ضوء النهار*

للكاتبة الإنجليزية إليزابيث تيلور**

"وهكذا أََنْجَبَتْ لك ولدا آخر " قالها الطبيب وهو يرفع صوته قليلا ، كما يفعل من يستشهد بالكتاب المقدس ، ثم انتحى جانبا وجلس إلى مائدة الإفطار ليبين أنه قد انتهى توا من أداء مهمته.

"نعم ، يمكننا أن نستخدم تلك الكلمة مرة أخرى" ، قالها الأب موافقا ، وأضاف : "من الغريب أن النساء لا ينجبن بناتهن ، بل يأتين بهن فحسب."

وجلس في مكان زوجته ، وبدأ يصب الشاي ، ومد يده بالفناجين في غير مهارة حتى أنها أخذت تهتز في أطباقها ، وفي الطابق العلوي كانت ألواح الأرضية تصدر صريرا ، ومن حين إلى آخر كان الوليد ينفجر في نوبات من اليأس كما لو كان يُضْرَب ، ولم يَبْدُ على أي من الرجلين أنه سمع هذا ، وهما يحتسيان الشاي ، ويمرران يديهما بصوت أجش على ذقنيهما غير الحليقتين.

وأتت الخادمة الصغيرة بالأطفال ليتناولوا إفطارهم ، وتحملوا بسلبية مزاح الطبيب الذي كانوا قد اعتادوا عليه لأنه كان طيبا مع الأطفال ، ورُبطت الصدريات وتم صب اللبن.

"إنه هنا" ، قالها الولد فجأة ، مشيرا بملعقته إلى السقف ، وأضاف : "إنه يصرخ مثل طفل حقيقي."

وأنصتت البنت ، وقد توقفت عن مضغ الطعام في فمها ، إذ إنه عندما نطق أخوها بهذه الكلمات "إنه هنا" ، اتضحت لها الحقيقة ، وفهمت أنه كان من الضروري التأكيد على أنه طفل حقيقي ، لأنه كان طفلا غير حقيقي لفترة طالت كثيرا ، وخرجت من حالة عدم التوازن التي كانت فيها ، وأطلقت لانفعالها العنان ، ولوت فمها المليء بالطعام إلى أسفل وانخرطت في البكاء.

وحاولت الخادمة الصغيرة أن تُسرِّي عنها ، إلا أنها نفسها كانت مضطربة ، فقد انتهى الآن هذا الحدث الذي طالما كانت تخشاه كثيرا في سرها ، والآن وقد شعرت بالراحة ، لم تستطع أن تصدق ـ بعد كل الروايات التي قرأتها وبعد كل القصص التي سمعتها ـ أن أول شيء أيقظها كان هذه الصيحة الغريبة. "واحد من الأطفال" ، حذرتها أذنها المدربة ، تلك الأذن التي تختار ما تسمعه والتي تجاهلت صوت وصول السيارة ، ووقع الأقدام على درجات السلم ، وصوت الأبواب وهي تُفتح وتُغلق ، إلا أن الصوت الحاد والمحتج لم يكن ينبعث من أحد الأطفال الذين كانوا ينعمون بالنوم في سلام ، بل كان صوت الطفل الجديد ، الطفل الذي كانت تخشاه ، وعندئذ تقلب الولد الصغير وهمهم في نومه وقذف ذراعه بقوة عبر الوسادة ، ولكن البنت نهضت جالسة في فراشها وقالت : "هناك طفل يصرخ في هذا البيت" ، وأصغت بلا حراك بينما كان النسيم القادم من النافذة يرفع شعرها الهفهاف عن وجهها ثم ينزله.

"فنجان آخر ؟" قالها الأب الآن للطبيب.

"لا ، بل سأمضي. ابتهجي يا فتاة" ، قالها وهو يمر بالمقعد الذي جلست عليه الفتاة الصغيرة ، وهو يضع يده على رأسها إلى أن تملصت منه ، وأضاف قائلا بغموض : "لا دموع اليوم، كما تعلمين " ، ثم مضى إلى حيث بحث حوله - وهو يغالب النعاس- عن قبعته وحقيبته.

وفي الطابق العلوي كانوا يعطون الوليد حماما ، وكان الوليد قد احتج بغضب على تيار الهواء على جسمه ، أما الآن فإنه كان يقاوم انسياب الماء على أطرافه ، أما بجوار المدفئة فقد كانت في انتظاره ملابس صوفية ناعمة تكاد تكون قد شاطت دفئا.

"عما قليل سيقدمون إليك فنجانا ممتازا من الشاي" ، قالت هذا الممرضة العجوز ، إذ إن فناجين الشاي تملأ المكان عندما يولد طفل.

وكانت الأم ترقد وهي تغالب النعاس وقد أسندت رأسها عاليا على وسادات ، وتحس أنها مثل قارب كبير معطوب اصطدم بالشاطئ فأصبح خاويا منبوذا. "استمتعي بهذه اللحظة قبل أن تحمل عليك الحياة مرة أخرى" ، أسَّرت بهذا إلى نفسها ، وأضافت : "استمتعي بهذا السلام المريح وبالمسئوليات المخففة وبتسليم المسئولية للآخرين ، إنها للحظة تامة من النعيم ..."

"لقد أديت مهمتك على ما يرام" ، كانت تريد أن يقول لها أحد ، كما لو كانت ممثلة تؤدي دورا في ليلتها الأولى ، وعما قليل سوف يبدأ الورد في المجيء ، من زوجها أولا ، تلك الوردات الست ذات اللون القرنفلي التي تميل كلها إلى أحد جوانب زهرية غير مناسبة.

"أكاد أكون قد رأيته وهو يولد" ، جال بخاطرها هذا ، "فقد دفعت نفسي إلى أعلى ورأيته وهو يأخذ أول نفس له ، وهو يرقد هناك متمددا مبرقشا وقد غطت جسمه طبقة رقيقة في لون اللؤلؤ ، وكان صدره الرائع بارزا إلى أعلى ، وكان وجهه مكفهرا ، وانطلقت الصيحة منه ، "إنه لشيء كريه أن أولد" ، كان يبدو أنه يقولها بينما كان الهواء البارد يهب عليه.

"متى يستطيع الأطفال أن يدخلوا ؟" ، سألت وهي تغالب النعاس. "ليس قبل أن يأخذ حمامه ويُلبس ملابسه ، وليس قبل أن تتناولي الشاي ، إن أمامهم متسعا من الوقت."

"ولكنهم يريدون أن يروه وهو مازال جديدا."

"إنه لن يتغير كثيرا خلال نصف ساعة."

ولكنه كان قد تغير بالفعل ، فقد كانت قبضتاه الورديتان المطبقتان تبرزان من أكمامه المكشكشة ، وكان شعره يشبه الريش الرطب وقد مُشط إلى أعلى.

"ها هو ذا إذن" ، صاحت بهذا الممرضة وقد خلب لبها العمل الذي قامت به.

وكان هناك ، في ثوب مكشكش ومطرز وذي شرائط ، وقد دفعوا به دفعا داخل ثوب المدنية ، وتم سريعا ترويضه وتغييره وجعله يماثل غيره من الأطفال ، وكان رأسه يتمايل بصورة غريبة وبضعف ، واتجهت عيناه ذات الأهداب ناحية الضوء.

"ها هو ذا" ، قالتها الممرضة ، ومضت تقول : "ها هو ذا إذن." ولفَّته في شال وأرقدته إلى جوار أمه في الفراش.

"يا إلهي ، لقد نال مني التعب" ، جال هذا بخاطر الأم وقد أصابها الملل ، وجاهدت حتى رفعت إبهامها إلى داخل قبضته وتفحصت أظافره الدقيقة ، ومسحت بظهر أحد أصابعها على شعره الرطب الحريري ، وعلى خده الرقيق ، وتنسمت رائحته ، ثم خفضت عينيها بشدة ، وكان جسدها يبدو أنه يُسحب إلى الخلف إلى عالم النوم."

وقالت : "لابد من أن تأخذيه أيتها الممرضة ، "أريه للأطفال ، إنني ..." ، وبدأت تستسلم لثقل النوم ، غير أن الممرضة كانت تؤمن بأن الأمهات يحببن أن يبقين أطفالهن مستكنين إلى جوارهن بعضا من الوقت في أعقاب ولادتهم ، وكان هذا المنظر يُدخل على نفسها المسرة دائما ، وكان ـ في ظنها ـ يضع اللمسات الأخيرة لعملية الوضع.

وبينما كانت تنحدر خلال تيار النوم ، سمعت طرقا خفيفا على الباب ودخل زوجها وكان حليق الذقن الآن وهو يحمل الشاي.

وأعلن : "لقد انتهيت توا من كل شيء ، وكل شيء على ما يرام في الطابق الأسفل."

وسألت فجأة وقد استيقظت ثانية وهي تئن قليلا : "ولكن هل كل شيء على ما يرام حقا ؟ وهل تناولوا زيت السمك ؟"

"الآن ، الآن" ، طمأنتها الممرضة ، وهي تفكر في اللبن.

"نعم تناولوه" ، قالها وانحنى فوق ولده الجديد يداعبه بالصوت التقليدي جاعلا من نفسه أضحوكة ، كما جال بخاطر الجميع ، وبدأ الوليد في حشر أصابعه الدقيقة داخل فمه ، بينما أخذت الممرضة تقلِّب الشاي وهي واقفة على مقربة.

وعرف الزوج أنه كان يُطلب منه الانصراف ، فقد كانت هذه هي المرة الثالثة التي يصبح فيها أبا ، وانحنى يقبل زوجته وهو يقول : "لقد أحسنت القيام بمهمتك" ، وابتسمت في سلام ، لأنه لم يكن هناك شيء يمنعها من ذلك الآن ، وأصابها الخدر سريعا بادئا بقدميها ، وبدأت تنحدر وتسقط بل وتسبح في ظلام ، وإلى جانبها كان فم الوليد يطبق على مفاصل أصابعه المثنية ثم يطلقها ، ثم أدار عينيه بنظرة دهش إلى الضوء في الخارج.































--------------------------------------------------------------------------------

* نُشرت في مجلة القصة ، العدد 61 (يولية 1989) ، ص ص 45 – 49.

** كاتبة قصص قصيرة وروائية إنجليزية ، ولدت سنة 1912 وتوفيت سنة 1975. تستمد موضوعات قصصها من واقع معرفتها بالحياة العادية للطبقة المتوسطة. وتشبه أعمالها الإبداعية أعمال الروائية الإنجليزية المشهورة جين أوستن في خفة ظلها ، وأسلوبها الرشيق ، وبعدها عن العاطفة المفرطة. من أشهر أعمالها رواية Wedding Group جماعة الزفاف (1968) والتي تصف نتائج زواج متسرع ، ورواية Mrs. Palfrey at the Claremont السيدة بولفري في كلارمونت (1971) والتي تدور حول حياة الترمل. ومن أهم مميزات أعمالها أنها تصور الوحدة الشديدة القاسية التي تعاني منها شخصيات رواياتها وقصصها القصيرة.