يوميات مجنون
للكاتب الروسى نيكولاي جوجول
(ترجمها إلى الإنجليزية أندرو د. مكأندرو)

3 أكتوبر
شيء غير عادي حدث اليوم. فقد استيقظت متأخراً نوعاً ما ، وعندما أحضرت لي مارفا حذائي ، سألتها عن الساعة. وعندما سمعت أن الساعة قد دقت العاشرة منذ برهة طويلة ، ارتديت ملابسي على عجل. ولابد من أن أقول إنه كان يجب ألا أذهب إلى مكتبي على الإطلاق ، لأنني كنت أعرف النظرة القاسية التي سيعطيها لي رئيس القسم الذي أعمل به. فقد كان على مدى فترة طويلة يقول لي : "كيف يتأتى ، أيها الرجل ، أنك دائماً في مثل هذه الفوضى ؟ أحياناً تندفع مثل بيت اشتعلت فيه النار ، وتجعل عملك يتشابك بحيث لا يستطيع الشيطان نفسه أن يصلحه ؛ ومن المحتمل أن تبدأ عنواناً جديداً بحرف صغير ولا تذكر التاريخ أو رقم الإشارة". الوغد العجوز الشرير ! لابد أنه يحسدني على الجلوس في حجرة المدير وعلى برى أقلامه. لذا كان ينبغي ألا أذهب إلى المكتب لولا أنني كنت آمل في أن أرى الصراف وأحاول أن أحصل على مرتبي من اليهودي قبل موعده ولو بوقت قصير. وياله من مخلوق ! إذ أن يوم القيامة سوف يأتي قبل أن تحصل على راتب شهر منه مقدماً. حتى لو كان هناك ظرف طارئ مُلِحّ ، فإنك سترجوه إلى أن ينفجر شيء داخلك ، ولكنه لن يستسلم ، ذلك المسخ الأشيب. ومع ذلك ففي بيته يصفعه طباخه. وكل الناس يعرفون ذلك. لست أرى أية ميزة للعمل في قسمنا. لا امتيازات على الإطلاق. وهو لا يشبه العمل مثلاً في إدارة المدينة أو في وزارة العدل. فهناك قد ترى شخصاً يقبع في ركن وهو يخربش بقلمه على الورق. وقد يكون مرتدياً معطفاً بالياً وله أنف ضخم تشعر برغبة في البصق عليه. ولكن عندئذ ، ألق نظرة على البيت الصيفي الذي يستأجره ! ولا تفكر حتى في أن تقدم له فنجاناً من الصيني المذهب ، إذ أنه قد يقول إن هذا يليق بطبيب. ولكنه ـ لابد وأن يكون لديه زوج من الخيول ربما ، أو عربة يجرها الخيل ، أو فراء سَمُّور* قيمته 300 روبل أو نحو ذلك. ويبدو هادئاً كثيراً ويتكلم باحترام وبصوت مهذب وهو يقول : "هل تتفضل بأن تقرضني المبراة لأبري قلمي بها ، إذا سمحت ؟ "ولكنه سوف يعري مقدم الطلب ، فيما عدا قميصه ربما. وبالرغم من ذلك ، فمن ناحية أخرى فإن العمل في قسمنا له مكانة أفضل. إذ أن العاملين في إدارة المدينة لم يحلموا أبداً بمثل هذه النظافة. ثم إن لدينا موائد حمراء من خشب الماهوجني ، ورؤساؤنا دائماً يخاطبوننا بأدب. نعم ، لولا تلك المكانة ، فإنني أعترف أنني كنت سأترك القسم منذ فترة طويلة.

وارتديت معطفي القديم ، ولما كان المطر ينهمر فقد أخذت شمسيتي. وكانت الشوارع مهجوة تماماً فيما عدا بعض النساء الريفيات اللائي ألقين بتنوراتهن فوق رءوسهن ، وقليل من التجار تحت الشماسي ، وصاحب عربة يجرها الخيل هنا أو هناك. أما عن الأناس المحترمين فقد كان هناك فقط أشخاص من نوعيتنا ، أي من نوعية كاتب الخدمة المدنية ، يخوضون في وحل الطريق. ورأيته عند منطقة عبور أحد الشوارع. وبمجرد أن رأيته قلت لنفسي : "إنك لست في طريقك إلى المكتب ، أيها الرجل. إنك وراء تلك المرأة التي تسرع الخطى أمامك هناك وتحملق في ساقيها". ياله من متشرد عامل الخدمة المدنية ! عندما تصل الأمور إلى هذا، فإنه يستطيع أن ينتحل شخصية ضابط بالجيش في أي يوم. وسوف يحاول أن يلتقط أي شيء تحت قلنسوة نسوية. كنت أمر بمتجر وأنا أفكر في كل ذلك ، عندما توقفتْ أمام المتجـر عربة يجرها الخيل. واستطعت تمييزها في الحال فقد كانت تخص مدير الإدارة نفسه. ولكني فكرت أنه لا يمكن أن يحتاج إلى أي شيء من هناك ـ إذن لابد أنها ابنته. ولصقت نفسي بالجدار. وفتح الخادم باب العربة وتهادت خارجة مثل عصفور صغير. آه ، كيف كانت تتلفت حواليها ، أولاً إلى اليمين ، ثم إلى اليسار ، وكيف التمعت عيناها وحاجباها ! … يا إلهي ، لقد ضعت ، ضعت إلى الأبد. ولكن لماذا اضطرت إلى الخروج في المطر المنهمر ؟ قل وأنكر بعد ذلك ، إن النساء مولعات بالملابس. لم تتعرف عليَّ. وعلاوة على ذلك ، فقد كنت أحاول أن أخفي نفسي ، فقد كان معطفي ملطخاً كثيراً وموضة قديمة أيضاً. وفي هذه الأيام ، يرتدون معاطف ذات ياقات طويلة بينما كانت ياقتاي قصيرتين جداً ، واحدة فوق الأخرى. أما كلبتها التي كانت تضعها على حجرها فقد أبطأت بحيث لم تستطع الدخول إلى المتجر عندما كان الباب مفتوحاً واضطرت للبقاء في الشارع. وأنا أعرف هذه الكلبة الصغيرة. اسمها مادجي. ثم بعد ذلك بدقيقة أو نحوها ، سمعت صوتاً رفيعاً رقيقاً يقول : "هالو يا مادجي". سوف تصيبني اللعنة ! من ذا الذي يتكلم ؟ وتَلَفَّتُّ حواليَّ ورأيت سيدتين تسيران تحت مظلتيهما : واحدة مسنة والأخرى صغيرة ومليحة. ولكنهما كانتا قد مرتا بالفعل عندما سمعت للمرة الثانية، بجواري تماماً : "ينبغي أن تشعري بالخجل يا مادجي !" بحق السماء ماذا كان يحدث ؟ رأيت مادجي وكلباً آخر يتبعان السيدتين ويتشممان أحدهما الآخر. "ربما أنا ثمل" ، قلت ذلك لنفسي، "وكان هذا غير محتمل. فهذا لا يحدث لي كثيراً. لا يا فيديل ، إنك مخطئ". وبعيني رأسي رأيت مادجي تكوِّن الكلمات : "لقد كانت ، هّوْ هَوْ ، كنت ، هَوْ هَوْ ، مريضة جداً". لاحظ أننا نتحدث عن كلب الحِجْر ! لابد أن أقول إنني كنت مندهشاً لسماعها تتكلم. ومع ذلك ، ففيما بعد عندما قدَّرْتُ الموقف بشكل مناسب فارقتني الدهشة. وفي حقيقة الأمر ، فقد شهد العالم أحداثاً مشابهة كثيرة من قبل. فقد سمعت أنه في إنجلترا اقتحمت سمكة سطح الماء ونطقت زوجاً من الكلمات بلغة غريبة حاول العلماء فك طلاسم معناها على مدى ثلاث سنوات ـ بلا جدوى حتى الآن. ثم إنني قرأت أيضاً في الصحف عن بقرتين دخلتا أحد المتاجر وطلبتا رطلاً من الشاي. ولكني سوف أعترف بأنني أصابتني الحيرة أكثر من ذلك بكثير عندما قالت مادجي : لقد كتبت إليك يا فيديل. ربما لم تعطك فيدو خطابي". والآن ، فأنا على استعداد للتنازل عن مرتب شهر إذا سمعت عن كلب يمكنه الكتابة. إذ أن الرجل المهذب وحده هو الذي يمكنه الكتابة بصورة صحيحة على أية حال. وبطبيعة الحال ، فإن المرء يجد بعض عمال المتاجر الذين يخربشون على الورق ـ وحتى العبيد ـ ولكن هذا النوع من الكتابة يتسم بالميكانيكية في الأغلب ؛ لا فصلات ، ولا نقاط ، ولا هجاء. لذا فقد أصابتني الدهشة. وسوف أعترف بأنني في الفترة الأخيرة كنت أرى وأسمع أشياء لم يسمع بها أو يراها أي شخص آخر. وكنت أقول لنفسي : "فلتتبع هذه الكلبة الصغيرة وتكتشف من تكون وما هي أفكارها". وفتحت شمسيتي وتبعت السيدتين. وعبرنا شارع بي ، ومن هنا إلى طريق التاجر ، ثم استدرنا إلى حارة النجار ، وأخيراً توقفنا أمام مبنى ضخم قرب جسر الوقواق. "أعرف هذا البيت" قلت ذلك لنفسي. إنه بيت آل زنيركوف". ياله من بيت ! من ذا الذي لا يمكن أن تجده هناك ؟ هناك طباخون كثيرون جداً ، بولنديون كثيرون جداً ! ويمتلئ بالكثير من زملائي موظفي الخدمة المدنية ، وهم هناك يجلسون كل منهم فوق الآخر ، مثل الكلاب. لي صديق هناك يستطيع أن يعزف على البوق بمهارة كبيرة. وصعدت السيدتان إلى الطابق الخامس. "حسناً" ، هكذا فكرت. "لن أدخل الآن. سوف أدون ملاحظة عن المكان وأتحين أول فرصة تسنح لي".



4 أكتوبر
اليوم الأربعاء وهذا هو السبب في أنني كنت في حجرة مكتب مديرنا بمنزله. لقد جئت مبكراً عامداً متعمداً ، وجلست وبريت كل الأقلام. لابد أن مديرنا رجل عبقري. إن حجرة مكتبه مكتظة بخزانات الكتب ، ونظرت إلى بعض العناوين : معرفة واسعة في جميع أرجاء المكان ـ مما يقضي تماماً على شخص عادي ؛ وهي كلها بالفرنسية أو الألمانية. فقط انظر إلى وجهه ، يا إلهي ! يا لهذا القدر الهائل من الأهمية الذي يبرق في عينيه ! لم أسمعه مطلقاً ينطق بكلمة غير ضرورية. فيما عدا ، ربما ، عندما يناوله المرء بعض الأوراق ، فقد يقول : "كيف حال الطقس في الخارج ؟" "إنه رطب جداً ، يا سيدي". نعم ، إنه مختلف عن أمثالنا. شخصية عامة ! ومع ذلك ، فإنني أشعر أنه يُكِنُّ لي معزة خاصة. لو فقط ابنته … آه ، يالي من بائس ! لا تبال ، لا تبال … اهدأ ! … كنت أقرأ صحيفة النحلة. أليس الفرنسيون جنساً غبياً ؟ ترى إلى أي شيء يهدفون ؟ أود لو أخذتهم جميعاً وأعطيت كل واحد منهم علقة ساخنة. في الصحيفة نفسها قرأت أيضاً وصفاً لطيفاً جداً لحفل راقص أقامه أحد ملاك الأراضي في كيرسك. وأصحاب الأراضي في كيرسك يكتبون جيداً بالتأكيد … عندئذ لاحظت أن الساعة كانت تدق الثانية عشرة والنصف ولكن مديرنا لم يكن قد غادر حجرة نومه بعد. ولكن في حوالي الواحدة والنصف ، حدث شيء لا يستطيع قلم أن يوفيه حقه من الوصف. فقد انفتح الباب ؛ وظننت أنه المدير ونهضت واقفاً من مكتبي وأنا ممسك بالأوراق في يدي ؛ ولكنها كانت هي ، بشخصها ! يا إلهي ، ما أبهى ملابسها التي ترتديها ! وكان رداؤها أبيض، منقوشاً كله مثل بجعة ، وعندما نظرت إليَّ ، وأقسم أنها كانت نظرة مثل الشمس ! وأومأت لي وقالت : "ألم يأت بابا إلى هنا ؟" وياله من صوت ! كناريا ، كناريا ولا شيء غيره. "يا سيدتي" كنت على وشك أن أقول ذلك "لا تتسببي في أن ألقى حتفي. ولكن إذا قررت أنه لابد من موتي ، فليكن ذلك بيدك الأرستقراطية المليحة". ولكن لساني لم يطاوعني ولكني فقط همهمت : "لا ، يا سيدتي". وحولت نظرها مني إلى الكتب وسقط منها منديلها. واندفعتُ بجنون، وانزلقت على الباركيه المتآكل وكدت أحطم أنفي. ولكن على نحو ما استعدت توازني والتقطـته من على الأرض. أيها القديسون ، ياله من منديل ! كتان جميل رقيق، كهرماني اللون ، كهرمان خالص. لقد كان ينضح بالأرستقراطية. وقالت : "شكراً" وابتسمتْ، ولكن ابتسامة خفيفة حتى أن شفتيها الرائعتين تحركتا بالكاد ، ثم انصرفت. وظللت أجلس هناك ، وبعد ساعة أخرى ، دخل خادم وقال لي : "يمكنك العودة إلى البيت ، فقد خرج السيد". إن الخادم هو الشيء الوحيد الذي لا يمكنني تحمله. فهم دائماً يتمددون في صالة المدخل ، لا يكلفون أنفسهم حتى الاعتراف بوجودي بإيماءة صغيرة. وذات مرة ، قدم لي واحد من هذه الكتل البليدة النشوق ، وحتى دون أن ينهض من جلسته. ألا تعرف ، أيها الخادم الغبي أنني أعمل بالخدمة المدنية وأنني أنحدر من أسرة محترمة ؟ ومع ذلك ، فقد التقطت قبعتي وارتديت معطفي بلا مساعدة لأن هؤلاء السادة لن يفكروا في مساعدتك ، وانصرفت. وفي البيت رقدت على سريري معظم الوقت. ثم قمت بنسخ قصيدة ممتازة :



بدونك زَخَفَتْ ساعة

ببطء مثل سنة.

بكيت قائلاً : "هل حياتي جديرة بأن أحياها ؟"

"عندما لا تكونين بقربي ؟"



لها وقع شعر بوشكين. وفي المساء ، ارتديت معطفي ومشيت إلى بيت المدير وانتظرت بجوار البوابة برهة طويلة لأرى ما إذا كانت ستخرج وتركب عربتها. ولكنها لم تفعل.

شيء ما دخل مخ رئيس قسمي. عندما وصلت إلى المكتب ناداني وبدأ كالتـالي : "والآن ، قل لي. ماذا دهاك ؟" فقلت : "ماذا تعني ؟ لا شيء". "تعال ، حاول أن تفهم ؛ ألست فوق الأربعين ؟ أي حان الوقت الذي تصبح فيه أكثر حكمة بعض الشيء ؟ ماذا تظن نفسك ؟ لا تتخيل أنني لا أستطيع أن أرى ما أنت بصدده. أعلم أنك تتعقب ابنة المدير. فقط انظر إلى نفسك ـ ماذا أنت ؟ مجرد لا شيء. لا تملك بنساً واحداً باسمك. انظر في المرآة. كيف يمكنك حتى أن تفكر في مثل هذه الأشياء" فليذهب إلى الجحيم ! لمجرد أن له وجهاً يشبه قارورة صيدلي وله تلك الكومة من الشعر المتموج المدهون على رأسه ، ولأنه يرفع رأسه في الهواء هكذا ، يظن أنه يمكنه أن يفلت من أي شيء. إنني أدرك سر نقمته عليَّ. إنه حسود : ربما لاحظ علامات الحظوة التي أنعم بها. إنني كثيراً ما أبالي بما يقوله : لأنه رئيس قسم ، ولكـن ماذا يعني ذلك ؟ إنه يجعل سلسلة ساعته الذهبية تتدلى ويرتدي حذاء مصنوعاً خصيصاً له لقاء ثلاثين روبل. فلتحل به اللعنة. ربما يتخيل أن أبي صاحب متجر أو خياط. إنني أحد السادة ! ويمكن أن أترقى أيضاً. وأنا في الثانية والأربعين فقط ، وهي سن تبدأ عندها حياة الإنسان العملية. انتظر ، يا صديقي ، فسوف أصل إلى مرتبة أعلى منك ، وإن شاء الله ، أعلى بكثير جداً جداً. ثم ستكون لي مكانة اجتماعية لا تحلم بها. هل تتخيل أنك الشخص الوحيد الذي عنده كرامة ؟ اعطني معطفاً جديداً على الموضة ، ودعني ألبس رباط عنق مثـل رباط عنقك ، ولن تكون جديراً بأن تلمع لي حذائي. إن قصور إمكانياتي المادية ـ هو المشكلة الوحيدة.



8 نوفمبر
ذهبت إلى المسرح. كانت المسرحية عن الأبله الروسي فيلاتكا. ضحكت كثيراً. قدموا عرض فودفيل* أيضاً ، مليئاً بأشعار مسلية تسخر من المحامين سخرية صريحة جداً جعلتني أتساءل كيف مرت على الرقيب ؛ أما عن التجار ، فإنها تقول بصراحة إنهم يغشون الناس ، وإن أبناءهم غارقون في الفسوق ويشقون طريقهم في المجتمع بالقوة. وكان هناك أيضاً دوبيت** مُسَلٍّ يشكو من الطريقة التي ينتقد بها الصحفيون كل شيء وطلبت من المتفرجين الحماية منهم. إن كتاب المسرح يكتبون مسرحيات مسلية جداً هذه الأيام. وأنا أعشق الذهاب إلى المسرح. فبمجرد أن أمسك في يدي ببعض النقود ، لا أستطيع أن أقاوم ، فأذهب. ولكـن العاملين بالخدمة المدنية خنازير … ولن تصادف أغبياء مثلهم يذهبون إلى المسارح ، حتى لو منحوهم تذاكر مجانية. واحدة من الممثلات غنت جيداً حقيقة … لقد جعلني هذا أفكر في … يالي من متشرد ! لاتبالِ ، لا تبالِ … الصمت !



9 نوفمبر
غادرت البيت متوجهاً إلى المكتب في الثامنة. تظاهر رئيس القسم بأنه لم يرني أدخل. وأنا أيضاً تصرفت كما لو كان لم يحدث شيء بيننا. وأخذت أقلب الأوراق وأقوم بتصنيفها. وانصرفت في الرابعة. وفي طريق عودتي إلى البيت ، مررت ببيت المدير ولكني لم أر أحداً. بعد العشاء ، قضيت معظم الوقت راقداً على سريري.

اليوم ، جلست في حجرة مكتب المدير ، وقمت ببري ثلاثة وعشرين قلماً له ، وأربعة أقلام لـ … أوه ـ أوه … لها. إنه يحب أن يكون لديه أكبر عدد ممكن من الأقلام في متناول يده. يا إلهي ، لابد أنه ذو مخ كبير ! عادة لا يقول الكثير ولكني أعتقد أنه لابد أنه يزن كل شيء في رأسه تلك. أود لو أعرف فيم يفكر معظم الوقت ، ما الذي يعتمل هناك ؟ أريد أن ألقي نظرة من قريب على هؤلاء الناس ، كيف يعيشون ، بكل تلميحاتهم الماكرة ونكاتهم اللطيفة ؛ وأود لو أعرف كيف يتصرفون وماذا يفعلون بينهم وبين أنفسهم. كثيراً ما حاولت جر المدير إلى محادثة ولكن عليَّ اللعنة لأن هذا لم يتم أبداً. وتمكنت من أن أقول إن الطقس دافئ أو بارد في الخارج وهذا هو بالضبط أقصى ما وصلت إيه. وفي يوم من الأيام أحب أن أخطو إلى حجرة الاستقبال الخاصة بهم. إن الباب يكون موارباً في بعض الأحيان ، ومن هناك أستطيع أن أرى باباً آخر ، يفضي إلى حجرة أخرى. حجرة الاستقبال تلك ! ينبغي أن ترى كيف صنعوا ديكورها. كل تلك المرايا وقطع الخزف الصيني الرائعة. وأحب أيضاً أن أرى الجزء الذي تقع فيه حجراتها. هذا هو المكان الذي أحب حقاً أن أذهب إليه ! أحب أن أنظر خلسة إلى مخدعها ، وأرى كل تلك القوارير والزجاجات الصغيرة الخاصة بها واقفة هناك وسط نوع الأزهار الذي لا يجرؤ المرء حتى على شمه ؛ وأن أحظى بلمحة من الفستان الذي خلعته ، وهو يرقد هناك ويبدو مثل الهواء أكثر مما يبدو فستاناً. وسوف يكون ممتعاً النظر إلى حجرة نومها … لابد أن المعجزات تحدث هناك. إنها جنة تتفوق على الجنة السماوية. ماذا أبخل بإعطائه في سبيل رؤية كرسي القدمين الصغير الذي تهبط عليه قدمها الرقيقة عندما تنزل من فراشها وأرى الشراب الرقيق رقة غير معقولة والذي لا تشوبه شائبة والذي تغطى به ساقها … أوه ، الأفكار المتشردة ! لا تبال … لا تبال … صمتاً !

ولكن اليوم اتضح لي شيء فجأة عندما استعدت المحادثة بين الكلبتين اللتين سمعتهما مصادفة في طريق نفسكي. حسناً ، قلت ذلك لنفسي ، الآن سوف أكتشف كل شيء. لابد أن تقع يداي على الخطابات التي تبادلتها هاتان الكلبتان الكريهتان. وأنا واثق من أنني سأكتشف شيئاً. والآن فإنني أعترف بأنني ، عند لحظة معينة ، كدت أنادي مادجي وأقول لها : "اسمعي يا مادجي ، نحن وحدنا الآن. وإذا أردت فسوف أغلق الباب بالمزلاج حتى لا يرانا أحد. أخبريني بكل شيء تعرفينه عن سيدتك : ما هي شخصيتها وما إلى ذلك. ولا تقلقي ، وأقسم أنني لن أذكر شيئاً لأي أحد. ولكن الكلبة الصغيرة الخبيثة انكمشت في نفسها ، ووضعت ذيلها بين ساقيها ، وغادرت الحجرة في صمت ، كما لو كانت لم تسمع شيئاً. ولوقت طويل كنت أحسب أن الكلاب أكثر ذكاء بكثير من الإنسان ، بل وكنت متأكداً من أنهم يمكنهم الكلام إلا أنهم فقط اختاروا ألا يفعلوا بسبب عنادهم الغريب. فالكلب سياسي غير عادي ، ويلاحظ كل شيء ، كل خطوة يخطوها إنسان. ومع ذلك ، فمهما يحدث ، سوف أذهب غداً إلى بيت آل زفركوف وأستجوب فيديل ، وإذا أمكن ، سوف أضع يدي على خطابات مادجي إليها.



12 نوفمبر
في الثانيـة بعد الظهر خرجـت وأنا مصمم علـى أن أعثر على فيديل وأن أستجوبها. لا أطيق رائحة الكرنب التي تأتي متدفقة من جميع محلات بيع الخضراوات على امتداد شارع تريدزمان. هذه ، والرائحة الكريهة اللعينة من تحت بوابات كل بيت ، جعلتني أنطلق مسرعاً، وأنا ممسك بأنفي. وكل السناج والدخان اللذين يتركانهما يتدفقان من الورش القذرة يجعل المكان غير مناسب لشخص ذي تربية للتمشي فيه. وعندما وصلت إلى الطابق السادس ودققت الجرس ، خرجت فتاة بوجهها نمش صغير وليست سيئة المنظر بسببه. وعرفتها في التو واللحظة. فقد كانت هي الفتاة التي كنت قد رأيتها تمشي مع المرأة العجوز. واحمر وجهها قليلاً وسرعان ما اخترقتُ أفكارها : ما تحتاجينه ، يا عزيزتي ، هو زوج. "ماذا تريد ؟" سألتني. "أريد أن أتحدث مع كلبتك".

وكانت الفتاة غبية. واستطعت أن أرى منذ البداية كم كانت غبية ! في تلك اللحظة دخلت الكلبة تجري وهي تنبح بغضب وحاولت أن أمسك بها ، وكاد المخلوق الكريه يمسك بأنفي بين أسنانه. ولكن عندئذ رأيت سلتها في الركن ـ وهو ما كنت أبحث عنه بالضبط ! وذهبت إليها وتحسست ما تحت القش ، ويا لسعادتي ، فقد وجدت لفافة صغيرة من الأوراق. ولما رأت ما كنت أفعله ، عَضَّت الكلبة الصغيرة الكريهة أولاً رَبْلَة ساقي ؛ ثم عندما تشممتْ أكثر وأكثر اكتشفتْ أنني كنت قد أخذت خطاباتها ، فبدأت تئن وتتجه ناحيتي ، ولكني قلت لها : "أوه ، لا يا عزيزتي. أراك فيما بعد !". وانطلقت مبتعداً. وأعتقد أن الفتاة حسبت خطأ أنني مجنون ـ فقد بدت مذعورة جداً حقاً.

وبمجرد أن عدت إلى البيت ، أردت أن أنهمك في العمل فوراً ، وأن أقرأ تلك الخطابات قبل حلول الظلام ، لأنني لا أستطيع أن أرى جيداً على ضوء الشموع. ولكن لسبب ما قررت مارفا أن تنظف الأرض حينئذ بالضبط. أولئك الفنلنديون الأغبياء دائماً يخضعون لولعهم بالنظافة في أسوأ اللحظات. لذا فقد خرجت للتمشي وللتفكير في الأمر برمته. والآن ، أخيراً ، سوف أكتشف كل شيء عن تلك المؤامرات والخطط ؛ سوف أفهم كل العجلات والزنبركات الصغيرة وأصل إلى صلب الأمر. هذه الخطابات سوف تفسر لي. فالكلاب جنس ماهر. وهم يعرفون كل شيء عن المؤامرات ولذا فإن كل شيء لابد من أن يكون في خطاباتهم : كل ما يمكن معرفته عن شخصية المدير وأفعاله. وهي ، وهي من المؤكد أنه سيتم ذكرها … ولكن دعك من ذلك … صمتاً ! وعدت إلى البيت قرب المساء. ومعظم الوقت ، رقدت على فراشي.



13 نوفمبر
فلنر الآن. هذا الخطاب يبدو أنه من السهل قراءته ، بالرغم من أن هناك شيئا كلبياً يميز الخط :

عزيزتي فيديل ، مازلت أجد أنه من الصعب التعود على شيوع اسمك. ألم يستطيعوا أن يجدوا اسماً أفضل لك ؟ إن فيديل ، مثل روز ، اسم عادي جداً ، ولكن كل هذا أمر ثانوي. فأنا مسرورة لأننا قررنا الكتابة لبعضنا البعض.



الهجاء جيد جداً. بل إن علامات الترقيم مستخدمة استخداماً صحيحاً أيضاً. وهذا أفضل بكثير مما يستطيعه رئيس قسمنا ، بالرغم من أنه يدَّعى أنه قد ذهب إلى جامعة ما أو أخـرى. فلننظر المزيد :

أعتقد أن اقتسام المشاعر والانطباعات مع آخر لهو واحد من النعم الأساسية في الحياة …

هيه ! إن الفكرة مسروقة من عمل مترجم عن الألمانية. غير أن اسم المؤلف لا يحضرني الآن.

وأنا أتحدث مع واقع خبرتي بالرغم من أنني لم أخرج أبعد بكثير من بوابات منزلنا. ولكن، أليست حياتي مفعمة بالنعم ؟ إن سيدتي الصغيرة ، التي يسميها والدها صوفي ، مولعة بي.



آخ ! لا تبال ، لا تبال … صمتاً !

والأب كثيراً ما يدللني أيضاً. وأنا أشرب الشاي والقهوة بالكريم. ولابد أن أخبرك ، يا عزيزتي ، أنني لا تغريني إطلاقاً العظام نصف المقروضة التي يمضغها فيدو في المطبخ. فأنا أحب فقط عظام الطيور المصطادة ، وبالذات إذا لم يكن النخاع قد امتصه واحد آخر. خليط من الصلصة يعتبر شيئاً لطيفاً طالما أنه لايحتوي على الكَبَر* أو الخضراوات. أما ما أكرهه فهم الناس الذين يعطون الكلاب اللبابات الصغيرة التي يستخرجونها من الخبز. فإن شخصاً ما جالساً إلى المائدة ، وكان قد لمس قبل ذلك جميع أنواع الأشياء الكريهة ، يبدأ في قطع كسرة من الخبز بنفس هاتين اليدين ، ثم يناديك ويلقي باللبابة إلى داخل فمك. ومن المحرج إلى حد ما أن ترفضى ، فتأكلينها وأنت مشمئزة …



عم يدور كل هذا ؟ يا لها من قمامة ! كما لو كان ليس هناك أشياء أكثر ذكاء للكتابة عنها. فلننظر إلى الصفحة التالية. فقد يكون هناك شيء أقل غباء.



والآن سوف أخبرك بكل سرور عما يدور في هذا البيت. فقد ذكرت الشخصية الرئيسية ، التي تناديها صوفي ببابا. وهو رجل غريب الأطوار …



أخيراً ! لقد كنت أعرف أن لهم أحكاماً قاسية ، مهما كان الموضوع. فلنر كيف يكون بابا.

… رجل غريب الأطوار. صامت عادة.يتكلم قليلاً جداً ، ولكن منذ أسبوع لم يكف عن أن يقول لنفسه : هل سأحصل عليها أم لا ؟ بل إنه حتى سألني ذات مرة : ماذا تقولين يا مادجي، هل سأحصل عليها أم لا ؟ ولم أستطع أن أفهم أي شيء من الأمر كله لذا فقد شممت حذاءه وتركت الحجرة. ثم ، بعد ذلك بأسبوع ، عاد بابا إلى البيت وهو يكاد يطير فرحاً. وكان طوال ذلك الصباح يأتي أناس في أبهى ملابسهم ويهنئونه. وفي العشاء كان بابا أكثر مرحاً أكثر من أي وقت رأيته فيه من قبل ، وبعد العشاء ، رفعني وأمسك بي على ارتفاع صدره وهو يقول : انظري يا مادجي ، ما هذا ؟ فرأيت شيئا يشبه الشريط. وتشممته ولكن لم تكن لـه رائحة زكية على الإطلاق. وفي النهاية ، لعقته بحذر : فوجدته مملحاً قليلاً.



هيه. إن الكلبة تبالغ حقيقة … إنها بحاجة إلى الضرب بالسوط … إذن فهو مغرور هكذا ، أليس كذلك ؟ لابد وأن آخذ ذلك في الاعتبار.



إلى اللقاء يا عزيزتي ، لابد وأن أجري … إلخ إلخ إلخ إلخ … سوف أنهي هذا الخطاب غداً. أهلاً. لقد عدت إليك مرة أخرى. اليوم ، سيدتي صوفي …



آها ! فنر ماذا تقول عن صوفي. إنني حقيقة لمتشرد ! ولكن لا تبال ، لا تبال. ولنستمر.



… سيدتي صوفي كانت في حالة انشغال شديد. فقد كانت تستعد لحفل راقص وعزمتُ أنا على أن أنتهز فرصة غيابها وأكتب إليك. صوفي دائماً تشعر بالسعادة عندما تكون على وشك الذهاب إلى حفل راقص ولكنها دائماً تشعر بالقلق عندما ترتدي ملابسها لهذه المناسبة. فأنت تعرفين ، يا عزيزتي ، أنني شخصياً لا أرى متعة في الذهاب إلى حفل راقص. وعادة تعود صوفي من الحفل في السادسة صباحاً ، وأستطيع أن أستنتج من ملامحها الشاحبة والهزيلة أن المسكينة لم يعطوها أي شيء تأكله. وأعترف أنني لا يمكنني أبداً أن أحيا مثل هذه الحياة. وإذا اضطررت للحياة بدون طائر مصطاد في الصلصة أو حساء أجنحة الطيور ، لا أدري ماذا سوف يصيبني. فالصلصة ليست سيئة أبداً مع الثريد. ولكن لا شيء يمكن أن يجعل الجزر ، واللفت ، والخرشوف أشياء يمكن بلعها …



إن الأسلوب متقلب كثيراً. باستطاعتك أن ترى أنه لم يكتبه رجل. فهي تبدأ بداية حسنة ثم تقع في الكلبية. فلنر خطاباً آخر. هذا يبدو طويلاً نوعاً ما … هيه … بدون تاريخ …



أوه يا عزيزتي ، لَكَمْ أشعر بشدة باقتراب الربيع. قلبي يدق كما لو كان في انتظار شيء ما. في أذنيَّ ، هناك طنين مستمر. كثيراً ما أصيخ السمع خلف الأبواب لدرجة أنني أرفع مخلبي الأيمن. وبيني وبينك ، فإن لي خُطَّاباً كثيرين. وكثيراً ما أجلس قرب النافذة وأرقبهم. لو استطعت فقط أن ترى بعضهم ، ستجدين أنهم قبيحو المنظر. وهناك كلب مهجن مخيف مع غباء مكتوب على كل ملامحه ، ذلك الذي يمشي مختالاً على طول الشارع ويتصور أنه من سلالة طيبة وأن الجميع لابد وأن يعجبوا به. لم أُلق بالاً إليه ، كما لو كنت لم ألحظه. ثم كان لابد لك من أن ترى الكلب الداني* الضخم الذي توقف أمام نافذتي ! لو كان هذا الكلب قد وقف على ساقيه الخلفيتين ، وبالمناسبة فهو لا يستطيع ذلك ، فإنه سوف يكون أطول من والد صوفي بمقدار رأسي ، بالرغم من أنه طويل جداً هو نفسه وسمين أيضاً. وعلاوة على ذلك فإن الغبي يبدو أنه متغطرس جداً. فقد نبحت في وجهه ولكن هذا لم يردعه في قليل أو كثير. فقط أخرج لسانه ، وتدلت أذناه الضخمتان ، وظل يحملق في نافذتي ، ابن الجنية ! ولكن ، يا عزيزتي ، لا أظن أنك تتخيلين حقاً أن قلبي لا يبالي بجميع من يأملون فيَّ … كان ينبغي أن ترى العاشق الصغير المتهور الذي جاء يقفز فوق السور إلى داخل فنائنا. اسمه "الكنز" وله وجه لطيف جداً. …



آه ، اللعنة على كل ذلك ! يالها من قمامة ! كم من خطاباتها سوف تملؤه بمثل ذلك الكلام الغبي ؟ أنا مهتم بالناس وليس بالكلاب ! أحتاج إلى غذاء روحي ولكن ما يقدم لي هو هذه التفاهات. فلنتخط صفحة ، فربما وجدنا شيئاً أكثر إثارة للاهتمام …



… كانت صوفي جالسة إلى المائدة تحيك شيئاً. وكنت أطل من النافذة ؛ فأنا أحب أن أتفرج على الناس في الشارع. وفجأة دخل الخادم وأعلن عن حضور شخص ما. "دعه يتفضل بالدخول" قالت صوفي. وحضنتني بشدة وهمهمت : أوه ، يا مادجي ، يا عزيزتي ، آه لو عرفت من هذا. إنه ضابط بالحرس ، شعره أسود وعيناه داكنتان جداً وفاتحتان جداً في الوقت نفسه… مثل النارً. واندفعت صوفي خارجة. وبعد دقيقة ظهر ضابط شاب له لحية سوداء على جانبي وجهه. وتوجه إلى المرآة وسوَّى شعره ؛ ثم أخذ يجول ببصره في الحجرة. نبحت قليلاً واستقررت قرب النافذة. وسرعان ما دخلت صوفي ، فحيته بمرح ، بينما تظاهرت أنا بالانشغال بالنظر من النافذة. ولكني ، في حقيقة الأمر ، أدرت رأسي إلى الجانب قليلاً ، حتى أستطيع أن ألتقط ما كانا يقولانه. لا يمكنك أن تتخيلي ، يا فيديل العزيزة ، سخف تلك المحادثة. فقد تحدثا عن سيدة ما ، ظلت خلال إحدى الرقصات ، تقوم بخطوة معينة بدلاً من الخطوة التي كان مفروضاً أن تقوم بها ، ثم عن شخص يدعى بوبوف يشبه اللقلاق* وكاد يسقط على الأرض ، ثم عن واحدة اسمها ليدينا كانت تظن أن لها عينين زرقاوين بينما كانا في الواقع خضراوين ، وهكذا دواليك. أوه ، لا ، هكذا قلت لنفسي ، إن هذا الضابط لا يقارن بـ "الكنز". بحق السماء ، ياله من فرق ! بدايةً ، فإن للضابط وجهاً عريضاً ، وهو أصلع تماماً فيما عدا لحيته التي تشبه في الواقع وشاح عنق أسود ملفوفاً حول وجهه ، بينما وجه "الكنز" ضيق ولطيف وله علامة بيضاء حلوة على جبينه. ووسط "الكنز" أنحف نحافة لا تقارن بوسط الضابط ، وعيناه ، وإيماءاته ، وسلوكه أفضل بكثير. حقاً ، فارق هائل ! وإني لأتعجب ماذا تجد في ضابطها. ترى ، بحق السماء ، أي شيء يعجبها فيه ؟

نعم ، هنا أميل إلى الموافقة. هناك شيء ما يبدو خطأ. فمن الأمور التي لا تصدق أن هذا الضابط قد جعل أقدامها تهتز من تحتها. فلنر:



لو كانت معجبة بالضابط ، فإنني أعتقد أنها سرعان ما ستعجب بكاتب الخدمـة المدنية الذي يجلس في حجرة مكتب بابا. إن ذلك الشخص ، يا عزيزتي ، خيال مآتة حقيقي. وهو يشبه قليلاً سلحفاة موضوعة في كيس …

أي كاتب يمكن أن يكون ذلك ؟ …



له اسم مضحك ، وهو دائماً يجلس يبري الأقلام. الشعر على رأسه يشبه القش. بابا يرسله لقضاء مشاوير مثل خادم …

يبدو أن الكلبة القذرة تحاول الانتقام ! لماذا يشبه شعري القش ؟ لا تكاد صوفي

تستطيع أن تكتم ضحكها عندما تراه.

أيتها الكلبة الحقيرة الكذابة ! ياله من لسان قذر سام ! كما لو كنت لا أعرف أن كل مـا في الأمر هو غيرتك. أعرف حِيَل مَنْ هذه. أستطيع أن أميز يد رئيس القسم هنا. ولسبب ما ، فقد أقسم ذلك الرجل على كراهية لا تموت لي ويحاول أن يؤذيني ، يؤذيني كل دقيقة في النهار والليل. ومع ذلك ، فلنر خطاباً واحداً آخر. فلربما وضح الأمر.

عزيزتي فيديل ، معذرة لعدم الكتابة إليك طوال هذا الوقت. فقد كنت أدور حول نفسي في نشوة تامة. وأتفق ، دون تحفظ ، مع الفيلسوف الذي قال إن الحب حياة ثانية. وعلاوة على ذلك ، فإن أشياء كثيرة تتغير في بيتنا. فالضابط يأتي كل يوم الآن. وصوفي وقعت في حبه بجنون. وبابا مرح جداً. بل إنني سمعت جريجوري الذي يكلم نفسه دائماً وهو يمسح الأرض، يقول إن الزفاف قد اقترب كثيراً لأن بابا كان يريد دائماً أن يرى صوفي متزوجة من مسئول ذي مكانة أو من ضابط بالجيش أمامه مستقبل باهر في انتظاره …

اللعنة ! … لا أستطيع أن أواصل. مسئولون ذوي مكانة ، ضباط كبار ، إنهم يحصلون على أفضل ما في هذه الدنيا. تكتشف كسرة من السعادة ، وتمد يدك محاولاً الوصول إليها ، فيأتي مسئول كبير أو ضابط ويخطفها منك. لعنة الله على ذلك ! أود كثيراً أن أصبح مسئولاً كبيراً أنا نفسي وليس فقط أن أحصل عليها كزوجة لي. لا ، بل أريد أن أكون مسئولاً كبيراً فقط لكي أراهم يتقافزون حولي طلباً لنفعي ؛ وسوف أستمع بعض الوقت لنكاتهم اللطيفة ولتلميحاتهم ثم أقول لهم ماذا يفعلون بأنفسهم. ومع ذلك ، فالأمر مؤلم. أوه يا للجحيم ! … لقد مزقت خطاب الكلبة الصغيرة الغبية إلى قصاصات.



3 ديسمبر
مستحيل ! أكاذيب ! لا يمكن أن يكون هناك زفاف. وما قيمة أن يكون ذا منصب في الحرس ؟ هذا لا شيء سوى أنه وظيفة لا تستطيع أن تلمسها بيدك. فضابط الحرس ليست له عين ثالثة في منتصف جبهته ، وأنفه ليست مصنوعة من الذهب بل من المادة نفسها مثل أنفي أو أنف أي شخص آخر وهو يستخدمها في الشم وليس في الأكل ، في العطس وليس في الكحة. وكثيراً ما حاولت اكتشاف أين تكمن كل هذه الفروق. لماذا أنا كاتب ؟ لماذا ينبغي أن أكون كاتباً ؟ ربما كنت في حقيقة الأمر جنرالاً أو "كونت" وكل ما في الأمر أنني أبدو كاتباً؟ ربمـا لا أعرف حقيقةً من أنا ؟ هناك عديد من الأمثلة في التاريخ على أن شخصاً ما عادياً جداً ، ليس بالضرورة أرستقراطياً ، بل شخص ينتمي للطبقة المتوسطة أو حتى فلاح ، فجأة يصبح شخصية عامة بل وربما أصبح حاكماً لإحدى الدول. فإذا كان الفلاح يمكن أن يتحول إلى شخص مهم ، فأين القيود على إمكانيات شخص ذي تربية ؟ تخيلني ، مثلاً ، وأنا أدخل الحجرة في زي جنرال. هناك نسيج مقصب على الكتف اليمنى للسترة العسكرية ، ونسيج مقصب على الكتف اليسرى ، وشريط أزرق عبر صدري. كيف يبدو ذلك ؟ أية نغمة تلك التي سيعزفها جمالي حينئذ ؟ وبابا نفسه ، مديرنا ، ماذا سوف يقول ؟ أوه ، إنه مغرور جداً ! إنه ماسوني ، لا جدال في ذلك ، بالرغم من أنه قد يتظاهر بأنه كذا أو كيت ؛ وقد لاحظت منذ البداية أنه عندما يسلم باليد فإنه يمد إصبعين فقط. ولكني لا يمكن أن أترقى إلى جنرال أو محافظ أو أي شيء من هذا القبيل في يوم وليلة. وما أحب أن أعرفه هو لماذا أنا كاتب ؟ لماذا كاتب بالتحديد ؟



5 ديسمبر
أقرأ الصحف طوال النهار. أشياء غريبة تحدث في إسبانيا. لا أستطيع حتى أن أفهمها تماماً. كتبوا يقولون إن العرش قد خلى من شاغله وإن علية القوم يجدون صعوبة في اختيار وريث للعرش. يبدو أن هناك خلافاً. هذا يبدو غريباً جداً لي. كيف يمكن لعرش أن يخلو ؟ يقولون إن امرأة ما قد تعتلي العرش. ولكن لا يمكن أن تعتلي العرش امرأة. إنه أمر مستحيل تماماً. ينبغي أن يجلس ملك على العرش. ولكنهم يقولون إنه ليس هناك ملك. من المستحيل ألا يكون هناك ملك. لابد من أن يكون هناك ملك ولكنه مختف بعيداً في مكان ما دون أن يعرفه أحد. بل من المحتمل أنه موجود ولكنه مضطر للبقاء مختفياً لأسباب عائلية أو خوفاً من دولة مجاورة مثل فرنسا. أو قد تكون هناك أسباب أخرى.



8 ديسمبر
كنت على وشك الذهاب إلى المكتب ، ولكن اعتبارات عديدة منعتني. إذ لم أستطع أن أُبعد تلك الشئون الإسبانية عن رأسي. كيف يمكن لامرأة أن تتولى الحكم ؟ إنهم لن يسمحوا بذلك. ففي المقام الأول ، فإن إنجلترا لن تقبل الأمر. ثم لابد وأن نأخذ في الاعتبار البنية السياسية لبقية أوروبا : إمبراطور النمسا ، وقيصرنا . … أعترف أن هذه الأحداث قد أقلقتني وآلمتني لدرجة أنني لم أستطع أن أفعل شيئاً طوال اليوم. وذكرت مارفا أنني كنت شارد الذهن أثناء العشاء. … في الواقع ، أعتقد أنني ألقيت وأنا شارد الذهن بصحنين على الأرض فكُسِرَا في الحال. وبعد العشاء ، أخذت أذرع الشوارع ، رائحاً غادياً. لم أصادف شيئاً مثيراً للاهتمام. ثم رقدت معظم الوقت على فراشي وأخذت أفكر في المشكلة الإسبانية.



عام 200 ، 43 إبريل
هذا يوم فرحة غامرة. أصبح لإسبانيا ملك. لقد وجدوه. أنا الملك. اكتشفت ذلك اليوم. لقد أدركت كل شيء في طرفة عين. من الأمور التي لا أصدقها الآن أنه كان بإمكاني تخيل أنني كاتب بالخدمة المدنية. كيف أمكن لفكرة مجنونة مثل هذه أن تدخل رأسي ؟ حمداً لله أن أحداً لم يفكر في إلقائي في مستشفى للمجانين. الآن أرى كل شيء بوضوح ، بوضوح كما لو كان مكتوباً على راحة يدي. ولكن ماذا كان يحدث لي من قبل ؟ ثم انجلت الأمور لي من بين الضباب. الآن ، أعتقد أن كل المتاعب تنبع من سوء الفهم المتعلق بأن الأمخاخ البشرية موجودة في الرأس. الأمر ليس كذلك : الأمخاخ البشرية تذروها الرياح من مكان ما يقع حول بحر الكاسبيا.

وكانت مارفا أول من كشفت له عن شخصيتي الحقيقية. وعندما سمعت أنها كانت تقف أمام ملك إسبانيا ، رفعت يديها في انزعاج. لقد كادت تموت رعباً. المرأة السخيفة لم تر ملكاً لإسبانيا من قبل. ومع ذلك ، فقد حاولت تهدئة روعها ، وتكلمت بلطف ، باذلاً أقصى ما في وسعي لكي أؤكد رعايتي الملكية لها. ولم أكن أعتزم أن أحاسبها على كل المرات التي لم تقم فيها بتلميع حذائي كما ينبغي. إن الجماهير جاهلة جداً. لا يستطيع المرء أن يتحدث إليهم عـن الأمور السامية. ربما ذعرت لأنها ظنت أن جميع ملوك إسبانيا مثل فيليب الثاني. ولكني كنت حريصاً على أن أشير إلى أنني لم أكن مثل فيليب الثاني على الإطلاق. لم أذهب إلى المكتب. فليذهب إلى الجحيم. لا ، يا أصدقائي ، إنكم لن تغروني بالذهاب إلى هناك الآن ؛ لن أنسخ وثائقكم الكريهة مرة ثانية أبداً.



مارتوبر 86. بين النهار والليل
اليوم ، أرسل رئيس قسمنا شخصاً ليطلب مني الذهاب إلى المكتب. وكنت لم أذهب إلى هناك لمدة ثلاثة أسابيع. وذهبت ، لمجرد اللهو. وتوقع رئيس القسم أن أحضر إليه معتذراً له ولكني اكتفيت بالنظر إليه بدون مبالاة ، وبدون كثير من الغضب ، وأيضاً بدون كثير من الكرم ؛ ثم جلست في مكاني المعتاد كما لو كنت غير مدرك للأناس الموجودين حولي. ونظرت حواليَّ إلى كل هؤلاء الكتبة الرعاع وفكرت : لو كان لديكم فقط أدنى فكرة عمن يجلس هنا بينكم ، أوه يا إلهي ، أية جلبة ستصنعون. سوف تكون هناك ضجة شديدة ورئيس القسم نفسه سوف ينحني بشدة لي ، كما يفعل للمدير. ووضعوا بعض الأوراق أمامي وكان من المفروض أن أقوم بتلخيصها أو نحو ذلك. ولكني لم أحرك ساكناً. وبعد دقائق ، حدث اضطراب عام. وقالوا إن المدير كان في طريقه إلى المكتب. وقفز العديد من الكتبة واقفيـن، على أمل أن تقع عيناه عليهم. ولكني لم أتزحزح. وعندما وصل إلى سمعنا أن المدير كان على وشك المرور خلال قسمنا ، قاموا جميعاً بتثبيت زرائر ستراتهم. ولكني لم أفعل شيئاً من هذا القبيل. أي نوع من المديرين يظن نفسه ؟ من ذا الذي يقول إنه ينبغي أن أقف له ؟ لن يحدث أبداً ! إنه فلينة قديمة ، وليس مديراً. نعم ، مجرد فلينة عادية ، من النوع المستخدم في سد زجاجة. هذا هو كل ما هو. ولكن أكثر الأمور إثارة للضحك كان عندما أعطوني ورقة لتوقيعها. وتوقعوا أن أقوم بتوقيعها في ركن الورقة : كبير الكتبة فلان الفلاني. حسناً ، فلأدعهم يفكرون مرة ثانية. فكتبت في الفراغ الرئيسي ، وهو المكان المخصص لتوقيع المدير: فرديناند الثامن. كان ينبغي أن تروا الصمت الرهيب الذي تبع ذلك ؛ ولكني اكتفيت بأن لوحت بيدي وقلت : "فلتكفوا عن إبداء الولاء !" وغادرت الحجرة. ومن هناك ، ذهبت مباشرة إلى بيت المدير. ولكنه لم يكن في البيت. حاول الخادم أن يمنعني من الدخول ولكن ما قلته جعل ذراعيه يسقطان في ترهل على جانبيه. وذهبت مباشرة إلى مخدعها. كانت جالسة أمام مرآتها. وقفزت واقفة وتراجعت للخلف ، مبتعدة عني. وكنت لم أقل لها بعد إنني ملك إسبانيا. بل أخبرتها فقط أنها لا يمكن حتى أن تتخيل السعادة التي تنتظرها وأنه بالرغم من كل مؤامرات أعدائنا ، سوف يجتمع شملنا. ولم أشأ أن أقول المزيد وانصرفت. أوه ، إن النساء أشياء متقلبة جداً ! حينئذ فقط استطعت أن أفهم كيف تكون المرأة. حتى الآن ، لم يكتشف أحد من ذا الذي تحبه المرأة. وكنت أول من اكتشف ذلك : إن المرأة واقعة في حب الشيطان. ولست أمزح. ويكتب علماء الطبيعيات الكثير من الهراء عن كونها هذا ، وذاك ، وغيرهما. ولكنها تحب الشيطان فحسب. انظر ، هل ترى ما هناك في الصف الأمامي من المقصورات ؟ إنها ترفع منظارها. تظن أنها تنظر إلى ذلك الرجل السمين الذي مع النجم هناك ؟ لا شيء من هذا القبيل. إنها تحملق في الشيطان ، الشيطان الذي يختبئ خلف ظهر الرجل السمين. انظر ، لقد أخفى نفسه الآن في النجمة وهو يشير إليها بإصبعه ! وهي سوف تتزوجه أيضاً. ستفعل ذلك بالتأكيد. أما عن بقيتهن جميعاً ، كل أولئك اللاتي يلعقن الأحذية ويعلن وطنيتهن ، كل ما يردنه هو الرواتب السنوية والمزيد من الرواتب السنوية. بعض الوطنيين ! إنهم على استعداد لبيع أمهم ، وأبيهم ، وإلههم من أجل المال ، خونة المسيح المحتالون ! وكل هذا الطموح المجنون والغرور يأتي من الفقاعة الصغيرة تحت اللسان التي تحتوي داخلها على دودة صغيرة في حجم رأس الدبوس تقريباً ، وهذا كله من صنع حلاق في شارع بي. لا أستطيع أن أتذكر اسمه ولكن القوة المحركة وراء كل شيء هو سلطان تركيا الذي يدفع للحلاق لنشر الديانة المحمدية* في جميع أنحاء العالم. يقولون إنه في فرنسا ، اعتنق معظم الناس الديانة المحمدية* بالفعل.



دون تاريخ. يوم بدون تاريخ
قطعت طول شارع نفسكي متستراً. رأيت القيصر يمر راكباً. كان كل شخص يرفع قبعته، وهكذا فعلت أنا أيضاً. لم أعط أية إشارة تدل على أنني ملك إسبانيا. اعتقدت أنه لن يكون مـن الهيبة كشف شخصيتي هناك ، أمام كل أولئك الناس ، وأنه سيكون من المناسب أكثر أن يتم تقديمي في البلاط أولاً. وما منعني حتى الآن هو أنني ليس لديَّ رداء ملكي إسباني. لو كنت فقط أستطيع أن أضع يدي على أي نوع من أنواع العباءات الملكية. فكرت في أن أطلب صنع واحدة لي ، ولكن الخياطين أغبياء جداً. أضف إلى ذلك أنه يبدو أنهم ليسوا مهتمين بحرفتهم في هذه الأيام ويمارسون المضاربة في البورصة ، حتى أن معظمهم ينتهي بهم المطاف إلى العمل في إصلاح الطرق. وقررت أن أصنع العباءة من أفضل معطف عندي ، كنت قد ارتديته مرتين فقط. ولكني لم أرد أن يقوم هؤلاء الذين لا يصلحون لشيء بإفساد كل شيء ـ لذا فقد فضلت صنعه بنفسي. وأغلقت أبوابي بالمزلاج حتى لا يراني أحد. واضطررت إلى قص معطفي إلى شرائط بالمقص وذلك لأن العباءة لها تصميم مختلف تماماً.



لا أستطيع تذكر اليوم. كما لم يكن هناك شهر. علىَّ اللعنة إذا كنت أعرف ما حدث ويحدث.

العباءة جاهزة. أطلقت مارفا صرخة شديدة عندما ارتديتها. وحتى بعد أن فعلت ذلك ، مازلت أشعر أني غير مستعد لأن يتم تقديمي في البلاط. فحاشيتي لم تصل حتى الآن من إسبانيا. وغياب الحاشية سوف لا يتماشى مع هيبتي. وأنا في انتظارهم في أية لحظة.



التاريخ الأول
أنا متحير بخصوص التأخر الذي لا مبرر له في وصول حاشيتي. ترى ماذا يمكن أن يكون قد عطلهم ؟ ذهبت إلى مكتب البريد واستفسرت عما إذا كان أعضاء الوفد الأسبان قد وصلوا. ولكن رئيس البريد شديد الحماقة ولا يعرف أي شيء : لا ، هكذا يقول ، ليس هناك أعضاء وفد أسبان هنا ولكن إذا كنت تريد أن ترسل خطاباً ، فسوف نقبله. بحق الجحيم عم يتحدث ؟ أي خطاب ؟ خطاب قدمي ! فليكتب الصيادلة الخطابات …

مدريد ، الثلاثون من فبرايروس
إذن فأنا في إسبانيا. لقد حدث كل شيء بسرعة لدرجة أنني لم يكن لديَّ وقت لإدراك ما حدث. هذا الصباح ، وصل الوفد الإسباني أخيراً من أجلي وركبنا جميعاً عربة. وقد حيرتني إلى حد ما السرعة غير العادية التي انطلقنا بها. لقد انطلقنا بسرعة لدرجة أننا في خلال نصف ساعة وصلنا إلى الحدود الإسبانية. ولكن ، في هذه الأيام هناك سكك حديدية في جميع أنحاء أوربا وتبحر السفن بسرعة كبيرة أيضاً. إسبانيا دولة غريبة. عندما دخلنا الحجرة الأولى ، رأيت حشداً من الناس حليقي شعر الرأس. وبالرغم من ذلك سرعان ما أدركت أن هؤلاء لابد من أن يكونوا من الدومينيكان أو كابوشيين لأنهم دائماً يحلقون رءوسهم. وفكرت أيضاً أن سلوك مستشار الملك ، الذي كان يقودني ممسكاً بيدي ، كان غريباً نوعاً ما. فقد دفعني إلى داخل حجرة صغيرة وقال : "اجلس بهدوء ولا تطلق على نفسك الملك فرديناند مرة أخرى وإلا فإنني سأضرب رأسك إلى أن يخرج الهراء منها". ولكني كنت أعرف أنني كنت فقط أوضع موضع الاختبار ورفضت الامتثال. وجزاء ذلك ، ضربني المستشار على ظهري بعصا ، مرتين ، بصورة مؤلمة ، حتى أنه كادت تند عني صرخة. ولكني سيطرت على نفسي ، متذكراً أن هذا إجراء معتاد فيما بين الفرسان عند ترقيتهم إلى رتبة رفيعة. وحتى يومنا هذا ، فإنهم يلتزمون بقانون الفروسية في إسبانيا.

ولما تركوني وحدي ، قررت أن أكرس بعض وقتي لشئون الدولة. واكتشفت أن الصين وإسبانيا هما الشيء نفسه وأن الجهل فقط هو الذي يجعل الناس يعتبرونهما دولتين منفصلتين. وأنصح أي شخص يتشكك في هذا أن يأخذ قطعة من الورق وأن يكتب كلمة "إسبانيا" وسوف يرون بأنفسهم أنها ستخرج إلى الوجود "الصين". كما قضيت وقتاً طويلاً أفكر في حادث مؤسف لابد من أن يحدث غداً في الساعة السابعة. فكما تنبأ الكيميائي الإنجليزي الشهير ولنجتون ، فإن كوكب الأرض سوف يرتقي القمر. وأعترف أنني أصبت بانزعاج شديد عندما فكرت في الحساسية المفرطة للقمر وقابليته للكسر. فالقمر ، بطبيعة الحال ، قد صُنع في هامبورج ، ولابد من أن أقول إنهم سيئو الصنعة إلى حد كبير. وأتعجب لماذا لا تفعل إنجلترا شيئاً بهذا الخصوص. إنه صانع براميل أعرج ذلك الذي يصنع القمر ، ومن الواضح تماماً أن الأحمق ليست لديه أدنى فكرة عما ينبغي أن يكون عليه القمر. فهو يستخدم الحبال المغطاة بالقطران وزيت الزيتون وهذا يفسر لماذا تكون رائحته بشعة في جميع أنحاء الأرض فنضطر إلى أن نسد أنوفنا. وهذا يفسر لماذا القمر نفسه كرة رقيقة بحيث لا يستطيع البشر أن يعيشوا هناك ـ فقط الأنوف. وهذا هو السبب في أننا لا نستطيع أن نرى أنوفنا : فهي جميعها على القمر. وعندما فكرت كم هي شيء ثقيل تلك الأرض ، وأنها عندما تجلس على القمر ، سوف تحول أنوفنا إلى مسحوق ، أصبت بالقلق لدرجة أنني ارتديت شرابي وحذائي وهرعت إلى حجرة مجلس الدولة لكي آمر قوة الشرطة الخاصة بي للتأهب لمنع الأرض من ارتقاء القمر. ولكن الرهبان الكبوشيين الذي وجدتهم في حجرة مجلس الدولة كانوا أناساً خبثاء جداً ، وعندما قلت "أيها السادة ، فلننقذ القمر ، إذ أن الأرض تعد للارتقاء عليه" اندفعوا جميعاً من أجل تنفيذ رغبتي الملكية وحاول الكثيرون تسلق السور للوصول إلى القمر. ولكن في تلك اللحظة ، دخل كبير المستشارين. وبمجرد أن رأوه ، تفرقوا. ولما كنت أنا الملك ، فقد بقيت هناك وحدي. ولكن مما أثار دهشتي أن المستشار ضربني بعصاه وظل يتتبعني حتى دخلت حجرتي. وهكذا تكون قوة التقاليد الشعبية في إسبانيا !



يناير من العام نفسه الذي وقع بعد فبرايروس
مازلت لا أستطيع أن أفهم أي نوع من الأماكن أسبانيا تلك. إن العادات وقواعد اللياقة في البلاط شيء غير معقول بالمرة. لا أفهمها ، لا أستوعبها ، لا أهضمها على الإطلاق ! اليوم ، حلقوا رأسي ، بالرغم من أنني صحت بكل ما أوتيت من قوة أنني لم أكن أريد أن أصبح راهباً. ولكن عندئذ بدأوا بصب الماء البارد فوق رأسي وتحول كل شيء إلى فراغ. لم أمر بمثل هذا الجحيم في حياتي من قبل. فقط لا أستطيع أن أفهم مغزى هذه العادة الغريبة ، الغبية جداً ، والتي بلا إحساس. أما عدم مسئولية الملوك الذين لم يجعلوا هذه العادة ممنوعة قانوناً ، فشيء خارج تماماً عن نطاق فهمي.

بعض الدلائل تجعلني أتساءل عما إذا كنت لم أسقط في أيدي المحققين. ربما كان الرجل الذي ظننته المستشار هو في حقيقة الأمر كبير المحققين شخصياً ؟ ولكن حتى على هذا الفرض ، فأنا لا أستطيع أن أفهم كيف أن الملك يمكن أن يتم إخضاعه للتحقيق. هذا يمكـن أن يكون من فعل فرنسا ، خاصة بولينياك*. ذلك البولينياك مجرد حيوان. لقد أقسم على أن يقودني إلى هلاكي. ولذا فإنه يناور ويناور. ولكني أعرف ، يا صديقي الرائع ، أنكم بدوركم يقودكم الإنجليز. والإنجليز ساسة عظماء. وهم يبذرون بذور الفرقة في كل مكان. العالم بأسره يعرف أنه عندما تأخذ إنجلترا النشوق ، فإن فرنسا تعطس.



التاريخ الـ 25
اليوم ، دخل كبير المحققين حجرتي. سمعت وقع قدميه يقترب بينما كان مازال بعيداً واختفيت تحت كرسي. تلفت حواليه ، ولما لم يرني ، بدأ في النداء عليَّ. في بداية الأمر صاح باسمي ووظيفتي في الخدمة المدنية. وظللت ساكتاً. ثم ، فرديناند الثامن ، ملك إسبانيا ! وكنت على وشك أن أطل برأسي ولكني فكرت في نفسي : لا ، لن يمسكوا بي بتلك الكيفيـة! فربما أرادوا أن يصبوا ماء بارداً على رأسي ثانية. ولكنه رآني وطاردني من تحت الكرسي بعصاه. إن عصاه اللعينة تؤلم ألماً مخيفاً. ولكن أحدث اكتشافاتي جعلتني أشعر أنني أفضل : فقد وجدت أن لكل ديك إسبانيا الخاصة به وأنه يحتفظ بها تحت ريشة. وانصرف كبير المحققين غاضباً غضباً شديداً ، وهو يهددني بصورة أو أخرى من صور العقاب. وبطبيعة الحال ، تجاهلت تماماً غضبه اليائس. فقد كنت أعرف أنه مجرد دمية. أداة في يد إنجلترا.



أُل 34 شر سة يراوبف 349
لا ، لم تعد بي بقية من قوة. لا أستطيع أن أتحمل المزيد. يا إلهي ! ماذا يفعلون بي ! إنهم يصبون الماء البارد فوق رأسي. وهم لا يصغون إلي ، لا يسمعونني ، لا يرونني. ماذا فعلت لهم ؟ لماذا يعذبونني هكذا ؟ ماذا يريدون مني ؟ ماذا يمكن أن أعطيهم ؟ ليس لديَّ ما أعطيه. لا حول لي ولا قوة ولا أستطيع تحمل هذا العناء ، رأسى تشتعل فيه النار وكل شيء يدور حولي في دوائر. أنقذوني ! خذوني بعيداً عن هنا ! أعطوني عربة تجرها جياد سريعة كالريح! انطلق يا قائد العربة ، ودع أجراس اللجام تدق ! اصعدوا إلى أعلى ، يا جيادي ، احملوني بعيداً عن هذا العالم ! أبعد ، أبعد ، حيث لا أرى شيئاً ، لا شيء. هناك السماء ينطلق منها الدخان أمامي. نجم يتلألأ بعيداً ، الغابة تندفع مارة بشجرها الداكن والقمر يتخذ شكل هلال. الضباب البنفسجي يصنع سجادة تحت الأقدام. أسمع رنين وتر جيتار عبر الضباب ؛ على أحد الجانبين ، البحر ، وعلى الجانب الآخر ، إيطاليا. ثم أكواخ روسية تلوح للبصر. ربما كان ذلك الذي هناك هو بيتي ، الذي يظهر أزرق على البعد. وأليست هذه أمي جالسة بجوار النافذة ؟ يا أمي ، أنقذي ابنك البائس ! دعي دموعك تسقط على رأسه المريض! انظري كيف يعذبونه ! خذيني بين ذراعيك ، فأنا طفل متشرد مسكين. لا مكان له في هذا العالم. إنهم يطاردونه. يا أمي ، فلتشفقي على طفلك المريض …

وبالمناسبة ، هل سمعت عن أن داي* الجزائر له نتوء صغير تحت أنفه تماماً ؟











































--------------------------------------------------------------------------------

* السمور أو القُنْدُس : حيوان من القواضم ثمين الفرو. (المترجم)

* الفودفيل أو الملهاة : مسرحية هزلية خفيفة تشتمل عادة على رقص وغناء. (المترجم)

** الدوبيت مقطع شعري مؤلف من بيتين. (المترجم)

* الكَبَر نبات تُخلل أزهاره وثماره. (المترجم)

* كلب قوي ناعم الشعر، قصيره. (المترجم)

* طائر طويل الساقين والعنق والمنقار. (المترجم)

* تسمية شائعة وخاطئة –خاصة في الغرب– لدين الإسلام. (المترجم)

* بولينياك (1780 – 1847) : سياسي فرنسي كان رئيساً للوزراء عامى 1829 و 1830. (المترجم)

* لقب سابق لحكام الجزائر وتونس وطرابلس الغرب. (المترجم)