كتاب


المقام العراقي
الى أيـــــن !؟


دراسة تحليلية فنية نقدية فكرية برؤية مستقبلية




















تأليف
حسين اسماعيل الاعظمي بغـداد 2000













الفصل الثاني
















الحلقة (6)
















الهدف الاخلاقي
ان الابتعاد عن الهدف الفني والاخلاقي والتربوي والارشادي في الاداء المقامي / ومجرد الاهتمام بجماليته لغرض أحداث المتعة لدى السامع ، أنما هو فن ادائي يخدّر العواطف ، ويبلد التفكير… وليس معنى هذا دعوة لاهمال الجمال والمتعة في الغناء ، حيث لا أثارة بدونهما ، بل لابد من موازنة حكيمة تتوزع فيها حقوق التفصيلات مجتمعة داخل العمل الفني ، ويمكن للفنان الموهوب الذي يستطيع ان يبث رسالته الفنية والتربوية والاخلاقية في تصوير جمالي ممتع ، ولعمق مفهوم الجمالية في الفن حيث تكمن في روح الفنان الذي يبثها في تعبيره … وان الجمالية تولد الامتاع ولا شك ان الاخير ضروري في العمل الفني لجدوى الهدف وضمان تقبله وتأثيره وايصاله للمجتمع.
ولاهمية هذا الجانب التربوي للموسيقى فقد شوه المستعمرون تراثنا وروجوا لابتذاله وشجعوا على تهجينه ، وهيأوا المجال واسعاً لتعاطي الفن الغنائي والموسيقى خاصة ، في اجواء اغراضها المجون والابتذال واللهو ، حتى اصبحت الموسيقى والغناء من الاشياء التي تعافها الاذواق والمجتمع ويستهجنها المحافظون من الناس ، ليصبح الفن بعدئذاً إمتهاناً يدخله المدعّون او اصحاب مبدأ الفن للمعيشة .. وعليه فقد اصبح الامر أن تخلى الفن في بعض فتراته عن مبادئه وسموه وتأثرت سلباً مضامينه الخلقية والتربوية ، وخضع الناس الى توجه جديد في التذوق الموسيقي ، ومضت جماليتهم في هذا المسار المشوه .
وبنظرة بسيطة الى الكثير من النتاجات الغنائية العربية المسجلة منذ بداية هذا القرن ، نستطيع ان ندرك مدى التشويه والتخريب الذي سعى اليه الاستعمار بكل قواه الاعلامية في نشر هذه الاجواء الجمالية والمعبرة عن المجون واللهو والتخدير ، ومن ثم تقويض جماليات السمو الرباني للفن في التعبير عن الاهداف والمضامين التربوية والاخلاقية.
ان الفن في خدمة المجتمع ثقافياً وتربوياً وجمالياً ، ولابد من محاولة اعادة الامور الى نصابها ، وتذكير المجتمع الذي اصبحت نظرته الى الفنان نظرة سخرية وانتقاص ، الى التفريق بين الفنان الحقيقي الذي يفهم مهمته وبين الفنان الممتهن للفن الذي لا يهمه سوى العيش والمجون مهما كانت النتائج ، انه صراع بين الخير والشر أيضاً . فلابد أذن من احترام الفنان الذي يتفانى في التضحية في سبيل اعلاء شأن مبادئ الفن الخلقية متجاوزاً كل المغريات التي تحاول ان تخرب
فكره وأفكار المجتمع ، وتذكير آخر للجمهور الكريم ان يعي هذه المدلولات فالفن من اعظم ما وهبه الله سبحانه وتعالى في حياتنا الانسانية .

التقليد في الفن
لا يجب الثقة بالمؤدين الذين يمتدحون أنفسهم ، وهذه الثقة يمكن ان تكون ايجابية أو سلبية في مردودها بشكل عام ، فهي ايجابية اذا كانت موضوعية ومنطقية تهدف الى توضيح الخطأ من الصواب أحتراماً للنقد والنقد الذاتي ، وسلبية اذا كانت عمياء في توضيحاتها ولا ترى غير المديح الذاتي غير المنطقي ، لذا فأن الذاتية النافعة تبرز في المجتمع والفن والنقد لاظهار الجيد من عدمه..
لا يوجد الكثير في اداء كثير من مؤدي المقام العراقي ممن استسلموا بتقليدهم الاعمى وركاكة ادائهم ، مما يمكن الحديث عن امكانياتهم الفنية في غناء المقام العراقي، ان اداءهم مجرد أمر عادي ، لا يضيف شيئاً لمسيرة الغناء المقامي ، ولا يمتلكون وسائل الاقناع الجماهيري ، وهناك اسماء عديدة لمؤدين مروا مرور الكرام دون ترك أي اثر فني لهم .. بيد ان هناك زاوية ايجابية يمكن ان نسجلها لهم حيث انهم يمتلكون اصالة(33) الاداء المقامي من حيث اتباعهم المسارات اللحنية بأصولها التقليدية وتعابيرهم البغدادية رغم حاجة هذا الاداء للكثير من متطلبات العمل الفني الناجح . أن المقلد لا يعتبر فناناً بمعنى الكلمة لان فنه وطريقته ليسا ملكه وانه نسخة معادة للنسخة الاصلية التي يقلدها .. وفي هذا الصدد يقول شنايدر في حديثه عن الفنان المقلد :
نحن غير معنيون بالجماعات التالية الذين يدعونهم فنانين :
1. الفنان بالنيابة
2. الفنان التجاري
3.الفنان المقلد العصابي(34)
4. فناني عبادة الفرد التي تحوم حول الفنانين الحقيقين المشهورين وتقليدهم بشكل ببغاوي.
5. ضحايا الامراض النفسية والعصابية الذين يتحدثون عن العشق والفجور لا عن الحرية.
ان الفنانين بالنيابة والمقلدين والمجانين قد ينتجون احياناً عملاً فنياً مبدعاً الا ان ذلك استثناء من القاعدة(35).
اذن لا وجود لفنان دون موهبة وابداع دون فكر ، لذا فأن خارطة مؤدي المقامات العراقية حوت على الكثير من الاسماء التي اختفت ولم تترك اثراً يذكر..
ان العديد من اساليب الاداء التي يؤديها المؤدون المقلدون بالطبع ما هي الا مجرد اصداء ربما غير دقيقة لاساليب مشابهة تعود لفنانين مشاهير ، كما ان الصيغة الاحترافية في الاداء تبدو غائبة عندهم ولا وجود للاستاذية في تجاربهم ، ولا توجد تفاصيل ادائية في المقام الواحد تقوي فيه عنصري التكنيك(36) والتكتيك(37) للاداء او اي تعبير جمالي يلائم روح العصر ، وفي المقابل نرى ونلاحظ ان اداء مشاهير الغناء البغدادي يتصلون بالتدريج بالحاضر بتفاعل جماهيري كما يتصل حاضرهم بالمستقبل ، وعلى هذا نرى ان كل مؤدِ مقامي مشهور تقريباً هو مبدع في طريقة ادائه واسلوبه الخاص الا ان هذا الانفراد يتطور حتمياً لينظم الى روح الاداء والتعبير الحقيقي للمقام العراقي.
ان الاداء الغنائي للمقامات من مراحل العقود الاولى من القرن العشرين حتى بعد منتصفه والمقبول رغم مستواه المتذبذب ، ما هو الا ردود افعال حقيقية لواقع مستوى البيئة من جميع نواحي الحياة .
كيف نتعامل مع التراث
ان قضية التعامل مع المادة التراثية الغناسيقية كفن له اصول وقواعد ادائية تقليدية واستلهامه في اطار الابداع الغناسيقي وفي المقامات العراقية خاصة . من القضايا التي اهتم بها المثقفون العراقيون وكذلك لاقت اهتمام آخر من لدن المثقفين العرب ، والمتخصصين منهم بالتراث الغناسيقي على وجه الدقة ، ناقدين او ممارسين لعملية الغناء أوالعزف ولا غرابة في ذلك اذا وعينا وانتبهنا لما يحدث لحالات الاغتراب والاستلاب من خلال التيارات الفنية الوافدة من الخارج التي ما انفكت تحاول احداث فجوة كبيرة بين ماضينا وحاضرنا … متمثلة في التنافر الموجود بين التراث الذي بني في ماضينا وبين واقع الحياة الثقافية التي نعيشها اليوم . لذلك نرى كثيراً ما ينظر الى التراث بأعتباره وحدة متكاملة تنتمي الى عصر سابق وماضي قد انتهى . يستساغ من البعض وينظر منه البعض الاخر، وفي الحالتين تكون الرؤية للماضي او الحاضر أحدى صور الصمت والسكون ، في الوقت الذي يجب ان تكون القضية تتعلق بالمدى التاريخي والاجتماعي بكل ظاهرة من ظواهر السلوك التراثي .
ان قضية تعاملنا مع التراث ينبغي ان تحدث سريعاً فلا مجال لوقت نضيعه وهذه بعض الحالات .
1. يمكن ان نظهر قوة الحبكة والتماسك لدى المؤدين السابقين وانطلاقنا من الماضي بتعابيره بمنظار فني يسعى لابراز مظاهر الاجادة عند القدماء، ولكن هذه المحاولة يجب ان تكون آنية والاستفادة منها كمرحلة تطورية لدى المؤدين الشباب الجدد ، لان الاستمرار على منوالها ما هو الا شكل من اشكال التعويض عن حالة الشعور بالنقص والعجز عن مواجهة الحاضر مواجهة فاعلة والامثلة على ذلك كل المؤدين المقلدين الذين لم يستطيعوا التعبير عن ذاتهم الخاصة.
2. يمكن ان نؤدي مقاماً ما بكامل قواعده واصوله التقليدية ولا نمس عناصره على ان يكون اداؤنا لهذا المقام بأسلوب تعبيري يلائم مشاعر واذواق العصر ، ورغم ان هذه المحاولة لا اضافة فيها سوى التعبير الجمالي وملائمة الاذواق ، ولكننا نكون قد أكدنا في هذه المحاولة على الناحية التاريخية لتراث المقام العراقي ومثال ذلك يوسف عمر .
3. يمكن لنا أيضاً اعداد احد المقامات الفرعية مثلاً والتي تمتاز بحرية الاداء ، اعداداً ادائياً نستطيع من خلاله تقديم وتأخير بعض الاصول المتبعة كالعناصر المكونة للمقام او القطع او الاوصال الموجودة في المقام او اضافة حركات ادائية ربما جديدة وهكذا . مع التأكيد على الاسلوب التعبيري الجمالي الملائم لذوق المتلقي والامثلة على ذلك المؤدون الابداعيون.
4. يمكن لنا ان ننطلق من التعابير المقامية الاصيلة ونبني الحاناً غنائية هي في الحقيقة من صلب تراثنا الغنائي بأعتباره رصيداً ثقافياً يضمن مراجع مشتركة بين المؤدي والمتلقي .. لتصبح اغنيتنا الجديدة تمتلك مقومات الشخصية التعبيرية العراقية سواء الاغنية المقامية او الريفية او البدوية او .. او .. الخ. والامثلة على هذا معظم أغانينا التي ظهرت في العقود الاولى من القرن العشرين الملحنة ولا تزال ، أي النتاجات العقلية .

الاغنية البغدادية
أمست الاغنية البغدادية خاصة والعراقية عامة المستقاة من التراث الغناسيقي العراقي على وجه العموم ، النوع الفني الاكثر استجابة لمهمات الواقع ولهذه الاسباب التي يتمتع ناظم الغزالي بمعظم مزاياها ، فأنه يعتبر أنجح مؤدٍ عراقي ظهر في القرن العشرين ، ليس في العراق فقط وأنما في كل الوطن العربي ، وقد عبرت شعبيته وشهرته الافاق العربية..
ان دور المؤدي الكبير ناظم الغزالي في مجال الاغنية البغدادية (المقامية) وكذلك دوره في ادائه للمقامات العراقية جلي ، ولا سيما الميدان الجمالي الذي يبلغ فيه مراميه ، ومن خلال هذه السمات والمزايا أحتل الغزالي مكانة مهمة في الميدان الغنائي في العراق والدول العربية وخارجها ، ولا زال يحتفظ بهذه الاهمية رغم وفاته في العام 1963…
لقد أستقى الغزالي مميزات اسلوبه الادائي للمقامات العراقية من سلفه محمد القبانجي الذي كان مسيطراً سيطرة مطلقة على الساحة الغنائية في العراق طيلة النصف الاول من القرن العشرين .
واطلع بأمعان على الطريقة القبانجية في الاداء ، واستمع الى مقاماته التي اداها ابان سفره الى المانيا لصالح الشركات الفنية الاجنبية أواخر العشرينيات ومشاركته في اوائل الثلاثينيات في المؤتمر الاول للموسيقى العربية بالقاهرة 1932 .. وهي بلا شك مقامات سجلها القبانجي بصوته غاية في الروعة والدقة في الاداء .
لقد رافق ظهور الغزالي على الساحة الغنائية بعض من المؤدين المبدعين في ادائهم للمقامات ، وكلهم كانوا قد استقوا ادائهم المقامي عن الطريقة القبانجية ، ابرزهم كان حسن خيوكة الذي سلك اسلوباً ادائياً مغايراً للاسلوب الذي نهجه الغزالي، وكذلك كان الامر مع يوسف عمر رغم أنهم كلهم غرفوا من ينبوع واحد . الا ان كلا منهم أختلف عن الاخر في طريقة الاداء ، فالغزالي مؤدٍ ابداعي تجديدي ذو عقل فني نيّر… أما خيوكة فقد كان اداؤه أهدأ اداء عرفه المقام العراقي على مدى تاريخ مؤديه يصحبه صوت رخيم وتعابير رومانسية(38) خلابة ، أضافة الى ذلك فقد لحن العديد من الاغاني التي اداها بعد مقاماته مع بعض التحليات ، اما المؤدي يوسف عمر فانه تقليدي في ادائه حافظ على المنحى القديم مستفيداً من استاذه القبانجي دون اضافة تذكر ، غير ان تعبيراته الادائية العاطفية المعبرة عن روح البيئة المقامية البغدادية التي كانت اهم مميزاته الادائية التي بها استقام واشتهر ودعم وجوده في الساحة الغنائية العراقية والعربية .
فعليه.. ينبغي علينا مقارنة هذا التقييم بالاحكام الادائية التي ذكرت سابقاً ، حيث المقومات وتقنيات الاداء ، وبهذا يمكن لنا تقييم اللغة الادائية التي يستخدمها يوسف عمر في ادائه للمقامات واضافتها الى الطرق التجديدية ذات التعبير الرخيم والمغايرة لطريقة كل من ناظم الغزالي وحسن خيوكة رغم انه ينظم اليهما كون طريقته مستقاة أيضاً من الطريقة القبانجية ، وانه بذلك ينظم الى المنحى الابداعي في الاداء المقامي ، فقد انطوت لغته الادائية على ذلك النحو من الابداع التعبيري.

الشكل والمضمون
كما عبرت سابقاً ، ان المؤدي المقامي مهتم في الحقيقة بأداء المقام بأصوله التقليدية ، وهي أصول عريقة مخضرمة بلا ريب ، وحتى الجماهير كانت ولا يزال كثيراً منها لا يهمها ان كان صوت المؤدي جيداً ام لا ..! بقدر ما يهمها ان يؤدي الاصول التقليدية الصارمة كاملة … لذلك يأتي اسلوب المؤدي غير فني غالباً ، بل تقليدياً اصولياً فقط … لان مفهوم الاسلوب الحقيقي الناجح يحتوي في ثناياه على وحدة الشكل والمضمون… وحدة الكلمة واللحن .. وحدة الاداء وجمالية الصوت والاداء والتعبير وعليه فقد اصبحت هناك فجوة جمالية وفنية بين ما كان عليه الاداء وبين ما عليه الان وفي المستقبل.. ذلك ان المفاهيم كانت تدعو الى الالتزام بشكل ومضمون الاداء المقامي من حيث اصوله المتعارف عليها تقليدياً كمسارات لحنية وتعابير كلاسيكية لذلك يمكننا القول ، ان دراسة وتحليل الاساليب الادائية لغناء المقامات العراقية تكاد ان تكون مستحيلة دون الادراك والفهم الفلسفي لجمالية الرباط الذي يجمع بين الشكل والمحتوى ووحدته ، مع ضرورة انتباهنا الى البحث عن العلاقات التي يقترب بها المقام من الالوان الغنائية الاخرى خصوصاً والفنون الاخرى عموماً . وزيادة في التأكيد على العنصر الجمالي وتعبيراته المرحلية في كل زمن مع وجوب وجود التتابع والروابط المتبادلة بين الاساليب فيما بينها…
يبدو لي ان الدراسة التحليلية والبحث العلمي عندما يتعلق امرها بالمؤدي المقامي او نتاجاته الغنائية كلها ، أحادي الجانب فقيراً اذا لم نضع او نؤكد علاقة الاسلوب بالقضايا الاخرى مثل الفكر والثقافة والاحساس ، واذا لم نجعلها تحتل مكاناً في غاية الاهمية … لان الفكر والثقافة والاحساس الدقيق الذي يمتلكه المؤدي هو الذي يخلق الديناميكية في بناء الاداء الغنائي المطلوب.
انني عندما اتكلم عن طريقة المؤدي الغنائية ، لا أقصد من ورائها الاقلال من شأني أنا ومن شأن مؤد ما او ذاك ، وهذا كما يبدو لي مبدأً نقديٍ بالفعل .. لان النقد تنحصر مهمته في توضيح مكامن القوة والضعف في الاداء بكل مقوماته ليتسنى بالتالي الاخذ بالمبدأ الصحيح لمعرفة اسباب الاخطاء معتمدين أيضاً على معرفة طابع تفكير ذلك المؤدي وثقافته دون الاقلال من الشأن او تعرية الاخطاء وبالتالي أشعار المؤدي بالخجل…!!
ولابد للناقد عموماً أن يأخذ بعين الاعتبار موضوع الادراك العميق للرابطة التي تربط بين المسار اللحني للمقام العراقي والفكره المعول عليها في الاداء وتعبيراته وانعكاسات المؤدي الناتجة من ظروف نشأته في المجتمع وتجربته الحياتية ونظرته لها التي تنعكس تماماً في النهاية على موضوع ادائه وتعبيره واستخداماته لكل المقومات المطلوبة والتفاعل الذي يحصل مع المجالات الاخرى…
ومن ناحية اخرى فأن الشكل الادائي(39) للمقام العراقي الحالي عند كثير من المؤدين ، لا يلبي حاجة ملحة لمضمون الغناء المقامي في بغداد ، حيث امست هناك فجوة واسعة بين شكل ومضمون المقام العراقي ، ورغم هذه الفجوة في التعبير الادائي لشكل المقام ومضمونه الا ان كليهما ايضا لا يزالان متأخرين عن مواكبة شكل ومضمون روح العصر الذي نحن فيه ، والتي لا تزال وسائل الاعلام السمعية والمرئية تعرض غناء هؤلاء المؤدين المعتمدين على طرق ادائية سابقة بشكل ببغاوي .
فلابد اذن من نهضة علمية وفكرية وذوقية متحضرة لتطوير اسلوب عرض طرق اداء المقامات في حاضرنا وغدنا معتمدين على دعامة الملاحظة والتحليل والنقد التي ترمي الى تصوير وتقديم المقام بلا مبالغو او تقصير ، كذلك معتمدين ومستفيدين من تجارب تطور الفنون الاخرى وتجارب الشعوب في تطوير تراثها التي بثت فيه الدلالات بموازنة رصينة بين الشكل والمضمون ، لان الشكل الجديد لابد ان يبرر وجوده بمضمون جديد .. ان المضمون هو ما يؤديه ويعرضه الشكل وما يحمله الى النفس من احاسيس ومشاعر ..
لذلك نرى ان كل ابداع وخلق جديد في الفنون او غير الفنون لابد ان تصحبه معارضة ، بل معركة ، وهذا الابداع او التجديد لا يثبت ولا يستمر الا بعد ان يخرج من المعركة ظافرا ..
لقد كانت محاولات المؤدين المقاميين القدامى عملية فنية هدفت الى تنظيم المقام التقليدي ، وقد ظلت تلك المحاولات محلية الابداع داخل اطار فورم(40) المقام ، وقد بقيت محلية تماما ، فكانت خطوات اولى افادت مسيرة التجديد والابتكار في المقام العراقي شكلا ومضمونا على مرور الزمن ، حتى قدر لهذه المحاولات ان تنضج عند مطربنا الكبير محمد القبانجي في النصف الاول من القرن العشرين الذي استعان لاول مرة بمحتوى تعبيري غير محلي ، ابدع في تعريق بعض المسارات اللحنية الجديدة غير المحلية التي ادخلها في ادائه للمقامات كما هو واضح في مقام الاورفة حين يغني :
كف الملام فما يفيد ملامي الداء دائي والسقام سقامي
نعم ابدع في تقريع هذه الجمل الادائية وقدمها على شكل مقامات عراقية جديدة لها كيان جديد ..
كان المقام العراقي في ادائه الكلاسيكي يخضع لقوانين فنية معينة يفرضها العقل والاتزان والاستقرار ، ثم بدأ هذا الثبات يتزعزع ويضطرب من خلال النزعات التجديدية التي تمتع بها بعض المؤدين المقاميين الكبار ..اذ عم الاداء المقامي شيء من التنويع والتغيير داخل المضمون الادائي للمقام العراقي .
ان المقام العراقي بشكله ومضمونه التقليدي قد استهلك ونفذت قواه واصبح متأخرا ولا يستوعب متطلبات التعبير العصرية على الرغم من ان جهابذة المؤدين الكلاسيكيين ظلت امكاناتهم وقابلياتهم وتأريخهم لا يطالها سوى الاحترام ، يقابلهم رثاء اجماعي للذين واصلوا عملهم الادائي وقلدوهم دون الاتيان بعمل جديد يسجل لهم .

الاداء بين الاسهاب وفن الايجاز
ان فن التركيز في حبكة البناء اللحني في غناء المقامات العراقية ينبغي ان يكون من المقومات الاساسية للاداء ، غير ان البعض يفضل الاسهاب في ادائه ، وخطورة هذا الاسهاب او اضافة أي تفاصيل لحنية غير ضرورية لا يؤدي دوماً الى نجاح الاداء، لذا فعندما نستمع الى كثير من المقامات التي اداها المؤدون ذوو النزعة الاسهابية في الاداء ، نراها شديدة الضعف في تماسكها وصياغتها(41) وربط العلاقات اللحنية وجمعها في وحدة متكاملة ، في حين ان الاداء الفني الناجح يجب ان يكون ذا قوة اصيلة تتلاقى فيه جميع العناصر والمكونات المقامية لتتوحد في وحدة وبناء متماسك(42) متكامل .. وعلى أي حال ، كانت هذه الاسهابات الادائية موجودة وكانت موضع احترام في بعض الاوساط ، وعلى وجه العموم فأن الضرورة الجمالية العصرية توجب الاقلال من هذه الاسهابات او عدمها اذا اقتضى الامر الجمالي ..
من جانب آخر فأن مبدأ التركيز والاختصار في تسجيلات المقامات التي اديت في مطلع هذا القرن وخاصة تسجيلات الرائد محمد القبانجي بواسطة اسطوانات الكرامافون ، صيغةً مبالغٌ فيها من حيث الاختصار والتركيز وايصال فكرة واضحة للمضمون المقامي وتطبيق المقومات المطلوبة للاداء رغم ان حديثنا عن التركيز والاختصار.
لكن يبدو ان بعض هذه التسجيلات تضررت بسبب المبالغة في حبكة هذا الاختصار مما اثر على عوامل كثيرة في بعض هذه المقامات التي حددت بوقت قصير. ويبدو لنا ان العنصر الاكثر تضرراً في البعض من هذه التسجيلات هو عنصر التعبير. ويعتقد ان الامر مفروض على اساس ان تلك الفترة الزمنية من تطور التكنولوجيا لا تسمح بالاطالة ، ربما بسبب الكلفة التجارية أو اسباب تقنية اخرى ، مما اضطر الى تسجيل اكثر هذه المقامات كنماذج ادائية تراثية توثيقية ، ثبتت فيها الاصول الادائية التقليدية مع الضغط على حرية المؤدي وتقويضه تعبيرياً بشكل عام.
انني ادعو الى تجنب الاسهاب والاسراف في الاداء ، وعدم تكرار المقاطع الادائية التي يمكننا عدم تكرارها والتركيز على اهم عناصر النجاح في الاداء بكل مقوماته ومتطلباته ، وكذلك ادعو الى مبدأ التركيز والاختصار ، ولكن مع المحافظة على حاجة المتلقي وأشباع رغباته العاطفية ، من خلال موازنة دقيقة بين التركيز والاختصار و التعابير الادائية وبين التكرار والاسهاب غير الضروري وبين المتلقي الذي هو حصيلة العمل الفني بأجمعه ، حيث لا قيمة لأي عمل فني دون وجود المتلقي ، لذا فأن التركيز او الاختصار فن دقيق يحتاج الى دراية حسية وتجريبية وعقلية. فلا بد من الانتباه الى المبادئ الجمالية التي يمتلكها الناس المتلقون على وجه العموم ، لكي تصل وبشكل نسبي الى عمل يحمل كل صفات النجاح الادائي…
ومن ناحية اخرى ، فأن اختيارنا لمقاماتى محمد القبانجي التي سجلها في العشرينيات من هذا القرن تعتبر أستثناءً للقاعدة ، للامكانية الفريدة التي تمتع بها القبانجي فقد نجح بشكل كبير في اغلبها وانتشلها جميعاً من الفشل سواء في معظمها او في بعضها التي اجبر كما مر بنا على المبالغة بالايجاز ، لاننا اذا أخذنا القبانجي كمثال للموضوع فاننا قد نلغي كل تحذيراتنا هذه بسبب الامكانيات الفريدة التي تمتع بها القبانجي ، فقد نجح في كلتا الحالتين تقريباً ، في الاختصار وفي الاسهاب ..!! ومن ناحية أخرى يقترن الايجاز البالغ في الاداء الذي نشعر به عند سماعنا اداء المقامات العراقية في مطلع هذا القرن بأصوات المؤدين، بالتعبير الادائي المتكلف الذي نحسه واضحاً، لان المؤدي يحمل نفسه ضيقاً ومشقة خلال تركيزه ودقته الادائية بسبب الوقت المحدود لزمن الاسطوانة التي يسجل فيها المادة الغنائية ، ومع ذلك فأن الاقتضاب الادائي والايجاز لا يكون على الدوام عائقاً في طريق التصوير المحسوس والتعبير الادائي المطلوب او لا يكون على الدوام العامل الرئيسي والحاسم في عدم نجاح العمل ، فقد اقترب بعض المؤدين في بعض مقاماتهم الموجزة من النجاح حيث أوكل أمر نجاحهم الى إمكانياتهم بشكل عام …






أخوكم your,s
مطرب المقام العراقي singer of Iraqi maqam
حسين إسماعيل الأعظمي hussain ismail al aadhamy
عمّان amman jordan
00962795820112 gabel al hussain
الأردن ، عمّان ، جبل الحسين b.x 922144
ص . ب 922144 hussain_alaadhamy@yahoo.com