[size=5] شفرة عوض الشيمي ... الأنساق الإشارية لزمن الاستلاب

1- العلامة البصرية بوصفها وسيط للارتكاز :
المتتبع لأعمال الفنان المصري " عوض الشيمي " لا يملك إلا أن يخلص إلى نتيجة مفادها أن الصياغة الفنية لعناصره البصرية ما هي إلا تكأة للولوج إلى معادلة معقدة متعددة المستويات ، تحمل في حدها السيني طموح نحو تفجير الحد الأقصى من التشبع الجمالي البصري ، بينما يتكفل حدها الصادي بتحريض حدس المتلقي على التوجه نحو حالات شعورية و معايشة خبرات نفسية لزمن عتيق مستلب ، زمن مغاير لمفهوم ( الزمن الميقاتي ) ؛ فهو زمن مكثف أشبه ما يكون بالزمن الحبيس في الأقاصيص المطلسمة لألف ليلة و ليلة ، زمن نفسي تنداح خلال تلافيفه خمائر الخيال المصهورة في الرغبة و التوجس و الحنين و الجوع الأبدي للانتشاء . فالعلامة البصرية / الموتيف السيميوطيقي – من موقعها الرمزي كإشارة بصرية لمفهوم عقلي – تلعب دورها في أعمال " عوض الشيمي " كوسيط للارتكاز ؛ وسيط تبدأ باصرة المتلقي بالاهتمام به و الدوران في تفصيلاته لتنتهي بمغادرته إلى استشراف خبرة خالصة من التقلب بين مستويات السفر الشعوري ، و هو سفر أشد ما يكون شبها بعملية الكشف الصوفي المتدرجة بين المقامات و الأحوال .
و تبزغ مجموعة " نوافذ شرقية " – و هي مجموعة من 28 لوحة نفذها عام 1996 بتقنيات الحفر الغائر – كحالة متكاملة و شديدة الدلالة على المفهوم السابق ؛ فبداية من فكرة المجموعة و التي تقوم على المقابلة بين كثافة الحالات الظلية - التي تطغى كحضور بصري لجدران عتيقة – و بين الرنين الصداح لإشراقات الضوء كمعادل لانفراجات النوافذ و انتهاء بأسلوب المقابلة بين تدرجات الظل و النور التي تتراوح بين التداخل المتآلف و التضاد السافر ، نلحظ فرادة في المعالجة على مستويات عدة ؛ فبالرغم من كون الموضوع المعالج ( الظل في مقابل النور ) واحدا من أقدم الموضوعات الجرافيكية و أكثرها حظا من التناول و التجريب من قبل فناني الجرافيك منذ نشأة تقنياته و حتى الآن ، إلا أن " عوض الشيمي " يتناوله بصياغة تخلع عليه حالة من الطزاجة التي لم نألفها من قبل ؛ فالحضور الهندسي الرصين لانفراجات النوافذ الصريحة البياض في مقابل هيولية و سيولة العماء الظلي بدرجاته التي تتراوح بين الهمس الرمادي و الخوار السوداوي يطرح بدوره على المتلقي موقفا مترددا يستفز فيه حالة لا واعية من حالات الذاكرة الإنسانية البدئية بما استقر فيها من ميثولوجيا النظام في مقابل الفوضى / النور في مقابل العماء / التجلي الإلهي في مقابل الغواية الشيطانية ، فتبزغ بقوة آية سفر التكوين في العهد القديم : [ و قال الله ليكن نور فكان نور . و رأى الله النور أنه حسن . و فصل الله بين النور و الظلمة . و دعا الله النور نهارا و الظلمة دعاها ليلا . و كان مساء و كان صباح يوما واحدا ] ( 1 ) .
و في رأيي الشخصي أن المجموعة السابقة تقوم بدورها كحالة تقابلية – و إن لم تكن نقيضة – لمجموعة سابقة لها في زمن التنفيذ و مغايرة لها في خامة المعالجة و في مخاطبة منطق تذوقي آخر لدى المتلقي ؛ منطق التذوق اللوني على حساب التذوق المونوكرومي ، حيث أتت مجموعة " عمائم " التي نفذها عام 1992 بخامة الألوان المائية كنسق لوني معادل إلى حد بعيد لمجموعة " نوافذ شرقية " و إرهاصة بها ، و كأن الذهن الإبداعي لدى " عوض الشيمي " خلال عكوفه على تنفيذ مجموعة " عمائم " كان يستحضر بداخله غليانا تمهيديا لمجموعة " نوافذ شرقية " مدخرا لها الوسائط الأثيرة إلى قلبه ( وسائط الحفر الغائر ) و التي اشتهر كواحد من أبرع فنانيها على المستوى العربي و صاحب اتجاه مميز على المستوى العالمي .
و كأن استخدامه لخامة رقائق الذهب في بعض لوحات مجموعة العمائم كان نذيرا متوهجا و زخرفيا سابقا في الزمن لوهج الضوء الأبيض في مجموعة النوافذ ، في الوقت الذي أتى فيه
( 1 ) سفر التكوين – الإصحاح الأول – آية 3 : 5 .
التضاد في مجموعة العمائم قائما بين العضوي و الهندسي – بديلا عن التضاد بين النور و الظلمة في مجموعة النوافذ – محتضنا لرمز العمامة بدلالاته العرقية و التراثية و الذكورية ، إلا أنه احتضان خاو مثير لمشاعر التعاطف مع تقويض زمن كامل بدلالاته و رموزه في فضاء سديم لوني . إلا أن أهم ما يستوقفني حقا في مجموعة العمائم هو الحضور البارز لمجموعة الأشكال الخطية و العلامات الإشارية التي ميزت أعمال " عوض الشيمي " – خاصة خلال فترة السبعينات – و منها الخط المنكسر و الملتوي المنتهي برأس سهم – و كأنها أحافير لنقوش عتيقة غير مقروءة تحكي فواصل من عذابات الزمن الذي ولى .
2- اليدوي في مقابل الرقمي ... تغير الوسيط و وحدة التجربة :
و برغم تقلبه بين عدة مغامرات على مستوى تغيير الخامة و الوسيط – ما بين حفر غائر و رسم بالألوان المائية ، وصولا إلى وسائط الفن الرقمي – إلا أن المتلقي عادة ما يقع للوهلة الأولى في أسر الخداع اللحظي عندما يظن أن جميع الأعمال إنما هي من نتاج تقنيات الحفر الغائر على المعدن ؛ مما يفصح بجلاء عن مدى الحرفية و التمكن لدى " عوض الشيمي " و عدم وقوعه في فخ غواية التقنيات الرقمية التي كادت تستهلك بعض من وقعوا في أسرها نافية خلال ذلك ما كانوا يتميزون به من علامات دالة خلال الأداء اليدوي ، و هو ما يعكس وحدة التجربة لدى " الشيمي " و قدرته على السيطرة على الوسائط .
و في المقابل فإنني أرى أن هذه الميزة لديه تتيح فرصة للمقابلة بين مجموعتين من أهم تجاربه - القائمة على تقنيات الوسيط الطباعي اليدوي – في مقابل مجموعتين أخريين تمثلان خلاصة احتكاكه بوسائط البرمجيات البصرية ؛ حيث تمثل مجموعة " الجارية " – التي نفذها بداية من عام 1983 بوسائط الحفر الغائر – إلى جانب مجموعة " تمجيد المحارب القديم " – المنفذة عام 1991 بنفس الوسائط – حالتين مثاليتين للنبش المقارن مع مجموعتي : " أحلام شرقية " – عام 2000 – و مجموعة " شهرزاد " – بين 2003 ، 2004 – المنفذتين عن طريق برنامج " فوتوشوب " Photoshop .
فقد كان اهتمامه بالحالة الاجتماعية المستلبة للجارية – و التي كرسها رسوخ العمامة على حضورها الغائب كدلالة على السلطوية الذكورية – ناضحا بشفقة مثيلة لتلك التي نلمسها بعمق في تعبيره عن الغبن المحيط بسمعة المحارب المملوكي الذي سجنه التاريخ بين صخرتي البطولات الحربية الزاعقة و الفساد المكتنف للحياة المملوكية . إلا أن حرصه على الاكتفاء بسلالم التدرج الظلي بين الأبيض و الأسود – برغم الإمكانيات اللونية الهائلة لبرنامج الفوتوشوب – و ذلك عند تنفيذه لمجموعة " شهرزاد " يعكس مدى حنينه إلى استدعاء جاريته الأثيرة ليبحث معها مدى ما قد تصل إليه من حضور مغاير حين تتناولها تقنيات العصر بالماكياج الرقمي و المساحيق الإلكترونية . و في رأيي أن " عوض الشيمي " قد سجل تطورا واضحا في معالجته لمجموعة " شهرزاد " يعكس فهمه لخصوصية الوسيط الرقمي في مقابل وسائط الحفر الغائر التي سبق و أن نفذ بواسطتها مجموعة " الجارية " ؛ فبصرف النظر عن التداعيات النصية لاسم " شهرزاد " نجد أن الطابع العام للمجموعة يحمل حسا رقميا مميزا يكبل بوطأته أية محاولة للشبق الأنثوي و يمنع أية فرصة ممكنة للغواية النسوية ، على العكس من الجسد المتاح و الممكن الذي تبدت به الجارية .
و تأتي ذات الملحوظة مميزة لمجموعة الأحلام الشرقية ؛ فبالرغم من تعويله هذه المرة على إمكانات اللون و اختيار الحد الأقصى من التشبع لدرجات الألوان القوية لبرنامج الفوتوشوب – مما خلع عليها حسا زخرفيا غير منكور – إلا أن ذلك الوهج اللوني لم يفلح في إخفاء مدى القهر الذي استشعره البطل المملوكي حين سجنته الرقمنة العولمية ، فاستحالت بطولاته التاريخية محض أحلام شرقية بعيدة المنال ، على العكس من انتشاء نظيره المحارب القديم الذي كان تياها بصولاته على سطح القالب الطباعي . و بذلك يثبت " عوض الشيمي " مدى وعيه الحاد بتقلبات العصور و الأحوال ... و يثبت أن شفرته الفنية نسق إشاري لزمن الاستلاب .
د . ياسر منجي . عضو منظمة الأيكا AICA لنقاد الفن التشكيلي . 10 / 2006 [/size
]
ملحوظة : للاطلاع على أعمال الفنان " عوض الشيمي " يمكن زيارة موقعه الشخصي على الرابط :
http://elshimy.150m.com/