معروف الرصافي : 1877 - 1945
ولد الشاعر معروف الرصافي في سنة 1877 ببغداد حيث أكمل دراسته فيها، ثمّ انتقل إلى القسطنطينيّة والقدس، وبعد إتمام دراسته عاد إلى وطنه.
عاش الـشـاعـر فى عصـر عما لقـة الـشعـر : جميل صـدقـي الزهـاوي (1863 - 1936) ، وأمـيـر الشــعراء أحـمـد شــوقـي ( 1868 – 1932 ) ، و شــاعر القـطـريـن مـطـرا ن خـلـيـل مـطـرا ن ( 1871 – 1949 ) ،
و شــاعـر الـنيـل حــافـظ إبـرا هـيـم ( 1872 – 1932 ) .
يمتاز اُسلوب الرصافي بمتانة لغته ورصانة اُسلوبه، وله آثار كثيرة في النثر والشعر واللغة والآداب أشهرها ديوانه (الرصافي) حيث رتّب إلى أحد عشر باباً في الكون والدين والاجتماع والفلسفة والوصف والحرب والرثاء والتاريخ والسياسة .

شارك الرصافي في قضايا اُمّته السياسية والاجتماعية ، وعندما احتلّ الانجليز العراق سنة 1920م ، وسرعان ما نَـصّبوا فيصل ملكاً على البلاد وأصدروا دستوراً وانشأوا برلماناً مزيّفين وأصحبت اُمور البلاد بأيديهم ، ثار الشعب العراقي وثار الرصافي معهم حيث أنشد قصيدته ، التي جاء فيها :


علـم ودستور ومجلس أمة ======= كل عن المعـنى الصحيح مُحرّفُ
أسماءُ ليس لنا سوى ألفاظُها ======= أمّـا معانيهـا فليست تُعرفُ
من يقرأ الدستـورَ يعلم أنه ======= وفقـاً لصكّ الاحتلال مصنّفُ
من ينظرُ العلمَ المرفرفَ يلقهُ ======= في عزّ غيرِ بني البـلادِ يرفرفُ
من يأتِ مجلسنـا يصدّق أنه ======= لـمُرادِ غير الناخبين مؤلّـفُ
أفهكذا تبقى الحكومة عندنا ======= كلَماً تمـوَّهُ للورى وتُزخرَفُ
كثُرت دوائرُهـا وقلّ فعالها ======= كالطبلِ يكبرُ وهو خالٍ أجوفُ
كـم ساءَ منها ومن وزرائها ======= عمـلٌ بمنفعةِ المواطنِ مُجحِفُ
تشكو البلادُ سـياسةً ماليةً ======= تجتـاحُ أمـوالَ البلادِ وتُتلِفُ
تُجبي ضرائبها الثقالُ وإنما ======= في غير منفعـةِ الرعية تُصرفُ
حَكَمَت مشددةً علينا حكمها ======= أمّا على الدُخلاءِ فهي تُخففُ
وإذا دعا داعي البلادِ إلى الوغى ======= أنظنُّ أن هناك مـن يتخلفُ ؟
أيُذلُّ قومٌ ناهضون وعندهم ======= شرفٌ يُعزّزُ جانبيه المُرهفُ ؟
كم من نواصي للعــــدا ======= ولحىً بأيدي الثائـرين ستُنتَفُ
إن لم نُجالد بالسيوف خصومنا ======= فالمجــدُ باكٍ والعُلـى تتأففُ


وهذه القصيدة : يصف فيها مشاهدته لأرملة وبنتها الصغيرة ، توفّي زوجها وتركهما بين الفقر والبؤس الذي يذيب الـقـلـوب الجامدة .

الأرملة المرضعة - لمعروف الرصافي



لَقِيتُها لَيْتَنِـي مَا كُنْتُ أَلْقَاهَـا === تَمْشِي وَقَدْ أَثْقَلَ الإمْلاقُ مَمْشَاهَـا

أَثْوَابُـهَا رَثَّـةٌ والرِّجْلُ حَافِيَـةٌ === وَالدَّمْعُ تَذْرِفُهُ في الخَدِّ عَيْنَاهَـا

بَكَتْ مِنَ الفَقْرِ فَاحْمَرَّتْ مَدَامِعُهَا=== وَاصْفَرَّ كَالوَرْسِ مِنْ جُوعٍ مُحَيَّاهَـا

مَاتَ الذي كَانَ يَحْمِيهَا وَيُسْعِدُهَا === فَالدَّهْرُ مِنْ بَعْدِهِ بِالفَقْرِ أَشْقَاهَـا

المَوْتُ أَفْجَعَهَـا وَالفَقْرُ أَوْجَعَهَا === وَالهَمُّ أَنْحَلَهَا وَالغَمُّ أَضْنَاهَـا

فَمَنْظَرُ الحُزْنِ مَشْهُودٌ بِمَنْظَرِهَـا === وَالبُؤْسُ مَرْآهُ مَقْرُونٌ بِمَرْآهَـا

كَرُّ الجَدِيدَيْنِ قَدْ أَبْلَى عَبَاءَتَهَـا === فَانْشَقَّ أَسْفَلُهَا وَانْشَقَّ أَعْلاَهَـا

وَمَزَّقَ الدَّهْرُ ، وَيْلَ الدَّهْرِ، مِئْزَرَهَا === حَتَّى بَدَا مِنْ شُقُوقِ الثَّوْبِ جَنْبَاهَـا

تَمْشِي بِأَطْمَارِهَا وَالبَرْدُ يَلْسَعُهَـا === كَأَنَّهُ عَقْرَبٌ شَالَـتْ زُبَانَاهَـا

حَتَّى غَدَا جِسْمُهَا بِالبَرْدِ مُرْتَجِفَاً === كَالغُصْنِ في الرِّيحِ وَاصْطَكَّتْ ثَنَايَاهَا

تَمْشِي وَتَحْمِلُ بِاليُسْرَى وَلِيدَتَهَا === حَمْلاً عَلَى الصَّدْرِ مَدْعُومَاً بِيُمْنَاهَـا

قَدْ قَمَّطَتْهَا بِأَهْـدَامٍ مُمَزَّقَـةٍ === في العَيْنِ مَنْشَرُهَا سَمْجٌ وَمَطْوَاهَـا

مَا أَنْسَ لا أنْسَ أَنِّي كُنْتُ أَسْمَعُهَا === تَشْكُو إِلَى رَبِّهَا أوْصَابَ دُنْيَاهَـا

تَقُولُ يَا رَبِّ، لا تَتْرُكْ بِلاَ لَبَنٍ === هَذِي الرَّضِيعَةَ وَارْحَمْنِي وَإيَاهَـا

مَا تَصْنَعُ الأُمُّ في تَرْبِيبِ طِفْلَتِهَا === إِنْ مَسَّهَا الضُّرُّ حَتَّى جَفَّ ثَدْيَاهَـا

يَا رَبِّ مَا حِيلَتِي فِيهَا وَقَدْ ذَبُلَتْ === كَزَهْرَةِ الرَّوْضِ فَقْدُ الغَيْثِ أَظْمَاهَـا

مَا بَالُهَا وَهْيَ طُولَ اللَّيْلِ بَاكِيَةٌ === وَالأُمُّ سَاهِرَةٌ تَبْكِي لِمَبْكَاهَـا

يَكَادُ يَنْقَدُّ قَلْبِي حِينَ أَنْظُرُهَـا === تَبْكِي وَتَفْتَحُ لِي مِنْ جُوعِهَا فَاهَـا

وَيْلُمِّهَا طِفْلَـةً بَاتَـتْ مُرَوَّعَـةً === وَبِتُّ مِنْ حَوْلِهَا في اللَّيْلِ أَرْعَاهَـا

تَبْكِي لِتَشْكُوَ مِنْ دَاءٍ أَلَمَّ بِهَـا === وَلَسْتُ أَفْهَمُ مِنْهَا كُنْهَ شَكْوَاهَـا

قَدْ فَاتَهَا النُّطْقُ كَالعَجْمَاءِ، أَرْحَمُهَـا === وَلَسْتُ أَعْلَمُ أَيَّ السُّقْمِ آذَاهَـا

وَيْحَ ابْنَتِي إِنَّ رَيْبَ الدَّهْرِ رَوَّعَهـا === بِالفَقْرِ وَاليُتْمِ ، آهَـاً مِنْهُمَا آهَـا

كَانَتْ مُصِيبَتُهَا بِالفَقْرِ وَاحَـدَةً === وَمَـوْتُ وَالِدِهَـا بِاليُتْمِ ثَنَّاهَـا

هَذَا الذي في طَرِيقِي كُنْتُ أَسْمَعُـهُ === مِنْهَا فَأَثَّرَ في نَفْسِي وَأَشْجَاهَـا

حَتَّى دَنَوْتُ إلَيْهَـا وَهْيَ مَاشِيَـةٌ === وَأَدْمُعِي أَوْسَعَتْ في الخَدِّ مَجْرَاهَـا

وَقُلْتُ : يَا أُخْتُ مَهْلاً إِنَّنِي رَجُلٌ === أُشَارِكُ النَّاسَ طُرَّاً في بَلاَيَاهَـا

سَمِعْتُ يَا أُخْتُ شَكْوَى تَهْمِسِينَ بِهَا === في قَالَةٍ أَوْجَعَتْ قَلْبِي بِفَحْوَاهَـا

هَلْ تَسْمَحُ الأُخْتُ لِي أَنِّي أُشَاطِرُهَا === مَا في يَدِي الآنَ أَسْتَرْضِي بِـهِ اللهَ

ثُمَّ اجْتَذَبْتُ لَهَا مِنْ جَيْبِ مِلْحَفَتِي === دَرَاهِمَاً كُنْـتُ أَسْتَبْقِي بَقَايَاهَـا

وَقُلْتُ يَا أُخْتُ أَرْجُو مِنْكِ تَكْرِمَتِي === بِأَخْذِهَـا دُونَ مَا مَنٍّ تَغَشَّاهَـا

فَأَرْسَلَتْ نَظْرَةً رَعْشَـاءَ رَاجِفَـةً === تَرْمِي السِّهَامَ وَقَلْبِي مِنْ رَمَايَاهَـا

وَأَخْرَجَتْ زَفَرَاتٍ مِنْ جَوَانِحِهَـا === كَالنَّارِ تَصْعَدُ مِنْ أَعْمَاقِ أَحْشَاهَـا

وَأَجْهَشَتْ ثُمَّ قَالَتْ وَهْيَ بَاكِيَـةٌ === وَاهَاً لِمِثْلِكَ مِنْ ذِي رِقَّةٍ وَاهَـا

لَوْ عَمَّ في النَّاسِ حِسٌّ مِثْلُ حِسِّكَ لِي === مَا تَاهَ في فَلَوَاتِ الفَقْرِ مَنْ تَاهَـا

أَوْ كَانَ في النَّاسِ إِنْصَافٌ وَمَرْحَمَةٌ === لَمْ تَشْكُ أَرْمَلَةٌ ضَنْكَاً بِدُنْيَاهَـا

هَذِي حِكَايَةُ حَالٍ جِئْتُ أَذْكُرُهَا === وَلَيْسَ يَخْفَى عَلَى الأَحْرَارَ فَحْوَاهَـا

أَوْلَى الأَنَامِ بِعَطْفِ النَّاسِ أَرْمَلَـةٌ === وَأَشْرَفُ النَّاسِ مَنْ بِالمَالِ وَاسَاهَـا


يبدأ الـشـاعر القصيدة باللقاء ، بـالفـعل ( لـقـي ) لقيتـهـا ، و مصادفـة هـذا اللـقاء غـيـر الـمنـتـظـر أو غـير المرتـقـب ، و هـو يتمنى ألا يحـدث هـذا الـلقاء ، حيـث جـاءت " مـا " الـنافـية ( ليتـنـي مـا كـنـت ألـقـاهـا ) ، لكـن وقـع الـلقاء ، و واصـل الـشـاعر وصـفـه لهــا و رصـده لـخطـواتـهـا قـائـلاً :
) تَمْشِي وَقَدْ أَثْقَلَ الإمْلاقُ مَمْشَاهَـا(
حـيـث الـخطوب أثـقـلـت مـن مـشــيـتـهـا ، بـحـالـتـهـا الـفـقـيـرة الـتـى يـرثـى لـهــا ، مما جـعـل دمـوع عـيـنـيـهـا يـتـســاقـط عـلـى خـديـهــا ، ثـم مـا نـتـج عـن هــذا الـبـكـاء الـمـســتـمـر " إحـمـرت مـدامـعـهـا – و شــحـب وجـهـهــا – و إصـفــر كَـالوَرْسِ مـن جـوع مـحـيـاهـا " و الورس : نبات مبرقش لونه أحمـر عليه زغب أصفـر .
و فـي الأبـيـات الـثلاثة التالية يصف الشــاعـر تـأثيـر مـوت زوجـهـا ، الذي أردى حـالتـهــا إلـى هــذا الـبـؤس .
و لـنـسـمـع الـمـوسيـقـى الـداخـلـيـة الـنـاتـجـة عـن حـســن الـتـقـســيـم فـي هــذا الـبـيـت : الموت أفجعها – و الفقر أوجعها – و الهم أنـحلها – و الغم أضناها
المَوْتُ أَفْجَعَهَـا وَالفَقْرُ أَوْجَعَهَا ===== وَالهَمُّ أَنْحَلَهَا وَالغَمُّ أَضْنَاهَـا
وفـي البيتين السـابع و الثامن - تأثير الدهر - على المرضعة ، و إستمرار تكرار المأسـاة متمثلاً في تعاقب الليل و النهار ،
و مظاهر قسـوة الدهر عليهـا ، أن أثوابـهـا بُلِيَتْ على بدنـهـا .
و فـي الأبيات من التاسع حتى الثاني عشـر ، عـودة مـرة أخـرى إلي وصـف حـالة المرضـعة " تـمشي بأطمارهـا "
ثوبـها البالي ، ثم التشـبيـهـان - البرد يلسعها كأنه عقرب - و - غدا جسمهـا بالبرد مرتجفاً == كالغصن في الريح ...
و يأتي بعد ذلك [ تـمشـي ، و تـحمـل ] فعـلان متلازمان في وقـت واحـد ، ثـم المـفعول المطـلق " حـملاً "
الذى يحدد لنا مكان أو مـوضـع الـحـمـل " على الرأس " ، ثـم المقابلة بين ( اليسرى / اليمنى ) كلتا اليدين اللتين تحمل بهما طفلتها الرضيعة ، مسـتسـلمـة لصـروف الدهــر ، و هـي مـحتضنـة طفلتها تضم أعضائهـا برباط ممزق .
و في الأبيات من الثالث عشـر و حتى البيت الواحـد و العشــرين : مناجاة أو تساؤلات الشـاعـر لنفسه أثر رؤيته لـحالة تلك المـرضعة اليتيمـة التي تحمل طفلتها الباكية طوال ليلها من الجوع ، { ما تصنع – لسان الشـاعر - ،
ما حيلتي - لسان الأم - ، ما بالها - لسان الشـاعر مرة أخـرى ، تـبـكـي - لسـان الطفلة – و هى اللغة العجمية
غير المفهومة " لغة البكاء " { .
و في البيتين الثاني و العشرين و الثالث و العشرين : تخيل الشـاعـر إبنته في هذا الموقـف و ما كان سيحدث لهـا في مـواجهة خـطـوب الدنيا .

و في البيت الرابع و العشرين : بيان لسبب كتابته القصيدة ، حيث كان الشاعر ماراً في طريقه ، و لـقـيها و أثَّرت فيه أحوالها .

و في الأبيات من الخامس و العشـرين و حتى الثلاثين : رد فعل الشـاعر الحقيقي متمثلاً في الأفعال التي قام بـها ليساعد المرضعة
و يتيمتها : { دَنوتُ ، قلتُ ، سمعتُ ، إجتذبتُ ، ثم .. قلتُ مرة أخرى } ، و كلها أفعال جاءت بناء على ما رآه الشـاعر
و راقبه بعينه ، من بؤس و مرض أحاط بـهـذه الأرملة المرضعـة .

و في الأبيات من الواحد و الثلاثين حتى الثالث و الثلاثين : رد فعل المرضعة تجاه الشـاعر لـمـا أبداه من عطف نحوها متمثلاً شكلياً في : { أرسلت نظرة – أخرجت زفرات – ثم التشـبيه " زفرات كالنار تصعد من أعماق أحشـاها " - أجهشـت باكية } .
ثم رد فعلهـا قولاً : " وَاهَاً لِمِثْلِكَ مِنْ ذِي رِقَّةٍ وَاهَـا " .

وفي البيتين الرايع و الثلاثين و الخامس و الثلاثين : رد فعل المرضعة قولاً ولـكـن في قالب تمني { لو عَـمَّ } ، { لو كـان{
و صيغة التمني هنا قريبة من صيغة الشــرط :


فـــعـــل الشــرط==== جــــمـــلــــة===== جــواب الشـــرط ==== بقية جــــمــلــــة
لو عَـمَّ=== في النَّاسِ حِسٌّ مِثْلُ حِسِّكَ ليّ=== مَـا تَـاهَ=== في فَلَوَاتِ الفَقْـرِ مَنْ تَـاهَـا
أو كَــانَ===في النَّاسِ إِنْصَافٌ و مَرْحَـمَةٌ=== لَمْ تَـشْــــكُ=== أرملةٌ ضنْـكَاً بدُنْيَاهَــــا

و الملاحظ هنا أن جـواب الشـرط في البيتين ، جاء به الشـاعر منفياً على لسـان المرضعـة ، و ذلك لأن الدنيا تـملؤهـا الشكوى ، و الضـياع .
وفي البيتين الأخيرين : يطلب الشـاعر من أقرانه الأحـرار ، العطف و المسـاعدة و المـواسـاة لـهذه الأرملة المـرضعة .