشون فى مصـر إلا بالخيـر كل الخير. وقد استفزت هيكل هذه الرواية فعلّق عليها بغضب منبّها إلى الفخ الذى وقع فيه كثير ممن قرأوا هذه الرواية من المصريين، إذ ظنوا أن المؤلف يمدحهم ومن ثَمّ سُرّوا بكتابه سرورا. وإن العبارة التالية لتمثِّل زُبْدّة رأى أدبينا فى هذه الرواية، إذ قال عن مؤلفها إنه "إنكليزى... يعزّز بقاء إنكلترا فى مصر. يزيد دليلَنا هذا قوةً أن الشخص الذى كان موضع إكبار المصريين وحبهم واحترامهم (جوردن) كان من هذا الرأى أيضا، وإن كان من رأى آخر فى سياسة الأمة". ومع ذلك كله فإن حكم هيكل على الرواية من الناحية الفنية لم يتأثر بهذا الغضب الذى أشعلته فى نفسه بسبب تحيزها ضد قومه، فقد اعترف "بأن الكتاب مُتْقَن اللغة جدا، ويشهد لصاحبه بالمقدرة العظيمة. مقدرة هائلة ليس من السهل مسابقته فيها، وقلم بليغ عزيز الوجود يسحب الروح معه ويأخذ بمجامع النفس ويغرى المطَّلع على الاستمرار ولا يملّ أبدا. كتاب بديع من الكتب النادرة التى يصح أن يحلِّى به الإنسان مكتبته"[ص 63-64]. وهو ما يدل على أن كاتبنا كان يستطيع بكل سهولة أن يفصل بين الشكل والمضمون فى العمل الفنى ولا يدع فرصة للعنصر الأخير کی يؤثر فى حكمه على الأوّل.كذلك لاحظ هيكل أن بعض الصحف الفرنسية التى أوردت نبأ مقتل بطرس غالى فى سنة 1910م على يد الشاب الوطنى الغيور إبراهيم الوردانى قد أرجعت ذلك إلى التعصب الإسلامى، وكذلك فعل الشىء نفسه من كان يساكنهم من الفرنسيين، فــــ "الوزير المقتول مسيحى، والشاب القاتل مسلم، وإذن فليس هناك شبهة فى أن الدافع للقتل هو دافع الدين". ويذكر هيكل أنه قد جاهد كثيراً لإنزال أولئك الناس عن رأيهم ذاك الغريب الذى يرى هو أنه يعكس تعصبهم هم أنفسهم، إذ "يحسون فى أعماق نفوسهم أن للدين سلطانا وأنهم ينساقون إليه فى كثير من معاملتهم لغيرهم. لذلك هم يدّعون على الغير فى كل صغيرة وكبيرة دعـوى التعصب"[8]. كذلك أحنقه أشد الحنق أنه ما إن شرح لمعارفه أولئك من الفرنسيين أن الوردانى إنما قتل بطرس غالى لما رآه من خيانته الوطنية حتى سارع أحدهم إلى التعقيب بقوله: "ممكن جدا أن يكون هذا صحيحا ما دام هذا الشاب قد تعلم فى أوروبا"، وكأن التعلم فى أوروبا هـو المانع الوحيد للتعصب الدينى الشنيع. ثم يمضى هيكل مبينا أن "الشرقى المسلم أو غير المسيحى الذى يرى هذا الأجنبى عنه فى الوطن واللغة والعقيدة آتيا يستعبده ويبتز منه ماله ونفسه يرجع دائما لتكبير كل الفروق التى بينه وبين ظالمه، والدين أحد هذه الفروق ولا يستهان به. ولكن ليس معنى ذلك أن الإحساس الدينى هو كل شىء فى النفس الشرقية، بل معناه أنه سبب من أسباب الثورة ضد استعباد الغرب للشرق وصيحة داخلية فى كل نفس حية ضد هذا الظلم الصارخ الذى ترمى به أوروبا الشرقيين". فهيكل يرى إذن أن الإسلام عنصر إيجابى من عناصر الثورة على الاستعمار والطغيان السياسى والاقتصادى، وأن الذين يعيبون المسلمين بالتعصب إنما يريدون دوام هذا الاستعمار وذلك الاستغلال، وأن التعصب الدينى هو ديدنهم الذى يرمون به المسلمين وينسلّون منه، ولكن هيهات! ولكن الغريب أن يعود هيكل بعد ذلك بنحو عشرين عاما فيكتب عكس هذا فى ترجمته لبطرس غالى[9]، إذ أشار إلى دور النعرة الدينية فى اغتياله مما هاج الدكتور محمد غلاب، الذى أغضبه أن يرمى هيكل خصوم غالی (على حد تعبيره) بأن نهضتهم إسلامية وأنهم كانوا يبغضونه لمسيحيته فرد عليه متسائلاً: "كيف كان ويصا واصف من أهم أركان الحزب الوطنى فى ذلك الحين (إذن)؟ ولماذا لم يبغضه المسلمون لمسيحيته؟ ولماذا لم يحقد هو عليهم دعوتهم إلى الإسلام؟"، ومؤكدا أن المصريين إنما أبغضوا غالى من أجل اشتراكه فى معاهدة سنة ١٨٩٩م القاضية على مصر بالشقاء بقبولها تدخل الإنجليز فى السودان، وكذلك من أجل موافقته على مدّ امتياز الإنجليز فى القناة أربعين عاماً[10]. ومن المؤكد أن القارئ قد رأى بكل وضوح كيف استعمل د. غلاب فى رده على الدكتور هيكل نفس الحجة التى أوردها هو نفسه من قبل فى نقاشه مع معارفه الباريسيين الذين كانوا يتهمون المسلمين بالتعصب ويرون أن الوردانى إنما قتل بطرس غالى انطلاقاً من هذا الدافع، وكيف أن د. هیکل قد انقلب فردَّد نفس التهمة التى كان يلوكها أولئك الفرنسيون وجهد هو فى تفنيدها حينذاك.وفى القطار الذى استقلـه هيكـل من كلرمون إلى نيم بفرنسا (فى مارس ۱۹۱۰م) تقابل مع شيخ فرنسى، وفى أثناء الحديث كان ذلك الشيخ يسأله عن أحوال مصر وينصح له، مثلما ينصح كلُّ أوروبى (كما قال)، أن يطمئن "للحكم الإنجليزى، الذى ملأ بلد الفراعنة خيرا ونعمة". ويلمح القارئ ضيق صدر هيكل بهذه النصيحة من الأسلوب الذى علق به عليها إذ قال: "وله ولكل أوروبى العذر فيما يقول، فعلى الشكل الذى يفهمون به الحوادث والأشياء من بعيدٍ لا نعمةَ تعدلُ نعمة الحكم الإنجليزى عندنا: أمْنٌ سائد حيث لا تقوم مذابح يُقَتّل فيها الأوروبيون تقتيلا. ووفرة نعمة لأن لمصر تجارة تزيد على أربعين مليونا، وإن كان القسم الأكبر منها لا يتعلق بثروة مـصـر. وتعليمٌ راقٍ لأن هناك أسماء مدارس كأسماء المدارس العالية فى أوروبا"، ثم يختتم كلامه بالسؤال التالى: "فماذا يريد المصريون فوق هذا؟" ليجيب قائلا: "المصريون يريدون أن تكون مصر للمصريين"[11]. ولكنْ مرةً أخرى نجد د. هیکل بعد ذلك بنحو خمس عشرة سنة، وفى أثناء حديثه عن رحلته إلى السودان، يتحدث عن الحكم الإنجليزى هناك وكأنه يدافع عن سياسة الإنجليز فى تسيير دفة تلك البلاد. ونقطة انطلاقه هنا هى نفس الحجة التى استند إليها الشيخ الفرنسى الذى قابله فى القطار ما بين كلرمون ونيم، أى الفوائد التى يجنيها أهل البلاد من وراء الحكم الإنجليزى والتى ذكر منها هيكل تخفيض الضرائب وزيادة الرفاهية ومحاربة الأمراض الفتاكة كالملاريا والزهرى ونشر الأمن فى ربوع البلد واستصلاح الأراضى والتوسع فى زراعة القطن. وهو يرى أن للسياسة الاستعمارية البريطانية "امتيازا وتفوقا على غيرها من سياسة الدول الاستعمارية الأخرى، فليس من أغراض السياسية البريطانية الأساسية أن تنشر الثقافة الأنجلوسكسونية فى البلاد التى تحكمها، وليس من غرضها أن تنشر فيها مبادئ الثورة الفرنسية ولا أن تحمى فيها الهيئات الدينية المسيحية". صحيح أن "كل ذلك قد يحدث بطبيعة الحال" كما قال، "لكنه ليس غرضاً أساسيا مقصود لذاته. إنما الغرض الأساسى هو تلك الروابط المادية بين إنكلترا وسائر أجزاء الإمبراطورية. ولتكون هذه الروابط متينة مأمونة العواقب يجب ألا تكون فائدتها لإنكلترا وحدها، بل يحب أن تشعر البلاد المحكومة بأن لها من ورائها فائدةً محسوسةً أولُ مظاهرها نقص النفقات العامة نقصا يترتب عليه تخفيض الضرائب وزيادة رفاهية المحكومين زيادة تشعرهم بالطمأنينة إلى حاكمهم". ليس ذلك فقط، بل يضيف قائلاً إن هذه السياسة "قد اتُّبِعَتْ... فى مصر بدقة تامة مدة وجود لورد كرومر بها، ويمكن أن يقال إنها اتُّبِعت إلى ما قبل الحرب العالمية الأولى. لكن هذه الحرب أدت إلى انقلاب كان من ورائه أَنْ غيّر المصريون من طابعهم القومى... وكان من وراء ذلك أن أُعْلِن استقلال مصر، أما السودان وحكومته فى الخرطوم فما تزال السياسة الجارية فيه هى هذه السياسة التى رسمها لورد كرومر فى كلمته"، يقصد ما قاله ذلك العِلْج الاستعمارى الزنيم فى مقدمة كتابه عن الخديوى عباس حلمى[12].وقد كانت مصرية هيكل مبعث إيلام فظيع له فى كثير من المواقف، فقد كان كلما ذهب إلى مكان سألوه عن جنسيته، وعندما يجيب بأنه مصرى يحسّ أن مخاطبه يرمقه بنظرة مستغربة تنفذ إلى سويداء قلبه فتؤلمه بما تحتويه من احتقار ناطق لأنه ينتمى إلى بلد محتلّ. وقد كان يقول فى نفسه إذ ذاك: "ويل لهاته الإنسانية الجاحدة! ألسنا نحن آباء مدنيتها؟ ألسنا نحن الذين علمناهم الطريق إلى سعادتها الحاضرة؟ وأجدادنا أما كانوا الحاكمين ذوى السلطان والسطوة؟ إن لنا على الأمم جميعا من الفخر ما نرفع به رؤوسنا نساوى بها أكبر الرؤوس!"، لكنه سرعان ما يفىء إلى الواقع الحـاضـر فـيـقـول إن نظرة الازدراء فى عين محدّثه تبدو وكأنها تقول له: "إنما لك الساعة التى أنت فيها. الحاضر فخر أصحابه وعزهم أو صغارهم وذلهم. كنتم الملوك! كنتم الآلهة! ولكن ما أنتم اليوم؟ أمة مستصغـرة مستكينـة! أمة راضيـة بضعفها وذلها! أمة تقبل الحياة ولو كانت حياة خسة ونذالة! ها أنتم اليوم". لكن ذلك لم يمنعه أن يهتف بملء فيه فى سنة ١٩٢٢م بأن "المصريين القدماء وصلوا من المدنية إلى قمة نُفِخ بعدها فى الصُّور فاضطرب الوجود وتداعت قوائمه، ثم بُعث بعدهم خلق جديد وسار يتطور فى سبيل التقدم. وهو لم يبلغ بَعْدُ مدنيتهم، وهو لن يبلغها إلا أن تكون مصر على رأس العالم، وإلا أن تكون أم المدنية، وإلا أن تبلغ هى الغاية التى تطمح إليها الإنسانية. والإنسانية لم تصلها، وهى لن تصلها حتى تمسك مصر زمام القيادة فتتولى السير بالعالم فى سبيل الرقىّ والسعادة"[13].على أن هناك موضوعاً مهما جداً لا يكاد أحد يتحدث عن احتكاك الشرق بالغرب إلا ويتناوله، ألا وهو علاقة الشرقى الذى يعيش فى بلد من بلاد الغرب بالمرأة الغربية. فَبِمَ تحدثنا المذكرات الهيكلية عن هذه المسألة؟فى أوائل الكتاب، وفى الصفحة السابعة عشرة على وجه التحديد، نقرأ وصفاً لأول لقاء بين بطلنا وفتاة أوروبية (باريسية فيما نعتقد). لقاء يبدو لنا الآن طريفا، ولكنه كان بالنسبة لهيكل شيئا آخر، إذ توفزت له أعصابه وأخذه الارتباك والحيرة من جميع الأقطار وذهبت به الوساوس والخيالات كل مذهب. ذلك أنه، وهو جالس وحده فى ديوان القطار المتجه إلى باريس (فى سفرته الأولى إليها من مصر)، فوجئ بفتاة تدخل عليه وتضع حقيبتها على الرف وتجلس قبالته، فتولاه الخجل وأخذ يدير وجهه يمينا وشمالاً حتى لا يلتقى بصره ببصرها. ثم خرج تخلصا من الحرج، لكنه وجد غرفته التى يشاركه فيها زملاؤه مغلقة ومطفأة الأنوار مما اضطره إلى العـودة وهو يتساءل: "أليس ممكنا أن تكون هذه الفتاة وجدتنى مفردا فمالت عندى تريد أن تغرينى؟". وقد سرّه هذا الخاطر وأخافه فى نفس الوقت، ثم سرعان ما عقد عزمه على أن يمارس معها لعبتها. وإذا بها قد نَضَتْ قبعتها وشدّت ستائر النوافذ ثم سألته أن يحجب ضوء المصباح، وهو ما أشعل خياله، وإن كان قد ظل واجما حائرا لا يعرف ماذا يفعل، ليفاجأ بها تشكره وتمدّد جسمها على الأريكة وتروح فى نوم عميق وتتركه نهبا للأفكار المتناوبة حتى واتاه الرقاد أخيرا هو أيضا، وإن كان رقادا قلقا.هكذا كان أول لقاء له بالمرأة الأوروبية. وينبغى ألا ننسى أن هذا اللقاء قد وقع قبل انصرام العِقْد الأول من هذا القرن حيث كان الرجل والمرأة فى مـصـر يكادان أن يكونا منتمين إلى عالمين مختلفين، وأن هيكل كان لا يزال شابا صغيرا تخرَّج لتوه من مدرسة الحقوق، وأن هذه كانت سفرته الأولى إلى الخارج وكانت مصر وقتها رازحة تحت الاحتلال من قِبَل إحدى القوى الغربية، مما من شأنه أن يجعل المرأة الأوروبية فى نظر شاب مصرى فى مثل هذه الظروف شيئاً بعيد المنال يثير المخاوف والوساوس والأحلام بل الأوهام.ومع ذلك فسرعان ما تعوَّد هيكل على الجلوس إلى أفراد الجنس اللطيف ومحادثتهن بل ومغازلتهن فى بعض الأحيان دون خجل أو خوف أو إسراف فى الخيالات والأوهام، سواء كان ذلك فى البنسيون أو المشرب أو الحديقة أو المتجر... إلخ. اقرأ مثلا ما كتبه عن جارته فى البنسيون فى باريس ووصفه لجلوسه معها وحديثه فى ثقة إليها، أو تصويره للبيكاديلى فى لندن وهو يموج فى أضواء المساء بالفتيات والنساء الجميلات اللائى يبدو عليهن النشاط المدهش والحيوية والمرح والابتهاج بالحياة، وهو تصوير ينم على ذوق فنى وتماسك نفسى، فلا حيرة ولا اضطراب ولا جموح شهوة. وفى تلك الليلة دخل هو وصديقٌ له مُقْهىً هناك يَعِجّ بالبنات، وأكثرهن أو كلّهن بغايا، وجاء مجلسهما "إلى جانب فتاتين ليستا على كثير من الجمال، وإن كانتا طريفتين"، ثم انتهى الأمر بأن خرجا عائدين إلى منزلهما فى بساطة وطمأنينة.وعلى ذكر البغايا[14] فقد تكرر الحديث عنهن فى مواضع مختلفة من الكتاب، فى باريس وفى لندن على السواء. ولعل من المفيد أن ننقل ما كتبه فى يومية 19 أغسطس ١٩٠٩م وهو لا يزال حديث عهد بأوروبا وباريس: "كنت أسير مع ب. على رصيف محطة اللكسمبور بعد أن تناولنا طعام العشاء، عاملين بقول مَثَل بلدنا: "اتعشوا واتمشوا"، فجعلنا نذهب ونجىء مسرورين ببعدنا عن ضجة البلفـار وأنواره وقهاويه الغاصة بمن فيها من بنات الرصيف.لكن فى كل واد أثر من ثعلبة. هاتيك الفـتـيـات يطلبن صيدهن حيث يقع لهن، بلى لكأنهن يجدن فى الظلمة مأمنا فلا تطلع العين على مبلغ قبحهن أو تقبل ما تحمل وجوههن من الدهن. غير أن صيّادتنا لم تكن حسنة الحظ فى اختيارها، كما أن الظلمة نفسها كانت أشد فتنة عليها من النور وأكثر إظهارا لحقيقة أمرها.هذه أول مرة تبيَّن لى مبلغ بؤس هاتيك الفتيات وتعسهن: تلك العيون الميتة من كثرة السهر، وذلك الوجه الباهت لا لون له والخدود الغائرة والفم تطوقه ابتسامة تنم عن مبلغ ما تكن نفس صاحبته من الألم، وذلك الشكل الجامع بين الاستعطاف الجائع المسكين وبين الحنق على الإنسانية والحقد على بنى آدم.بقيت هذه الفتاة تروح وتجىء إزاءنا ونحن ننظر إليها بعين باردة ونتعمد إساءتها من غير أن يتحرك لذلك ضميرنا ومن غير أن نشعر أنا نسىء لنفس إنسانية أوقعها البؤس وحكم الجمعية[15] التى تعيش فيها إلى الحضيض الذى تئن من أعماقه فلا يسمع لأنينها إنسان.وفى آخر لحظة حين أردنا مفارقتها ابتسمنا لها باستهزاء وإصغار، لكن كل الظروف أرادت أن تعطينا درسا، فلما وصلنا شارعا فضلنا الجلوس على قهوة فى أوله ريثما يتأخر الوقت ويجىء موعد النوم. وجاء مجلسنا إلى جانب فتاة صغيرة الجسم نحيفة القَوام ترتدى رداء واسـعـا من الصـوف بالرغم من أنّا لا نزال فى أغسطس. ذلك أن ليس عندها غيره فليس فى وسعها أن تتبدل به آخر، وما كدنا نجلس حتى فاتحتنا الحديث، وما كدنا نجيبها حتى طلبت من كل منا فرنكا لتسدّد بالفرنكين فتاة جالسة إلى جانبها اقترضتهما منها الطعام الغداء والعشاء لهذا اليوم.استمر الكلام فيما بيننا وقامت جارتها لحالها، فسألها ب.: لم تستمر فى حرفتها هذه؟ وأى شىء ألجأها إليها؟ هنالك ظهرت على وجهها علامات ألم ولا أدرى لـِمَ، ثم تبدد ذلك كله سريعا وبدأت تقص حكايتها حين كانت تشتغل فى معمل تطريز ثم استغنى عنها أيام الصيف، وكيف وقعت حينئذ على إنكليزى رافقها مدة رأت فيها من العزّ والدلال ما لم يبق فى حلمها اليوم أن تنال، ثم سافر وتركها بعد أن مصت أُولَيَات الشتاء وبعد أن أصبح من الصعب أن تجد ما تحترف به، ثم هى فى الوقت عينه ترى أن ما تسير فيه اليوم حرفة كغيرها لا أكثر ولا أقل.أما حكمها الأخير فيقبل النظر، إذ مهما وجب علينا أن ننظر إليها بعين الإشفاق ومهما جعلتنا الظروف التى أحاطت بها نتساهل فى معاملتها فليس من السهل الاقتناع بأن حرفتها كباقى الحِرَف. صحيح أنها نتيجة احتياج لها موجود فى البلد، ولولا ذلك لحقّ عليها البوار، ولكن نتائجها تنافى الفضيلة. وكل ما يمكن أن يدافَع به عنها أنها تسد حاجة، وكل ما سدّ حاجة فى العالم يُعَدّ طبيعيا، والطبيعى عذره فى وجوده.ومع كثرة ما أتى ذكر النساء فى المذكرات فـقـد كـانت الجميلات الحقيقيات منهن نادرات كما يقول هيكل نفسه. على أن هناك فتاة كندية نزلت وأمـهـا فى البـيـت الـذى كان يسکنه هو وثلاثة من الفرنسيين وصفها هيكل بأنها "غادةٌ بنتُ سبعة عشر كاملةُ التكوين"، وصوّر الأثر الذى خلقته فى البنسيون قائلا إنها "أضافت إلى نضرة الربيع القادم[16] وبعثت إلى وحدتنا نحن الأربع روحا جديدة شابة فياضة ربما كنت أنا أكثر الناس إحساساً بوجـودها". وهذه الغادة هى مس بياتركس، التى مكثت هى وأمها معهم أسبوعاً ونصفا تقريبا ثم سافرت إلى ألمانيا مخلّفة له ذكرى بهيجة وسعيدة أخذ يقتات عليها أيام استعداده للامتحان، إذ كثيرا ما كانا يجلسان معاً بعد الغداء يتحدثان أو يمضيان الوقت كل ليلة يلعبان الشطرنج والضامة فيخيّل إليه أنه فى رفقة إحدى حوريات الجِنَان، حتى لقد تعلق قلبه بها تعلقا شديدا. وهو يصور هذا التعلق فيما كتبه إلى أحد أصدقائه بمصر فى خطاب مؤرخ فى يونيو ١٩١٠م بعد أن غادرته تلك الفتاة، إذ قال: "لعلك يا صاح تجد فى صورة هذه الفتاة الملائكية بعض ما وجدت أنا من اللذة. ألا ليت أيامها دامت! ألا ليتكِ لا تزالين هنا يا بياترکس. ها أنا فرغت من العمل وأتمنى ساعة معك من جديد. معها فى باريس؟ وسط جلبة الناس وضجتهم؟ ويرانا الناس وربما اطّلعوا على مكنون صدورنا؟ كلا كلا، لا أريد. لكن الحياة الحلوة عيش مع مثلها على أرض ككندا واسعة ذات دَوْح وشجر، ولا ضجة ولا جلبة ولا صياح. عيش هادئ ساكن بين الغياض وأغاريد الطير. عيش متشابه خالد مملوء بالحب والسعادة. هذه حقا هى الحياة الحلوة لا فى باريس ولا فى مصر. لكنى للأسـف مـوقـن أنى لن أعيشها"[17]. وهذا هو الحب الوحـيـد الذى يقابله القارىء فى "مذكرات الشباب". وهيكل معجب أكبر الإعجاب بإقبال الفتاة الأوروبية على العلم والدراسة مأخوذ بعقليتها وعمق حديثها. وهو يرى أنها تتفوق على كثير من الشبان المصريين فى ذلك، دعك من النساء المصريات اللاتى يتحسَّر على وضعهن ويتمنى لو أنهن خرجن من خدورهن وشاركن الرجال فيما يضطربون فيه. إذَنْ لَــــ "هذّبْنَ مشاعر الشباب وبَعَثْن إلى قلوبهم إحساساً بمعنى الحياة الإنسانية التى تحوى غير الشهوات الضيقة التى لا يفهم شبابنا غيرها". كذلك يعجبه فى الفتاة والمرأة الأوروبية استقلالها الذاتى واعتمادها على نفسها فى التنقل والسفر وحدها إلى البلاد البعيدة فى الشرق والغرب على السواء دون خوف أو خطإ: "لهؤلاء الناس ثقة بنفسهم وبصفتهم لا تطرأ لمصرية بل ولا لمصرى على بال. ألا نأسف على حالنا ذلك؟". أما ذوقه فى الجمال النسوى فهو الرشاقة، التى يفضلها على البياض والسمنة مطمح الفتيات المصريات وأهليهن فى ذلك الزمان.ولعل سائلاً يسأل: أهذا كل ما هنالك؟ ألم تكن لهيكل فى شبابه بباريس مغامرات جنسية؟ الحقيقة أن ليس فى المذكرات شىء عن هذا الأمر، اللهم إلا إذا حمَّلنا الفقرة التالية التى كتبها أديبنا بعد عودته الأولى إلى مصر فى أوائل أغسطس ١٩١١م ما تطيق وما لا تطيق فأسأنا الظن وأطلقنا لتخيلاتنا العنان. يقول: "الحكايات التى يقصها إخواننا المصريون عن أنفسهم وعن مواطنيهم تدل على أن الواحد منهم لا يكاد يرى امرأة حتى يساوره نوع من الجنون يضيع معه عقله وتملكه حواسه فتدفعه إلى الحيوانية المجردة وتقوده، لولا ما رُكّب فى طبعه المصرى من الحياء، لأن ينقضّ على هاته التى أمامه فيأخذها بين يديه ويضمها إلى أحضانه وينهال عليها تقبيلا وعضاً. ولو أن المساكين عرفوا النساء وأنهن لا يحوين كل الخزائن التى تدفع شهوةُ الواحد منهم إياه لتقديرها فى مخيلته لهدأت ثائرتهم وكانوا أبعد كثيرا عن الوقوع فى هذا الجنون الذى هم معرّضون له فى لحظة. ولكنهم يعيشون أغلب الأحيان فى مجرد الخيال من هذه الجهة، والخيال تلسكوب يكبّر كل ما يقع أمامه فيبهر صاحبه ويستدعى كل انتباهه، ولا يزال يزداد حتى تصل به الدهشة فتجعله يرتمى على موضع خياله بكل جسمه وقواه، ومهما ظهر غَيْرَ مرة كَذِبُ ما تخيل فإنه دائم الأمل فى أن يَصْدُق الحلم مرة ويصل إلى ما يظنه موجودا".على أية حال فقد قضى هيكل أياما وليالى مرحة لذيذة فى باريس وغـيـر باريس: فى الملاهى والمشارب والمسارح والحـدائق والبيت. يشهد على ذلك ما كتبه بيده فى مذكراته هذه. ومن هنا فلسنا نتفق مع ما قاله د. محمد سيد محمد عن كاتبنا وحياته فى باريس من أنه "لولا طبيعته الانطوائية وحرصه الدينى لأمكننا أن نتصور مدى المرح والرخاء الذى يستطيع شاب فى مثل سنه وسعة عيشه أن ينغمس فيه فى باريس ما قبل الحرب العالمية الأولى"[18]، فقد رأينا كيف أنه سرعان ما تخلص من خجله الذى أتى به من مـصـر واندمج فى الحياة الأوروبية. لكن تبقى هناك حاجة إلى مناقشة ما قاله الباحث عن الحرص الدينى لدى هيكل.أول ما يقابلنا فى المذكرات من سلوك لكاتبنا ذى وشيجة بالدين هو ما ذكره فى يومية ١٢ يوليو ١٩٠٩م، أى بعد مرور ستة أيام على فراقه لمصر، من أن زميل غرفته بالباخرة قد ذهب إلى الحمام عقب استيقاظه من النوم ليغتسل ثم عاد وفرد عباءته وصلى الصبح، على حين بقى هو فى الغـرفـة إلـى أن يحين دوره فى الذهاب إلى الحمام، وهـو آخـر الأدوار. وقد وَصَف زميلـه بأنـه "رجل طيب"[19]. وسـيـاق الكلام يوحى بأنه لم يكن يصلّى. والمرة الثانية التى ذكر فيها الصلاة كانت فى يومية 11 أغسطس ١٩۱۰م، أى بعد أكثر من عام، وكان فى نزهة بالقارب على سطح بحيرة قريبة من أفيان بسويسرا، والشمـس جانحة إلى المغيب وقد حجبتها السحب أو كادت. وفيها يقول: "فى تلك الساعة لم أستطع إلا أن أشكر الله وأنا على ظهـر المـاء آمن مطمئن، وتجلَّى لى أن ليس من تجديف فى العـالـم هـو أشـد من هاتـه الصلوات التى يعملها الناس وقلوبهم مقفلة، فى حين يفتح اللـه أمامهـم قلب الطبـيـعـة الهـائل. تجلى لى كُفْرُ مدّعى الصـلاح والزهـد ولومهم". إنّ هذه صلاةٌ روسُّوِويّة لا محمّدية، وإن كنا نتفق معه فى أن العبادة القائمة على المراءاة لا تفيد صاحبها ولا يبالى بها الإسلام. بيد أن هذا لا يُعْفِى أصحاب القلوب الحية من تأديتها، فهی فرض دینی. كذلك فإن تلك الأحاسيس الجياشة تجاه جمال الطبيعة والقدرة الإلهية التى أبدعته هى بكل تأكيد دليل على سلامة الفطرة ويقظة الشعور الدينى، لكنها رغم ذلك ليست بمغنية عن الصَّلاة كما شرعها الدين من قيام وركوع وسجود وجلوس وتكبير وتسبيح وفاتحة... إلخ.أما المرة الثالثة (والأخيرة) التى ذكر فيها الصلاة فى مذكراته فكانت بعد ذلك بشهر تقريبا وفى ثوب تندُّرى: "كنا مع صديق يحكى لنا وقائع سُكْره وفتكه بالنساء. وكم كان، جازاه الله، حلوا فى حكاية وتنسيق وقائعه، كما كان كثيرها إلى حدَّ ما تصورته من قبل أبدا. وقال لنا كذلك سبب تركه الصلاة، التى كان يحافظ عليها محافظة الناسك. ذلك أنه دخل مرة سكران والساعة الثالثة بعد منتصف الليل، ولم يكد يضع رأسه فوق مخدته حتى جاءه أبوه يناديه لصلاة الفجر فقام وأخذ دُشاً يطّهّر به وصلّاها فانتابته حُمَّى ظل فى أثرها شهورا فخلف من بعدها ألا يصلى، إذ إنها الصلاة جاءته بها. ثم انتقلنا بعد ذلك لحديث آخـر جاء فى خلاله أن تَلَوْتُ آية من القرآن فنظر إلىّ وقال: "أولاً أنت طاهر؟" ذكَّرَنى ذلك بنادرة حلوة من مثل هذه: كنت فى إنجلترا وصديق يترافع عن الدين الإسلامى أمامى مرافعته أمام من لا يدين بذلك الدين. يدافع بكل قواه وينصر المبادئ التى قررها وأنا أوافـقـه أغلب الأحيان فلا يزداد إلا حدة واندفاعا: "هو الدين الإسلامى أطلق للناس العِنان وحلّهم من قيود كثيرة كانوا يرزحون تحتها وجعلهم أحرار الفكر يعملون بما يهديهم عقلهم، كما ضمن لهم فى تعاليمه السيادة ووضع لهم قواعد محكمة... إلخ... إلخ". فلما أنهكه التعب وجاء عليه اللُّغوب التفت إلىّ قائلا: الواحد تعب. تعال يا شيخ نأخذ كـأس ويسكى". ولست أحسب هذا كلام شاب يصلّى. أما بالنسبة للشراب فأعتقد أن العبارة الأخيرة توحى بالكثير. ومثلها فى ذلك ما سجله فى يومية 10 يونيو ١٩١٠م، حيث يروى لنا أنه نزل واثنان من أصدقائه فى منتصف الليل إلى حانة التافرن بباريس، "فوجدناها هائصة بالشباب والبنات والموسيقى والدخان والطرب وأنصاص البيرة وكاسات الكنياك والوسكى وكل ما شئت من الكحول... وجاء الجرسون بالمشروب... وأخيرا نادى ع. ف.[20] بالجرسون وطلب منه شرابا جديدا، وتجددت بذلك النشوة... وقد ابتدأت رأسه تدور بعض الشىء...". وفى آخر السهرة "سكت ع. ف. ولم أشارك أنا بكلمة، فدفعنا للجرسون ما علينا ثم قمنا نسير، فإذا الشوارع خالية والجو هادئ جميل ويدعو للمشى الكثير، لكن ع. ف. لم ير نفسه قادرا على السير فتركَنا وذهب، وسرنا نحن الاثنان قليلا ثم افترقنا". وكان معهم فى بداية هذه السهرة ثلاث فتيات تقول إحداهن عن زميلة لها كانت قد اقترحت أن يتبادلوا أماكنهم حتى تكون كل فتاة بجانب أحد الشبان: "أليست خبيثة هذه المرجريت؟ هى تكسب من وراء انتقالها أن تلصق فخذها بفخذ شاب وتبقى تتبادل النظرات مع الآخر"، فترد عليها مرجريت قائلة: "وأنت ماذا يضرك من وراء ذلك؟ ألا يعجبك الشاب الذى تتبادلين النظرات معه؟ وهلا يسرك أن تلصقى فخذيك بشابين بدل أن أكون أنا أحد جيرانك؟".فإذا أتينا إلى عقيدة هيكل فى تلك الفترة لمحنا اضطراباً وحيرة بل وشكّا وربما أيضا إنكاراً فى بعض الأحايين: إنه فى اليومية التى دونها فى الأول من أغسطس، أى عندما لم يكن قد مرَّ عليه شهران بعد، يسجل لنا خلاصة ما قاله لهم مدرسهم الخصوصى فى اللغة الفرنسية عن تطور حرية الفكر فى فرنسا وأوروبا بدءاً بلوثر وكلفن، ومروراً برابليه وديكارت ثم روسو وفولتير ومونتسكيو، وانتهاءً برينان حيث "أصبح أقل من القليل من يستطيع أن يسمح لنفسه أمام نفسه أن يعتقد أن الديانات وحى سماوى من عند الله أو أن الأنبياء يوحى لهم من السماء. إنما النبى رجل توحى له نفسه، وكل ما أوحت به النفس فهو مقدس". ولم يذكر هيكل موقفه آنذاك من هذا الكلام سوى أن السكوت قد "علاه" هو وزملاءه على حدّ تعبيره. أما زميله ب. فقد بدا عليه الاستغراب مما جعل المدرس الفرنسى يشعر "بأنه كان سريعاً فى تقدمه أكثر مما يجب" فرجع وتناول الموضوع بشىء من الرفق والتدرج، وبخاصة فى جوابه على اعتراض ب. عليه.ورغم ذلك فلا تمر أيام ثلاثة حتى نقرأ فى يومية أخرى ردّ الفعل لدى كاتبنا تجاه ما سمعه من مدرسه الفرنسى تفسيراً لظاهرة الوحى النبوى: "لحقنى ألم حين رأيت معنى الوحى الجميل على ما كنت أتصوره فى هبوط مَلَكٍ ذى أجنحة بيضاء عظيمة تغطى الكون وهى نورانية فتزيده نورا يتقلص ليحل محله معنى آخر هو النتيجة اللازمة لأقوالهم ولطول التفكير وللإحساس ساعات الوحدة العميقة بخلوص النفس من الجسم المادى الذى يثقلها ووصولها مجردة تجتلى الحقيقة تطلع على هذا العالم وما حواه وما أحاط به. وهذا المعنى هو الوحى... ومن هنا يدخل إليها أحيانا اعتقاد جازم أن هذا الذى وصلت إليه جاءها من قوة فوقية كبيرة مصرَّفة للعالم وما فيه، أى جاءها من الله"، ثم سرعان ما ينتابه تردد أمام هذه الفكرة، لكنه ليس ترددا خاصا بصحة الفكرة أو فسادها بل بمدى مصلحة الإنسانية فى إذاعتها أوْلا. ورأيه أن من الخير للإنسانية أن تظل فى تصورها الحالى عن الوحى والاعتقاد بأنه ينزل من السماء، وإن لم يكن هذا الرأى عنده من القوة بمكان.وبعد هذا بنحو أسبوعين نقرأ فى يومية أخرى موجزاً لحديث المسيو هـ. ج. نفسه فى أصل الدين، الذى عزاء إلى "ما رُكِّب فى النفس الإنسانية من الضعف وحاجتها أن تلجأ ساعات الشدة لسند ولو موهوم يعزّيها عن حالها". ورغم ما ذكره هيكل من معارضته هو وزملائه لذلك فإننا نلمح بين السطور شيئاً آخر: "على كل حال فإن كلامه وحيرته مملوءان بالمعنى ويستدعيان تفكيرا عميقا بالرغم من شديد معارضتنا له أحيانا فى نظرياته".وفى يومية أخرى (بتاريخ ٢٥ سبتمبر ۱۹۰۹م) نجده يُرْجِع الإيمان والإلحاد إلى أسباب نفسية مقررا أنهما يتعاقبان على مدار التاريخ: فمرة يسود الإيمان، ومرة تكون الغلبة للإلحاد... وهكذا دواليك. لكننا نفاجأ به بعد ذلك بنحو عشرة أيام يردّ على المسيو هـ. ج. بأنه لو فُرِض أن كانت الألوهية لا أصل لها وأنها مجرد وهم وخيال فإن "من المجازفة أن تقول إنها لم تُفِد العالم إلا ضئيلا، فإنا نرى السواد الأعظم من الناس يعيش ويعمل ويجاهد ويجتاز وعث الحياة بقلب ثابت ويقدم الخير لإخوانه بنفس طيبة، وهذه الفكرة وحدها سنده فى عمله والباعث له على فعل الخير، وهى كذلك المانع الوحيد لكثيرين من الفقراء، وحياتهم سلسلة ألم متصلة، عن العبث بحرية الآخرين والاعتداء عليهم. ولا يُعَدّ مبالغا من يقول إنها هى التى تعطى للقانون قوته من هذه الجهة. ففكرة عظيمة كهذه تخدم العالم من الأزل إلى يومنا هذا أكبر وأجل خدمة تستحق المهابة والتقديس. كما أن محالا أن يسير العالم هذا السير العجيب على باطل. فهى من غير شك حقيقة ثابتة". ثم فى نهاية اليومية يكتب هذه الكلمات: "كان الوقت قد أمسى وحان أن نقوم، وكأن إخواننا جميعاً صاروا من رأى المسيو أ. ك. (وهو من المنكرين أيضا للألوهية والأديان) أو أنهم تعبوا من المناقشة فقمنا"[21].وتتوالى أمثال هذه المناقشات بين هيكل ومعارفه من الفرنسيين. وقبل أن ينصرم عام ١٩٠٩م بساعة نراه يطرح على نفسه الأسئلة التالية: "إلى أين يذهب العام الماضى؟ وبم يجىء العام الجديد؟ وبكلمة أخرى من أجل ماذا يعيش الإنسان؟". وهو يجيب قائلاً: ما أشبه الإنسان يحيا ويعمل ثم يخلفه غيره... بلفّة الطنبور فى المعرض الزراعى: يأخذ الماء من الحوض ثم يصبه ثانية فيه وما عمل شيئا. يومَ يُهْدَم الحوض يذهب عمل الطنبور. وأغرب ما فى الإنسان جنونه بالذكر الخالد. أليس هذا الذكر أشبه شىء برنة المعدن إذا دقَقْتَه؟ والحياة بما فيها من الأعمال هى تلك الدقة. فها هو المثل المحسوس أمامنا. أى شىء تستفيد الدقة من الرنين مهما طال أمده؟". وعن أبطال مسرحية روميو وجولييت، الذين كان مصيرهم جميعا هو القتل أو الانتحار، نراه يقول: "رحمة بهاته الأرواح يا إلهى إن كانت تصعد إلى سمائك! وإن كان للفناء مصيرها فما أقسى الوجود!". أتُراه ينكر الخلود أو على الأقل يرتاب فيـه؟ على أية حال فلنقرأ معاً هذه الفقرة أيضا من يومية ٢٢ مارس ۱۹۱۰م: "أين ذهب هؤلاء الرومان الأقدمون؟ من يدرى؟ ابتلعهم الفناء فى جوفه الهائل ثم قذف بهم بعد ذلك أشجارا وحيوانات وجسوما انتقلت هى الأخرى مرات إلى الظلمة ثم رُدَّت فى أشكال مختلفة إلى نور الشمس الذى شهدها فى غيرها من غير أن يحسّ لها من أجل ذلك بفرح أو ألم"، وكذلك أيضا هذه الفقرة التى دارت بخاطره بعد مقابلته طفلا ألمانيا وتفكيره فيما سيكون عليه هذا الطفل عندما يكبر: "على كل حال هو سيخطو على الأيام خطواته حتى يصل للغاية الكبرى، للموت. وسواء عمل كثيرا أو قليلا ومرّ تحت ستر الأيام أو هو هتكه فأمامه ذلك الآخر الذى ينتظر الناس جميعا ليريحهم من العناء الوبيل: أمامه الأبدية حيث الراحة الكاملة الدائمة"، ثم هذه أيضا: "عَمَلُنا وسعينا وسرورنا وحزننا وشقائنا[22]، عقـائـدنا وأفكارنا، حربنا وسلمنا، كل ذلك راجع إلى لا شىء"[ص/ 198].ثم إننا نَشِيم أيضاً عنده إيماناً بأن البـشـر لـيـسـوا إلا أشـبـاحاً مجبورة لا حول لها ولا طول فيما تأنى أو تدع: "من يدرى إذا لم نكن نحن فى عملنا على الأرض (إلا) خيالات مسخرة تعمل ما تريده القوة الخفية فى الكون، وإن أحسّت أن لها وجوداً مستقلا؟ أليس من الممكن أن يكون حقا ما يقال من أن الله خلقنا على صورته، أى أنّا خيالات هاته القدرة الهائلة فنعمل ما تعمل ونتحرك بحركاتها ونسكن بسكونها ونظن خطأ أنّا نريد ما نعمل؟".كذلك نجده ينكر إنكاراً شديدا على كل من يريد "الرجوع لبناء عائلته على نظام العائلة العربية التى كانـت مـوجـودة فى صـدر الإسلام" متسائلا: "ماذا كان نظام هذه العائلة؟"، ثم يجيب بــــ "أن الإصلاح يجب لينجح أن يكون أساسُه الحاضر وما يحيط بالحاضر من مؤثرات الوسط والمدنية"، وأنه لو تدبر من يبغون العودة إلى الماضى "أمر العائلة القديمة العربية ونظامها النصف بدوى عند طائفة والترف الفاسد عند طائفة أخرى لما تاقت نفوسهم إليها. ولكنهم يسمعون أن بعض النساء عند العرب كن متفوقات فى الشعر وبعضهن كن يواسين الجرحى فى الحروب فيجىء إلى نفوسهم خيال غريب من هؤلاء النسوة ويريدون أن تكون العائلة المصرية كالعائلة العربية، وكأن حياة العائلة يدخل فى نظامها قول الشـعـر أو مـؤاساة الجرحى". وهو يسمّى هذا التطلع إلى الماضى رجعية ويهاجمه هجوما شديدا".نخرج من ذلك بأن حالة الاضطراب والشكّ قد استمرت طوال يوميات باريس، لا كما يصورها د. عبد العزيز شرف بأنها لم تمكث إلا بضعة أيام، إذ كان هيكل، كما يقول، "قد التحق بمدرسة العلوم الاجتماعية العالية وأخذ فيها دراسات كثيرة متنوعة عن الاجتماع وعلومه وتلقى محاضرات فى الأدب الفرنسى واللاتينى فحصّل لنفسه ثقافة واسعة غنية. وقد أحدثت هذه الثقافة التى سبق الحديث عن ملامحها اللادينية فى نفسه مرحلة من الشك لا يتصل بالاجتماع ومثله وشؤونه، بل يتعداه إلى أمور الدين. وحول هذا الشك يناقش فى يومياته بعض مسائل الدين والسياسة والحكم حسب مفهوماته الجديدة التى حصلها. وما يلبث هذا الشـك أن ينقشـع بعـد أيـام فـنجـده يذكر فى إيمـان عـميـق أن "الكتب المقدسة أمل الإنسانية الكبيرة فى أن تصل إلى كمالها وتبلغ الغاية التى أعدّتها لها القدرة الإلهية"... إلخ"[23]، بل إننا نستطيع أن نقول إن هذه الحالة قد بقيت بعد المرحلة الباريسية بزمن طويل. وعندنا مثلا مراجعة هيكل فى عام ١٩١٢م لكتاب جرجی زیدان "تاریخ آداب اللغة العربيـة"، الذى أخـذ على مؤلفـه أنه لم يبحث عن "الأصـول الأدبية التى استمد منها (القرآن) وجوده"، وأنه لم يعرّفنـا مثلا هـل كـانـت سـورة "يوسف" هى "أول ما جاء من نوعها أو أنها سُبِقَت (عند العرب) بغيرها من صورتها"[24]، وذلك رغم تأكيد القرآن للنبى عليه السلام أنه لم يكن له علم بها هو ولا قومه قبل هذا. كذلك فإننا نراه فى سنة ١٩١٦م يتناول حديثا منسوبا للنبى عليه السلام عن الشمس وأنها لا تشرق كل صباح إلا بعد أن ينخسها سبعون ألف ملك... إلخ بطريقة تهكمية، وهو ما أعاده فى كتاب "ولدى"، الذى كتب فصوله فى أواخر العشرينات. وقد أفزع هذا د. محمد غلاب عند تناوله كتاب هيكل "فى أوقات الفراغ" فى سنة ١٩٣٢م فتحداه طالبا منه إثبات أن القرآن مستمَدّ من أى مصدر بشرى حسبما يدعى المبشرون المضللون، كما شكّك فى حديث الشمس وعدّه خرافة لا تصح عن النبى عليه السلام[25].ومـن اللافت للنظر أن حامدا (بطل رواية "زينب"، التى كتبها هيكل فى فرنسا وسويسرا فى تلك الفترة) يعكس هذا الجانب من شخصية المؤلف: فهو تارة مؤمن بالله، وتارة يبدو وكأنه يتحدى الحساب، وتارة لا يرى بَعْد الدنيا من شىء سوى العدم. وهو فى كل الأحوال لا يصلى، وإن ظن الناس فى القرية أنه شاب متدين. حتى نظرته إلى الزواج تخالف تماما نظرة الدين إليه. ثم إنه لا يكفّ عن تقبيل زينب واحتضانها كلما سنحت له سانحة، بل إنه ليُشْهِد الله ذات مرة على قبلةٍ أخذها منها[26].على أنه لا بد من القول بأن هذه كانت مرحلة فى حياة محمد حسين هيكل الفكرية والروحية انقشعت وعقبتها مرحلة أخرى اتجه فيها إلى الإسلام يدافع عنه وعن نبيه ورجالاته الأوائل النبلاء، مؤكدا أنه لن ينقذ العالم مما يغمره من مصائب وقلق وشقاء إلّا اتخاذه هذا الدين نبراسا هاديا.ثم نتحول الآن إلى موضوع آخر من الموضوعات التى تبرز فى "مذكرات الشباب" بروزا قويا، ألا وهو اهتمام هيكل الشديد بقضية الحرية والعدل الاجتماعى. يتضح ذلك منذ أول يومية كتبها عقب وصوله باريس حيث يتـحـدث عـن عـيـد الحـرية، الذى تصادف احـتـفـال الفرنسيين به بُعَيْد وصوله، إذ يسمى سجن الباستيل "مستودع الظلامات ومُقَام الأحرار الذين خسف بهم الاستبداد"، وهى تسمية تَشِى بمدى كراهيته للظلم والظالمين. وبعد نحو عشرين يوماً نجده، أثناء وصفه لرحلته إلى قصر لويس الرابع عشر فى فرساى، يقف عند مظاهر العظمة التى يشتمل عليها ذلك القـصـر قائلاً إنها "بُنِيَتْ على أساس من دمـاء الـفـقـراء والعمال"، ومعلنا ابتهاجه بأنها "رجعت لتكون موضع سرور الفقراء والعمال وكل إنسان يريد أن يراها"[27]. وعندما يدخل غرفة نوم ذلك الملك تسعده رؤية الناس من حوله فرحين مستبشرين غير وجلين "أن دخلوا غرفة الملك ولا يرتعدون خيفة أن يحكم عليهم بالإعدام أو السجن، ولكنهم يقفون على بساط المساواة والحرية وقد أراق آباؤهم من أجلها دماء شريفة غالية".وهو يوافق أناتول فرانس على أنه لا بد من تناول أى حكم صادر عن المحكمة بالنقد فى منتهى الحرية، وذلك خلافاً للقانون الذى يحرّم على الناس التعرض لأحكام المحاكم.كما أنه ينتقد المحافظين فى بريطانيا لوقوفهم ضد حرية النساء فى الخروج من البيت واحتراف المهن والوظائف المختلفة وعملهم على الاستبداد بهن والتحكم فيهنّ حسبما تمليه عليهم مصلحتهم، إذ يبقونهن فى البيت ليكنَّ خدما لهم ويخرجونهن منه متى وجدوا سبيلاً لاستغلالهن. كذلك نراه يقف فى صف النساء فى مطالبتهن بحق الانتخاب أسوة بالرجال، لأن ذلك يجعل الأمور أقرب للنظام والعدل والحرية. وانطلاقا من حبه للحرية أيضا نجده يفضل النظام الجمهورى فى الحكم على النظام الملكى.وعلى نفس الشاكلة يدعو هيكل بكل قوة إلى احترام حرية التفكير والتعبير. لقد زار متحف اللكسمبور بعد أسابيع قليلة من وصوله باريس ولاحظ ما تدل عليه الصور الكثيرة المتنوعة المتحررة التى يحويها من "تحلل الغربيين من قيود كثيرة لا تزال مقيدة بها النفس الشرقية مما يأخذ اسم الفضيلة والحياء"، وعبَّر عن إعجابه بهذا الاتجاه بقوله إن "النفس المحاطة من كل جانب بمظاهر الحرية تنشأ وتحيا وتموت حرة. والنفس الحرة قديرة على كل شىء، قديرة على المعجزات". وهو يرفع صوته قويا بأن "من الصعب محاولة إرغام مفكر على أن يعتقد شيئا لأن الأغلبية تدين به. كما أن من الظلم الفاحش أن يُمْنَع صاحب رأى عن نصرة رأيه مهما خالف الجماعة فيه، لأن تكوين العقيدة أو الرأى فى رأس المفكر لا يجىء إلا بعد أن يُعْمِل مخه ويُتْعِب أعـصـابه ويكابد أهوالا، فمن العدل أن يُتْرَك له من الحرية ما يجعله يكسب حوله أنصارا أو معزِّزين أو على الأقل أن يتعزى بإظهار ما فى نفسه للوجود". وقد ظهر مصداق ذلك فيما بعد فى دفاعه عن الدكتور طه حسين والشيخ على عبد الرازق فى أوائل الربع الثانى من هذا القرن عندما أصدر الأول كتابه "فى الشعر الجاهلى" والأخير بحثه عن "الإسلام وأصول الحكم" وهاجت الدنيا على كل منهما لما أتى به من آراء صدمت الكثيرين بسبب مخالفتها لما هو مقرر عندهم.وبالنسبة لحياته الشخصية نراه يؤكد لنا أنه يفضل "الفضاء الحرّ العظيم" على أن يكون "بين حوائط أربع" حيث يشعر أنه "فريسة للأفكار الفظيعة والخيالات المخيفة والأحلام المقلقة". كما يقول إنه لا يخشى الفقر أبدا، لكنه فى الوقت ذاته يخاف أن يتغير عليه الزمان فيسلب منه ما يتمتع به من صحة طيبة يشكر الوجود عليها بنفس خالصة، "إذ بها حريتى ومتاعى"، ثم يختم بهذه الكلمات: "اليوم الذى تألمت فيه حقيقة هو حين مرضتُ أو ضُوِيقْتُ فى حريتى".ولا ننسى أن هيكل كـان واحـدا من "الحُرِّيّين"، أى "الليبراليين" كما كان يسميهم أحمد لطفى السيد، ثم أصب عضوا بعد ذلك فى حزب "الأحرار الدستوريين" بل زعيماً له فى فترة من الفترات.على أننى قبل أن أغادر هذا الفصل إلى الذى يليه أحب أن أنبّه إلى بعض الألفاظ والتعبيرات التى اسـتـخـدمـهـا هيكل فى مذكراته ولم تعد تستخدم الآن. فمن ذلك "المِرْفَع"، (أى المصعد ص 28، 29)، و"المرسح" (بدل: المسرح)/ ص ٥٩)، و "تفكيرى دليل وجـودى" (أى أنا أفكـر فـأنا إذن مـوجـود/ ص 65) و "الجمعية" (للمجتمع/ ص 96)، و "تحت الأرض" أو "سكة حديد الأرض" (وهو ما نسميه الآن "قطار الأنفاق"/ ص 167، 121، على الترتيب)، و "الكاتدرال" (الكاتدرائية/ ص ۱۳۳)، و "الوابور" (القطار/ ص ١٣٥)، و "الأرينا" (أى الساحـة التى كان الرومـان يمثلون فيها مسرحياتهم/ ص ۱۳۸، ١٤٠)، و "الأمفتياتر" (المدرّجات التى كانت حـول الأرينا/ ص ۱۳۸)، و "قطار ربيـد" (أى القطار السريع/ ص 165)، و "توست" (عيش محمّص/ ص١٦٦)، و "السَّنَة المكتبية" (أى السنة الدراسية/ ص١٢٩. وكان هذا التعبير لا يزال مستخدما فى طفولتى)، و "أنصاص البيرة" (ص/۱۳۸، وقد تكرر فى مواضع أخرى)، و "القُروشيون" (أى الماديون النفعيون الذى لا مبدأ لهم/ ص ٢٥٢)، و "التِّيز" (le these، أى أطروحة الماجستير أو الدكتوراه/ ص ٢٥٣)[28]. ويلاحظ أن كثيرا من هذه الألفاظ قد كُتِب كما هو فى لغته ولم يترجم. وهذا راجع إلى أن اللغة العـربـيـة كـانـت فى ذلك الحين حديثة عهد بمدلولات هذه الألفاظ، التى تحتاج وقتاً قبل الوصول إلى مرادف لها عربى. وعلى أية حال فهيكل فى مذكراته التى بين أيدينا كان يبارك اقتباس الألفاظ من اللغات الأجنبية كما هى عند الحاجة إليها ويهاجم بقوة من يعارضون ذلك ويصمهم بالرجعية.الهوامش:1- محمد حسن هيكل/ مذكرات الشباب/ المجلس الأعلى للثقافة/ 1996م/ ص 23 2- يقصد المحلات الكبرى.3- ص/ ١٤٥. وهذا مذكور فيما دونه من مذكرات فى ٢٦ مارس سنة ١٩١٠م عندما كان يزور نيس ومونت كارلو والريفييرا.4- اعتقد أنه يقصد بـــ "الطير" هنا "الذباب" جرياً على لغة أهل الريف.5- غنى عن القول أن فى الأوروبيين مع ذلك عيوباً ضخمة أيضا، ولكننا هنا فى مجال الحديث عن فضائلهم، وهى أيضا ضخمة وكثيرة.6- ص/ .٣٥ وبالمناسبة أحب أن أسوق هنا ما سمعته من د. محمد مصطفى بدوى، الذى كان يشرف على أثناء دراستى للحصول على درجة الدكتورية من جامعة أكسفورد، تعليلاً لارتفاع أصوات المصرين أثناء حديثهم مع بعضهم البعض، إذ أرجع ذلك إلى طبيعة اللغة العربية، على عكس الإنجليزية، التى لاحظ أنهم كانوا كلما تكلموا بها فى البيت الذى يسكنونه مع أسرة إنجليزية أثناء وجودهم فى بريطانيا أيام الطلب خافتوا من أصواتهم، بخلاف ما لو استعملوا لغتهم العربية، إذ كانت أصواتهم ترتفع آليا. وفاته أن التعليل الصحيح هو خوفهم أن تفهم الأسرة الإنجليزية ما يقولونه حينما يستعملون لغة الإنجليز وانعدام هذا الخوف فى حالة تحدثهم بلغة الضاد.7- للأسف لم يذكر هيكل لنا اسم هذه المسرحية ولا مؤلفها.8- ص/ ١٢٦، وإن كان قد أشار بعد ذلك بوقت طويل (حين كتب ترجمة بطرس غالى فى 24/ 12/ 1927م بجريدة "السياسة الأسبوعية") إلى دور "النعرة الدينية" فى هذا الحادث، ونفى عن غالى تهمة الخيانة والتعصب لأبناء طائفته.9- وهى الترجمة الخامسة فى كتابه "تراجم مصرية وغربية"، ذلك الكتاب الذى ظهرت طبعة له فى يناير ١٩٥٤م فى "كتاب روز اليوسف" بعد أن حُذِفت بعض فصوله، ومنها ترجمة بطرس غالى، وتغير اسمه إلى "شخصيات مصرية وغربية". ولم ينبه إلى هذا الحذف د. محمد سيد محمد أو د. حمدى السكوت ود. مارسدن جونز، إذ تحدثوا عن الطبعتين كأنهما نفس الكتاب ولكن بعنوانين مختلفين. انظر كتاب الأول "هيكل والسياسة الأسبوعية"/ الهيئة المصرية العامة للكتاب/ سلسلة "تاريخ المصريين" (العدد ٩٨)/ ١٩٩٦م/ ۸۱، وكتاب الاثنين الآخرين/ محمد حسـين هيكل ــــــ ببليوجرافيا/ قسم الدراسات العربية بالجامعة الأمريكية والمجلس الأعلى للثقافة/ القاهرة / ١٩٩٦م/ ٩. وبالإضافة إلى ترجمة بطرس غالى المحذوفة فقد حُذِفتْ أيضا تراجم محمد قدرى باشا صبرى ومحمود سليمان وهيبوليت تين. 10- محمد حسين هيكل فى عيون معاصريه/ إعداد نبيل فرج/ الهيئة العامة لدار الكتب والوثائق القومية والمجلس الأعلى للثقافة/ 1996م/ 17211- مذكرات الشباب/ 136. ومع هذا فإنه يقول فى يومية 9 يناير ١٩١٠م، أى قبل ذلك بشهرين وعشرة أيام، إن ما فى مصر من مدنية وحضارة ليس نتاجا مصريا بل هو من عمل الأجانب، الذين لو كُتِب عليهم أن يغادروا البلاد لعادت إلى استبداد المماليك، وإلى عهد الجوامع القديمة وحلقات الدروس التى اندثر أثرها، وإلى الفقر المدقع (ص/ 113). 12- انظر محمد حسين هيكل/ عشرة أيام فى السودان/ سلسلة "كتب للجميع" (العدد ٢٣)/ نوفمبر ١٩٤9/ ٤٣ - ٤٨، وتجد النص المنقول هنا فى ص/ ٤٤ - 45. وقد تناولت رأىَ هيكل هذا فى الفصل الخاص بــــ "أدب الرحلة عند هيكل" من هذا الكتاب وحاولت تفـسيره.13- محمد حسين هيكل/ فى أوقات الفراغ/ ط2/ مكتبة النهضة المصرية/ 1968م/ 26114- اللاتى يسميهن بـــــ "البغيّات"، كما سمّاهن فى موضع آخر بـــ "بنات الرصيف" (ص/ 53). 15- أى المجتمع.16- كان ذلك فى شهر "يونيو" من عام 1910م.17- انظر/ 154-157. وهذا النص موجود فى ص/ 157. ويجد القارىء أيضا كلاماً عن هذه الفتاة وبعض ما كان يدور بينها وبين هيكل من حديث فى كتابه "ثورة الأدب" (الهيئة العامة لقصور الثقافة ـــــ كتابات نقدية 58/ ديسمبر 1996م/ 105). 18- د. محمد سيد محمد/ هيكل والسياسة الأسبوعية/ ٣٤19- مذكرات الشباب/ 15. ومع ذلك فسوف نتلقى بهذا الزميل (ع. ف.) فى يومية ۱۰ يونيو 1910م "وقد ابتدأت رأسه تدور" بتأثير الشراب فى أغلب الظن حسبما يُفْهَم من السياق (ص/ 161). 20- هو الصديق الذى فرد عباءته فى أول الرحلة فى قمرة الباخرة وصلى الصبح وهيكل باقٍ فى الفراش.21- اقرأ الحوار كله ص/ 89-9622- هكذا وردت، وهى خطأ صوابه "وشقاؤنا".23- د. عبد العزير شرف/ محمد حسين هيكل والفكر القومى المصرى/ الهيئة العامة لقصور الثقافة ـــــ كتاب الثقافة الجديدة 38/ أكتوبر ١٩٩٦م/ ٤٤. وجدير بالذكر أن اليوميتين اللتين اعتمد عليهما