كتاب


المقام العراقي
الى أيـــــن !؟


دراسة تحليلية فنية نقدية فكرية برؤية مستقبلية




















تأليف
حسين اسماعيل الاعظمي بغـداد 2000













الفصل الرابع


















الحلقة (10)















سـليمة مــراد (1905 -1974)

سليمة باشا … سليمة مراد … أي التسميتين تدلنا عليها … إنهاالمغنية العراقية الشهيرة … المثيرة في شخصيتها الفنية … شغلت الناس فناً ، و اعطت لهم من حياتها الكثير … عبرت عن حياتها و عن نفسها … شهادة دراسية بسيطة … أو لا شهادة ..!! عشقت الفن و الموسيقىو الغناء … حفلات في أرقى البيوت البغدادية ، فكان ناظم الغزالى ، القدر المحتوم ، القدر المنتظر في حياتها … عشقته ، ثم تزوجته رغم أنه يصغرها بأكثر من عقد من السنين ثم بدات حياة جديدة لكليهما ، حياة فنية ، حياة طافحة بالحب و الفن و الامل ، تجربة جديدة ، خبرة جديدة كيان جديد .. اغان جديدة ، علاقات جديدة ……لكنها … لم تدم طويلاً … أعمال فنية كثيرة … صفقات رابحة … خيبة في النهاية …
لقد مات ناظم الغزالي و هو في ريعان شبابه ، و بقيت سليمة مراد وحيدة مع نفسها حتى وفاتها … أيام لا تنسى مع حبيب ملك القلب حباً و عشقاً … سنوات عشر عاشا فيها كزوجين حبيبين فنانين …
رأيت سليمة مراد بعد ذلك وقد تقدم بها العمر… كنت أراها يومياً على وجه التقريب جالسة في طارمة بيتها … المعلقة قطعة على بابه الخارجية كتب فيها ( منزل ناظم الغزالي ) … هذا البيت الكائن في الشارع الخلفي الموازي لشارع 52 أي خلف دائرتي الجوازات و مجلس الخدمة في بغداد … كان ذلك مطلع العقد السبعيني … وفجأةً اختفت و لم أرها بعد ذلك حيث ذهبت الى بارئها في 1/ 1 /1974 … هكذا النهاية إذن … تزهدت عن الفن و الغناء بعد فاجعة وفاة زوجها الفنان المعجزة ناظم الغزالي 1963 ، تزهدت أو شبه ذلك … فابتعدت منذ ذلك الحين حتى أصبحت الحياة لا تثيرها و لا تعلق عليها أهداف ، لقد سخرت من هذه الحياة و سخرت من أي علاج لها …
لقد كانت سليمة مراد ، تحاول أن تصف لنا من خلال مقاماتها القليلة وأغانيها الكثيرة ، طبيعة الحياة التي عاشتها … التي وصلت فيها الى أعلى درجات الحضور، و قد تعاظم نفوذها الفني و الشخصي في المجتمع لفترة طويلة من حياتها. إن الحديث عن المطربة سليمة مراد، خاصة تجربتها ذات الأبعاد المختلفة مع زوجها الفنان الراحل ناظم الغزالي كزوجين فنانين ، حديث ذو شجون، ان هذه التجربة الكبيرة و المؤثرة في مسيرة حياتهما من جانب و مسيرة الفن الغناسيقي العراقي و العربي من جهة أُخرى ، لم يقدر لها أن تدوم أكثر من عقد من السنين !! ومن ناحية أُخرى فإن غناء سليمة مراد سواء على صعيد الاغنية أو المقامات على قلتها ، كانت فيها تحاول أن تكشف النقاب عن عالم تعبيري حالم يعكس حياتها وزهوها وهي في ذروة نجاحاتها الادائية و تأثيرها الكبير في المجتمع البغدادي على وجه التخصيص … وهو ما نجحت فيه أيما نجاح … حيث عاشت سليمة في خضم ترف التعابير الادائية البغدادية التي كانت عالمها المؤثر التي نستطيع من خلالها أن نتحدث عن نتاجاتها الغنائية الاولى التي ستبقى أغانٍ خالدة في التاريخ الغنا سيبقي العراقي مثل أُغنية … الهجر مو عادة غريبة … هذا مو إنصاف منك … يعاهدني … مقام البنجكاه … يا نبعة الريحان … راح حبنا … الخ فقد وصلت سليمة في هذه الاغاني الى الخيال العام للمجتمع البغدادي و العراقي… وقد استحوذت على اهتمام فئات المجتمع المتذوق للموسيقى … كما إن التحمس لأغانيها كان من الرجال والنساء على حد سواء وبمختلف الطبقات الاجتماعية … لقد كان هذا الحماس الجماهيري لمتابعة أغانيها، حماساً صادقاً … لماذا .. ؟! أعتقد إن من أهم الاسباب لنجاحها الادائي لاغانيها ومقاماتها هو وصولها في عنصر التعبير الادائي عن هموم و معانات المجتمع العاطفية ، ليس على مستوى المسارات اللحنية فقط ، بل حتى على مستوى التعبير عن الكلمة الغنائية الملائمة لالحانها على وجه العموم . بحيث جعلت إمكانية الاستماع اليها من عدة مستويات ثقافية في المجتمع ، إضافة الى المستوى الفني العام للأداء الذي يمكن الاستماع اليها بمزيد من المتعة … إن هذا الوصف الصريح لإمكانيات سليمة مراد التعبيرية في الاداء غير الاعتيادي من مميزاتها الفنية المهمة … إذ يمكن للسامع أن يدرك بإحساسه ان هناك الكثير من القناعة التي يمكن الحصول عليها بواسطة الجاذبية التي تتمتع بها سليمة مراد في الاداء التعبيري عن خصوصية البيئة و استقاء أغانيها من التراث المقامي و من ثـــم أحاسيس التحرر التي تلهم بها المتلقي، و بهذه الدلالات و الاشارات يتوضح لنا ان سليمة مراد على ادراك و احساس واعي بامكانيات المؤدين الغنائيين من الرجال والنساء المعاصرين لها في العراق … وكذلك نرى ان اغانيها الرائعة ما هي الا انعكاس تلقائي للاعمال الاصيلة الاخرى … ان هذه الاشارات الفنية في امكانيات سليمة مراد التي رغبت دوماً في تطويرها … هذا التطور الذي تبغيه، يشير من جانب اخر الى شخصيتها وحضورها النافذ في المجتمع البغدادي التي رغبت سليمة كما يبدو في أن تسميه ( معرفة الحياة ) أي انها آمنت بأن الحياة يجب أن تسير في التطور و التجديد الفني ، مهما كان ظرف الفنان، فلابد من مواكبة سيرها و اللحاق بها دوماً …
هكذا أمر سليمة مراد ، خاصة علاقتها بالزمن و الحياة و الفن برمتهم، فنراها عندما تؤدي أي أُغنية جديدة مهما كان جمال هذه الاغنية تنتشر و تذاع دوماً من الاذاعة أو التلفزيون بعدئذٍ و تتلقفها الجماهير و تبحث عنها لتسجلها وتقتنيها …
لقد كان لامر نجاح سليمة مراد في اداء اغانيها الاولى سواء في الثلاثينيات أو الاربعينيات، ان برهنت على امتلاكها موهبة خصبة في جوانب عديدة من شخصيتها مكنتها بالاستمرار في توالي النجاح تلو النجاح في الاغاني الاخرى التي اعقبت بدايتها … ونرى ان نشاطها الاوسع الذي نلمسه بشكل واضح ضمن مسيرة حياتها الفنية هو بعد زواجها من الفنان العملاق ناظم الغزالي عام 1953 بعد تعرفها عليه قبل سنتين من هذا التاريخ و في احدى الحفلات في البيوت البغدادية … فتفاعل نشاطها الفني ذو الخبرة و التجربة العميقة مع الامكانية الفنية الخارقة لدى زوجها ناظم الغزالي ، فكانت فترة زواجهما التي دامت عقداً واحداً من السنين ، انتجا فيها الكثير من الاغاني وبعض المقامات واقاما الكثير من الحفلات الثنائية داخل العراق وخارجه … وبعد كل هذه الفترة الغزيرة بدأ يساورها شعوراً بالاحباط وعدم الرغبة في النتاج الفني المستمر بعد وفاة زوجها الغزالي المفاجئة … فقد قضت السنين العشرة الاخيرة في دوامة من النشاط الدؤوب والنتاج المستمر من أغاني أو مقامات مع إزدياد شهرتها خارج حدود الوطن ، وعندما حصلت الفاجعة ، حصل الفتور، اذ لم يكن هذا الفتور في نتاجها الفني مبعثه فقدانها لبعض من امكانياتها الفنية ، بل تأثير التجربة الحياتية التي رحل فيها زوجها ناظم الغزالي …
لعديد من الاسباب ، يمكن القول ان اغاني سليمة مراد مثل الهجر مو عادة غريبة او هذا مو انصاف منك او غيرهما … لم تكن نتاجاً فردياً لسليمة مراد بإعتبارها مؤدية، لا لملحنها و لا لكاتبها في حقيقة الامر . إذ انها توحي للسامع بأنها انعكاس حقيقي لثقافة المجتمع الجمالية ككل … حيث نراها غزيرة في مضامينها التعبيرية لروح الحياة الذوقية في مجتمع أهل بغداد أو أهل العراق عموماً … بالرغم من حقيقة المعلومات المنظورة و التي تؤكد بانها نتاج لمؤدٍ وملحن وكاتب كلهم معلومون …
لقد كان هذا النجاح الذي يوحي لنا بتعابير هذه الاغاني و كأنها نتاجات ساهم بها كل أفراد المجتمع في الاداء و اللحن و الكلام … ويمكن القول أن هذه الرؤية التحليلية تدلنا على ان سليمة قد ركزت جل إهتمامها على الخزين الفولكلوري من الموسيقى و الغناء و أنطلقت من هذا الخزين الهائل لتعبر عن روح عصرها ومحاكاة أذواق الناس المعاصرين لها ، و تشربت من بيئتها بكل ثقافتها الجماعية … وهكذا طبيعة خلود هذه الاغاني وما يماثلها في نفوس المجتمع ، لانها لم تكن مجرد نتاج اغنية لمؤدية معينة أو ملحن أو كاتب معينين ، بل أنها من مصدر تعبيري نابع من الالهام الحياتي الذي يفترض وجود خبرات الانسان العراقي بكل تاريخه الطويل ، وهكذا ايضاً يكون الوحي التعبيري عن حقيقة الحياة المعاشة ، خالداً بسبب الانطلاق من التراث وتجاربه الخاصه … كما ان هذه الاغاني ومن خلال هذه الاسباب تتمتع بصفة السحرية ، لانها نتاج الخيال البيئي رغم اختلاط التعابير الواعية بغير الواعية ، ولذلك نرى انفسنا ، بانه ليس وحدنا نتخيل التعابير البيئية بطريقه سحرية … ان المبدأ الخيالي عام لكل من يعبر عن حقيقته المعاشة ، وان الخيال نفسه يقوم بعمله بهذه الطريقة السحرية التي لايمكن تفسيرها بدقة لانها ذات تأثير خارق ذي نتائج مدهشة لعواطف الانسان ، وذلك بسبب المنطلقات الخصوصية لتراث ذلك الانسان وبيئته …
انه ليس مصادفة ان يترجم الانسان ثقافته وجمالياته وتاريخه الى حقائق تعبيرية عن طريق وسائل عديدة يكون الغناء والموسيقى احدها ، واعتقد ان هذه الوسائل ان كانت عن طريق الادب او ظواهر السلوك الاخرى ، في الدرجة الاولى تمثل لغه او اسلوب ما للتعبير عن حقيقه كامنه موجودة ، ان الانسان لم يخلقها بل انه امتلكها بلاوعي منه ، لذلك يتحتم علينا القول وبشكل مطمئن بان التراث يمتلك ولايعطى ، وعندما تكون هذه الوسائل رموزاً او اسلوباً او لغةً تعبيرية ، ينصب الحديث بعد ذلك عن التوصيل ، فعندما يتأكد لنا ان كيان هذا النتاج من الاغاني مستقى من التراث البيئي ، يكون عندئذ هو الرسالة التي يراد توصيلها الى الانسان ….
لنتحدث الان عن احدى اغاني سليمة مراد الجميلة ولتكن اغنية كلبك صخر جلمود الملحنه من سلم مقام البستنكار المتكوّن من جنسي الصبا والسيكاه وهذا هو سلمهُ …






حيث نلاحظ تماسك البناء اللحني المستقى روحياً من الخزين التراثي المقامي وكذلك تماسك مفردات كلمات هذه الاغنية وبنائها الادبي والشعري بلهجة بغدادية واضحة المعنى دون أي غموض ومن ثم ملاحظة اقتراب اللحن من التصوير المتقن لكلمات هذه الاغنية ومعانيها ، وهذه الصور من التعابير المختلفة نراها ونحسها موجودة في اغلب اغاني سليمة مراد الاخرى .
ان التسلسل الزمني من ماضي الاغاني ، يفترض ان يكون على الاقل سلسلة من التعابير عن كل حقبة من الحقب ، فاننا بالضرورة ندرك انه سلسلة من الخيال الثقافي الواعي وغير الواعي ، لان جميع الاغاني هي في الاساس خيالية لانها تعابير حسية تعبر عن شعور الفرد والمجتمع .
ربما تطرح تساؤلات من قبل الجماهير حول صحة وجود اغاني بهذا القدر من التصوير ..!! اشعر بالغرابه .. لأن دلائل التذكير المبنية داخل كل اغنية من هذه الاغاني سواء في التعبير الغنائي او التعبير عن الكلمه او التعبير عن المسار اللحني في آن واحد ، توضح لنا ان مانسمعه هو خيال تعبيري عاطفي متماسك العلاقات ، لاننا كمستمعين نشعر بفهم تصويري خيالي لهذه الاغنية او تلك بكل مقوماتها ومكوناتها وعناصرها ، لدرجة انه يمكننا ان نشعر بمزيد من المتعة والانسجام كونها تعبر عن همومنا المعاصرة وواقعنا المعاش وبيئتنا المحيطة .
من ناحية اخرى يمكننا القول ان اغاني سليمة مراد ذات الوزن الايقاعي العراقي ( الجورجينه الثقيل ) مثل ، هذا موانصاف منك او الهجر موعادة غريبة او كلبك صخر جلمود وغيرها ومثيلاتها في المستوى لدى بعض المؤدين والمؤديات الاخريات المعاصرات لهذه الحقبة الزمنية هي بمثابة وثيقه لحياة الطرب وحياة الليل وجماليات التعبير الادائي لتلك الحقبة التي كانت بها سليمة ومعاصراتها قبل وبعد انتصاف القرن العشرين يعكسنَ تصويراً لحياة بغداد والعراق بشكل عام … ورغم ان الصورة قد تغيرت الان بطبيعة الحال ، الا ان الاغنية بتعابيرها الاصيلة توفر لنا تصويراً تفصيلياً عن التسلسل التاريخي للحياة البغدادية بشكل خاص … وبالتأكيد ستكون ذا فائدة بعد مرور السنين ، خاصة للمؤرخين الموسيقيين وكذلك النقاد لمعرفة كيف سار التطور الادائي للاغنية البغدادية او العراقية على وجه التعميم ، كما ان هذه الحقبة التي تعتبر حقبة تحول في تطور موسيقانا واغنيتنا الحديثه ، ستكون فيها الاغنية ذات فائدة كبرى للباحثين الذين يدرسون حياة المدن بما فيها من كابريهات ونوادي ليلية وبارات وحانات رديئة المستوى … !! اذ يمكن للباحث معرفه ماتعنيه دلالات كل نوع من هذه الاماكن ، حيث يمكنه معرفة الفرق الكبير بين النادي الليلي الذي يرتاده النخبه الذوقية من المجتمع وناد اخر يرتاده نخبة متواضعه الذوق من المجتمع …

مائدة نزهت فنانه القرن العشرين ( 1937 - )

ان السيدة مائدة نزهت بطبعها ، دقيقة حريصة على فنها حتى انه بدا غريباً علينا ، شدة الالتزام بمواعيد التمارين اليومية التي كنا نمارسها صباح كل يوم ضمن دوامنا المستمر في فرقة التراث الموسيقي العراقي التي اسسها استاذنا الراحل منير بشير اوائل السبعينيات … ويبدو ان ذلك الاهتمام كان يعود الى خبرتها الطويلة في الغناء ومن ثم ادراكها الاكيد لاهمية التمارين المستمرة ، في حين كنت وبعض زملائي قليلي التجربة بطبيعة الحال زمنذاك … لذلك كانت السيدة مائدة نزهت قد وجهت اهتمامها بهدوء ورصانه الى نظرة مغايرة سواء الى الحياة او الى الفن … وقد كانت منذ بداياتها الفنية اواخر الاربعينيات واوائل الخمسينيات قد شرعت بالكشف عن حالة حضارية في فنها ، حيث عبرت في غنائها عن روح المدينه وكرست لاجل ذلك كل وعيها وادراكها … لقد كانت مائدة نزهت حلقة حية في سلسلة الغناء البغدادي في اغانيها الحديثة والملحنه وكذلك في المقامات العراقية التي ادت مجموعة منها منذ اواخر السبعينيات وحتى اعتزالها الفن بشكل نهائي ، هذه المقامات التي كان رعاتها المؤدين الكبار في القرن التاسع عشر والقرن العشرين ، ومن حيث انها بدأت مطربة للاغاني الحديثة ، فقد اكدت تفاعلها مع المجتمع من خلال صوتها الجميل والمتمكن والسليم من العيوب وتعابيرها البغدادية الاصيلة ، وبذلك فقد اوجدت وثبتت لها طريقاً واسلوباً ادائياً فنياً بزت فيه كل المطربات العراقيات في القرن العشرين … لم يكن هذا الاهتمام وهذا الواقع فارغاً على اساس الفن للفن ، ولكن هذه الحقيقة لم يشأ الا القليل من النقاد الموسيقيين والغنائيين الاعتراف بها … اذ لم يكن اهتمام الفنانه مائدة نزهت يجنح نحو معرفة الى أي مدى يستطيع الفن ان ينتزع نفسه من هذه الحياة ، وانما كانت تبحث وتريد أن تعرف على وجه التحديد مايشمله الفن الغنائي والموسيقي ومايحتاج اليه من حيث الشكل والمضمون … وقد كان هذا يشكل لها حافزاً دائمياً لنتاج اغاني ملحنه ومكتوبة بشكل جيد ومستمر ، حتى اصبحت اغانيها مجالاً رحباً للاستشهاد بها على انها اغاني حديثه ذات اداء فني راق يمتاز بروح بغدادية صرفه … لقد اصرت السيدة مائدة نزهت كما يبدو ، ومنذ البداية على ان الغرض الاول من الفن في الاغنية الحديثه المعبرة عن خصوصية المدينه او البيئات الاخرى ، ريفية ام بدوية ام غيرهما … هو تأكيد الجانب الفكري والحضاري للاغنية الحديثه … لذلك استطاعت الفنانه مائدة نزهت ان تثبت انها شديدة الاحساس بفن الاغنية الحديثه والاعتبارات البنائية المتماسكة لالحان اغانيها التي اعتمدت فيها على كثير من الملحنين ، وكذلك بناء الكلمة المغناة لتتحد بعدئذ هذه الالحان وهذه الكلمات بادائها المتقن الزاخر بالفن والجمال … وبمرور الزمن وزيادة التجربة وصقلها استطاعت الفنانه الكبيرة مائدة نزهت ان ترى بوضوح كيف تهندس مسيرتها الفنية بكل هدوء وروية …
ان دقة مائدة نزهت في اختيار الحانها وكلمات اغانيها ، غالباً ماتخلق الاحراج الفني لدى ملحنها او كاتب كلماتها ..!! وفي معالجة هذا الاحراج وهذا المأزق فانه يتحتم على الملحن او الكاتب ان يكون صبوراً يتحمل طلباتها المنطقية والمقنعة التي امتلكت رؤيتها من خلال ذوقها الفطري وتجربتها العميقة أملاً في مواكبه روح العصر … لذا فأن ادراكها لهذا الامر يزيد من قدر المسؤولية … وقد كان لامر وعيها وادراكها لقيمة الاغنية التي تذيعها للجمهور من خلال وسائل الاعلام المرئية والمسموعة ، ان يكون مجالاً واسعاً للبحث والتقصي عما تريد مستلزمات نجاح اغنياتها ، ولاشك ان وجود زوجها الفنان الكبير وديع خونده ( سميربغدادي ) بجانبها ، عاملاً مساعداً جداً على بلورة فنها بشكل عام وتنظيم افكارها ، فقد استطاع ان يبّين الاثر الذي تمتلكه الفنانه مائدة نزهت للصفة الخفية المميزة لشخصيتها التي تحمل وجهات نظرها الرصينه ، خاصة وانهما تزوجا منذ بداية الخمسينيات ، أي انه عاصر مسيرتها الفنية منذ بدايتها وبشكل مباشر والى حد الان رغم اعتزالها الفن نهائياً اواخر الثمانينيات .. فكثيراً ماكان الفنان وديع خونده متابعاً ومطلعاً على نتاجاتها الادائية طارحاً وجهات نظره وافكاره التي تمتزج مع وجهات نظر وافكار مطربتنا العملاقة مائدة نزهت ، لنحصل في النهاية على نتاج فني لاغنية عراقية مرموقة … ان هذين الزوجين والفنانين الكبيرين وديع خونده ومائده نزهت اللذين نجح زواجهما كما لم ينجح زواج لفنانيــــن قبلهما … ! لقد كانت الحانه التي اعطاها لزوجته غاية في الروعة والرصانه عبرت عن الروح البغدادية والعراقية بشكل عام ، وقد كان لوجودهما معاً كزوجين وفنانين في آن واحد قد بيّن كشفاً لتفاصيل لم يكن في وسع أي مطربة او ملحن اخر ان يوصلها الى المستمع بهذه الطريقه المهذبة من دقة الاداء وكمال اللحن وحلاوة الكلمة … والاكثر سداداً هو ان الاغنية التي غنتها مائدة نزهت بشكل عام قد عالجت مشكلات المجتمع البغدادي والعراقي بوضوح وعبرت عن معاناته وعواطفه سواء كانت الاغنية المغناة شعبية الطابع او غير ذلك … واي غرض اسمى من تصوير مدى هموم المتلقي ، فهي في هذه الحالة صادقة في كل تعبيراتها الادائية وهو اسهل الطرق وانجحها للوصول الى الجماهير ، وهي من ناحية اخرى ، ذكاء وفطنة ميدانية وصلت من خلالها الى قمة مجدها … اما ان هذا التفسير يحتاج الى تأكيد فذلك امر يتجلى في اغاني كثيرة من نتاجات السيدة مائدة نزهت مثل اغاني … التوبة - كالو حلو- حرام – حبي وحبك – حنان عيونك – خلهم يكولون – كلما امر على الدرب- كذاب الأسمر – كلبي يحبك – إسأل كلب اليهواك – بان الأخلا – تاليها وياك – إسألوه لا تسألوني إسألوه – حلوين – و غيرها الكثير
انني ارى ان مائدة نزهت في هذه الاغاني وغيرها ومقاماتها ايضاً بعدئذ، تبدو وكأنها وصلت فعلاً الى النقطة التي امتزجت فيها مع المجتمع وجمهورها المتلقي باوسع معانيها واقواها … انها ابنة هذا المجتمع وبالتالي فهي المعبرة عنه باخلاص وصدق … واكثر من هذا فان الانعكاسات التعبيرية الادائية لدى مائدة نزهت ونوع صدقها في هذه التعابير التي عكست الخصوصية البغدادية خاصة والعراقية عامة ، لايسعنا الا ان نجدها سابقه لاوانها الى حد مذهل اذا ما اخذنا بالاعتبار موقفها الاخلاقي من انتمائها لعراقيتها وبغداديتها واخيراً محليتها البيئية … واذا تنحينا جانباً عن هذه الحقائق التي تبين لنا السيدة مائدة نزهت أنها شاهدة لواقعها وبيئتها وخصوصيتها العراقية على نحو لايعترف بها دوماً … فاننا نجد نزعتها التعبيرية هذه في ادائها للاغنية الحديثه كانت قبل كل شيء موقفاً اخلاقياً مهذباً فقد كانت تصر على اقصى درجة ممكنه من عكس الثقافة العراقية وشموخ الفن الغناسيقي العراقي … والحق يقال ، ان هذه النظرة الاخلاقية تكاد ان تكون عامة لدى مطرباتنا ومطربينا في طبيعتهم … فقد كانت مائدة نزهت قد استوعبت كل ما يمكن ان تقدمه ثقافات عديدة تأثرت بها خلال سفراتها الكثيرة في اكبر واعلى درجات استجابتها للتجربة ، فقد وازنت بين احساساتها المحلية بتجارب واحاسيس تجربتها الدولية واطلاعها على تعابير ادائية مختلفة من بيئات متعددة … وهي بنفس الوقت اخلاقية ايضاً ، ومن خلال هذا التوازن في استقلال التجربة ، فقد اصبحت مائدة نزهت اكثر قدرة على بحث المشكلات الاجتماعية من الناحية الجمالية والذوقية … وهكذا فان هذا المغزى لهذا الوعي وهذا الادراك الاخلاقي لدى مائدة نزهت قد التحم التحاماً شديداً بالعنصر الجمالي وذات علاقة مباشرة بسلامة البصيرة وليس بالاصل الاجتماعي وفخامته …
ان فكر ورؤية الفنان الناضجة تجعل من اعماله ونتاجاته الفنية ، انعكاس لثقافته وعمق لهذه الصفات … اذ لايعقل ان نجد عملاً فنياً جيداً وهو ناتج عن فكر سطحي ومتواضع ..!! ان هذه المقدمة الاستطرادية يكفي لهدف موضوعنا في الكتابه عن السيدة مائدة نزهت كمطربة وفنانه كبيرة … انها مطربة اغنية حديثة قبل كل شيء ، ونحن الان ليس بصدد الكتابه عن كل سيرتها الفنية ، بل ان تجربتها في غناء المقام العراقي هو ما يهمنا الان حيث ما ان حل العقد السبعيني في القرن العشرين ، حتى قدر لمجموعة من الفنانين المختارين من قبل الفنان الراحل منير بشير ان يكوّن منهم فرقة غناسيقية تراثية ( فرقة التراث الموسيقي العراقي ) التي تضمنت الوان من الغناء التراثي العراقي والالات الايقاعية والآت الموسيقى الشعبية والات العود والقانون والناي والجوزة والسنطور … فكانت السيدة مائدة نزهت من بين هذه المجموعة من الفنانين ، حيث اختصت في البداية على غناء المواويل والليالي بالاسلوب العربي ترافقها الفرقة الموسيقية المكونة الاتها من العود والناي والقانون اضافة الى الايقاع … وكان لمصادفة وجودنا معاً في هذه الفرقة اثر توضح بمرور الزمن ومن خلال دوامنا اليومي والتمارين المستمرة لاعضاء الفرقة لكثرة نشاطاتنا داخل العراق وخارجه ، استطعت ان افيدها واعلمها الاصول المقامية للمقامات التي ادتها بعدئذ مثل مقــام الاورفـة ومقام الحويزاوي ومقام الكرد ومقام القطر و مقام الحكيمي والشعر مع الابوذية ومقام الشرقي رست وغيرها … وفي هذه الحالة يمكن اعتبار السيدة مائدة نزهت اول المؤديات المقاميات اللاتي ادين المقامات العراقية بدقة اصولها كاملة وهي مسجلة في اذاعة وتلفزيون العراق اضافة الى انها قد ادتها في الكثير من المهرجانات والمشاركات الخارجية ، ويمكنني هنا ان اجزم القول بأن تجربتها في غناء المقامات كانت ناجحة جداً ويرجع بعض اسباب هذا النجاح الى كونها تتمتع بقدر كبير من التجربة الغنائية ، وعندما اقتنعت السيدة مائدة نزهت بخوض هذه التجربة المقامية الجديدة ، اصبحت قادرة على ان تقدم لجمهورها الذي عودته على نجاحاتها الغنائية منذ بداية الخمسينيات دون أي تراجع حتى الان او بالاحرى حتى اعتزالها الفن نهائياً ، التي وسعت نطاق الغناء التراثي بجانب تأريخها الفني العريق في الاغنية الحديثة ، مما حتم عليها في هذه المصادفة ان تغتنم كل الفرص المتاحة لتعلم المزيد من المقامات التي استطعت فيها ان اجعل من السيدة مائدة نزهت مؤدية مقامية تهتم بالشكل المقامي واسسه العريقة ومضامينه التعبيرية بروح جميلة وجديدة بكل تأكيد ، اضفت عليها السيدة مائدة نزهت الكثير من عندياتها التجريبية والعقلية … فكانت هذه التجربة المقامية الناجحة اشبه بالبرهان القاطع على صلابة وعمق تجربتها الغنائية وفنها الراقي الرصين … وبذلك نستطيع ان نؤشر على ان انتصاف العقد السبعيني يمثل المنعطف الجديد في مسيرة السيدة مائدة نزهت الفنية في كل ما انجزته قبل هذا العقد وخلاله وما بعده ، اذ خاضت تجربتها الجريئة بحفظ وغناء المقام العراقي التي انطلقت بها بثقتها العالية بامكانياتها الفنية الذاتية ، نعم فقد كانت فرقة التراث الموسيقي العراقي سبباً مباشراً لخوض هذه التجربة التي اتيحت لكلينا من خلالها ان نجوب العالم مشاركين في المهرجانات الفنية الدولية حاملين تراثنا الغناسيقي على اعناقنا الى العالم ممثلين بلدنا الغالي ، وكما قلت ادت الفنانة مائدة نزهت العديد من هذه المقامات ضمن حفلات الفرقة سواء في العراق كإذاعة وتلفزيون و مهرجانات داخلية وخارجية و في شركات التسجيل الاجنبية ،وقد كانت تبدو في أدائها لهذه النخبة من المقامات والتي اخترتها لها لحفظها وكأنها شهادة تطور امكاناتها الادائية يوم إثر يوم ، وعلى قوة ثقتها بفنها ورغم ان ادائها للمقامات كان بمستوى جيد جداً في جميعها ، بيد اننا نستطيع ان نحدد مقام الحويزاوي كأفضل المقامات التي ادتها ليس بسبب دقة أدائه فحسب ، بل كونه مقام حويزاوي جديد بمعنى الكلمة ، نقول جديد لأن معظم او كل المؤدين المعاصرين لها تأثروا بمقام الحويزاوي الذي اداه المطرب الكبير محمد القبانجي ومن ثم قام الجميع بتأديته نصاً، كلاماً ولحناً ، وذلك بالقصيدة الشهيرة :-

لما أناخوا قبيل الصبح عيسهم
ياحادي العيس عرّج كي أودعهم
أني على العهد لم أنقض مودتهم
لما علمت بأن القوم قد رحلوا
شبكت عشري على رأسي وقلت له
فحنّ لي وشكى وأن لي وبكى
ان البدور اللواتي جئت تطلبها
فحملوها وسارت بالهوى الأبل
ياحادي العيس في ترحالك الأجل
ياليت شعري بطول البعد ما فعلوا
وراهب الدير بالناقوس منشغل
يا راهب الدير هل مرت بك الأبل
وقال لي يا فتى ضاقت بك الحيل
بالامس كانوا هنا واليوم قد رحلوا

في حين ان الفنانة مائدة نزهت اختارت قصيدة مغايرة من شعر عبد المجيد الملا، وعلينا ان نلاحظ عند سماعنا لهذا المقام مدى الاختلافات الادائية والتعبيرية بين الادائين ، يضاف إليهما مقام حويزاوي آخر لفنان القرن العشرين ، ناظم الغزالي، الذي أدى هذا المقام بشعر جديد وأداء جديد ، سبق ان أشرنا اليه في هامش 23 ص76 أما قصيدة عبد المجيد الملا التي ادتها الفنانة مائدة نزهت في مقام الحويزاوي فهي موجودة في ص88 من هذا الكتاب .
هذا، و قد سبق ان تحدثنا عن هذا الموضوع بشيء من التفصيل في كتاب سابق، وبذلك فأن الفنانة مائدة نزهت تكون قد عبرت في هذه المقامات بأسلوب أدائي مغاير لجميع المؤديات والمؤدين المعاصرين لها ، واستطاعت ان توصل صوتها في هذه المقامات الى العالم اجمع، فكانت مقامات زاخرة بالحيوية الدرامية والتعابير الجذابة التي تذكرنا دائماً وفي مناسبات عديدة بالمعنى الفني والجمالي والتقني لمقاييس الاداء الدقيق التي اسبغت عليه تفسيراً اقرب الى العبقرية في التعبير والجمال والذوق وسحر الخيال العاطفي .
ويمكن ان نلمس اثر زوجها الفنان والملحن الكبير وديع خوندة حقاً، في تفاعل وجهات نظره وملاحظاته الفنية والنقدية مع امكانيات زوجته مائدة نزهت عند ادائها للمقامات ووجهات نظرها التجريبية في الاداء والتعبير …
ان السيدة مائدة نزهت كان يمكن لها بكل تأكيد ان تزيد من ابداعاتها الادائية و ان تستمر في رفد تجديداتها التعبيرية والجمالية عند ادائها للمقامات فيما لو استمرت بالغناء دون ان تقرر الاعتزال فجاْة في النصف الثاني من عقد الثمانينيات وبقيت على قرارها ، وقد تأكدت من ذلك بعد ان كلمتها بالهاتف ، فوجدت ان لافكرة لديها في التراجع عن قرارها ابداً .







أخوكم your,s
مطرب المقام العراقي singer of Iraqi maqam
حسين إسماعيل الأعظمي hussain ismail al aadhamy
عمّان amman jordan
00962795820112 gabel al hussain
الأردن ، عمّان ، جبل الحسين b.x 922144
ص . ب 922144 hussain_alaadhamy@yahoo.com