اللغة بيـــــن البرهان والبيان:
اللغة العربية مثالا



هل هناك لغات مؤهلة للعلوم وأخرى أدبية؟ ما علاقة اللغة بالعلم؟ هل أن هيمنة بعض اللغات على المجال العلمي مرتبطة بطبيعة اللغة أم أن المسألة لا تعدو أن تكون تعبيرا عن واقع لعل أهم سماته احتكار الدول الصناعية للبحوث العلمية؟
سنحاول من خلال التعرّض لمواقف محمد عابد الجابري مقاربة هذه المسألة مع العلم أنه لا يمكن التطرق إلى جميع جوانبها في مثل هذا المقال.
يصنف محمد عابد الجابري "العقل العربي" إلى ثلاث نظم معرفية :
- نظام معرفي لغوي بياني عربي الأصل بني على أساس اللغة العربية وهي لغة قاصرة لأنها لغة أعراب محدودة بعالمهم .
- نظام معرفي لغوي بياني عربي الأصل بني على أساس اللغة العربية وهي لغة قاصرة لأمها لغة أعراب محدودة بعالمهم .
- نظام عرفاني غنوصي دخيل وافد علينا من الإشراق الفارسي الذي يعود إلى قبل الإسلام .
- نظام معرفي برهاني يوناني الأصل جسدته الرشدية و الخلدونية وهي مغربية الأصل أندلسية (1) .
سوف لن نتعرض إلى جملة هذه الأحكام بل سنقتصر إلى ما يتعلق باللغة ودورها في تحديد طبيعة الفكر. فالجابري يعتبر أن اللغة العربية لغة أعراب حسية "لا تاريخية" و لا يمكن أن تحدث سوى خطابا ذي طبيعة لغوية بيانية وليس ذي طبيعة فكرية ومنطقية ولكن كل ذلك لم يمنع الجابري من أنه عبر عن أفكاره بواسطتها فهو ما يفتأ أن " يتراجع" ليعتبر أن حضارتنا "كانت قادرة على استيعاب أفكار الحضارات الأخرى" وبنفس اللغة .
إن اللغة " التي جمعها الأعراب دون غيرهم محدودة بعالمهم ... لا زالت تنقل إلى أهلها عالما بدويا يعيشونه في أذهانهم بل في خيالهم ووجدانهم ... عالما ناقصا فقيرا ... حسيا ، طبيعيا لا تاريخيا" (2) .
هل هناك لغة برهانية و لغة بيانية وهل اللغة ليست سوى العقل الذي نطق بها . كل لغة قادرة على الانفتاح على دلالات جديدة. اللغة لا تسبق الفكر أو الفعل التاريخي فالكل ينصهر في حركة واحدة فإذا كان تحديد المفاهيم والمعاني شرطا من شروطها فإن انفتاح الكلمات والمنطوقات على دلالات و معاني جديدة لا يعرف الحدود. فاللغة لا تستوعب المعنى إذ هي المعنى ذاته و بها ينشأ. فهي ليست أداة ووسيلة للتواصل كما يقول البعض. هي أداة اجتماعية الفرد.
" فاللغة بصفتها نسق أو نظام لا تختزل في حالتها السنكرونية و لا يمكن لها البتة أن تختزل في دلالات محددة ، جامدة ، جاهزة ولكنها تحتوي دائما إضافة عاجلة ووشيكة وبارزة فهي منفتحة دائما وفي اللحظة ذاتها التي نُطق بها، على تحولات للمعاني وبإيجاز فهي يمكن أن تنتج خطابا فريدا وغير مألوف متميزا وجديدا و ذلك باستعمال وسائل معروفة ومعهودة، إنها تسمح باستعمال غير معهود لشيء معهود" (3) ثم إن ما يسمى باللغة " الأصلية والطبيعية" تُؤسَّس في كل مرة اجتماعيا ولا يمكن أن توجد إلا بصفتها مؤسَّسة اجتماعيا : " إن مجرد وجود فكرة جديدة أو خطاب مخالف ومتميز يكفي ليبرهن لنا أن اللغة أساسا منفتحة وتحتوي في كنهها قابلية تغييرها من الداخل وتقدم جزئيا الوسائل لذلك وبصفة نشطة ... ولا تمت بشيء إلى الدلالات الجاهزة و المعهودة" (4) فالجزم بأن اللغة العربية لا تسمح بخلق كلمة دون تبرير يستند إلى سوابق مأثورة كما يعتقد البعض هو من باب اللغو لأن من لا يسمح بذلك، من يرفض أي إصلاح يمس اللغة ليست هذه الأخيرة ولكن المتكلمين بها ممن آمنوا بقدسية اللغة ورفضوا أي إضافة أو تغيير.
فلقد عرفت اللغة العربية تطورا في أساليب تعبيرها. فلغة القرآن ليس لغة الجاحظ ولا هي لغة طه حسين ولا هي لغة ميخائيل نعيمة أو حتى لغة الجابري نفسها.
إن تخلّف اللغة وتحنط طرق بيانها وأساليب تعبيرها ما هو إلا مظهرا من مظاهر تحنيط الفكر الذي يقدس اللغة و يقيدها بقوانين لا تقبل التجاوز وبإصلاحات وقواعد بحيث ترسخ فيها التعقيدات وتبقى في الأخير لغة النخبة والقلة من الفقهاء والعارفين. لكن وكما عبر عن ذلك ميخائيل نعيمة "أوسع اللغات و أجملها أبسطها وهي لغة الأفكار التي لا تربطها قاعدة ولا يحضرها قانون ... أما اللغة المحنطة والتي لا يقبل أصحابها أن تتغير فهي كبركة ماء لا منفذ للماء فيها تملؤها الرياح والسيول أقذارا وتكثر فيها الحشرات ..." (5) .
شغلت العلاقة بين اللغة والفكر العديد من المدارس الفكرية. من بين المفكرين العرب الذين اشتغلوا على هذه المسألة نذكر علي حرب الذي يعتبر اللغة "معجزة"العرب بينما الفلسفة "معجزة" اليونان . أما الجابري فإن تعرضه للغة العربية كان يهدف إلى استخراج ما سماه " بالبنية البيانية" ليربط هذه الأخيرة بمدى تقدم الفكر العربي أو تخلفه أو بالأحرى لدراسة ما أطلق عليه "بنية العقل العربي". فهو يتعرض إلى اللغة العربية و إلى قواعدها النحوية و البلاغية لكي يبين لنا أن لغة الأعراب هي التي تحكمت في فكرهم متحاشيا التطرق إلى المعطلات الحقيقية وهو إذ يستقي مسلماته من البنيويّين يسقط في أحكام جائرة ومشوهة للحقائق التاريخية.
" إن اللغة ليست سوى مظهرا من مظاهر الابتكار ... فإذا هجعت قوة الابتكار توقفت اللغة عن مسيرتها ... وإذا راود النعاس قوة الابتكار نامت وبنومها يتحول الشعراء إلى ناظمين والفلاسفة إلى كلاميين" (6). لقد ردّجبران خليل جبران على المتعصبين ممن آمنوا بعذرية اللغة ونقاوتها و قدسيتها وبسحر بيانها الأوحد فقال بأسلوب رائع : "لكم من اللغة ما شئتم ، ولي منها ما يوافق أفكاري وعواطفي . لكم منها جثث محنطة باردة، جامدة تحسبونها الكل بالكل ولي منها أجساد لا قيمة بذاتها بل كل قيمتها بالروح التي تحل فيها" (7) . فعلا إنها الروح أو ذلك المخيال الجذري هو الذي ينفخ في اللغة فينطقها بما لم تنطق به و يطوّعها . لكن الفقهــــــاء وعلماء الدين والتراثيّين من كل فصيل يعتبرون أن اللغة العربية مقدسة. فهي لغة النخبة لذلك وجب حفظها وصونها من الشوائب التي قد تشوبها ومن أساليب تعبير العامة ومن التأثيرات السلبية التي قد يحدثها عليها الفلاسفة فيفقدونها نقاوتها. فهذا عبد الرحمان بن باديس أحد زعماء الأيمة والعلماء الجزائريين يفرق بين "لغة العامة ولغة العلماء الصافية" التي يصفها بأنها "لغة الأقلام والورق، لغة الكراسات والبحوث بخلاصة لغة النخبة" (8) كان الأحرى بالجابري أن لا يتجنى على ذلك "الأعرابي" المسكين الذي جعله مفكرنا سببا في تخلف اللغة العربية هذه اللغة التي لا تصلح إلا للبيان والحس والشعر ولا للبرهان العقلي ولا ندري كيف استطاع الجابري أن يطوّعها (كما كان ذلك بالنسبة لمفكري المغرب و الأندلس) ويجعل منها لغة برهانية . اللغة لا تفكر ولا تقيس نيابة عن الفرد والمجموعة، هي ليست سجنا كما لدى البنيويين والجابري بل هي حرية و إمكان وانفتاح على الجديد.
هناك موقفان من اللغة يبدوان متعارضين في ظاهرهما و لكنهما يصبان في نفس الخانة وقد عبر عنهما كل من إرنست رينان ورولان بارت. رينان يعتبر أن اللغة الفرنسية لا يمكن لها أن تكون لغة المبهم و اللامعقول كما لا يمكن أن نتصور ولو لحظة أن تكون لغة رجعية و نفهم من هذا الكلام أنه بمجرد النطق باللغة الفرنسية فإن ذلك يجعل من خطابنا خطابا عقلانيا "تقدميا". يجيب بارت رينان في درسه الافتتاحي بـ " الكوليج دي فرانس : "إن اللغة لا هي رجعية ولا هي تقدمية وإنما هي فاشية لأن الفاشية لا تتمثل في منع الكلام والتعبير بل في فرض الكلام ......... فوحده التجريد الكامل للخطاب العلمي يقدر على تجنيب العلم مخاطر الخيال"(9). لكن ما العمل والتجريد الكامل للغة أمر مستحيل. هيهات أن تتخلص العلوم من اللغة حتى وإن حاولت اختزال تعابيرها في رموز مقتضبة. إذا كانت اللغة بتقنياتها ومفرداتها وأساليب تعبيرها وقوانينها الداخلية تحوي في طيّاتها طريقة تفكير معينة بحيث يؤدي التخاطب بها رأسا إلى موقف خاص وعقلية محددة (فنقول مثلا هذه لغة أعراب لا تعبر إلا عن فكرهم المحدود) فمعنى ذلك أنه يفترض وجود لغة مثالية شفافة ، صافية ومعبرة .
إذا كانت اللغة بنحوها وصرفها ومشتقاتها ومرادفاتها واستعاراتها تُحيل إلى "عقل حسي مستقيل" يعجز عن مقاربة الواقع مقاربة نافذة و"عقلانية" فالأجدر بنا أن نصمت ريثما نعد للغة العقل والعقلانية. يعتقد الوضعانيون الجدد أن اللغة المتداولة بين الناس هي أحقر وأحط من أن تلم بالوقائع ومن ثمة هم ينادون بلغة مثالية خالية من التحديد والإكراه والإرغام وتسمح بما لا حد له فتصبح ذاتا وموضوعا، غاية ووسيلة، لغة سلسة تتكلم بذاتها تنساب كالعين الطبيعية وفي هذه الحالة يتناقص دور المخاطب والمتكلم و معه الدلالات و المعاني.
" إن الرأي الداعي بأن لغة العلوم (والعقل ) يجب أن تكون منطقية ومحددة يعود طبعا إلى ذلك المفهوم الذي تركته لنا " الأنوار " حول العقل الشفاف والمتماسك والصافي و بطبيعة الحال لقد أدى ذلك إلى البرنامج الشكلاني الذي ظهر مع مطلع القرن العشرين والمتجسد في محاولة خلق لغة "صافية" ، معانيها متخلصة من كل إبهام أو لبس أو شبهة ومعقّمة ضد كل أنواع الشكوك والتشويش واللخبطة التي تتعلق باللغة وأنماط الفكر المتداولين ولا تمت لأي انتماء أو ارتباط ثقافي أو حضاري محدد بحيث تتحول إلى لعب بالعلامــــات أو إلى صورة ذهنية نقية ومجردة وبطبيعة الحال لا يمكن لهذه اللغة أن تكون لغة خطاب وتداول و لكن فقط لغة مكتوبة.
و لكن أزمة الأسس من ناحية والفشل في إيجاد لغة شكلانية نقية قد عطل هذا المشروع ... فهاهي ذي العلوم الرياضية وهي العلوم الأكثر تجريدا تُقِر مع نظـــرية قودال أن كل نظام تجريدي شكلاني مهما بلغ درجات التجريد لا يمكن أن يكون نظاما شاملا نهائيا ولا يمكن التدليل عليه وعلى صحته إلا من داخله ... وانطلاقا من هذه المعاينة أصبح مــــن الضروري القبول بالمساومة والتعامل مع اللغة المشتركة و المتداولة بين الناس" (10) . فحتى محاولات البعض أمثال هيلبرت وروسل وبورباكي تفسير أزمات الرياضيات بغموض اللغة قد باءت بالفشل. فهذا بورباكي الذي دعا إلى تجريد كامل لم يتوانى عن استعمال لغة كلاسيكية بما في ذلك كل الاستعارات والصور التعبيرية. فلو تعرضنا إلى التعابير والمصطلحات الجديدة للفيزياء المعاصرة لفوجئْنا بمدى تداخل اللغة "العلمية" باللغة المتداولة. "ففي هذا المجال وقع اللجوء إلى مصطلحات و تسميات من الفيزياء الكلاسيكية للقرن التاسع عشر أو إلى مصطلحات غامضة مستوحاة بصفة اعتباطية من اللغة المشتركة ومن وسائل الإعلام والدعاية. فهذه كلمات مشتقة من مساحيق الزينة وهذا الكوارك مشتق من الجبن وهذه التعدية الجينية يُعبر عنها "بالبرنامج" الوراثي والاستعارة لا تستوفي المسألة وربما لا تمت لها بشيء" (11) .
يرى جان مارك ليفي لوبلوند وهو مختص في الفيزياء أن الفيزياء المعاصرة قد خلقت أفكارا أكثر من المصطلحات. فباستثناء مصطلح كالكوانتا استعملت النظرية الفيزيائية المعاصرة كلمات معهودة وقد لا تؤدّي المعنى من ذلك مصطلح "النسبية" الذي لا يروق حتى لأينشتاين. نفس الشيء يمكن قوله بالنسبة لمصطلحات كالطاقة والذّرة والجزيئة والشفرة الوراثية أو البصمة الوراثية....
لا يخفى على أحد أن هيمنة اللغات الرئيسية يهدد باندثار مئات بل آلاف اللغات المحلية (يمكن أن نقارن ذلك باندثار البذور المحلية والتنوع البيولوجي عامة ... ) . لكن حتى اللغات المهيمنة كالإنكليزية مثلا فهي تعيش أزمة داخلية مرتبطة بتقلص البحث في ميدان اللغة وتراجع عملية إبداع الكلمات والعبارات والمصطلحات (كما أن انتشارها الواسع يسبب لهــــــا مصاعب داخلية) . إننا نعيش اليوم انحلالا و تشويها للغات ودخول مصطلحات وتعابير مشوهة، غامضة، مبتورة، عقيمـة ومرتبطة بمجتمع الاستهلاك وقد صاحب ذلك تقهقر الإبداع الأدبي والفكري (حيث اقتصر على النقد ونقد النقد ) والشعري والفن عامة ( وهذه وضعية نعيشها عالميا وعربيا). مع ذلك لا يمكن أن ندعي أن اللغات أصبحت "استهلاكية ". هناك فعلا تيار يدفع باللغة إلى أن ينحصر مجالها ودورها في الاتصال (عكس التواصل) و بالتالي تحويلها إلى شبه حامل كهربائي وشبه "بنية" رقمية أي لغة مبتورة خالية من التفكير والإحساس والإبداع وهذا التيار يدعو أيضا للقطع مع الماضي اللغوي ويعلن نهاية الفلسفة والتاريخ والأدب والفن.
إن اللغة هي قبل كل شيء تعبير مشحون بمعاني وخيارات ورؤى ودلالات وهذا ما تعجز عن القيام به أحدث الآلات بما في ذلك الذكاء الاصطناعي. هي انفتاح على المكان والزمان بخواطر وخيالات لا يمكن حصرها. النيوليبيرالية الفاحشة تريد أن تحدّ من جانب التعبير في اللغة. إنها تريد أن تخنق المخيال الجذري وتسطح الحياة . فهناك صراع ضمني بين مفهوم للخطاب الشفوي والمكتوب بصفته صورة مقتضبة للموجود ووسيلة تبليغ وبين مفهوم للغة كمجال للخلق والفعل وكحيز للحرية .
لا وجود للغة "ضحلة "، "جافة" ،"حسية"، "طبيعية"، " لا تاريخية" ( الجابري ) كما أنه لا وجود للغة علمية صافية و لعقلانية صافية. فنحن لا نرى غرابة في أن يكون "الرازي طبيبا عقلانيا و لكنه فيلسوفا هرمسيا" (الجابري ). فكم من عالم معاصر "عقلاني" آمن بأفكار ورؤى هرمسية .
يرى بيار توييي وهو عالم في الإبستمولوجيا وتاريخ العلوم أنه كانت للعلوم علاقات مع الإيديولوجيات والأديان والميثولوجيات " فالعديد من البحوث و حتى المعاصرة منها تبرز أنه ولفهم أصل وكنه ومدلول فكر Newton مثلا فإنه من المفيد، بل من الضروري الأخذ بعين الاعتبار المزايدات والتخمينات الألخيمية وبصفة عامة الهرمسية لهذا العالم" (12) . فحتى علم الفيزياء المعاصر فهو لا يخلو من تأثيرات يخالها البعض "خارجة" عنه ( " مثالية غنوصية" ) . لا وجود للغة برهانية ولغة حسية ولا وجود لعقلانية محضة صافية ( كما لا وجود لعلوم و تكنولوجيا محايدة). لاوجود للغة واضحة، دقيقة، شفافة، منفتحة على العلوم بصفة آلية ، "مبنينة" Structurée على حد تعبير الجابري خُلقت لتكون علمية . أن نرمــــــــــي بمسؤولية " تخلف" الفكـــر وترسخ أفكار ورؤى تقليدية على اللغة " القــــاصرة" أو على التأثيرات الخارجية والدخيلة على الفضاء العربي الإسلامي (العنصر الفارسي والهندي) فذلك يُعدّ هروب من مسؤولية التقييم التاريخي . فإذا كانت اللغة هي العقل الذي نطق بها تحيل إلى ذاتها تنغلق في مجال محدد (مجال الأعرابي مثلا) ولا ترتبط بأي شيء آخر سوى بنيتها الداخلية فلا فائدة إذن من الحديث عن الظروف التي كيفت خطابا ما ولا نفع يُرتجى من التعرض إلى العالم المعاش والتاريخ . إن سخافة " البنيوية" و سذاجتها تبرز في أنها لا تفصح شيئا عن أسباب وجود هذه البنيات ( " كبنية" اللغة مثلا) على تلك الحالة وعن التغييرات التي تطرأ عليها عبر الأزمنة كأنما المجتمع يمكن اختزاله في قطع و أجزاء. البنيوية ليست سوى طريقة و أسلوب للترتيب و التصنيف بل هنـاك شغف التصنيف (كتصنيف الجابري : برهاني – بياني – عرفاني ). و إذا كانت البنيوية كمـــــــا رأى ذلك هنري ليفافرHenri Lefebvre " إيديولوجيا الأمر الواقع ... و هيكلة العالم تحت شعار السلام و التكنيك" (13 ) فإن البنيوية مطبقة على المجال العربي الإسلامي هي الأخرى تعبر عن إيديولوجيا التصالح بين التراث خصوصا في جانبه السياسي- الديني وعقلانية وضعانية Positiviste . بعد عشرات السنين من انطفاء بريق البنيوية في فرنسا مركز ظهورها هاهي اليوم تحتل الصدارة في المجلات الثقافية والفكرية العربية. فلقد لقِي فيها العديد من المفكرين التراثيين ضالتهم المنشودة. فهي بما تختص به من انغلاق و تأكيدهــا على النسق Système والبنية والخطاب و"العقل" تتجنب التعرض إلى المخاييل والدلالات والمعاني الجــــامعة والمؤسسة أي ذلك الإطار الذي كيف تطـــــــــوّر هذه " البنيات" .
لاوجود للغة خارجة عن الفعل الإنساني – الاجتماعي – التاريخي كما أن اللغة لا تنحصر وتتحدد في معجمها ومفرداتها .
كل لغة مهما "سمت" و " تعقلنت" و " تحضرت" أخذت و لازالت تأخذ من اللهجات واللغات الأصلية (Les langues vernaculaires) واللغات الأخرى تماما كما أخذت في السابق اللغة العربية مصطلحات يونانية ورومانية.
صحيح أنه قد وقع التخلي عن عديد اللغات القديمة والمحلية والأصلية ووقع استخراج لغات رسمية موحدة للأمم وفرضها في شكل لغة رسمية مكتوبة ولكن صحيح أيضا أنه لولا لغة العامة واللهجات لما أمكن للغات الرسمية والمكتوبة أن تتواجد عبر التاريخ. لهذا وكما أن تطوير أساليب تعبير اللغة مسألة ملحة وضرورية فإن الحفاظ على الخصوصيات المحلية والجهوية لا يقل قيمة. إن المخيال البشري قادر على تطويع أعسر اللغات واستخراج واستنباط واستعارة معاني وتعابير قادرة أن تبلغ أفكارا وتصورات جديدة وفذة. لكن هذه المسألة تطرح أكثر من أي وقت مضى ضرورة انصهار العلوم (" صحيحة" و "غير صحيحة" ( ! ) ) في الثقافة العامة وردم الهوة الفاصلة بين لغة " عقلانية" أو " علمية" و لغة متداولة (وهذه المسألة تخص كل اللغات ) ، لغة العلماء و الفلاسفة من ناحية و لغة العامة (وهذا الموضوع يستدعي دراسة خاصة – انظر بهذا الصدد كتابات المفكر النمساوي Ivan Illich حول هذه المسألة). ما من شك أن اللغة العربية بحاجة إلى تغييرات شتى تشمل مختلف جوانب التعبير والصيغ والقوانين النحوية وطرق الاستعارة وغيرها من القضايا. انعدام الاتفاق حول المصطلحات العلمية وحتى الفلسفية في اللغة العربية لا يمكن عزله عن واقع التفتت الذي نعيشه شعوبنا وعن هيمنة الدول الكبرى على مجالات البحث. لكن ذلك لا يشكل سوى جانبا من المسألة. فالقضية تتعلق أيضا بانعدام الاجتهاد وتراجع الإبداع الفكري والأدبي والعلمي في ربوعنا وهذه قضية تتجاوز حدود اللغة. مستقبل لغتنا العربية لن ينفصل عن مستقبلنا إجمالا وهو رهن بمدى وعي الغالبية بقضاياها ورهاناتها.




(1) محمد عابد الجابري : بنية العقل العربي، دار الطليعة، بيروت، 1985.
(2) محمد عابد الجابري : تكوين العقل العربي، دار الطليعة، 1985، ص 233.
(3) Cornélius Castoriadis : Science moderne et interrogation philosophique : histoire et société in Les Carrefours du labyrinthe, Domaines de l’homme, Seuil, 1987, page 199.

(4) Cornélius Castoriadis : L’institution imaginaire de la société, Seuil, 1975, page 300.
(5) ميخائيل نعيمة : ذاكرة الأقرش، مجموعة الرابطة القلمية، دار صادر لسنة 1921، بيروت 1964، ص 65.
(6) جبران خليل جبران : مستقبل اللغة العربية، مجموعة الرابطة القلمية، ص 231.
(7) ذكره أبو حمدان : اللغوي و الفكر العربي، الفكر العربي المعاصر، عدد 46، ص 68.
(8) Petit .o. : Langue, culture et participation du monde arabe contemporain, Ibla, n°128, 1971, page 262.

(9) Vicenzo Consolo : La disparition des lucioles, Autodafe n°1, automne 2000.

(10) Jean Marc Levy-Leblond : La langue tire la science, Revue Passerelles n°15, hiver 1997, page 17.

(11) Idem.

(12) Pierre Thuiller : Newton le dernier des magiciens, in Les savoirs ventriloques , Seuil, octobre 1983, page 76.
(13) Henri Lebfevre : Vers le cybernanthrope, contre les technocrates, médiations-Denoel, 1971, page 140.