آخـــر الـــمـــشـــاركــــات

+ الرد على الموضوع
النتائج 1 إلى 4 من 4

الموضوع: الشاعر جلال الدين الرومي

  1. #1
    باحثة وأستاذة اللغة الفارسية الصورة الرمزية د. فدوى
    تاريخ التسجيل
    11/03/2007
    العمر
    51
    المشاركات
    491
    معدل تقييم المستوى
    18

    الشاعر جلال الدين الرومي

    لعل جلال الدين الرومي من أكثر الأعلام الذين حظوا باهتمام خاص سواء لدي الشرقيين و الغربيين ، علي حدّ سواء . إذا ما استثنينا الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي. فهو، باتفاق الجميع، أكبر شاعر صوفي عرفته البشريه حتى اليوم. فما من شاعر غنّي المحبه و الجمال كما غنّاهما هو، و ما من شاعر غاص في أعماق النفس البشريّه كما فعل هو، و ما من شاعر ألهب قلوب العشاق كما ألهبها هو.

    و يعتبر مثنويّه، علي ضخامته ـ سته مجلدات ـ من أكثر الكتب رواجا و شهرة لكثره تداوله و شرحه و حفظ الناس لأجزاء منه. و يعود سبب هذا الانتشار الواسع، في جزء كبير منه، إلي فرقه المولوية التي أسّسها مولانا جلال الدين الرومي و المنتشره في أرجاء واسعه من العالمين العربي و الإسلامي …

    ولد جلال الدين عام 1207 في مدينه بلخ. و قد لقّب بالروّمي نسبه إلي أرض الروّم (بلاد الأناضول) حيث قضي معظم حياته. كان أبوه بهاء الدين ولد ، من كبار علماء الدين و كان يتمتّع بنفوذ معرفي و ديني واسع حتي أنّه لقب بسلطان العلماء، و كان له موقف من المشتغلين بالفلسفة و علم الكلام من أبناء عصره و منهم فخر الدين الرازي. و قد تتلمذ بهاء الدين علي الصوفي الكبير نجم الدين كبرى، مؤسس الطريقه الكبروية الدي تنبّأ بغزو المغول لمدينة بلخ، فنصح أتباعه و مريديه بمغادرتها قبل فوات الأوان. و هكذا غادر بهاء الدين ولد موطنه صحبه أسرته. و حسب ما رواه مؤرّخو سيره مولانا جلال الدين، فإن قافلته كانت أشبه بقافله الملوك و الأمراء إذ ضمت حوالي ثلاثمائه جمل تحمل أثاثه و مؤونته و مكتبته الضخمة.

    كان جلال الدين آنذاك في الخامسة أو السادسة من عمره، أخذت الأسره تنتقل من مدينة إلي أخرى ، و في نيشابور التلقى بالشاعر الصوفي الكبير : فريد الدين العطار. و تذكر الرّوايات أنه أخذ الطفل بين يديه و أهداه نسخه من منظومته «أسرار نامه»، متنبئا له ببلوغ أسمي المقالات الصوفيّة و بأنه «سوف يضرم النار قريبا في قلوب كل العشاق».
    و قد ظل جلال الدين طيله حياته يكن تقديرا خاصا لصاحب «منطق الطير»، الذي قال عنه: «لقد اجتاز مدن الحب السبع أمّا أنا فلّما أزل في منعطف أحد الشوارع».

    لم تمكث الأسرة طويلا في نيشابور، فقصدت بغداد و منها إلي مكة ثمّ إلي لارندا (قرمان الآن) حيث أقامت سبع سنوات. و خلال استقرار العائلة في هذه المدينة قام جلال الدين بعدّه زيارات لكل من حلب و دمشق. و كان قد التقي في إحدي زياراته السابقة لحلب صحبة والده بالشيخ الأكبر فصاح هذا الأخير عند رؤيته: «سبحان الله محيط يمشي خلف بحيره».

    بعد هذه الرحله الطويله استقّر المقام ببهاء ولد و عائلته في قونية حيث وافاه الأجل.

    لقد تزامن هذا الانتقال الدائم الذي قطع الشاعر خلاله مسافات طويلة سواء صحبه أسرته أو بمفرده مع تكوينه الأوّل علي يدي والده ثمّ أصدقاء هذا الأخير فيما بعد، فكانت رحلة علي مستويين: جغرافي و روحي. و هذا السفر يكاد يكون سمة يشترك فيها معظم المتصوفة و أهل الذوق في المراحل الأولي من حياتهم لأنّه عاده ما يكون موازيا لرحلة أخري أكثر طولا و أبعد غورا هي البحث عن الحقيقه أو عن شيخ يأخذ بيد السالك و يوجّهه الوجهه الصحيحة..

    بعد مرحله التكوين و اكتسابه معارف عصره و تفوقه فيها ..تولي جلال الدين التدريس في مدينة قونية حيث تزوّج من فتاة جميلة ذات حسب و نسب و قد حظي بعطف سلطانها السلجوقي، فطاب له العيش في هذه المدينة الخصبة ذات الجمال الأخاذ حتي أن العرب أطلقوا عليها اسم «أم البلاد» لما امتازت به من رغد العيش و طيب المناخ.

    و بفضل ما كان يتمتّع به من علم غزير و من قدرة علي التأثير، تحلّق حوله عدد كبير من الطلاب و محبي العلم. و كان حتي ذلك التاريخ لم يؤثر عليه اهتمام واضح بالتصوف أو نظمه للشعر و لعله أخفي ذلك لسبب من الأسباب أو للحفاظ على
    صورته كفقيه و رجل دين يلتزم بحرفيه النص لا يحيد عنه.



    و اشتعلت نيران الحبّ:

    في عام 1247 التقي مولانا، و كان في الأربعين من عمره بشخص غريب الأطوار يدعي شمس التبريزي، و هو درويش رحاله لا يقّر له قرار فقلب حياته رأسا علي عقب و تحوّل الفقيه الورع و رجل الدين المتّزن إلي شاعر و صوفي لا يكاد يفيق من شده وجده. لقد أضرم هذا الدرويش في قلب مولانا من الحرائق ما لا طاقه له به فانفجر فيه ينبوع الشعر و أدرك فجأه أنّه اهتدي إلي الطريق الذي خلق من أجله، و أن لقاءه بشمس تبريز كما كان يسميه لم يكن من باب الصدفة و إنّما كان أمرا مقدرا. و قد وصف لقاءه بهذا الدرويش الجوال و ما أحدثه فيه من تحول عميق فقال:

    عندما اشتعلت نيران الحب في صدري
    أحرق لهيبها كل ما في قلبي

    فازدريت العقل الدقيق و المدرسة و الكتاب

    و عملت علي اكتساب صناعه الشعر، و تعلمت النّظم

    لقد وجد مولانا في شمس التبريزي الإنسان الكامل الذي بلغ أسمي المقامات العرفانيّه فيما وجد شمس في مولانا الإنسان الوحيد القادر علي استيعاب و إدراك ما وصل إليه من كشوفات و منازل كان ينوء بأسرارها وحده إلي أن قادته إلي قونية.

    و تروي كل المصادر التي تضمنت سيرة الشاعر الصوفي الكبير أن مولانا أخذ الدرويش الجوّال إلي داره و بقيا منفردين في خلوه لمده أربعين يوما، يتناجيان و يتبادلان الأسرار. لم يدر أحد ما دار بينهما بالضبط لكن المؤرّخين و تلاميذ جلال الدين الروّمي يتّفقون علي أن هذا الأخير قد حقق الكمال الصوفي علي يدي شمس التبريزي بعد أن لقّنه، أثناء خلوتهما، من المعارف و الأسرار ما جعله أهلا لذلك. و قد استحوذ هذا الدرويش علي الشاعر و أثّر فيه تأثيرا غيّر مجرى حياته تماما فانصرف عن تلاميذه و عن الوعظ في المساجد ليتفرّغ للتأمل الصوفي و كتابه الشعر و إنشاده.

    لم يتحمل طلبة مولانا أن يروا أستاذهم و هو منصاع كل ذلك الانصياع لهذا الغريب فأضمروا له العداء و بدأوا يضايقونه فسافر خفيه إلي دمشق. فحزن جلال الدين الرومي لفراق صديقه حزنا شديدا، و لما ساءت حاله ذهب ابنه الأكبر سلطان ولد إلي دمشق و عاد بشمس. لكن حنق الطلاب عليه اشتد أكثر من ذي قبل فاختفي من جديد إلي غير رجعه هذه المره. و تذهب أكثر الروايات إلي أن تلاميذ مولانا و مريديه هم الذين قتلوه بتحريض من ابنه الثاني . و قد عبّر مولانا عن فجيعته بأستاذه و شيخه في أكثر من قصيده تنضح ألماً و لوعه:

    من ذا الذي قال إن شمس الروّح الخالدة قد ماتت
    و من الذي تجرّا علي القول بأن شمس الأمل قد ولّت

    إن هذا ليس إلا عدوّا للشمس وقف تحت سقف

    و عصّب كلتا عينيه ثم صاح: ها هي الشمس تموت

    لقد مرّ شمس التبريزي مرور النيزك في حياه مولانا ثم اختفي فجأه تاركا في قلبه حرقه لا تنطفيء كان من نتيجتها ديوان شعر كامل تجلّت فيه عبقريته الشعرية كأحسن ما يكون التجلي هو ديوان شمس التبريزي الذي كتبه تخليداّ لذكري صديقه و موجّهه الروحي. و تنضوي قصائد هذا الديوان تحت ما يسمي بالغزل الصوفي و هو فنّ قائم بذاته برع فيه الشعراء الفرس إلي جانب براعتهم في فنّ آخر هو الرباعيات فتاره يناجي الشاعر محبوبه:

    أيّها الحبيب إني أر طربّا في الكونين بدونك
    لقد رأيت كثيرا من العجائب و لكني لم أر عجبا مثلك

    إن الاحتراق بالنار يصيب الكافر

    و لم أر محروما من نارك سوي أبي لهب

    و تاره أخري يتّحد مع المحبوب و يصّور لنا ذلك بلغه المحب الذي توحد بمحبوبه حدّ الفناء:

    ما أسعد تلك اللّحظه حين نجلس في الإيوان أنا و أنت
    نبدو نقشين و صورتين لكننا روح واحده أنا و أنت

    لأن لون البستان وشدو الطيور يهبنا ماء الحياة

    في تلك اللحظة التي تذهب فيها إلي البستان أنا و أنت

    و تقبل نجوم الفلك رانية إلينا بأبصارها

    فيجلو القمر نفسه لتلك الأفلاك أنا و أنت

    أنا و أنت بدون أنا و أنت نبلغ بالذوق غاية الاتحاد

    فنسعد و نستريح من خرافات الفرقه إليّ أنا و أنت

    و سيأكل الحسد قلوب طيور الفلك ذات الألوان الباهرة

    حينما تشاهدنا نضحك جذلين علي تلك الصورة أنا و أنت

    و رغم كل هذه الأهمية التي احتلها في حياه مولانا، فإن كتب التراجم لا تكاد تقدّم لنا شيئا يذكر عن شمس التبريزي.

    و إذا كان شمس التبريزي قد ألهم مولانا ديوانا كاملا، فإنه كان أيضا وراء نظم «المثنوي»، أعظم آثار الشعر على الإطلاق و لكن بصورة غير مباشره هذه المرّة . فقد حث أحد المريدين أستاذه علي نظم عمل ملحمي طويل ينسيه ما تركه فيه فراق شمس من حزن ولوعه فما كان منه إلاّ أن استجاب لنصيحته. و هكذا بدأ هذا النهر الهادر بالتدفق فكان الشاعر يدخل فيما يشبه الغيبوبة و يشرع في إملاء ما تجود به قريحته علي إيقاع بعض الآلات الموسيقيّه و من حوله مريدوه يسجلون ما يقوله. و كان إذا اشتد به الوجد يقوم من مكانه و يطفق يدور حول أحد الأعمدة و الشعر ينثال من فمه انثيالا إلي أن يسقط علي الأرض و قد أنهكه التعب، و ظل علي تلك الحال سنوات طويلة كانت حصيلتها سته مجلدات ضخام تضم سته و عشرين ألف بيت من الشعر. و قد جاء في المقدّمه التي وضعها المؤلّف بالعربية : «هذا كتاب المثنوى و هو من أصول الدين في كشف أسرار الوصول و اليقين، و هو فقه الله الأكبر و شرع الله الأزهر و برهان الله الأظهر، مثل نوره كمشكاة فيها مصباح يشرق إشراقا أنور من الإصباح و هو جنان الجنان ذو العيون و الأغصان، الأبرار فيه يأكلون و يشربون و الأحرار ففيه يفرحون و يطربون، و هو كنيل مصر شراب للصابرين و حسرة على آل فرعون و الكافرين».

    و يقوم المثنوي علي مجموعه ضخمة من القصص يرويها الشاعر بأسلوب رمزي، مستشهدا بالقرآن الكريم و بالأحاديث النبويّة و الحكم و الأمثال القديمة. و رغم أن أصول الكثير من هذه القصص معروفه و سبق لشعراء أو حكماء آخرين تناولها إلاّ أنها هنا تبدو و كأنها تروي لأوّل مرّه لما أضفاه عليها جلال الدين الروّمي أخّاذه. كما تجلّت في هذا المؤلف الضخم ثقافة الشاعر الواسعة و قدرته علي توظيف مصادر هذه الثقافة بكل عناصرها الإسلامية منها و الوافدة علي حدّ سواء. ولئن طغى الطابع الفلسفي و التعليمي علي بعض القصص إلاّ أن ذلك لم ينقص شيئا من شاعريتها و توهّج لغتها، و هذه ميزه أخري ينفرد بها شعراء الفرس.

    و من أهمّ المواضيع التي عالجها المثنوي قضيّة الإنسان و أصله الإلاهي و حنينه الدائم إلي هذا الأصل، تماما مثلما يحنّ الناي إلي غصن الشجره التي قطع منها. و قد افتتح الشاعر عمله الملحمي بحديثه عن الناي و نغماته الحزينة ، و هي هنا كناية عن الروّح في حنينها إلي أصلها:

    استمع للناي كيف يقصّ حكايته فهو يشكو آلام الفراق قائلا:

    إنني منذ قطعت من منبت الغاب و الناس، رجالا و نساء يبكون لبكائي

    إني أنشد صدرا مزّقه الفراق حتي أشرح له ألم الاشتياق

    فكل إنسان أقام بعيدا عن أصله يظل يبحث عن زمان و صله

    لقد أصبحت أنوح في كل مجتمع و ناد و صرت قرينا للبائسين و السعداء

    و قد ظن كل إنسان أنه أصبح رفيقا و لكنّ أحدا لم ينقّب عمّا كمن في باطني من أسرار…

    إن صوت الناى هذا نار لا هواء فلا كان من لم تضطرم في قلبه مثل هذه النار

    و هذه النار اللتي حلت في الناي هي« نار العشق « و الحديث عن الناي يحيلنا مباشرة إلي الحديث عن الموسيقي التي شغف بها مولانا، و من هنا حضورها الطاغي في شعره، فقد كان يحسن العزف علي أكثر من آله موسيقية، كما كان يستعين بها و هو يلقي قصائده علي مريديه أثناء مجالس السماع. فلا غرو إذن أن تكتسي الموسيقي كل تلك الأهميّه في تجربته الروحية، و لا غرابه أن يشبّهها بصرير باب الجنّة و هو يفتح علي مصراعيه.

    المولويه: رمزيّه الرقص و السماع

    لم يكن جلال الدين الرومي هو أوّل من أدخل السماع إلي حلقات الذكر، و لكنه كان الأكثر احتفاء به، أمّا أوّل من نظم حلقات المولوية في صورتها التي تعرف بها الآن فهو ابنه سلطان ولد، فأصبحت قونية في عهده مركزا يضم التكية (الزاوية) الأم بعد إنشاء عدد من التكايا في المدن الأخرى .

    و كان المولويه يحظي بشرف تقليد السلطان سيفه عند جلوسه علي العرش، و هذا دليل علي المكانة المرموقة التي كانت تحتلها هذه الطريقة لدي الأوساط الحاكمة و علية القوم، حتى أن كثيرين من الأمراء و السلاطين قد انتسبوا إليها.و ظلت الموليه محل إجلال و تقدير طيله العهد العثماني إلي أن ألغاها كمال أتاتورك عام 1926 و أغلق جميع التكايا في تركيا، عندها تحوّلت تكيه حلب إلي مركز تنضوي تحت لوائه كل التكايا الأخرى.

    و تقوم المولويه علي عناصر ثلاثه أساسية هي الموسيقي و الرّقص و إنشاد الشعر و تحديدا مؤسّسها مولانا جلال الدين، و قد تعدّي تأثير هذه الطريقه حدود الحلقات الصوفيّة ليشمل فنونا أخري كالأدب و الرّسم و الخط، يشهد علي ذلك كثره الشعراء الفرس و الأتراك ممّن حذوا حذو مولانا في غزلياته و ما تحتويه المكتبات و المتاحف و منها متحف قونيا ـ من كنوز و مخطوطات نادرة من بينها المخطوط الأوّل للمثنوي ذي المنمتمات الرّائعة و المزيّن بالذهب.

    و حلقات السماع، بما فيها من رقص، هي تجربة كونية ، و طريقة للوصول إلي الحقيقه أي الى الله. و هو ما عبّر عنه جلال الدين الرومي نفسه عندما قال: «هناك طرق عديدة تؤدّى إلي الله و قد اخترت طريق الرقّص و الموسيقي». و من أقواله الأخري المأثورة عن الموسيقى قوله: «في توقيعات الموسيقي يختبئ سرّ لو كشفت عنه لتزعزع العالم»، و يضيف متحدثّا عن الرّبابة: «إنّها ليست سوى وتر يابس و خشب يابس و جلد يابس لكن منها يخرج صوت المحبوب».

    و ترمز الرّقصه الدائريّة التي يؤديها الدراويش ـ من هنا تسميتهم بالدراويش الدوّارين ـ إلي دورة المجرات في الفضاء الشاسع، و إلي كل ما يتحرك في الطبيعة من كائنات. أما حفل السماع فيجري علي النحو التالي، يدخل الرّاقصون إلى الحلبه مرتدين ثنايا بيضاء هي رمز للكفن و قد تجلببوا بمعطف أسود يمثل القبر و علي رؤوسهم قلنسوه طويلة من اللّبد هي صورة لشاهده القبر. ثم يدخل بعدهم الشيخ الذي يمثّل الوسيط بين الأرض و السماء، فيحيى و يجلس علي السجادة الحمراء التي يذكّرنا لونها بلون الشمس الغاربة و هي تنشر آخر أشعتها علي مدينة قونية يوم وفاة مولانا. ثمّ يشرع المغنون في ترديد مدائح و أذكار منتقاة من أشعار جلال الدين الرومي، عندها يتقدّم الدراويش ببطىء و يطوفون ثلاث مرّات حول السجادة الحمراء و يرمز عدد الدورات إلي المراحل الثلاث التي تقرّب السالك من الله و هي: طريق العلم أو الشريعة، و طريق الرّؤية أي علم الباطن و طريق المعرفة الحقيقيّه و الاتحاد مع الله.

    في نهايه الدورة الثالثة يتّخذ الشيخ مكانه علي السجاده فيتخلي الدراويش عن جلبابهم الأسود ليظهروا بلباسهم الأبيض و كأنهم تحرّروا من جسدهم المادي من أجل ولادة جديدة ، في تلك اللحظه يأذن لهم الشيخ بالرقّص فيطفقون يدورون ببطء، و قد مدّوا أذرعهم كالأجنحة: اليد اليمني و كفها إلي السماء و اليسرى و كفها إلي الأرض. و هذه الحركة هي كناية عن أن الدرويش يتلقّي الطاقة الحيوية من السماء ليمنحها إلي الأرض في عملية كيميائيّة يملك وحده أسرارها.

    و عند تبدىء الدورة الثالثة يدخل الشيخ الحلقه لأداء رقصته، فيتسارع إيقاع الآلات، ثم يبدأ الدوران في مركز الدائرة فيكون بمثابه الشمس و إشعاعها، و هذه اللحظة هي لحظة التحقق القصوى و الاتحاد مع المطلق، و عندما ينتهي الشيخ من الرقص و يعود إلي مكانه تتوقف الآلات عن العزف و يشرع المنشدون في ترتيل القرآن إيذانا باختتام مجلس السماع. و الرّقص في حلقات السماع هو، أوّلا و أخيرا، تحرير للجسد وانفلات من قيود المادة بحيث يصبح الرّاقص، و هو يدور حول نفسه، هو النقطة و الدائرة معا ـ أي محور العالم، و من خلاله تلتقي السماء بالأرض و تبدآن حركتهما فيكون السماع، و الحال هذه، مرآة أوسع هي حركة الأكوان المرئيّة و غير المرئيّة. أمّا الموسيقى المصاحبة فإنها كناية عن تناغم هذه الأكوان فيما بينها في نظام محكم هو أسطع دليل علي وحدانيّة الخالق.

    لقد كتب الكثيرون عن مولانا و رغم هذا الكم الهائل من الكتابات، و رغم كثرة الشروح و الدراسات التي تناولت آثاره و لاسيما المثنوي منها، يظل هذا الصرح الخالد يغرينا بالعودة إليه و البحث في عالمه المدهش لعلنا نكتشف سرّا لم يبح به أو نفكّ لغزا ضنّ بكشفه علي أقرب مقرّبيه .. فقد ترك لنا الشاعر جلال الدين ثروة معرفية و روحيّهةـ ذوقيّة ستظل تغري الباحثين عن الحقيقة بسبر أغوارها و اكتشاف كنوزها. و لا غرابة أن تكون أكثر آثاره و أعظمها شعرا لأن تجربة بهذا العمق و هذا التفرّد لا يمكن التعبير عنها إلاّ شعرا، أمّا آثاره النثرية فهي دون مستوى آثاره الشعرية كمّا و قيمه و أهمّها كتابه «فيه ما فيه»، و هي عباره عن دروس كان يلقيها علي طلبته أو أجوبة عن أسئله كانت توجّه إليه.

    أمّا الأثران الآخران فهما: «المجالس السبعة»، و هي مواعظ و خطب لا جديد فيها، و مجموعة من الرّسائل موجّهة إلي أقاربه و أصدقائه ، و قد جمعت هذه الكتب الثلاثه بعد وفاته …

    لقد حاولنا في هذا الإطلالة القصيرة علي عالم مولانا جلال الدين أن نقدّم ـ من زواية جديدة ـ جوانب من تجربته الروّحيّه و آثاره الأدبية لتقريبها من القارئ الذي لم تتح له فرصة الاطلاع علي هذه الآثار أو علي سيرة صاحبها. و هذا أقصى ما يمكن أن نقدّمه في حيّز كهذا، لأنّنا مهما فعلنا فلن نفي حق من قال فيه عبد الرحمان الجامّي (1414 ـ 1492)، و هو الآخر من كبار شعراء الفرس: «لم يكن نبيّا و لكنه أوتي الكتاب» و الكتاب المقصود هو المثنوي بالطبع.

    الهوامش :

    - Randon, Michel: MAWLANA DJALALIDDINE, Le soufisme et la danse, Sud editions, Tunis 1980.

    - Vitray - Megrovitch, Eva, Rumi et le soufisme, Seuil, Paris 1977.

    - Vitray - Megrovitch, Eva, Le liver dudedans, Sindbad, Bibliotheque persane, Paris 1982.

    ـ محمد كفافي، مثنوي جلال الدين الرومي، المكتبه العصريه، صيدا ـ بيروت 1966، المجلد الأوّل و الثاني.

    د.فدوى الشكري ، أستاذة للغة الفارسية ، مترجمة ، باحثة في مجال الداراسات الشرقية / سفيرة واتا في المغرب.

  2. #2
    عـضــو
    تاريخ التسجيل
    13/11/2007
    المشاركات
    3
    معدل تقييم المستوى
    0

    افتراضي

    الشكر كل الشكر لكى د/ فدوى

    أنا من اكثر الناس حباً لهذا الشاعر الصوفى ومن شابهه من الشعراء الفارسيين


  3. #3
    عـضــو الصورة الرمزية غادة فؤاد
    تاريخ التسجيل
    30/09/2006
    المشاركات
    75
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي

    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته بسم الله الرحمن الرحيم
    الأستاذة العزيزة لقد أحسنت الإختيار فجلال الدين من أشهر شعراء الفارسية بل أن كتابه المثنوى يسمونه بالقرآن الفارسي و يتضمن قيما تربويه تتمثل في بث أساليب معرفة الحقيقة و نيلها و قد عبر فيه عن رأيه في فلسفة الحياة ، و لا يفهم ذلك أى شخص عادى فإدراك مفاهيم المثنوى يتطلب استعدادا خاصا و قد تجد قصة من قصص المثنوى على شاكلة اسلوب كليلة و دمنة و قد استقى قصص المثنوى من مصادر عديدة مثل القرآن ، أعمال العطار ، نظامى و جوامع الحكايات أو من المعارف العامة .
    و قد اهتم الإيرانيون بهذا العمل الأدبي كثيرا حتى أنه تم تبسيطه للأطفال الإيرانيين في العديد من الأعمال و منها مجموعة (قصه هاى خوب براى بچه هاى خوب) أفرد له الكاتب "مهدى آذر يزدى " مجلد باسم ( مثنوى مولوى )
    000000 غادة فؤاد عبد المحسن


  4. #4
    عـضــو
    تاريخ التسجيل
    03/03/2009
    المشاركات
    12
    معدل تقييم المستوى
    0

    افتراضي رد: الشاعر جلال الدين الرومي

    شـكــ وبارك الله فيك ـــرا لك ... لك مني أجمل تحية .
    ارجوكم اريد مساعدتي في البحث عن غزليات جلال الدين
    ولكم جزيل الشكر:embarassed:


+ الرد على الموضوع

الأعضاء الذين شاهدوا هذا الموضوع : 0

You do not have permission to view the list of names.

لا يوجد أعضاء لوضعهم في القائمة في هذا الوقت.

المفضلات

المفضلات

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •