كتاب



المقام العراقي
الى أيـــــن !؟


دراسة تحليلية فنية نقدية فكرية برؤية مستقبلية




















تأليف
حسين اسماعيل الاعظمي بغـداد 2000





















الحلقة (3)


























ان ثقافة الذاكرة العفوية(34) ظلت ترافقنا قرونا عديدة ، وعليه ، يتوجب علينا الاهتمام بالجانب الفكري وتعميق الفهم ليصبح طريقا تطوريا مستنيرا امينا .. خاصة ونحن في عصر السرعة ، وستبقى الريادة للفنانين الذين قادوا المسيرة الابداعية الجديدة لموسيقانا في القرن العشرين ، الذين حرروا انفسهم من سلطة القيود التقليدية للتراث واستوعبوا هذا التراث وانطلقوا منه بكل قوة ..
هكذا كان الفنانون الرواد الذين اخذوا على عاتقهم اعباء احتاجت في انجازها للنهوض بالمستوى الموسيقي ، الى جميع القوى التي يمتلكها المجتمع رغم ضعفها ، الا ان التحولات كانت كبيرة ومذهلة خاصة وقد خاض العالم اجمع حربين كونيتين غيّرت مجرى التاريخ .. مما حدا بهؤلاء الفنانين الرواد الى ان يدفعوا بتجاربهم واكتشافاتهم ومبتكراتهم الى الامام بالرغم من معارضة وسخرية المجتمع في بعض الاحيان .
وسيبقى تاريخ هذه المرحلة بداية لمرحلة انفجارية تاريخية بشتى ميادين الحياة ، وسوف نرى في المستقبل اندماجا اكثر وعلاقات امتن وابداعات انضج لأنها فتحت الطريق امام آفاق فكرية جديدة مستقبلية فقد تزعزعت الكثير من عروش مجاميع كثيرة من الآراء المتحكمة البالية والقاسية وبدا الفنانون يجدون منطلقات جديدة لامكاناتهم ونشاطاتهم الغزيرة في حركة دافعة نحو تبني وجهة نظر اكثر تحضرا واقل بدائية وتخلفا .

الدراسة الموسيقية
ان معظم فنانينا الشباب الملتزمين ، يدركون حقيقة ان دراسة وبحث الفن الغناسيقي القديم والحديث اكثر تعقيدا واكثر جهدا من دراسة الفنون الاخرى ، حيث يجب ان يكون النظر الى واقعنا الموسيقي مقارنة بالتطور الحاصل في بلدان العالم الاخرى نموذجا ملهما ومحفزا للكتابة والدراسة والبحث في شؤون غنائنا وموسيقانا وتطويرهما نحو الأحسن .
ان واقع غنائنا وموسيقانا التراثية بشكل خاص والمقام العراقي بشكل أخص في بغداد والعراق باجمعه ، قد حصل فيه تقدم ملموس من خلال تطور الدراسات الموسيقية في المعاهد وغيرها ، الا اننا نحتاج الى وقت كثير كما يبدو لبلورة هذا التقدم والتطور المنشود .
لقد وفرت العقود الاخيرة ما يمكن ان نطلق عليه ازدهار الفن الغناسيقي العراقي بشكل عام وشامل كما مر بنا كان آخرها افتتاح قسم الفنون الموسيقية في كلية الفنون الجميلة ليرتفع مستوى الشهادة الاكاديمية الموسيقية الى البكالوريوس حتى وصلت الشهادة في السنوات الاخيرة الى الماجستير آملين ان تصل الى الدكتوراه .
وقد بين لنا فنانون غناسيقيون امثال الشريف محي الدين حيدر وتلامذته جميل بشير ومنير بشير وسلمان شكر وغانم حداد وشعوبي ابراهيم(35) وهاشم الرجب(36) وعباس جميل(37) وغيرهم ، انه على الرغم من كوننا بلدا ناميا ، الا اننا نتقدم ثقافيا بشكل ملحوظ ، ومع ان البعض في مجتمعنا لا زال يرى هذا الامر مشينا ، اذا اخذنا الامر بنظرة اجتماعية جدية ، الا ان هناك آمالا كبيرة تقع على عاتق الشباب الحالي الواعي والاجيال القادمة في تطوير وتثقيف وتغيير النظرة الاجتماعية الضيقة حول الفن الموسيقي لدى البعض من المجتمع .
واعتقد ، كما يعتقد الكثير من الشباب الفنانين ، اننا بحاجة ملحة الى التغيير والتطوير في فنوننا الموسيقية ، وليس من الضروري الحصول على غناء وموسيقى يعكسان الواقع فحسب ، بل نريد النظر الى المستقبل برؤية واعية . ويبدو لي ان التعاون بين الفنانين الدارسين منهم خاصة والنقاد والصحفيين ووسائل الاعلام السمعية والمرئية ، هو الطريق الوحيد بل هو انجح الطرق والسبل للوصول الى الهدف العلمي والتطور في موسيقانا وغنائنا .. والشيء المهم هو بذل الجهد لمعرفة الاسس والطرق الصحيحة التي يعتمد عليها التطور والتغيير في كيفية تعاملنا مع المادة التراثية الغناسيقية ، الذي نجعل منه تراثا حضاريا تاريخيا وعلميا مدروسا لنصل به الى مستويات راقية ، دون تشويه او مبالغة .

مساهمة المرأة في تلك الحقبة
من الجلي ، ان فناني الطليعة في قطرنا العزيز ، مطالع القرن العشرين ، قد ساهموا مساهمة فعالة في اعادة الزهو والشعور المريح الى الحركة الفنية الموسيقية خاصة ، ولابد من ذكر حقيقة طيبة ، هي ان هذا البعث الجديد لنهضة الثقافة الموسيقية عندنا ، قد ساهمت به نساء فنانات بشكل مؤثر ، برهنَّ على انهنَّ قويات في المجتمع .
ولعل من الغريب والمثير جدا بنفس الوقت ، ان النتاجات الاولى في الغناء والموسيقى للفنانين الملحنين في قطرنا ، كانت قد اديت منذ البداية من قبل نساء مطربات في الاعم الاغلب .. فكانت الطليعة من هؤلاء الفنانات المغنيات مثلا .. بدرية انور ومنيرة الهوزوز وسلطانة يوسف وصديقة الملاية وبهية العراقية وماري الجميلة وامينة العراقية وعلية فوزي وطيرة حكيم وزنوبا وعزيزة العراقية وروتي …و…الخ وستبقى تلك الاغاني خالدة على مر الزمن لامتلاكها كثيرا من مقومات النجاح ، خاصة في عنصرها الجمالي الذي كان يعبر عن روح البيئة المحلية والتي كانت ملائمة لذوق المتلقي زمنذاك … وقد كان الملحنون الاوائل قد بذروا البذرة الاولى التي اثمرت عنها هذه المرحلة الثقافية التي تمخضت عنها حركة جديدة بالاستقاء من التراث والاستفادة منه فائدة مباشرة سواء في المقامات العراقية او في الالوان الغنائية الاخرى ، الغناء الريفي والغناء البدوي وغيرهما .
حيث تكشف لنا ذلك خلال الاطلاع والاستماع الى تلك الابداعات التي ظهرت في هذه الحقبة … وهذه الحقائق تبرهن لنا ان نجاح هذه الطليعة من النساء المطربات قد خلفت نساء مطربات اخريات كجيل ثان وثالث …الخ فكانت سليمة مراد وعفيفة اسكندر وصبيحة ابراهيم ولميعة توفيق وزهور حسين ومائدة نزهت وهيفاء حسين واحلام وهبي و…و.. الخ ورغم ان هذا الخط المستمر من ظهور النساء المطربات كان يبهت تارة ويظهر تارة اخرى ، وذلك بسبب القيود الاجتماعية ونظرة المجتمع الى الفنانين ، مما جعل المرأة خاصة تحتاج الى كثير من الجرأة لتقدم نفسها فنانة للشعب ، لذا فقد كانت المرأة عموما اقل احتمالا للنجاح واكثر تعرضا للخيبة واليأس .. ومن الحق ان اولئك النساء المطربات الاوائل اللاتي ظهرن في العقود الاولى من القرن العشرين قد اسهمن الى حد كبير في ظهور الاغاني الجديدة الملحنة والمكتوبة كلماتها حديثا ، وجعل هذه البداية الجديدة النواة الاولى للحركة العقلية في الموسيقى والاستمرار بها ومجيء الاجيال الاخرى التي نهجت نفس الخط التطوري واصبح للجيل الاول منهن خليفات واتباع .. وكانت هذه البداية هي المحرك الفعلي الاول للجمود الثقافي في مسيرة الفن الغنائي والموسيقي الذي استمر على منواله طيلة زمن قارب سبعة قرون .. وبتطور الزمن فان الاجيال التالية لجيل الفنانات الرائدات قد اصبحن اخف عبئا واكثر ثقة من سالفاتهن واصبحت معالجة بعض القيود الاجتماعية الصارمة قبلا ، امرا اكثر مرونة ، حيث بدأ عدد النساء المطربات يزداد بمرور الزمن .
دور الصحافة الفنية *
كانت الصحافة الفنية في العراق ، مطلع القرن العشرين لها مساهمات جادة في النهضة الفنية الحديثة وتنشيط حركة احياء التراث الفني العراقي ، وكان لها دور فعال في ذلك .. وعليك عزيزي القاريء ان تتصور الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي كان يمر بها بلدنا العزيز ، خاصة ونحن ننتهي من استعمار قديم ليسيطر علينا استعمار جديد ، فقد كانت الدولة العثمانية اواخر القرن
الماضي قد هرمت وأفل سلطانها ، وعاصر ذلك بداية الزحف الاوربي المباشر لاحتلال البلدان النامية فكان ان أُشعلت حربا عالمية مرعبة اطلق عليها الحرب العالمية الاولى !! 1914 – 1918 التي كانت احدى نتائجها ان سيطر على بلدنا الاستعمار البريطاني ، وبعد مضي اكثر من عقدين من السنين بقليل كانت الحرب العالمية الثانية 1939 – 1945 .. وغير ذلك من الاحداث التي نتجت من جراء هذه الحروب العالمية ، وهكذا وضعٌ بطبيعة الحال لا يشجع على نمو وسط ثقافي سريع يوازي سرعة النمو الذي قد يحدث في بلدان اخرى تتمتع بظروف افضل ، ورغم كل هذه الظروف فقد كان يوم 18 / 2 / 1934 موعدا بشيرا لصدور اول مجلة عراقية فنية متخصصة بالفنون عامة والموسيقى خاصة في بلدنا العزيز .. وقد قدر للشاعر الغنائي عبد الكريم العلاف ان يكون له قصب السبق في ذلك حيث اصدر العدد الاول في ذلك التاريخ من المجلة التي اسماها ( الفنون ) وكان العلاف معروفا بمؤلفاته العديدة التي تخص الادب الغنائي والتاريخ الموسيقي لحضارتنا العربية وقلما نجد مطربا او مطربة عراقية لم تغن من كلماته . فقد كتب تحت اسم المجلة ( الترويسة )(28) - مجلة فنية موسيقية فكاهية اسبوعية - ويذكر ان العلاف كان قد اصدر 26 عددا فقط من هذه المجلة اذ توقفت بعد ذلك . وسوف نرى تكرار مثل هذه الحالة خلال هذا الاستعراض التاريخي لصحافتنا الفنية في العراق الغالي ، وان الكثير من الصحف والمجلات التي ما ان تؤسس وتصدر حتى نراها تتوقف عن الصدور بعد فترة من الزمن غالبا ما تكون قصيرة . وذلك كله يعود لظروف التخلف والتأخر التي كرسها وشجع عليها الاستعمار شأنه في كل البلدان التي يستعمرها …
ومن جانب آخر ان اول فنان عراقي اصدر اول مجلة تعنى بالفن الموسيقي هو الموسيقار العظيم الملا عثمان الموصلي(29) الذي اصدر العدد الاول من مجلة المعارف في القاهرة العاصمة المصرية - وذلك في 19 / 5 / 1897 – ويمكننا ان نلاحظ قدم هذا التاريخ البعيد نسبيا ، فهو انجاز فني وادبي وثقافي كبير ، بل كبير جدا على صعيد الفن والصحافة .. ومن ناحية اخرى نأسف شديد الاسف ، ذلك ان المطبوعات والكشوفات العراقية لم تذكر هذا الانجاز وهو بلا شك ناحية سلبية تسجل على باحثينا في الوقت الذي توجد مراجع وكشوفات عربية كثيرة كانت قد ذكرت هذه المعلومة ، ما خلا باحث عراقي واحد ذكر تاريخ اصدار الملا عثمان الموصلي لمجلة المعارف هو الدكتور عادل البكري الذي الف اكثر من كتاب عن حياة وانجازات الملا عثمان الموصلي … ومن المراجع العربية التي تطرقت لهذا الموضوع ما ذكره الكونت فيليب يطغازي في كتابه الموسوم ( تاريخ الصحافة العربية ) وهو مرجع جيد لصحافتنا العربية وكان ذلك ضمن الجداول التي تضمنها الجزء الثالث من كتابه . ومرجع آخر ما نشره الاديب اللبناني ابراهيم اليازجي في مجلته البيان حيث جاء في النص ( ورد علينا العدد الاول من مجلة المعارف لصاحبها ومحررها الفاضل ملا عثمان افندي الموصلي وهي علمية سياسية تاريخية ادبية اخبارية فنية وفيما نعهده من حضرة محررها المشار اليه من غزارة الادب والبراعة في صناعة الانشاء ما يضمن لها التقدم بين الصحف العربية ) .. ونجد ايضا مرجعا عربيا آخر في الجزء الرابع من كتاب ( الاعلام ) لخير الدين الزركلي .. مع مراجع اخرى كثيرة …
هذه هي البداية الحقيقية للصحافة الفنية ومساهمتها الفعالة في انماء وتطوير مسيرة الحركة الفنية الموسيقية في بلدنا العزيز .. بدأت على اكتاف اشخاص من صلب الفن الموسيقي ، وبعد ان توقفت مجلة الفنون لعبد الكريم العلاف صدرت مجلة اخرى في العقد الثلاثيني نفسه وبنفس الاسم ولكن لا علاقة لها بالاولى ، فقد اصدرها الصحفي الهاوي للفن والتمثيل محمود شوكت الذي كان يشارك مع بعض الفرق الفنية في اماكن عديدة لتقديم بعض النتاجات التمثيلية والمسرحية التي كانت اشهرها مسرحية يوليوس قيصر .. وكان هذا الفنان الهاوي قد اهتم كثيرا بمجلته ، حتى بعد توقفها ، اذ نراه قد اصدر مجلة اخرى ترعى الفن اسماها ( الزهراء ) وذلك عام 1941 التي استمرت في الصدور حتى الخمسينيات ليصدر بعدها جريدة سياسية تعنى بمجالات كثيرة ليس فيها الفن اسماها الثبات ناصر فيها الاتجاهات اليسارية ..
وعودة اخرى الى العقد الثلاثيني فقد صدرت مجلة اسمها ( العدالة ) ذلك عام 1930 ورغم ان اسمها لا يوحي بأي مضمون فني ، بيد ان معظم صفحاتها كانت فنية حتى ان صور الغلاف كانت لفنانة عراقية او عربية وكان مؤسسها الصحفي كمال عبد الستار .
ما ان بدأ الاهتمام يزداد بالفن وباخباره ، حتى ازداد معه صدور مجلات جديدة ومطبوعات او جرائد تتحدث عن الفن والفنانين ، ففي عام 1942 اصدر القاص الاديب والمحامي عبد الرحمن نايف مجلة اسماها ( البيادر ) تتضمن المواضيع الفنية والثقافية الجادة .. وفي منتصف الاربعينيات كان هناك فريق من الشباب المثقف الواعي الذين أسسوا مجلة راقية في اساليب طرح موضوعاتها الثقافية والفنية الهادفة اسموها ( المجالي ) وذلك عام 1945 وفي نفس هذا العام كان الفنان المعروف جميل حمودي قد اصدر مجلة فنية اسماها ( الفكر الحديث ) تعنى بالفن والثقافة الحرة وتوقفت بعد فترة لعزمه على السفر الى باريس لغرض الدراسة وبعد عودته الى الوطن بعد الدراسة حاول ان يعيد اصدار المجلة لكنه يتمكن لارتفاع تكاليفها المادية وعجزه عن ذلك .. واستعاض عن ذلك باصدار مجموعة شعرية واعتبرها من اصدارات المجلة .
وفي عام 1947 اصدر الفنان الممثل والصحفي عبد المنعم الجادر الذي شارك في فلم علية وعصام الذي انتج عام 1947 مجلة فنية جامعة للفن اسماها ( السينما والمسرح ) تعنى بالفن عموما وكانت مواضيعها في كل عدد تشمل المسرح والسينما والموسيقى والتشكيل …الخ وكانت من المجلات الفنية الناجحة ، وقد استمرت عدة سنوات .. وبعد توقفها اعاد صدورها في العقد الخمسيني باسم جديد ( الشباب ) الى ان ترك الصحافة الفنية وترك الفن واتجه الى الصحافة السياسية حتى وافاه الاجل اواخر عقد السبعينيات .
وفي عام 1948 اصدر الصحفي ناصر جرجيس مجلة على شكل جريدة بحجم تابلويت(40) ادارها له الصحفي الاذاعي حافظ القباني الذي يهوى الفن والموسيقى ، وتشهد له مساهماته الاذاعية الكثيرة بذلك ، وكان اسم هذه المجلة ( النديم ) التي استمرت بالصدور عدة سنوات ، وقد شارك مع الفنان القباني في تحرير الصفحات الفنية لهذه المجلة الناقد الموسيقي والصحفي عبد الوهاب الشيخلي الذي كان ينشر باسم ( الناقد الصغير ) تارة و( عبد الوهاب فوزي ) تارة اخرى ، وقد ظل الشيخلي يمارس الكتابة الفنية في الموسيقى الى يومنا هذا ، ولم يكن الشيخلي فنانا هاويا فقط ، بل انه بدأ حياته الفنية عازفا محترفا لآلتي العود والماندولين ، ومدرسا في معهد الفنون الجميلة وعميدا لمعهد الدراسات النغمية العراقي مطلع السبعينيات ، ثم ركز اهتمامه بالكتابة الصحفية والفنية والاذاعية وتقديم بعض البرامج فيها واستمر بذلك الى الآن دون انقطاع . وسبق له ان حرر الصفحة الفنية للملحق الاسبوعي لمجلة المصور في الخمسينيات وكذلك شغل رئيس تحرير جريدة الشعب للاعوام 56 و 57 و 1958 اذ كان يشارك معه في هذه الجريدة حافظ القباني والشاعر بدر شاكر السياب واستمر كذلك مشاركا في كل الجرائد والمجلات الفنية .
وعودة الى الاربعينيات ، ففي عام 1948 اصدرت الاديبة الصحفية الطموحة دورين بربوزا التي اختارت لها اسما ثابتا اعلاميا هو ( درة عبد الوهاب ) اصدرت مجلة ( بنت الرشيد ) حيث اصدرت منها عددا واحدا فقط وتوقفت بسبب التكاليف المالية ، وكانت ترويسة هذه المجلة – ادبية فنية اجتماعية – ويعود اصل هذه الصحفية الى اب انكليزي من الذين جاؤوا الى العراق ابان هيمنة الاستعمار البريطاني على العراق ( 1917 – 1958 ) الذي تزوج امرأة عراقية مسيحية من اصل لاتيني اسمها مريم انجبت له دورين وقبلها عادل ( عادل عبد الوهاب ) الذي قام ببطولة فلم ابن الشرق الذي انتجه بالقاهرة محمد صالح بحر العلوم وهو ليس الشاعر المعروف بهذا الاسم .. واخ آخر اسمه نديم الذي تزوج من المغنية المصرية التي عاشت في العراق راوية ثم انتهى بطلاقها .. وقد كانت الصحفية الاديبة درة عبد الوهاب متأثرة بجبران خليل جبران وقد تزوجت من عبد الحميد بلال الذي كان استاذا في دار المعلمين العالية فرع الاقتصاد ثم عمل في مديرية الكمارك العامة وانجبت منه بعض الابناء(41) .
وعن المؤسسة العامة للصحافة صدرت جريدة يومية اسمها ( المواطن ) كان ذلك مطلع الخمسينيات ، وكان الصحفي الفنان جمال سري حريصا على الاشتراك فيها ، اذ اعطي له باب يومي ينشر فيه اخبار الفن والفنانين وقد شغل الصحفي المعروف سجاد الغازي نائبا لرئيس التحرير .
في هذه المرحلة التي قطعتها الصحافة الفنية في العراق اخذت المواهب الجديدة في الفن والصحافة من خلال توسع مجالات النشر والاتصالات والاطلاع وفي كل الميادين ، تتأثر وتتوسع آفاقها في التواصل التاريخي بين الاجيال ، فلم يكن هناك صراع اجيال ، بل تواصل حضاري خلقي بين هذه الاجيال ، لذا فان هذه الحلقات التاريخية في المسيرة الثقافية الفنية المتواصلة الابداع كانت اصيلة الطابع ، اخذت تتزايد يوما بعد آخر وتنطوي على الكثير من الحب للصحافة والفن ملتزمة بمبدأ الهواية ، آخذة يوما بعد آخر في زيادة بالنضوج والتفتح الفكري والحضاري خاصة في معالجة المشاكل الاجتماعية تجاه الفن والفنانين .. فلم يكن الفنان الصحفي كامران حسني فنانا هاويا فقط ، فقد اختلف عن زملائه في افكاره العملية في الفن مستفيدا من تجاربه الدراسية والعملية في امريكا ، وكان من الشباب المتحمس للفن ، اذ كان والده ضابطا في الجيش العراقي ، لكنه لم ينشأ محبا للانضمام الى الجيش ، انما كافح من اجل طموحاته الفنية ، وكان لهذا الامر ان اصدر مجلة اسماها ( السينما ) وشارك معه في تحرير صفحاتها الفنية بعض الاسماء منها الاديب طه العبيدي والفنان بدري حسون فريد .. ثم تحول اسمها من السينما الى اسم جديد ( الفنون ) لانها كانت تعنى بالفن بشكل عام ومنها الموسيقى حتى توقفت عن الصدور ..
وبعد ثورة الرابع عشر من تموز 1958 اصدر الصحفي الفنان سجاد الغازي مجلة ( كل شيء ) سياسية جامعة ، ومن الملفت للنظر ان عددها الاول كان عددا فنيا بحتا ، وكانت لهذه المفارقة حكاية ، اذ بعد موافقة اصدار وتأسيس المجلة ( كل شيء ) كان الامتياز في قانون المطبوعات يتضمن ان تكون اقصى فترة تأخير لصدور العدد الاول للمجلة بعد صدور الموافقة على اصدارها ستة اشهر ، ولما اوشكت هذه الفترة ان تنتهي بسبب المد الشيوعي والبلد يعج بالفوضى والاضطرابات السياسية التي عاشها البلد اواخر الخمسينيات واوائل الستينيات ، حيث احرقت واغلقت الصحف القومية مثل مجلة الحرية واليقظة والفجر الجديد وغيرها ، فكان لابد للصحفي سجاد الغازي من اصدار المجلة قبل انقضاء فترة الستة اشهر وضياع فرصة الموافقة .. فان اصدرها سياسية قومية فان مصيرها معلوم كمصير الصحف التي احرقت واغلقت ، لذا ارتأى اصدار العدد الاول عددا فنيا بحتا من الغلاف الى الغلاف .. الى ان هدأت المشاكل واستقر الوضع بعد ان تمت ادانة تلك الجرائم التي دمغت بالفوضوية ، اخذت المجلة طابعها الاصلي الذي اسست من اجله ..
ان هناك صفحات فنية عددية تحرر في صحف ومجلات يطول بنا الحديث عنها والخوض في مضامينها وفي خضم هذا الاستعراض الذي اشرنا فيه الى دور الصحافة الفنية في دعم وتطوير الحركة الفنية الموسيقية في العراق الحبيب ، كان ايضا الكثير من صحافيينا يراسلون الصحف العربية ونشر اخبار الفن ..

الحركة النقدية
بسبب ما آلت اليه الحركة الموسيقية العراقية في بدايات القرن العشرين وما تلاها من سنوات التطور والنهضة متزامنة مع التحولات والتغيرات الثقافية ، تستحق التقدير والاهتمام .. فقد ظهرت حاجات كان لابد لوجودها ، اهمها حاجة الفنون الموسيقية في الاداء والتعبير والدراسات الى ان تحرر نفسها من كثير من الرواسب السيئة خاصة منها التعصب الاعمى للاطوار الموسيقية والغنائية لمختلف البيئات والخصوصيات الموجودة في عراقنا الحبيب … ان التحرر من هذه القوى المتخلفة لا يمكن له ان يكون الا عن طريق الثقافة والاطلاع والاحتكاك لاكتساب المفاهيم الحضارية ولتوسيع المدارك الفنية واشاعة المحبة بين الجميع .
اما الحاجة الثانية فهي ضرورة من ضرورات الابداع والابتكار لترافق ها التطور الحاصل للفنون الموسيقية ، واعني بها مسألة النقد الموسيقي(42) ، وهذا النقد ينبغي ان يكون نقدا متزناً يستند الى معرفة واسعة في مفهوم العملية النقدية ومعرفة واسعة في العلوم الموسيقية وادراك جيد للمفاهيم الجمالية ، ولعل من الممكن ان نذكر ان تأخر المستوى النقدي للموسيقى قد ساعد على ابطاء مسيرة التطور الموسيقي الي كان يمكن له ان يقطع اشواطا اوسع في تقدمه علميا .. وان من المؤسف فعلا اننا لا نزال لانمتلك الا النزر اليسير واليسير فعلاً من نقاد للموسيقى حيث غلبت على الاكثرية ممن يكتب وينشر في النقد الموسيقي الانطباعات الشخصية بقوة .. او بمسايرة الفنون المطلوبة البراقة .. كما وان بعضا من النقاد تحركهم وجهات نظر اجتماعية بحتة .. ورغم ان هذا المنحى الاجتماعي في التفكير النقدي للموسيقى كان مناسبا في فترة ما ، الا انه في الحقيقة يعبر عن موقف ضيق الافق ، لذا فان لم يكن صالحا لان تبنى عليه مفاهيم


نقدية حضارية ، ولا يمكن ان يبنى عليه اتجاه جمالي سمح وعميق ايضا … فعلى هذا الاساس فاننا لا نطمح الى اقتران التفكير الاجتماعي اقترانا وثيقا بدوافع الفن عموما .. ولابد ان نشيد ببعض النقاد الذين كتبوا عن قوى التجديد ودعموها بافكارهم النيرة واقلامهم الجادة .. امثال المرحوم عبد الوهاب بلال والاساتذة عبد الوهاب الشيخلي وحمودي الوردي ووحيد الشاهري وحميد ياسين وحامد العبيدي واسعد محمد علي ويحيى ادريس ود.شهرزاد قاسم حسن وسعدي حميد وفائز الحداد واخيراً الاستاذ عادل الهاشمي الذي ماأنفك مستمراً بشكلاً منتظم يؤشر ملاحظاته النقدية الجادة من خلال زاويته الاسبوعية في جريدة الجمهورية ( المرفأ الموسيقي ) وكانت هذه الكتابات على قلتها امرا فائقا نسبة الى فوضى التخلف التي عاشتها الموسيقى في المراحل السابقة ، ويرجع الفضل في هذا اضافة الى هؤلاء القلة من النقاد ، الى نخبة واعية من الفنانين الموسيقيين الذين يمتلكون امكانيات ثقافية مدركة ومواهب كبيرة في التعبير .. وهي مرحلة مستمرة ، قوتها ولا تزال المزايا الفكرية المتزنة .. لان تقبل وجهات النظر النقدية والفكرية والجمالية من شأنها ان توسع افق الثقافة والمعرفة لتقويم المسيرة الفنية ، وبدون مثل هذا التفاعل الذي يستمد قوته وجذوره من التحرر المخلص من التخلفات الفكرية القديمة والتسامح الروحي حيث يتحتم على أي وضع ثقافي ان يصبح في اتجاه محدود .. وقد رافق هذا التفاعل عند بعض النقاد وبين بعض الفنانين الجادين غربلة عامة للقيم السائدة والمتوارثة للعلوم الموسيقية بشكل عام وبدا في الافق ترتيب جديد لها .
تبقى هناك حقائق لا تتغير على مدى العصور فهناك التجديديون ، والابداعيون وهناك التقليديون ، وهناك المدعون ، والمتحذلقون والمستفيدون دوما في سبيل وضع الخلق الفني في قوانين ضيقة وتحديده ، وسوف يبقى هناك دائما جمهور للموسيقى الزائفة والرديئة ، انه جمهور ضعيف لحسن الحظ ، ولكن من داخله تنطلق صرخات الكراهية والمقت والاتهامات التي لا تستند الى حقيقة واقعة للفنان وسوء النية نحوه .. فعلى الفنان الجاد كي يسير في خطىً حثيثة ان يصغي للصوت النقدي الايجابي الذي تطلقه الاقلام التقويمية الجادة ..