كتاب


المقام العراقي
الى أيـــــن !؟


دراسة تحليلية فنية نقدية فكرية برؤية مستقبلية




















تأليف
حسين اسماعيل الاعظمي بغـداد 2000













الفصل الرابع


















الحلقة (11)


وهي الاخيرة












الحاج هاشم محمد الرجب (1921 - )

لقد كانت وجهة نظر المؤدين الذين تمسكوا أو احتفظوا بالاساليب الادائية القديمة للمقام العراقي التي اصطلحت على تسميتها بـ( الطريقة الرشيدية ) بعد الذروة الادائية لتلك الاساليب ووصولها الى قمة كلاسيكيتها عند المطرب الشهير رشيد القندرجي رغم أن كثيراً من هؤلاء المؤدين ظهروا في الفترة التي أعقبت ظهور الطريقة القبانجية التي أذهلت الاوساط المقامية برمتها، أو عاصروا بدايتها مثل المؤدين أحمد موسى و عبد القادر حسون و عباس كمبير و حسقيل قصاب و الحاج هاشم الرجب و شهاب الاعظمي و يوسف حريش و سلمان موشي… نعم كانت و جهة نظر مغايرة لنظرة الكثير من المؤدين المعاصرين الذين تأثروا بالطريقة القبانجية التي سلبت لبهم أمثال عبد الرحمن خضر وفلفل كرجي و يوسف عمرويعقوب العمارتلي و سليم شبث و حسن خيوكة و ناظم الغزالي وعبد الرحمن العزاوي و عبد الجبار العباسي… وفي الحقيقة أن المؤدين في هذه الحقبة و من كلا الطريقتين ، قد نالوا الثناء على أدائهم المقامي ، و نستطيع أن نميز الحاج هاشم محمد الرجب الذي لقي الاعجاب من لدن الاكثرية ، لاهتمامه بالجانب الثقافي في البحث الموسيقي و متابعة مؤدي المقامات منذ أن كان شاباً يافعاً لتدوين حياتهم وفنهم ،إضافة الى تعرفه على الكثير من الاختلافات في طرق الاداء للكثير من مؤدي المقام العراقي ليصبح بعدئذٍ خبيراً كبيراً لا يضاهى في معرفته باسرار الاداء المقام العراقي و اصوله القديمة، وقد كان الرجب طيلة حياته و إلى الان حاملاً لواء الطريقة الرشيدية مدافعاً عنها و يدعو إليها بقوة و يعتبرها أفضل الطرق الادائية في المقام العراقي بالقرن العشرين … فالتقاء الرجب بمؤدي المقام العراقي بمختلف طرقهم و توثيق المعلومات الكثيرة عنهم، كان من المزايا التي تميز عند الحديث عن تاريخه الفني، فقد كان اضافة الى ذلك مطرباً قديراً للمقام العراقي و سجل بصوته عدة مقامات في إذاعة و تلفزيون العراق ، و كذلك بدأ عازفاً على آلة السنطور منذ بداية العقد الخمسيني ، ثم مارس الكتابة حيث أصدر أول كتابٍ أسماه ( المقام العراقي ) الذي كان باكورة أعماله الكتابية حيث احدث هذا الكتاب لغطاً في الشارع المقامي و تداخلاً في الآراء حول مضمونه الذي ينسب بعضه الى الخبير المقامي و السفير الدبلوماسي باهر فائق الذي كان ينوي طبع كتابٍ مماثل لكتاب الرجب وفي هذا المنحى تفرغ الرجب أو شبه ذلك للكتابة و أصدر عدة كتب و حقق عدة رسائل موسيقية مثل رسائل الكندي و الارموي … الخ .
لقد خلق الرجب من خلال عمله و حبه للمقام العراقي اسلوباً ديناميكياً خدم من خلاله المقام العراقي أحسن خدمةٍ فقد كان مثابراً منذ صغره و عمل بجد و اخلاص لخدمة هذا التراث الحضاري … و قد استغل الخبير هاشم الرجب في حياته كل امكانيات عقله و خياله و على نحو كاف إذ جعل المقام العراقي منذ البداية مصيراً لحياته في عالم يعيش حقبة زمنية تتميز بالتغييرات السريعة و المذهلة في تقدمها العلمي و التقني ، و يبدو الفنان هاشم الرجب في سلسلةمن مواقف مسيرته الفنية في أجواء تعلم فيها و أعطى ما تعلمه … بنكران ذاتٍ واضحٍ مع رفقاءٍ و زملاءٍ عاصروه في الاداء المقامي كانوا قد نهجوا هذا المنحى في عطائهم ، و في النهاية فقد كانوا جميعاً قد خلفوا نتاجات فنية خدمت الوسط المقامي خير خدمة .
ونجد في الفنان هاشم الرجب صورة قيمة أُخرى ، عندما استلم منصب خبير اللجنة الفنية المقامية في اذاعة بغداد قبل منتصف الخمسينيات … لغرض اختبار المطربين المقاميين بشتى مستوياتهم للحصول على موافقة اللجنة في اداء حفلة من الاذاعة مباشرة أو تسجيل بعض المقامات في استوديوهات الاذاعة و ذلك بعد وفاة خبير اللجنة السابق المطرب القدير جميل البغدادي عام 1953 . وفي هذا الشأن حاز الرجب على كثير من الاعجاب في هذه الفترة لشدة إخلاصه وولائه للمقام العراقي و اهتماماته الثقافية الاخرى ، و من هذه الفترة أيضاً بدأت شهرة الرجب تنمو رويداً رويداً ، و أخذت الجماهير تتابع مسيرة هذا الفنان القدير، وقد كانت مثابرة في هذا الشأن كافية لأن تُبقي الرجب موجوداً بين الجماهير في عطاءاته المقامية المستمرة التي تستثير حب الاستطلاع ، ان ما أنتجه الرجب من تسجيله لبعض المقامات العراقية بصوته على قلته ، كان نتاجَ جهدٍ مضنِ بدأ منذ العقد الاربعيني من القرن العشرين ، و ان مثابرته و معرفته من خلال البحث المستمر منذ صغره عن كوامن اداء المقام العراقي و بأساليب المؤدين المتعددة و المختلفة بشكلها الاصولي ومضمونها ، هي المركز الفني الاكثر أهمية في تاريخ الرجب في مسيرته الفنية ، ويشترك في هذه النظرة النقاد الموسيقيين و الرجب نفسه ، وتأتي معرفته بالمقامات من حيث شكلها ومضمونها بمثابة المحور الرئيس في فنه الغناسيقي ، و رغم أن الرجب قد ترك غناء المقامات مبكراً رغم غنائه لبعضها في أحايين متفرقة ، الا ان ذلك لا يعني فشله في الاداء المقامي ، فقد أقتحم الرجب الوسط المقامي بكل قوةٍ و هو مسلحٌ بالمعرفة الكبيرة و الكثيرة بخصوص المقامات ، وقد اتاحت الظروف التي عاشها ضمن حقبته ، كثيراً من الفرص ، وقد اوجبت هذه الفرص على الرجب ، إذ اصبح خير معبرٍ عنها ، فكان همه الاكبر ايجاد وسيلة ، بل وسائل لإيصال معلوماته المقامية للأجيال التي عاشها وعاصرها أملاً في بناء مستقبل جيد للمقام العراقي و نشر ثقافته بين الاوساط الاجتماعية على العموم … فقدم لجمهوره كل ما استطاع التوصل اليه من نتائج معرفته الغناسيقية وهو الذي يعتبر أدق فنان دعى الى ترسيخ الشكل المقامي في اصوله التقليدية وحافظ عليها و انتقد كل من يحيد عنها … هذا و قد كان الحاج هاشم الرجب قد كافح مخلصاً ليستخلص من موهبته أكثر مما يتطلبه نجاح مبكر، وهنا نجد ما حفلت به سنوات العقد الخمسيني التي أعقبت سنوات التلمذة و الاحتكاك والاطلاع و بناء العلاقات و توسيعها ، كما نجد أيضاً ما يذكرنا باندفاعه ومثابرته في الغور بمعرفته باعماق المقام العراقي ، حتى أمسى مرجعاً كبيراً لكل من يريد علماً او معلومةً عن المقام العراقي، و في هذا الصدد يمكنني القول معتمداً على تجربتي الشخصية في هذا المجال، حيث أشيع عن الكثير ممن عملوا في الوسط المقامي ، خبراء أو باحثين أو مؤدين على أنهم خبراء و لديهم علمٌ وافرٌ في تفصيلات و اعماق المقام العراقي ، فالتقيت بالكثير منهم واستمعت الى أكثرهم و تعرفت على مستوياتهم في هذا الشأن فلم أجد غير ثلاثة لا رابع لهم ، يمكن أن ادرجهم ضمن الدرجة الممتازة كأفضل مستوى معرفي في شأن المقام العراقي وهم الحاج هاشم محمد الرجب و يوسف عمر و مجيد رشيد ، و قد دهشت إذ لاحظت بشكلٍ عفوي أن هؤلاء الثلاثة هم بالأساس فنانون مؤدون للمقام العراقي وبذلك فإن حالتهم تؤكد على أهمية اقتران المعرفة النظرية بالمعرفة التجريبية والتطبيقية الحية الخالصة ، لذلك فإني أرى ان من يمارس الأداء المقامي هو أقرب في التعبير عن حقيقة مكنونات المقامات و تفصيلاتها كونه يعيش العملية بكل تفاصيلها، ويدرك معاناة أداء الجملة الادائية و أخيراً فهو مطرب متمكن في هذا الميدان وأعني به الميدان الغنائي المقامي وليس كأي مؤدٍ حفظ الشكل و كذا المضمون دون درايةٍ و لا استيعابٍ واع هكذا نرى و نحن في صدد الحديث عن الحاج هاشم محمد الرجب ، حيث يمكننا عدَّه من الطبقة الممتازة بل أفضل من زميليه في الحديث عن المقامات بسبب ثقافته العامة و ثقافته الموسيقية خاصة وهو صاحب المؤلفات العديدة ، في حين نرى أن زميليه فقيرا الثقافة الموسيقية ولا يمتلكان أية شهادة دراسية أُخرى ..!! لكنهما مدركان بالفطرة و التجربة المكتسبة معرفة دقائق المقامات و بشكل ممتاز …
ولد الخبير والمطرب المقامي هاشم محمد الرجب العبيدي في بغداد 1921 في قضاء الأعظمية ، وأكمل الابتدائية عام 1935 والمتوسطة عام 1938 ثم أنهى دراسته العالية في كلية دار العلوم ( كلية الشريعة الآن ) ودرس فيها الدورة الثانوية سنتان وتخرج من الدورة العالية ثلاث سنوات بعد الدورة الثانوية سنة 1943 . وبعد هذه الفترة عمل في وظائف عديدة في بغداد والموصل والحلة ثم عاد الى بغداد …
أما في الفن والغناء فقد بدأ الرجب عام 1933 في حفظ وأداء المربعات ، فكان يحضر حفلات الاعراس و الختان و الكسلات( ) في الاعياد وحضور مواسم الزيارات في سلمان باك ، ثم اتجهت رغبته الى الابوذيات فحفظ منها الكثير وغناها منذ عام 1935 ، اما اول مقام حفظه كان مقام البيات بعد ان سمعه من المرحوم نجم الشيخلي من الاذاعة واعجب به ، ومنذ ذلك الوقت لازم المؤدين ، واستمر على حضور الحفلات و الشعائر الدينية ، وهكذا استمر يتعلم اصول المقامات واحداً تلو الآخر… ومن اوائل المؤدين الذين اتصل بهم رشيد القندرجي الذي تأثر به كثيراً حتى تبنى طريقته الادائية و الى يومنا هذا ثم اتصل بالحاج عباس كمبير و السيد جميل البغدادي و غيرهم الكثير . وفي الموصل لازم المغني الشهير السيد سلمان الموصلي بين عام ( 1944-1946 ) و اطلع على الطريقة الموصلية في الاداء المقامي من خلال علاقاته مع مؤديها . و في عام 1950 غنى لاول مرة مع الجالغي البغدادي في الاذاعة باسم احد جماعة الهواة ثم عين عازفاً للسنطور في الاذاعة منذ عام 1951 . واليه والى زميله شعوبي ابراهيم يعود الفضل في المحافظة على آلتي السنطور والجوزة بعد رحيل الكثير من العازفين خارج العراق في تلك الحقبة( ). أمثال حوكي صالح رحمين بتو ويوسف حوكي بتو عازفي السنطور وأفرايم شاؤل بصون عازف الجوزة وسلمان شاؤل بصون عازف السنطور و نسيم بصون و ناحوم يونا الدرزي وحسقيل عزرة شمولي وشميل صالح شمولي عازفي السنطور أيضاً وصالح شميل صالح عازف جوزة…( )
على هذا النحو نستطيع أن نلقي الضوء على نتاجات و انجازات الفنان الرجب ، وذلك من خلال معرفتي له و بعونٍ من المعلومات التي استقيتها من آخرين ومصادر أُخرى ، بما كان يتمتع به من امكانيات فنية رصينة . وعلى هذا النحو أيضاً يستطيع هاشم الرجب ، بل استطاع احداث الاثر الكبير في فن المقام العراقي بكل نواحيه … وارجو أن لا أكون قد ذهبت بعيداً حين أقرن الفنان الرجب بالامجاد المقامية بشكل عامٍ في القرن العشرين …
ان كتاب المقام العراقي الذي كان باكورة أعماله الكتابية أول تلك الامجاد ، حيث يعتبر هذا الكتاب افضل و أعمق مؤلفٍ صدر عن المقام العراقي لحد الآن ،ثم ان عمق معرفته بأسرار المقامات العراقية و طرح هذه الاسرار المعرفية الى الغير لتعلمها كانت ثاني هذه الامجاد التي أنجزها الرجب في حياته ، و هناك الشيء الكثير الكثير مما يمكننا الحديث عنه … ولكن مع كل ذلك يمكننا أن نشخص بعض الاخفاقات التي مرت بمسيرة الرجب الفنية ، أولها عدم استمراره بالعزف على آلة السنطور ..‍‍‍! وترك ذلك للمناسبات … وثانيها عدم استمراره أيضاً بأداء المقامات و بقي أداؤه بصورة متقطعة و في المناسبات أيضاً أو في الجانب التطبيقي من محاضراته التي يلقيها عن المقام العراقي ، وقد تكون لذلك أسباباً كثيرة ، منها أنه مارس العزف على آلة السنطور عن طريق السماع وليس عن طريق الدراسة الاكاديمية و دون منهاج لهذه الممارسة ، و لهذا الموضوع أسباب أُخرى هو تكليفه من قبل الحكومة عام 1951 بممارسة تعلم هذه الآلة مع آلة الجوزة التي أنتدب لها زميله المرحوم شعوبي إبراهيم بعد رحيل الكثير من العازفين العراقيين في خمسينيات القرن العشرين الذين مر ذكر بعضهم، وربما كان الرجب قد اضطر الى ترك الممارسة العزفية لادراكه بحاجة الموضوع الى اهتمامٍ مركزٍ وتعبٍ كثير قد يأخذ الكثير من اهتماماته الاخرى ، أما تركه للغناء فلا أعتقد أنه له عذراً فيه ، ذلك أن الرجب كان مؤدياً ناجحاً و أداؤه يتميز بجماليةٍ أدائيةٍ للأساليب القديمة أو اسلوب رشيد القندرجي مباشرة، ولكن يبدو ان طغيان شهرة يوسف عمر التي أخذت تتسع في تلك الحقبة من عقد الخمسينيات كانت أحد اسباب عدم استمرارية الحاج هاشم الرجب و ربما آخرين غيره، فاذا كان هذا التفسير وارداً فان الرجب قد أخطأ كثيراً في توقفه عن الغناء ، لانه ترك تسجيلاتٍ مقاميةً سجلها في الخمسينيات غاية في الروعة والاتقان ، و بكل صراحة أقول ، أنه بالرغم من سماعي لبعض تسجيلات الحاج هاشم لدقائق قليلة قبل سنين بعيدة ، إلا أنني أستمعت اليه قبل سنوات قليلة بمقامات كاملة مثل مقام الحجاز ديوان ومقام المنصوري ومقام الحليلاوي ومقام الراشدي … الخ أيقنت أنه مؤدٍ كبيرٌ أو بالحقيقة انني اكتشفت أنه مؤدٍ كبير خلافاً لما اشيع عنه بأن تسجيلاته أقل من ذلك ولعل حساده أو منافسيه حجبوا عن الآخرين سماع تسجيلاته خاصةً بالنسبة الى جيلنا ، أضف الى ذلك أن الاذاعة لاتذيع تسجيلاته وبعض الآخرين من معاصريه وإن يكن بشكل غير مقصود ، الامر الذي جعل جيلنا من المؤدين أو المستمعين لا يعرف قيمة مؤدين من مستويات الحاج هاشم الرجب أو يطلع على امكانياته الادائية بشكل كافٍ .
أما ان الفنان هاشم الرجب كان مدركاً لاحتمالات اخفاقه في الاستمرار بالعزف على آلة السنطور أو ممارسة الغناء للمقامات العراقية مسبقاً ، ولمجمل الاسباب التي ذكرتُ ، فذلك تدل عليه اهتماماته المركزة لأُمور اخرى من هذا الاختصاص أولها توسيع ثقافته المقامية بحيث أصبح خبيراً كبيراً في فهم أغوار هذه المقامات لا يضاهى و من ثم كرسَ معظم أوقاته في الكتابة و تحقيق الرسائل الموسيقية و اصدرها بكتب و النشر الصحفي … الخ .
وبينما اتجه الرجب بشكل جاد الى اهتماماته الثقافية التي كرس لها معظم أوقاته ، نجده كما كان في بداياته… فناناً باحثاً مثابراً نشيطاً و قد أدهشته وفرة الموضوع و اتساع مضامينه بحيث لم تكن طموحاته في معرفة أعماق هذا التراث ما يجعله يتقاعس أو يصاب بخيبة أمل قد توقفه عن مسعاه ، و لكنه على العكس من ذلك ، فقد واكب و تابع و بحث عن كل صغيرة و كبيرة ترشده الى معرفة أسرار هذا التراث المقامي الحضاري .
ان تركه العزف والغناء له أسباب مرَّ ذكرها ، ومع ذلك فإن هاتين الممارستين للعزف و الغناء تسجلان له موقفاً ايجابياً مهما كان المستوى الفني لهاتين الممارستين ، حيث خلف لنا تلاميذ جيدون في العزف على آلة السنطور منهم الفنان حمودي الوردي و عبد الله علي وباهر ابن الحاج هاشم الذي فاق الجميع ، و كذلك جاءت ممارسته للأداء الغنائي للمقامات عاملاً مهماً في توسيع مداركه لمعرفة أسرار هذا الاداء بكل دقة ووضوح ليصبح بعدئذ خبيراً كبيراً في الاداء المقامي ، وأخيراً فان لهذه المنجزات الرجبية مكانة هامة في التاريخ المقامي الحديث والمعاصر . و لكن ذلك لا يرجع الى انه كان يعمل بالمصادقة أو ان ظروف حقبته الزمنية اتاحت له فرصة الوصول الى مستواه الفني هذا بل انه رغم استغلاله للظروف التي كانت متاحة له ، فانه ثابر و سعى و بحث و اجتهد من أجل خلق الكثير من الظروف في سبيل معرفته و اتقان ما تعلمه ، وقد اثبت ذلك حيث اصاب النجاح الكبير بين نخبة من معاصريه أخفقوا في الوصول الى ما وصل اليه معاصرهم الرجب الذي كان مفكراً و فناناً ، ان الفن غير الفكر ، ولكن بدون اندماجهما معاً لايمكن ان يرقى أي عمل فني الى مستوى النضج …
لقد نجح الرجب في تخطي هذا الحاجز واستطاع ان يدعم ما تعلمه من تراثه التقليدي بالدراسة و المطالعة والمعرفة المنهجية ، وهو ما لم يستطه معظم أو جميع معاصريه الذي اقتنعوا ببقائهم فنانين أمبريقيين لاتتعدى معارفهم التجربة المكتسبة بالممارسة … وللحقيقة الجمالية فان لمقامات الحاج هاشم الرجب المسجلة بصوته وقعٌ جمالي كبير للطرق القديمة في الاداء المقامي ومكانه في عموم تسجيلاته المقام العراقي في القرن العشرين ، ولكن ذلك لا يرجع كله الى أنه كان يغني ويقلد غناء سابقيه من أجل اتقان فنه ، وقد أثبت حيث أصاب النجاح ، انه يستطيع بل هو استطاع بالفعل ان يبني بناءً لحنياً تقليدياً منتقى من الطرق القديمة أو بالكلمة أدق من ملهمه المطرب الكبير رشيد القندرجي ، بناءً مقبولاً تفوق فيه على بعض معاصريه من المؤدين ، حيث تعلم الاساس المتين و التعابير الادائية المقامية ، والذي يستمع الى مقاماته مثل مقام الحجاز ديوان بالقصيدة الصوفية لشهاب الدين السهروردي :

أبداً تحن إليكم الارواح
ووصالكم ريحانها والراح


فسوف يدهش بكل تأكيد للاسلوب القديم الخلاب في نواحيه الجمالية الذي حرم منه الجمهور . لان أكثر المؤدين القدامى لم يدركوا بشكلٍ جيدٍ تطور أجهزة التسجيل الصوتية ليتركوا البصمات الواضحة لهذه الطرق المخضرمة و لأن تسجيلات محمد القبانجي فيما بعد استطاعت ان توجه ذوق الجماهير الى جماليات جديدة لتصبح منعطفاً جمالياً بين القديم و الجديد في تلك الحقبة … ها هو الآن الحاج هاشم محمد الرجب ينقلنا الى تلك الاجواء الرصينة في ادائها و جماليتها و كأننا نستمع الى غناء حقبة اواخر القرن التاسع عشر .. في مقام الحجاز ديوان

أبداً تحن إليكم الارواح
ووصالكم ريحانها والراح

وقلوب أهل ودادكم تشتاقكم
وارحمتا للعاشقين تكلفوا
بالسر إن باحوا تباح دماؤهم
وتمتعوا فالوصل طاب لقربكم
ياصاح ليس على المحب ملامةُ
لاذنب للعشاق إن غلب الهوى
ركبوا على سفن الهوى ودموعهم
والى لذيذ لقائكم ترتاح
ستر المحبة والهوى فضّاح
وكذا دماء البائحين تباح
راق الشراب ورقت الاقداح
إن لاح في أفق الصباح صباح
كتمانهم فنما الغرام وباحوا
بحر وشدةٌ شوقهم ملاّحُ


و في مقام الراشدي غنى زهيري يبدو لنا انه مغنىً كثيراً من قبل ، ويبدو انه يستحق التكرار لجمال نظمه :
يامن عيونك رمت واسهامها جاني
عديتني مذنب بمحبــتك جانــي
سهران تلفان حيران الفكر جــاني


راعيتكم الدجى اتنى البدر ما تـم
تمت بدور السما بس بدرنا ما تـم
لَتلومني لوردت انصب لهم ما تـم


راح اليسر والعسر بفراكهم جانـي


و في مقام المنصوري نستمع الى هذه القصيدة الجميلة للبرعي .
فؤادي بربع الضاعنين أسيـــر يقيم على آثارهم و يسيـــر
بعدتم ولم يبعد عن القلب حبــكم وغبتم و انتم في الفؤاد حضور
فوالله ما مال الفؤاد لغيركــــم واني على جور الزمان صبور
تمر الليالي في هواكم وتنقضــي وفي القلب مني زفرة وسعيـر
وكنت فتىً تغيبون عنه ساعـــة فكيف و قد مرت عليّ شهـور
أأحباب قلبي هل سواكم لعلتـــي طبيب بداء العاشقين خبيــر
أغار عليكم أن يراكم حواســدي وأحجب عنكم و المحب غيور
فجودوا بوصل فالزمان مفـــرقٌ وأكثر عمـر العاشقين قصير

وغير هذه المقامات التي سجلها الفنان هاشم الرجب لدار الاذاعة العراقية ، نرى أنه قدم للمقام العراقي من حيث الاداء قسطاً كبيراً من الجمال الادائي و دقته في أداء الشكل التقليدي مع الاسلوب القديم لهذا الاداء الذي يصل الى حد السحر في التأثير ، و الحقيقة في هذا الموضوع التي لا سبيل الى انكارها هي ان الرجب لم يؤدِّ هذه المقامات أو مقاماته كلِّها المسجلة بصوته ، لم يؤدِّها مفتعلاً هذه الجماليات أو بشكل مقصود ، بل على العكس كان صادقاً وعفوياً في تعبيراته هذه التي يمتلكها بالفطرة و ما يتمتع به من خيال واسع لواقع التعابير البيئية والاساليب المقامية المستقاة من الخصوصية البغدادية التي تستمد قيمتها الكبرى من احساسه الشديد بها و بالشكل المقامي وبالزمن الحاضر … ولذلك فقد كان الرجب كثيراً ما يصيب النجاح تلو النجاح في هذا الشأن ، من حيث يخفق آخرون عاصروه …
ومع ذلك فان الحاج هاشم الرجب و معاصريه أو بالاحرى تلك الحقبة الزمنية التي ظهر فيها الرجب ومعاصريه الذين يتباين ظهورهم نسبياً عند انتصاف القرن العشرين ، ان كل هؤلاء قد أضافوا إثارةً وأهمية الى تطور الاداء المقامي و مفاهيمه التراثية ، و ساهموا بخلق حقبة زمنية هي بالنسبة لواقعنا الحالي على الاقل متفوقة على كثير من الحقب التي مر فيها الاداء المقامي بأدواره التطورية في كل نواحي الاداء ، و ان أهم أعمال ونتاجات هذه الحقبة تمثلت في أعمال ادائية بأصوات مؤدين عبّروا عن هذه الحقبة بكل واقعية و خيال جمالي خلاب ، سواء ضمن الاسلوب القديم للطرق المقامية مثل أساليب الحاج هاشم محمد الرجب و أحمد موسى و شهاب الاعظمي وعباس كمبير وسلمان موشي وجميل الاعظمي ويوسف حريش وعبد الهادي البياتي وعبد القادر حسون او اساليب الحداثة مثل أساليب حسن خيوكة وناظم الغزالي … هذا التفوق كان ، ليس فقط في نوعية هذه التسجيلات المقامية بشكل منفردٍ والتي أضافها هؤلاء المؤدون الى سلسلة المقامات الكثيرة المسجلة بأصوات العديد من المؤدين المقاميين فحسب، بل في كون نتاجهم الكلي يمثل قوة ابداعية ،قوة جمالية، قوة خيالية، قوة مستقبلية، ذات مستوى كبير دائم السمو، لدرجة يجدر معها تخصيص فصول مستقلة نتناول نتاجاتهم وهو ما حاولنا طرحه ومناقشته .
وأخيراً يبقى من الواجب علينا أن نشير الى المؤلفات الكثيرة التي عكف الحاج هاشم محمد الرجب على تأليفها و تحقيقها طيلة حياته الفنية ، القيمة في مضامينها ، مثل كتاب المقام العراقي الذي اشرنا اليه في البداية وكذلك كتاب حل رموز الاغاني لابي الفرج الاصفهاني للمصطلحات الموسيقية الواردة فيه و كذلك كتاب من الشعر العامي المذيل اضافة الى شرح و تحقيق كتاب الادوار لصفي الدين الارموي و كتاب الموسيقيون و المغنون خلال الفترة المظلمة ثم تحقيق وشرح الرسالة الشرفية للارموي و الرسالة الفتحية لمحمد عبد الحميد اللاذقي وكذلك شرح و تحقيق الشجرة ذات الاكمام و كتاب الابوذية و غيرها من المؤلفات التي جعلت من الفنان هاشم الرجب فناناً مجتهداً دؤوباً مثقفاً بحق .















نبذة مختصرة عن المؤلف
1- حسين بن اسماعيل بن صالح بن رحيم العبيدي الاعظمي – ولد في الاعظمية من بغداد التي تعد مركزا مهما لتراث المقام العراقي وذلك في 8/9/1952 من عائلة تمارس هذا التراث الادائي دينياً ودنيويا اباً عن جد ودون احتراف .
2- اعتلى خشبة المسرح لاول مرة في 23/3/1973 في المتحف البغدلدي وغنى مقام المخالف .
3- انضم الى معهد الدراسات النغمية العراقي بصفة طالب عام 1974 .
4- استمع اليه مطرب العراق الاول محمد القبانجي عشية زيارته الشهيرة الى المعهد في 11/11/1974 في مقام الحجاز ديوان فأعلن عن ولادة مطرب جديد للمقام العراقي .
5- الاكتشاف الحقيقي كان عند زيارة الفنان الكبير الموسيقار منير بشير الى المعهد في يوم 8/1/1973 وبصحبته عازفة البيانو اللبنانية ديانا تقي الدين الصلح وعازفة البيانو العراقية بياتريس اوهانيسيان حتى ضمه الى فرقة التراث الموسيقي العراقي التي اسسها مطلع السبعينات والتي من خلالها تجول حسين الاعظمي في بلدان كثيرة يغني فيها المقام العراقي .
6- دخل الاذاعة والتلفزيون لاول مرة عام 1974 حيث غنى مقام (المدمي) ضمن برنامج جلسة سمر التلفزيوني .
7- دعي من قبل لجنة الاختبار للمطربين الجدد منتصف عام 1974 واصبح مطرباً معتمداً في اذاعة وتلفزيون العراق منذ ذلك الوقت .
8- من خلال فرقة التراث الموسيقي العراقي شارك في العديد من المهرجانات الفنية العالمية واقام حفلات عديدة خارج العراق تجاوز عددها الثلثمائة حفلة خارجية وفي اكثر من سبعين بلداً .
9- بعد ست سنوات دراسية تخرج من المعهد في العام الدراسي 1979/1980 بأمتياز واصبح معيداً في ذات المعهد يقوم بتدريس المقام العراقي ليكون اول مدرس اكاديمي للمقام العراقي ومتخصص في العزف على آلة الجوزة التراثية بعد حصوله على شهادة دبلوم فن معادلة للشهادة العالية في الموسيقى والغناء .
10- حصل على شهادة البكالوريوس من جامعة بغداد بالعلوم الموسيقية بعد دراسة في الموسيقى الغربية لاربع سنوات ، سنتين في الغناء الانفرادي الغربي وسنتين في عزف الكمان الغربي ، ثم اصبح معيداً يلقي المحاضرات في قسم الموسيقى بكلية الفنون الجميلة منذ عدة سنوات .
11- كتب ونشر عدة مقالات في الصحف العراقية والعربية فيما يخص المقام العراقي والموسيقى العراقية والعربية وكذلك كتب ونشر عدة بحوث ودراسات في نفس الاختصاص والقى الكثير من المحاضرات في الجامعات العراقية والعربية والاجنبية وفي كثير من الاندية والمجالس والمنتديات الثقافية اضافة الى مشاركته في بعض المؤتمرات الفنية كباحث .
12- من خلال حفلاته الخارجية حصل على اوسمة ومداليات وشهادات تقديرية خلال المهرجانات الكثيرة التي شارك فيها ، منها درع مهرجان تستور العاشر في تونس عام (1976) وارفع وسام ذهبي من مدينة (آرلز ) جنوب فرنسا عام 1977 والجائزة الاولى في مهرجان طرابلس الدولي بليبيا عام 1978 وشهادة تقديرية ولقب مفاجئة المهرجان في مهرجان الاغنية الاول لدول الخليج العربي في المنامة عام 1980 ووسام ذهبي من مهرجان ايام الموسيقى العربية لدول المشرق العربي في باريس عام 1985 ووسام ذهبي من مدينة باليرمو بصقلية عام 1994 ووسام لجنة التحكيم في مهرجان الاغنية العربية بتونس عام 1994 وكذلك درع مهرجان جرش في الاردن عام 1996 والساعة الذهبية من مهرجان الخريف بسلطنة عمان عام 1996 وغير ذلك الكثير .
13- خلال اعوام 1995،1996،1997،1998 صدرت لحسين الاعظمي عدة اسطوانات ليزر (CD ) في باريس من معهد العالم العربي وشركة اولسور في غناء المقام العراقي تباع في كل انحاء العالم واحدى هذه الاسطوانات اسطوانة دينية فيها الاذان ، منقبة نبوية ، ومدائح نبوية .
14- اسس في بيته مجلساً ثقافياً مطلع عام 1993 لايزال يقيم فيه المحاضرات اسبوعياً في العاشرة من صباح كل خميس مستضيفا بذلك شتى مشاهير العراق والعرب والاجانب لالقاء محاضراتهم في والغناء خصوصاً والفنون الاخرى عموماً وباقي الاختصاصات العلمية الاخرى تحت اسم ( ملتقى حسين الاعظمي الثقافي ) حيث تسجل كل وقائع هذه المحاضرات صوتياً لغرض الارشفة والتوثيق.
15- ومن نشاطاته عام 1998 اقام حفلة رمضانية في دار الاوبرا المصرية يوم 25/1/1998 وكذلك اقام حفلة في مهرجان فاس الدولي بالمغرب الشقيق يوم 27/5/1998 وحفلة اخرى في مهرجان شبيب الثقافي في الاردن الشقيق يوم 12/8/1998 في مدينة الزرقاء واخيراً مشاركته الفعالة في مؤتمر ومهرجان الموسيقى العربية السابع في دار الاوبرا المصرية يوم 4/11/1998 و 7/11/1998 في مدينة غزل المحلة و 16/11/1998 في الاسكندرية بقاعة المؤتمرات الكبيرة ، وليلة رمضانية صادف يوم 17/1/1999 في دار الاوبرا المصرية وقد سبق لحسين الاعظمي ان اقام حفلتين كبيرتين في مهرجانات بيت الدين الدولية في لبنان الشقيق يومي 20/8/1997 و 21/8/1997 .
16- له عدة كتب مخطوطة منها ( الفن الجمالي في الاداء المثالي – المقام العراقي ، دينياً ، دنيوياً ، عالمياً – مجموعة محاضرات – مجموعة مقالات – مجموعة بحوث مصغرة – من ذاكرة السفر "عدة اجزاء" – المقام العراقي في القرن العشرين – المقام العراقي بأصوات النساء – العازفون العراقيون ملوك العود ) .
17- وضع اسم حسين الاعظمي ونبذة عن حياته ضمن موسوعة اعلام القرن العشرين في العرق ، الجزء الثاني التي اصدرها الاديب الفيلسوف حميد المطبعي .
18- اضافة الى التدريس فقد شغل حسين الاعظمي منصب معاون عميد معهد الدراسات الموسيقية عدة مرات ومديراً لفرقة التراث الموسيقي العراقي التي اسسها الموسيقار الراحل منير بشير منذ عام 1978 حتى نهايتها اواخر الثمانينيات .
19- عضو نقابة الفنانين العراقيين .
عضو جمعية المؤلفين والموسيقيين الفرنسية ، حيث اقام حفلات كثيرة في فرنسا وصدرت له عدة اسطوانات ليز (CD) في باريس ، وزعت في كل انحاء العالم .
عضو نقابة المعلمين العراقيين .
عضو الهيئة الاستشارية لبيت المقام العراقي .
عضو نادي العلوية .
20- اضافة الى قيامه في التدريس في المعهد والكلية فقد قام بتدريس مادة الموسيقى في التلاوة القرآنية في مركز صدام لاقراء القرآن .
21- اقام حفلة مقامية تراثية على مسرح مدرسة بغداد الدولية ( BIS ) التابعة للامم المتحدة في عام 1995 .






ألمصادر والمرجع
-------------------



أخوكم your,s
مطرب المقام العراقي singer of Iraqi maqam
حسين إسماعيل الأعظمي hussain ismail al aadhamy
عمّان amman jordan
00962795820112 gabel al hussain
الأردن ، عمّان ، جبل الحسين b.x 922144
ص . ب 922144 hussain_alaadhamy@yahoo.com