1- أحمد شاملو: الحداثة في الشعر المعاصر الفارسي
أحمد شاملو
بعد نيما يوشيج، يعد أحمد شاملومن أهم ممثلي مدرسة الشعر الفارسي الحر، ويعترف شاملو بأستاذية نيما إذ يقول: <<أفقت على ناقوس نيما>>..
لقد فتح شاملو عينيه على قدر من الترجمات عن إيلوار ولوركا وعزرا باوند ومايكوفسكي، وعلى فعاليات حزب <<توده>> وشعار <<الفن للمجتمع>>، وكان لذلك كله تأثير في شعره. بدأ شاملو بداية تقليدية في ديوانه <<الألحان المنسية>> (1946)، وهو مجموعة غير متجانسة من الأشعار التقليدية كليا التي يظهر فيها تأثره بالشعراء الفرس الكلاسيكيين، وبأشعار لامارتين ، إضافة إلى الأشعار المتأثرة بنيما يوشيج، وبعض النصوص المتحررة من الوزن والقافية، التي اشتهرت في ما بعد <<بالشعر الخالص>> أو بتعبير آخر <<الشعر الحر>>.
لم يكن لانتشار هذه المجموعة أهمية كبيرة في عالم شاملو الشعري، كما تنبأ هو في مقدمة الكتاب: <<ان هذه الكتابات المنظومة والمنثورة ليست أكثر من أغان، ستُنسى قريبا>>، ولكن نشر هذه المجموعة أثار في حينه الكثير من الاهتمام، لأنها تضم أولى نماذج <<الشعر الحر>> في الأدب الفارسي المعاصر .
في ديوانه <<الحدائد والأحاسيس>>، نراه يقتفي أثر نيما مع شيء من التردد والتحفظ، وعلى الرغم من أن ديوانه هذا يحتوي على قدر من الرموز، إلا أنه احتفظ فيه بقالب الرباعي إلى حد ما.في عام 1949 نشر مجموعته الأخرى <<قطعنامه>> التي تحتوي على أربع قصائد طويلة من الشعر الحر، تشير إلى أن شاملو تجاوز فيها نيما، وخط لنفسه طريقا جديدا. في إحدى قصائد هذه المجموعة <<سرود بزرگ>> (النشيد الكبير)، التي يقدمها إلى رفيق كوري مجهول سماه << شن جو >>، يعلن تعاطفه مع أهل كوريا الشمالية، حين اجتاحت القوات الأميركية أراضيهم، يقول:
<<شن جو!
أين تدور الحرب؟
في ديارك
في كوريا
في آسيا البعيدة؟
ولكنك أنت
يا <<شن>>
أخيَّ الأصفر البشرة!
لم أشعر أبداً
أن بيتي وقصري
غير ذلك الكوخ القصبی، الطيني السقف.
لم يعد خافياً
يا شن
أنّ عدوك هو عدوي
وذلك الغريب الذي يشرب من دمائك، قد ثمل
من دماء أبنائي الداكنة
فلا تخضعنّ
الآن
لمشيئته.
الشعر هو الحياة في ديوانيه <<المناخ الجديد>> و<<حديقة المرآة>>، نقل أحمد شاملو الشعر الحر نقلة جديدة، ففي حين كان المعجم المكاني لدى نيما يحفل ببيئة :مازندران وطيورها وغاباتها، نجد أن المدينة هي البيئة التي يتحرك فيها شعر شاملو، الذي آمن بأن :الشعر صاحب رسالة اجتماعية، يقول في قصيدة
<< الشعر هو الحياة >>:موضوع الشعر لدى الشاعر القديم لم يكن عن الحياة وفي فضاء مخيلته القاحلة، لم يكن يتحدث إلا عن الشراب والمحبوب ،كان يعيش ليل نهار في الخيال مقيداً بشراك ضفائر الحبيبة المضحكة، في حين أنّ آخرين <<في يد كأس الشراب وفي الأخرى ضفيرة المحبوب>> يُعوِلون في أرضِ الله ثملين!
موضوع الشعر اليوم موضوع آخر..الشعر اليوم، سلاح الشعب لأن الشعراء فروعٌ في غابة الشعب وليسوا ياسمين حديقة فلان أو سنابلها.
شاعر اليوم ليس غريباً عن آلام الشعب المشتركة:فهو يضحك بشفاه الناس.آلامُ الناسِ وآمالُهم ملتحمةٌ بعظامه. الشاعرُ اليومَ يجب أن يرتديَ ثوباً جميلاً وأن ينتعل حذاءً نظيفاً لماعاً، في أكثر نقاط المدينة ازدحاماً يستوحي منه موضوع قصيدته ووزنها وقافيتها ، كلاً على حدى بدقة هي ميزته وحده من بين عابري الشوارع. الوزن والألفاظ والقوافي دائماً أنا أبحث عنها في الشوارع عناصر أشعاري كلها من أفراد الشعب، من <<الحياة>> (التي هي <<مضمون المقطوعة>>) إلى <<اللفظ>> و<<الوزن>> و<<القافية>> أنا أبحث عنها بين الناس هذا الطريق هو الذي يهب الشعرَ الحياةَ والروحَ .بشكل أفضل...هكذا فهم شاملو رسالة الشعر والشاعر وعبّر عنها بهذه التقريرية.
الشعر الأبيض: شعر سپید
لقد انتهى مصطلح <<الشعر الذهبي>> عند نيما إلى مصطلح <<الشعر الأبيض>> أو الشعر الحر عند أحمد شاملو، وزاد شاملو على نيما في أن الوزن الحقيقي للشعر يتأتى من طريق العبارات ذات الجرس الخاص، وليس من طريق التفعيلات. وعلى الرغم من أن شاملو أخذ كل أصول نظريته من نظرية الشعر الحر عند عزرا باوند، إلا أنه توسل عند تطبيقها بالنثر الفارسي المرسل في القرنين الرابع والخامس الهجري، وبالترجمات الفارسية للعهد القديم، وبخاصة <<نشيد الأناشيد>> و<<سفر الجامعة>> و<<المزامير>>، كما أنه استعان بالألفاظ ذات الجرس الخاص في الشطرة وهي وسيلة فارسية قديمة.
كان أحمد شاملو يؤمن بأن مسؤولية الشاعر نحو اللغة لا تقل عن بقية مسؤولياته، وأن بإمكانه أن يبتكر اللفظة طبقا لقواعد علم اللغة ويستخدمها في مكانها المناسب ويثبت أنها صحيحة، فيساهم في نشر هذه اللفظة المستحدثة بسرعة شديدة، من هذا المنطلق كتب شاملو قصائد كاملة باللهجة العامية، عمد فيها الى كتابة الكلمات كما تنطق بالفعل مع استعمال صيغ النحو العامي الفارسي، وهذا يتجلى في قصيدتيه: <<أيها الجان>> و<<ابنة البحر>>.
لم يلجأ أحمد شاملو إلى الرمز، كما فعل نيما لأن مفهوم الشعر عنده مختلف، ولكننا نحس في أثناء قراءة أشعاره أن هنالك تعبيرا غائما ، إنه يتحدث عن كل شيء، عن الحب والمجتمع ورسالة الشعر وصور الطبيعة وحياة الناس في المدينة، ولكنه لا يتحدث عن الموضوع الذي يريد أن يتحدث عنه بالفعل. ...لذا فإن أصدق ما في أشعار شاملو: الفواصل ولحظات السكوت.
يقول في قصيدته ( على أديم التراب) معبّراً عن حزنه على وفاة كل أصدقائه واختفائهم:
أصدقائي الذين لم أعرفهم احترقوا كالنجوم
منذ زمن طويل
وقد دفنوا تحت التراب البارد
كأنما
ستبقى الأرض دائماً ليلاً لا نجم فيه
ويكثر الحديث في أشعار شاملو عن الأزقة والدهاليز ومعابر السجون والمسجونين والليالي الحالكة الظلمة ومحاربة الظالمين والأزمنة التي لن تصل وعبث الموت ومجانيته:
لم أهلع قط من الموت
وإن كان الحديث عنه قد صار أكثر ابتذالاً من الموتِ نفسه وإثارةً للغثيان
إن خوفي كله أحياناً من الموتِ في أرضٍ
يكون فيها أجرُ حفارِ القبور
أغلى من حرية الإنسان.
لذلك كان لا بد من أن يحلم الشاعر بمدينته الفاضلة:
هنالك حيثُ العشقُ
لا يكون غزلاً بل ملحمة
كل شيءٍ سوف يتغيّر؛
السجنُ يغدو حديقةً غناء للناس
والتعذيب والسوط والقيد لا تُعدُّ
توهيناً للإنسان
بل معيار قيمته
وتغدو المذابحُ قداسةً وزهداً
.والموتُ حياة
مختارات من أشعار أحمد شاملو:
المصير :
صرت ظلَّ غيمة، وخيّمتُ فوق السهول
على الطريق حطابٌ يحمل على ظهره حمل الحطب
عابرٌ صامتٌ، كساه الغبارُ، قال في نفسه:
هه! ما هي فائدة أن يكون الإنسانُ ظلَّ غيمة؟
صرت غزالاً برياً أعدو في الجبال وفي الصحراء
الأطفال في السهل يتضاحكون فرحاً
مرّ حنطورٌ قديمٌ، قال السائسُ العجوز في نفسه:
هه! ما هي فائدة أن يصبح الإنسان ظبياً برياً دون أليف في السهل البعيد؟
صرت يمامة برية أقف في أعلى البرج المهدم
الفلاح علّق ثوبه على خشبة فوق بيدره
حارس السهل تطلع إلى خارج كوخه الظليل وفرك يديه وقال في نفسه:
ما هي فائدة أن يصبح ابن آدم يمامة برية وحيدة فوق برج قديم؟
صرت سمكة بحرية أطوي المسافات من الغوطة الحزينة حتى الخليج البعيد
الطائر البحري صرخ بحرقة على الساحل المهجور
الملاح قربَ قاربه على الرمال الرطبة قال في نفسه:
ما هي فائدة أن يصبح الإنسان سمكة هائمة في البحر خرساء باردة؟
صرت غزالاً برياً أهيم في الجبال والصحارى
صرت ظل غيمة أخيّم فوق السهول
صرت حمامة برية أنشد الامتلاء من السموات
صرت سمكة بحرية أسبح في المياه العكرة
ارتديت خرقة الدراويش وقرأتُ الأوراد
صاحبت البكم بحثاً عن الأسرار
انتعلتُ سبعة أحذية حديدية وسرتُ نحو جبل قاف
طائر <<القاف>> كان أسطورة، قرأت الأسطورة وعدتُ
اجتزت أراضي الأقاليم السبعة مترنحاً
طرقتُ باب منزل السحرة ولم يرمِش لي طرف
فتشتُ عن ذي همّة عالية في الجبل والسهل والبحر، وعبثاً بحثت،
ثم صرت سهماً واستقررت في نار الشعب.
نشيد لرجل من نور رحل في الظلمات
إلى علي- أحمد
كان ضعيفاً
كالإعتدال
ناحلاً و عالياً
كالرسالة الصعبة
ذات الكلمة الواحدة
في عينيه
السؤال و العسل
وجه أحمر
من الريح و الحقيقة
رجل ينبجس كالمياه
رجل
هو موجزه الخاص
الدويبات المرتابة
تراقب جثتك
قبل أن يحيله البرق
الغاضب إلى رماد
كان نزع قدة
من خاصرة الثور- العاصفة
و كي يختبر المعتقدات القديمة
استهلك أسنانه
في أسلاك الأضرحة
تاه
بعيداً عن الدروب المعروف
مرّ متخفياّ
حيث كل غابة
و كل جسر
يعرفان النشيد
لا تزال الدروب ساهرة
في ذاكرة خطواتك
الذاهبة نحو النهار
لكن الفجر يشرق لأجلك
قبل أن تصيح الديكة في الصباح
عصفور يتفتح في جناحيه
امرأة تتفتح في نهديها
.حديقة تتفتح في شجرتها
أمرٌ ليلي :
لا شيء لنقوله
ماذا نقوله ؟ لا شيء نقوله
من الأمل ترتفع نسمة
و لكي تهمس
في إتساع الصحراء
ما من دردارة في طريقها .
ماذا نقوله ؟ لا شيء نقوله
خلف الأبواب الموصدة
الليل المليء بالسكاكين و الأعداء
إنه جالسٌ
عدواني
صامت
السقوف
تحت الليل
محنية
الشارع , تعب من ذهابه و مجيئه
من الليل إلى العين الحاسدة
من الليل العنيد
ماذا نقوله ؟ لا شيء نقوله
في إتساع هذه المدينة كلها , لا ضجة
سوى ضجة فأر يقضم كفنا
و في مكان الظلمات هذا
لا أنين , سوى أنين أرملة
تبكي زوجها , في العتمة
و إن هبّ النسيم
كي تهمس
ما من دردارة في طريقها
ماذا نقول ؟
لا شيء لنقوله
عن بغض طافح
كتبنا
بكينا
و نحن نضحك, رقصنا
و نحن نصرخ
ضحينا بأنفسنا
لا أحد أقلقه ذلك
هناك , في البعيد
شنقوا الرجل
.لا أحد رفع رأسه
جلسنا
بكينا
و بصرخة واحدة
قفزنا
خارج أنفسنا
في هذا المأزق
يستنشقون شفتيكَ
ليعرفوا إذا قالت أحبكَ
يستنشقون قلبك
يا أضحوكة الزمن يا صديقي
يُجلد الحب
بجانب الحارس - المجنون
يجب إخفاء الحب في الغرفة الضيقة
في هذا المأزق المعذب من البرد
تبقى النيران مشتعلة
يغذيها النشيد و الشعر
لا تخاطر بالتفكير
يا أضحوكة الزمن , يا صديقي
الذي يلطمه الليل بالباب
الذي جاء ليخنق المصباح
علينا إخفاء النور في الغرفة الضيقة
ها إن الجزارين
يتمركزون على مفترق الطريق
مع القاعدة السنديانية و الفأس المدماة
يا أضحوكة الزمن يا صديقي
ينبثقون لإستئصال الإبتسامة
من على الشفاه
و الأغنية
من الحلقون
علينا إخفاء حماستنا في الغرفة الضيقة
المفضلات