كتاب



المقام العراقي
الى أيـــــن !؟


دراسة تحليلية فنية نقدية فكرية برؤية مستقبلية




















تأليف
حسين اسماعيل الاعظمي بغـداد 2000





















الحلقة (2)


























ومن ناحية اخرى لم يكن الحكم على جودة الاعمال الغنائية والموسيقية في تلك الحقبة الزمنية ، من زاوية تطور الناحية الفنية وقيمها العلمية في اداء هذه الاعمال ، بل كانت النظرة سائدة بالاهتمام الزائد بقواعد التقليدية الغناسيقية المحلية التي يؤدى بها المقام العراقي ، حيث وصل الامر الى حد ان المؤدي الذي يطبق الاصول التقليدية بشكل جيد يحسب في خانة المؤدين الجيدين حتى لو وصل الامر الى تواضع موهبته الصوتية ، بل حتى لو لم يكن ثمة مستمع إليه …!!!
وفي النصف الاول من القرن العشرين بدأت هذه النظرة التقويمية الى الاعمال الفنية تضمحل شيئا فشيئا بسبب تطور المستوى الثقافي والامكانيات المتاحة لهذا التطور حتى اصبحت النظرة الى جودة الاعمال الفنية عموما والغناسيقية خصوصا تجنح نحو الاهتمام بالنواحي الفنية والعلمية والذوقية للاعمال الفنية بوجه عام .. ذلك ان التغيرات الاجتماعية والاقتصادية العميقة كان لها الاثر الفعال في ذلك .. وكان المنعطف الكبير تأسيس معهد الفنون الجميلة في ثلاثينيات هذا القرن ، حيث شمل عدة فنون اخرى مع فنون الموسيقى ، اذ كان المسرح والتمثيل والسينما والرسم والخط ..الخ ولم يمض وقت طويل حتى ظهر فنانون كبار ، بعضهم اكمل دراسته في الخارج ، وبدأ المستوى الثقافي للفنون يتطور بفضل المعهد وتخريجه طلبة موهوبين .. ولا شك ان هؤلاء هم في الحقيقة بداية النهضة الحديثة للثقافة الاكاديمية للفن الغناسيقي والفنون الاخرى .. وسوف نرى ان هذا التطور مع تقدم الزمن قد اظهر لنا فنانين كبارا استطاعوا بامكانياتهم ومواهبهم وجهدهم تجاوز المحلية والانطلاق الى الآفاق العالمية في الفن الغناسيقي وباقي الفنون الاخرى .. ولعل اعظم انجاز للموسيقى العراقية هو عودة التاريخ من جديد في ظهور المدرسة العراقية والعربية الحديثة في العزف المنفرد على آلة العود وكان ذلك على يد العازف الشهير الشريف محي الدين حيدر(16) ، هذه المدرسة العزفية التي سادت الوطن العربي ولا تزال في ذروتها كأول ثمرة كبيرة ومفيدة من ثمرات النهضة الموسيقية الحديثة في عراقنا العظيم .

فكان معهد الفنون الجميلة الذي خرج الجيل الاول من روّاد العزف على آلة العود وهو الجيل الذي أرسى دعائم هذه المدرسة الجديدة في اساليب عزفها وتعبيراتها والمستوى التكنيكي الذي وصل اليه العزف على آلة العود … هذا الجيل المؤسس كان قد استوعب كل الخزين التراثي لموسيقى البلد ومن ثم استقى ألحانه وعزفه واسلوبه منه ، وانطلق الى الآفاق الخارجية متأثرا بموسيقات الشعوب الاخرى وتجاربها وثقافاتها المختلفة معبِّرا عن روح العصر الذي يعيشه متجاوزا بذلك المحلية الصارمة . ويمكننا ان نشير الى فضل بعض الاسماء اللامعة في هذا المجال للجيل الاول فكان الشريف محي الدين حيدر الأب الروحي لتلاميذه ومنهم جميل بشير(17) وشقيقه منير بشير(18) وسلمان شكر(19) وغانم حداد(20) ثم تلاميذهم علي الامام(21) ومعتز محمد صالح(22) …الخ وهكذا استمرت هذه المدرسة تزخر بالتلاميذ الجيدين الذين اخذوا مكانهم اللائق في مسيرة العزف المنفرد على آلة العود من امثال سالم عبد الكريم(23) وصفوة محمد علي(24) وخالد محمد علي(25) ونصير شمة(26) وآخرين تكثر وتطول بنا قائمة اسمائهم .
ولاشك ان قضية البعث الثقافي الموسيقي هذه ، في العراق من جديد ، لا يمكن ان نلخصها هنا بسهولة ، ذلك لعمقها وتأثيرها التاريخي في مسيرة الغناء والموسيقى في بلدنا الغالي … بيد انه من المهم ان نتطرق الى تأسيس معهد الفنون الجميلة عام 1936 لكونه البداية الحقيقية لدراسة الموسيقى بصورة اكاديمية رصينة ، ورغم اننا تحدثنا عنه بعض الشيء لكننا سوف نحتاج الى ان نتذكَّره دائما ، لأن هذا التطور متى حدد ، امكن اعتباره مرجعا مستمرا لثقافتنا الغناسيقية ، وكذلك ايضا لأن هذا المنعطف التاريخي هو ايضا بداية تطور الحركة الجمالية
الحديثة المستمرة النمو ، خاصة وان الاذاعة العراقية تزامن تأسيسها مع تأسيس المعهد ، فكان المذياع فيصلاً حاسماً في ايصال الغناء والموسيقى لكل الشعب .. وبالتأكيد فإن هذه التحولات الثقافية سوف تؤشر بما سيتحقق من تطور في الغناء والموسيقى .. ومعلوم لدينا جميعا ان هناك دائما طرفان في التأثير والمؤثرات يتعرض له الغناء والموسيقى ، فالاول هو التأثير الخارجي أي خارج المحلية والثاني هو التأثير الداخلي أي تفاعل الثقافة الغناسيقية فيما بينها خارجيا وداخليا بحيوية وسعة افق لتحفظ لنا غناءنا وموسيقانا ومشروعا للتجديد مستقى من التراث.
هذه الميول التي ظهرت في العقود الاولى من القرن العشرين التي بدأت تزعزع وتحرر الهيكل الادائي الصارم في اصول المقامات العراقية ومن ثم تقارب الفنون فيما بينها وتلاقحها ، كان اعلانا واضحا بالاهتمام بالعمليات الاستاتيكية(27) للاداء التي اصبحت اكثر ظهورا واتساعاً مع توغل الزمن في القرن العشرين . ان هذا التاريخ كان سجلا للانفتاح على العالم الخارجي لنتأثر ونؤثر بالآخرين .
ان معهد الفنون الجميلة كان هو المدرسة الاولى التي تمرن فيها فنانون عديدون ، فقد تعلَّم فيها شباب من بغداد العاصمة وشباب من المحافظات حتى وصل الامر بعد مرور الزمن الى فتح فروع اخرى للمعهد في بعض المحافظات ، ثم انطلق اولئك الشباب يرفدون موسيقانا بالعلم والمعرفة والانجازات والنتاجات الادائية الجمالية ، وظل المعهد كمركز علمي للموسيقى والفنون الاخرى وحيدا في بغداد ، الى ان اسست مرافق علمي اخرى زخرت بالنشاطات .. منها الفرقة السمفونية الوطنية العراقية التي تعتبر اكبر انفتاح واطلاع على معالم الموسيقى العالمية وكان ذلك اواخر الاربعينيات ومع مرور الزمن أُسست اكاديمية الفنون الجميلة عام 1969 ثم أُسست مدرسة الموسيقى والباليه في نفس العام التي تعتبر هي الاخرى انفتاحا راقيا على موسيقى وباليه العالم .. وتبع ذلك تأسيس معهد الدراسات النغمية العراقي عام 1970 الذي اخذ على عاتقه الاهتمام بتدريس المقام العراقي بشكل علمي فني واخيرا فتح قسم الموسيقى في اكاديمية الفنون الجميلة 1987 ، اضافة الى ان استمرار انتشار المعاهد الاهلية لتعليم الموسيقى التي كانت موجودة قبل فترة تأسيس المعاهد والمؤسسات الرسمية حيث كانت الرافد المباشر للثقافة الموسيقية زمنذاك ..
على كل حال استطاع المقام العراقي ان يعدد اشكاله ، وان يكون حاضراً في كل مكان من حياتنا اليومية ، سواء كانت هذه المرونة نتيجة لمكانته الدائمة ام احد اسبابها . انها تأتي للقاء السامع ، وقد كان الاغنياء خلال العهود الماضية هم وحدهم الذين يستطيعون سماع الغناء بالحالة التي يريدون ، وكان جمهور المغنيين محدودا بسبب سوء الحالة الاقتصادية التي لا تتيح الا بعض مستلزمات المعيشة الضرورية ، عندها برزت مسارح المقاهي الشعبية ، لعدم توفر الضياء اثناء الليل واستحالة السماع في بيوت مكتضة بالسكان وبسبب قلة المسارح الرسمية التي يغنى من خلالها المقام فقد كانت معظم الحفلات المقامية تقام في وقت العصر وعند غروب الشمس ، من الذي كان يسمع أذن؟ ومن كان يريد السماع ؟
في القرن الحالي هذا اتسع جمهور المقام ، وفي الوقت نفسه نفذ التعليم المقامي والموسيقي الى اوساط اجتماعية بقيت حتى هذا الحين بعيدة عن الثقافة الادائية للمقام العراقي ، وقد اتاح اختراع اجهزة الحفظ والتسجيل إستنساخ عدد كبير من النسخ الغناسيقية الصوتية وأدى ذلك الى خفض ثمنها ، كما أدى انتشار الصحف الى نشوء الحديث عن كل ما يتعلق بالغناء العربي والعراقي وعلى الأخص المقام العراقي بشكل واسع جداً حتى أيامنا هذه ، وصار كبار الموزعين للشريط الصوتي أصحاب شركات كبيرة يوزعون ويروجون للغناء لإيصاله بالسرعة الفائقة الى أسماع الناس جميعاً ، وفي العقود الأخيرة من حياتنا أنتشر شريط الكاسيت بشكل واسع ومذهل بميزته العملية عن شريط التيب (البكرة) .. وهذا يعني .. كنتيجة حتمية انه اذا كانت مجموعة قليلة من الناس تستمع الى المقام اصبحوا الان جماهير غفيرة بفضل هذا الانتشار السريع للاجهزة الصوتية ، فمن المغنيين العراقيين الذين انتشرت لهم تسجيلات صوتية وعبرت شهرتهم الآفاق حتى خارج الحدود كان تفوق محمد القبانجي منذ العقود الاولى للقرن العشرين ثم تبعه آخرون في الشهرة مثل ناظم الغزالي الذي أمسى أشهر مغنٍ عراقي على الاطلاق في الوطن العربي وكذلك اشتهر يوسف عمر الذي حافظ على الطرق الإدائية التقليدية، ونتيجه او استمراراً للتطور الذي يحصل لاجهزة الانتشار ظهر شباب جدد على الساحة الغنائية المقامية منهم من عاصرتهم ولا ازال في غناء المقامات وكذلك ظهر المغنون الاحدث واكثرهم من طلابي في معهد الدراسات الموسيقية منذ العقد الثمانيني . فكان في الخمسينات عبد الرحمن خضر وحمزة السعداوي وفي الستينات عبد الرحمن العزاوي وعبد القادر النجار وعبد المجيد العاني وفي السبعينات كنت مع زملائي الذين جاؤوا بعدي بسنوات منهم سعد عبد الحميد الاعظمي وفاروق قاسم الاعظمي وعلى إرزوقي وفي الثمانينات طلبة المعهد الذين تبلورت قدراتهم واصبحوا مغنيين جيدين ولعل المغنية فريدة تقف في المقدمة وكذلك عوني قدوري ومحمود حسين وآخرون غيرهم .
قبل ان تتبلور كنوز اداء المقام العراقي في حبكتها وتقاليدها الفنية ، تراكمت كنوز اخرى تفوق التقدير من الوان غنائية شفوية وعفوية التي قد لا يخلو منها أي بلد في العالم ، الغناء البدوي ، الغناء الريفي ، غناء الصحراء ، غناء الجبال ، غناء السهول ، وغيرها من البيئات والتضاريس المناخية والجغرافية… وقصص تروي مآثر الغناء العفوي الصادق من خلال ابطاله المؤدين الباهرين ، واذا توغلنا زمنياً فأننا لا نجد امامنا سوى بعض المصادر والكتب التي تؤرخ هذه القصص دون سماعنا للغناء طبعاً ، الا ما سجل في مطلع القرن العشرين بالاسطوانة (كرامافون) والاشرطة الصوتية ومن بعدها المرئية وذلك لظهور وتطور عصر التكنولوجيا وأجهزة الحفظ والنشر بشكلها الواسع المعروف ، وفي ايامنا هذه هنالك من يحاول القيام بجرد لهذه الثروة عن طريق تسجيل الحكايات الشعبية وتسجيل التراث بشكله العام بواسطة البحث العلمي المنهجي … تحت لواء علم الفلكلور ..
ومن خلال تتبعنا لهذه المحاولات البحثية في اعماق التراث بشكله العام والموسيقي بشكله الخاص ، فقد تبين ان هذا الفن المتوارث شفهياً في اشكاله السردية التي تهمنا ، يمتزج في اصله بالدين ويتضح هذا المفهوم بشكل اكيد في علاقة غناء المقام العراقي بالاداء الديني في المناقب النبوية و التهاليل و الحسينيات والأذكار وغيرها من الشعائر الدينية الاخرى ، وحينما نقارن بين فصل من فصول المولد النبوي الشريف ومقاماته التي تؤدى فيه وبين المقامات الدنيوية المناظرة له لا نجد فرقاً سوى ان الكلام أختلف وبقي المسار اللحني لأصول ذلك
المقام نفسه دون تغيير يذكر ، وقد نعثر على بعض الالفاظ الممتزجة بمسار او جملة لحنية بها في الغناء الدنيوي ومعدومة في المناقب النبوية لعدم جواز او موائمة ذكرها في الالقاء الديني كونه لا يركز على التطريب بل على الخشوع والابتهال الى الله سبحانه وتعالى.
ان التراث الشفاهي السردي يزود الإنسان بذاكرة هائلة الاتساع فهو يجمع وينقل التقاليد او بالاحرى الثقافة التقليدية المعتمدة على ثقافة الذاكرة عموما وكذلك الاساليب الغنائية ويضمن وصولها الى الاجيال الاخرى بعد ان يحورها ويبلورها بصورة عميقة ويثبت ما هو حقيقي ويضع ما هو جميل وخلاب نزولا عند تطور المجتمع وتبلوره وانتشار المعرفة والابداع فهو نتاج مشاعر وعواطف واحاسيس لا حصر لها تتساءل وترغب في تفسير الاساليب الجمالية من خلال عملية الابداع والتطور ..
اما مكانة الفنان في تلك الحقبة فقد كان الفنان الموسيقي على وجه الخصوص حتى الملتزم خلقياً ، يعتبر أنساناً غير مرغوب فيه اجتماعياً وعلى كافة الاصعدة والمستويات !!!؟..
نتيجة النظرة الضيقة الافق من قبل الناس الى الفن بشكل عام ، ولنا ان نتصور كم كان فنانونا يتحملون الشيء الكثير من التضحية امام قساوة المجتمع !! هؤلاء الفنانون الذين منحوا مشاعرهم واحاسيسهم لمتعة هذا المجتمع … لذا فقد كانت هذه الحالة توشك ان تهوي وتهدم حصون الفن الموسيقي خاصة ، من الرأس الى الاسفل .. لولا وجود بعضٍ من الفئات الاجتماعية المتمدنة ذات الافكار الحضارية التي ساهمت في تشجيع الفنانين واحترامهم ودعمهم معنوياً …
ان حقبة النصف الاول من القرن العشرين تعتبر بحق حقبة تحولات في شتى المجالات ، وفيها اختلف الوضع الموسيقي اختلافاً كلياً عما سبقه في القرن الماضي ، وقد اسفرت هذه الحقبة عن بعث حياة جديدة لتاريخ غنائنا وموسيقانا بعد ان كان وضع الفن الموسيقي يكاد ان يكون منعزلاً عن التأثيرات الخارجية التي كانت حصيلتها ضيق الافق الثقافي المتأخر . حتى أن الناس كانوا لا يرسلون اولادهم الى أي مركز تعليمي لفنون الموسيقى ذلك ان المنظور في هذا الموضوع
يعتبر عيباً وعاراً ، أما العامل الديني فكان دوره مؤثراً سلباً او إيجاباً ، فنظرة الأديان عامة الى الموسيقى والغناء تتباين صعوداً أو هبوطاً ، لذا فالعوامل عامة افرزت رواسب اصطبغت بها النظرة الاجتماعية بشكل كبير ، ويحلو للبعض ان يقول أنها زعزعت الثقة في نفوس بعض الفنانين ، اما البعض الآخر فأكثر حدة عندما يتجرأ فيقول ( تعتبر هذه العوامل اسباباً مباشرة في التأثر الثقافي والموسيقي.
اما بالنسبة الى حال الاداء في القرون الاخيرة فقد ولد المقام العراقي في القرن العشرين مجدداً في اداء المطرب الكبير محمد القبانجي ومن جاء بعده من المبدعين اعتمادا على التجارب الاولى التي سبقت هذه المرحلة في القرون الاخيرة وعلى انقاض الثقافات الادائية البسيطة للمؤدين في تلك القرون ، حيث احتل الاداء المتوارث موقعا مهما في تفكير مؤدي تلك الحقبة الزمنية ..
لقد كان الشكل المؤدى للمقام العراقي منذ القرن الثامن عشر تقريبا يعتبر المثل الاعلى للافكار السائدة في ذلك الوقت او طيلة القرون الماضية ، ولكن ما ان حل القرن العشرين حتى غدا الشكل الادائي للمقامات عموما يتحرك بديناميكية جديدة كان مثلها الاعلى تلك البواعث الابداعية الجديدة في الاداء المقامي التي انجزها محمد القبانجي ، مما اضفى على شكل ومضمون الاداء المقامي نكهة جديدة واطاراً جماليا ومعنىً حضارياً جديدا اختلف كثيرا عن ما كان عليه في القرون الماضية ، حيث قطع المؤدون منذ القبانجي شوطا كبيرا في عملية تطوير الاداء المقامي .
وفي القرن العشرين انحصرت اهمية الدقة في الاداء المقامي على النظرة العلمية والفنية والجمالية ، منذ بداية العمل الادائي حتى نهايته ، في انها تعبير عن القيمة الفنية للعمل ككل .. فالمؤدي يتملكه شعور يسيطر على كيانه ، فهو يبغي التفنن في كل ما هو جميل ، فنرى ان اداءه ينطوي على جوهر هذا الشعور .. فالقبانجي يمنحنا متعة كبيرة في هذا الشأن بأداءه الدقيق للمقامات العراقية خاصة التي اداها في عشرينيات وثلاثينيات هذا القرن وكذلك الشأن في مقامات رشيد القندرجي وحسن خيوكة وناظم الغزالي ويوسف عمر ونجم الشيخلي واحمد موسى وعبد الرحمن العزاوي وغيرهم ، فالاداء عندهم ليس مجردا او جافا بل اداءا فنيا استاتيكيا مناسبا لذوق المتلقي .. لذلك فقد اصبح اداء هؤلاء المؤدين تفسيرا شعوريا لما يكتنف احاسيس ومشاعر الناس وجمالياتهم في التذوق الغناسيقي …
ثمة وشائج كثيرة بين اداء القبانجي صاحب الابداعات الزاخرة في ادائه للمقامات منذ العشرينيات وبين الذين ادوا المقامات من بعده … ومن هذه الوشائج يمكننا التحديد بأن القبانجي بطريقته الادائية الجديدة قاد الاداء المقامي بشكل عام الى منحىً جديد في التعبير عن الديناميكية الادائية ، فكان ظهوره انعطافة كبيرة في تطور هذه الناحية التي بها استطاع ان يجبر المؤدين اللاحقين له ان يمتثلوا لطريقته الفذة مبتعدين بذلك عن تعبيراتهم الذاتية في الابداع وظلوا اسيري طريقته ، ان الثبات الادائي في طريقة القبانجي هذه لفترة لا تزال قائمة منذ ظهورها اوائل هذا القرن التي انطوت على تقليد الكثير من مؤدي المقامات لها .. تعني اضافة الى ذلك ، اقرار جماعي من قبل الجماهير المتلقية بنجاح وقوة هذه الطريقة فنيا وتعبيريا ، وهذا هو شأن الاعلان عن الاستاتيك الجديد والقيم الفنية الجديدة التي تعتمد على العقل والشعور اللذين يمسيان عند جمعهما عضويا ، الفكرة الرئيسة التي تسود الاداء المقامي … فماذا يريد المتلقي اذن وما هي المزايا التي يبحث عنها عند سماعه للمقامات العراقية بشكل عام ..؟ ولماذا لا يزال يسمعها ؟
اعتقد ان من واجب المغني او المغنين ان يفهموا عصرهم وان يعبروا عنه بصورة دقيقة ، لأن المستمع ابن عصره وقد نشأ ضمن بيئة ومحيط يريدان تعبيرا فنيا يلائمهما ، فليس من المعقول ان يتفاعل المستمع مع اسلوب وتعبير يعودان الى فترة زمنية سابقة كحاجة ضرورة تعبر عما يريده ، لذا فعلى الفنانين المؤدين ان يعالجوا بوضوح قضايا المجتمع ، بطبيعة الحال ان المستمع لا يولي اهتماما ملحوظا بالتجارب الفنية المعاصرة فهو يعتقد ان من الضرورة ان يتخذ المقام او الغناء عموما صفة اجتماعية ، لان المقام العراقي الذي يصفونه بأنه ينتمي من حيث الشكل والمضمون الى قرون ماضية ، أي الى فترات اعتقد فيها المستمعون
ان من الممكن للمقام ان يكون لوحة امينة للواقع .. لكن هذا الامر يتعلق ببلوغ هذا الواقع او بالتعرف على انفسنا فيه او الهروب منه .
على كل حال اصبح الغناء والموسيقى يصلان الى اسماع كل افراد المجتمع ، نتيجة التطور السريع الذي حصل في وسائل الانتشار .. ونتيجة لذلك ايضاً اصبح الفن نوعا من البضاعة تنتج وتروج حسب الوسائل التجارية .. عندها اختلف الوضع في عصرنا الراهن عن العصور الماضية ، فقد كانت الاعمال الفنية هي التي توفق بين التأمل والاحساس والعاطفة وبين امكانية المستمع على التفهم والاستيعاب ليظهره على نحو محسوس .. اما في عصر التكنلوجيا والانجازات السريعة المذهلة فقد اصبح الامر عكس ذلك تماما ، فقد امسى النتاج الفني يتملق الكثرة من المستمعين ليخلق منهم مجموعة كبيرة لا راد لقضائها تسمى ( الجماهير ) ..
من ناحية اخرى ظهر بشكل جلي ، التنوع في الوان الغناء نتيجة تعدد البيئات ، اقليمية او تركيبات اجتماعية مختلفة … اذ كانت الحاجة ماسة للتعبير عن وجود هذه الالوان الادائية بعد ان ساعدت على ظهورها على المستوى الاعلامي شركات التسجيل الاجنبية التي تجولت حول العالم لتسجيل موسيقى الشعوب ، فبعد ان كان المقام العراقي وحيدا في الساحة ، شاركه الغناء الريفي والغناء البدوي الاصيلان اضافة الى غناء وموسيقى اخواننا من الاقليات والقوميات الاخرى ، لذا فقد توجب على الجميع ان يكتشفوا الطريق الى الحقيقة العاطفية والفكرية والجمالية في تعابير اداء هذه الالوان .. الى حقيقة لا يعكرها تفكير عقائدي او تحيز مشوه .. لأن كل من هذه الالوان الادائية جزءاً لا يتجزأ من المحيط الجغرافي والاجتماعي للعراق الحضاري … فلابد اذن ان نتسلح بكثير من الجرأة الفنية والجمالية لكي نكون على استعداد تام لمحاربة تجارة الفن ومحاربة الجنوح المادي البحت الموقظ للطباع السيئة ، الذي يحجب المثل الانسانية والسمو الروحي في التعبير الادائي للفنون الموسيقية ، وكذلك محاربة القصور والضيق في افق التفكير والشعور البيئي .. وندعم افق الخيال وجماليات التعبير عن السمو الروحي للاداء الغنائي لتأكيد القيم الانسانية من خلال صدقنا وحبنا لموسيقانا … خاصة ونحن نجابه مع تقدم الزمن موجات من الكم الهائل في الانتاج الموسيقي البائس التعبير والتجاري الهدف .

تأثير التكنولوجيا
نتيجة للتطور التكنولوجي ووسائل الاتصال والنشر ، اصبحت طرق الاداء الغناسيقية عوالم يندمج فيها عصر كامل بالتواريخ والامكانيات الفردية والجماعية من الفنانين مع تكثيف للتجارب الحياتية ومن ثم تحويلها الى فلسفة للحياة .
وبظهور الطرق الادائية الغنائية الانفرادية لدى بعض المؤدين المقاميين خلال القرون القليلة الماضية على وجه الخصوص منهم مثلا رحمة الله شلتاغ(28) واحمد الزيدان(29) ورشيد القندرجي(30) ومحمد القبانجي وغيرهم … تغير معنى المقام العراقي بل تغيرت حتى طبيعته من خلال التبادل التاريخي في عملية التأثر والتأثير بمختلف الاتجاهات الكلاسيكية والرومانسية وغيرهما .. اذ جعل كل مغن من امثال هؤلاء ، المشروع الادائي الفني ، الوسيلة الوحيدة للوصول بالمقام الى بر الامان ، الامان الذي انتهى امر باكتشافه وتوضيحه ..
ولذلك فقد تطور الاداء المقامي من حيث شكله ومضمونه ابتداءاً من شلتاغ في مقاماته الى احمد الزيدان حتى رشيد القندرجي .. بتيار مضاف تزدوج فيه
طريقة الاداء المقامية العراقية بالعربية من خلال المبدع محمد القبانجي ، فالمغنى المجتهد يكشف عن طرقه وفنه وتراه ربما يضطر الى هدم ما بناه وشيد ما كان يراه ابداعا في وقت ما ، وفي اداء القبانجي يرافق التأمل لطريقة ادائه عملية الخلق المقامي ، فطرق الاداء المقامي تؤسس في نظر الجمهور الاسلوب الامثل لمعرفة اللغة الادائية الغنائية واحيانا عذرا لتكوين طريقة فردية جديدة .
ان هذا النوع الغنائي الذي يستثيره بالحاح ، الواقع المحيط والواقع الذي نحمله داخل انفسنا والذي يتنازعه خلق الخيال واستقصاء الواقع الذي لا يكف عن انتاج طرق ادائية وابتكار طرق اخرى ممكنة ، وهذا النوع متقلب وفي توسع دائم .

شركات التسجيل الاجنبية
من الاحداث المهمة التي نالت الكثير من الشهرة والصيت في هذه المرحلة مجيء شركات التسجيل الالمانية الى بغداد في منتصف العقد العشريني من هذا القرن ضمن بحثها عن الاصوات والامكانيات الفنية الموجودة لدى الشعوب ، فكان من حصيلة ذلك تسجيل عدة اسطوانات للمقامات العراقية اداها بنجاح ساحق المغني الكبير محمد القبانجي ، مع تسجيلات اخرى من الغناء الريفي والبدوي لداخل حسن(31) وحضيري ابو عزيز(32) وناصر حكيم(33) وآخرين . كانت المقامات التي اداها القبانجي غاية في الروعة في عنصرها الجمالي وخطوة الى
الامام في التعبير الادائي المقامي الذي اختلف عن مراحله السابقة ، لقد كانت واضحة النطق مفهومة الكلام مع جملة من الملاحظات الفنية ، هذا وقد توج ذلك ذهاب القبانجي على رأس وفد موسيقي الى المانيا اواخر العشرينيات وتسجيله لعدة اسطوانات اخرى ستخلده على مدى التاريخ ، ثم سفره مع فرقته الموسيقية الى القاهرة للمشاركة في المؤتمر الاول للموسيقى العربية عام 1932 .
ان هذه الاحداث والتجارب ، كانت بلا شك هي العامل الفعال الكامن وراء الحركة الجديدة في الابداعات الادائية المقامية والريفية والبدوية والالوان الاخرى ، وسرعان ما اخذ الغناء عموما يسمع في كل مكان وعلى الدوام …
ان الاهتمام بالنتاجات والانجازات التي ظهرت في القرن العشرين او بالتحديد في النصف الاول منه ، باعتباره كان بداية حقيقية لمعظم المعطيات الثقافية الابداعية ، وهذه المآثر من التطورات الفنية والانجازات بطبيعة الحال يجب ان ترتبط بتطور الفنون الاخرى وتطور الثقافة عموما في العراق ، وان وضوح هذه الاحوال ، من شأنه ان يمكّن الدارس او المطلع تقييم هذه الروابط والخروج منها بحصيلة مثمرة ومفيدة .. ان النصر الحقيقي في تطوير الفنون هو عندما يتدخل العقل والفكر ويمتزج بالفطرة ليبلورها ويطورها الى اساليب جديدة مهذبة تلائم روح العصر للمحافظة على شخصية الامة ، ومن ثم استنباط الافكار الجديدة للخروج باعمال جديدة مبتكرة .. بعد ان تفك قيودها من قدسية المحلية الصارمة الى الآفاق الثقافية الاخرى خارج الحدود لنصل بهذه الطموحات الى العالمية ..




أخوكم your,s
مطرب المقام العراقي singer of Iraqi maqam
حسين إسماعيل الأعظمي hussain ismail al aadhamy
عمّان amman jordan
00962795820112 gabel al hussain
الأردن ، عمّان ، جبل الحسين b.x 922144
ص . ب 922144 hussain_alaadhamy@yahoo.com